الرئيسيةبحث

رحلة ابن جبير/أحفل مراسي الدنيا


أحفل مراسي الدنيا

فلما كان عشية يوم السبت دخلنا عيذاب، وهي مدينة على ساحل بحر جدة غير مسورة، اكثر بيوتها الأخصاص، وفيها الآن بناء مستحدث بالجص. وهي من أحفل مراسي الدنيا بسبب أن مراكب الهند واليمن تحط فيها وتقلع منها زائداً مراكب الحجاج الصادرة والواردة. وهي في صحراء لانبات فيها ولا يؤكل فيها شيء إلا مجلوب، ولكن أهلها بسبب الحجاج تحت مرافق كثير ولا سيما مع الحاج، لأن لهم على كل حمل طعاماً يحملونه ضريبة معلومة خفيفة المؤونة بالإضافة الوظائف المكوسية التي كانت قبل اليوم التي ذكرنا رفع صلاح الدين لها، ولهم أيضاً من المرافق من الحجاج اكراء الجلاب منهم وهي المراكب.

فيجتمع لهم من ذلك مال كثير في حملهم جدة وردهم وقت انفضا ضهم من أداء الفريضة. وما من أهلها ذوي اليسار إلا من له الجلية والجلبتان، فهي تعود عليهم برزق واسع. فسبحان قاسم الأرزاق على اختلاف أسبابها، لا اله سواه. وكان نزولنا فيها بدار تنسب لمونح أحد قوادها الحبشيين الذين تأثلوا بها الديار والرباع والجلاب، وفي بحر عيذاب مغاص على اللؤلؤ في جزائر على مقربة منها، وأوان الغوص عليه في هذا التاريخ المقيدة فيه هذه الأحرف، وهو شهر يونيه العجمي والشهر الذي يتلوه، ويستخرج منه جوهر نفيس، له قيمة سنية، يذهب الغائصون عليه تلك الجزائر في الزوارق ويقيمون فيها الأيام فيعودون بما قسم الله لكل واحد منهم بحسب حظه من الرزق.

والمغاص منها قريب القعرليس ببعيد. ويستخرجونه في أصداف لها أزواج كأنها نوع من الحيتان أشبه شيء بالسلحفاة. فإذا شقت ظهرت الشقتان من داخلها كأنهما محارتا فضة، ثم يشقون عليها فيجدون فيها الحبة من الجوهر قد غطى عليها لحم الصدف. فيجتمع لهم من ذلك بحسب الحظوظ والأرزاق. فسبحان مقدرها لا اله سواه. لكنهم ببلدة لا رطب فيها ولا يابس قد ألفوا بها عيش البهائم؛ فسبحان مجبب الأوطان أهلها، على أنهم أقرب الوحش منهم الأنس.

والركوب من جدة إليها آفة للحجاج عظيمة إلا الأقل منهم ممن يسلمه الله عز وجل، وذلك إن الرياح تلقيها علي الأكثر في مراس بصحارى تبعد منها مما يلي الجنوب، فينزل إليهم البجاة، وهم نوع من السودان ساكنون بالجبال، فيكرون منهم الجمال ويسلكون بهم غير طريق الماء. فربما ذهب أكثرهم عطشاً حصلوا على ما يخلفهم من نفقة أو سواها. وربما كان من الحجاج من يتعسف تلك المجهلة على قدميه فيضل ويهلك عطشاً. الذي يسلم منهم يصل عيذاب كأنه منشر من كفن، شاهدنا منهم مدة مقامنا أقواماً قد وصلوا على هذه الصفة في مناظرهم المستحيلة وهيثاتهم المتغيرة، آية للمتوسمين.

وأكثر هلاك الحجاج بهذه المراسي. ومنهم من تساعده الريح أن يحط بمرسى عيذاب، وهو الأقل.

والجلاب التي يصرفونها في هذا البحر الفرعوني ملفقة الإنشاء لا يستعمل فيها مسمار البتة إنما هي مخيطة بأمراس من القنبار، وهو قشر جوز النارجيل يدرسونه أن يتخيط ويفتلون منه أمراساً يخيطون بها المراكب ويخللونها بدسر من عيدان النخل، فإذا فرغوا من إنشاء الجلبة على هذه الصفة سقوها بالسمن أو بدهن الخروع أو بدهن القرش، وهو أحسنها، وهذا القرش حوت عظيم في البحر يبتلع الغرقى فيه. ومقصدهم في دهان الجلبة ليلين عودها ويرطب لكثرة الشعاب المعترضة في هذا البحر.

ولذلك لا يصرفون فيه المركب المسماري.

وعود هذا الجلاب مجلوب من الهند واليمن، وكذلك القنبار المذكور.

ومن أعجب أمر هذه الجلاب أن شرعها منسوجة من خوص شجر المقل.

فمجموعها متناسب في اختلال البنية ووهنها، فسبحان مسخرها على تلك الحال والمسلم فيها لا اله سواه.

ولأهل عيذاب في الحجاج أحكام الطواغيت وذلك انهم يشحنون بهم الجلاب حتى يجلس بعضهم على بعض وتعود بهم كأنها أقفاص الدجاج المملوءة، يحمل أهلها على ذلك الحرص والرغبة في الكراء حتى يستوفي صاحب الجلبة منهم ثمنها في طريق واحدة ولا يبالي بما يصنع البحر بها بعد ذلك، ويقولون: علينا بالألواح، وعلى الحجاج وبالأرواح. وهذا مثل متارف بينهم. فأحق بلاد الله بحسبة يكون السيف درتها هذه البلدة، والأولى بمن يمكنه ذلك أن لا يراها وأن يكون طريقه على الشام العراق، ويصل مع أمير الحاج البغدادي، وان لم يمكنه ذلك أولاً فيمكنه آخراً عند انفضاض الحاج، يتوجه مع أمير الحاج المذكور بغداد ومنها عكة، فان شاء دخل منها الإسكندرية، وان شاء صقلية أو سواهما. ويمكن أن يجد مركباً من الروم يقلع سبتة أو سواها من بلاد المسلمين. وان طال طريقه بهذا التحليق فيهون لما يلقى بعيذاب ونحوها.

هلها الساكنون بها من قبيل السوادان يعرفون بالبجاة، ولهم سلطان من أنفسهم يسكن معهم في الجبال المتصلة بها. وربما وصل في بعض الأحيان واجتمع بالوالي الذي فيها من الغز إظهاراً للطاعة. ومستنابه مع الوالي في البلد، والفوائد كلها له إلا البعض منها.

وهذه الفرقة من السودان المذكورين فرقة أضل من الأنعام سبيلاً واقل عقولاً لا دين لهم سوى كلمة التوحيد التي ينطقون بها إظهاراً للإسلام، ووراء ذلك من مذاهبهم الفاسدة وسيرهم مالا يرضى ولا يحل، ورجالهم ونساؤهم يتصرفون عراة الاخرقاً يسترون بها عوراتهم، وأكثرهم لايسترون. وبالجملة فهم أمة لا أخلاق لهم، ولاجناح على لاعنهم.