→ أحفل مراسي الدنيا | رحلة ابن جبير البحر الأحمر المؤلف: محمد بن جبير |
جدة ← |
البحر الأحمر
وفي يوم الاثنين الخامس والعشرين لربيع الأول المذكور، وهو الثامن عشر من يوليه، ركبنا الجلبة للعبور جدة. فأقمنا يومنا ذلك بالمرسى لركود الريح ومغيب النواتية، فلما كان صبيحة يوم الثلاثاء أقلعنا على بركة الله، عز وجل، وحسن عونه المأمول. فكانت مدة المقام بعيذاب، حاشا يوم الاثنين المذكور، ثلاثة وعشرين يوماً، محتسبة عند الله، عز وجل، لشظف العيش وسوء الحال واختلال الصحة لعدم الأغذية الموافقة، وحسبك من بلد كل شيء فيه مجلوب حتى الماء، والعطش أشهى النفس منه. فأقمنا بين هواء يذيب الأجسام وماء يشغل المعدة عن اشتهاء الطعام، فما ظلم من غني عن هذه البلدة بقوله: ماء زعاق وجو كله لهب
فالحول بها من أعظم المكاره التي حف بها السبيل البيت العتيق، زاده الله تشريفاً وتكريماً، وأعظم أجور الحجاج على ما يكابدونه ولاسيما في تلك البلدة الملعونة ومما لهج الناس بذكره قبائحها حتى يزعمون أن سليمان ابن داود، على نبينا وعليه السلام، كان اتخذها سجناً للعفارتة، أراح الله الحجاج منها بعمارة السبيل القاصدة بيته الحرام، وهي السبيل التي من مصر على عقبة أيلة المدينة المقدسة، وهي مسافة قريبة يكون البحر منها يميناً وجبل الطور المعظم يساراً، لكن للإفرنج بمقربة منها حصن مندوب يمنع الناس من سلوكه والله ينصر دينه ويعز لكمته بمنه.
فتمادى سيرنا في البحر يوم الثلاثاء السادس والعشرين لربيع الأول المذكور ويوم الأربعاء بعده بريح فاترة المهب. فلما كان العشاء الآخرة من ليلة الخميس ونحن قد استبشرنا برؤية الطير المحلقة من بر الحجاز، لمع برق من جهة البر المذكور، وهي جهة الشرق، ثم نشأ نوء أظلم له الأفق أن كسا الآفاق كلها، وهبت ريح شديدة صرفت المركب عن طريقه راجعاً وراءه، وتمادى عصوف الرياح واشتدت حلكة الظلمة وعمت الآفاق، فلم ندر الجهة المقصودة منها، أن ظهر بعض النجوم فاستدل بها بعض الاستدلال وحط القلع اسفل الدقل، وهو الصاري.
واقمنا ليلتنا تلك في هول يؤذن باليأس، وارانا بحر فرعون بعض أهواله الموصوفة، أن أتى الله بالفرج مقترناً مع الصباح. فهدأ قياد الريح وأقشع الغيم وأصحت السماء ولاح لنا بر الحجاز على بعد لانبصر منه إلا بعض جباله، وهي شرق من جدة، زعم ربان المركب وهو الرائس، أن بين تلك الجبال التي لاحت لنا وبر جدة يومين، والله يسهل لنا كل صعب وييسر لنا كل عسير بعزته وكرمه.
فجرينا يومنا ذلك، وهو يوم الخميس المذكور، بريح رخاء طيبة، ثم أرسينا عشية في جزيرة صغيرة في البحر على مقربة من البر المذكور بعد أن لقينا شعاباً كثيرة يكثر فيها الماء ويضحل علينا، فتخللنا أثناءها على حذر وتحفظ.
وكان الربان بصيراً حاذقاً فيها، فخلصنا الله منها، حتى أرسينا بالجزيرة المذكورة، ونزلنا إليها وبتنا بها ليلة الجمعة التاسع والعشرين لربيع الأول المذكور، واصبح الهواء راكداً والريح غير متنفسة إلا من الجهة التي لا توافقنا فأقمنا بها يوم الجمعة المذكور. فلما كان يوم السبت الموفي ثلاثين تنفست الريح بعض التنفس، فأقلعنا بذلك النفس نسير سيراً وريداً. وسكن البحر حتى خيل لناظره صحن زجاج ازرق. فأقمنا على تلك الحال نرجو لطيف صنع الله عز وجل.
وهذه الجزيرة تعرف بجزيرة عائقة السفن، فعصمنا الله عز وجل من قال اسمها المذموم، وله الحمد والشكر على ذلك.
استهل هلاله ليلة السبت ونحن بالجزيرة المذكورة ولم يظهر تلك الليلة للأبصار بسبب النوء لكن ظهر في الليلة الثانية كبيراً مرتفعاً، فتحققنا إهلاله ليلة السبت المذكور، وهو الثالث والعشرون من شهر يوليه، وفي عشي يوم الأحد ثانية أرسينا بمرسى يعرف بأبحر، وهو على بعض يوم من جدة، وهو من أعجب المراسي وضعاً، وذلك أن خليجاً من البحر يدخل البر والبر مطيف به من كلتا حافتيه فترسي الجلاب منه في قرارة مكنة هادئة.
فلما كان سحر يوم الاثنين بعده أقلعنا منه على بركة الله تع بريح فاترة، والله الميسر لارب سواه فلما جن الليل أرسينا على مقربة من جدة وهي بمرأى العين منا. وحالت الريح صبيحة يوم الثلاثاء بعده بيننا وبين دخول مرساها، ودخول هذه المراسي صعب المرام بسبب كثرة الشعاب والتفافها. وأبصرنا من صنعة هؤلاء الرؤساء والنواتية في التصرف بالجلبة أثناءها أمراً ضخماً، يدخلونها على مضايق ويصر فونها خلالها تصريف الفارس للجواد الرطب العنان السلس القياد، ويأتون في ذلك بعجب يضيق الوصف عنه.