الرئيسيةبحث

رحلة ابن جبير/شهر شوال


شهر شوال


استهل هلاله ليلة الثلاثاء السادس عشر من ينير، يمن الله مطلعه، ورزقنا بركته، وهذا الشهر المبارك هو فاتحة أشهر الحج المعلومات، وبعده تتصل ثلاثة الأشهر الحرم المباركات. وكانت ليلة استهلال هلاله من الليالي الحفيلة في المسجد الحرام، زاده الله تكريماً؛ جرى الرسم المذكور ليلة سبع وعشرين من رمضان المعظم، وأوقدت الصوامع من الأربع جهات من الحرم، وأوقد سطح المسجد الذي في أعلى جبل أبي قبيس.وأكثر الأئمة تلك الليلة أحيا، وأكثر الناس على مثل تلك الحال بين طواف وصلاة وتهليل وتكبير، يقبل الله من جميعهم، أنه سميع الدعاء كفيل بالرجاء سبحانه لا اله سواه.



عيد رمضان

فلما كان صبيحتها وقضى الناس صلاة الفجر، لبس الناس أثواب عيدهم وبادروا لأخذ مصافهم لصلاة العيد بالمسجد الحرام، لأن السنة جرت بالصلاة فيه دون مﷺ يخرج الناس اليه، رغبة في شرف البقعة وفضل بركتها وفضل صلاة الامام خلف المقام ومن يأتم به. فأول من بكر الشيبيون، وفتحوا باب الكعبة المقدسة، وأقام زعيمهم جالساً في العتبة المقدسة، وسائر الشيبيين داخل الكعبة أن أحسوا بوصول الأمير مكثر فنزلوا اليه، وتلقوه بمقربة من باب النبي، ﷺ الله عليه وسلم، فانتهى البيت المكرم، وطاف حوله أسبوعاً، والناس قد احتفلوا لعيدهم، والحرم قد غص بهم، والمؤذن الزمزمي فوق سطح القبة على العادة رافعاً صوته بالثناء عليه والدعاء له متناوباً في ذلك مع اخيه. فلما اكمل الأمير الاسبوع عمد مصطبة قبة زمزم، مما يقابل الركن الأسود، فعقد بها، وبنوه هن يمينه ويساره، ووزيره وحاشيته وقوف على رأسه وعاد الشيبيون لمكانهم من البيت المكرم يلحظهم الناس بأبصار خاشعة للبيت غابطة لمحلهم منه ومكانهم من حجابته وسدانته، فسبحان من خصهم بالشرف في خدمته. وحضر الأمير من خاصته شعراء أربعة، فأنشدوه واحداً اثر واحد أن فرغوا من انشادهم.

وفي اثناء ذلك تمكن وقت الصلاة، وكان ضحى من النهار، فأقبل القاضي الخطيب يتهادى بين رايتيه السوداوين، والفرقعة المتقدمة ذكرها أمامه، وقد صك الحرم صوتها، وهو لابس ثياب سواده، فجاء المقام الكريم، وقام الناس للصلاة، فلما قضوها رقي المنبر، وقد ألصق موضعه المعين له كل جمعة، من جدار الكعبة المكرمة، حيث الباب الكريم شارعاً، فخطب خطبة بليغة، والمؤذنون قعود دونه في أدراج المنبر، فعند افتتاحه فصول الخطبة بالتكبير يكبرون بتكبيره، أن فرغ من خطبته.

وأقبل الناس بعضهم على بعض بالمصافحة والتسليم والتغافر والدعاء مسرورين جذلين فرحين بما آتاهم الله من فضله، وبادروا البيت الكريم فدخلوا بسلام آمنين مزدحمين عليه فوجاً. فكان مشهداً عظيماً وجمعاً بفضل الله تعلى مرحوماً، جعله الله ذخيرة للمعاد، كما جعل ذلك العيد الشريف في العمر أفضل الأعياد، بمنه وكرمه، إنه ولي ذلك والقدر عليه. وأخذ الناس عند انتشارهم من مصلاهم وقضاء سنة السلام بعضهم على بعض في زيارة الجبانة بالمعلى تبركاً باحتساب الخطا اليها، والدعاء بالرحمة لمن فيها من عباد الله الصالحين من الصدر الأول وسواه، رضي الله عن جميعهم، وحشرنا في زمرتهم، ونفعنا بمحبتهم فالمرء، كما قال، ﷺ الله عليه وسلم مع من أحب.


منى

وفي يوم السبت التاسع عشر منه، والثالث لفبرير، صعدنا منى لمشاهدة المناسك المعظمة بها ولمعاينة منزل اكتري لنا فيها اعداداً لمقام بها أيام التشريق، إن شاء الله، فألفيناها تملأ النفوس بهجة وانشراحاً، مدينة عظيمة الآثار، واسعة الاختطاط، عتيقة الوضع، قد درست منازل يسيرة متخذة للنزول تحف بجانبي طريق كأنه ميدان انبساطاً وانفساحاً، ممتد الطول.

فأول مايلقى المتوجه اليها عن يساره، وبمقربة منها، مسجد البيعة المباركة، التي كانت أول بيعو في الاسلام، عقدها العباس، رضي الله عنه، للنبي، ﷺ الله عليه وسلم، على الانصار، حسب المشهر من ذلك.

ثم يفضى منه جمرة العقبة، وهي أول منى للمتوجه من مكة وعن يسار المار اليها، وهي على قارعة الطريق مرتفعة للمتراكم فيها من حصى الجمرات. ولولا آيات الله البينات فيها لكانت كالجبال الرواسي لما يجتمع فيها على تعافب الدهور وتوالي الازمنة، لكن الله، عز وجل، فيها سر كريم من اسراره الخفيات، لا اله سواه. وعليها مسجد مبارك، وبها علم منصوب شبه أعلام الحرم التي ذكرناها، فيجعلها الرامي عن يمينه مستقبلاً مكة، شرفها الله، ويرمي بهاسبع حصيات، وذلك يوم النحر اثر طلوع الشمس، ثم ينحر أويذبح ويحلق، والمحلق حولها، والمنحر في كل موضع من منى لأن منى كلها منحر، كما قال، ﷺ الله عليه وسلم. وقد حل له كل شيء الا النساء والطيب حتى يطوف طواف الافاضة. وبعد هذه الجمرة العقبية موضع الجمرة الوسطى،ولها أيضاً علم منصوب، وبينهما قدر الغلوة، ثم بعدها يلقى الجمرة الأولى ومسافتها منها كمسافة الأخرى.

وفي وقت الزوال من ثاني يوم النحر ترمى في الأولى سبع حصيات، وفي الوسطى كذلك، وفي العقبة كذلك، فتلك احدى وعشرون حصاة. وفي اليوم الثالث من يوم النحر، في الوقت بعينه، كذلك على الترتيب المذكور، فتلك اثنتان واربعون حصاة في اليومين وسبع رميت في العقبة يوم النحر وقت طلوع الشمس، كما ذكرناه، وهي المحلات للحاج ماحرم عليه سوى النساء والطيب، فتلك تكملة تسع وأربعين جمرة.وفي إثر ذلك ينفصل الحاج مكة من ذلك اليوم. واختصر في هذا الزمان إحدى وعشرون كانت ترمى في اليوم الرابع على الترتيب المذكور، وذلك لاستعجال الحاج خوفاً من العرب الشعبيين غير ذلك من محذورات الفتن المغيرات لآثار السنن، فمضى العمل اليوم على تسع وأربعين حصاة، وكانت في القديم سبعين، والله يهب القبول لعباده.

والصادر من عرفات منى أول مايلقى الجمرة الأولى ثم الوسطى ثم جمرة العقبة. وفي يوم النحر تكون جمرة العقبة أولى منفردة بسبع حصيات، حسبما تقدم ذكره، ولا يشترك معها سواها في ذلك اليوم، ثم في اليومين بعده ترجع الآخرة على الترتيب حسبما وصفناه، بحول الله عز وجل.

وبعد الجمرة الأولى يعرج عن الطريق يسيراً ويلقى منحر الذبيح، ﷺ الله عليه وسلم.حيث فدي بالذبح العظيم. وعلى الموضع المبارك مسجد مبني، وهو بمقربة من سفح ثبير. وفي موضع المنحر المذكور حجر قد الصق بالجدار المبني فيه أثر قدم صغيرة، يقال: إنه أثر قدم الذبيح، ﷺ الله عليه وسلم، عند تحركه،فلان الحجر له بقدرة الله، عز وجل، إشفاقاً وحناناً فيتبرك الناس بلمسه وتقبيله.

ويفضى من ذلك مسجد الخيف المبارك، وهو آخر منى في توجهك، أعني من المعمورة منها بالبنيان. وأما الآثار القديمة فآخذة أبعد غاية أمام المسجد. وهذا المسجد المبارك متسع الساحة كأكبر ما يكون من الجوامع.والصومعة وسط رحبة المسجد. وله في القبلة أربعة بلاطات يشملها سقف واحد. وهو من المساجد الشهيرة بركة وشرف بقعة. وكفى بما ورد في الأثر الكريم من أن بقعته الطاهرة مذفن كثير من الأنبياء، صلوات الله عليهم.

وبمقربة منه عن يمين المار في الطرق، حجر كبير مسند صفح الجبل مرتفع عن الأرض يظل ماتحته، ذكر أن النبي، ﷺ الله عليه وسلم، قعد تحته مستظلاً ومس رأسه المكرم فيه فلان له حتى أثر فيه تأثيراً بقدر دور الرأس. فيبادر الناس لوضع رؤوس في ذلك الموضع تبركاً واستجارة لها بموضع مسه الرأس المكرم أن لاتمسها النار بقدرة الله، عز وجل.

فلما قضى معاينة هذه المشاهد الريمة أخذنا في الانصراف مستبشرين بما وهبنا الله من فضله في مباشرتها. ووصلنا مكة قريب الظهر، والحمد لله على مامن به.

وفي يوم الأحد بعده، وهو الموفي عشرين لشوال، صعدنا الجبل المقدس حراء وتبركنا بمشاهدة الغار في أعلاه الذي كان النبي، ﷺ الله عليه وسلم، يتعبد فيه، وهو أول موضع نزل فيه الوحي عليه، ﷺ الله عليه وسلم، ورزقنا شفاعته، وحشرنا في زمرته، وأماتنا على سنته ومحبته، بمنه وكرمه، لا رب سواه.


صلاة الاستسقاء

وفي ضحوة يوم الثلاثاء الثاني والعشرين منه، وهو السادس من فبرير، اجتمع الناس كافة للاستسقاء تجاه الكعبة المعظمة بعد أن ندبهم القاضي ذلك وحرضهم على صيام ثلاثة أيام قبله. فاجتمعوا في هذا اليوم الرابع المذكور وقد أخلصوا النيات لله عز وجل، وبكر السيبيون ففتحوا الباب المكرم من البيت مقابم الخليل ابراهيم، ﷺ الله عليه وسلم، وعلى نبينا، ووضع على عتبة باب البيت المكرم، واخرج مصحف عثمان، رضي الله عنه، من خزانته، ونشر بازاء المقام المطهر، فكانت دفته الواحدة عليه والثانية على الباب الكريم. ثم نودي في الناس بالصلاة جامعة، فﷺ القاضي بهم خلف موضع المقام المتخذ مﷺ ركعتين، قرأ في إحداهما بسبح اسم ربك الأعلى، وفي الثانية بالغاشية، ثم صعد المنبر، وقد الصق موضعه المعهود من جدار الكعبة المقدسة، فخطب خطبة بليغة و فيها الاستغفار ووعظ الناس وذكرهم وخشعهم وحضهم على التوبة والإنابة لله عز وجل، حتى نزفت دمعها العيون رداءه، وحول الناس أرديتهم اتباعاً للسنة.

ثم انفض الجميع راجين رحمة الله عز وجل غير قانين منها، والله يتلافى عباده بلطفه وكرمه. وتمادى استسقاؤه بالناس ثلاثة أيام متوالية، على الصفة المذكورة، وقد نال الجهد من أهل الحجاز وأضر بهم القحط وأهلك مواشهيم الجدب، لم يمطروا في الربيع ولا الخريف ولا الشتاء إلا مطراً طلا غير كاف ولا شاف، والله عز وجل لطيف بعباده، غير مؤاخذهم بجرائمهم، إنه الحنان المنان، لارب سواه.


جبل ثور

وفي يوم الخميس الرابع والعشرين من شوال صعدنا جبل ثور لمعاينة الغار المبارك الذي أولى اليه النبي، ﷺ الله عليه وسلم، مع صاحبه الصديق، رضي الله عنه، حسبما جاء في محكم التنزيل العزيز، وقد تقدم ذكر هذا الغار وصفته عنه، حسبما جاء في محكم التنزيل العزيز، وقد تقدم ذكر هذا الغار وصفته أولاً في هذا التقييد. وولجناه من الموضع الذي يعسر الولوج منه على البعض من الناس تبركاً بمس بشرة البدن بموضع مسه الجسم المبارك، قدسه الله؛ لأن مدخل النبي ﷺ الله عليه وسلم، كان منه. وكان لأحد الصاعدين إليه ذلك اليوم من المصريين موقف خجله وفضيحة، وذلك أنه رام الولوج فيه على ذلك الموضع الضيق فلم يقدر بحيلة وعاود ذلك مراراً فلم يستطع حتى استوقف الناس ما عاينوه من ذلك وبكوا له إشفاقاً ولجأوا الله عز وجل في الدعاء، فلم يغن ذلك شيئاً، وكان فيهم من هو اضخم منه فيسر الله عليه. وطال تعجب الناس منه واعتبارهم.

وأعلمنا بعد انفصالنا في ذلك اليوم بأن هذا الموقف المخجل وقع لثلاثة أناس في ذلك اليوم بعينه، عصمنا الله من مواقف الفضيحة في الدنيا والآخرة.

وهذا الجبل صعب المرتقى جداً، يقطع الأنفاس تقطيعاً، لايكاد يبلغ منتهاه إلا وقد ألقى بالأيدي إعياء وكلالاً. وهو من مكة على مقدار ثلاثة أميال، وعلى ذلك القدر هو جبل حراء منها، والله تع لايخلينا من بركة هذه المشاهد بمنه وكرمه.

وطول الغار ثمانية عشر شبراً، وسعته أحد عشر شبراً في الوسط منه، وفي حافتيه ثلثا شبر، وعلى الوسط منه يكون الدخول، وسعة الباب الثاني المتسع مدخله خمسة أشبار أيضاً، لأن له بابين، حسبما ذكرناه أولاً.

وفي يوم الجمعة بعده وصل السرو اليمنيون في عدد كثير مؤملين زيارة قبر الرسول، ﷺ الله عليه وسلم، وجلبوا ميرة مكة على عادتهم، فاشتبشر الناس بقدومهم استبشاراً كبيراً، حتى إنهم أقاموه عوض نزول المطر، ولطائف الله لسكان حرمه الشريف واسعة، إنه سبحانه لطيف بعباده لا إله سواه.