→ مواقف خزي ومهانة | رحلة ابن جبير ما اجتزنا من المواضع المؤلف: محمد بن جبير |
أحفل مراسي الدنيا ← |
ما اجتزنا من المواضع
ومن المواضع التي اجتزنا عليها بعد إخميم المذكورة موضع يعرف بمنشأة السودان على الشط الغربي من النيل، وهي قرية معمورة، ويقال: إنها كانت في القديم مدينة كبيرة. وقد قام أمام هذه القرية، بينها وبين النيل، رصيف عال من الحجارة كأنه السور يضرب فيه النيل ولا يعلوه عند فيضه ومده فالقرية بسببه في آمن من أتيه.
ومنها موضع يعرف بالبلينة، وهي قرية حسنة كثيرة النخل، بالشط الغربي من النيل، بينها وبين قوص أربعة برد.
ومنها موضع يعرف بدشنة بالشط الشرقي من النيل، وهي مدينة مسورة فيها جميع مرافق المدن، وبينها وبين قوص بريدان.
ومنها موضع بغربي النيل وعلى مقربة من شطه يعرف بدندرة، وهي مدينة من مدن الصعيد كثيرة النخل مستحسنة المنظر مشتهرة بطيب الرطب، بينها وبين قوص بريد وذكر لنا إن فيها هيكلاً عظيماً، وهو المعروف عند أهل هذه الجهات بالبربا، حسبما ذكرنا عند ذكر اخميم، وهيكلها يقال أن هيكل دندرة احفل منه واعظم.
ومنها مدينة قنا، وهي من مدن الصعيد، بيضاء أنيقة المنظر ذات مبان حفيلة، ومن مآثرها المأثورة صون نساء أهلها والتزامهن البيوت، فلا تظهر في زقاق من أزقتها امرأة البتة، صحت بذلك الأخبار عنهن، وكذلك نساء دشنة المذكورة قبيل هذا. وهذه المدينة المذكورة في الشط الشرقي من النيل، وبينها وبين قوص نحو البريد.
ومنها قفط، وهي مدينة بشرقي النيل وعلى مقدار ثلاثة أميال من شطه. وهي من المدن المذكورة في الصعيد حسناً نظافة بنيان وإتقان وضع.
ثم كان الوصول قرص يوم الخميس الرابع والعشرين لمحرم المؤرخ وهو التاسع عشر من مايه، فكان مقامنا في النيل ثمانية عشر يوماً ودخلنا قوص في التاسع عشر. وهذه المدينة حفيلة الأسواق متسعة المرافق كثيرة الخلق لكثرة الصادر والوارد من الحجاج والتجار اليمنيين والهنديين وتجار أرض الحبشة، لأنها مخطر للجميع، ومحط للرحال ومجتمع الرفاق، وملتقى الحجاج المغاربة والمصريين والإسكندريين ومن يتصل بهم، ومنها يفوزون بصحراء عيذاب، واليها انقلابهم في صدرهم من الحج، وكان نزولنا فيها بفندق ينسب لأبن العجمي بالمنية، وهي ربض كبير خارج المدينة، على باب الفندق المذكور.
ستهل هلاله ليلة الأربعاء، وهو الخامس والعشرين من شهر مايه، ونحن بقوص نروم السفر عيذاب، يسر الله علينا مرامنا بمنه وكرمه.
وفي يوم الاثنين الثالث عشر منه، وهو السادس من يونيه، أخرجنا جميع رحالنا من زاد وسواه المبرز، وهو موضع بقبلي البلد وعلى مقربة منه، فسيح الساحة، محدق بالنخيل، يجتمع فيه رحال الحاج والتجار وتشد فيه ومنه يستقلون ويرحلون، وفيه يوزن ما يحتاج وزنه على الجمالين. فلما كان إثر صلاة العشاء الآخرة رفعنا منه ماء يعرف بالحاجر فبتنا به. أصبحنا يوم الثلاثاء بعده مقيمين به بسبب تفقد بعض الجمالين من العرب لبيوتهم، وكانت على مقربة منهم، وفي ليلة الأربعاء الخامس عشر منه، ونحن بالحاجر المذكور، خسف القمر خسوفاً كلياً أول الليل وتمادى هدء منه. ثم أصبحنا يوم الأربعاء المذكور ظاعنين، وقلنا بموضع بقلاع الضياع. ثم كان المبيت بموضع يعرف بمحط اللقيطة، كل ذلك في صحراء لاعمارة فيها.
ثم غدونا يوم الخميس فنزلنا على ماء ينسب للعبدين، ويذكر انهما ماتا عطشاً قبل إن يرداه فسمي ذلك الموضع بهما، وقبراهما به، رحمهما الله. ثم تزودنا منه الماء لثلاثة أيام، وفوزنا سحر يوم الجمعة السابع عشر منه، وسرنا في الصحراء نبيت منها حيث جن علينا الليل، والقوافل العيذابية والقوصية صادرة ووراردة، والمفازة معمورة أمناً.
فلما كان يوم الاثنين الموفي عشرين منه نزلنا على ماء بموضع يعرف بدنقاش، وهي بئر معينة يرد فيها من الأنعام والأنام مالا يحصيهم إلا الله عز وجل، ولا يسافر في هذه الصحراء إلا على الإبل لصبرها على الظماء. واحسن ما يستعمل عليها ذوو الترفيه الشقاديف، وهي أشباه المحامل، واحسن أنواعها اليمانية لأنها كالأشاكيز السفرية مجلدة متسعة، يوصل منها الاثنان بالحبال الوثيقة وتوضع على البعير ولها اذرع قد حفت بأركانها يكون عليها مظلة، فيكون الراكب فيها مع عديله في كن من لفح الهاجرة ويقعد مستريحاً في وطائه ومتكئاً ويتناول مع عديله ما يحتاج إليه من زاد وسواه ويطالع متى شاء المطالعة في مصحف أو كتاب. ومن شاء، ممن يستجيز اللعب بالشطرنج، أن يلاعب عديله تفكها واجماماً للنفس لاعبه. بالجملة فإنها مريحة من نصب السفر. واكثر المسافرين يركبون الإبل على أحمالها فيكابدون من مشقة سموم الحر غماً ومشقة.
وفي هذا الماء وقعت بين بعض جمالي العرب اليمنيين أصحاب طريق عيذاب وضمانها، وهم من بلي من أفخاذ قضاعة، وبين بعض الأغزاز بسبب التزاحم على الماء، مهاوشة كادت تفضي الفتنة ثم عصم الله منها.
والقصد عيذاب من قوص على طريقين: أحدهما يعرف بظريق العبدين، وهي هذه التي سلكناها، وهي اقصر مسافة، والآخر طريق دون قنا، وهي قرية على شاطئ النيل. ومجتمع هاتين الطريقين على مقربة من ماء دنقاش المذكور. ولهما مجتمع آخر على ماء يعرف بشأغب أمام ماء دنقاش بيوم.
فلما كان عشاء يوم الاثنين المذكور تزودنا الماء ليوم وليلة ورفعنا ماء بموضع يعرف بشاغب، فوردناه ضحوة يوم الأربعاء الثاني والعشرين لصفر المذكور وهذا الماء ثماد يحفر عليه في الأرض فتسمح به قريباً غير بعيد إلا أنه زعاق. ثم رحلنا مه سحر يوم الخميس بعده وتزودنا الماء لثلاثة أيام ماء بموضع يعرف بأمتان، وتركنا طريق الماء بموضع يعرف با... يساراً، وليس بينه وبين شاغب غير مسافة يوم، والطريق عليه وعر للإبل.
فلما كان ضحوة يوم الأحد السادس والعشرين لصفر المذكور نزلنا بأمتان المذكور، وفي هذا اليوم المذكور كان فراغنا من حفظ كتاب الله عز وجل له الحمد وله الشكر على ما يسر لنا من ذلك. وهذا الماء بأمتان المذكور هو في بئر معينة قد خصها الله بالبركة. وهو أطيب مياه الطريق وأعذبها، فيلقى فيها من دلاء الوارد مالا يحصى كثرة فتروي القوافل النازلة عليها على كثرتها وتروي من الإبل البعيدة الإظماء مالو وردت نهراً من الأنهار لأنضبته وانزفته.
ورمنا في هذه الطريق إحصاء القوافل الواردة والصادرة فما تمكن لنا، ولا سيما القوافل العيذابية المتحملة لسلع الهند الواصلة اليمن، ثم من اليمن عيذاب. وأكثر ما شاهدنا من ذلك أحمال الفلفل، فلقد خيل إلينا لكثرته أنه يوازي التراب فيمة. ومن عجيب ما شاهدناه بهذه الصحراء أنك تلتقي بقاعة الطريق أحمال افلفل والقرفة وسائرها من السلع مطروحة لا حارس لها تترك بهذه السبيل إما لإعياء الإبل الحاملة لها أو غير ذلك من الأعذار، وتبقى بموضعها أن ينقلها صاحبها مصونة من الآفات على كثرة المارة عليها من أطوار الناس.
ثم كان رفعنا من امتان المذكور صبيحة يوم الاثنين بعد الأحد المذكور. ونزلنا على ماء بموضع يعرف بمجاج بمقربة من الطريق ظهر يوم الاثنين المذكور. ومنه تزودنا الماء لأربعة أيام ماء بموضع يعرف بالعشراء على مسافة يوم من عيذاب. ومن هذه المرحلة المجاجية يسلك الوضح، وهي رملة ميثاء تتصل بساحل بحر جدة يمشى فيها عيذاب إن شاء الله، وهي أفيح من الأرض مد البصر يميناً وشمالاً.
وفي ظهر يوم الثلاثاء الثامن والعشرين من الشهر المذكور كان رفعنا من مجاج المذكور سالكين على الوضح.
شهر ربيع الأول استهل هلاله ليلة الجمعة الرابع والعشرين من شهر يونيه ونحنن بآخر الوضح على نحو ثلاث مراحل من عيذاب، وفي وقت الغداة من يوم الجمعة المذكور كان نزولنا على الماء بموضع يعرف بالعشراء على مرحلتين من عيذاب، وبهذا الموضع كثير من شجر العشر، وهو شبيه بشجر الأترج لكن لاشوك له. وماء هذا الموضع ليس بخالص العذوبة، وهو في بئر غير مطوية. وألفينا الرمل قد انهال عليها وغطى ماءها، فرام الجمالون حفرها واستخرج مائها فلم يقدروا على ذلك وبقيت القافلة لاماء عندها.
فأسرينا تلك الليلة، وهي ليلة السبت الثاني من الشهر المذكور، فنزلنا ضحوة على ماء الخبيب، وهو بموضع بمرأى العين من عيذاب، يستقي منه القوافل وأهل البلد يعم الجميع، وهي بئر كبيرة كأنها الجب الكبير.