الرئيسيةبحث

رحلة ابن جبير/ذكر مصر والقاهرة


ذكر مصر والقاهرة

فأول مانبدأ بذكره منها الآثار والمشاهد المباركة التي ببركتها يمسكها الله عز وجل: فمن ذلك المشهد العظيم الشأن الذي بمدينة القاهرة حيث رأس الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهما، وهو في تابوت فضة مدفون تحت الأرض قد بني عليه بنيان يقصر الوصف عنه ولايحيط الإدراك به، مجلل بأنواع الديباج، محفوف بأمثال العمد الكبار شمعاً أبيض ومنه ما هو دون ذلك، قد وضع أكثرها في أتوار فضة خالصة ومنها مذهبة، وعلقت عليه قناديل فضة، وحف أعلاه كله بأمثال التفافيح ذهباً في مصنع شبيه الروضة يقيد الأبصار حسناً وجمالاً، فيه من أنواع الرخام المجزع الغريب الصنعة البديع الترصيع مالا يتخيله المتخيلون ولا يلحق أدنى وصفه الواصفون.

والمدخل إلى هذه الروضة على مسجد على مثالها في التأنق والغرابة، حيطانه كلها رخام على الصفة المذكورة، وعن يمين الروضة المذكورة وشمالها بيتان من كليهما المدخل إليها وهما أيضاً على تلك الصفة بعينها. والأستار البديعة الصنعة من الديباج معلقة على الجميع.

ومن أعجب ما شاهدناه في دخولنا هذا المسجد المبارك حجر موضوع في الجدار الذي يستقبله الداخل شديد السواد والبصيص، يصف الأشخاص كلها كأنه المرآة الهندية الحديثة الصقل. وشاهدنا من استلام الناس للقبر المبارك،واحد اقهم به وانكبابهم عليه وتمسحم بالكسوة التي عليه وطوافهم حوله مزدحمين باكين متوسلين الله سبحانه وتعالى ببركة التربة المقدسة، ومتضرعين ما يذيب الأكباد ويصدع الجماد. والأمر فيه أعظم، ومرأى الحال أهوال، نفعنا الله ببركة ذلك المشهد الكريم. وإنما وقع الإلماع بنبذة من صفته مستدلاً على ما وراء ذلك إذا لا ينبغي لعاقل أن يتصدى لوصفه لأنه يقف موقف التقصير والعجز. وبالجملة فما أظن في الوجود كله مصنعاً أحفل منه، ولا مرأى من البناء أعجب ولا أبدع، قدس الله العضو الكريم الذي فيه بمنه وكرمه.

وفي ليلة اليوم المذكور بتنا بالجبانة المعروفة، وهي أيضاً إحدى عجائب الدنيا لما تحتوي عليه من مشاهد الأنبياء صلوات الله عليهم، وأهل البيت رضوان الله عليهم، والصحابة والتابعين والعلماء والزهاد والأولياء ذوي الكرامات الشهيرة والأنباء الغريبة. وإنما ذكرنا منها ما أمكنتنا مشاهدته فمنها قبر ابن النبي صالح، وقبر روبيل بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليهم أجمعين، وقبر آسية امرأة فرعون رضي الله عنها، ومشاهد أهل البيت رضي الله عنهم أجمعين، مشاهد أربعة عشر من الرجال،وخمس من النساء. وعلى كل واحد منها بناء حفل. فهي بأسرها روضات بديعة الإتقان عجيبة البنيان، قد وكل بها قومه يسكنون فيها ويحفظونها. ومنظرها منظر عجيب، والجرايات متصلة لقوامها في كل شهر.