الرئيسيةبحث

البداية والنهاية/الجزء الثالث/صفحة واحدة



☰ جدول المحتويات

باب كيفية بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

بسم الله الرحمن الرحيم

باب كيف بدأ الوحي إلى رسول الله ﷺ، وذكر أول شيء أنزل عليه من القرآن العظيم.

كان ذلك وله ﷺ من العمر أربعون سنة.

وحكى ابن جرير عن ابن عباس وسعيد بن المسيب : أنه كان عمره إذ ذاك ثلاثا وأربعين سنة.

قال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:

أول ما بدئ به رسول الله ﷺ من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح؛ ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء.

فجاءه الملك فقال: اقرأ.

فقال: ما أنا بقارئ.

قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني.

فقال: اقرأ.

فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني.

فقال: اقرأ.

فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد.

ثم أرسلني فقال: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [1].

فرجع بها رسول الله ﷺ يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد، فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع.

فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي.

فقالت خديجة: كلا والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتقري الضيف، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق.

فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، ابن عم خديجة.

وكان امرأ قد تنصَّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي.

فقالت له خديجة: يا ابن عم! اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله ﷺ خبر ما أُري.

فقال له ورقة: هذا الناموس الذي كان ينزل على موسى، يا ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيا، إذ يخرجك قومك.

فقال رسول الله ﷺ: «أو مخرجي هم؟»

فقال: نعم، لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا.

ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي فترة، حتى حزن رسول الله ﷺ - فيما بلغنا - حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه تبدَّى له جبريل فقال: يا محمد إنك رسول الله حقا، فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه فيرجع. فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا كمثل ذلك.

قال: فإذا أوفى بذروة جبل تبدَّى له جبريل فقال له: مثل ذلك.

هكذا وقع مطولا في باب التعبير من البخاري.

قال ابن شهاب: وأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، أن جابر بن عبد الله الأنصاري قال - وهو يحدث عن فترة الوحي - فقال في حديثه: «بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه فرجعت، فقلت: زملوني، زملوني. فأنزل الله: { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ } [2] فحمي الوحي وتتابع».

ثم قال البخاري: تابعه عبد الله بن يوسف، وأبو صالح، يعني عن الليث، وتابعه هلال بن رداد عن الزهري. وقال يونس ومعمر: بوادره.

وهذا الحديث قد رواه الإمام البخاري رحمه الله في كتابه في مواضع منه، وتكلمنا عليه مطولا في أول شرح البخاري في كتاب بدء الوحي إسنادا ومتنا ولله الحمد والمنة. وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث الليث به، ومن طريق يونس ومعمر، عن الزهري كما علقه البخاري عنهما. وقد رمزنا في الحواشي على زيادات مسلم ورواياته ولله الحمد، وانتهى سياقه إلى قول ورقة: أنصرك نصرا مؤزرا.

فقول أم المؤمنين عائشة: أول ما بدئ به من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، يقوي ما ذكره محمد بن إسحاق بن يسار، عن عبيد بن عمر الليثي، أن النبي ﷺ قال: «فجاءني جبريل، وأنا نائم، بنمط من ديباج فيه كتاب فقال: اقرأ. فقلت: ما أقرأ؟ فغتني، حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني».

وذكر نحو حديث عائشة سواء، فكان هذا كالتوطئة لما يأتي بعده من اليقظة، وقد جاء مصرحا بهذا في مغازي موسى بن عقبة، عن الزهري، أنه رأى ذلك في المنام، ثم جاءه الملك في اليقظة.

وقد قال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في كتابه (دلائل النبوة): حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن، حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جناب بن الحارث، حدثنا عبد الله بن الأجلح، عن إبراهيم، عن علقمة بن قيس قال: إن أول ما يؤتى به الأنبياء في المنام، حتى تهدأ قلوبهم، ثم ينزل الوحي بعد.

وهذا من قبل علقمة بن قيس نفسه. وهو كلام حسن يؤيده ما قبله، ويؤيده ما بعده.

عمره صلى الله عليه وسلم وقت بعثته وتاريخها

قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن أبي عدي، عن داود بن أبي هند، عن عامر الشعبي، أن رسول الله ﷺ نزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة، فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين، فكان يعلمه الكلمة والشيء، ولم ينزل القرآن، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل، فنزل القرآن على لسانه عشرين سنة، عشرا بمكة وعشرا بالمدينة. فمات وهو ابن ثلاث وستين سنة..

فهذا إسناد صحيح إلى الشعبي، وهو يقتضي أن إسرافيل قرن معه بعد الأربعين ثلاث سنين ثم جاءه جبريل.

وأما الشيخ شهاب الدين أبو شامة فإنه قد قال: وحديث عائشة لا ينافي هذا، فإنه يجوز أن يكون أول أمره الرؤيا.

ثم وكل به إسرافيل في تلك المدة التي كان يخلو فيها بحراء، فكان يلقي إليه الكلمة بسرعة ولا يقيم معه تدريجا له وتمرينا إلى أن جاءه جبريل، فعلَّمه بعدما غطه ثلاث مرات، فحكت عائشة ما جرى له مع جبريل ولم تحك ما جرى له مع إسرافيل اختصارا للحديث، أو لم تكن وقفت على قصة إسرافيل.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن هشام، عن عكرمة، عن ابن عباس أنزل على النبي ﷺ وهو ابن ثلاث وأربعين، فمكث بمكة عشرا، وبالمدينة عشرا.

ومات وهو ابن ثلاث وستين، وهكذا روى يحيى بن سعيد، وسعيد بن المسيب.

ثم روى أحمد، عن غندر، ويزيد بن هارون، كلاهما عن هشام، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: بُعث رسول الله ﷺ وأُنزل عليه القرآن، وهو ابن أربعين سنة، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة، وبالمدينة عشر سنين. ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، أنبأنا عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس، قال: أقام النبي ﷺ بمكة خمس عشرة سنة: سبع سنين يرى الضوء، ويسمع الصوت، وثماني سنين يوحى إليه، وأقام بالمدينة عشر سنين.

قال أبو شامة: وقد كان رسول الله ﷺ يرى عجائب قبل بعثته فمن ذلك:

ما في صحيح مسلم: عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله ﷺ: «إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلِّم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن». انتهى كلامه.

وإنما كان رسول الله ﷺ يحب الخلاء والانفراد عن قومه، لما يراهم عليه من الضلال المبين، من عبادة الأوثان، والسجود للأصنام، وقويت محبته للخلوة عند مقاربة إيحاء الله إليه صلوات الله وسلامه عليه..

وقد ذكر محمد بن إسحاق، عن عبد الملك بن عبد الله بن أبي سفيان بن العلاء بن حارثة - قال: وكان واعية - عن بعض أهل العلم قال:

وكان رسول الله ﷺ يخرج إلى حراء في كل عام شهرا من السنة يتنسك فيه. وكان من نسك قريش في الجاهلية، يطعم من جاءه من المساكين حتى إذا انصرف من مجاورته وقضائه لم يدخل بيته حتى يطوف بالكعبة.

وهكذا روي عن وهب بن كيسان أنه سمع عبيد بن عمير يحدث عبد الله بن الزبير مثل ذلك، وهذا يدل على أن هذا كان من عادة المتعبدين في قريش، أنهم يجاورون في حراء للعبادة، ولهذا قال أبو طالب في قصيدته المشهورة:

وثورٍ ومَن أرْسَى ثبيرا مَكانه * وراقٍ ليرقى في حِراءَ ونازِلِ

هكذا صوبه على رواية هذا البيت كما ذكره السهيلي، وأبو شامة، وشيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي رحمهم الله، وقد تصحف على بعض الرواة فقال فيه: وراق ليرقى في حر ونازل - وهذا ركيك ومخالف للصواب والله أعلم.

وحراء: يقصر ويمدّ ويصرف ويمنع، وهو جبل بأعلى مكة على ثلاثة أميال منها عن يسار المارّ إلى منى، له قلة مشرفة على الكعبة منحنية، والغار في تلك الحنية، وما أحسن ما قال رؤبة بن العجاج:

فَلا وربِّ الآمِناتِ القُطَّن * وربِّ رُكنٍ من حِراءَ مُنْحني

وقوله في الحديث: والتحنث التعبد، تفسير بالمعنى، وإلا فحقيقة التحنث من حنث البِنْيَة فيما قاله السهيلي الدخول في الحنث، ولكن سمعت ألفاظ قليلة في اللغة معناها الخروج من ذلك الشيء.

كحنث: أي خرج من الحنث، وتحوب، وتحرج، وتأثم، وتهجد هو ترك الهجود وهو: النوم للصلاة، وتنجس وتقذر، أوردها أبو شامة.

وقد سئل ابن الأعرابي عن قوله يتحنث أي يتعبد. فقال: لا أعرف هذا إنما هو يتحنف من الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام.

قال ابن هشام: والعرب تقول التحنث والتحنف يبدلون الفاء من الثاء، كما قالوا: جدف وجذف كما قال رؤبة بن العجاج.

لو كان أحجاري مع الأحذاف

يريد الأجداث. قال ابن هشام: وحدثني أبو عبيدة أن العرب تقول: فُمَّ في موضع ثمَّ.

قلت: ومن ذلك قول بعض المفسرين وفومها أن المراد ثومها.

وقد اختلف العلماء في تعبده عليه السلام قبل البعثة هل كان على شرع أم لا؟ وما ذلك الشرع؟ فقيل: شرع نوح، وقيل: شرع إبراهيم، وهو الأشبه الأقوى. وقيل: موسى، وقيل: عيسى، وقيل: كل ما ثبت أنه شرع عنده اتبعه، وعمل به.

ولبسط هذه الأقوال ومناسباتها مواضع أخر في أصول الفقه. والله أعلم.

وقوله: حتى فجئه الحق وهو بغار حراء: أي جاء بغتة على غير موعد كما قال تعالى: { وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ } الآية [3].

وقد كان نزول صدر هذه السورة الكريمة وهي: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [4].

وهي أول ما نزل من القرآن كما قررنا ذلك في التفسير، وكما سيأتي أيضا في يوم الاثنين كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي قتادة أن رسول الله ﷺ: سئل عن صوم يوم الاثنين؟ فقال: «ذاك يوم ولدت فيه، ويوم أنزل عليّ فيه»

وقال ابن عباس: ولد نبيكم محمد ﷺ يوم الاثنين، ونبئ يوم الاثنين.

وهكذا قال عبيد بن عمير، وأبو جعفر الباقر، وغير واحد من العلماء: أنه عليه الصلاة والسلام أوحي إليه يوم الاثنين، وهذا ما لا خلاف فيه بينهم.

ثم قيل: كان ذلك في شهر ربيع الأول، كما تقدم عن ابن عباس وجابر، أنه ولد عليه السلام، في الثاني عشر من ربيع الأول يوم الاثنين، وفيه بعث، وفيه عرج به إلى السماء، والمشهور أنه بعث عليه الصلاة والسلام في شهر رمضان، كما نصَّ على ذلك عبيد بن عمير، ومحمد بن إسحاق، وغيرهما.

قال ابن إسحاق مستدلا على ذلك بما قال الله تعالى: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ } [5].

فقيل في عشره.

وروى الواقدي بسنده عن أبي جعفر الباقر أنه قال: كان ابتداء الوحي إلى رسول الله ﷺ يوم الاثنين، لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان، وقيل في الرابع والعشرين منه.

قال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا عمران أبو العوام، عن قتادة، عن أبي المليح، عن واثلة بن الأسقع، أن رسول الله ﷺ قال:

«أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة ليلة خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان».

وروى ابن مردويه في (تفسيره) عن جابر بن عبد الله مرفوعا نحوه، ولهذا ذهب جماعة من الصحابة والتابعين، إلى أن ليلة القدر ليلة أربع وعشرين.

وأما قول جبريل: اقرأ.

فقال: «ما أنا بقارئ» فالصحيح أن قوله: «ما أنا بقارئ» نفي: أي لست ممن يحسن القراءة.

وممن رجحه النووي، وقبله الشيخ أبو شامة، ومن قال: إنها استفهامية فقوله بعيد؛ لأن الباء لا تزاد في الإثبات.

ويؤيد الأول رواية أبي نعيم من حديث المعتمر بن سليمان، عن أبيه: فقال رسول الله ﷺ - وهو خائف يرعد - «ما قرأت كتابا قط، ولا أحسنه، وما أكتب، وما أقرأ» فأخذه جبريل فغتَّه غتا شديدا. ثم تركه.

فقال له: اقرأ.

فقال محمد ﷺ: «ما أرى شيئا أقرأه، و ما أقرأ، وما أكتب».

يروى "فغطني" كما في (الصحيحين)، و"غتني"، ويروى "قد غتني": أي خنقني حتى بلغ مني الجهد، يروى بضم الجيم، وفتحها، وبالنصب، وبالرفع، وفعل به ذلك ثلاثا.

قال أبو سليمان الخطابي: وإنما فعل ذلك به ليبلو صبره، ويحسن تأديبه، فيرتاض لاحتمال ما كلفه به من أعباء النبوة، ولذلك كان يعتريه مثل حال المحموم، وتأخذه الرحضاء: أي البهر والعرق.

وقال غيره: إنما فعل ذلك لأمور:

منها: أن يستيقظ لعظمة ما يلقى إليه بعد هذا الصنيع المشق على النفوس. كما قال تعالى: { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا } [6].

ولهذا كان عليه الصلاة والسلام إذا جاءه الوحي يحمرُّ وجهه، ويغطّ كما يغطّ البكر من الإبل، ويتفصد جبينه عرقا في اليوم الشديد البرد.

وقوله فرجع بها رسول الله ﷺ إلى خديجة يرجف فؤاده.

وفي رواية: بوادره، جمع بادرة.

قال أبو عبيدة: وهي لحمة بين المنكب والعنق.

وقال غيره: هو عروق تضطرب عند الفزع، وفي بعض الروايات ترجف بآدله واحدتها بادلة. وقيل: بادل، وهو ما بين العنق والترقوة، وقيل: أصل الثدي، وقيل: لحم الثديين، وقيل: غير ذلك.

فقال: «زملوني، زملوني» فلما ذهب عنه الروع قال لخديجة: «مالي؟ أي شيء عرض لي؟» وأخبرها ما كان من الأمر.

ثم قال: «لقد خشيت على نفسي». وذلك لأنه شاهد أمرا لم يعهده قبل ذلك. ولا كان في خلده. ولهذا قالت خديجة: ابشر، كلا والله لا يخزيك الله أبدا.

قيل: من الخزي، وقيل: من الحزن، وهذا لعلمها بما أجرى الله به جميل العوائد في خلقه أن من كان متصفا بصفات الخير لا يخزى في الدنيا، ولا في الآخرة، ثم ذكرت له من صفاته الجليلة ما كان من سجاياه الحسنة.

فقالت: إنك لتصل الرحم، وتصدُق الحديث - وقد كان مشهورا بذلك صلوات الله وسلامه عليه عند الموافق والمفارق - وتحمل الكلّ. أي عن غيرك تعطي صاحب العيلة ما يريحه من ثقل مؤنة عياله.

وتكسب المعدوم: أي تسبق إلى فعل الخير فتبادر إلى إعطاء الفقير فتكسب حسنته قبل غيرك، ويسمى الفقير معدوما؛ لأن حياته ناقصة. فوجوده وعدمه سواء كما قال بعضهم:

ليسَ من ماتَ فاستراحَ بميتٍ * إنما الميتُ ميِّتُ الأحياء

وقال أبو الحسن التهامي، فيما نقله عنه القاضي عياض في شرح مسلم:

عدَّ ذا الفقر ميتا وكساهُ * كفنا باليا ومأواه قـبرا

وقال الخطابي: الصواب وتكسب المعدم، أي: تبذل إليه، أو يكون تلبس العدم بعطيته مالا يعيش به..

واختار شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي أن المراد بالمعدوم ههنا المال المعطى: أي يعطى المال لمن هو عادمه.

ومن قال إن المراد أنك تكسب باتجارك المال المعدوم، أو النفيس القليل النظير، فقد أبعد النجعة، وأغرق في النزع، وتكلف ما ليس له به علم، فإن مثل هذا لا يمدح به غالبا، وقد ضعَّف هذا القول عياض، والنووي وغيرهما، والله أعلم.

وتقري الضيف: أي تكرمه في تقديم قراه، وإحسان مأواه.

وتعين على نوائب الحق، ويروي الخير: أي إذا وقعت نائبة لأحد في خير أعنت فيها، وقمت مع صاحبها حتى يجد سدادا من عيش أو قواما من عيش.

وقوله: ثم أخذتْه فانطلقت به إلى ابن عمها ورقة ابن نوفل، وكان شيخا كبيرا قد عمي.

وقد قدَّمنا طرفا من خبره مع ذكر زيد بن عمرو بن نفيل رحمه الله.

وأنه كان ممن تنصر في الجاهلية، ففارقهم وارتحل إلى الشام، هو وزيد بن عمرو، وعثمان بن الحويرث، وعبيد الله بن جحش، فتنصروا كلهم؛ لأنهم وجدوه أقرب الأديان إذ ذاك إلى الحق، إلا زيد بن عمرو بن نفيل؛ فإنه رأى فيه دخلا، وتخبيطا، وتبديلا، وتحريفا، وتأويلا، فأبت فطرته الدخول فيه أيضا.

وبشروه الأحبار والرهبان بوجود نبي، قد أزف زمانه، واقترب أوانه، فرجع يتطلب ذلك، واستمر على فطرته، وتوحيده.

لكن اخترمته المنية قبل البعثة المحمدية. وأدركها ورقة بن نوفل، وكان يتوسمها في رسول الله ﷺ، كما قدمنا بما كانت خديجة تنعته له وتصفه له، وما هو منطوٍ عليه من الصفات الطاهرة الجميلة، وما ظهر عليه من الدلائل، والآيات.

ولهذا لما وقع ما وقع أخذت بيد رسول الله ﷺ وجاءت به إليه فوقفت به عليه، وقالت: ابن عم اسمع من ابن أخيك.

فلما قص عليه رسول الله ﷺ خبر ما رأى قال ورقة: سبُّوح سبُّوح، هذا الناموس الذي أنزل على موسى، ولم يذكر عيسى، وإن كان متأخرا بعد موسى؛ لأنه كانت شريعته متممة، ومكملة لشريعة موسى عليهما السلام، ونسخت بعضها على الصحيح من قول العلماء.

كما قال: { وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } [7].

وقول ورقة هذا كما قالت الجن: { يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ }. [8].

ثم قال ورقة: يا ليتني فيها جذعا أي يا ليتني أكون اليوم شابا متمكنا من الإيمان، والعلم النافع، والعمل الصالح، يا ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك: يعني حتى أخرج معك وأنصرك؟

فعندها قال رسول الله ﷺ: «أو مخرجي هم؟»

قال السهيلي: وإنما قال ذلك؛ لأن فراق الوطن شديد على النفوس، فقال: نعم!إنه لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي..

وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا: أي أنصرك نصرا عزيزا أبدا.

وقوله: «ثم لم ينشب ورقة أن توفي»: أي توفي بعد هذه القصة بقليل رحمه الله ورضي عنه، فإن مثل هذا الذي صدر عنه تصديق بما وجد، وإيمان بما حصل من الوحي، ونية صالحة للمستقبل.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا حسن، عن ابن لهيعة، حدثني أبو الأسود، عن عروة، عن عائشة. أن خديجة سألت رسول الله ﷺ عن ورقة بن نوفل فقال: «قد رأيته فرأيت عليه ثياب بياض، فأحسبه لو كان من أهل النار، لم يكن عليه ثياب بياض».

وهذا إسناد حسن، لكن رواه الزهري، وهشام، عن عروة مرسلا فالله أعلم.

وروى الحافظ أبو يعلى، عن شريح بن يونس، عن إسماعيل، عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله ﷺ سئل عن ورقة بن نوفل فقال: «قد رأيته فرأيت عليه ثياب بياض، أبصرته في بطنان الجنة، وعليه السندس».

وسئل عن زيد بن عمرو بن نفيل فقال: «يبعث يوم القيامة أمة وحده».

وسئل عن أبي طالب فقال: «أخرجته من غمرة من جهنم إلى ضحضاح منها».

وسئل عن خديجة لأنها ماتت قبل الفرائض وأحكام القرآن.

فقال: «أبصرتها على نهر في الجنة، في بيت من قصب، لا صخب فيه، ولا، نصب».

إسناد حسن، ولبعضه شواهد في (الصحيح)، والله أعلم.

وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا عبيد بن إسماعيل، حدثنا أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: قال رسول الله ﷺ: «لا تسبوا ورقة؛ فإني رأيت له جنة، أو جنتين».

وكذا رواه ابن عساكر من حديث أبي سعيد الأشج، عن أبي معاوية، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة.

وهذا إسناد جيد، وروي مرسلا وهو أشبه.

روى الحافظان البيهقي، وأبو نعيم، في كتابيهما (دلائل النبوة) من حديث يونس بن بكير، عن يونس بن عمرو، عن أبيه، عن عمرو بن شرحبيل، أن رسول الله ﷺ قال لخديجة: «إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء، وقد خشيت والله أن يكون لهذا أمر».

قالت: معاذ الله ما كان ليفعل ذلك بك. فوالله إنك لتؤدي الأمانة، وتصل الرحم، وتصدق الحديث..

فلما دخل أبو بكر وليس رسول الله ﷺ ثم ذكرت له خديجة حديثه له فقالت: يا عتيق اذهب مع محمد إلى ورقة، فلما دخل رسول الله ﷺ أخذ بيده أبو بكر.

فقال انطلق بنا إلى ورقة.

قال: «ومن أخبرك؟»

قال: خديجة.

فانطلقا إليه فقصا عليه.

فقال رسول الله ﷺ: «إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي: يا محمد يا محمد فأنطلق هاربا في الأرض».

فقال له لا تفعل. إذا أتاك فاثبت، حتى تسمع ما يقول لك، ثم ائتني فأخبرني.

فلما خلا ناداه يا محمد قل: { بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين } حتى بلغ: { ولا الضالين } قل لا إله إلا الله.

فأتى ورقة فذكر له ذلك، فقال له ورقة: ابشر ثم ابشر.

فأنا أشهد أنك الذي بشَّر بك ابن مريم، وإنك على مثل ناموس موسى، وأنك نبي مرسل، وأنك ستؤمر بالجهاد بعد يومك هذا.

ولئن أدركني ذلك لأجاهدن معك.

فلما توفي ورقة قال رسول الله ﷺ: «لقد رأيت القس في الجنة عليه ثياب الحرير؛ لأنه آمن بي وصدقني». يعني: ورقة.

هذا لفظ البيهقي. وهو مرسل وفيه غرابة، وهو كون الفاتحة أول ما نزل.

وقد قدمنا من شعره ما يدل على إضماره الإيمان، وعقده عليه، وتأكده عنده.

وذلك حين أخبرته خديجة ما كان من أمره مع غلامها ميسرة، وكيف كانت الغمامة تظلله في هجير القيظ.

فقال ورقة في ذلك أشعارا قدمناها قبل هذا، منها قوله:

لججت وكنت في الذكرى لجوجا * لأمرٍ طالما بعث النشيجا

ووصف من خديجة بعد وصفٍ * فقد طال انتظاري يا خديجا

ببطن المكَّتين على رجائي * حديثك أن أرى منه خروجا

بما أخبرتنا من قول قس * من الرهبان أكره أن يعوجا

بأن محمدا سيسود قوما * ويخصم من يكون له حجيجا

ويظهر في البلاد ضياء نور * يقيم به البرية أن تعوجا

فيلقى من يحاربه خسارا * ويلقى من يسالمه فلوجا

فياليتي إذا ما كان ذاكم * شهدت وكنت أولهم ولوجا

ولو كان الذي كرهت قريش * ولو عجت بمكتها عجيجا

أرجّي بالذي كرهوا جميعا * إلى ذي العرش إذ سلفوا عروجا

فإن يبقوا وأبق تكن أمور * يضج الكافرون لها ضجيجا

وقال أيضا في قصيدته الأخرى:

وأخبار صدق خبرت عن محمدٍ * يخِّبرها عنه إذا غاب ناصح

بأن ابن عبد الله أحمد مرسلٌ * إلى كل من ضمت عليه الأباطح

وظني به ٌأن سوف يبعث صادقا * كما أرسل العبدان هود وصالح

وموسى وإبراهيم حتى يرى له * بهاء ومنشور من الحق واضح

ويتبعه حيا لؤي بن غالبٍ * شبابهم والأشيبون الجحاجح

فإن ابق حتى يدرك الناس دهره * فإني به مستبشر الودِّ فارح

وإلا فإني يا خديجة فاعلمي * عن أرضك في الأرض العريضة سائح.

وقال يونس عن بكير، عن ابن إسحاق قال ورقة:

فان يكُ حقا يا خديجة فاعلمي * حديثك إيانا فأحمد مرسل

وجبريل يأتيه وميكال معهما * من الله وحي يشرح الصدر منزل

يفوز به من فاز فيها بتوبةٍ * ويشقى به العاني الغرير المضلَّل

فريقان منهم فرقة في جنانه * وأخرى بأحواز الجحيم تعلَّل

إذا ما دعوا بالويل فيها تتابعت * مقامع في هاماتهم ثم تشعل

فسبحان من يهوي الرياح بأمره * ومن هو في الأيام ما شاء يفعل

ومن عرشه فوق السموات كلها * واقضاؤه في خلقه لا تبدل

وقال ورقة أيضا:

يا للرجال وصَرْف الدهر والقدر * وما لشيءٍ قضاه الله من غير

حتى خديجة تدعوني لأخبرها * أمرا أراه سيأتي الناس من أخر

وخبرتني بأمر قد سمعت به * فيما مضى من قديم الدهر والعصر

بأن أحمد يأتيه فيخبره * جبريل أنك مبعوث إلى البشر

فقلت علَّ الذي ترجين ينجزه * لك الإله فرجِّي الخير وانتظري

وأرسليه إلينا كي نسائله * عن أمره ما يرى في النوم والسهر

فقال حين أتانا منطقا عجبا * يقف منه أعالي الجلد والشعر

إني رأيت أمين الله واجهني * في صورة أكملت من أعظم الصور

ثم استمر فكاد الخوف يذعرني * مما يسلِّم من حولي من الشجر

فقلت ظني وما أدري أيصدقني * أن سوف يبعث يتلو مُنزل السور

وسوف يبليك إن أعلنت دعوتهم * من الجهاد بلا منّ ولا كدر

هكذا أورد ذلك الحافظ البيهقي من الدلائل، وعندي في صحتها عن ورقة نظر والله أعلم.

وقال ابن إسحاق: حدثني عبد الملك بن عبد الله بن أبي سفيان بن العلاء بن جارية الثقفي - وكان واعية -عن بعض أهل العلم: أن رسول الله ﷺ حين أراد الله كرامته وابتدأه بالنبوة، كان إذا خرج لحاجة أبعد حتى تحسر البيوب عنه، ويفضي إلى شعاب مكة، وبطون أوديتها، فلا يمر بحجر، ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله.

قال فيلتفت حوله عن يمينه، وعن شماله، وخلفه، فلا يرى إلا الشجر والحجارة. فمكث رسول الله ﷺ كذلك يرى ويسمع، ما شاء الله أن يمكث، ثم جاءه جبريل عليه السلام بما جاء من كرامة الله، وهو بحراء في شهر رمضان.

قال ابن إسحاق: وحدثني وهب بن كيسان مولى آل الزبير قال: سمعت عبد الله بن الزبير وهو يقول لعبيد بن عمير بن قتادة الليثي: حدثنا يا عبيد، كيف كان بدو ما ابتدئ به رسول الله ﷺ من النبوة، حين جاءه جبريل قال: فقال عبيد وأنا حاضر - يحدث عبد الله ابن الزبير ومن عنده من الناس -: كان رسول الله ﷺ يجاور في حراء في كل سنة شهرا يتحنث قال: وكان ذلك مما يحبب به قريش في الجاهلية، والتحنث: التبرز.

فكان رسول الله ﷺ يجاور ذلك الشهر من كل سنة، يطعم من جاءه من المساكين، فإذا قضى جواره من شهره ذلك، كان أول ما يبدأ به، إذا انصرف من جواره الكعبة، قبل أن يدخل بيته، فيطوف بها سبعا، أو ما شاء الله من ذلك، ثم يرجع إلى بيته حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله تعالى به فيه ما أراد من كرامته، من السنة التي بعثه فيها.

وذلك الشهر شهر رمضان، خرج رسول الله ﷺ إلى حراء كما كان يخرج لجواره ومعه أهله، حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته، ورحم العباد به، جاءه جبريل بأمر الله تعالى.

فقال رسول الله ﷺ: «فجاءني جبريل وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب.

فقال اقرأ، قلت ما أقرأ؟ قال: فغتني حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني.

فقال: اقرأ؛ قال: قلت ما أقرأ؟ قال: فغتني حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني.

فقال اقرأ، قلت ما أقرأ؟

قال: فغتني حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني.

فقال اقرأ، قلت: ماذا أقرأ؟ ما أقول ذلك إلا افتدا منه أن يعود لي بمثل ما صنع بي.

فقال: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [9].

قال: فقرأتها، ثم انتهى وانصرف عني، وهببت من نومي فكأنما كتب في قلبي كتابا.

قال فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوتا من السماء يقول: يا محمد، أنت رسول الله، وأنا جبريل.

قال: فرفعت رأسي إلى السماء فأنظر فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء، يقول: يا محمد، أنت رسول الله، وأنا جبريل.

فوقفت أنظر إليه، فما أتقدم، وما أتأخر، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء، فما أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك.

فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي، وما أرجع ورائي، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي، فبلغوا أعلى مكة ورجعوا إليها، وأنا واقف في مكاني ذلك، ثم انصرف عني.

وانصرفت راجعا إلى أهلي، حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفا إليها.

فقالت: يا أبا القاسم أين كنت؟ فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا مكة، ورجعوا إليّ.

ثم حدثتها بالذي رأيت.

فقالت: أبشر يا ابن العم، واثبت، فوالذي نفس خديجة بيده، إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة.

ثم قامت فجمعت عليها ثيابها، ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل فأخبرته بما أخبرها به رسول الله ﷺ.

فقال ورقة: قدوس، قدوس، والذي نفس ورقة بيده؛ لئن كنت صدقتني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، وإنه لنبي هذه الأمة، وقولي له: فليثبت.

فرجعت خديجة إلى رسول الله ﷺ فأخبرته بقول ورقة، فلما قضى رسول الله ﷺ جواره وانصرف، صنع كما كان يصنع، بدأ بالكعبة فطاف بها، فلقيه ورقة بن نوفل وهو يطوف بالكعبة.

فقال: يا ابن أخي أخبرني بما رأيت وسمعت، فأخبره.

فقال له ورقة: والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى، ولتكذبنه، ولتؤذينه، ولتخرجنه، ولتقاتلنه، ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرا يعلمه.

ثم أدنى رأسه منه فقبل يافوخه، ثم انصرف رسول الله ﷺ إلى منزله.

وهذا الذي ذكره عبيد بن عمير كما ذكرناه كالتوطئة لما جاء بعده من اليقظة، كما تقدم من قول عائشة رضي الله عنها، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ويحتمل أن هذا المنام كان بعد ما رآه في اليقظة صبيحة ليلتئذ، ويحتمل أنه كان بعده بمدة، والله أعلم.

وقال موسى بن عقبة: عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، قال: وكان فيما بلغنا أول ما رأى - يعني: رسول الله ﷺ - أن الله تعالى أراه رؤيا في المنام، فشق ذلك عليه فذكرها لامرأته خديجة فعصمها الله عن التكذيب، وشرح صدرها للتصديق.

فقالت: أبشر فإن الله لم يصنع بك إلا خيرا، ثم إنه خرج من عندها، ثم رجع إليها فأخبرها أنه رأى بطنه شق ثم غسل وطهر، ثم أعيد كما كان.

قالت: هذا والله خير فأبشر.

ثم استعلن له جبريل وهو بأعلى مكة، فأجلسه على مجلس كريم معجب كان النبي ﷺ يقول: «أجلسني على بساط كهيئة الدرنوك فيه الياقوت، واللؤلؤ، فبشره برسالة الله عز وجل، حتى اطمأن رسول الله ﷺ».

فقال له جبريل: اقرأ، فقال: كيف اقرأ؟ فقال: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [10].

قال: ويزعم ناس أن { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } أول سورة نزلت عليه، والله أعلم.

قال فقبل رسول الله ﷺ رسالة ربه، واتبع ما جاءه به جبريل من عند الله، فلما انصرف منقلبا إلى بيته، جعل لا يمرُّ على شجر، ولا حجر، إلا سلَّم عليه، فرجع إلى أهله مسرورا موقنا أنه قد رأى أمرا عظيما.

فلما دخل على خديجة قال: أرأيتك التي كنت حدثتك أني رأيته في المنام فإنه جبريل استعلن إليّ، أرسله إليّ ربي عزَّ وجل، وأخبرها بالذي جاءه من الله وما سمع منه.

فقالت: أبشر فوالله لا يفعل الله بك إلا خيرا، وأقبل الذي جاءك من أمر الله فإنه حق، وأبشر فإنك رسول الله حقا.

ثم انطلقت من مكانها فأتت غلاما لعتبة بن ربيعة بن عبد شمس نصرانيا من أهل نينوى يقال له: عداس، فقالت له: يا عداس أذكرك بالله إلا ما أخبرتني هل عندك علم من جبريل؟

فقال: قدوس قدوس، ما شأن جبريل يذكر بهذه الأرض التي أهلها أهل الأوثان؟

فقالت: أخبرني بعلمك فيه.

قال: فإنه أمين الله بينه وبين النبيين، وهو صاحب موسى وعيسى عليهما السلام.

فرجعت خديجة من عنده فجاءت ورقة بن نوفل فذكرت له ما كان من أمر النبي ﷺ وما ألقاه إليه جبريل.

فقال لها ورقة: يا بنية أخي ما أدري لعل صاحبك النبي الذي ينتظر أهل الكتاب الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، وأقسم بالله لئن كان إياه، ثم أظهر دعواه وأنا حي لأبلين الله في طاعة رسوله وحسن مؤازرته للصبر والنصر.

فمات ورقة رحمه الله.

قال الزهري: فكانت خديجة أول من آمن بالله وصدق رسوله ﷺ.

قال الحافظ البيهقي بعد إيراده ما ذكرناه: والذي ذكر فيه من شق بطنه، يحتمل أن يكون حكاية منه لما صنع به في صباه، يعني: شق بطنه عند حليمة، ويحتمل أن يكون شق مرة أخرى، ثم ثالثة حين عرج به إلى السماء والله أعلم.

وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة ورقة بإسناده إلى سليمان بن طرخان التيمي. قال: بلغنا أن الله تعالى بعث محمدا رسولا على رأس خمسين سنة من بناء الكعبة وكان أول شيء اختصه به من النبوة، والكرامة رؤيا كان يراها، فقصَّ ذلك على زوجته خديجة بنت خويلد، فقالت له: ابشر فوالله لا يفعل الله بك إلا خيرا.

فبينما هو ذات يوم في حراء، وكان يفر إليه من قومه إذ نزل عليه جبريل فدنا منه فخافه رسول الله ﷺ مخافة شديدة، فوضع جبريل يده على صدره، ومن خلفه بين كتفيه.

فقال: اللهم احطط وزره، واشرح صدره، وطهر قلبه، يا محمد أبشر!فإنك نبي هذه الأمة.

اقرأ، فقال له نبي الله: - وهو خائف يرعد - ما قرأت كتابا قط، ولا أحسنه، وما أكتب، وما أقرأ.

فأخذه جبريل فغته غتا شديدا، ثم تركه، ثم قال له: اقرأ، فأعاد عليه مثله فأجلسه على بساط كهيئة الدرنوك، فرأى فيه من صفاءه، وحسنه كهيئة اللؤلؤ والياقوت، وقال له: «اقرأ باسم ربك الذي خلق» الآيات.

ثم قال له: لا تخف يا محمد إنك رسول الله، ثم انصرف وأقبل على رسول الله ﷺ همه فقال كيف أصنع؟ وكيف أقول لقومي؟

ثم قام رسول الله ﷺ وهو خائف، فأتاه جبريل من أمامه وهو في صعرته، فرأى رسول الله ﷺ أمرا عظيما ملأ صدره.

فقال له جبريل: لا تخف يا محمد: جبريل رسول الله جبريل رسول الله إلى أنبيائه ورسله، فأيقن بكرامة الله، فإنك رسول الله.

فرجع رسول الله ﷺ لا يمرُّ على شجرٍ ولا حجرٍ إلا هو ساجد يقول: السلام عليك يا رسول الله.

فاطمأنت نفسه وعرف كرامة الله إياه، فلما انتهى إلى زوجته خديجة أبصرت ما بوجهه من تغير لونه فأفزعها ذلك، فقامت إليه فلما دنت منه جعلت تمسح عن وجهه وتقول: لعلك لبعض ما كنت ترى وتسمع قبل اليوم.

فقال: يا خديجة أرأيت الذي كنت أرى في المنام، والصوت الذي كنت أسمع في اليقظة، وأهال منه فإنه جبريل قد استعلن لي وكلمني وأقرأني كلاما فزعت منه ثم عاد إليّ فأخبرني أني نبي هذه الأمة، فأقبلت راجعا فأقبلت على شجر، وحجارة، فقلن السلام عليك يا رسول الله.

فقالت خديجة: أبشر فوالله لقد كنت أعلم أن الله لن يفعل بك إلا خيرا وأشهد أنك نبي هذه الأمة الذي تنتظره اليهود، قد أخبرني به ناصح غلامي وبحيرى الراهب، وأمرني أن أتزوجك منذ أكثر من عشرين سنة.

فلم تزل برسول الله ﷺ حتى طعم وشرب وضحك، ثم خرجت إلى الراهب، وكان قريبا من مكة، فلما دنت منه وعرفها.

قال: مالك يا سيدة نساء قريش؟

فقالت: أقبلت إليك لتخبرني عن جبريل؟

فقال: سبحان الله ربنا القدوس ما بال جبريل يذكر في هذه البلاد التي يعبد أهلها الأوثان؟ جبريل أمين الله ورسوله إلى أنبيائه ورسله، وهو صاحب موسى، وعيسى، فعرفت كرامة الله لمحمد.

ثم أتت عبدا لعتبة بن ربيعة يقال له: عداس فسألته فأخبرها بمثل ما أخبرها الراهب وأزيد.

قال: جبريل كان مع موسى حين أغرق الله فرعون وقومه، وكان معه حين كلمه الله على الطور، وهو صاحب عيسى بن مريم الذي أيده الله به.

ثم قامت من عنده، فأتت ورقة بن نوفل، فسألته عن جبريل، فقال لها مثل ذلك، ثم سألها ما الخبر فأحلفته أن يكتم ما تقول له، فحلف لها.

فقالت له: إن ابن عبد الله ذكر لي، وهو صادق، أحلف بالله ما كذب ولا كذب، أنه نزل عليه جبريل بحراء، وأنه أخبره أنه نبي هذه الأمة، وأقرأه آيات أرسل بها.

قال: فذعر ورقة لذلك، وقال: لئن كان جبريل قد استقرت قدماه على الأرض لقد نزل على خير أهل الأرض، وما نزل إلا على نبي، وهو صاحب الأنبياء والرسل، يرسله الله إليهم وقد صدقتك عنه، فأرسلي إلي ابن عبد الله أسأله، وأسمع من قوله، وأحدثه، فإني أخاف أن يكون غير جبريل، فإن بعض الشياطين يتشبه به ليضل به بعض بني آدم ويفسدهم حتى يصير الرجل بعد العقل الرضي مدلها مجنونا.

فقامت من عنده، وهي واثقة بالله أن لا يفعل بصاحبها إلا خيرا، فرجعت إلى رسول الله ﷺ فأخبرته بما قال ورقة، فأنزل الله تعالى: { ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ } الآيات [11].

فقال لها: كلا والله إنه لجبريل.

فقالت له: أحب أن تأتيه فتخبره لعل الله أن يهديه فجاءه رسول الله ﷺ فقال له ورقة: هذا الذي جاءك جاءك في نور أو ظلمة؟

فأخبره رسول الله ﷺ عن صفة جبريل، وما رآه من عظمته، وما أوحاه إليه.

فقال ورقة: أشهد أن هذا جبريل، وأن هذا كلام الله فقد أمرك بشيء تبلغه قومك وأنه لأمر نبوة فإن أُدرك زمانك أتبعك، ثم قال: أبشر ابن عبد المطلب بما بشرك الله به.

قال: وذاع قول ورقة وتصديقه لرسول الله ﷺ فشق ذلك على الملأ من قومه، قال وفتر الوحي.

فقالوا: لو كان من عند الله لتتابع، ولكن الله قلاه فأنزل الله (والضحى) و (ألم نشرح) بكمالهما.

وقال البيهقي: حدثنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس عن ابن إسحاق، حدثني إسماعيل بن أبي حكيم مولى آل الزبير، أنه حدثه عن خديجة بنت خويلد، أنها قالت لرسول الله ﷺ فيما بيّنه مما أكرمه الله به من نبوته:

يا ابن عم تستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك.

فقال: نعم!

فقالت: إذا جاءك فأخبرني.

فبينا رسول الله ﷺ عندها إذ جاء جبريل فرآه رسول الله ﷺ.

فقال: يا خديجة! هذا جبريل.

فقالت: أتراه الآن؟

قال: نعم!

قالت: فاجلس إلى شقي الأيمن، فتحول فجلس، فقالت: أتراه الآن؟

قال: نعم!

قالت: فتحول فاجلس في حجري فتحول رسول الله ﷺ فجلس في حجرها فقالت: هل تراه الآن؟

قال: نعم!

فتحسرت رأسها فشالت خمارها، ورسول الله ﷺ جالس في حجرها

فقالت: هل تراه الآن؟

قال: لا.

قالت: ما هذا بشيطان إن هذا لملك يا ابن عم، فاثبت وأبشر، ثم آمنت به وشهدت أن ما جاء به هو الحق.

قال ابن إسحاق: فحدثت عبد الله بن حسن هذا الحديث، فقال: قد سمعت أمي فاطمة بنت الحسين تحدث بهذا الحديث عن خديجة، إلا أني سمعتها تقول: أدخلت رسول الله ﷺ بينها وبين درعها فذهب عندك ذلك جبريل عليه السلام.

قال البيهقي: وهذا شيء كان من خديجة تصنعه تستثبت به الأمر احتياطا لدينها وتصديقا.

فأما النبي ﷺ فقد كان قد وثق بما قال له جبريل، وأراه من الآيات التي ذكرناها مرة بعد أخرى، وما كان من تسليم الشجر، والحجر عليه ﷺ تسليما.

وقد قال مسلم في (صحيحه): حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا إبراهيم بن طهمان، حدثني سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة رضي الله عنه.

أن رسول الله ﷺ قال: «إني لأعرف حجرا بمكة، كان يسلم عليَّ قبل أن بعث، إني لأعرفه الآن».

وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا سليمان بن معاذ، عن سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة أن رسول الله ﷺ قال: «إن بمكة لحجرا كان يسلم عليّ ليالي بعثت، إني لأعرفه إذا مررت عليه».

وروى البيهقي من حديث إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير، عن عباد بن عبد الله، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

قال: كنا مع رسول الله ﷺ بمكة، فخرج في بعض نواحيها، فما استقبله شجر، ولا جبل، إلا قال السلام عليك يا رسول الله.

وفي رواية لقد رأيتني أدخل معه - يعني: النبي ﷺ - الوادي فلا يمر بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليكم يا رسول الله.

وأنا أسمعه.

فصل حزن النبي صلى الله عليه وسلم عندما فترعنه الوحي

قال البخاري في روايته المتقدمة: ثم فتر الوحي حتى حزن النبي ﷺ فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه تبدَّى له جبريل فقال: يا محمد، إنك رسول الله حقا، فيسكن لذلك جأشه وتقرَّ نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدَّى له جبريل، فقال له مثل ذلك.

وفي (الصحيحين) من حديث عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري قال: سمعت أبا سلمة عبد الرحمن، يحدث عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله ﷺ يحدث عن فترة الوحي.

قال: «فبينما أنا أمشي سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصري قبل السماء، فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء و الأرض فجثيت منه فرقا، حتى هويت إلى الأرض، فجئت أهلي فقلت: زملوني زملوني، فأنزل الله: { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ } [12].

قال: ثم حمي الوحي وتتابع فهذا كان أول ما نزل من القرآن بعد فترة الوحي لا مطلقا.

ذاك قوله: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ }

وقد ثبت عن جابر أن أول ما نزل { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } واللائق حمل كلامه ما أمكن على ما قلناه، فإن في سياق كلامه ما يدل على تقدم مجيء الملك الذي عرفه ثانيا بما عرفه به أولا إليه.

ثم قوله: يحدّث عن فترة الوحي دليل على تقدم الوحي على هذا الإيحاء والله أعلم.

وقد ثبت في (الصحيحين) من حديث علي بن المبارك، وعند مسلم، والأوزاعي، كلاهما عن يحيى بن أبي كثير، قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن أي القرآن أنزل قبل؟

فقال: «يا أيها المدثر».

فقلت: «واقرأ باسم ربك».

فقال: سألت جابر بن عبد الله أي القرآن نزل قبل؟

فقال: «يا أيها المدثر».

فقلت: «واقرأ باسم ربك».

فقال: أحدثكم ما حدثنا رسول الله ﷺ.

قال رسول الله ﷺ: «إني جاورت بحراء شهرا، فلما قضيت جواري، نزلت فاستبطنت الوادي، فنوديت فنظرت بين يدي وخلفي وعن يميني، وعن شمالي، فلم أر شيئا، ثم نظرت إلى السماء فإذا هو على العرش في الهواء، فأخذتني رعدة - أو قال وحشة - فأتيت خديجة فأمرتهم، فدثروني، فأنزل الله: «يا أيها المدثر» حتى بلغ «وثيابك فطهر».

وقال في رواية -: «فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فجثيت منه».

وهذا صريح في تقدم إتيانه إليه وإنزاله الوحي من الله عليه كما ذكرناه والله أعلم.

ومنهم: زعم أن أول ما نزل بعد فترة الوحي سورة: { والضحى والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى } إلى آخرها.

قاله محمد بن إسحاق.

وقال بعض القرَّاء: ولهذا كـَّبر رسول الله ﷺ في أولها فرحا وهو قول بعيد يرده ما تقدم من رواية صاحبي (الصحيح) من أن أول القرآن نزولا بعد فترة الوحي: { يا أيها المدثر * قم فانذر }

ولكن نزلت سورة (والضحى) بعد فترة أخرى، كانت ليالي يسيرة كما ثبت في (الصحيحين) وغيرهما، من حديث الأسود بن قيس، عن جندب بن عبد الله البجلي، قال: اشتكى رسول الله ﷺ فلم يقم ليلة أو ليلتين أو ثلاثا فقالت امرأة: ما أرى شيطانك إلا تركك.

فأنزل الله: { وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } [13].

وبهذا الأمر حصل الإرسال إلى الناس وبالأول حصلت النبوة.

وقد قال بعضهم: كانت مدة الفترة قريبا من سنتين أو سنتين ونصفا، والظاهر والله أعلم أنها المدة التي اقترن معه ميكائيل كما قال الشعبي، وغيره.

ولا ينفي هذا تقدم إيحاء جبريل إليه أولا: { اقرأ باسم ربك الذي خلق } ثم اقترن به جبريل بعد نزول: { يا أيها المدثر * قم فأنذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر * والرجز فاهجر }.

وثم حمي الوحي بعد هذا وتتابع - أي: تدارك شيئا بعد شيء - وقام حينئذ رسول الله ﷺ في الرسالة أتم القيام وشمَّر عن ساق العزم، ودعا إلى الله، القريب، والبعيد، والأحرار، والعبيد، فآمن به حينئذ كل لبيب نجيب سعيد، واستمر على مخالفته وعصيانه كل جبار عنيد.

فكان أول من بادر إلى التصديق من الرجال الأحرار: أبو بكر الصديق.

ومن الغلمان: علي بن أبي طالب.

ومن النساء: خديجة بنت خويلد زوجته عليه السلام.

ومن الموالي: مولاه زيد بن حارثة الكلبي رضي الله عنهم وأرضاهم.

وتقدم الكلام على إيمان ورقة بن نوفل بما وجد من الوحي ومات في الفترة رضي الله عنه.

فصل في منع الجان ومردة الشياطين من استراق السمع حين أنزل القرآن

لئلا يختطف أحدهم منه ولو حرفا واحدا فيلقيه على لسان وليه فيلتبس الأمر ويختلط الحق

فكان من رحمة الله وفضله ولطفه بخلقه، أن حجبهم عن السماء كما قال الله تعالى إخبارا عنهم في قوله: { وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسا شَدِيدا وَشُهُبا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابا رَصَدا * وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدا } [14].

وقال تعالى: { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ } [15]

قال الحافظ أبو نعيم: حدثنا سليمان بن أحمد - وهو الطبراني - حدثنا عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم، حدثنا محمد بن يوسف الفريابي، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان الجن يصعدون إلى السماء يستمعون الوحي فإذا حفظوا الكلمة زادوا فيها تسعا فأما الكلمة فتكون حقا، وأما ما زادوا فتكون باطلا.

فلما بعث النبي ﷺ منعوا مقاعدهم، فذكروا ذلك لإبليس، ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك.

فقال لهم إبليس: هذا لأمر قد حدث في الأرض، فبعث جنوده فوجدوا رسول الله ﷺ قائما يصلي بين جبلين، فأتوه فأخبروه.

فقال: هذا الأمر الذي قد حدث في الأرض.

وقال أبو عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.

قال: ما قرأ رسول الله ﷺ على الجن وما رآهم، انطلق رسول الله ﷺ، وأصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين، وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم.

فقالوا: ما لكم؟

قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب.

فقالوا: ما ذاك إلا من شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها.

فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة، وهو بنخل عامدين إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له.

فقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فرجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا: { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنا عَجَبا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدا }. [16].

فأوحى الله إلى نبيه ﷺ: { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ } الآية [17]. أخرجاه في (الصحيحين).

وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا محمد بن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.

قال: إنه لم تكن قبيلة من الجن إلا ولهم مقاعد للسمع، فإذا نزل الوحي سمعت الملائكة صوتا كصوت الحديدة ألقيتها على الصفا، قال: فإذا سمعت الملائكة خروا سجدا فلم يرفعوا رؤسهم حتى ينزل.

فإذا نزل قال بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم؟ فإن كان مما يكون في السماء.

قالوا: الحق وهو العلي الكبير، وإن كان مما يكون في الأرض من أمر الغيب، أو موت، أو شيء مما يكون في الأرض تكلموا به.

فقالوا: يكون كذا وكذا فتسمعه الشياطين فينزلونه على أوليائهم، فلما بعث النبي محمد ﷺ دحروا بالنجوم فكان أول من علم بها ثقيف، فكان ذو الغنم منهم ينطلق إلى غنمه فيذبح كل يوم شاة، وذا الإبل فينحر كل يوم بعيرا، فأسرع الناس في أموالهم، فقال بعضهم لبعض:

لا تفعلوا فإن كانت النجوم التي يهتدون بها وإلا فإنه لأمر حدث، فنظروا فإذا النجوم التي يهتدي بها كما هي لم يزل منها شيء فكفوا وصرف الله الجن فسمعوا القرآن فلما حضروه قالوا: انصتوا وانطلقت الشياطين إلى إبليس فأخبروه.

فقال: هذا حدثٌ حدث في الأرض، فأتوني من كل أرض بتربة، فأتوه بتربة تهامة، فقال: ههنا الحدث.

ورواه البيهقي، والحاكم، من طريق حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب..

وقال الواقدي: حدثني أسامة بن زيد بن أسلم، عن عمر بن عبدان العبسي، عن كعب قال: لم يرم بنجم منذ رفع عيسى، حتى تنبأ رسول الله ﷺ فرمى بها، فرأت قريش أمرا لم تكن تراه فجعلوا يسيبون أنعامهم، ويعتقون أرقاءهم، يظنون أنه الفناء، فبلغ ذلك من فعلهم أهل الطائف، ففعلت ثقيف مثل ذلك، فبلغ عبد ياليل بن عمرو ما صنعت ثقيف.

قال: ولم فعلتم ما أرى؟

قالوا: رمى بالنجوم، فرأيناها تهافت من السماء.

فقال: إن إفادة المال بعد ذهابه شديد، فلا تعجلوا، وانظروا: فإن تكن نجوما تعرف فهو عندنا من فناء الناس، وإن كانت نجوما لا تعرف فهو لأمر قد حدث، فنظروا فإذا هي لا تعرف فأخبروه.

فقال: الأمر فيه مهلة بعد هذا عند ظهور نبي.

فما مكثوا إلا يسيرا، حتى قدم عليهم أبو سفيان بن حرب إلى أمواله، فجاء عبد ياليل فذاكره أمر النجوم، فقال أبو سفيان: ظهر محمد بن عبد الله يدعي أنه نبي مرسل.

فقال عبد ياليل: فعند ذلك رمى بها.

وقال سعيد بن منصور، عن خالد بن حصين، عن عامر الشعبي.

قال: كانت النجوم لا يرمى بها حتى بعث الله، رسول الله ﷺ فرمي بها ﷺ فسيبوا أنعامهم، وأعتقوا رقيقهم.

فقال عبد ياليل: انظروا فإن كانت النجوم التي تعرف فهو عند فناء الناس، وإن كانت لا تعرف فهو لأمر قد حدث، فنظروا فإذا هي لا تعرف.

قال: فأمسكوا، فلم يلبثوا إلا يسيرا، حتى جاءهم خروج النبي ﷺ.

وروى البيهقي، والحاكم، من طريق العوفي، عن ابن عباس قال: لم تكن سماء الدنيا تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد صلوات الله عليهما وسلامه.

فلعل مراد من نفى ذلك أنها لم تكن تحرس حراسة شديدة.

ويجب حمل ذلك على هذا لما ثبت في الحديث من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن علي بن الحسين، عن ابن عباس رضي الله عنهما: بينا رسول الله ﷺ جالس في نفر من أصحابه إذ رمى بنجم فاستدار فقال: «ما كنتم تقولون إذا رمي بهذا؟».

قال: كنا نقول مات عظيم، وولد عظيم.

فقال: «لا ولكن».

فذكر الحديث كما تقدم عند خلق السماء وما فيها من الكواكب في أول بدء الخلق ولله الحمد.

وقد ذكر ابن إسحاق في السيرة قصة رمي النجوم وذكر عن كبير ثقيف أنه قال لهم في النظر في النجوم: إن كانت أعلام السماء أو غيرها، ولكن سماه عمرو بن أمية، فالله أعلم.

وقال السدي: لم تكن السماء تحرس إلا أن يكون في الأرض نبي أو دين لله ظاهر، وكانت الشياطين قبل محمد ﷺ قد اتخذت المقاعد في سماء الدنيا يستمعون ما يحدث في السماء من أمر.

فلما بعث الله محمدا ﷺ نبيا، رجموا ليلة من الليالي ففزع لذلك أهل الطائف.

فقالوا: هلك أهل السماء لما رأوا من شدة النار في السماء، واختلاف الشهب، فجعلوا يعتقون أرقاءهم، ويسيبون مواشيهم.

فقال لهم عبد ياليل بن عمرو بن عمير: ويحكم يا معشر أهل الطائف أمسكوا عن أموالكم، وانظروا إلى معالم النجوم فإن رأيتموها مستقرة في أمكنتها فلم يهلك أهل السماء، وإنما هو من ابن أبي كبشة، وإن أنتم لم تروها فقد أهلك أهل السماء.

فنظروا فرأوها فكفوا عن أموالهم، وفزعت الشياطين في تلك الليلة، فأتوا إبليس، فقال: ائتوني من كل أرض بقبضة من تراب.

فأتوه فشمَّ.

فقال: صاحبكم بمكة، فبعث سبعة نفر من جن نصيبين فقدموا مكة، فوجدوا رسول الله ﷺ في المسجد الحرام يقرأ القرآن، فدنوا منه حرصا على القرآن، حتى كادت كلاكلهم تصيبه، ثم أسلموا فأنزل الله أمرهم على نبيه ﷺ.

وقال الواقدي: حدثني محمد بن صالح، عن ابن أبي حكيم - يعني: إسحاق - عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة قال:

لما بعث رسول الله ﷺ أصبح كل صنم منكسا، فأتت الشياطين، فقالوا له: ما على الأرض من صنم إلا وقد أصبح منكسا.

قال: هذا نبي قد بعث فالتمسوه في قرى الأرياف، فالتمسوه، فقالوا: لم نجده.

فقال: أنا صاحبه فخرج يلتمسه فنودي عليك بجنبة الباب - يعني: مكة - فالتمسه بها فوجده بها عند قرن الثعالب، فخرج إلى الشياطين.

فقال: إني قد وجدته معه جبريل، فما عندكم؟

قالوا: نزين الشهوات في عين أصحابه، ونحببها إليهم.

قال: فلا آسى إذا.

وقال الواقدي: حدثني طلحة بن عمرو، عن ابن أبي مليكة، عن عبد الله بن عمرو قال:

لما كان اليوم الذي تنبأ فيه رسول الله ﷺ منعت الشياطين من السماء، ورموا بالشهب، فجاؤوا إلى إبليس فذكروا ذلك له.

فقال: أمر قد حدث هذا نبي قد خرج عليكم بالأرض المقدسة مخرج نبي إسرائيل.

قال: فذهبوا إلى الشام، ثم رجعوا إليه، فقالوا: ليس بها أحد.

فقال إبليس: أنا صاحبه، فخرج في طلبه بمكة؛ فإذا رسول الله ﷺ بحراء منحدرا معه جبريل، فرجع إلى أصحابه.

فقال: قد بعث أحمد ومعه جبريل، فما عندكم؟

قالوا: الدنيا نحببها إلى الناس.

قال: فذاك إذا.

قال الواقدي: وحدثني طلحة ابن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس قال: كانت الشياطين يستمعون الوحي، فلما بعث محمد ﷺ منعوا، فشكوا ذلك إلى إبليس فقال: لقد حدث أمر فرقي فوق أبي قبيس - وهو أول جبل وضع على وجه الأرض - فرأى رسول الله ﷺ يصلي خلف المقام.

فقال: اذهب فاكسر عنقه.

فجاء يخطر وجبريل عنده، فركضه جبريل ركضة طرحه في كذا وكذا فولى الشيطان هاربا..

ثم رواه الواقدي، وأبو أحمد الزبيري، كلاهما عن رباح بن أبي معروف، عن قيس بن سعد، عن مجاهد، فذكر مثل هذا، وقال: فركضه برجله فرماه بعدن.

فصل في كيفية إتيان الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

قد تقدم كيفية ما جاءه جبريل في أول مرة، وثاني مرة أيضا.

وقال مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها.

إن الحارث بن هشام سأل رسول الله ﷺ.

قال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟

فقال: «أحيانا يأتيني مثل صلصة الجرس - وهو أشده عليّ - فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا يكلمني فأعي ما يقول».

قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته ﷺ ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وأن جبينه ليتفصد عرقا أخرجاه في (الصحيحين) من حديث مالك به.

ورواه الإمام أحمد، عن عامر بن صالح، عن هشام بن عروة به نحوه.

وكذا رواه عبدة بن سليمان، وأنس بن عياض، عن هشام بن عروة.

وقد رواه أيوب السختياني، عن هشام، عن أبيه، عن الحارث بن هشام أنه قال: سألت رسول الله ﷺ فقلت: كيف يأتيك الوحي؟

فذكره، ولم يذكر عائشة.

وفي حديث الإفك قالت عائشة: فوالله ما رام رسول الله ﷺ، ولا خرج أحد من أهل البيت، حتى أنزل عليه.

فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء، حتى أنه كان يتحدر منه مثل الجمان من العرق، وهو في يوم شات من ثقل الوحي الذي نزل عليه.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرني يونس بن سليم، قال: أملى عليّ يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عبد الرحمن بن عبد القاري سمعت عمر بن الخطاب يقول: كان إذا نزل على رسول الله ﷺ الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل..

وذكر تمام الحديث في نزول: { قد أفلح المؤمنون }.

وكذا رواه الترمذي، والنسائي من حديث عبد الرزاق، ثم قال النسائي: منكر لا نعرف أحدا رواه، غير يونس بن سليم، ولا نعرفه.

وفي (صحيح مسلم)، وغيره، من حديث الحسن، عن حطان بن عبد الله الرقاشي، عن عبادة بن الصامت.

قال: كان رسول الله ﷺ إذا نزل عليه الوحي كربه ذلك، وتربد وجهه.

وفي رواية - وغمض عينيه - وكنا نعرف ذلك منه.

وفي (الصحيحين) حديث زيد بن ثابت حين نزلت: { لا يستوي القاعدون من المؤمنين } فلما شكى ابن أم مكتوم ضرارته نزلت: { غير أولى الضرر }.

قال: وكانت فخذ رسول الله ﷺ على فخذي، وأنا أكتب، فلما نزل الوحي كادت فخذه ترض فخذي.

وفي (صحيح مسلم) من حديث همام بن يحيى، عن عطاء، عن يعلى بن أمية.

قال: قال لي عمر: أيسرك أن تنظر إلى رسول الله ﷺ وهو يوحى إليه؟

فرفع طرف الثوب عن وجهه وهو يوحى إليه بالجعرانة؛ فإذا هو محمرّ الوجه، وهو يغط كما يغط البكر.

وثبت في (الصحيحين) من حديث عائشة لما نزل الحجاب، وأن سودة خرجت بعد ذلك إلى المناصع ليلا، فقال عمر: قد عرفناك يا سودة.

فرجعت إلى رسول الله ﷺ فسألته وهو جالس يتعشى والعرق في يده، فأوحى الله إليه والعرق في يده، ثم رفع رأسه فقال: «إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن».

فدلَّ هذا على أنه لم يكن الوحي يغيب عنه إحساسه بالكلية، بدليل أنه جالس، ولم يسقط العرق أيضا من يده صلوات الله وسلامه دائما عليه.

وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا عباد بن منصور، حدثنا عكرمة، عن ابن عباس.

قال: كان رسول الله ﷺ إذا أنزل عليه الوحي تربَّد لذلك جسده ووجهه، وأمسك عن أصحابه، ولم يكلمه أحد منهم.

وفي (مسند أحمد)، وغيره، من حديث ابن لهيعة: حدثني يزيد ابن أبي حبيب، عن عمرو بن الوليد، عن ابن عبد الله بن عمرو، قلت يا رسول الله هل تحس بالوحي؟.

قال: «نعم اسمع صلاصل ثم أثبت عند ذلك، وما من مرة يوحى إليّ إلا ظننت أن نفسي تفيظ منه».

وقال أبو يعلى الموصلي: حدثنا إبراهيم بن الحجاج، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا عاصم بن كليب، حدثنا أبي عن خاله العليان بن عاصم.

قال: كنا عند رسول الله ﷺ وأنزل عليه، وكان إذا أنزل عليه دام بصره وعيناه مفتوحة، وفرغ سمعه وقلبه، لما يأتيه من الله عز وجل.

وروى أبو نعيم من حديث قتيبة، حدثنا علي بن غراب، عن الأحوص بن حكيم، عن أبي عوانة، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة.

قال: كان رسول الله ﷺ إذا نزل عليه الوحي صدع وغلف رأسه بالحناء.

هذا حديث غريب جدا.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر، حدثنا أبو معاوية سنان، عن ليث، عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد.

قالت: إني لآخذه بزمام العضباء ناقة رسول الله ﷺ، إذ نزلت عليه المائدة كلها، وكادت من ثقلها تدق عضد الناقة.

وقد رواه أبو نعيم من حديث الثوري، عن ليث بن أبي سليم به.

وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثني جبر بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو قال: أنزلت على رسول الله ﷺ سورة المائدة وهو راكب على راحلته، فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها.

وروى ابن مردويه من حديث صباح ابن سهل، عن عاصم الأحول، حدثتني أم عمرو، عن عمها: أنه كان في مسير مع رسول الله ﷺ، فنزلت عليه سورة المائدة، فاندق عنق الراحلة من ثقلها.

وهذا غريب من هذا الوجه.

ثم قد ثبت في (الصحيحين) نزول سورة الفتح على رسول الله ﷺ مرجعه من الحديبية، وهو على راحلته، فكان يكون تارة وتارة بحسب الحال والله أعلم.

وقد ذكرنا أنواع الوحي إليه ﷺ في أول (شرح البخاري)، وما ذكره الحليمي، وغيره من الأئمة رضي الله عنهم.

فصل ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه

قال الله تعالى: { لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } [18].

وقال تعالى: { وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْما } [19].

وكان هذا في الابتداء، كان عليه السلام من شدة حرصه على أخذه من الملك ما يوحى إليه عن الله عز وجل ليساوقه في التلاوة..

فأمره الله تعالى أن ينصت لذلك حتى يفرغ من الوحي، وتكفل له أن يجمعه في صدره، وأن ييسر عليه تلاوته وتبليغه، وأن يبينه له، ويفسره ويوضحه ويوقفه على المراد منه.

ولهذا قال: { وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْما }

وقال: { لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ }

أي: في صدرك

{ وَقُرْآنَهُ } أي: وأن تقرأه.

{ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ } أي: تلاه عليك الملك.

{ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } أي: فاستمع له وتدبره.

{ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } : وهو نظير قوله: { وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْما }

وفي (الصحيحين) من حديث موسى بن أبي عائشة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان رسول الله ﷺ يعالج من التنزيل شدة؛ فكان يحرك شفتيه، فأنزل الله: { لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه }.

قال: جمعه في صدرك ثم تقرأه: { فإذا قرأناه فاتبع قرآنه } : فاستمع له وأنصت.

{ ثم إن علينا بيانه } قال: فكان إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا ذهب قرأه كما وعده الله عز وجل.

فصل تتابع الوحي إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام

قال ابن إسحاق: ثم تتابع الوحي إلى رسول الله ﷺ وهو مؤمن بالله مصدق بما جاءه منه، قد قبله بقبوله وتحمل منه ما حمله - على رضا العباد وسخطهم - وللنبوة أثقال ومؤنة، لا يحملها ولا يستضلع بها إلا أهل القوة، والعزم من الرسل، بعون الله وتوفيقه لما يلقون من الناس، وما يرد عليهم مما جاؤوا به عن الله عز وجل.

فمضى رسول الله ﷺ على ما أمر الله على ما يلقى من قومه من الخلاف، والأذى.

قال ابن إسحاق: وآمنت خديجة بنت خويلد، وصدقت بما جاءه من الله ووازرته على أمره، وكانت أول من آمن بالله ورسوله، وصدقت بما جاء منه، فخفف الله بذلك عن رسوله ﷺ لا يسمع شيئا يكرهه من ردٍ عليه، وتكذيب له، فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها تثبته، وتخفف عنه، وتصدقه، وتهون عليه أمر الناس، رضي الله عنها وأرضاها.

قال ابن إسحاق: وحدثني هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه.

قال: قال رسول الله ﷺ: «أمرت أن أبشر خديجة ببيت من قصب، لا صخب فيه ولا نضب».

وهذا الحديث مخرج في (الصحيحين) من حديث هشام.

قال ابن هشام: القصب هاهنا: اللؤلؤ المجوف..

قال ابن إسحاق: وجعل رسول الله ﷺ يذكر جميع ما أنعم الله به عليه وعلى العباد من النبوة؛ سرا إلى من يطمئن إليه من أهله.

وقال موسى بن عقبة، عن الزهري: كانت خديجة أول من آمن بالله وصدق رسوله، قبل أن تفرض الصلاة.

قلت: يعني الصلوات الخمس ليلة الإسراء.

فأما أصل الصلاة فقد وجب في حياة خديجة رضي الله عنها كما سنبينه.

وقال ابن إسحاق: وكانت خديجة أول من آمن بالله ورسوله، وصدق بما جاء به.

ثم أن جبريل أتى رسول الله ﷺ وهو بأعلى مكة حين افترضت عليه الصلاة.

فهمز له بعقبه في ناحية الوادي، فانفجرت له عين من ماء زمزم، فتوضأ جبريل ومحمد عليهما السلام، ثم صلى ركعتين وسجد أربع سجدات، ثم رجع النبي ﷺ وقد أقرَّ الله عينه، وطابت نفسه، وجاءه ما يحب من الله.

فأخذ يد خديجة حتى أتى بها إلى العين، فتوضأ كما توضأ جبريل، ثم ركع ركعتين وأربع سجدات، ثم كان هو وخديجة يصليان سرا.

قلت: صلاة جبريل هذه غير الصلاة التي صلاها به عند البيت مرتين، فبين له أوقات الصلوات الخمس، أولها وآخرها، فإن ذلك كان بعد فرضيتها ليلة الإسراء، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله وبه الثقة، وعليه التكلان..

فصل أول من أسلم من متقدمي الإسلام والصحابة وغيرهم

قال ابن إسحاق: ثم إن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - جاء بعد ذلك بيوم وهما يصليان.

فقال علي: يا محمد ما هذا؟

قال: «دين الله الذي اصطفى لنفسه، وبعث به رسله، فأدعوك إلى الله وحده لا شريك له، وإلى عبادته».

«وأن تكفر باللات والعزى».

فقال علي: هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم، فلست بقاضٍ أمرا حتى أحدث به أبا طالب.

فكره رسول الله ﷺ أن يفشي عليه سره قبل أن يستعلن أمره.

فقال له: «يا علي إذا لم تسلم فاكتم».

فمكث علي تلك الليلة، ثم أن الله أوقع في قلب علي الإسلام، فأصبح غاديا إلى رسول الله ﷺ، حتى جاءه فقال: ماذا عرضت علي يا محمد؟

فقال له رسول الله ﷺ: «تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وتكفر باللات والعزى، وتبرأ من الأنداد».

ففعل علي وأسلم، ومكث يأتيه على خوف من أبي طالب، وكتم علي إسلامه ولم يظهره.

وأسلم ابن حارثة - يعني: زيدا - فمكثا قريبا من شهر يختلف علي إلى رسول الله ﷺ، وكان مما أنعم الله به على علي أنه كان في حجر رسول الله ﷺ قبل الإسلام.

قال ابن إسحاق: حدثني ابن أبي نجيح عن مجاهد، قال: وكان مما أنعم الله به على علي ومما صنع الله له، وأراده به من الخير أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثيرة.

فقال رسول الله ﷺ لعمه العباس - وكان من أيسر بني هاشم - «يا عباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة، فانطلق بنا إليه حتى نخفف عنه من عياله».... فأخذ رسول الله ﷺ عليا فضمه إليه، فلم يزل مع رسول الله ﷺ حتى بعثه الله نبيا، فاتَّبعه علي وآمن به وصدقه.

وقال يونس بن بكير، عن محمد ابن إسحاق، حدثني يحيى بن أبي الأشعث الكندي - من أهل الكوفة - حدثني إسماعيل بن أبي إياس بن عفيف، عن أبيه، عن جده عفيف - وكان عفيف أخا الأشعث بن قيس لأمه - أنه قال: كنت امرءا تاجرا، فقدمت منى أيام الحج، وكان العباس بن عبد المطلب امرءا تاجرا، فأتيته أبتاع منه وأبيعه.

قال: فبينا نحن عنده إذ خرج رجل من خباء، فقام يصلي تجاه الكعبة، ثم خرجت امرأة فقامت تصلي، وخرج غلام فقام يصلي معه.

فقلت يا عباس ما هذا الدين؟ إن هذا الدين ما ندري ما هو؟

فقال: هذا محمد بن عبد الله يزعم أن الله أرسله به وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه، وهذه امرأته خديجة بنت خويلد آمنت به، وهذا الغلام ابن عمه علي بن أبي طالب آمن به.

قال عفيف: فليتني كنت آمنت يومئذٍ، فكنت أكون ثانيا.

وتابعه إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق، وقال: في الحديث: إذ خرج رجل من خباء قريب منه، فنظر إلى السماء فلما رآها قد مالت قام يصلي.

ثم ذكر قيام خديجة وراءه.

وقال ابن جرير: حدثني محمد بن عبيد المحاربي، حدثنا سعيد بن خثيم، عن أسد بن عبدة البجلي، عن يحيى بن عفيف عن عفيف قال: جئت زمن الجاهلية إلى مكة، فنزلت على العباس بن عبد المطلب، فلما طلعت الشمس، وحلقت في السماء وأنا أنظر إلى الكعبة، أقبل شاب فرمى ببصره إلى السماء، ثم استقبل الكعبة، فقام مستقبلها، فلم يلبث حتى جاء غلام فقام عن يمينه، فلم يلبث حتى جاءت امرأة فقامت خلفهما، فركع الشاب، فركع الغلام والمرأة، فرفع الشاب، فرفع الغلام والمرأة، فخر الشاب ساجدا، فسجدا معه.

فقلت: يا عباس أمر عظيم!

فقال: أمر عظيم.

فقال: أتدري من هذا؟

فقلت: لا

فقال: هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخي.

أتدري من الغلام؟

قلت: لا

قال: هذا علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه -.

أتدري من هذه المرأة التي خلفهما؟

قلت: لا

قال: هذه خديجة بنت خويلد زوجة ابن أخي.

وهذا حدثني أن ربك رب السماء والأرض أمره بهذا الذي تراهم عليه، وأيم الله ما أعلم على ظهر الأرض كلها أحدا على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة.

وقال ابن جرير: حدثني ابن حميد، حدثنا عيسى بن سوادة بن أبي الجعد، حدثنا محمد بن المنكدر، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وأبو حازم، والكلبي.

قالوا: علي أول من أسلم.

قال الكلبي: أسلم وهو ابن تسع سنين.

وحدثنا ابن حميد، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق.

قال: أول ذكر آمن برسول الله ﷺ وصلى معه وصدقه علي بن أبي طالب، وهو ابن عشر سنين، وكان في حجر رسول الله ﷺ، قبل الإسلام..

قال الواقدي: أخبرنا إبراهيم، عن نافع، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد.

قال: أسلم علي وهو ابن عشر سنين.

قال الواقدي: وأجمع أصحابنا على أن عليا أسلم بعد ما تنبأ رسول الله بسنة.

وقال محمد بن كعب: أول من أسلم من هذه الأمة: خديجة وأول رجلين أسلما: أبو بكر، وعلي.

وأسلم علي قبل أبي بكر، وكان علي يكتم إيمانه خوفا من أبيه، حتى لقيه أبوه قال: أسلمت؟

قال: نعم.

قال: وازر ابن عمك وانصره.

قال: وكان أبو بكر الصديق أول من أظهر الإسلام.

وروى ابن جرير في (تاريخه): من حديث شعبة، عن أبي بلج، عن عمرو بن ميمون، عن ابن عباس قال: أول من صلى علي.

وحدثنا عبد الحميد بن يحيى، حدثنا شريك، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر.

قال: بعث النبي ﷺ يوم الاثنين، وصلى علي يوم الثلاثاء وروى من حديث شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي حمزة - رجل من الأنصار -سمعت زيد بن أرقم يقول: أول من أسلم مع رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب، قال: فذكرته للنخعي فأنكره.

وقال: أبو بكر أول من أسلم.

ثم قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، حدثنا العلاء، عن المنهال بن عمرو، عن عباد بن عبد الله سمعت عليا يقول: أنا عبد الله وأخو رسوله وأنا الصديق الأكبر، لا يقولها بعدي إلا كاذب مفتر، صليت قبل الناس بسبع سنين.

وهكذا رواه ابن ماجه، عن محمد بن إسماعيل الرازي، عن عبيد الله بن موسى الفهمي - وهو شيعي من رجال الصحيح - عن العلاء بن صالح الأزدي الكوفي - وثقوه، ولكن قال أبو حاتم: كان من عتق الشيعة - وقال علي بن المديني: روى أحاديث مناكير والمنهال بن عمرو ثقة.

وأما شيخه عباد بن عبد الله - وهو الأسدي الكوفي -فقد قال فيه علي بن المديني: هو ضعيف الحديث، وقال البخاري: فيه نظر.

وذكره ابن حبان في الثقات، وهذا الحديث منكر بكل حال، ولا يقوله علي رضي الله عنه، وكيف يمكن أن يصلي قبل الناس بسبع سنين؟ هذا لا يتصور أصلا والله أعلم.

وقال آخرون: أول من أسلم من هذه الأمة أبو بكر الصديق، والجمع بين الأقوال كلها أن: خديجة أول من أسلم من النساء وظاهر السباقات - وقيل: الرجال أيضا - وأول من أسلم من الموالي: زيد بن حارثة، وأول من أسلم من الغلمان: علي بن أبي طالب.

فإنه كان صغيرا دون البلوغ على المشهور، وهؤلاء كانوا إذ ذاك أهل البيت.

وأول من أسلم من الرجال الأحرار: أبو بكر الصديق، وإسلامه كان أنفع من إسلام من تقدم ذكرهم، إذ كان صدرا معظما، ورئيسا في قريش مكرما، وصاحب مال، وداعية إلى الإسلام.

وكان محببا متألفا يبذل المال في طاعة الله ورسوله كما سيأتي تفصيله.

قال يونس عن ابن إسحاق: ثم إن أبا بكر الصديق لقي رسول الله ﷺ فقال: أحق ما تقول قريش يا محمد؟ من تركك آلهتنا، وتسفيهك عقولنا، وتكفيرك آبائنا؟

فقال رسول الله ﷺ: «بلى إني رسول الله ونبيه، بعثني لأبلغ رسالته وأدعوك إلى الله بالحق، فوالله إنه للحق، أدعوك يا أبا بكر إلى الله وحده لا شريك له، ولا تعبد غيره، والموالاة على طاعته».

وقرأ عليه القرآن، فلم يقر ولم ينكر.

فأسلم وكفر بالأصنام، وخلع الأنداد وأقر بحق الإسلام، ورجع أبو بكر وهو مؤمن مصدق.

قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحصين التميمي أن رسول الله ﷺ قال: «ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة وتردد ونظر، إلا أبا بكر ما عكم عنه حين ذكرته، ولا تردد فيه» عكم - أي: تلبث - وهذا الذي ذكره ابن إسحاق في قوله فلم يقر ولم ينكر، منكر فإن ابن إسحاق، وغيره ذكروا أنه كان صاحب رسول الله ﷺ قبل البعثة، وكان يعلم من صدقه وأمانته، وحسن سجيته، وكرم أخلاقه ما يمنعه من الكذب على الخلق.

فكيف يكذب على الله؟ ولهذا بمجرد ما ذكر له إن الله أرسله بادر إلى تصديقه ولم يتلعثم، ولا عكم، وقد ذكرنا كيفية إسلامه في كتابنا الذي أفردناه في سيرته، وأوردنا فضائله وشمائله، وأتبعنا ذلك بسيرة الفاروق أيضا وأوردنا ما رواه كل منهما عن النبي ﷺ من الأحاديث.

وما روي عنه من الآثار والأحكام والفتاوى، فبلغ ذلك ثلاث مجلدات والله الحمد والمنة.

وقد ثبت في (صحيح البخاري) عن أبي الدرداء في حديث ما كان بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما من الخصومة وفيه فقال رسول الله ﷺ: «إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت، وقال أبو بكر صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي» مرتين.

فما أوذي بعدها، وهذا كالنص على أنه أول من أسلم رضي الله عنه وقد روى الترمذي، وابن حبان من حديث شعبة، عن سعيد الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد.

قال: قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: ألست أحق الناس بها، ألست أول من أسلم، ألست صاحب كذا؟

وروى ابن عساكر من طريق بهلول بن عبيد، حدثنا أبو إسحاق السبيعي، عن الحارث سمعت عليا يقول: أول من أسلم من الرجال: أبو بكر الصديق وأول من صلى مع النبي ﷺ من الرجال: علي ابن أبي طالب.

وقال شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي حمزة، عن زيد بن أرقم قال: أول من صلى مع النبي ﷺ: أبو بكر الصديق.

رواه أحمد، والترمذي، والنسائي من حديث شعبة وقال الترمذي: حسن صحيح.

وقد تقدم رواية ابن جرير لهذا الحديث من طريق شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي حمزة، عن زيد بن أرقم قال: أول من أسلم علي بن أبي طالب.

قال عمرو بن مرة فذكرته لإبراهيم النخعي فأنكره وقال: أول من أسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه.

وروى الواقدي بأسانيده عن أبي أروى الدوسي، وأبي مسلم بن عبد الرحمن في جماعة من السلف: أول من أسلم أبو بكر الصديق.

وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو بكر الحميدي، حدثنا سفيان بن عيينة، عن مالك بن مغول، عن رجل قال: سئل ابن عباس من أول من آمن؟ فقال: أبو بكر الصديق، أما سمعت قول حسان:

إذا تذكَّرتَ شجْوا من أخي ثقةٍ * فاذكر أخاك أبا بكرٍ بما فعلا

خيرَ البريةِ أوفاها وأعدلها * بعد النبيّ وأولاها بما حملا

والتاليُ الثانيُ المحمودُ مشهدُه * وأول الناس منهم صدَّق الرسلا

عاشَ حميدا لأمرِ الله متبعا * بأمر صاحبه الماضي وما انتقلا

وقد رواه أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا شيخ لنا، عن مجالد، عن عامر قال: سألت ابن عباس - أو سئل ابن عباس - أي الناس أول إسلاما؟ قال: أما سمعت قول حسان بن ثابت فذكره وهكذا رواه الهيثم بن عدي، عن مجالد، عن عامر الشعبي سألت ابن عباس فذكره.

وقال أبو القاسم البغوي: حدثني سريج بن يونس، حدثنا يوسف بن الماجشون قال: أدركت مشيختنا منهم محمد بن المنكدر، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وصالح بن كيسان، وعثمان بن محمد، لا يشكُّون أن أول القوم إسلاما أبو بكر الصديق رضي الله عنه.

قلت: وهكذا قال إبراهيم النخعي، ومحمد بن كعب، ومحمد بن سيرين، وسعد بن إبراهيم، وهو المشهور عن جمهور أهل السنة.

وروى ابن عساكر عن سعد بن أبي وقاص، ومحمد بن الحنفية أنهما قالا: لم يكن أولهم إسلاما، ولكن كان أفضلهم إسلاما.

قال سعد: وقد آمن قبله خمسة.

وثبت في (صحيح البخاري) من حديث همام بن الحارث، عن عمار بن ياسر.

قال: رأيت رسول الله ﷺ وما معه إلا خمسة: أعبد وامرأتان، وأبو بكر.

وروى الإمام أحمد، وابن ماجه من حديث عاصم بن أبي النجود، عن زر، عن ابن مسعود قال: أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول الله ﷺ، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد.

فأما رسول الله ﷺ فمنعه الله بعمه، وأما أبو بكر منعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدرع الحديد وصهروهم في الشمس، فما منهم من أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا، إلا بلالا فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه، فأخذوه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول: أحد أحد.

وهكذا رواه الثوري، عن منصور، عن مجاهد مرسلا.

فأما ما رواه ابن جرير قائلا: أخبرنا ابن حميد حدثنا كنانة بن حبلة، عن إبراهيم بن طهمان، عن حجاج، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن محمد بن سعد بن أبي وقاص.

قال: قلت لأبي: أكان أبو بكر أولكم إسلاما؟

قال: لا! ولقد أسلم قبله أكثر من خمسين ولكن كان أفضلنا إسلاما.

فإنه حديث منكر إسنادا ومتنا.

قال ابن جرير وقال آخرون: كان أول من أسلم زيد ابن حارثة، ثم روى من طريق الواقدي، عن ابن أبي ذئب، سألت الزهري من أول من أسلم من النساء؟

قال: خديجة.

قلت: فمن الرجال؟

قال: زيد بن حارثة.

وكذا قال عروة وسليمان بن يسار وغير واحد: أول من أسلم من الرجال زيد بن حارثة.

وقد أجاب أبو حنيفة رضي الله عنه بالجمع بين هذه الأقوال بأن أول من أسلم من الرجال الأحرار: أبو بكر، ومن النساء: خديجة، ومن الموالي: زيد بن حارثة، ومن الغلمان: علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.

قال محمد بن إسحاق: فلما أسلم أبو بكر وأظهر إسلامه دعا إلى الله عز وجل، وكان أبو بكر رجلا مألفا لقومه محببا سهلا، وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بما كان فيها من خير وشر.

وكان رجلا تاجرا ذا خلق معروف، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر، لعلمه وتجارته وحسن مجالسته.

فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه فأسلم على يديه - فيما بلغني - الزبير بن العوام، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم، فانطلقوا إلى رسول الله ﷺ ومعهم أبو بكر.

فعرض عليهم الإسلام وقرأ عليهم القرآن وأنبأهم بحق الإسلام فآمنوا، وكان هؤلاء النفر الثمانية الذين سبقوا الناس في الإسلام صدقوا رسول الله ﷺ وآمنوا بما جاء من عند الله..

وقال محمد بن عمر الواقدي: حدثني الضحاك بن عثمان، عن مخرمة بن سليمان الوالبي، عن إبراهيم بن محمد بن أبي طلحة، قال: قال طلحة بن عبيد الله: حضرت سوق بصرى، فإذا راهب في صومعته يقول: سلوا أهل الموسم أفيهم رجل من أهل الحرم؟

قال طلحة: قلت: نعم أنا.

فقال: هل ظهر أحمد بعد؟

قلت: ومن أحمد؟

قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب هذا شهره الذي يخرج فيه، وهو آخر الأنبياء مخرجه من الحرم، ومهاجرا إلى نخل وحرة وسباخ، فإياك أن تُسْبَق إليه.

قال طلحة: فوقع في قلبي ما قال، فخرجت سريعا حتى قدمت مكة فقلت هل كان من حديث؟

قالوا: نعم محمد بن عبد الله الأمين قد تنبأ، وقد اتبعه أبو بكر بن أبي قحافة.

قال: فخرجت حتى قدمت على أبي بكر، فقلت: اتبعت هذا الرجل؟

قال: نعم فانطلق إليه فادْخُل عليه فاتبعه فإنه يدعو إلى الحق، فأخبره طلحة بما قال الراهب.

فخرج أبو بكر بطلحة فدخل به على رسول الله ﷺ فأسلم طلحة، وأخبر رسول الله ﷺ بما قال الراهب فسرَّ رسول الله ﷺ بذلك.

فلما أسلم أبو بكر وطلحة أخذهما نوفل بن خويلد بن العدوية - وكان يدعى أسد قريش - فشدهما في حبل واحد ولم يمنعهما بنو تيم فلذلك سمي أبو بكر وطلحة القرينين.

وقال النبي ﷺ: «اللهم اكفنا شر ابن العدوية».

وقال الحافظ أبو الحسن خيثمة بن سليمان الأطرابلسي حدثنا عبيد الله بن محمد بن عبد العزيز العمري قاضي المصيصة، حدثنا أبو بكر عبد الله بن عبيد الله بن إسحاق بن محمد بن عمران بن موسى بن طلحة بن عبيد الله، حدثني أبي عبيد الله، حدثني عبد الله بن محمد بن عمران بن إبراهيم بن محمد بن طلحة قال: حدثني أبي محمد بن عمران، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر، عن عائشة رضي الله عنها قالت:

خرج أبو بكر يريد رسول الله ﷺ، وكان له صديقا في الجاهلية، فلقيه فقال: يا أبا القاسم فقدت من مجالس قومك، واتهموك بالعيب لآبائها وأمهاتها.

فقال رسول الله ﷺ: «إني رسول الله أدعوك إلى الله» فلما فرغ كلامه أسلم أبو بكر فانطلق عنه رسول الله ﷺ، وما بين الأخشبين أحد أكثر سرورا منه بإسلام أبي بكر، ومضى أبو بكر فراح لعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص فأسلموا.

ثم جاء الغد بعثمان بن مظعون، وأبي عبيدة بن الجراح، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي سلمة بن عبد الأسد، والأرقم بن أبي الأرقم فأسلموا رضي الله عنهم.

قال عبد الله بن محمد: فحدثني أبي، محمد بن عمران، عن القاسم بن محمد، عن عائشة؛ قالت: لما اجتمع أصحاب النبي ﷺ وكانوا ثمانية وثلاثين رجلا ألحَّ أبو بكر على رسول الله ﷺ في الظهور فقال: «يا أبا بكر إنا قليل».

فلم يزل أبو بكر يلحُّ حتى ظهر رسول الله ﷺ، وتفرق المسلمون في نواحي المسجد كل رجل في عشيرته، وقام أبو بكر في الناس خطيبا، ورسول الله ﷺ جالس فكان أول خطيب دعا إلى الله، وإلى رسوله ﷺ، وثار المشركون على أبي بكر، وعلى المسلمين، فضربوا في نواحي المسجد ضربا شديدا، ووطئ أبو بكر وضرب ضربا شديدا، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة، فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين، ويحرفهما لوجهه، ونزا على بطن أبي بكر حتى ما يعرف وجهه من أنفه.

وجاء بنو تيم يتعادون فأجلت المشركين عن أبي بكر، وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله، ولا يشكون في موته، ثم رجعت بنو تيم، فدخلوا المسجد وقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة بن ربيعة، فرجعوا إلى أبي بكر فجعل أبو قحافة وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجاب.

فتكلم آخر النهار فقال: ما فعل رسول الله ﷺ؟ فمسوا منه بألسنتهم وعذلوه، ثم قاموا وقالوا: لأمه أم الخير انظري أن تطعميه شيئا أو تسقيه إياه، فلما خلت به ألحت عليه، وجعل يقول: ما فعل رسول الله ﷺ؟

فقالت: والله مالي علم بصاحبك.

فقال: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه.

فخرجت حتى جاءت أم جميل فقالت: إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله؟

فقالت: ما أعرف أبا بكر، ولا محمد بن عبد الله، وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك.

قالت: نعم.

فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعا دنفا، فدنت أم جميل، وأعلنت بالصياح، وقالت: والله إن قوما نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم.

قال: فما فعل رسول الله ﷺ؟

قالت: هذه أمك تسمع.

قال: فلا شيء عليك منها.

قالت: سالم صالح.

قال: أين هو؟

قالت: في دار ابن الأرقم.

قال: فإن لله عليّ أن لا أذوق طعاما، ولا أشرب شرابا، أو آتي رسول الله ﷺ.

فأمهلتا حتى إذا هدأت الرجل، وسكن الناس، خرجتا به يتكئ عليهما حتى أدخلتاه على رسول الله ﷺ، قال: فأكبَّ عليه رسول الله ﷺ فقبَّله وأكب عليه المسلمون، ورقَّ له رسول الله ﷺ رقة شديدة.

فقال أبو بكر: بأبي وأمي يا رسول الله ليس بي بأس إلا ما نال الفاسق من وجهي، وهذه أمي برَّة بوالدها، وأنت مبارك فادعها إلى الله، وادع الله لها عسى الله أن يستنقذها بك من النار.

قال: فدعا لها رسول الله ﷺ، ودعاها إلى الله فأسلمت، وأقاموا مع رسول الله ﷺ في الدار شهرا، وهم تسعة وثلاثون رجلا، وقد كان حمزة بن عبد المطلب أسلم يوم ضرب أبو بكر.

ودعا رسول الله ﷺ لعمر بن الخطاب - أو لأبي جهل بن هشام - فأصبح عمر، وكانت الدعوة يوم الأربعاء، فأسلم عمر يوم الخميس، فكـَّبر رسول الله ﷺ وأهل البيت تكبيرة سمعت بأعلا مكة..

وخرج أبو الأرقم - وهو أعمى كافر - وهو يقول: اللهم اغفر لبني عبيد الأرقم فإنه كفر.

فقام عمر فقال: يا رسول الله على ما نخفي ديننا ونحن على الحق، ويظهر دينهم وهم على الباطل؟

قال: «يا عمر إنا قليل قد رأيت ما لقينا».

فقال عمر: فوالذي بعثك بالحق لا يبقى مجلس جلست فيه بالكفر إلا أظهرت فيه الإيمان، ثم خرج فطاف بالبيت، ثم مرَّ بقريش وهي تنتظره، فقال أبو جهل بن هشام: يزعم فلان أنك صبوت؟

فقال عمر: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله.

فوثب المشركون إليه، ووثب على عتبة فبرك عليه وجعل يضربه، وأدخل إصبعه في عينيه، فجعل عتبة يصيح فتنحى الناس، فقام عمر، فجعل لا يدنو منه أحد إلا أخذ بشريف ممن دنا منه، حتى أعجز الناس.

واتبع المجالس التي كان يجالس فيها فيظهر الإيمان، ثم انصرف إلى النبي ﷺ وهو ظاهر عليهم.

قال: ما عليك بأبي وأمي والله ما بقي مجلس كنت أجلس فيه بالكفر إلا أظهرت فيه الإيمان غير هائب ولا خائف، فخرج رسول الله ﷺ، وخرج عمر أمامه، وحمزة بن عبد المطلب حتى طاف بالبيت، وصلى الظهر مؤمنا، ثم انصرف إلى دار الأرقم ومعه عمر، ثم انصرف عمر وحده، ثم انصرف النبي ﷺ.

والصحيح أن عمر إنما أسلم بعد خروج المهاجرين إلى أرض الحبشة، وذلك في السنة السادسة من البعثة كما سيأتي في موضعه إن شاء الله.

وقد استقصينا كيفية إسلام أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما في كتاب سيرتهما على انفرادها، وبسطنا القول هنالك ولله الحمد.

وثبت في (صحيح مسلم) من حديث أبي أمامة، عن عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله ﷺ في أول ما بعث وهو بمكة، وهو حينئذٍ مستخفٍ، فقلت: ما أنت؟

قال: «أنا نبي».

فقلت: وما النبي؟

قال: «رسول الله».

قلت: الله أرسلك؟

قال: «نعم».

قلت: بما أرسلك؟

قال: «بأن تعبد الله وحده لا شريك له، وتكسر الأصنام، وتوصل الأرحام».

قال: قلت: نِعم ما أرسلك به، فمن تبعك على هذا؟

قال: «حر وعبد - يعني: أبا بكر وبلالا - قال: فكان عمرو يقول: لقد رأيتني وأنا ربع الإسلام».

قال: فأسلمت، قلت: فأتبعك يا رسول الله؟

قال: «لا ولكن الحق بقومك، فإذا أخبرت أني قد خرجت فاتبعني».

ويقال: إن معنى قوله عليه السلام «حر وعبد» اسم جنس، وتفسير ذلك: بأبي بكر، وبلال فقط فيه نظر، فإنه قد كان جماعة قد أسلموا قبل عمرو بن عبسة، وقد كان زيد بن حارثة أسلم قبل بلال أيضا، فلعله أخبر أنه ربع الإسلام بحسب علمه، فإن المؤمنين كانوا إذ ذاك يستسرون بإسلامهم، لا يطلع على أمرهم كثير أحد من قراباتهم، دع الأجانب، دع أهل البادية من الأعراب والله أعلم..

وفي (صحيح البخاري) من طريق أبي أسامة، عن هاشم بن هاشم، عن سعيد بن المسيب قال: سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: ما أسلم أحد في اليوم الذي أسلمت فيه، ولقد مكثت سبعة أيام وإني لثلث الإسلام.

أما قوله: ما أسلم أحد في اليوم الذي أسلمت فيه فسهل، ويروى إلا في اليوم الذي أسلمت فيه وهو مشكل، إذ يقتضي أنه لم يسبقه أحد بالإسلام.

وقد علم أن الصدّيق، وعليا، وخديجة، وزيد بن حارثة، أسلموا قبله، كما قد حكى الإجماع على تقدم إسلام هؤلاء غير واحد، منهم ابن الأثير.

ونص أبو حنيفة رضي الله عنه: على أن كلا من هؤلاء أسلم قبل أبناء جنسه والله أعلم.

وأما قوله: ولقد مكثت سبعة أيام، وإني لثلث الإسلام فمشكل، وما أدري على ماذا يوضع عليه إلا أن يكون أخبر بحسب ما علمه والله أعلم.

وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا حماد بن سلمة، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله - وهو ابن مسعود - قال: كنت غلاما يافعا أرعى غنما لعقبة بن أبي معيط بمكة.

فأتى عليّ رسول الله ﷺ وأبو بكر - وقد فرَّا من المشركين - فقال أو فقالا -: عندك يا غلام لبن تسقينا؟

قلت: إني مؤتمن، ولست بساقيكما.

فقال: هل عندك من جذعة لم ينز عليها الفحل بعد؟

قلت: نعم!

فأتيتهما بها فاعتقلها أبو بكر، وأخذ رسول الله ﷺ الضرع، ودعا فحفل الضرع، وأتاه أبو بكر بصخرة متقعرة، فحلب فيها، ثم شرب هو وأبو بكر، ثم سقياني، ثم قال للضرع: أقلص فقلص، فلما كان بعد أتيت رسول الله ﷺ فقلت: علمني من هذا القول الطيب - يعني: القرآن -.

فقال: «إنك غلام معلم».

فأخذت من فيه سبعين سورة ما ينازعني فيها أحد.

وهكذا رواه الإمام أحمد، عن عفان، عن حماد بن سلمة به.

ورواه الحسن بن عرفة، عن أبي بكر بن عياش، عن عاصم بن أبي النجود به.

وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو عبد الله بن بطة الأصبهاني، حدثنا الحسن بن الجهم، قال: حدثنا الحسين بن الفرج، قال: حدثنا محمد بن عمر، قال: حدثني جعفر بن محمد بن خالد بن الزبير، عن أبيه - أو عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان -.

قال: كان إسلام خالد بن سعيد بن العاص قديما، وكان أول إخوته أسلم.

وكان بدء إسلامه أنه رأى في المنام أنه وقف به على شفير النار، فذكر من سعتها ما الله أعلم به.

ويرى في النوم كأن آت أتاه يدفعه فيها ويرى رسول الله ﷺ آخذا بحقويه لا يقع، ففزع من نومه، فقال: أحلف بالله أن هذه لرؤيا حق، فلقي أبا بكر بن أبي قحافة فذكر ذلك له، فقال أبو بكر: أُريد بك خيرا هذا رسول الله ﷺ فاتبعه، فإنك ستتبعه وتدخل معه في الإسلام، والإسلام يحجزك أن تدخل فيها وأبوك واقع فيها.

فلقي رسول الله ﷺ وهو بأجيادٍ، فقال: يا رسول الله يا محمد إلى ما تدعو؟

قال: «أدعوك إلى الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، وتخلع ما أنت عليه من عبادة حجر لا يسمع، ولا يضر، ولا يبصر، ولا ينفع، ولا يدري من عبده ممن لا يعبده».

قال خالد: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله.

فسرَّ رسول الله ﷺ بإسلامه، وتغيب خالد، وعلم أبوه بإسلامه، فأرسل في طلبه فأتى به، فأنَّبه وضربه بمقرعة في يده حتى كسرها على رأسه.

وقال: والله لأمنعنك القوت.

فقال خالد: إن منعتني فإن الله يرزقني ما أعيش به، وانصرف إلى رسول الله ﷺ، فكان يكرمه ويكون معه.

إسلام حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم

قال يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق حدثني رجل ممن أسلم - وكان واعية - أن أبا جهل اعترض رسول الله ﷺ عند الصفا فآذاه وشتمه ونال منه ما يكره من العيب لدينه والتضعيف لأمره فذكر ذلك لحمزة بن عبد المطلب، فأقبل نحوه حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها ضربة شجَّه منها شجة منكرة، وقامت رجال من قريش من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل منه، وقالوا: ما نراك يا حمزة إلا قد صبوت؟

قال حمزة: ومن يمنعني وقد استبان لي منه ما أشهد أنه رسول الله ﷺ وأن الذي يقول حق، فوالله لا أنزع فامنعوني إن كنتم صادقين.

فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة فإني والله لقد سببت ابن أخيه سبا قبيحا، فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله ﷺ قد عز وامتنع فكفوا عما كانوا يتناولون منه.

وقال حمزة في ذلك شعرا.

قال ابن إسحاق: ثم رجع حمزة إلى بيته فأتاه الشيطان فقال: أنت سيد قريش اتبعت هذا الصابئ وتركت دين آبائك، للموت خير لك مما صنعت.

فأقبل حمزة على نفسه وقال: ما صنعت اللهم إن كان رشدا فاجعل تصديقه في قلبي، وإلا فاجعل لي مما وقعت فيه مخرجا، فبات بليلة لم يبت بمثلها من وسوسة الشيطان، حتى أصبح فغدا على رسول الله ﷺ.

فقال: يا ابن أخي إني قد وقعت في أمر ولا أعرف المخرج منه، وإقامة مثلي على ما لا أدري ما هو أرشد أم هو غي شديد؟ فحدثني حديثا فقد اشتهيت يا ابن أخي أن تحدثني، فأقبل رسول الله ﷺ فذكَّره ووعظه، وخوَّفه وبشَّره، فألقى الله في قلبه الإيمان بما قال رسول الله ﷺ.

فقال: أشهد أنك الصادق شهادة الصدق، فأظهر يا ابن أخي دينك فوالله ما أحب أن لي ما أظلته السماء، وأني على ديني الأول.

فكان حمزة ممن أعزَّ الله به الدين.

وهكذا رواه البيهقي، عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير به.

ذكر إسلام أبي ذر رضي الله عنه

قال الحافظ البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ، قال: حدثنا الحسين بن محمد بن زياد قال: حدثنا عبد الله بن الرومي، حدثنا النضر بن محمد، حدثنا عكرمة بن عمار، عن أبي زُميل سماك بن الوليد، عن مالك بن مرثد، عن أبيه، عن أبي ذر قال:

كنت ربع الإسلام، أسلم قبلي ثلاثة نفر وأنا الرابع، أتيت رسول الله ﷺ فقلت: السلام عليك يا رسول الله أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فرأيت الاستبشار في وجه رسول الله ﷺ.

هذا سياق مختصر..

وقال البخاري: إسلام أبي ذر: حدثنا عمرو بن عباس، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن المثنى عن أبي حمزة، عن ابن عباس.

قال: لما بلغ أبا ذر مبعث رسول الله ﷺ قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء.

فاسمع من قوله، ثم ائتني، فانطلق الآخر حتى قدمه، وسمع من كلامه، ثم رجع إلى أبي ذر فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وكلاما ما هو بالشعر.

فقال: ما شفيتني مما أردت.

فتزود وحمل شنة فيها ماء حتى قدم مكة فأتى المسجد فالتمس رسول الله ﷺ ولا يعرفه، وكره أن يسأل عنه، حتى أدركه بعض الليل، اضطجع فرآه علي، فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه، ولم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح.

ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد وظل ذلك اليوم ولا يراه النبي ﷺ حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه فمرَّ به علي، فقال: أما آن للرجل يعلم منزله، فأقامه فذهب به معه، لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى إذا كان يوم الثالث فعاد علي مثل ذلك، فأقام معه فقال: ألا تحدثني بالذي أقدمك؟

قال: إن أعطيتني عهدا وميثاقا لترشدني فعلت.

ففعل فأخبره.

قال: فإنه حق وإنه رسول الله ﷺ، فإذا أصبحت فاتبعني فإني إن رأيت شيئا أخاف عليك قمت كأني أريق الماء، وإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي، ففعل فانطلق يقفوه، حتى دخل على النبي ﷺ ودخل معه، فسمع من قوله وأسلم مكانه، فقال له النبي ﷺ: «ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري».

فقال: والذي بعثك بالحق لأصرخن بها بين ظهرانيهم فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلا صوته: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ثم قام فضربوه حتى أضجعوه، فأتى العباس فأكب عليه فقال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار، وأن طريق تجارتكم إلى الشام.

فأنقذه منهم.

ثم عاد من الغد بمثلها فضربوه وثاروا إليه فأكب العباس عليه هذا لفظ البخاري.

وقد جاء إسلامه مبسوطا في (صحيح مسلم) وغيره، فقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا سليمان بن المغيرة، حدثنا حميد بن هلال، عن عبد الله بن الصامت قال: قال أبو ذر: خرجنا من قومنا غفار - وكان يحلون الشهر الحرام - أنا وأخي أنيس وأمنا فانطلقنا حتى نزلنا على خال لنا ذي مالٍ وهيئة، فأكرمنا خالنا، وأحسن إلينا فحسدنا قومه فقالوا له: إنك إذا خرجت عن أهلك خلفك إليهم أنيس.

فجاء خالنا فثنى ما قيل له، فقلت له: أما ما مضى من معروفك فقد كدرته، ولا جماع لنا فيما بعد.

قال: فقربنا صرمتنا فاحتملنا عليها وتغطى خالنا بثوبه وجعل يبكي، قال: فانطلقنا حتى نزلنا حضرة مكة، قال: فنافر أنيس عن صرمتنا وعن مثليها، فأتيا الكاهن فخير أنيسا.

فأتانا بصرمتنا ومثلها معها، قال: وقد صليت يا بن أخي قبل أن ألقى رسول الله ﷺ بثلاث سنين، قال: قلت: لمن؟

قال: لله، قلت: فأين توجه؟

قال: حيث وجهني الله.

قال: وأصلي عشاء حتى إذا كان من آخر الليل ألفيت كأني خفاء حتى تعلوني الشمس.

قال: فقال أنيس: إن لي حاجة بمكة، فألقني حتى آتيك قال: فانطلق فراث علي، ثم أتاني فقلت ما حسبك؟

قال: لقيت رجلا يزعم أن الله أرسله على دينك، قال: فقلت: ما يقول الناس له؟

قال: يقولوا إنه شاعر وساحر، وكان أنيس شاعرا.

قال: فقال: لقد سمعت الكهان فما يقول بقولهم، وقد وضعت قوله على إقراء الشعر فوالله ما يلتئم لسان أحد أنه شعر، ووالله إنه لصادق وإنهم لكاذبون.

قال: فقلت له: هل أنت كافيِّ حتى انطلق؟

قال: نعم! وكن من أهل مكة على حذر فإنهم قد شنَّعوا له وتجهموا له.

قال: فانطلقت حتى قدمت مكة فتضعفت رجلا منهم فقلت: أين هذا الرجل الذي يدعونه الصابئ؟

قال: فأشار إلى الصابئ فمال أهل الوادي عليّ بكل مدرة وعظم حتى خررت مغشيا عليّ، ثم ارتفعت حين ارتفعت كأني نصب أحمر، فأتيت زمزم فشربت من مائها، وغسلت عني الدم، ودخلت بين الكعبة وأستارها، فلبثت به يابن أخي ثلاثين من يوم وليلة، مالي طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني وما وجدت على كبدي سخفة جوع.

قال: فبينا أهل مكة في ليلة قمراء أضحيان وضرب الله على أشحمة أهل مكة، فما يطوف بالبيت غير امرأتين، فأتتا علي وهما يدعوان: إساف ونائلة.

فقلت: انكحوا أحدهما الآخر فما ثناهما ذلك، فقلت: وهن مثل الخشبة غير أني لم أركن.

قال: فانطلقتا يولولان ويقولان لو كان ههنا أحد من أنفارنا، قال: فاستقبلهما رسول الله ﷺ وأبو بكر وهما هابطان من الجبل فقال ما لكما؟

فقالتا: الصابئ بين الكعبة وأستارها.

قالا: ما قال لكما؟

قالتا: قال لنا كلمة تملأ الفم.

قال: وجاء رسول الله ﷺ هو وصاحبه حتى استلم الحجر وطاف بالبيت ثم صلى.

قال: فأتيته فكنت أول من حيَّاه بتحية أهل الإسلام.

فقال: «عليك السلام ورحمة الله من أنت؟»

قال: قلت: من غفار، قال: فأهوى بيده فوضعها على جبهته.

قال: فقلت في نفسي كره أن انتميت إلى غفار.

قال: فأردت أن آخذ بيده، فقذفني صاحبه وكان أعلم به مني.

قال: متى كنت ههنا؟

قال: قلت: كنت ههنا منذ ثلاثين من بين ليلة ويوم.

قال: فمن كان يطعمك؟

قلت: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني، وما وجدت على كبدي سخفة جوع.

قال: قال رسول الله ﷺ «إنها مباركة، إنها طعام طعم».

قال: فقال أبو بكر: ائذن لي يا رسول الله في طعامه الليلة، قال: ففعل.

قال: فانطلق النبي ﷺ، وانطلقت معهما حتى فتح أبو بكر بابا، فجعل يقبض لنا من زبيب الطائف.

قال: فكان ذلك أول طعام أكلته بها، فلبثت ما لبثت.

فقال رسول الله ﷺ: «إني قد وجِّهت إليَّ أرض ذات نخل ولا أحبسها إلا يثرب، فهل أنت مبلغ عني قومك؟ لعل الله ينفعهم بك ويأجرك فيهم؟».

قال: فانطلقت حتى أتيت أخي أنيسا، قال: فقال لي: ما صنعت؟

قال: قلت: صنعت إني أسلمت وصدقت.

قال: فما بي رغبة عن دينك.

فإني قد أسلمت وصدقت، ثم أتينا أمنا فقالت ما بي رغبة عن دينكما.

فإني قد أسلمت وصدقت، فتحملنا حتى أتينا قومنا غفار، قال: فأسلم بعضهم قبل أن يقدم رسول الله ﷺ المدينة، وكان يؤمهم خفاف بن إيما بن رخصة الغفاري، وكان سيدهم يومئذٍ.

وقال: بقيتهم إذا قدم رسول الله ﷺ أسلمنا، قال: فقدم رسول الله ﷺ فأسلم بقيتهم.

قال: وجاءت أسلم.

فقالوا: يا رسول الله إخواننا نسلم على الذي أسلموا عليه، فقال رسول الله ﷺ: «غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله».

ورواه مسلم، عن هدبة بن خالد، عن سليمان بن المغيرة به نحوه.

وقد روى قصة إسلامه على وجه آخر، وفيه زيادات غريبة فالله أعلم.

وتقدم ذكر إسلام سلمان الفارسي في كتاب (البشارات) بمبعثه عليه الصلاة والسلام.

ذكر إسلام ضماد

روى مسلم والبيهقي من حديث داود بن أبي هند، عن عمرو بن سعيد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.

قال: قدم ضماد مكة وهو رجل من أزد شنوءة، وكان يرقي من هذه الرياح، فسمع سفهاء من سفه مكة يقولون: إن محمدا مجنون.

فقال: أين هذا الرجل لعل الله أن يشفيه على يدي؟

قال: فلقيت محمدا؛ فقلت: إني أرقي من هذه الرياح، وأن الله يشفي على يدي من شاء فهلم.

فقال محمد: «إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ثلاث مرات».

فقال: والله لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل هؤلاء الكلمات، فهلم يدك أبايعك على الإسلام.

فبايعه رسول الله ﷺ، فقال له: وعلى قومك؟

فقال: وعلى قومي، فبعث النبي ﷺ جيشا، فمروا بقوم ضماد.

فقال صاحب الجيش للسرية: هل أصبتم من هؤلاء القوم شيئا؟

فقال رجل منهم: أصبت منهم مطهرة.

فقال: ردها عليهم فإنهم قوم ضماد.

وفي رواية فقال له ضماد: أعد عليَّ كلماتك هؤلاء فلقد بلغن قاموس البحر.

وقد ذكر أبو نعيم في (دلائل النبوة) إسلام من أسلم من الأعيان فصلا طويلا، واستقصى ذلك استقصاءً حسنا رحمه الله وأثابه.

وقد سرد ابن إسحاق أسماء من أسلم قديما من الصحابة رضي الله عنهم.

قال: ثم أسلم أبو عبيدة بن الجراح، وأبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد، والأرقم بن أبي الأرقم، وعثمان بن مظعون، وعبيدة بن الحارث، وسعيد بن زيد، وامرأته فاطمة بنت الخطاب، وأسماء بنت أبي بكر، وعائشة بنت أبي بكر - وهي صغيرة -، وقدامة بن مظعون، وعبد الله بن مظعون، وخباب بن الأرت، وعمير بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود.

ومسعود بن القاري، وسليط بن عمرو، وعياش بن أبي ربيعة، وامرأته أسماء بنت سلمة بن مخرمة التيمي، وخنيس بن حذافة، وعامر بن ربيعة، وعبد الله بن جحش، وأبو أحمد بن جحش، وجعفر بن أبي طالب، وامرأته أسماء بنت عميس، وحاطب بن الحارث، وامرأته فكيهة ابنة يسار، وحطاب بن الحارث، و امرأته فكيهة بنت يسار، ومعمر بن الحارث بن معمر الجمحي، والسائب بن عثمان بن مظعون، والمطلب بن أزهر بن عبد مناف، وامرأته رملة بنت أبي عوف بن صبيرة بن سعيد بن سهم..

والنحام واسمه نعيم بن عبد الله بن أسيد، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، وخالد بن سعيد، وأمينة ابنة خلف بن سعد بن عامر بن بياضة بن خزاعة، وحاطب بن عمرو بن عبد شمس، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وواقد بن عبد الله بن عرين بن ثعلبة التميمي حليف بني عدي، وخالد ابن البكير، وعامر بن البكير، وعاقل بن البكير، وإياس بن البكير بن عبد ياليل بن ناشب بن غيرة من بني سعد بن ليث.

وكان اسم عاقل غافلا فسماه رسول الله ﷺ عاقلا، وهم حلفاء بني عدي بن كعب، وعمار بن ياسر، وصهيب بن سنان.

ثم دخل الناس في الإسلام أرسالا من الرجال والنساء، حتى فشا أمر الإسلام بمكة، وتحدث به.

قال ابن إسحاق: ثم أمر الله رسوله ﷺ بعد ثلاث سنين من البعثة بأن يصدع بما أمر، وأن يصبر على أذى المشركين.

قال: وكان أصحاب رسول الله ﷺ إذا صلوا ذهبوا في الشعاب، واستخفوا بصلاتهم من قومهم.

فبينا سعد بن أبي وقاص في نفر يصلون بشعاب مكة إذ ظهر عليهم بعض المشركين فناكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون، حتى قاتلوهم، فضرب سعد رجلا من المشركين بلحى جمل فشجه، فكان أول دم أهريق في الإسلام.

وروى الأموي في (مغازيه) من طريق الوقاصي، عن الزهري، عن عامر بن سعد، عن أبيه.

فذكر القصة بطولها، وفيه أن المشجوج هو عبد الله بن خطل لعنه الله.

باب الأمر بابلاغ الرسالة

إلى الخاص والعام، وأمره له بالصبر والاحتمال، والإعراض عن الجاهلين المعاندين المكذبين بعد قيام الحجة عليهم، وإرسال الرسول الأعظم إليهم، وذكر ما لقي من الأذية منهم، هو وأصحابه رضي الله عنهم.

قال الله تعالى: { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [20].

وقال تعالى: { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ } [21].

وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } [22].

أي: أن الذي فرض عليك وأوجب عليك بتبليغ القرآن: لرادك إلى دار الآخرة، وهي المعاد، فيسألك عن ذلك.

كما قال تعالى: { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [23] والآيات والأحاديث في هذا كثيرة جدا.

وقد تقصينا الكلام على ذلك في كتابنا التفسير، وبسطنا من القول في ذلك عند قوله تعالى في سورة الشعراء: { وأنذر عشيرتك الأقربين }.

وأوردنا أحاديث جمَّة في ذلك، فمن ذلك: قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن نمير، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما أنزل الله { وأنذر عشيرتك الأقربين } أتى النبي ﷺ الصفا، فصعد عليه، ثم نادى:«يا صباحاه»، فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء إليه، وبين رجل يبعث رسوله، فقال رسول الله ﷺ: «يا بني عبد المطلب يا بني فهر يا بني كعب أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني؟».

قالوا: نعم!

قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد».

فقال أبو لهب - لعنه الله -: تبا لك سائر اليوم أما دعوتنا إلا لهذا؟

وأنزل الله عز وجل: { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } [24].

وأخرجاه من حديث الأعمش به نحوه.

وقال أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو، وحدثنا زائدة، حدثنا عبد الملك بن عمير، عن موسى بن طلحة، عن أبي هريرة.

قال: لما نزلت هذه الآية { وأنذر عشيرتك الأقربين } دعا رسول الله ﷺ قريشا فعمَّ وخصَّ. فقال: «يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار، فإني والله لا أملك لكم من الله شيئا، إلا أن لكم رحما سأبلها ببلائها».

ورواه مسلم من حديث عبد الملك بن عمير، وأخرجاه في (الصحيحين) من حديث الزهري، عن سعيد بن المسيب، وأبي سلمة، عن أبي هريرة، وله طرق أخر عن أبي هريرة في مسند أحمد وغيره..

وقال أحمد أيضا: حدثنا وكيع بن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما نزل { وأنذر عشيرتك الأقربين }.

قام رسول الله ﷺ فقال: «يا فاطمة بنت محمد، يا صفية بنت عبد المطلب، يا بني عبد المطلب لا أملك لكم من الله شيئا، سلوني من مالي ما شئتم» ورواه مسلم أيضا.

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي (في الدلائل): أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق قال: فحدثني من سمع عبد الله بن الحارث بن نوفل - واستكتمني اسمه - عن ابن عباس، عن علي بن أبي طالب.

قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله ﷺ { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [25].

قال رسول الله ﷺ: «عرفت أني إن بادأت بها قومي رأيت منهم ما أكره، فصمت، فجاءني جبريل عليه السلام فقال لي: يا محمد إن لم تفعل ما أمرك به ربك عذبك بالنار».

قال علي: فدعاني فقال: «يا علي إن الله قد أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فعرفت أني إن بادأتهم بذلك رأيت منهم ما أكره فصمتّ عن ذلك ثم جاءني جبريل عليه السلام فقال: يا محمد: إن لم تفعل ما أمرت به عذبك ربك فاصنع لنا يا علي شاة على صاع من طعام، وأعدَّ لنا عس لبن، ثم اجمع لي بني عبد المطلب» ففعلت.

فاجتمعوا له يومئذٍ وهم أربعون رجلا يزيدون رجلا، أو ينقصون فيهم أعمامه: أبو طالب، وحمزة، والعباس، وأبو لهب الكافر الخبيث.

فقدَّمت إليهم تلك الجفنة، فأخذ رسول الله ﷺ منها حذية فشقها بأسنانه، ثم رمى بها في نواحيها وقال: «كلوا بسم الله».

فأكل القوم حتى نهلوا عنه ما نرى إلا آثار أصابعهم، والله إن كان الرجل ليأكل مثلها.

ثم قال رسول الله ﷺ: «اسقهم يا علي»، فجئت بذلك القعب فشربوا منه حتى نهلوا منه جميعا وأيم الله إن كان الرجل ليشرب مثله فلما أراد رسول الله ﷺ أن يكلمهم بدره أبو لهب - لعنه الله - فقال: لهدَّ ما سحركم صاحبكم؟

فتفرقوا ولم يكلمهم رسول الله ﷺ.

فلما كان من الغد قال رسول الله ﷺ: «يا علي عد لنا مثل الذي كنت صنعت لنا بالأمس من الطعام والشراب، فإن هذا الرجل قد بدرني إلى ما سمعت قبل أن أكلم القوم» ففعلت ثم جمعتهم له.

فصنع رسول الله ﷺ كما صنع بالأمس فأكلوا حتى نهلوا عنه، ثم سقيتهم من ذلك القعب حتى نهلوا، وأيم الله إن كان الرجل ليأكل مثلها وليشرب مثلها.

ثم قال رسول الله ﷺ: «يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شابا من العرب جاء قومه بأفضل من ما جئتكم به، إني قد جئتكم بأمر الدنيا والآخرة».

هكذا رواه البيهقي، من طريق يونس بن بكير، عن ابن إسحاق عن شيخ أبهم اسمه، عن عبد الله بن الحارث به.

وقد رواه أبو جعفر بن جرير، عن محمد بن حميد الرازي، عن سلمة بن الفضل الأبرش، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الغفار أبو مريم بن القاسم، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس، عن علي فذكر مثله.

وزاد بعد قوله: «وإني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي» وكذا وكذا.

قال: فأحجم القوم عنها جميعا، وقلت: ولأني لأحدثهم سنا وأرمصهم عينا، وأعظمهم بطنا، وأخمشهم ساقا، أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه، فأخذ برقبتي فقال: «إن هذا أخي، وكذا وكذا فاسمعوا له وأطيعوا».

قال: فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع!

تفرد به عبد الغفار بن القاسم أبو مريم، وهو كذاب شيعي، اتهمه علي بن المديني وغيره بوضع الحديث، وضعَّفه الباقون.

ولكن روى ابن أبي حاتم في (تفسيره) عن أبيه، عن الحسين بن عيسى بن ميسرة الحارثي، عن عبد الله بن عبد القدوس، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث.

قال: قال علي: لما نزلت هذه الآية { وأنذر عشيرتك الأقربين }.

قال لي رسول الله ﷺ: إصنع لي رِجل شاة بصاع من طعام، وإناء لبنا، وأدع لي بني هاشم، فدعوتهم وإنهم يومئذٍ لأربعون غير رجل، أو أربعون ورجل فذكر القصة نحو ما تقدم إلى أن قال: وبدرهم رسول الله ﷺ الكلام.

فقال: «أيكم يقضي عني ديني ويكون خليفتي في أهلي؟».

قال: فسكتوا، وسكت العباس خشية أن يحيط ذلك بماله، قال: وسكتُ أنا لسن العباس.

ثم قالها مرة أخرى فسكت العباس، فلما رأيت ذلك قلت: أنا يا رسول الله، قال: أنت؟

قال: وإني يومئذٍ لأسوأهم هيئة، وإني لأعمش العينين، ضخم البطن؛ خمش الساقين.

وهذه الطريق فيها شاهد لما تقدم إلا أنه لم يذكر ابن عباس فيها فالله أعلم..

وقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عباد بن عبد الله الأسدي وربيعة بن ناجذ عن علي نحو ما تقدم - أو كالشاهد له - والله أعلم.

ومعنى قوله في هذا الحديث: «من يقضي عني ديني ويكون خليفتي في أهلي» يعني: إذا مت، وكأنه ﷺ خشي إذا قام بإبلاغ الرسالة إلى مشركي العرب أن يقتلوه، فاستوثق من يقوم بعده بما يصلح أهله، ويقضي عنه؛ وقد أمَّنه الله من ذلك في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } [26] الآية.

والمقصود أن رسول الله ﷺ استمر يدعو إلى الله تعالى ليلا ونهارا، وسرا وجهارا، لا يصرفه عن ذلك صارف ولا يرده عن ذلك راد، ولا يصده عنه ذلك صاد، يتبع الناس في أنديتهم، ومجامعهم ومحافلهم وفي المواسم، ومواقف الحج.

يدعو من لقيه من حر وعبد وضعيف وقوي، وغني وفقير، جميع الخلق في ذلك عنده شرع سواء.

وتسلط عليه وعلى من اتبعه من آحاد الناس من ضعفائهم الأشداء الأقوياء من مشركي قريش بالأذية القولية والفعلية.

وكان من أشدِّ الناس عليه: عمه أبو لهب - واسمه عبد العزى بن عبد المطلب - وامرأته أم جميل أروى بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان وخالفه في ذلك عمه أبو طالب بن عبد المطلب.

وكان رسول الله ﷺ أحب خلق الله إليه طبعا، وكان يحنو عليه ويحسن إليه ويدافع عنه ويحامي، ويخالف قومه في ذلك مع أنه على دينهم وعلى خلتهم، إلا أن الله تعالى قد امتحن قلبه بحبه حبا طبعيا لا شرعيا.

وكان استمراره على دين قومه من حكمة الله تعالى، ومما صنعه لرسوله من الحماية، إذ لو كان أسلم أبو طالب لما كان له عند مشركي قريش وجاهة ولا كلمة، ولا كانوا يهابونه ويحترمونه.

ولاجترؤا عليه، ولمدوا أيديهم وألسنتهم بالسوء إليه وربك يخلق ما يشاء ويختار.

وقد قسَّم خلقه أنواعا وأجناسا، فهذان العمان كافران: أبو طالب وأبو لهب.

ولكن هذا يكون في القيامة في ضحضاح من نار، وذلك في الدرك الأسفل من النار، وأنزل الله فيه سورة في كتابه تتلى على المنابر، وتقرأ في المواعظ والخطب، تتضمن أنه سيصلى نارا ذات لهب، وامرأته حمالة الحطب.

قال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن أبي العباس، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه.

قال: أخبر رجل يقال له: ربيعة بن عباد من بني الديل - وكان جاهليا فأسلم - قال: رأيت رسول الله ﷺ في الجاهلية في سوق ذي المجاز، يمشي بين ظهراني الناس وهو يقول: «يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا» والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضيء الوجه أحول ذو غديرتين يقول: إنه صابئ، كاذب يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه فقالوا: هذا عمه أبو لهب، ثم رواه هو والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد بنحوه..

وقال البيهقي أيضا: حدثنا أبو طاهر الفقيه، حدثنا أبو بكر محمد بن الحسن القطان، حدثنا أبو الأزهر: حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثنا محمد بن عمر، عن محمد بن المنكدر، عن ربيعة الديلي.

قال: رأيت رسول الله ﷺ بذي المجاز يتبع الناس في منازلهم يدعوهم إلى الله، ووراءه رجل أحول تقد وجنتاه وهو يقول: أيها الناس لا يغرنكم هذا عن دينكم ودين آبائكم.

قلت: من هذا؟

قيل: هذا أبو لهب.

ثم رواه من طريق شعبة، عن الأشعث بن سليم، عن رجل من كنانة.

قال: رأيت رسول الله ﷺ بسوق ذي المجاز وهو يقول: «يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا» وإذا رجل خلفه يسفي عليه التراب، وإذا هو أبو جهل، وإذا هو يقول: يا أيها الناس لا يغرنكم هذا عن دينكم فإنما يريد أن تتركوا عبادة اللات والعزى.

كذا قال أبو جهل، والظاهر أنه أبو لهب، وسنذكر بقية ترجمته عند ذكر وفاته وذلك بعد وقعة بدر إن شاء الله تعالى.

وأما أبو طالب فكان في غاية الشفقة والحنو الطبيعي كما سيظهر من صنائعه، وسجاياه، واعتماده فيما يحامي به عن رسول الله ﷺ وأصحابه رضي الله عنهم.

قال يونس بن بكير، عن طلحة بن يحيى، عن عبد الله بن موسى بن طلحة، أخبرني عقيل بن أبي طالب.

قال: جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا: إن ابن أخيك هذا قد آذانا في نادينا ومسجدنا فانهه عنا.

فقال: يا عقيل انطلق فأتني بمحمد، فانطلقت إليه فاستخرجته من كنس - أو قال خنس - يقول: بيت صغير، فجاء به في الظهيرة في شدة الحر، فلما أتاهم قال: إن بني عمك هؤلاء زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم، فانته عن أذاهم فحلّق رسول الله ﷺ ببصره إلى السماء.

فقال: «ترون هذه الشمس؟».

قالوا: نعم!

قال: «فما أنا بأقدر أن أدع ذلك منكم على أن تشتعلوا منه بشعلة».

فقال أبو طالب: والله ما كذب ابن أخي قط فارجعوا.

رواه البخاري في (التاريخ)، عن محمد بن العلاء، عن يونس بن بكير.

ورواه البيهقي عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار عنه به - وهذا لفظه -.

ثم روى البيهقي من طريق يونس، عن ابن إسحاق حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حدث.

أن قريشا حين قالت لأبي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول الله ﷺ.

فقال له: يا ابن أخي إن قومك قد جاءوني وقالوا: كذا وكذا فابقِ علي، وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق أنا ولا أنت، فاكفف عن قومك ما يكرهون من قولك.

فظن رسول الله ﷺ أن قد بدا لعمه فيه، وأنه خاذله ومسلِّمه، وضعف عن القيام معه.

فقال رسول الله ﷺ: «يا عم لو وضعت الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك في طلبه».

ثم استعبر رسول الله ﷺ فبكى، فلما ولىّ قال له حين رأى ما بلغ الأمر برسول الله ﷺ: يا ابن أخي فأقبل عليه، فقال: امض على أمرك وافعل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدا. قال ابن إسحاق ثم قال أبو طالب في ذلك:

والله لن يصلوا إليك بجمعهم * حتى أوسَّد في التراب دفينا

فامضي لأمرك ما عليك غضاضة * أبشر وقرَّ بذاك منك عيونا

ودعوتني وعلمتُ أنك ناصحي * فلقد صدقت، وكنت قِدمُ أمينا

وعرضت دينا قد عرفت بأنه * من خير أديان البرية دينا

لولا الملامة أو حذاري سُبّة * لوجدتني سمحا بذاك مبينا

ثم قال البيهقي: وذكر ابن إسحاق لأبي طالب في ذلك أشعارا؛ وفي كل ذلك دلالة على أن الله تعالى عصمه بعمه مع خلافه إياه في دينه، وقد كان يعصمه حيث لا يكون عمه بما شاء لا معقب لحكمه.

وقال يونس بن بكير: حدثني محمد بن إسحاق قال: حدثني رجل من أهل مصر قديما منذ بضعا وأربعين سنة عن عكرمة، عن ابن عباس، في قصة طويلة جرت بين مشركي مكة وبين رسول الله ﷺ، فلما قام رسول الله ﷺ قال أبو جهل بن هشام: يا معشر قريش إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا، وشتم آبائنا وتسفيه أحلامنا، وسب آلهتنا وإني أعاهد الله لأجلس له غدا بحجرٍ، فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم.

فلما أصبح أبو جهل - لعنه الله - أخذ حجرا ثم جلس لرسول الله ﷺ ينتظره، وغدا رسول الله ﷺ كما كان يغدو، وكان قبلته الشام..

فكان إذا صلّى صلّى بين الركنين الأسود واليماني، وجعل الكعبة بينه وبين الشام.

فقام رسول الله ﷺ يصلي، وقد غدت قريش، فجلسوا في أنديتهم ينتظرون، فلما سجد رسول الله ﷺ احتمل أبو جهل الحجر ثم أقبل نحوه حتى إذا دنا منه رجع منبهتا ممتقعا لونه مرعوبا قد يبست يداه على حجره، حتى قذف الحجر من يده، وقامت إليه رجال من قريش.

فقالوا له: ما بك يا أبا الحكم؟

فقال: قمت إليه لأفعل ما قلت لكم البارحة فلما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل، والله ما رأيت مثل هامته، ولا قصرته، ولا أنيابه لفحل قطّ فهمَّ أن يأكلني.

قال ابن إسحاق: فذكر لي أن رسول الله ﷺ قال: «ذلك جبريل، ولو دنا منه لأخذه».

وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو النضر الفقيه، حدثنا عثمان الدارمي، حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثنا الليث بن سعد، عن إسحاق بن عبد الله ابن أبي فروة، عن أبان بن صالح، عن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه عن عباس بن عبد المطلب.

قال: كنت يوما في المسجد فأقبل أبو جهل - لعنه الله - فقال: إن لله عليَّ إن رأيت محمدا ساجدا أن أطأ على رقبته، فخرجت على رسول الله ﷺ، حتى دخلت عليه فأخبرته بقول أبي جهل، فخرج غضبانا، حتى جاء المسجد فعجل أن يدخل من الباب، فاقتحم الحائط.

فقلت: هذا يوم شر، فاتزرت ثم اتبعته، فدخل رسول الله ﷺ فقرأ: { اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق } فلما بلغ شأن أبي جهل { كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى }.

فقال إنسان لأبي جهل: يا أبا الحكم هذا محمد؟

فقال أبو جهل: ألا ترون ما أرى؟ والله لقد سدَّ أفق السماء عليّ، فلما بلغ رسول الله ﷺ آخر السورة سجد.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن عبد الكريم، عن عكرمة قال: قال ابن عباس: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لأطأن على عنقه، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فقال: «لو فعل لأخذته الملائكة عيانا»..

ورواه البخاري عن يحيى، عن عبد الرزاق به.

قال داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس.

قال: مر أبو جهل بالنبي ﷺ وهو يصلي.

فقال: ألم أنهك أن تصلي يا محمد؟ لقد علمت ما بها أحد أكثر ناديا مني.

فانتهره النبي ﷺ.

فقال جبريل: «فليدع ناديه سندع الزبانية» والله لو دعا ناديه لأخذته زبانية العذاب.

رواه أحمد، والترمذي، وصححه النسائي من طريق داود به.

وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن يزيد أبو زيد، حدثنا فرات، عن عبد الكريم، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدا عند الكعبة يصلي لأتيته حتى أطأ عنقه، قال: فقال: «لو فعل لأخذته الزبانية عيانا».

وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا يحيى بن واضح، حدثنا يونس بن أبي إسحاق، عن الوليد بن العيزار، عن ابن عباس.

قال: قال أبو جهل: لئن عاد محمد يصلي عند المقام لأقتلنه.

فأنزل الله تعالى: { اقرأ باسم ربك الذي خلق } حتى بلغ من الآية { لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة فليدع ناديه سندع الزبانية }.

فجاء النبي ﷺ يصلي فقيل ما يمنعك؟

قال: قد اسود ما بيني وبينه من الكتائب.

قال ابن عباس: والله لو تحرك لأخذته الملائكة والناس ينظرون إليه.

وقال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا المعتمر، عن أبيه، عن نعيم بن أبي هند، عن أبي حازم، عن أبي هريرة.

قال: قال أبو جهل: هل يعفّر محمد وجهه بين أظهركم؟

قالوا: نعم!

قال: فقال: واللات والعزى لئن رأيته يصلي كذلك لأطأن على رقبته، ولأعفرن وجهه بالتراب.

فأتى رسول الله ﷺ وهو يصلي ليطأ على رقبته.

قال: فما فجئهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه، قال: فقيل له مالك؟

قال: إن بيني وبينه خندقا من نار، وهولا وأجنحة. قال: فقال رسول الله ﷺ: «لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا».

قال: وأنزل الله تعالى - لا أدري في حديث أبي هريرة أم لا - { كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى } إلى آخر السورة.

وقد رواه أحمد، ومسلم، والنسائي، وابن أبي حاتم، والبيهقي من حديث معتمر بن سليمان بن طرخان التيمي به.

وقال الإمام أحمد: حدثنا وهب بن جرير، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله بن مسعود.

قال: ما رأيت رسول الله ﷺ دعا على قريش غير يوم واحد، فإنه كان يصلي ورهط من قريش جلوس، وسلا جزور قريب منه.

فقالوا: من يأخذ هذا السلا فيلقيه على ظهره؟

فقال عقبة ابن أبي معيط: أنا.

فأخذه، فألقاه على ظهره، فلم يزل ساجدا حتى جاءت فاطمة، فأخذته عن ظهره، فقال رسول الله ﷺ: «اللهم عليك بهذا الملأ من قريش، اللهم عليك بعتبة بن ربيعة، اللهم عليك بشيبة بن ربيعة، اللهم عليك بأبي جهل بن هشام، اللهم عليك بعقبة بن أبي معيط، اللهم عليك بأبي بن خلف - أو أمية بن خلف» شعبة الشاك.

قال عبد الله: فلقد رأيتهم قتلوا يوم بدر جميعا، ثم سحبوا إلى القليب غير أبي - أو أمية بن خلف - فإنه كان رجلا ضخما فتقطع.

وقد رواه البخاري في مواضع متعددة من (صحيحه) ومسلم من طرق عن أبي إسحاق به.

والصواب أمية بن خلف فإنه الذي قتل يوم بدر، وأخوه أُبي إنما قتل يوم أحد كما سيأتي بيانه - والسلا: هو الذي يخرج مع ولد الناقة، كالمشيمة لولد المرأة.

وفي بعض ألفاظ (الصحيح): أنهم لما فعلوا ذلك استضحكوا، حتى جعل بعضهم يميل على بعض، أي: يميل هذا على هذا من شدة الضحك لعنهم الله.

وفيه: أن فاطمة لما ألقته عنه، أقبلت عليهم، فسبتهم، وأنه ﷺ لما فرغ من صلاته رفع يديه يدعو عليهم، فلما رأوا ذلك سكن عنهم الضحك، وخافوا دعوته، وأنه ﷺ دعا على الملأ منهم جملة وعين في دعائه سبعة.

وقع في أكثر الروايات تسمية ستة منهم وهم: عتبة، وأخوه شيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة، وأبو جهل بن هشام، وعقبة بن أبي معيط، وأمية بن خلف.

قال أبو إسحاق: ونسيت السابع.

قلت: هو عمارة بن الوليد وقع تسميته في (صحيح البخاري).

قصة الأراشي

قال يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، حدثنا عبد الملك بن أبي سفيان الثقفي.

قال: قدم رجل من إراش بإبل له إلى مكة، فابتاعها منه أبو جهل بن هشام، فمطله بأثمانها.

فأقبل الأراشي حتى وقف على نادي قريش ورسول الله ﷺ جالس في ناحية المسجد.

فقال: يا معشر قريش مَنْ رجل يعديني على أبي الحكم بن هشام، فإني غريب وابن سبيل، وقد غلبني على حقي؟

فقال أهل المجلس: ترى ذلك - يهزون به - إلى رسول الله ﷺ لما يعلمون ما بينه وبين أبي جهل من العداوة، اذهب إليه فهو يعديك عليه.

فأقبل الأراشي حتى وقف على رسول الله ﷺ، فذكر ذلك له، فقام معه.

فلما رأوه قام معه قالوا لرجل ممن معهم: اتبعه فانظر ما يصنع؟

فخرج رسول الله ﷺ حتى جاءه فضرب عليه بابه.

فقال: من هذا؟

قال: «محمد فاخرج!» فخرج إليه وما في وجهه قطرة دم، وقد انتقع لونه.

فقال: «أعط هذا الرجل حقه».

قال: لا تبرح حتى أعطيه الذي له.

قال: فدخل فخرج إليه بحقه فدفعه إليه، ثم انصرف رسول الله ﷺ.

وقال للأراشي: الحق لشأنك.

فأقبل الأراشي حتى وقف على ذلك المجلس فقال: جزاه الله خيرا، فقد أخذت الذي لي.

وجاء الرجل الذي بعثوا معه فقالوا: ويحك ماذا رأيت؟

قال: عجبا من العجب، والله ما هو إلا أن ضرب عليه بابه فخرج وما معه روحه فقال: أعط هذا الرجل حقه.

فقال: نعم! لا تبرح حتى أخرج إليه حقه، فدخل فأخرج إليه حقه فأعطاه إياه.

ثم لم يلبث أن جاء أبو جهل فقالوا له: ويلك مالك فوالله ما رأينا مثل ما صنعت؟

فقال: ويحكم والله ما هو إلا أن ضرب عليّ بابي وسمعت صوته فملئت رعبا، ثم خرجت إليه وإن فوق رأسه لفحلا من الإبل، ما رأيت مثل هامته، ولا قصرته ولا أنيابه لفحل قط، فوالله لو أبيت لأكلني.

فصل أشد ما صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم

وقال البخاري: حدثنا عياش بن الوليد، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثني الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن إبراهيم التيمي، حدثني عروة بن الزبير.

سألت ابن العاص فقلت: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله؟

قال: بينما النبي ﷺ يصلي في حجر الكعبة، إذ أقبل عليه عقبة بن أبي معيط، فوضع ثوبه على عنقه، فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر رضي الله عنه حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي ﷺ وقال: { أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ } [27]الآية.

تابعه ابن إسحاق قال: أخبرني يحيى بن عروة، عن أبيه قال: قلت لعبد الله بن عمرو.

وقال: عبدة، عن هشام، عن أبيه قال: قيل لعمرو بن لعاص.

وقال: محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، حدثني عمرو بن العاص..

قال البيهقي: وكذلك رواه سليمان بن بلال، عن هشام بن عروة، كما رواه عبدة.

انفرد به البخاري.

وقد رواه في أماكن من (صحيحه)، وصرَّح في بعضها بعبد الله بن عمرو بن العاص، وهو أشبه لرواية عروة عنه، وكونه عن عمرو أشبه لتقدم هذه القصة.

وقد روى البيهقي، عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس، عن محمد بن إسحاق: حدثني يحيى بن عروة، عن أبيه عروة.

قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص: ما أكثر ما رأيت قريشا أصابت من رسول الله ﷺ فيما كانت تظهره من عداوته؟

فقال: لقد رأيتهم وقد اجتمع أشرافهم يوما في الحجر، فذكروا رسول الله ﷺ.

فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط، سفَّه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا، وصرنا منه على أمر عظيم - أو كما قال - قال: فبينما هم في ذلك، طلع رسول الله ﷺ فأقبل يمشي، حتى استلم الركن، ثم مرَّ بهم طائفا بالبيت فغمزوه ببعض القول، فعرفت ذلك في وجه رسول الله ﷺ، فمضى.

فلما مرَّ بهم الثانية، غمزوه بمثلها، فعرفتها في وجهه، فمضى فمرَّ بهم الثالثة، فغمزوه بمثلها.

فقال: «أتسمعون يا معشر قريش؟ أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح».

فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم من رجل إلا وكأنما على رأسه طائر وقع حتى أن أشدهم فيه وصاة قبل ذلك ليرفؤه أحسن ما يجد من القول، حتى إنه ليقول: انصرف أبا القاسم راشدا، فما كنت بجهول.

فانصرف رسول الله ﷺ، حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه، حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه.

فبينما هم على ذلك طلع رسول الله ﷺ فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، فأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا؟

لما كان يبلغهم من عيب آلهتهم ودينهم.

فيقول رسول الله ﷺ: «نعم أنا الذي أقول ذلك» ولقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجامع ردائه، وقام أبو بكر يبكى دونه ويقول: ويلكم { أتقتلون رجلا يقول ربي الله } ثم انصرفوا عنه.

فإن ذلك لأكبر ما رأيت قريشا بلغت منه قط.

فصل تأليب الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه

في تأليب الملأ من قريش على رسول الله ﷺ وأصحابه واجتماعهم بعمه أبي طالب القائم في منعه ونصرته وحرصهم عليه أن يسلمه إليهم فأبى عليهم ذلك بحول الله وقوته.

قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس.

قال: قال رسول الله ﷺ: «لقد أوذيت في الله وما يؤذي أحد، وأخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أتت عليَّ ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولبلال ما يأكله ذو كبد إلا ما يواري إبط بلال».

وأخرجه الترمذي، وابن ماجه من حديث حماد بن سلمة به، وقال الترمذي: حسن صحيح.

وقال محمد بن إسحاق: وحدب على رسول الله ﷺ عمه أبو طالب ومنعه وقام دونه، ومضى رسول الله ﷺ على أمر الله مظهرا لدينه، لا يرده عنه شيء.

فلما رأت قريش أن رسول الله ﷺ لا يعتبهم من شيء أنكروه عليه من فراقهم وعيب آلهتهم، ورأوا أن عمه أبو طالب قد حدب عليه، وقام دونه فلم يسلمه لهم، مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب، عتبة، وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي.

وأبو سفيان: صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس، وأبو البختري - واسمه العاص - بن هشام بن الحارث بن أسد بن عبد العزى بن قصي، والأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، وأبو جهل - واسمه عمرو - بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم.

والوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج بن عامر بن حذيفة ابن سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي، والعاص: ابن وائل بن سعيد بن سهم.

قال ابن إسحاق: أو من مشى منهم.

فقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه فنكفيكه؟

فقال لهم أبو طالب: قولا رفيقا، وردهم ردا جميلا، فانصرفوا عنه.

ومضى رسول الله ﷺ على ما هو عليه، يظهر دين الله، ويدعو إليه، ثم سرى الأمر بينهم وبينه حتى تباعد الرجال وتضاغنوا.

وأكثرت قريش ذكر رسول الله ﷺ بينها فتذامروا فيه وحضَّ بعضهم بعضا عليه، ثم أنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى.

فقالوا له: يا أبا طالب إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين - أو كما قالوا له - ثم انصرفوا عنه، فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم ولم يطب نفسا بإسلام رسول الله ﷺ ولا خذلانه.

قال ابن إسحاق: وحدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حدث: أن قريشا حين قالوا لأبي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول الله ﷺ فقال له: يا ابن أخي إن قومك قد جاءوني، فقالوا: كذا وكذا الذي قالوا له، فابق عليّ وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق.

قال: فظن رسول الله ﷺ أنه قد بدا لعمه فيه بدو وأنه خاذله ومسلمه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه.

قال: فقال رسول الله ﷺ: «يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه ما تركته».

قال: ثم استعبر رسول الله ﷺ فبكى ثم قام، فلما ولى ناداه أبو طالب.

فقال: أقبل يابن أخي، فأقبل عليه رسول الله ﷺ.

فقال: اذهب يابن أخي فقل ما أحببت فوالله لا أسلمتك لشيء أبدا.

قال ابن إسحاق: ثم أن قريشا حين عرفوا أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله ﷺ، وإسلامه وإجماعه لفراقهم في ذلك وعداوته مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة فقالوا له - فيما بلغني -: يا أبا طالب، هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش وأجمله، فخذه، فلك عقله ونصره، واتخذه ولدا فهو لك؟ وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومك، وسفه أحلامنا فنقتله فإنما هو رجل برجل!

قال: والله لبئس ما تسومونني؟ أتعطونني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني فتقتلونه! هذا والله ما لا يكون أبدا.

قال: فقال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصي: والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك وجهدوا على التخلص مما تكره، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا؟

فقال أبو طالب للمطعم: والله ما أنصفوني، ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم عليّ فاصنع ما بدا لك - أو كما قال - فحقب الأمر، وحميت الحرب، وتنابذ القوم، ونادى بعضهم بعضا..

فقال أبو طالب عند ذلك يعرِّض بالمطعم بن عدي، ويعم من خذله من بني عبد مناف ومن عاداه من قبائل قريش، ويذكر ما سألوه وما تباعد من أمرهم:

ألا قُلْ لعمروٍ والوليدِ ومطعمٍ * ألا ليت حظِّي من حياطتكم بكرُ

من الخورِ حبحابٌ كثيرٌ رغاؤه * يرش على الساقين من بوله قطر

تخلَّف خلْفَ الوردِ ليس بلاحقٍ * إذ ما علا الفيفاء قيل له وبر

أرى أخوينا من أبينا وأمنا * إذا سُئلا قالا إلى غيرنا الأمر

بلى لهما أمرٌ ولكنْ تحرجما * كما حرجمت من رأس ذي علق الصخر

أخصّ خصوصا عبدَ شمسٍ ونَوْفلا * هما نبذانا مثل ما نبذ الجمر

هما أغمزا للقوم في أخويهما * فقد أصبحا منهم أكفهما صفر

هما أشركا في المجد من لا أبا له * من الناس إلا أن يرسَّ له ذِكر

وتيمٍ ومخزومٍ وزهرةٍ منهم * وكانوا لنا مولىً إذا بغي النصر

فوالله لا تنفك منا عداوةٌ * ولا منكم ما دام من نسلنا شفر

قال ابن هشام: وتركنا منها بيتين أقذع فيهما.

فصل في مبالغتهم في الأذية لآحاد المسلمين المستضعفين

قال ابن إسحاق: ثم إن قريشا تذامروا بينهم على من في القبائل من أصحاب رسول الله ﷺ الذين أسلموا معه، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يعذبونهم، ويفتنونهم عن دينهم، ومنع الله منهم رسول الله ﷺ بعمه أبي طالب.

وقد قام أبو طالب، حين رأى قريشا يصنعون ما يصنعون، في بني هاشم، وبني عبد المطلب، فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله ﷺ والقيام دونه، فاجتمعوا إليه وقاموا معه، وأجابوه إلى ما دعاهم إليه، إلا ما كان من أبي لهب عدو الله الملعون.

فقال في ذلك يمدحهم ويحرضهم على ما وافقوه عليه من الحدب والنصرة لرسول الله ﷺ:

إذا اجتمعت يوما قريشٌ لمفخرٍ * فعبدُ منافٍ سرُّها وصميمُها

وإن حصلت أشرافُ عبدِ منافِها * ففي هاشم أشرافُها وقديمُها

وإن فخرتْ يوما فإن محمدا * هو المصطفى من سرِّها وكريمها

تداعت قريشٌ غُّثها وسمينها * علينا فلم تظفر وطاشت حلومها

وكنَّا قديما لا نقرُّ ظُلامة * إذ ما ثنوا صُعر الرقاب نُقيمُها

ونحمي حماها كلَّ يوم كريهةٍ * ونضربُ عن أحجارِها من يرومها

بنا انتعشَ العودُ الذواء وإنما * بأكنافنا تندَى وتنمى أرومها

فصل اعتراض المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم

وتعنتهم له في الأسئلة.

فيما اعترض به المشركون على رسول الله ﷺ، وما تعنتوا له في أسئلتهم إياه أنواعا من الآيات، وخرق العادات على وجه العناد، لا على وجه طلب الهدي والرشاد.

فلهذا لم يجابوا إلى كثير مما طلبوا، ولا ما إليه رغبوا، لعلم الحق سبحانه أنهم لو عاينوا وشاهدوا ما أرادوا لاستمروا في طغيانهم يعمهون، ولظلوا في غيهم وضلالهم يتردون.

قال الله تعالى: { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لَا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } [28].

وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ } [29]..

وقال تعالى: { وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفا } [30].

وقال تعالى: { وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرا رَسُولا } [31].

وقد تكلمنا على هذه الآيات، وما يشابهها في أماكنها في التفسير ولله الحمد.

وقد روى يونس، وزياد، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم - وهو شيخ من أهل مصر، يقال له: محمد بن أبي محمد - عن سعيد بن جبير، وعكرمة عن ابن عباس.

قال: اجتمع عليه من أشراف قريش - وعدّد أسماءهم - بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه، وخاصموه حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه: إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك، فأتهم.

فجاءهم رسول الله ﷺ سريعا وهو يظن أنه قد بدا لهم في أمره بدء، وكان حريصا يحب رشدهم، ويعز عليه عنتهم، حتى جلس إليهم.

فقالوا: يا محمد، إنا قد بعثنا إليك لنعذر فيك، وإنا والله لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وسفهت الأحلام، وشتمت الآلهة، وفرقت الجماعة، وما بقي من قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك.

فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سودناك علينا، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك - وكان يسمون التابع من الجن الرئي - فربما كان ذلك؛ بذلنا لك أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه، أو نعذر فيك؟

فقال لهم رسول الله ﷺ: «ما بي ما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل علي كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا نذيرا، فبلغتكم رسالة ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم من الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليَّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم».

أو كما قال رسول الله ﷺ - فقالوا: يا محمد فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلادا، ولا أقل مالا، ولا أشد عيشا منا.

فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال، التي قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا، وليجر فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيما يبعث لنا منهم: قصي بن كلاب، فإنه كان شيخا صدوقا، فنسألهم عما تقول: أحق هو أم باطل؟ فإن فعلت ما سألناك وصدقوك صدقناك، وعرفنا به منزلتك عند الله، وأنه بعثك رسولا كما تقول.

فقال لهم رسول الله ﷺ: «ما بهذا بعثت إليكم إنما جئتكم من عند الله بما بعثني به، فقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوا عليَّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم».

قالوا: فإن لم تفعل لنا هذا فخذ لنفسك، فسل ربك أن يبعث لنا ملكا يصدقك بما تقول، ويراجعنا عنك، وتسأله فيجعل لنا جنانا وكنوزا وقصورا من ذهب وفضة، ويغنيك عما نراك تبتغي، فإنك تقوم في الأسواق وتلتمس المعايش كما نلتمسه، حتى نعرف فضل منزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم.

فقال لهم: «ما أنا بفاعل، ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا، فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم».

قالوا: فأسقط السماء كما زعمت أن ربك إن شاء فعل، فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل.

فقال: «ذلك إلى الله إن شاء فعل بكم ذلك»

فقالوا: يا محمد ما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه، ونطلب منك ما نطلب، فيتقدم إليك ويعلمك ما تراجعنا به، ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذا لم نقبل منك ما جئتنا به؟ فقد بلغنا أنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له: الرحمن، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدا، فقد أعذرنا إليك يا محمد، أما والله لا نتركك وما فعلت بنا حتى نهلكك أو تهلكنا.

وقال قائلهم: نحن نعبد الملائكة، وهي: بنات الله.

وقال قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا.

فلما قالوا ذلك قام رسول الله ﷺ عنهم، وقام معه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن مخزوم - وهو ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب - فقال له: يا محمد، عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله، ثم سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك من الله ويصدقوك ويتبعوك فلم تفعل، ثم سألوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك عليهم ومنزلتك من الله، فلم تفعل، ثم سألوك أن تعجل ما تخوفهم به من العذاب.

فوالله لا أؤمن لك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ثم ترقى منه، وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي معك بنسخة منشورة، ومعك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول، وأيم الله لو فعلت ذلك لظننت أني لا أصدقك.

ثم انصرف عن رسول الله ﷺ، وانصرف رسول الله ﷺ إلى أهله حزينا أسفا لما فاته بما طمع فيه من قومه حين دعوه، ولما رأى من مباعدتهم إياه.

وهذا المجلس الذي اجتمع عليه هؤلاء الملأ مجلس ظلم وعدوان وعناد، ولهذا اقتضت الحكمة الإلهية، والرحمة الربانية، ألا يجابوا لي ما سألوا لأن الله علم أنهم لا يؤمنون بذلك فيعاجلهم بالعذاب.

كما قال الإمام أحمد: حدثنا عثمان بن محمد، حدثنا جرير عن الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.

قال: سأل أهل مكة رسول الله ﷺ أن يجعل لهم الصفا ذهبا، وأن ينحي عنهم الجبال فيزدرعوا

فقيل له: إن شئت أن تستأني بهم، وإن شئت أن تؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا هلكوا كما أهلكت من قبلهم الأمم.

قال: «لا بل أستأني بهم»، فأنزل الله تعالى: { وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا } [32] الآية.

وهكذا رواه النسائي من حديث جرير.

وقال أحمد: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن عمران بن حكيم، عن ابن عباس.

قال: قالت قريش للنبي ﷺ: ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا ونؤمن بك.

قال: «وتفعلون؟».

قالوا: نعم.

قال: فدعا فأتاه جبريل فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن شئت أصبح الصفا لهم ذهبا، فمن كفر منهم بعد ذلك أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين، وإن شئت فتحت لهم باب الرحمة والتوبة.

قال: «بل التوبة والرحمة».

وهذان إسنادان جيدان، وقد جاء مرسلا، عن جماعة من التابعين منهم: سعيد بن جبير، وقتادة، وابن جريج، وغير واحد.

وروى الإمام أحمد، والترمذي من حديث عبد الله بن المبارك، حدثنا يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن النبي ﷺ قال: «عرض عليَّ ربي عز وجل أن يجعل لي بطحاء مكة ذهبا، فقلت: لا يا رب أشبع يوما وأجوع يوما، - أو نحو ذلك - فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك» لفظ أحمد.

وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وعلي بن يزيد يضعف في الحديث.

وقال محمد بن إسحاق: حدثني شيخ من أهل مصر - قدم علينا منذ بضع وأربعين سنة - عن عكرمة، عن ابن عباس.

قال: بعثت قريش النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة.

فقالوا لهما: سلوهم عن محمد، وصفا لهم صفته، وأخبراهم بقوله: فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علم ما ليس عندنا من علم الأنبياء.

فخرجا حتى قدما المدينة، فسألا أحبار يهود عن رسول الله ﷺ ووصفا لهم أمره، وبعض قوله، وقالا: إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا.

قال: فقالت لهم أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فهو رجل متقول، فروا فيه رأيكم، سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم؟ فإنه قد كان لهم حديث عجيب..

وسلوه عن رجل طواف طاف مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه، وسلوه عن الروح ما هي؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه، وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم.

فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش فقالا: يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور فأخبراهم بها، فجاؤوا رسول الله ﷺ فقالوا: يا محمد أخبرنا، فسألوه عما أمروهم به.

فقال لهم رسول الله ﷺ: «أخبركم غدا بما سألتم عنه» ولم يستثن.

فانصرفوا عنه، ومكث رسول الله ﷺ خمس عشرة ليلة لا يحدث له في ذلك وحيا، ولا يأتيه جبريل حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غدا، واليوم خمس عشرة ليلة قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه، وحتى أحزن رسول الله ﷺ مكث الوحي عنه، وشقَّ عليه ما يتكلم به أهل مكة.

ثم جاءه جبريل عليه السلام من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف.

وقال الله تعالى: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلا } [33] وقد تكلمنا على ذلك كله في التفسير مطولا فمن أراده فعليه بكشفه من هناك.

ونزل قوله: { أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا }.

ثم شرع في تفصيل أمرهم، واعترض في الوسط بتعليمه الاستثناء تحقيقا لا تعليقا في قوله: { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت }.

ثم ذكر قصة موسى لتعلقها بقصة الخضر، ثم ذي القرنين، ثم قال: { ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا } ثم شرح أمره وحكى خبره.

وقال في سورة سبحان: { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي } أي: خلق عجيب من خلقه، وأمر من أمره، قال لها: كوني فكانت.

وليس لكم الاطلاع على كل ما خلقه، وتصوير حقيقته في نفس الأمر يصعب عليكم بالنسبة إلى قدرة الله تعالى وحكمته، ولهذا قال: { وما أوتيتم من العلم إلا قليلا }.

وقد ثبت في (الصحيحين): أن اليهود سألوا عن ذلك رسول الله ﷺ بالمدينة، فتلا عليهم هذه الآية - فإما أنها نزلت مرة ثانية أو ذكرها جوابا - وإن كان نزولها متقدما، ومن قال: إنها إنما نزلت بالمدينة، واستثناها من سورة سبحان ففي قوله نظر، والله أعلم..

قال ابن إسحاق: ولما خشي أبو طالب دهم العرب أن يركبوه مع قومه، قال قصيدته التي تعوذ فيها بحرم مكة وبمكانها منها، وتودد فيها أشراف قومه، وهو على ذلك يخبرهم وغيرهم في شعره أنه غير مسلم لرسول الله ﷺ، ولا تاركه لشيء أبدا حتى يهلك دونه، فقال:

ولما رأيت القوم لاودَّ فيهم * وقد قطعوا كلَّ العُرى والوسائل

وقد صارَحُونا بالعداوةِ والأذى * وقد طاوعوا أمر العدوِّ المزايل

وقد حالفوا قوما علينا أظنّةً * يعضون غيظا خلفنا بالأنامل

صبرت لهم نفسي بسمراء سمحةٍ * وأبيضٍ غضبٍ من تراث المقاول

وأحضرت عند البيت رهطي وأخوتي * وأمسكت من أثوابه بالوصائل

قياما معا مستقبلين رتاجه * لدى حيث يقضي حلفه كلَّ نافل

وحيث ينيخ الأشعرون ركابهم * بمفضى السيول من إسافٍ ونائل

موسمة الأعضاد أو قصراتها * مخيَّسة بين السديس وبازل

ترى الودْعَ فيها والرخامَ وزينةً * بأعناقها معقودةً كالعثاكل

أعوذ برب الناس من كلّ طاعنٍ * علينا بسوءٍ أو ملحٍ بباطل

ومن كاشح يسعى لنا بمعيبةٍ * ومن ملحقٍ في الدين مالم نحاول

وثورٍ ومن أرسى ثبيرا مكانه * وراقٍ ليرقى في حراءَ ونازل

وبالبيت حق البيت من بطن مكةٍ * وبالله إن الله ليس بغافل

وبالحجر المسودّ إذ يمسحونه * إذا اكتنفوه بالضحى والأصائل

وموطئ إبراهيم في الصخر رطبةً * على قدميه حافيا غير ناعل

وأشواط بين المروتين إلى الصفا * وما فيهما من صورةٍ وتماثل

ومن حج بيت الله من كل راكب * ومن كل ذي نذرٍ ومن كل راجل

وبالمشعر الأقصى إذا عمدوا له * الإل إلى مفضي الشراج القوابل

وتوقافهم فوق الجبال عشيةً * يقيمون بالأيدي صدور الرواحل

وليلة جمعٍ والمنازل من منى * وهل فوقها من حرمةٍ ومنازل

وجمعٍ إذا ما المقربات أجزنه * سراعا كما يخرجن من وقع وابل

وبالجمرة الكبرى إذا صمدوا لها * يؤمون قذفا رأسها بالجنادل

وكندةَ إذ هم بالحصاب عشية * تجيز بهم حجَّاجُ بكرِ بن وائل

حليفانِ شدَّا عقد ما احتلفا له * وردَّا عليه عاطفات الوسائل

وحطمهمُ سُمرَ الرماحِ وسرحه * وشبرقه وخدُ النعامِ الجوافل

فهل بعدَ هذا من معاذٍ لعائذ * وهل من معيذٍ يتقي الله عادل

يطاع بنا أمر العدا ودّ أننا * يسد بنا أبواب ترك وكابل

كذبتم وبيت الله نترك مكةً * ونظعن إلا أمركم في بلابل

كذبتم وبيت الله نبذي محمدا * ولما نطاعن دونه ونناضل

ونسلمه حتى نصرَّع حوله * ونذهل عن أبنائنا والحلائل

وينهض قومٌ بالحديد إليكم * نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل

وحتى نرى ذا الضغن يركب ردعه * من الطعن فعل الأنكب المتحامل

وإنا لعمر الله إن جدَّ ما أرى * لتلتبسن أسيافنا بالأماثل

بكفي فتى مثل الشهاب سميْدعٍ * أخي ثقةً حامي الحقيقة باسل

شهورا وأياما وحولا محرما * علينا وتأتي حجة بعد قابل

وما تركُ قوم -لا أبالك - سيدا * يحوط الذمار غير ذرب مواكل

وأبيضُ يستسقي الغمام بوجهه * تمالِ اليتامى عصمةٍ للأرامل

يلوذُ به الهلاك من آل هاشمٍ * فهم عنده في رحمةٍ وفواضل

لعمري لقد أجرى أسيد وتكره * إلى بغضنا وجزآنا لآكل

وعثمانُ لم يربَع علينا وقنفذٌ * ولكن أطاعا أمرَ تلك القبائل

أطاعا أبيّا وابن عبدِ يغوثِهم * ولم يرقبا فينا مقالةَ قائل

كما قد لقينا من سبينع ونوفلٍ * وكل تولى معرضا لم يجامل

فإن يلفيا أو يمكِن الله منهما * نكل لهما صاعا بصاع المكايل

وذاك أبو عمرو أبي غير بغضنا * ليظعننا في أهل شاءٍ وجامل

يناجي بنا في كل ممسى ومصبحٍ * فناجِ أبا عمرٍو بنا ثم خاتل

ويؤلي لنا بالله ما أن يغشنا * بلى قد تراه جهرةً غير خائل

أضاق عليه بغضنا كل تلعةٍ * من الأرض بين أخشبٍ فمجادل

وسائل، أبا الوليد ماذا حبوتنا * بسعيك فينا معرضا كالمخاتل

وكنت امرءا ممن يعاش برأيه * ورحمته فينا ولست بجاهل

فعتبة لا تسمع بنا قولَ كاشحٍ * حسودٍ كذوبٍ مبغض ذي دغاول

ومرَّ أبو سفيان عني معرضا * كما مرَّ قيل من عظام المقاول

يفرُّ إلى نجدٍ وبرد مياهه * ويزعم أني لست عنكم بغافل

ويخبرنا فعل المناصح أنه * شفيقٌ ويخفي عارماتِ الدواخل

أمطعمُ لم أخذلك في يوم نجدةٍ * ولا معظمٍ عند الأمور الجلائل

ولا يومَ خصمٍ إذ أتوك ألدة * أولى جدلٍ من الخصومِ المساجل

أمطعم إن القوم ساموك خطةً * وإني متى أوكل فلست بوائل

جزى الله عنا عبدُ شمس ونوفلا * عقوبة شرٍ عاجلا غير آجل

يميران قسطٍ لا يخيس شعيرةً * له شاهدَ من نفسهِ غيرُ عائل

لقد سفهت أحلام قوم تبدلوا * بني خلفٍ قيضا بنا والغياطل

ونحن الصميمُ من ذؤابةِ هاشم * وآل قصي في الخطوب الأوائل

وسهمٍ ومخزوم تمالوا وألَّبوا * علينا العِدى من كل طملٍ وخامل

فعبدُ منافٍ أنتم خيرُ قومكم * فلا تشركوا في أمركم كل واغل

لعمري لقد وهنتم وعجزتم * وجئتم بأمرٍ مخطئٍ للمفاصل

وكنتم حديثا حَطبَ قدْرٍ وأنتم * الآن أحطابُ أقدرٍ ومراجل

ليهن بني عبد مناف عقوقنا * وخذلاننا وتركنا في المعاقل

فإن نك قوما نتَّئر ما صنعتم * وتحتلبوها لقحة غير باهل

فأبلغ قصيا أن سينشرَ أمرُنا * وبشِّر قصيا بعدنا بالتخاذل

ولو طرقتُ ليلا قصيا عظيمةٌ * إذا ما لجأنا دونهم في المداخل

ولو صدقوا ضربا خلال بيوتهم * لكنَّا أسىً عند النساء المطافل

فكل صديقٍ وابن أختٍ نعدَّه * لعمري وجدنا غُبَّةً غير طائل

سوى أن رهطا من كلاب بن مرة * براء إلينا من معقَّةِ خاذل

ونعم ابن أختِ القوم غير مكذب * زهير حساما مفردا من حمائل

أشمَّ من الشمِّ البهاليلِ ينتمي * إلى حسب في حومةِ المجد فاضل

لعمري لقد كلفِّتُ وجدا بأحمد * وإخوته دأب المحبِّ المواصل

فمن مثلُه في الناس أي مؤمَّل * إذا قاسه الحكَّام عند التفاضل

حليمٌ رشيد عادل غير طائش * يوالي إلها ليس عنه بغافل

كريمُ المساعي ماجدٌ وابن ماجد * له إرثُ مجدٍ ثابتٍ غير ناصل

وأيَّده ربُّ العباد بنصره * وأظهر دينا حقه غير زائل

فوالله لولا أن أجيء بسُبَّةٍ * تجرُّ على أشياخِنا في المحافل

لكنّا تبعناه على كل حالةٍ * من الدهر جدا غير قول التهازل

لقد علموا أن ابننا لا مكذبٌ * لدينا ولا يعنى بقولِ الأباطل

فأصبح فينا أحمدٌ في أرومةٍ * يقصر عنها سورةُ المتطاول

حدبت بنفسي دونه وحميته * ودافعت عنه بالذَّرى والكلاكل

قال ابن هشام: هذا ما صح لي من هذه القصيدة، وبعض أهل العلم بالشعر ينكر أكثرها.

قلت: هذه قصيدة عظيمة بليغة جدا لا يستطيع يقولها إلا من نسبت إليه، وهي أفحل من المعلقات السبع، وأبلغ في تأدية المعنى فيها جميعها، وقد أوردها الأموي في مغازيه مطولة بزيادات أخر والله أعلم.

فصل تعذيب قريش للمسلمين لأتباعهم النبي عليه الصلاة والسلام

قال ابن إسحاق: ثم إنهم عدوا على من أسلم واتبع رسول الله ﷺ من أصحابه، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش، وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر، من استضعفوه منهم يفتنونهم عن دينهم، فمنهم من يفتن من شدة البلاء الذي يصيبهم، ومنهم من يصلب لهم ويعصمه الله منهم.

فكان بلال: مولى أبي بكر لبعض بني جمح، مولدا من مولديهم، وهو بلال بن رباح، واسم أمه حمامة، وكان صادق الإسلام، طاهر القلب، وكان أمية ابن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة، يطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا والله لا تزال هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد ﷺ، وتعبد اللات والعزى.

فيقول: -وهو في ذلك -أحدٌ أحد.

قال ابن إسحاق: فحدثني هشام بن عروة، عن أبيه قال: كان ورقة بن نوفل يمر به وهو يعذب لذلك، وهو يقول: أحدٌ أحد، فيقول: أحدٌ أحد والله يا بلال، ثم يقبل على أمية بن خلف، ومن يصنع ذلك به من بني جمح فيقول: أحلف بالله لئن قتلتموه على هذا لأتخذنه حنانا..

قلت: قد استشكل بعضهم هذا من جهة أن ورقة توفي بعد البعثة في فترة الوحي، وإسلام من أسلم إنما كان عد نزول { يا أيها المدثر } فكيف يمر ورقة ببلال، وهو يعذب وفيه نظر.

ثم ذكر ابن إسحاق مرور أبي بكر ببلال وهو يعذب، فاشتراه من أمية بعبد له أسود، فأعتقه وأراحه من العذاب، وذكر مشتراه لجماعة ممن أسلم من العبيد والإماء، منهم: بلال، وعامر بن فهيرة، وأم عميس التي أصيب بصرها ثم رده الله تعالى لها، والنهدية، وابنتها اشتراها من بني عبد الدار بعثتهما سيدتهما تطحنان لها فسمعها وهي تقول لهما: والله لا أعتقكما أبدا.

فقال أبو بكر: حل يا أم فلان.

فقالت: حل أنت أفسدتهما فأعتقهما.

قال: فبكم هما؟

قالت: بكذا وكذا.

قال: قد أخذتهما وهما حرتان، أرجعا إليها طحينها.

قالتا: أو نفرغ منه يا أبا بكر ثم نرده إليها؟

قال: أو ذلك إن شئتما.

واشترى جارية بني مؤمل - حي من بني عدي - كان عمر يضربها على الإسلام.

قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن عبد الله بن أبي عتيق، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن بعض أهله.

قال: قال أبو قحافة لابنه أبي بكر: يا بني إني أراك تعتق ضعافا، فلو أنك إذ فعلت ما فعلت أعتقت رجالا جلداء يمنعونك ويقومون دونك؟

قال: فقال أبو بكر: يا أبة إني إنما أريد ما أريد.

قال: فتحدث أنه ما أنزل هؤلاء الآيات إلا فيه وفيما قال أبوه { فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى } إلى آخر السورة.

وقد تقدم ما رواه الإمام أحمد، وابن ماجه من حديث عاصم بن بهدلة، عن زر، عن ابن مسعود.

قال: أول من أظهر الإسلام سبعة، رسول الله ﷺ، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد.

فأما رسول الله ﷺ فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأبو بكر منعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدرع الحديد وصهروهم في الشمس، فما منهم من أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا إلا بلالا، فإنه هانت عليه نفسه في الله تعالى، وهان على قومه فأخذوه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول: أحدٌ أحد.

ورواه الثوري عن منصور، عن مجاهد مرسلا.

قال ابن إسحاق: وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار ابن ياسر وبأبيه وأمه - وكانوا أهل بيت إسلام - إذا حميت الظهيرة يعذبونهم برمضاء مكة، فيمر بهم رسول الله ﷺ فيقول - فيما بلغني -: «صبرا آل ياسر موعدكم الجنة».

وقد روى البيهقي عن الحاكم، عن إبراهيم بن عصمة العدل، حدثنا السري بن خزيمة، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا هشام بن أبي عبيد الله، عن أبي الزبير، عن جابر: أن رسول الله ﷺ مرَّ بعمار وأهله وهم يعذبون فقال: «أبشروا آل عمار، وآل ياسر فإن موعدكم الجنة».

فأما أمه فيقتلوها فتأبى إلا الإسلام.

وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد.

قال: أول شهيد كان في الإسلام استشهد أم عمار سمية طعنها أبو جهل بحربة في قلبها.

وهذا مرسل.

قال محمد بن إسحاق: وكان أبو جهل الفاسق الذي يغري بهم في رجال من قريش، إن سمع برجل قد أسلم له شرف ومنعة أنبه وخزَّاه وقال: تركت دين أبيك وهو خير منك، لنسفهن حلمك، ولنفلين رأيك، ولنضعن شرفك.

وإن كان تاجرا قال: والله لنكسدن تجارتك، ولنهلكن مالك.

وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به، لعنه الله وقبحه.

قال ابن إسحاق: وحدثني حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير قال: قلت لعبد الله بن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله ﷺ من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟

قال: نعم والله! إن كانوا ليضربون أحدهم، ويجيعونه، ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضر الذي نزل به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة، حتى يقولوا له، اللات والعزى إلهآن من دون الله.

فيقول: نعم، افتداء منهم بما يبلغون من جهدهم.

قلت: وفي مثل هذا أنزل الله تعالى { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [34] الآية.

فهؤلاء كانوا معذورين بما حصل لهم من الإهانة والعذاب البليغ، أجارنا الله من ذلك بحوله وقوته.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن خباب بن الأرت، قال: كنت رجلا قينا وكان لي على العاص بن وائل دين، فأتيته أتقاضاه فقال: لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد.

فقلت: لا والله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث.

قال: فإني إذا مت ثم بعثت جئتني ولي ثم مال وولد فأعطيك؟

فأنزل الله تعالى { أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدا } إلى قوله: { وَيَأْتِينَا فَرْدا } [35].

أخرجاه في (الصحيحين) وغيرهما من طرق عن الأعمش به.

وفي لفظ البخاري: كنت قينا بمكة، فعملت للعاص ابن وائل سيفا فجئت أتقاضاه فذكر الحديث.

وقال البخاري: حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا بيان وإسماعيل.

قالا: سمعنا قيسا يقول: سمعت خبابا يقول: أتيت النبي ﷺ وهو متوسد ببردة وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: يا رسول الله ألا تدعو الله لنا؟

فقعد وهو محمر الوجه.

فقال: «قد كان من كان قبلكم ليمشط بأمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنتين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله عز وجل»، زاد بيان «والذئب على غنمه».

وفي رواية: «ولكنكم تستعجلون» انفرد به البخاري دون مسلم.

وقد روى من وجه آخر عن خباب وهو مختصر من هذا والله أعلم.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان وابن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن وهب، عن خباب.

قال: شكونا إلى النبي ﷺ شدة الرمضاء فما أشكانا - يعني: في الصلاة - وقال ابن جعفر: فلم يشكنا.

وقال أيضا: حدثنا سليمان بن داود، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال: سمعت سعيد بن وهب يقول: سمعت خبابا يقول: شكونا إلى رسول ﷺ الرمضاء فلم يشكنا، قال شعبة يعني: في الظهيرة.

ورواه مسلم، والنسائي، والبيهقي من حديث أبي إسحاق السبيعي، عن سعيد بن وهب، عن خباب.

قال: شكونا إلى رسول الله ﷺ حر الرمضاء - زاد البيهقي - في وجوهنا وأكفنا - فلم يشكنا.

وفي رواية: شكونا إلى رسول الله ﷺ الصلاة في الرمضاء فلم يشكنا.

ورووا ابن ماجه عن علي بن محمد الطنافسي، عن وكيع عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب العبدي، عن خباب.

قال: شكونا إلى رسول الله ﷺ حر الرمضاء فلم يشكنا.

والذي يقع لي - والله أعلم - أن هذا الحديث مختصر من الأول وهو أنهم شكوا إليه ﷺ ما يلقون من المشركين من التعذيب بحر الرمضاء، وأنهم يسحبونهم على وجوههم فيتقون بأكفهم، وغير ذلك من أنواع العذاب كما تقدم عن ابن إسحاق وغيره.

وسألوا منه ﷺ أن يدعو الله لهم على المشركين، أو يستنصر عليهم، فوعدهم ذلك ولم ينجزه لهم في الحالة الراهنة، وأخبرهم عمن كان قبلهم أنهم كانوا يلقون من العذاب ما هو أشد مما أصابهم، ولا يصرفهم ذلك عن دينهم، ويبشرهم أن الله سيتم هذا الأمر، ويظهره، ويعلنه، وينشره، وينصره في الأقاليم والآفاق حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله عز وجل والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون.

ولهذا قال: شكونا إلى رسول الله ﷺ حر الرمضاء في وجوهنا وأكفنا فلم يشكنا، أي: لم يدع لنا في الساعة الراهنة، فمن استدل بهذا الحديث على عدم الإبراد، أو على وجوب مباشرة المصلى بالكف كما هو أحد قولي الشافعي ففيه نظر والله أعلم.

باب مجادلة النبي صلى الله عليه وسلم الكفار وإقامة الحجة الدامغة عليهم

قال إسحاق بن راهوايه: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب السختياني، عن عكرمة عن ابن عباس.

أن الوليد بن المغيرة جاء إلى رسول الله ﷺ فقرأ عليه القرآن، فكأنه رقَّ له، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال: يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا.

قال: لِمَ؟

قال: ليعطوكه فإنك أتيت محمدا لتعرض ما قبله.

قال: قد علمت قريش أني أكثرها مالا.

قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له.

قال: وماذا أقول؟ فوالله ما منكم رجل أعرف بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه، ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، ووالله أن لقوله الذي يقوله حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته.

قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه.

قال: قف عني حتى أفكر فيه، فلما فكر.

قال: إن هذا إلا سحر يؤثر يأثره عن غيره، فنزلت { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودا * وَبَنِينَ شُهُودا } [36] الآيات.

هكذا رواه البيهقي، عن الحاكم، عن عبد الله بن محمد بن علي الصنعاني بمكة عن إسحاق به.

وقد رواه حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة مرسلا.

فيه أنه قرأ عليه: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [37].

وقال البيهقي عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد ابن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير - أو عكرمة، عن ابن عباس - أن الوليد بن المغيرة اجتمع ونفر من قريش وكان ذا سن فيهم، وقد حضر المواسم فقال: إن وفود العرب ستقدم عليكم فيه وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا، ويرد قول بعضكم بعضا.

فقيل: يا أبا عبد شمس، فقل، وأقم لنا رأيا نقوم به.

فقال: بل أنتم فقولوا وأنا أسمع.

فقالوا: نقول كاهن؟

فقال: ما هو بكاهن رأيت الكهان.

فما هو بزمزمة الكهان.

فقالوا: نقول مجنون؟

فقال: ما هو بمجنون، ولقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بحنقه ولا تخالجه ولا وسوسته.

فقال: نقول شاعر؟

فقال: ما هو بشاعر قد عرفنا الشعر برجزه، وهزجه، وقريضه، ومقبوضه، ومبسوطه، فما هو بالشعر.

قالوا: فنقول هو ساحر؟

قال: ما هو بساحر قد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثه ولا بعقده.

قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟

قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لمغدق، وإن فرعه لجنىً فما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول لأن تقولوا هذا ساحر، فتقولوا هو ساحر يفرِّق بين المرء ودينه، وبين المرء وأبيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وعشيرته فتفرقوا عنه بذلك.

فجعلوا يجلسون للناس حتى قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا لهم أمره وأنزل الله في الوليد: { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودا * وَبَنِينَ شُهُودا } [38] الآيات.

وفي أولئك النفر: { الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ * فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [39].

قلت: وفي ذلك قال الله تعالى إخبارا عن جهلهم وقلة عقلهم: { بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ } [40] فحاروا ماذا يقولون فيه فكل شيء يقولونه باطل، لأن من خرج عن الحق مهما قاله أخطأ.

قال الله تعالى: { انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا } [41].

وقال الإمام عبد بن حميد في (مسنده): حدثني أبو بكر ابن أبي شيبة، حدثنا علي ابن مسهر عن الأجلح - هو ابن عبد الله الكندي - عن الذيال بن حرملة الأسدي، عن جابر بن عبد الله..

قال: اجتمع قريش يوما فقالوا: أنظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا، وشتت أمرنا وعاب ديننا فليكلمه ولينظر ماذا يرد عليه؟

فقالوا: ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة.

فقالوا: أنت يا أبا الوليد، فأتاه عتبة فقال: يا محمد أنت خير أم عبد الله؟ فسكت رسول الله ﷺ.

فقال: أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله ﷺ.

قال: فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومه منك فرقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا، وأن في قريش كاهنا.

والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى: أيها الرجل إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا، وإن كان إنما بك الباه فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرا.

فقال رسول الله ﷺ: «فرغت؟»

قال: نعم!

فقال رسول الله ﷺ: «بسم الله الرحمن الرحيم: { حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنا عَرَبِيّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } إلى أن بلغ { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } [42]».

فقال عتبة: حسبك ما عندك غير هذا؟

قال: لا.

فرجع إلى قريش فقالوا: ما وراءك؟

قال: ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمونه إلا كلمته.

قالوا: فهل أجابك؟

فقال: نعم!

ثم قال: لا والذي نصبها بنية ما فهمت شيئا مما قال غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود.

قالوا: ويلك يكلمك الرجل بالعربية لا تدري ما قال؟

قال: لا والله ما فهمت شيئا مما قال غير ذكر الصاعقة.

وقد رواه البيهقي وغيره عن الحاكم، عن الأصم، عن عباس الدوري، عن يحيى بن معين، عن محمد بن فضيل، عن الأجلح به.

وفيه كلام، وزاد: وإن كنت إنما بك الرياسة عقدنا ألويتنا لك فكنت رأسا ما بقيت وعنده أنه لما قال: { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود } أمسك عتبة على فيه وناشده الرحم أن يكف عنه، ولم يخرج إلى أهله واحتبس عنهم.

فقال أبو جهل: والله يا معشر قريش ما نرى عتبة إلا صبأ إلى محمد وأعجبه طعامه، وما ذاك إلا من حاجة إصابته، انطلقوا بنا إليه فأتوه.

فقال أبو جهل: والله يا عتبة ما جئنا إلا أنك صبوت إلى محمد وأعجبك أمره، فإن كان بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد.

فغضب وأقسم بالله لا يكلم محمدا أبدا.

وقال: لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا، ولكني أتيته - وقص عليهم القصة - فأجابني بشيء والله ما هو بسحر ولا بشعر ولا كهانة، قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم: { حم * تنزيل من الرحمن الرحيم } حتى بلغ: { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود }.

فأمسكت بفيه وناشدته الرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخفت أن ينزل عليكم العذاب.

ثم قال البيهقي عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس، عن محمد بن إسحاق قال: حدثني يزيد بن زياد مولى بني هاشم، عن محمد بن كعب قال: حدثت أن عتبة بن ربيعة، وكان سيدا حليما.

قال - ذات يوم وهو جالس في نادي قريش، ورسول الله ﷺ جالس وحده في المسجد -: يا معشر قريش ألا أقوم إلى هذا فأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها ويكف عنا.

قالوا: بلى يا أبا الوليد!

فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله ﷺ فذكر الحديث فيما له عتبة وفيما عرض على رسول الله ﷺ من المال والملك وغير ذلك.

وقال بن إسحاق: فقال عتبة: يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمور لعله يقبل بعضها فنعطيه إياها ويكف عنا وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أصحاب رسول الله ﷺ يزيدون ويكثرون.

فقالوا: بلى يا أبا الوليد! فقم إليه وكلمه.

فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله ﷺ فقال: يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت من السِّطة في العشيرة والمكان في النسب، وأنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفَّرت به من مضى من آبائهم.

فاسمع مني حتى أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها.

قال: فقال له رسول الله ﷺ: «يا أبا الوليد اسمع».

قال: يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يتداوى منه - أو كما قال له - حتى إذا فرغ عتبة.

قال له النبي ﷺ: «أفرغت يا أبا الوليد؟».

قال: نعم!

قال: «اسمع مني».

قال: أفعل!

فقال رسول الله ﷺ: { حم * تنزيل من الرحمن الرحيم * كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون }.

فمضى رسول الله ﷺ يقرأها فلما سمع بها عتبة انصت لها وألقى بيديه خلفه أو خلف ظهره معتمدا عليها ليسمع منه حتى انتهى رسول الله ﷺ إلى السجدة فسجدها ثم قال: «سمعت يا أبا الوليد؟»

قال سمعت.

قال: «فأنت وذاك».

ثم قام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به..

فلما جلسوا إليه قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟

قال: ورائي أني والله قد سمعت قولا ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا الكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به.

قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه.

قال: هذا رأيي لكم فاصنعوا ما بدا لكم.

ثم ذكر يونس عن ابن إسحاق شعرا قاله أبو طالب يمدح فيه عتبة.

وقال البيهقي: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يوسف الأصبهاني أخبرنا أبو قتيبة سلمة بن الفضل الأدمي بمكة، حدثنا أبو أيوب أحمد بن بشر الطيالسي، حدثنا داود بن عمرو الضبي، حدثنا المثنى بن زرعة، عن محمد بن إسحاق، عن نافع عن ابن عمر.

قال: لما قرأ رسول الله ﷺ على عتبة بن ربيعة: «حم * تنزيل من الرحمن الرحيم» أتى أصحابه فقال لهم: يا قوم أطيعوني في هذا الأمر اليوم، واعصوني فيما بعده، فوالله لقد سمعت من هذا الرجل كلاما ما سمعت أذناي كلاما مثله، وما دريت ما أرد عليه.

وهذا حديث غريب جدا من هذا الوجه.

ثم روى البيهقي عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس، عن ابن إسحاق حدثني الزهري.

قال: حدثت أن أبا جهل وأبا سفيان، والأخنس بن شريق خرجوا ليلةً ليسمعوا من رسول الله ﷺ وهو يصلي بالليل في بيته، فأخذ كل رجلٍ منهم مجلسا ليستمع منه، وكلٍ لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا أصبحوا وطلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا وقال بعضهم لبعض لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا.

ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجلٍ منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له حتى طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق، قال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة ثم انصرفوا، فلما كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فقالوا: لا نبرح حتى نتعاهد أن لا نعود.

فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا، فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد؟

فقال: يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها.

فقال الأخنس: وأنا والذي حلفت به.

ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته فقال: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟

فقال: ماذا سمعت تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نسمع به أبدا ولا نصدقه.

فقام عنه الأخنس بن شريق ثم قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو العباس، حدثنا أحمد، حدثنا يونس، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم عن المغيرة بن شعبة.

قال: إن أول يوم عرفت رسول الله ﷺ أني أمشي أنا وأبو جهل بن هشام في بعض أزقة مكة، إذ لقينا رسول الله ﷺ فقال رسول الله ﷺ لأبي جهل: «يا أبا الحكم، هلمَّ إلى الله وإلى رسوله، أدعوك إلى الله».

فقال أبو جهل: يا محمد، هل أنت منته عن سب آلهتنا؟ هل تريد إلا أن نشهد أنك قد بلغت؟ فنحن نشهد أن قد بلغت؟ فوالله لو أني أعلم أن ما تقول حق لاتبعتك.

فانصرف رسول الله ﷺ.

وأقبل علي فقال: والله إني لأعلم أن ما يقول حق، ولكن يمنعني شيء إن بني قصي قالوا: فينا الحجابة.

فقلنا: نعم.

ثم قالوا: فينا السقاية.

فقلنا: نعم.

ثم قالوا: فينا الندوة.

فقلنا: نعم.

ثم قالوا: فينا اللواء.

فقلنا: نعم.

ثم أطعموا وأطعمنا.

حتى إذا تحاكت الركب قالوا: منا نبي، والله لا أفعل.

وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ؛ قال أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم، حدثنا محمد ابن خالد، حدثنا أحمد بن خلف، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق.

قال: مرَّ النبي ﷺ على أبي جهل، وأبي سفيان، وهما جالسان.

فقال أبو جهل: هذا نبيكم يا بني عبد شمس.

قال أبو سفيان: وتعجب أن يكون منا نبي؟ فالنبي يكون فيمن أقل منا وأذل.

فقال أبو جهل: أعجب أن يخرج غلام من بين شيوخ نبيا، ورسول الله ﷺ يسمع.

فأتاهما فقال: «أما أنت يا أبا سفيان، فما لله ورسوله غضبت ولكنك حميت للأصل، وأما أنت يا أبا الحكم فوالله لتضحكن قليلا ولتبكين كثيرا».

فقال: بئسما تعدني يا ابن أخي من نبوتك.

هذا مرسل من هذا الوجه وفيه غرابة.

وقول أبي جهل - لعنه الله - كما قال الله تعالى مخبرا عنه وعن أضرابه: { وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا * إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا * أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا } [43].

وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم، حدثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.

قال: نزلت هذه الآية ورسول الله ﷺ متوارٍ بمكة: { وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ } [44] قال: كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن.

فلما سمع ذلك المشركون سبوا القرآن، وسبوا من أنزله، ومن جاء به، قال: فقال الله تعالى لنبيه محمد ﷺ: { وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ } أي: بقراءتك، فيسمع المشركون، فيسبوا القرآن، ولا تخافت بها عن أصحابك، فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك { وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا } وهكذا رواه صاحبا (الصحيح) من حديث أبي بشر جعفر بن أبي حية به.

وقال محمد بن إسحاق: حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان رسول الله ﷺ إذا جهر بالقرآن - وهو يصلي - تفرقوا عنه وأبوا أن يستمعوا منه، وكان الرجل إذا أراد أن يسمع من رسول الله ﷺ بعض ما يتلو، وهو يصلي استرق السمع، دونهم فَرَقاَ منهم، فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع ذهب خشية أذاهم فلم يستمع، فإن خفض رسول الله ﷺ، لم يسمع الذين يستمعون من قراءته شيئا.

فأنزل الله تعالى: { وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ } فيتفرقوا عنك، { وَلَا تُخَافِتْ بِهَا } فلا يسمع من أراد أن يسمعها ممن يسترق ذلك، لعله يرعوي إلى بعض ما يسمع، فينتفع به { وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا }.

باب هجرة أصحاب رسول الله من مكة إلى أرض الحبشة

قد تقدم ذكر أذية المشركين للمستضعفين من المؤمنين، وما كانوا يعاملونهم به من الضرب الشديد. والإهانة البالغة.

وكان الله عز وجل قد حجرهم عن رسوله ﷺ، ومنعه بعمه أبي طالب، كما تقدم تفصيله ولله الحمد والمنة.

وروى الواقدي: أن خروجهم إليها في رجب سنة خمس من البعثة، وأن أول من هاجر منهم أحد عشر رجلا وأربع نسوة، وأنهم انتهوا إلى البحر ما بين ماش وراكب فاستأجروا سفينة بنصف دينار إلى الحبشة.

وهم: عثمان بن عفان، وامرأته رقية بنت رسول الله ﷺ، وأبو حذيفة بن عتبة، وامرأته سهلة بنت سهيل، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة بن عبد الأسد، وامرأته أم سلمة بنت أبي أمية، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة العنزي، وامرأته ليلى بنت أبي حثمة، وأبو سبرة بن أبي رهم، وحاطب بن عمرو، وسهيل بن بيضاء، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين.

قال ابن جرير وقال آخرون: بل كانوا اثنين وثمانين رجلا، سوى نسائهم وأبنائهم، وعمار بن ياسر، نشكُّ، فإن كان فيهم كانوا ثلاثة وثمانين رجلا.

وقال محمد بن إسحاق: فلما رأى رسول الله ﷺ ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية، بمكانه من الله عز وجل، ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء.

قال لهم: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة؟ فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي - أرض صدق - حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه».

فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله ﷺ إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة، وفرارا إلى الله بدينهم.

فكانت أول هجرة كانت في الإسلام، فكان أول من خرج من المسلمين عثمان بن عفان، وزوجته رقية بنت رسول الله ﷺ.

وكذا روى البيهقي من حديث يعقوب بن سفيان، عن عباس العنبري، عن بشر بن موسى، عن الحسن بن زياد البرجمي، حدثنا قتادة.

قال: أول من هاجر إلى الله تعالى بأهله عثمان بن عفان رضي الله عنه سمعت النضر بن أنس يقول: سمعت أبا حمزة - يعني: أنس بن مالك - يقول: خرج عثمان بن عفان، ومعه امرأته رقية بنت رسول الله ﷺ، إلى أرض الحبشة، فأبطأ على رسول الله ﷺ خبرهما، فقدمت امرأة من قريش فقالت: يا محمد، قد رأيت ختنك ومعه امرأته.

قال: على أي حال رأيتهما؟

قالت: رأيته قد حمل امرأته على حمار من هذا الدبابة، وهو يسوقها

فقال رسول الله ﷺ: صحبهما الله، إن عثمان أول من هاجر بأهله بعد لوط عليه السلام».

قال ابن إسحاق: وأبو حذيفة بن عتبة، وزوجته سهلة بنت سهيل بن عمرو، - وولدت له بالحبشة محمد بن أبي حذيفة -، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة بن عبد الأسد، وامرأته أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة، وولدت له بها زينب، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة حليف آل الخطاب - وهو من بني عنز بن وائل - وامرأته ليلى بنت أبي حثمة، وأبو سبرة بن أبي رهم العامري، وامرأته أم كلثوم بنت سهيل بن عمرو - ويقال أبو حاطب ابن عمرو بن عبد شمس بن عبدود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر - وهو أول من قدمها فيما قيل - وسهيل بن بيضاء - فهؤلاء العشرة أول من خرج من المسلمين إلى أرض الحبشة فيما بلغني.

قال ابن هشام: وكان عليهم عثمان بن مظعون، فيما ذكر بعض أهل العلم.

قال ابن إسحاق: ثم خرج جعفر بن أبي طالب، ومعه امرأته أسماء بنت عميس، وولدت له بها عبد الله بن جعفر، وتتابع المسلمون حتى اجتمعوا بأرض الحبشة..

وقد زعم موسى بن عقبة أن الهجرة الأولى إلى أرض الحبشة كانت حين دخل أبو طالب، ومن حالفه مع رسول الله ﷺ إلى الشعب، وفي هذا نظر والله أعلم.

وزعم: أن خروج جعفر بن أبي طالب إنما كان في الهجرة الثانية إليها.

وذلك بعد عود بعض من كان خرج أولا، حين بلغهم أن المشركين أسلموا وصلوا، فلما قدموا مكة - وكان فيمن قدم: عثمان بن مظعون - فلم يجدوا ما أخبروا به من إسلام المشركين صحيحا، فرجع من رجع منهم، ومكث آخرون بمكة.

وخرج آخرون من المسلمين إلى - أرض الحبشة، وهي الهجرة الثانية - كما سيأتي بيانه.

قال موسى بن عقبة: وكان جعفر بن أبي طالب فيمن خرج ثانيا.

وما ذكره ابن إسحاق من خروجه في الرعيل الأول أظهر، كما سيأتي بيانه والله أعلم.

لكنه كان في زمرة ثانية من المهاجرين أولا، وهو المقدم عليهم، والمترجم عنهم عند النجاشي، وغيره كما سنورده مبسوطا.

ثم إن ابن إسحاق سرد الخارجين صحبة جعفر رضي الله عنهم.

وهم: عمرو بن سعيد بن العاص، وامرأته فاطمة بنت صفوان بن أمية بن محرث بن حمل بن شق الكناني.

وأخوه خالد، وامرأته أمينة بنت خلف بن أسعد الخزاعي.

وولدت له بها سعيدا، وأمة التي تزوجها بعد ذلك الزبير، فولدت له عمرا وخالدا.

قال: وعبد الله بن جحش بن رئاب، وأخوه عبيد الله، ومعه امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان، وقيس بن عبد الله من بني أسد بن خزيمة، وامرأته بركة بنت يسار مولاة أبي سفيان، ومعيقيب بن أبي فاطمة، وهو من موالي سعيد بن العاص، قال ابن هشام: وهو من دوس.

قال: وأبو موسى الأشعري عبد الله بن قيس حليف آل عتبة بن ربيعة.

وسنتكلم معه في هذا.

وعتبة بن غزوان ويزيد بن زمعة بن الأسود، وعمرو بن أمية بن الحارث بن أسد، وطليب بن عمير بن وهب بن أبي كثير بن عبد بن قصي، وسويبط بن سعد بن حرملة، وجهم بن قيس العبدوي، ومعه امرأته أم حرملة بنت عبد الأسود بن خذيمة، وولداه عمرو بن جهم، وخزيمة بن جهم، وأبو الروم بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار.

وفراس بن النضر بن الحارث بن كلدة، وعامر بن أبي وقاص أخو سعد، والمطلب بن أزهر بن عبد عوف الزهري، وامرأته رملة بنت أبي عوف بن ضبيرة.

وولدت بها عبد الله، وعبد الله بن مسعود، وأخوه عتبة، والمقداد بن الأسود، والحارث بن خالد بن صخر التيمي، وامرأته ريطة بنت الحارث بن جبلة، وولدت له بها موسى، وعائشة، وزينب، وفاطمة، وعمرو بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد ابن تيم بن مرة..

وشماس بن عثمان بن الشريد المخزومي - قال: وإنما سمي شماسا لحسنه، وأصل اسمه عثمان بن عثمان - وهبار بن سفيان بن عبد الأسد المخزومي، وأخوه عبد الله، وهشام بن أبي حذيفة ابن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، وسلمة بن هشام بن المغيرة، وعياش بن أبي ربيعة ابن المغيرة.

ومعتب بن عوف بن عامر - ويقال له: عيهامة - وهو من حلفاء بني مخزوم.

قال: وقدامة وعبد الله أخوا عثمان بن مظعون، والسائب بن عثمان بن مظعون، وحاطب بن الحارث بن معمر، ومعه امرأته فاطمة بنت المجلل، وابناه منها محمد، والحارث، وأخوه خطاب، وامرأته فكيهه بنت يسار، وسفيان بن معمر بن حبيب، وامرأته حسنة، وابناه منها جابر، وجنادة، وابنها من غيره، وهو شرحبيل بن عبد الله - أحد الغوث بن مزاحم بن تميم - وهو الذي يقال له: شرحبيل ابن حسنة، وعثمان بن ربيعة بن أهبان بن وهب بن حذافة بن جمح.

وخنيس بن حذافة بن قيس بن عدي، وعبد الله بن الحارث بن قيس بن عدي بن سعيد بن سهم، وهشام بن العاص بن وائل بن سعيد، وقيس بن حذافة بن قيس بن عدي، وأخوه عبد الله، وأبو قيس ابن الحارث بن قيس بن عدي، وإخوته الحارث، ومعمر، والسائب، وبشر، وسعيد أبناء الحارث.

وسعيد بن قيس بن عدي لأمه وهو سعيد بن عمرو التميمي، وعمير بن رئاب بن حذيفة بن مهشم بن سعيد بن سهم، وحليف لبني سهم: وهو محمية بن جزء الزبيدي، ومعمر بن عبد الله العدوي، وعروة بن عبد العزى، وعدي بن نضلة بن عبد العزى، وابنه النعمان، وعبد الله بن مخرمة العامري.

وعبد الله ابن سهيل بن عمرو، وسليط بن عمرو، وأخوه السكران، ومعه زوجته سؤدة بنت زمعة، ومالك بن ربيعة، وامرأته عمرة بنت السعدى، وأبو حاطب بن عمرو العامري، وحليفهم سعد بن خولة - وهو من اليمن وأبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح الفهري، وسهيل بن بيضاء - وهي أمه، واسمها دعد بنت جحدم بن أمية بن ظرب بن الحارث بن فهر، وهو سهيل بن وهب بن ربيعة بن هلال بن ضبة بن الحارث، وعمرو بن أبي سرح بن ربيعة بن هلال بن مالك بن ضبة بن الحارث.

وعياض بن زهير بن أبي شداد بن ربيعة بن هلال بن مالك بن ضبة، وعمرو بن الحارث بن زهير ابن أبي شداد بن ربيعة، وعثمان بن عبد غنم بن زهير أخوات، وسعيد بن عبد قيس بن لقيط، وأخوه الحارث الفهريون.

قال ابن إسحاق: فكان جميع من لحق بأرض الحبشة وهاجر إليها من المسلمين سوى أبنائهم، الذين خرجوا بهم صغارا وولدوا بها ثلاثة وثمانون رجلا، إن كان عمار بن ياسر فيهم، وهو يشكُّ فيه..

قلت: وذكر ابن إسحاق أبا موسى الأشعري فيمن هاجر من مكة إلى أرض الحبشة غريب جدا.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، سمعت خديجا أخا زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن عتبة، عن ابن مسعود.

قال: بعثنا رسول الله ﷺ إلى النجاشي، ونحن نحوا من ثمانين رجلا، فيهم: عبد الله بن مسعود، وجعفر، وعبد الله بن عرفطة، وعثمان بن مظعون، وأبو موسى فأتوا النجاشي.

وبعثت قريش عمرو بن العاص، وعمارة بن الوليد بهدية، فلما دخلا على النجاشي سجدا له، ثم ابتدراه عن يمينه، وعن شماله ثم قالا له: إن نفرا من بني عمنا نزلوا أرضك، ورغبوا عنا وعن ملتنا.

قال: فأين هم؟

قالا: في أرضك، فابعث إليهم، فبعث إليهم

فقال جعفر: أنا خطيبكم اليوم فاتبعوه، فسلَّم ولم يسجد.

فقالوا له: مالك لا تسجد للملك؟

قال: إنا لا نسجد إلا لله عز وجل.

قال: وما ذاك؟

قال: إن الله بعث إلينا رسولا، ثم أمرنا أن لا نسجد لأحد إلا لله عز وجل، وأمرنا بالصلاة والزكاة.

قال عمرو: فإنهم يخالفونك في عيسى بن مريم.

قال: فما تقولون في عيسى بن مريم وأمه؟

قال: نقول كما قال الله: هو كلمته وروحه ألقاها إلى العذراء البتول، التي لم يمسها بشر، ولم يفرضها ولد.

قال: فرفع عودا من الأرض ثم قال: يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان، والله ما يزيدون على الذي نقول فيه ما سوى هذا، مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده، أشهد أنه رسول الله ﷺ.

وأنه الذي نجد في الإنجيل.

وأنه الرسول الذي بشَّر به عيسى بن مريم، أنزلوا حيث شئتم، والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا الذي أحمل نعليه.

وأمر بهدية الآخرين فردت إليهما، ثم تعجَّل عبد الله بن مسعود حتى أدرك بدرا.

وزعم: أن النبي ﷺ استغفر له حين بلغه موته.

وهذا إسناد جيد قوي، وسياق حسن.

وفيه ما يقتضي أن أبا موسى كان ممن هاجر من مكة إلى أرض الحبشة، إن لم يكن ذكره مدرجا من بعض الرواة والله أعلم..

وقد روى عن أبي إسحاق السبيعي من وجه آخر.

فقال الحافظ أبو نعيم في (الدلائل): حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا محمد بن زكريا الغلابي، حدثنا عبد الله بن رجاء، حدثنا إسرائيل.

وحدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا محمد بن زكريا، حدثنا الحسن بن علوية القطان، حدثنا عباد بن موسى الختلي، حدثنا إسماعيل بن جعفر، حدثنا إسرائيل.

وحدثنا أبو أحمد، حدثنا عبد الله بن محمد بن شيرويه، حدثنا إسحاق بن إبراهيم - هو ابن راهويه - حدثنا عبيد الله بن موسى، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبي موسى.

قال: أمرنا رسول الله ﷺ أن ننطلق مع جعفر بن أبي طالب إلى أرض النجاشي، فبلغ ذلك قريشا، فبعثوا عمرو بن العاص، وعمارة بن الوليد، وجمعوا للنجاشي هدية، وقدما على النجاشي فأتياه بالهدية، فقبلها، وسجدا له، ثم قال عمرو بن العاص: إن ناسا من أرضنا رغبوا عن ديننا، وهم في أرضك.

قال لهم النجاشي: في أرضي؟

قالا: نعم!

فبعث إلينا، فقال لنا جعفر: لا يتكلم منكم أحد.

أنا خطيبكم اليوم، فانتهينا إلى النجاشي، وهو جالس في مجلسه وعمرو بن العاص عن يمينه، وعمارة عن يساره، والقسيسون جلوس سماطين.

وقد قال له عمرو وعمارة: إنهم لا يسجدون لك.

فلما انتهينا، بدرنا من عنده من القسيسين والرهبان: اسجدوا للملك.

فقال جعفر: لا نسجد إلا لله عز وجل.

فلما انتهينا إلى النجاشي.

قال: ما منعك أن تسجد؟

قال: لا نسجد إلا لله.

فقال له النجاشي: وما ذاك؟

قال: إن الله بعث فينا رسولا - وهو الرسول الذي بشر به عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام من بعده، اسمه أحمد - فأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا، ونقيم الصلاة ونؤتي الزكاة، وأمرنا بالمعروف، ونهانا عن المنكر.

فأعجب النجاشي قوله، فلما رأى ذلك عمرو بن العاص، قال: أصلح الله الملك، إنهم يخالفونك في عيسى بن مريم.

فقال النجاشي لجعفر: ما يقول صاحبكم في ابن مريم.

قال: يقول فيه قول الله: هو روح الله وكلمته أخرجه من العذراء البتول، التي لم يقربها بشر، ولم يفرضها ولد.

فتناول النجاشي عودا من الأرض فرفعه فقال: يا معشر القسيسين، والرهبان، ما يزيدون هؤلاء على ما نقول في ابن مريم، ولا وزن هذه.

مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده، فأنا أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي بشَّر به عيسى.

ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أقبل نعليه، امكثوا في أرضي ما شئتم، وأمر لنا بطعام وكسوة.

وقال: ردوا على هذين هديتهما، وكان عمرو بن العاص رجلا قصيرا، وكان عمارة رجلا جميلا، وكانا أقبلا في البحر، فشربا ومع عمرو امرأته، فلما شربا

قال عمارة لعمرو: مر امرأتك فلتقبلني.

فقال له عمرو: ألا تستحي؟

فأخذ عمارة عمرا فرمى به في البحر، فجعل عمرو يناشد عمارة؛ حتى أدخله السفينة، فحقد عليه عمرو في ذلك..

فقال عمرو للنجاشي: إنك إذا خرجت خلفك عمارة في أهلك، فدعا النجاشي بعمارة، فنفخ في إحليله فطار مع الوحش.

وهكذا رواه الحافظ البيهقي في (الدلائل) من طريق أبي علي الحسن بن سلام السواق، عن عبيد الله بن موسى فذكر بإسناده مثله إلى قوله: فأمر لنا بطعام وكسوة.

قال: وهذا إسناد صحيح، وظاهره يدل على أن أبا موسى كان بمكة، وأنه خرج مع جعفر بن أبي طالب إلى أرض الحبشة.

والصحيح: عن يزيد بن عبد الله بن أبي بردة، عن جده أبي بردة، عن أبي موسى: أنهم بلغهم مخرج رسول الله ﷺ وهم باليمن، فخرجوا مهاجرين في بضع وخمسين رجلا في سفينة، فألقتهم سفينتهم إلى النجاشي بأرض الحبشة، فوافقوا جعفر بن أبي طالب، وأصحابه عندهم، فأمره جعفر بالإقامة، فأقاموا عنده حتى قدموا على رسول الله ﷺ زمن خيبر.

قال: وأبو موسى شهد ما جرى بين جعفر وبين النجاشي، فأخبر عنه.

قال: ولعل الراوي وهم في قوله: أمرنا رسول الله ﷺ أن ننطلق والله أعلم.

وهكذا رواه البخاري في باب هجرة الحبشة.

حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا أبو أسامة، حدثنا يزيد بن عبد الله، عن أبي بردة، عن أبي موسى.

قال: بلغنا مخرج النبي ﷺ ونحن باليمن، فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، فأقمنا معه حتى قدمنا فوافينا النبي ﷺ حين افتتح خيبر.

فقال النبي ﷺ: «لكم أنتم أهل السفينة هجرتان».

وهكذا رواه مسلم عن أبي كريب، وأبي عامر عبد الله بن براد بن يوسف بن أبي بردة بن أبي موسى كلاهما عن أبي أسامة به، وروياه في مواضع أُخر مطولا والله أعلم.

وأما قصة جعفر مع النجاشي فإن الحافظ ابن عساكر رواها في ترجمة جعفر بن أبي طالب من (تاريخه) من رواية نفسه، ومن رواية عمرو بن العاص.

وعلى يديهما جرى الحديث، ومن رواية ابن مسعود كما تقدم.

وأم سلمة كما سيأتي.

فأما رواية جعفر فإنها عزيزة جدا.

رواها ابن عساكر عن أبي القاسم السمرقندي، عن أبي الحسين بن النقور، عن أبي طاهر المخلص، عن أبي القاسم البغوي.

قال: حدثنا أبو عبد الرحمن الجعفي، عن عبد الله بن عمر بن أبان، حدثنا أسد بن عمرو البجلي، عن مجالد بن سعيد، عن الشعبي، عن عبد الله بن جعفر، عن أبيه.

قال: بعثت قريش عمرو بن العاص، وعمارة بن الوليد بهدية من أبي سفيان إلى النجاشي.

فقالوا له - ونحن عنده -: قد صار إليك ناس من سفلتنا، وسفهائنا، فادفعهم إلينا.

قال: لا حتى اسمع كلامهم.

قال: فبعث إلينا، فقال: ما يقول هؤلاء؟.

قال: قلنا هؤلاء قوم يعبدون الأوثان، وإن الله بعث إلينا رسولا فآمنا به وصدقناه.

فقال لهم النجاشي: أعبيد هم لكم؟

قالوا: لا.

فقال: فلكم عليهم دين؟.

قالوا: لا.

قال: فخلوا سبيلهم.

قال فخرجنا من عنده.

فقال عمرو بن العاص: إن هؤلاء يقولون في عيسى غير ما تقول.

قال: إن لم يقولوا في عيسى مثل قولي لم أدعهم في أرضي ساعة من نهار.

فأرسل إلينا، فكانت الدعوة الثانية أشد علينا من الأولى

قال: ما يقول صاحبكم في عيسى بن مريم.

قلنا: يقول هو روح الله وكلمته ألقاها إلى عذراء بتول

قال: فأرسل.

فقال: ادعوا لي فلان القس، وفلان الراهب، فأتاه ناس منهم.

فقال: ما تقولون في عيسى بن مريم؟

فقالوا: أنت أعلمنا! فما تقول؟

قال النجاشي: - وأخذ شيئا من الأرض - قال: ما عدا عيسى ما قال هؤلاء مثل هذا، ثم قال: أيؤذيكم أحدا؟

قالوا: نعم!.

فنادى مناد: من آذى أحدا منهم فاغرموه أربعة دراهم

ثم قال: أيكفيكم؟

قلنا: لا، فأضعفها.

قال: فلما هاجر رسول الله ﷺ إلى المدينة، وظهر بها لنا له: إن رسول الله ﷺ قد ظهر، وهاجر إلى المدينة، وقتل الذين كنا حدثناك عنهم، وقد أردنا الرحيل إليه، فردنا.

قال: نعم!.

فحملنا، وزودنا.

ثم قال: أخبر صاحبك بما صنعت إليكم، وهذا صاحبي معكم، أشهد أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله، وقل له: يستغفر لي.

قال جعفر: فخرجنا حتى أتينا المدينة، فتلقاني رسول الله ﷺ، واعتنقني، ثم قال: «ما أدري أنا بفتح خيبر أفرح أم بقدوم جعفر؟»

ووافق ذلك فتح خيبر، ثم جلس فقال رسول النجاشي: هذا جعفر فسله ما صنع به صاحبنا؟

فقال: نعم فعل بنا كذا وكذا وحملنا وزودنا، وشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.

وقال لي: قل له يستغفر لي، فقام رسول الله ﷺ فتوضأ، ثم دعا ثلاث مرات «اللهم اغفر للنجاشي».

فقال المسلمون: آمين.

ثم قال جعفر للرسول: انطلق فأخبر صاحبك بما رأيت من رسول الله ﷺ.

ثم قال ابن عساكر: حسن غريب.

وأما رواية أم سلمة فقد قال يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، حدثني الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن حارث بن هشام، عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت:.

لما ضاقت مكة، وأوذي أصحاب رسول الله ﷺ، وفتنوا، ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأن رسول الله ﷺ لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله ﷺ في منعة من قومه، ومن عمه، لا يصل إليه شيء مما يكره، ومما ينال أصحابه

فقال لهم رسول الله ﷺ: «إن بأرض الحبشة ملكا لا يظلم أحد عنده فألحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجا ومخرجا مما أنتم فيه».

فخرجنا إليها إرسالا حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دار إلى خير جار آمنين على ديننا، ولم نخش فيها ظلما، فلما رأت قريش أنا قد أصبنا دارا وأمنا، غاروا منا، فاجتمعوا على أن يبعثوا إلى النجاشي فينا ليخرجونا من بلاده، وليردنا عليهم، فبعثوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة، فجمعوا له هدايا ولبطارقته، فلم يدعوا منهم رجلا إلا هيئوا له هدية على حدة.

وقالوا لهما: ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تتكلموا فيهم، ثم ادفعوا إليه هداياه، فإن استطعتم أن يردهم عليكم قبل أن يكلمهم فافعلوا.

فقدما عليه فلم يبق بطريق من بطارقته إلا قدموا إليه هديته، فكلموه فقالوا له: إنما قدمنا على هذا الملك في سفهائنا، فارقوا أقوامهم في دينهم ولم يدخلوا في دينكم.

فبعثنا قومهم ليردهم الملك عليهم، فإذا نحن كلمناه فأشيروا عليه بأن يفعل فقالوا: نفعل، ثم قدَّموا إلى النجاشي هداياه، وكان من أحب ما يهدون إليه من مكة الأدم - وذكر موسى بن عقبة: أنهم أهدوا إليه فرسا، وجبة ديباج - فلما أدخلوا عليه هداياه.

قالوا له: أيها الملك إن فتية منا سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك وجاؤا بدين مبتدع لا نعرفه، وقد لجئوا إلى بلادك، وقد بعثنا إليك فيهم عشائرهم، آباؤهم وأعمامهم وقومهم لتردهم عليهم، فإنهم أعلا بهم عينا، فإنهم لن يدخلوا في دينك فتمنعهم لذلك.

فغضب ثم قال: لا لعمر الله! لا أردهم عليهم حتى أدعوهم، فأكلمهم وأنظر ما أمرهم، قوم لجئوا إلى بلادي واختاروا جواري على جوار غيري فإن كانوا كما يقولون رددتهم عليهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم، ولم أدخل بينهم وبينهم، ولم أنعم عينا وذكر موسى بن عقبة أن أمراءه أشاروا عليه بأن يردهم إليهم.

فقال: لا والله!حتى أسمع كلامهم وأعلم على أي شيء هم عليه؟

فلما دخلوا عليه سلموا ولم يسجدوا له.

فقال: أيها الرهط ألا تحدثوني ما لكم لا تحيوني كما يحييني من أتانا من قومكم؟.

فأخبروني ماذا تقولون في عيسى وما دينكم؟أنصارى أنتم؟

قالوا: لا.

قال: أفيهود أنتم؟

قالوا: لا.

قال: فعلى دين قومكم؟

قالوا: لا.

قال: فما دينكم؟

قالوا: الإسلام.

قال: وما الإسلام؟

قالوا: نعبد الله لا نشرك به شيئا.

قال: من جاءكم بهذا؟.

قالوا: جاءنا به رجل من أنفسنا، قد عرفنا وجهه ونسبه، بعثه الله إلينا كما بعث الرسل إلى من قبلنا، فأمرنا بالبر والصدقة والوفاء وأداء الأمانة، ونهانا أن نعبد الأوثان وأمرنا بعبادة الله وحده لا شريك له، فصدقناه، وعرفنا كلام الله، وعلمنا أن الذي جاء به من عند الله فلما فعلنا ذلك عادانا قومنا، وعادوا النبي الصادق وكذبوه وأرادوا قتله، وأرادونا على عبادة الأوثان، ففررنا إليك بديننا ودمائنا من قومنا.

قال: والله إن هذا لمن المشكاة التي خرج منها أمر موسى.

قال جعفر: وأما التحية فإن رسول الله ﷺ أخبرنا أن تحية أهل الجنة السلام، وأمرنا بذلك فحييناك بالذي يحيي بعضنا بعضا.

وأما عيسى بن مريم: فعبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وابن العذراء البتول.

فأخذ عودا وقال: والله ما زاد ابن مريم على هذا وزن هذا العود.

فقال عظماء الحبشة: والله لئن سمعت الحبشة لتخلعنك.

فقال: والله لا أقول في عيسى غير هذا أبدا، وما أطاع الله الناس في حين ردَّ علي ملكي فأطع الناس في دين الله. معاذ الله من ذلك.

وقال يونس عن ابن إسحاق: فأرسل إليهم النجاشي فجمعهم ولم يكن شيء أبغض لعمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة من أن يسمع كلامهم.

فلما جاءهم رسول النجاشي اجتمع القوم فقالوا: ماذا تقولون؟

فقالوا: وماذا نقول، نقول والله ما نعرف.

وما نحن عليه من أمر ديننا، وما جاء به نبينا ﷺ كائن من ذلك ما كان، فلما دخلوا عليه كان الذي يكلمه منهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه.

فقال له النجاشي: ما هذا الدين الذي أنتم عليه؟ فارقتم دين قومكم ولم تدخلوا في يهودية، ولا نصرانية.

فقال له جعفر: أيها الملك كنا قوما على الشرك ونعبد الأوثان ونأكل الميتة ونسيء الجوار يستحل المحارم بعضنا من بعض في سفك الدماء وغيرها، لا نحل شيئا ولا نحرمه.

فبعث الله إلينا نبيا من أنفسنا نعرف وفاءه وصدقه وأمانته فدعانا إلى أن نعبد الله وحده لا شريك له ونصل الأرحام ونحمى الجوار ونصلي لله عز وجل ونصوم له، ولا نعبد غيره.

وقال زياد عن ابن إسحاق: فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الأرحام وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة، والزكاة والصيام.

قال: فعدوا عليه أمور الإسلام فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من عند الله، فعبدنا الله وحده لا شريك له ولم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا ليفتنونا عن ديننا ويردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك.

قالت: فقال له النجاشي: هل معك شي مما جاء به عن الله؟ وقد دعا أساقفته فأمرهم فنشروا المصاحف حوله.

فقال له جعفر: نعم.

قال: هلم فاتل علي مما جاء به، فقرأ عليه صدرا من كهيعص فبكى والله النجاشي حتى أخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم.

ثم قال لهم: إن هذا الكلام ليخرج من المشكاة التي جاء بها موسى، انطلقوا راشدين لا والله لا أردهم عليكم ولا أنعمكم عينا.

فخرجنا من عنده وكان أتقى الرجلين فينا عبد الله بن أبي ربيعة.

فقال عمرو بن العاص: والله لآتينه غدا بما استأصل به خضراءهم، ولأخبرنه أنهم يزعمون أن إلهه الذي يعبد عيسى بن مريم عبد.

فقال له عبد الله بن أبي ربيعة: لا تفعل فإنهم وإن كانوا خالفونا فإن له رحما ولهم حقا.

فقال: والله لأفعلن! فلما كان الغد دخل عليه فقال: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى قولا عظيما، فأرسل إليهم فسلهم عنه فبعث والله إليهم ولم ينزل بنا مثلها.

فقال بعضنا لبعض: ماذا تقولون له في عيسى إن هو يسألكم عنه؟

فقالوا: نقول والله الذي قاله الله فيه، والذي أمرنا نبينا أن نقوله فيه فدخلوا عليه وعنده بطارقته فقال: ما تقولون في عيسى بن مريم؟

فقال له جعفر: نقول هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.

فدلى النجاشي يده إلى الأرض فأخذ عودا بين أصبعيه فقال: ما عدا عيسى بن مريم مما قلت هذا العويد.

فتناخرت بطارقته.

فقال: وإن تناخرتم والله! اذهبوا فأنتم سيوم في الأرض - السيوم الآمنون في الأرض ومن سبكم غرم، من سبكم غرم، من سبكم غرم، ثلاثا ما أحب أن لي دبرا وإني آذيت رجلا منكم - والدبر بلسانهم: الذهب.

وقال زياد: عن ابن إسحاق: ما أحب أن لي دبرا من ذهب.

قال ابن هشام: ويقال زبرا وهو الجبل بلغتهم.

ثم قال النجاشي: فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين ردَّ علي ملكي، ولا أطاع الناس في فأطيع الناس فيه.

ردُّوا عليهما هداياهم فلا حاجة لي بها.

واخرجا من بلادي فخرجا مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به.

قالت: فأقمنا مع خير جار في خير دار، فلم نشب أن خرج عليه رجل من الحبشة ينازعه في ملكه..

فوالله ما علمنا حزنا حزنا قط هو أشد منه، فرقا من أن يظهر ذلك الملك عليه فيأتي ملك لا يعرف من حقنا ما كان يعرفه، فجعلنا ندعو الله ونستنصره للنجاشي فخرج إليه سائرا فقال أصحاب رسول الله ﷺ بعضهم لبعض: من يخرج فيحضر الوقعة حتى ينظر على من تكون؟

وقال الزبير - وكان من أحدثهم سنا - أنا، فنفخوا له قربة فجعلها في صدره، فجعل يسبح عليها في النيل حتى خرج من شقه الآخر إلى حيث التقى الناس فحضر الوقعة فهزم الله ذلك الملك وقتله، وظهر النجاشي عليه.

فجائا الزبير فجعل يليح لنا بردائه ويقول: ألا فأبشروا، فقد أظهر الله النجاشي.

قلت: فوالله ما علمنا أننا فرحنا بشيء قط فرحنا بظهور النجاشي، ثم أقمنا عنده حتى خرج من خرج منا إلى مكة وأقام من أقام.

قال الزهري: فحدثت هذا الحديث عروة بن الزبير عن أم سلمة.

فقال عروة: أتدري ما قوله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه، ولا أطاع الناس في فأطيع الناس فيه؟

فقلت: لا! ما حدثني ذلك أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن أم سلمة.

فقال عروة: فإن عائشة حدثتني أن أباه كان ملك قومه، وكان له أخ له من صلبه اثنا عشر رجلا ولم يكن لأب النجاشي ولد غير النجاشي، فأدارت الحبشة رأيها بينها، فقالوا: لو أنا قتلنا أبا النجاشي وملكنا أخاه فإن له اثنا عشر رجلا من صلبه فتوارثوا الملك، لبقيت الحبشة عليهم دهرا طويلا لا يكون بينهم اختلاف، فعدوا عليه فقتلوه وملَّكوا أخاه.

فدخل النجاشي بعمه حتى غلب عليه فلا يدبر أمره غيره، وكان لبيبا حازما من الرجال، فلما رأت الحبشة مكانه من عمه قالوا: قد غلب هذا الغلام على أمر عمه فما نأمن أن يملكه علينا وقد عرف أنا قتلنا أباه، فلئن فعل لم يدع منا شريفا إلا قتله، فكلموه فيه فليقتله أو ليخرجنه من بلادنا، فمشوا إلى عمه فقالوا: قد رأينا مكان هذا الفتى منك وقد عرفت أنا قتلنا أباه وجعلناك مكانه وإنا لا نأمن أن يملك علينا فيقتلنا، فأما أن تقتله وإما أن تخرجه من بلادنا.

قال: ويحكم قتلتم أباه بالأمس وأقتله اليوم، بل أخرجه من بلادكم.

فخرجوا به فوقفوه في السوق وباعوه من التجار قذفه في سفينة بستمائة درهم أو بسبعمائة فانطلق به، فلما كان العشي هاجت سحابة من سحائب الخريف فخرج عمه يتمطر تحتها فأصابته صاعقة فقتلته، ففزعوا إلى ولده فإذا هم محمقون ليس في أحد منهم خير فمرج على الحبشة أمرهم..

فقال بعضهم لبعض: تعلمون والله أن ملككم الذي لا يصلح أمركم غيره للذي بعتم الغداة، فإن كان لكم بأمر الحبشة حاجة فأدركوه قبل أن يذهب، فخرجوا في طلبه فأدركوه فردوه فعقدوا عليه تاجه وأجلسوه على سريره وملكوه، فقال التاجر: ردوا علي مالي كما أخذتم مني غلامي، فقالوا: لا نعطيك.

فقال: إذا والله لأكلمنه، فمشى إليه فكلمه فقال: أيها الملك، إني ابتعت غلاما فقبض مني الذي باعوه ثمنه، ثم عدوا على غلامي فنزعوه من يدي ولم يردوا علي مالي، فكان أول ما خبر به من صلابة حكمه وعدله أن قال: لتردن عليه ماله، أو لتجعلن يد غلامه في يده فليذهبن به حيث شاء.

فقالوا: بل نعطيه ماله فأعطوه إياه، فلذلك يقول: ما أخذ الله مني الرشوة فآخذ الرشوة حين ردَّ علي ملكي، وما أطاع الناس في فأطيع الناس فيه.

وقال موسى بن عقبة: كان أبو النجاشي ملك الحبشة، فمات والنجاشي غلام صغير، فأوصى إلى أخيه أن إليك ملك قومك حتى يبلغ ابني، فإذا بلغ فله الملك، فرغب أخوه في الملك فباع النجاشي من بعض التجار، فمات عمه من ليلته وقضى، فردت الحبشة النجاشي حتى وضعوا التاج على رأسه، هكذا ذكره مختصرا، وسياق ابن إسحاق أحسن وأبسط فالله أعلم.

والذي وقع في سياق ابن إسحاق إنما هو ذكر عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة، والذي ذكره موسى بن عقبة والأموي وغير واحد أنهما عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بن المغيرة وهو أحد السبعة الذين دعا عليهم رسول الله ﷺ حين تضاحكوا يوم وضع سلا الجزور على ظهره ﷺ وهو ساجد عند الكعبة.

وهكذا تقدم في حديث ابن مسعود وأبي موسى الأشعري.

والمقصود: أنهما حين خرجا من مكة كانت زوجة عمرو معه، وعمارة كان شابا حسنا فاصطحبا في السفينة وكان عمارة طمع في امرأة عمرو بن العاص، فألقى عمرا في البحر ليهلكه فسبح حتى رجع إليها.

فقال له عمارة: لو أعلم أنك تحسن السباحة لما ألقيتك، فحقد عمرو عليه فلما لم يقض لهما حاجة في المهاجرين من النجاشي، وكان عمارة قد توصل إلى بعض أهل النجاشي فوشى به عمرو فأمر به النجاشي فسحر حتى ذهب عقله وساح في البرية مع الوحوش.

وقد ذكر الأموي - قصة مطولة جدا - وأنه عاش إلى زمن أمارة عمر بن الخطاب، وأنه تقصده بعض الصحابة ومسكه فجعل يقول: أرسلني أرسلني وإلا مت، فلما لم يرسله مات من ساعته فالله أعلم.

وقد قيل: أن قريشا بعثت إلى النجاشي في أمر المهاجرين مرتين:

الأول: مع عمرو بن العاص وعمارة.

والثانية: مع عمرو وعبد الله بن أبي ربيعة.

نص عليه أبو نعيم في (الدلائل) والله أعلم.

وقد قيل: إن البعثة الثانية كانت بعد وقعة بدر قاله الزهري، لينالوا ممن هناك ثأرا فلم يجبهم النجاشي رضي الله عنه وأرضاه إلى شيء مما سألوا فالله أعلم.

وقد ذكر زياد، عن ابن إسحاق: أن أبا طالب لما رأى ذلك من صنيع قريش كتب إلى النجاشي أبياتا يحضه فيها على العدل وعلى الإحسان إلى من نزل عنده من قومه:

ألا ليت شعري كيف في النأي جعفر * وعمرو وأعداء العدو الأقارب

وما نالت أفعال النجاشي جعفرا * وأصحابه أو عاق ذلك شاغب

ونعلم، أبيت اللعن أنك ماجد * كريم فلا يشقى إليك المجانب

ونعلم بأن الله زادك بسطة * وأسباب خير كلها بك لازب

وقال يونس: عن ابن إسحاق: حدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير قال: إنما كان يكلم النجاشي عثمان بن عفان رضي الله عنه، والمشهور: أن جعفرا هو المترجم رضي الله عنهم.

وقال زياد البكائي: عن ابن إسحاق: حدثني يزيد بن رومان، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما مات النجاشي كان يتحدث أنه لا يزال يُرى على قبره نور.

ورواه أبو داود، عن محمد بن عمرو الرازي، عن سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق به: لما مات النجاشي رضي الله عنه كنا نتحدث أنه لا يزال يُرى على قبره نور.

وقال زياد: عن محمد بن إسحاق: حدثني جعفر بن محمد، عن أبيه.

قال: اجتمعت الحبشة فقالوا للنجاشي: إنك فارقت ديننا، وخرجوا عليه، فأرسل إلى جعفر وأصحابه فهيأ لهم سفنا.

وقال: اركبوا فيها وكونوا كما أنتم، فإن هزمت فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم، وإن ظفرت فاثبتوا.

ثم عمد إلى كتاب فكتب فيه: هو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، ويشهد أن عيسى عبده ورسوله وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم، ثم جعله في قبائه عند المنكب الأيمن، وخرج إلى الحبشة وصفوا له.

فقال: يا معشر الحبشة ألست أحق الناس بكم؟

قالوا: بلى!

قال: فكيف أنتم بسيرتي فيكم؟

قالوا: خير سيرة.

قال: فما بكم؟

قالوا: فارقت ديننا، وزعمت: أن عيسى عبده ورسوله.

قال: فما تقولون أنتم في عيسى؟

قالوا: نقول: هو ابن الله..

فقال النجاشي - ووضع يده على صدره على قبائه -: وهو يشهد أن عيسى بن مريم لم يزد على هذا، وإنما يعني على ما كتب فرضوا وانصرفوا.

فبلغ رسول الله ﷺ، فلما مات النجاشي صلى عليه واستغفر له.

وقد ثبت في (الصحيحين) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله ﷺ نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكـَّبر أربع تكبيرات.

وقال البخاري: موت النجاشي: حدثنا أبو الربيع، حدثنا ابن عيينة، عن ابن جريج، عن عطاء، عن جابر قال: قال رسول الله ﷺ - حين مات النجاشي -: «مات اليوم رجل صالح، فقوموا فصلوا على أخيكم أصحمة».

وروى ذلك من حديث أنس بن مالك، وابن مسعود وغير واحد، وفي بعض الروايات تسميته أصحمة، وفي رواية مصحمة وهو أصحمة بن بحر، وكان عبدا صالحا لبيبا زكيا، وكان عادلا عالما رضي الله عنه وأرضاه.

وقال يونس عن ابن إسحاق: اسم النجاشي مصحمة وفي نسخة صححها البيهقي: أصحم - وهو بالعربية -: عطية.

قال: وإنما النجاشي اسم الملك: كقولك: كسرى، هرقل.

قلت: كذا ولعله يريد به قيصر، فإنه علم لكل من ملك الشام مع الجزيرة من بلاد الروم، وكسرى علم على من ملك الفرس، وفرعون علم لمن ملك مصر كافة، والمقوقس لمن ملك الإسكندرية وتبع لمن ملك اليمن والشحر، والنجاشي لمن ملك الحبشة، وبطليموس لمن ملك اليونان وقيل: الهند وخاقان لمن ملك الترك.

وقال بعض العلماء: إنما صلى عليه لأنه كان يكتم إيمانه من قومه، فلم يكن عنده يوم مات من يصلي عليه فلهذا صلى عليه ﷺ.

قالوا: فالغايب إن كان قد صلي عليه ببلده لا تشرع الصلاة عليه ببلد أخرى، ولهذا لم يصل النبي ﷺ في غير المدينة، لا أهل مكة ولا غيرهم، وهكذا أبو بكر وعمر وعثمان وغيرهم من الصحابة لم ينقل أنه صلى على أحد منهم في غير البلدة التي صلى عليه فيها، فالله أعلم.

قلت: وشهود أبي هريرة رضي الله عنه الصلاة على النجاشي، دليل على أنه إنما مات بعد فتح خيبر التي قدم بقية المهاجرين إلى الحبشة مع جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه يوم فتح خيبر، ولهذا روى أن النبي ﷺ قال: «والله ما أدري بأيهما أنا أسر بفتح خيبر أم بقدوم جعفر بن أبي طالب».

وقدموا معهم بهدايا وتحف من عند النجاشي رضي الله عنه إلى النبي ﷺ وصحبتهم أهل السفينة اليمنية أصحاب أبي موسى الأشعري وقومه من الأشعريين رضي الله عنهم، ومع جعفر وهدايا النجاشي ابن أخي النجاشي: ذونخترا أو ذومخمرا أرسله ليخدم النبي ﷺ عوضا عن عمه رضي الله عنهما وأرضاهما.

وقال السهيلي: توفي النجاشي في رجب سنة تسع من الهجرة، وفي هذا نظر والله أعلم.

وقال البيهقي: أنبأنا الفقيه أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الطوسي، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا هلال بن العلاء الرقي، حدثنا أبي العلاء بن مدرك، حدثنا أبو هلال بن العلاء، عن أبيه، عن أبي غالب، عن أبي أمامة قال: قدم وفد النجاشي على رسول الله ﷺ فقام يخدمهم، فقال أصحابه: نحن نكفيك يا رسول الله.

فقال: «إنهم كانوا لأصحابي مكرمين وإني أحب أن أكافيهم».

ثم قال: وأخبرنا أبو محمد عبد الله بن يوسف الأصبهاني: أنبأنا أبو سعيد بن الأعرابي، حدثنا هلال بن العلاء، حدثنا أبي، حدثنا طلحة بن زيد، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي قتادة قال: قدم وفد النجاشي على رسول الله ﷺ فقام رسول الله ﷺ يخدمهم، فقال أصحابه: نحن نكفيك يا رسول الله.

فقال: «إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين وإني أحب أن أكافيهم».

تفرد به طلحة بن زيد عن الأوزاعي.

وقال البيهقي: حدثنا أبو الحسين بن بشران، حدثنا أبو عمرو بن السماك، حدثنا حنبل بن إسحاق، حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا عمرو قال: لما قدم عمرو بن العاص من أرض الحبشة جلس في بيته فلم يخرج إليهم، فقالوا: ما شأنه ماله لا يخرج؟

فقال عمرو: إن أصحمة يزعم أن صاحبكم نبي.

قال ابن إسحاق: ولما قدم عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة على قريش، ولم يدركوا ما طلبوا من أصحاب رسول الله ﷺ، وردَّهم النجاشي بما يكرهون، وأسلم عمر بن الخطاب وكان رجلا ذا شكيمة لا يرام ما وراء ظهره امتنع به أصحاب رسول الله ﷺ وبحمزة حتى غاظوا قريشا، فكان عبد الله بن مسعود يقول:

ما كنا نقدر على أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم عمر قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه.

قلت: وثبت في (صحيح البخاري) عن ابن مسعود أنه قال: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر بن الخطاب.

وقال زياد البكائي: حدثني مسعر بن كدام عن سعد بن إبراهيم قال: قال ابن مسعود: إن إسلام عمر كان فتحا، وإن هجرته كانت نصرا، وإن إمارته كانت رحمة، ولقد كنا وما نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم عمر قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه.

قال ابن إسحاق: وكان إسلام عمر بعد خروج من خرج من أصحاب رسول الله ﷺ إلى الحبشة.

قال ابن إسحاق: حدثني عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة، عن عبد العزيز بن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أمه أم عبد الله بنت أبي حثمة قالت: والله إنا لنترحل إلى أرض الحبشة وقد ذهب عامر في بعض حاجتنا، إذ أقبل عمر فوقف علي وهو على شركه، فقالت: وكنا نلقى منه أذى لنا وشدة علينا، قالت: فقال: إنه الانطلاق يا أم عبد الله؟

قلت: نعم! والله لنخرجن في أرض من أرض الله إذ آذيتمونا وقهرتمونا؟ حتى يجعل الله لنا مخرجا.

قالت: فقال: صحبكم الله، ورأيت له رقة لم أكن أراها، ثم انصرف وقد أحزنه - فيما أرى -خروجنا.

قالت: فجاء عامر بحاجتنا تلك، فقلت له: يا أبا عبد الله لو رأيت عمر آنفا ورقته وحزنه علينا.

قال: أطمعت في إسلامه؟

قالت: قلت: نعم!

قال: لا يسلم الذي رأيت حتى يسلم حمار الخطاب.

قالت: يأسا منه لما كان يرى من غلظته وقسوته على الإسلام.

قلت: هذا يردُّ قول من زعم أنه كان تمام الأربعين من المسلمين؛ فإن المهاجرين إلى الحبشة كانوا فوق الثمانين اللهم إلا أن يقال: إنه كان تمام الأربعين بعد خروج المهاجرين.

ويؤيد هذا ما ذكره ابن إسحاق ههنا في قصة إسلام عمر وحده رضي الله عنه، وسياقها فإنه قال: وكان إسلام عمر فيما بلغني أن أخته فاطمة بنت الخطاب وكانت عند سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل كانت قد أسلمت، وأسلم زوجها سعيد بن زيد وهم مستخفون بإسلامهم من عمر.

وكان نعيم بن عبد الله النحام رجل من بني عدي قد أسلم أيضا، مستخفيا بإسلامه فرقا من قومه، وكان خباب بن الأرت يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب يقرئها القرآن، فخرج عمر يوما متوشحا سيفه يريد رسول الله ﷺ ورهطا من أصحابه فذكروا له أنهم قد اجتمعوا في بيت عند الصفا، وهم قريب من أربعين من بين رجال ونساء ومع رسول الله ﷺ عمه حمزة، وأبو بكر بن أبي قحافة الصديق، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم، في رجال من المسلمين ممن كان أقام مع رسول الله ﷺ بمكة، ولم يخرج فيمن خرج إلى أرض الحبشة.

فلقيه نعيم بن عبد الله فقال: أين تريد يا عمر؟

قال: أريد محمدا هذا الصابي الذي فرق أمر قريش، وسفَّه أحلامها، وعاب دينها، وسبَّ آلهتها فأقتله.

فقال له نعيم: والله لقد غرتك نفسك يا عمر، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدا؟ أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم.

قال: وأي أهل بيتي؟

قال: ختنك وابن عمك سعيد بن زيد، وأختك فاطمة فقد والله أسلما وتابعا محمدا ﷺ على دينه، فعليك بهما، فرجع عمر عائدا إلى أخته فاطمة وعندها خباب بن الأرت معه صحيفة فيها (طه) يقريها إياها، فلما سمعوا حس عمر تغيب خباب في مخدع لهم - أو في بعض البيت - وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها، وقد سمع عمر حين دنا إلى الباب قراءة خباب عليها، فلما دخل قال: ما هذه الهينمة التي سمعت؟

قالا له: ما سمعت شيئا.

قال: بلى، والله لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدا على دينه، وبطش بختنه سعيد بن زيد.

فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها فضربها فشجها، فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه: نعم قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله فاصنع ما بدا لك، فلما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع وارعوى، وقال لأخته: أعطيني هذه الصحيفة التي كنتم تقرؤن آنفا أنظر ما هذا الذي جاء به محمدا؟ وكان عمر كاتبا، فلما قال ذلك قالت له أخته: إنا نخشاك عليها.

قال: لا تخافي، وحلف لها بآلهته ليردنها إذا قرأها إليها، فلما قال ذلك طمعت في إسلامه فقالت: يا أخي إنك نجْس، على شركك، وإنه لا يمسَّه إلا المطهرون.

فقام عمر فاغتسل فأعطته الصحيفة وفيها (طه) فقرأها فلما قرأ منها صدرا قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه.

فلما سمع ذلك خباب بن الأرت خرج إليه فقال له: والله يا عمر إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه ﷺ؛ فإني سمعته أمس وهو يقول: «اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب» فالله الله يا عمر.

فقال له عند ذلك: فدلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم.

فقال له خباب: هو في بيت عند الصفا، معه نفر من أصحابه، فأخذ عمر سيفه فتوشحه، ثم عمد إلى رسول الله ﷺ وأصحابه، فضرب عليهم الباب فلما سمعوا صوته قام رجل من أصحاب رسول الله ﷺ فنظر من خلل الباب؛ فإذا هو بعمر متوشح بالسيف، فرجع إلى رسول الله ﷺ وهو فزع فقال: يا رسول الله هذا عمر بن الخطاب متوشحا بالسيف.

فقال حمزة: فائذن له، فإن كان جاء يريد خيرا بذلناه، وإن كان يريد شرا قتلناه بسيفه.

فقال رسول الله ﷺ: «ايذن له». فأذن له الرجل ونهض إليه رسول الله ﷺ حتى لقيه في الحجرة، فأخذ بحجزته أو بمجمع ردائه ثم جذبه جذبة شديدة فقال: «ما جاء بك يا ابن الخطاب؟ فوالله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة».

فقال عمر: يا رسول الله جئتك لأومن بالله ورسوله، وبما جاء من عند الله.

قال: فكبر رسول الله ﷺ تكبيرة فعرف أهل البيت أن عمر قد أسلم، فتفرق أصحاب رسول الله ﷺ من مكانهم، وقد عزوا في أنفسهم حين أسلم عمر مع إسلام حمزة، وعلموا أنهما سيمنعان رسول الله ﷺ، وينتصفون بهما من عدوهم.

قال ابن إسحاق: فهذا حديث الرواة من أهل المدينة عن إسلام عمر حين أسلم رضي الله عنه.

قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي نجيح المكي، عن أصحابه: عطاء، ومجاهد، وعمن روى ذلك أن إسلام عمر فيما تحدثوا به عنه أنه كان يقول: كنت للإسلام مباعدا، وكنت صاحب خمر في الجاهلية أحبها وأشربها.

وكان لنا مجلس يجتمع فيه رجال من قريش بالحزورة، فخرجت ليلة أريد جلسائي أولئك فلم أجد فيه منهم أحدا، فقلت: لو أني جئت فلانا الخمار لعلي أجد عنده خمرا فأشرب منها، فخرجت فجئته فلم أجده قال: فقلت: لو أني جئت الكعبة فطفت سبعا أو سبعين.

قال: فجئت المسجد؛ فإذا رسول الله ﷺ قائم يصلي، وكان إذا صلى استقبل الشام، وجعل الكعبة بينه وبين الشام، وكان مصلاه بين الركنين الأسود واليماني.

قال: فقلت حين رأيته: والله لو أني استمعت لمحمد الليلة حتى أسمع ما يقول، فقلت: لئن دنوت منه لأستمع منه لأروعنه، فجئت من قبل الحجر فدخلت تحت ثيابها، فجعلت أمشي رويدا ورسول الله ﷺ قائم يصلي يقرأ القرآن، حتى قمت في قبلته مستقبله ما بيني وبينه إلا ثياب الكعبة.

قال: فلما سمعت القرآن رق له قلبي وبكيت ودخلني الإسلام، فلم أزل في مكاني قائما حتى قضى رسول الله ﷺ صلاته، ثم انصرف، وكان إذا انصرف خرج على دار ابن أبي حسين - وكان مسكنه في الدار الرقطاء التي كانت بيد معاوية -.

قال عمر: فتبعته حتى إذا دخل بين دار عباس، ودار ابن أزهر أدركته، فلما سمع حسي عرفني فظن أني إنما اتبعته لأوذيه، فنهمني ثم قال: ما جاء بك يا ابن الخطاب هذه الساعة؟

قال: قلت جئت لأومن بالله وبرسوله وبما جاء من عند الله.

قال: فحمد الله رسول الله ﷺ ثم قال: «قد هداك الله يا عمر» ثم مسح صدري، ودعا لي بالثبات، ثم انصرفت ودخل رسول الله ﷺ بيته.

قال ابن إسحاق: فالله أعلم أي ذلك كان.

قلت: وقد استقصيت كيفية إسلام عمر رضي الله عنه وما ورد في ذلك من الأحاديث والآثار مطولا في أول سيرته التي أفردتها على حدة، ولله الحمد والمنة.

قال ابن إسحاق: وحدثني نافع مولى ابن عمر، عن ابن عمر قال: لما أسلم عمر قال: أي قريش أنقل للحديث؟

فقيل له: جميل بن معمر الجمحي فغدا عليه.

قال عبد الله بن عمر: وغدوت أتبع أثره وأنظر ما يفعل - وأنا غلام أعقل كما رأيت - حتى جاءه فقال له: أعلمت يا جميل أني أسلمت، ودخلت في دين محمد ﷺ؟

قال: فوالله ما راجعه حتى قام يجر رداءه واتبعه عمر، واتبعته أنا حتى قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش - وهم في أنديتهم حول الكعبة - ألا إن ابن الخطاب قد صبا.

قال: يقول عمر من خلفه: كذب ولكني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وثاروا إليه فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رؤوسهم.

قال: وطلح فقعد وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم فأحلف بالله أن لو قد كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا..

قال: فبينما هم على ذلك إذ أقبل شيخ من قريش عليه حلة حبرة وقميص موشى حتى وقف عليهم، فقال: ما شأنكم؟

فقالوا: صبأ عمر.

قال: فمه؟ رجل اختار لنفسه أمرا فماذا تريدون؟ أترون بني عدي يسلمون لكم صاحبهم هكذا؟ خلوا عن الرجل.

قال: فوالله لكأنما كانوا ثوبا كشط عنه.

قال: فقلت لأبي بعد أن هاجر إلى المدينة: يا أبة من الرجل الذي زجر القوم عنك بمكة يوم أسلمت وهم يقاتلونك؟

قال: ذاك أي بني العاص بن وائل السهمي.

وهذا إسناد جيد قوي، وهو يدل على تأخر إسلام عمر؛ لأن ابن عمر عرض يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة وكانت أحد في سنة ثلاث من الهجرة، وقد كان مميزا يوم أسلم أبوه، فيكون إسلامه قبل الهجرة بنحو من أربع سنين، وذلك بعد البعثة بنحو تسع سنين والله أعلم.

وقال البيهقي: حدثنا الحاكم، أخبرنا الأصم، أخبرنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس، عن ابن إسحاق قال: ثم قدم على رسول الله ﷺ عشرون رجلا وهو بمكة - أو قريب من ذلك - من النصارى حين ظهر خبره من أرض الحبشة، فوجدوه في المجلس، فكلموه وسألوه ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة.

فلما فرغوا من مساءلتهم رسول الله ﷺ عما أرادوا، دعاهم رسول الله ﷺ إلى الله عز وجل وتلا عليهم القرآن، فلما سمعوا فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا له وآمنوا به وصدقوه وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره.

فلما قاموا من عنده اعترضهم أبو جهل في نفر من قريش فقال: خيبكم الله من ركب بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم فتأتونهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال لكم، ما نعلم ركبا أحمق منكم - أو كما قال -: قالوا لهم: لا نجاهلكم سلام عليكم، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، لا نألون أنفسنا خيرا.

فيقال: إن النفر من نصارى نجران، والله أعلم أي ذلك كان.

ويقال: والله أعلم أن فيهم نزلت هذه الآيات { الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين * أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرؤن بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون * وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين }.

فصل كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي

قال البيهقي في (الدلائل): باب ما جاء في كتاب النبي ﷺ إلى النجاشي، ثم روى عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس، عن ابن إسحاق قال: «هذا كتاب من رسول الله ﷺ إلى النجاشي الأصحم عظيم الحبشة، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبةً ولا ولدا، وأن محمدا عبده ورسوله وأدعوك بدعاية الله فإني أنا رسوله فأسلم تسلم.

{ يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } فإن أبيت فعليك إثم النصارى من قومك».

هكذا ذكره البيهقي بعد قصة هجرة الحبشة وفي ذكره ههنا نظر، فإن الظاهر أن هذا الكتاب إنما هو إلى النجاشي الذي كان بعد المسلم صاحب جعفر وأصحابه، وذلك حين كتب إلى ملوك الأرض يدعوهم إلى الله عز وجل قبيل الفتح، كما كتب إلى هرقل عظيم الروم قيصر الشام، وإلى كسرى ملك الفرس، وإلى صاحب مصر، وإلى النجاشي.

قال الزهري: كانت كتب النبي ﷺ إليهم واحدة؛ يعني نسخة واحدة، وكلها فيها هذه الآية وهي من سورة آل عمران، وهي مدنية بلا خلاف فإنه من صدر السورة، وقد نزل ثلاث وثمانون آية من أولها في وفد نجران كما قررنا ذلك في التفسير، ولله الحمد والمنة.

فهذا الكتاب إلى الثاني لا إلى الأول، وقوله فيه إلى النجاشي الأصحم لعل الأصحم مقحم من الراوي بحسب ما فهم، والله أعلم.

وأنسب من هذا ههنا ما ذكره البيهقي أيضا عن الحاكم، عن أبي الحسن محمد بن عبد الله الفقيه - بمرو - حدثنا حماد بن أحمد، حدثنا محمد بن حميد، حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق قال: بعث رسول الله ﷺ عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي في شأن جعفر بن أبي طالب وأصحابه، وكتب معه كتابا: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى النجاشي الأصحم ملك الحبشة، سلام عليك فإني أحمد إليك الله الملك القدوس المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطاهرة الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى فخلقه من روحه ونفخته، كما خلق آدم بيده ونفخه.

وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني فتؤمن بي وبالذي جاءني، فإني رسول الله وقد بعثت إليك ابن عمي جعفرا، ومعه نفر من المسلمين فإذا جاؤوك فأقرهم ودع التجبر، فإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل، وقد بلغت ونصحت فاقبلوا نصيحتي، والسلام على من اتبع الهدى»..

فكتب النجاشي إلى رسول الله ﷺ: بسم الله الرحمن الرحيم، إلى محمد رسول الله من النجاشي الأصحم بن أبجر، سلام عليك يا نبي الله من الله ورحمة الله وبركاته لا إله إلا هو الذي هداني إلى الإسلام، فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى، فورب السماء والأرض إن عيسى ما يزيد على ما ذكرت.

وقد عرفنا ما بعثت به إلينا وقرينا ابن عمك وأصحابه، فأشهد أنك رسول الله صادقا ومصدقا، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله رب العالمين.

وقد بعثت إليك يا نبي الله بأربحا بن الأصحم بن أبجر، فإني لا أملك إلا نفسي، وإن شئت أن آتيك فعلت يا رسول الله فإني أشهد أن ما تقول حق».

فصل ذكر مخالفة قبائل قريش بني هاشم وعبد المطلب في نصر رسول الله

في ذكر مخالفة قبائل قريش بني هاشم وبني عبد المطلب في نصر رسول الله ﷺ وتحالفهم فيما بينهم عليهم، على أن لا يبايعوهم ولا يناكحوهم حتى يسلِّموا إليهم رسول الله ﷺ، وحصرهم إياهم في شعب أبي طالب مدة طويلة، وكتابتهم بذلك صحيفة ظالمة فاجرة، وما ظهر في ذلك كله من آيات النبوة ودلائل الصدق.

قال موسى بن عقبة عن الزهري: ثم إن المشركين اشتدوا على المسلمين كأشد ما كانوا حتى بلغ المسلمين الجهد، واشتد عليهم البلاء، وجمعت قريش في مكرها أن يقتلوا رسول الله ﷺ علانية.

فلما رأى أبو طالب عمل القوم جمع بني عبد المطلب وأمرهم أن يدخلوا رسول الله ﷺ شعبهم، وأمرهم أن يمنعوه ممن أرادوا قتله.

فاجتمع على ذلك مسلمهم وكافرهم، فمنهم من فعله حمية، ومنهم من فعله إيمانا ويقينا.

فلما عرفت قريش أن القوم قد منعوا رسول الله ﷺ، وأجمعوا على ذلك، اجتمع المشركون من قريش، فأجمعوا أمرهم أن لا يجالسوهم ولا يبايعوهم ولا يدخلوا بيوتهم حتى يسلَّموا رسول الله ﷺ للقتل، وكتبوا في مكرهم صحيفة وعهودا ومواثيق لا يقبلوا من بني هاشم صلحا أبدا، ولا يأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل.

فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين، واشتد عليهم البلاء والجهد وقطعوا عنهم الأسواق، فلا يتركوا لهم طعاما يقدم مكة ولا بيعا إلا بادروهم إليه، فاشتروه

يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم رسول الله ﷺ.

فكان أبو طالب إذا أخذ الناس مضاجعهم أمر رسول الله ﷺ فاضطجع على فراشه حتى يرى ذلك من أراد به مكرا واغتيالا له، فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو أخوته أو بني عمه فاضطجعوا على فراش رسول الله ﷺ، وأمر رسول الله ﷺ أن يأتي بعض فرشهم فينام عليه.

فلما كان رأس ثلاث سنين تلاوم رجال من بني عبد مناف ومن قصي ورجال من سواهم من قريش قد ولدتهم نساء من بني هاشم، ورأوا أنهم قد قطعوا الرحم واستخفوا بالحق، واجتمع أمرهم من ليلتهم على نقض ما تعاهدوا عليه من الغدر والبراءة منه، وبعث الله على صحيفتهم الأرضة فلحست كل ما كان فيها من عهد وميثاق.

ويقال: كانت معلقة في سقف البيت فلم تترك اسما لله فيها إلا لحسته، وبقي ما كان فيها من شرك وظلم وقطيعة رحم، وأطلع الله عز وجل رسوله على الذي صنع بصحيفتهم، فذكر ذلك رسول الله ﷺ لأبي طالب.

فقال أبو طالب: لا والثواقب ما كذبني، فانطلق يمشي بعصابته من بني عبد المطلب حتى أتى المسجد، وهو حافل من قريش، فلما رأوهم عامدين لجماعتهم أنكروا ذلك، وظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء، فأتوهم ليعطوهم رسول الله ﷺ.

فتكلم أبو طالب فقال: قد حدثت أمور بينكم لم نذكرها لكم، فأتوا بصحيفتكم التي تعاهدتم عليها فعلَّه أن يكون بيننا وبينكم صلح، وإنما قال ذلك خشية أن ينظروا في الصحيفة قبل أن يأتوا بها، فأتوا بصحيفتهم معجبين بها لا يشكون أن رسول الله ﷺ مدفوعا إليهم فوضعوها بينهم وقالوا: قد آن لكم أن تقبلوا وترجعوا إلى أمر يجمع قومكم؛ فإنما قطع بيننا وبينكم رجل واحد جعلتموه خطرا لهلكة قومكم وعشيرتكم وفسادهم.

فقال أبو طالب: إنما أتيتكم لأعطيكم أمرا لكم فيه نَصَفٌ إن ابن أخي أخبرني - ولم يكذبني - إن الله بريء من هذه الصحيفة التي في أيديكم، ومحا كل اسم هو له فيها، وترك فيها غدركم وقطيعتكم إيانا وتظاهركم علينا بالظلم، فإن كان الحديث الذي قال ابن أخي كما قال فأفيقوا فوالله لا نسلمه أبدا حتى يموت من عندنا آخرنا، وإن كان الذي قال باطلا دفعناه إليكم فقتلتموه أو استحييتم.

قالوا: قد رضينا بالذي تقول، ففتحوا الصحيفة فوجدوا الصادق المصدوق ﷺ قد أخبر خبرها، فلما رأتها قريش كالذي قال أبو طالب قالوا: والله إن كان هذا قط إلا سحر من صاحبكم، فارتكسوا وعادوا بشرِّ ما كانوا عليه من كفرهم، والشدة على رسول الله ﷺ وعلى المسلمين، والقيام على رهطه بما تعاهدوا عليه.

فقال: أولئك النفر من بني عبد المطلب: إن أولى بالكذب والسحر غيرنا فكيف ترون فإنا نعلم إن الذي اجتمعتم عليه من قطيعتنا أقرب إلى الجبت والسحر من أمرنا، ولولا إنكم اجتمعتم على السحر لم تفسد صحيفتكم وهي في أيديكم طمس الله ما كان فيها من اسمه وما كان فيها من بغي تركه أفنحن السحرة أم أنتم؟

فقال عند ذلك النفر من بني عبد مناف وبني قصي ورجال من قريش ولدتهم نساء من بني هاشم

منهم: أبو البختري والمطعم بن عدي وزهير بن أبي أمية بن المغيرة وزمعة بن الأسود وهشام بن عمرو، وكانت الصحيفة عنده وهو - من بني عامر بن لؤي - في رجال من أشرافهم ووجوههم: نحن برءاء مما في هذه الصحيفة.

فقال أبو جهل لعنه الله: هذا أمر قضى بليل وأنشأ أبو طالب يقول الشعر في شأن صحيفتهم ويمدح النفر الذين تبرؤا منها ونقضوا ما كان فيها من عهد ويمتدح النجاشي.

قال البيهقي: وهكذا روى شيخنا أبو عبد الله الحافظ - يعني من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير - يعني كسياق موسى بن عقبة رحمه الله - وقد تقدم عن موسى بن عقبة أنه قال: إنما كانت هجرة الحبشة بعد دخولهم إلى الشعب عن أمر رسول الله ﷺ لهم في ذلك فالله أعلم.

قلت: والأشبه أن أبا طالب إنما قال قصيدته اللامية التي قدمنا ذكرها بعد دخولهم الشعب أيضا فذكرها ههنا أنسب والله أعلم.

ثم روى البيهقي من طريق يونس عن محمد بن إسحاق. قال: لما مضى رسول الله ﷺ على الذي بعث به وقامت بنو هاشم وبنو عبد المطلب دونه وأبوا أن يسلموه وهم من خلافه على مثل ما قومهم عليه إلا أنهم اتقوا أن يستذلوا ويسلموا أخاهم لما قارفه من قومه.

فلما فعلت ذلك بنو هاشم وبنو المطلب وعرفت قريش أن لا سبيل إلى محمد، اجتمعوا على أن يكتبوا فيما بينهم على بني هاشم وبني عبد المطلب أن لا يناكحوهم ولا ينكحوا إليهم ولا يبايعوهم ولا يبتاعوا منهم وكتبوا صحيفة في ذلك وعلقوها بالكعبة، ثم عدوا على من أسلم فأوثقوهم وآذوهم واشتد عليهم البلاء وعظمت الفتنة وزلزلوا زلزالا شديدا.

ثم ذكر القصة بطولها في دخولهم شعب أبي طالب وما بلغوا فيه من فتنة الجهد الشديد حتى كان يسمع أصوات صبيانهم يتضاغون من وراء الشعب من الجوع حتى كره عامة قريش ما أصابهم وأظهروا كراهيتهم لصحيفتهم الظالمة، وذكروا أن الله برحمته أرسل على صحيفة قريش الأرضة فلم تدع فيها اسما هو لله إلا أكلته وبقي فيها الظلم والقطيعة والبهتان، فأخبر الله تعالى بذلك رسول الله ﷺ فأخبر بذلك عمه أبو طالب ثم ذكر بقية القصة كرواية موسى بن عقبة وأتم..

وقال ابن هشام عن زياد عن محمد بن إسحاق: فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله ﷺ قد نزلوا بلدا أصابوا منه أمنا وقرارا، وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم، وأن عمر قد أسلم فكان هو وحمزة مع رسول الله ﷺ وأصحابه، وجعل الإسلام يفشو في القبائل فاجتمعوا وائتمروا على أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني عبد المطلب على أن لا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم ولا يبيعوهم شيئا ولا يبتاعوا منهم.

فلما اجتمعوا لذلك كتبوا في صحيفة ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدا على أنفسهم، وكان كاتب الصحيفة: منصور ابن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي.

قال ابن هشام: ويقال: النضر ابن الحارث، فدعا عليه رسول الله ﷺ فشل بعض أصابعه.

وقال الواقدي: كان الذي كتب الصحيفة: طلحة بن أبي طلحة العبدوي.

قلت: والمشهور أنه: منصور بن عكرمة كما ذكره ابن إسحاق، وهو الذي شلت يده فما كان ينتفع بها وكانت قريش تقول بينها: أنظروا إلى منصور بن عكرمة.

قال الواقدي: وكانت الصحيفة معلقة في جوف الكعبة.

قال ابن إسحاق: فلما فعلت ذلك قريش انحازت بنو هاشم وبنو عبد المطلب إلى أبي طالب فدخلوا معه في شعبه واجتمعوا إليه، وخرج من بني هاشم أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب إلى قريش فظاهرهم.

وحدثني حسين بن عبد الله: أن أبا لهب لقي هند بنت عتبة بن ربيعة، حين فارق قومه، وظاهر عليهم قريشا.

فقال: يا ابنة عتبة هل نصرت اللات والعزى وفارقت من فارقها وظاهر عليها؟

قالت: نعم! فجزاك الله خيرا يا أبا عتبة.

قال ابن إسحاق: وحدثت أنه كان يقول - في بعض ما يقول - يعدني محمد أشياء لا أراها يزعم أنها كائنة بعد الموت، فماذا وضع في يدي بعد ذلك، ثم ينفخ في يديه فيقول: تبا لكما لا أرى فيكما شيئا مما يقول محمد.

فأنزل الله تعالى: { تبت يدا أبي لهب وتب }.

قال ابن إسحاق: فلما اجتمعت على ذلك قريش وصنعوا فيه الذي صنعوا قال أبو طالب:

ألا أبلِغا عني على ذاتِ بيننا * لؤيا وخُصَّا من لؤي بني كعب

ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا * نبيا كموسى خطَّ في أول الكتب

وأن عليه في العباد محبة * ولا خير ممن خصَّه الله بالحب

وأن الذي الصقتموا من كتابكم * لكم كائنٌ نحسا كراغيةِ السقب

أفيقوا أفيقوا قبل أن يحُفر الثرى * ويصبح من لم يجن ذنبا كذي الذنب

ولا تتبعوا أمرَ الوشاة وتقطعوا * أواصرنا بعد المودة والقرب

وتستجلبوا حربا عوانا وربما * أمرَّ على من ذاقه حلب الحرب

فلسنا ورب البيت نسلم أحمدا * لعزَّاء من عض الزمان ولا كرب

ولما تَبِن منا ومنكم سوالفٌ * وأيدٍ أترَّتْ بالقساسية الشهب

بمعتركِ ضيقٍ ترى كسر القنا * به والنسور الطخم يعكفن كالشرب

كأن مجال الخيل في حجراته * ومعمعة الأبطال معركة الحرب

أليس أبونا هاشمٌ شدَّ أزره * وأوصى بنيه بالطِّعان وبالضرب

ولسنا نملُّ الحرب حتى تملنا * ولا نشتكي ما قد ينوب من النكب

ولكننا أهل الحفائظ والنهى * إذا طار أرواحُ الكماةِ من الرعب

قال ابن إسحاق: فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثا حتى جهدوا ولم يصل إليهم شيء إلا سرا مستخفيا به من أراد صلتهم من قريش، وقد كان أبو أجهل بن هشام - فيما يذكرون - لقي حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد، معه غلام يحمل قمحا يريد به عمته خديجة بنت خويلد، وهي عند رسول الله ﷺ في الشعب فتعلق به وقال: أتذهب بالطعام إلى بني هاشم؟ والله لا تذهب أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة، فجاءه أبو البختري بن هشام بن الحارث بن أسد.

فقال: مالك وله.

فقال: يحمل الطعام إلى بني هاشم.

فقال له أبو البختري: طعام كان لعمته عنده بعثت به إليه أتمنعه أن يأتيها بطعامها؟ خلِّ سبيل الرجل.

قال: فأبى أبو جهل - لعنه الله - حتى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ أبو البختري لحى بعير فضربه فشجه ووطئه وطئا شديدا، وحمزة بن عبد المطلب قريب يرى ذلك، وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله ﷺ وأصحابه فيشمتون بهم ورسول الله ﷺ على ذلك يدعو قومه ليلا ونهارا سرا وجهارا مناديا بأمر الله تعالى لا يتقي فيه أحدا من الناس..

المستهزئون بالنبي صلى الله عليه وسلم وما ظهر فيهم

فجعلت قريش حين منعه الله منها وقام عمه وقومه من بني هاشم وبني عبد المطلب دونه وحالوا بينهم وبين ما أرادوا من البطش به، يهمزونه ويستهزؤن به ويخاصمونه، وجعل القرآن ينزل في قريش بأحداثهم، وفيمن نصب لعداوته، منهم من سمى لنا، ومنهم من نزل فيه القرآن في عامة من ذكر الله من الكفار.

فذكر ابن إسحاق أبا لهب ونزول السورة فيه، وأمية بن خلف ونزول قوله تعالى: { وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ } السورة بكاملها فيه.

والعاص بن وائل ونزول قوله: { أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدا } [45] فيه.

وقد تقدم شيء من ذلك.

وأبا جهل بن هشام وقوله للنبي ﷺ: لتتركن سب آلهتنا أو لنسبن إلهك الذي تعبد.

ونزول قول الله فيه: { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوا بِغَيْرِ عِلْمٍ } [46] الآية.

والنضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة - ومنهم من يقول علقمة بن كلدة قاله السهيلي - وجلوسه بعد النبي ﷺ في مجالسه حيث يتلو القرآن ويدعو إلى الله، فيتلو عليهم النضر شيئا من أخبار رستم واسفنديار وما جرى بينهما من الحروب في زمن الفرس، ثم يقول: والله ما محمد بأحسن حديثا مني، وما حديثه إلا أساطير الأولين اكتتبها كما اكتتبها.

فأنزل الله تعالى: { وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا } [47]

وقوله: { وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } [48].

قال ابن إسحاق: وجلس رسول الله ﷺ - فيما بلغنا - يوما مع الوليد بن المغيرة في المسجد فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم في المجلس، وفي المجلس غير واحد من رجال قريش، فتكلم رسول الله ﷺ فعرض له النضر فكلَّمه رسول الله ﷺ حتى أفحمه.

ثم تلا عليه وعليهم: { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ * لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ } [49].

ثم قام رسول الله ﷺ وأقبل عبد الله بن الزبعري السهمي حتى جلس.

فقال الوليد بن المغيرة له: والله ما قام والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفا وما قعد، وقد زعم محمد أنّا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم..

فقال عبد الله بن الزبعري: أما والله لو وجدته لخصمته، فسلوا محمدا: أكل ما نعبد من دون الله حصب جهنم مع من عبده؟

فنحن نعبد الملائكة واليهود تعبد عزيرا والنصارى تعبد عيسى.

فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول ابن الزبعري ورأوا أنه قد احتج وخاصم فذكر ذلك لرسول الله ﷺ.

فقال: «كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده في النار، أنهم إنما يعبدون الشياطين، ومن أمرتهم بعبادته».

فأنزل الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ } [50] أي عيسى وعزير ومن عبد من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله تعالى.

ونزل فيما يذكرون أنهم يعبدون الملائكة وأنها بنات الله: { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ } [51] والآيات بعدها.

ونزل في إعجاب المشركين بقول ابن الزبعري: { وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } [52] وهذا الجدل الذي سلكوه باطل.

وهم يعلمون ذلك لأنهم قوم عرب ومن لغتهم أن ما لما لا يعقل، فقوله: { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } إنما أريد بذلك ما كانوا يعبدونه من الأحجار التي كانت صور أصنام، ولا يتناول ذلك الملائكة الذين زعموا أنهم يعبدونهم في هذه الصور، ولا المسيح، ولا عزيرا، ولا أحدا من الصالحين لأن اللفظ لا يتناولهم لا لفظا ولا معنى.

فهم يعلمون أن ما ضربوه بعيسى ابن مريم من المثل جدل باطل كما قال الله تعالى: { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ }.

ثم قال: { إِنْ هُوَ } أي عيسى { إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ } أي بنبوتنا { وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ } أي دليلا على تمام قدرتنا على ما نشاء حيث خلقناه من أنثى بلا ذكر، وقد خلقنا حواء من ذكر بلا أنثى، وخلقنا آدم لا من هذا ولا من هذا، وخلقنا سائر بني آدم من ذكر وأنثى كما قال في الآية الأخرى: { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ } أي أمارة ودليلا على قدرتنا الباهرة { وَرَحْمَةً مِنَّا } نرحم بها من نشاء.

وذكر ابن إسحاق: الأخنس بن شريق ونزول قوله تعالى فيه: { وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ } [53] الآيات، وذكر الوليد بن المغيرة حيث قال: أينزل على محمد وأترك وأنا كبير قريش وسيدها، ويترك أبو مسعود عمرو بن عمرو الثقفي سيد ثقيف فنحن عظيما القريتين.

ونزول قوله فيه: { وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [54] والتي بعدها.

وذكر أبي بن خلف حين قال لعقبة بن أبي معيط: ألم يبلغني أنك جالست محمدا؟ وسمعت منه وجهي من وجهك حرام أن أكلمك - وأستغلظ من اليمين - إن أنت جلست إليه أو سمعت منه إلا أن تتفل في وجهه ففعل ذلك عدو الله عقبة - لعنه الله -..

فأنزل الله: { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانا خَلِيلا } [55] والتي بعدها.

قال ومشى أبي بن خلف بعظم بال قد أرم.

فقال: يا محمد أنت تزعم أن الله يبعث هذا بعد ما أرم، ثم فته بيده ثم نفخه في الريح نحو رسول الله ﷺ.

فقال: نعم! أنا أقول ذلك، يبعثه الله وإياك بعد ما تكونان هكذا ثم يدخلك النار.

وأنزل الله تعالى: { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [56] إلى آخر السورة.

قال: واعترض رسول الله ﷺ - فيما بلغني وهو يطوف عند باب الكعبة - الأسود بن المطلب، والوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل وكانوا ذوي أسنان في قومهم.

فقالوا: يا محمد هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر.

فأنزل الله فيهم: { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } إلى آخرها.

ولما سمع أبو جهل بشجرة الزقوم.

قال: أتدرون ما الزقوم؟ هو تمر يضرب بالزبد ثم قال: هلموا فلنتزقم فأنزل الله تعالى: { إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ } [57].

قال: ووقف الوليد بن المغيرة فكلَّم رسول الله ﷺ ورسول الله ﷺ يكلمه وقد طمع في إسلامه فمر به ابن أم مكتوم - عاتكة بنت عبد الله بن عنكثة - الأعمى فكلم رسول الله ﷺ وجعل يستقرئه القرآن، فشق ذلك عليه حتى أضجره.

وذلك أنه شغله عما كان فيه من أمر الوليد، وما طمع فيه من إسلامه، فلما أكثر عليه انصرف عنه عابسا، وتركه فأنزل الله تعالى: { عبس وتولى أن جاءه الأعمى } إلى قوله { مرفوعة مطهرة } وقد قيل: إن الذي كان يحدث رسول الله ﷺ حين جاءه ابن أم مكتوم أمية بن خلف فالله أعلم..

ثم ذكر ابن إسحاق من عاد من مهاجرة الحبشة إلى مكة وذلك حين بلغهم إسلام أهل مكة وكان النقل ليس بصحيح، ولكن كان له سبب، وهو ما ثبت في (الصحيح) وغيره أن رسول الله ﷺ: جلس يوما مع المشركين، وأنزل الله عليه: { والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم } يقرؤها عليهم حتى ختمها وسجد.

فسجد من هناك من المسلمين والمشركين والجن والإنس، وكان لذلك سبب ذكره كثير من المفسرين عند قوله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [58].

وذكروا قصة الغرانيق وقد أحببنا الإضراب عن ذكرها صفحا لئلا يسمعها من لا يضعها على مواضيعها، إلا أن أصل القصة في (الصحيح).

قال البخاري: حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث حدثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس.

قال: سجد النبي ﷺ بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس انفرد به البخاري دون مسلم.

وقال البخاري: حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن أبي إسحاق سمعت الأسود عن عبد الله.

قال: قرأ النبي ﷺ والنجم بمكة، فسجد فيها وسجد من معه غير شيخ أخذ كفا من حصا - أو تراب - فرفعه إلى جبهته وقال: يكفيني هذا، فرأيته بعد قتل كافرا، ورواه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث شعبة.

وقال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم حدثنا رباح عن معمر عن ابن طاووس عن عكرمة بن خالد عن جعفر بن المطلب بن أبي وداعة عن أبيه.

قال: قرأ رسول الله ﷺ بمكة سورة النجم، فسجد وسجد من عنده، فرفعت رأسي وأبيت أن أسجد ولم يكن أسلم يومئذ المطلب، فكان بعد ذلك لا يسمع أحدا يقرأها إلا سجد معه.

وقد رواه النسائي عن عبد الملك بن عبد الحميد عن أحمد بن حنبل به.

وقد يجمع بين هذا والذي قبله بأن هذا سجد ولكنه رفع رأسه استكبارا، وذلك الشيخ الذي استثناه ابن مسعود لم يسجد بالكلية والله أعلم.

والمقصود أن الناقل لما رأى المشركين قد سجدوا متابعة لرسول الله ﷺ أعتقد أنهم قد أسلموا واصطلحوا معه ولم يبق نزاع بينهم، فطار الخبر بذلك وانتشر حتى بلغ مهاجرة الحبشة بها..

فظنوا صحة ذلك فأقبل منهم طائفة طامعين بذلك، وثبتت جماعة وكلاهما محسن مصيب فيما فعل فذكر ابن إسحاق أسماء من رجع منهم؛ عثمان بن عفان وامرأته رقية بنت رسول الله ﷺ، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وامرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو وعبد الله بن جحش بن رئاب، وعتبة بن غزوان، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير، وسويبط بن سعد بن حرملة.

وطليب بن عمير، وعبد الرحمن بن عوف والمقداد بن عمرو، وعبد الله بن مسعود، وأبو سلمة بن عبد الأسد، وامرأته أم سلمة بنت أبي أمية ابن المغيرة، وشماس بن عثمان، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة - وقد حبسا بمكة حتى مضت بدرا وأحدا والخندق - وعمار بن ياسر - وهو ممن شك فيه أخرج إلى الحبشة أم لا -.

ومعتب ابن عوف، وعثمان بن مظعون، وابنه السائب، وأخواه قدامة وعبد الله ابنا مظعون، وخنيس بن حذافة، وهشام بن العاص بن وائل - وقد حبس بمكة إلى بعد الخندق - وعامر بن ربيعة، وامرأته ليلى بنت أبي حثمة.

وعبد الله بن مخرمة، وعبد الله بن سهيل بن عمرو - وقد حبس حتى كان يوم بدر فانحاز إلى المسلمين فشهد معهم بدرا - وأبو سبرة بن أبي رهم، وامرأته أم كلثوم بنت سهيل، والسكران بن عمرو بن عبد شمس، وامرأته سودة بنت زمعة - وقد مات بمكة قبل الهجرة وخلف على امرأته رسول الله ﷺ - وسعد بن خولة، وأبو عبيدة بن الجراح، وعمرو بن الحارث بن زهير وسهيل بن بيضاء، وعمرو بن أبي سرح فجميعهم ثلاثة وثلاثون رجلا رضي الله عنهم.

وقال البخاري: وقالت عائشة قال رسول الله ﷺ: «أريت دار هجرتكم أريت سبخة ذات نخل بين لابتين»..

فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع عامة من كان هاجر إلى الحبشة إلى المدينة.

وفيه: عن أبي موسى وأسماء رضي الله عنهما عن النبي ﷺ وقد تقدم حديث أبي موسى وهو في (الصحيحين)، وسيأتي حديث أسماء بنت عميس بعد فتح خيبر حين قدم من كان تأخر من مهاجرة الحبشة إن شاء الله وبه الثقة.

وقال البخاري: حدثنا يحيى بن حماد، حدثنا أبو عوانة، عن سليمان عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله.

قال: كنا نسلِّم على النبي ﷺ وهو يصلي فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا، فقلنا يا رسول الله: إنا كنا نسلم عليك فترد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي لم ترد علينا؟

قال: «إن في الصلاة شغلا».

وقد روى البخاري أيضا ومسلم وأبو داود والنسائي من طرق أخر عن سليمان بن مهران عن الأعمش به، وهو يقوي تأويل من تأول حديث زيد بن أرقم الثابت في (الصحيحين) كنا نتكلم في الصلاة حتى نزل قوله: { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } [59] فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام.

على أن المراد جنس الصحابة، فإن زيدا أنصاري مدني، وتحريم الكلام في الصلاة ثبت بمكة، فتعين الحمل على ما تقدم.

وأما ذكره الآية وهي مدنية فمشكل ولعله اعتقد أنها المحرمة لذلك وإنما كان المحرم له غيرها معها والله أعلم.

قال ابن إسحاق: وكان ممن دخل منهم بجوار؛ فيمن سمي لنا: عثمان بن مظعون في جوار الوليد بن المغيرة، وأبو سلمة بن عبد الأسد في جوار خاله أبي طالب، فإن أمه برة بنت عبد المطلب.

فأما عثمان بن مظعون فإن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف حدثني عمن حدثه عن عثمان.

قال: لما رأى عثمان بن مظعون ما فيه أصحاب رسول الله ﷺ من البلاء، وهو يروح ويغدو في أمان من الوليد بن المغيرة قال: والله إن غدوي ورواحي في جوار رجل من أهل الشرك، وأصحابي وأهل ديني يلقون من البلاء والأذى في الله ما لا يصيبني لنقص كثير في نفسي، فمشى إلى الوليد بن المغيرة فقال له: يا أبا عبد شمس وفت ذمتك، وقد رددت إليك جوارك.

قال له: لم يا ابن أخي؟ لعله آذاك أحد من قومي.

فقال: لا، ولكني أرضى بجوار الله عز وجل، ولا أريد أن أستجير بغيره.

قال: فانطلق إلى المسجد فاردد عليَّ جواري علانية كما أجرتك علانية.

قال: فانطلقنا فخرجا حتى أتيا المسجد، فقال الوليد بن المغيرة: هذا عثمان قد جاء يرد علي جواري..

قال: صدق، قد وجدته وفيَّا كريم الجوار، ولكني قد أحببت أن لا أستجير بغير الله، فقد رددت عليه جواره.

ثم انصرف عثمان رضي الله عنه ولبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر في مجلس من قريش ينشدهم، فجلس معهم عثمان فقال لبيد:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل *

فقال عثمان: صدقت.

فقال لبيد:

وكل نعيم لا محالة زائل *

فقال عثمان: كذبت، نعيم الجنة لا يزول.

فقال لبيد: يا معشر قريش، والله ما كان يؤذى جليسكم، فمتى حدث هذا فيكم؟

فقال رجل من القوم: إن هذا سفيه في سفهاء معه، قد فارقوا ديننا فلا تجدن في نفسك من قوله، فردَّ عليه عثمان حتى شري أمرهما، فقام إليه ذلك الرجل ولطم عينه فخضرها والوليد ابن المغيرة قريب يرى ما بلغ من عثمان.

فقال: والله يا ابن أخي إن كانت عينك عما أصابها لغنية، ولقد كنت في ذمة منيعة.

قال: يقول عثمان: بل والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في الله، وإني لفي جوار من هو أعزُّ منك وأقدر يا أبا عبد شمس.

فقال له الوليد: هلم يا ابن أخي إلى جوارك فعد.

قال: لا!

قال ابن إسحاق: وأما أبو سلمة بن عبد الأسد، فحدثني أبي إسحاق بن يسار، عن سلمة بن عبد الله بن عمر أبي سلمة أنه حدثه: أن أبا سلمة لما استجار بأبي طالب، مشى إليه رجال من بني مخزوم، فقالوا له: يا أبا طالب هذا منعت منا ابن أخيك محمدا، فما لك ولصاحبنا تمنعه منا؟

قال: إنه استجار بي، وهو ابن أختي وإن أنا لم أمنع ابن أختي لم أمنع ابن أخي، فقام أبو لهب.

فقال: يا معشر قريش والله لقد أكثرتم على هذا الشيخ، ما تزالون تتواثبون عليه في جواره من بين قومه، والله لتنتهن أو لنقومن معه في كل ما قام فيه، حتى يبلغ ما أراد.

قالوا: بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبة.

وكان لهم وليا وناصرا على رسول الله ﷺ فأبقوا على ذلك فطمع فيه أبو طالب حين سمعه يقول ما يقول، ورجا أن يقوم معه في شأن رسول الله ﷺ، فقال أبو طالب يحرض أبا لهب على نصرته ونصرة رسول الله ﷺ:

إن امرءا أبو عتيبة عمه * لفي روضة ما أن يُسامُ المظالما

أقول له، وأين منه نصيحتي * أبا معتبِ ثبت سوادك قائما

ولا تقبلنَّ الدهر ما عشتَ خطة * تسب بها إمَّا هبطت المواسما

وولِّ سبيل العجزِ غيرك منهم * فإنك لم تخلق على العجز لازما

وحارب فإن الحرب نصف ولن ترى * أخا الحرب يعطى الخسف حتى يسالما

وكيف ولم يجنوا عليك عظيمة * ولم يخذلوك غانما أو مغارما

جزى الله عنا عبد شمسٍ ونوفلا * وتيما ومخزوما عقوقا ومأثما

بتفريقهم من بعدِ ودٍّ وألفةٍ * جماعتنا كيما ينالوا المحارما

كذبتم وبيت الله نبزى محمدا * ولما تروا يوما لدى الشعب قائما

قال ابن هشام: وبقي منها بيت تركناه.

عزم الصديق على الهجرة إلى الحبشة

قال ابن إسحاق: وقد كان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - كما حدثني محمد بن مسلم ابن شهابالزهري عن عروة عن عائشة، حين ضاقت عليه مكة وأصابه فيها الأذى، ورأى من تظاهر قريش على رسول الله ﷺ وأصحابه ما رأى، استأذن رسول الله ﷺ في الهجرة فأذن له، فخرج أبو بكر رضي الله عنه مهاجرا، حتى إذا سار من مكة يوما - أو يومين - لقيه ابن الدغنة أخو بني الحارث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة وهو يومئذ سيد الأحابيش.

قال الواقدي: اسمه الحارث بن يزيد أحد بني بكر من عبد مناة بن كنانة.

وقال السهيلي: اسمه مالك.

فقال: إلى أين يا أبا بكر؟

قال: أخرجني قومي وآذوني وضيقوا علي.

قال: ولم؟ فوالله إنك لتزين العشيرة، وتعين على النوائب، وتفعل المعروف وتكسب المعدوم، ارجع فإنك في جواري.

فرجع معه حتى إذا دخل مكة قام معه ابن الدغنة فقال: يا معشر قريش، إني قد أجرت ابن أبي قحافة فلا يعرض له أحد إلا بخير.

قال: فكفوا عنه.

قالت: وكان لأبي بكر مسجد عند باب داره في بني جمح فكان يصلي فيه، وكان رجلا رقيقا إذا قرأ القرآن استبكى قالت: فيقف عليه الصبيان والعبيد والنساء يعجبون لما يرون من هيئته، قالت: فمشى رجال من قريش إلى ابن الدغنة..

فقالوا له: يا ابن الدغنة إنك لم تجر هذا الرجل ليؤذينا، إنه رجل إذا صلى وقرأ ما جاء به محمد يرق وكانت له هيئة ونحن نتخوف على صبياننا ونسائنا وضعفائنا أن يفتنهم فأته فمره بأن يدخل بيته فليصنع فيه ما شاء

قالت: فمشى ابن الدغنة إليه فقال له: يا أبا بكر، إني لم أجرك لتؤذي قومك.

وقد كرهوا مكانك الذي أنت به، وتأذوا بذلك منك، فادخل بيتك فاصنع فيه ما أحببت.

قال: أو أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله.

قال: فأردد علي جواري.

قال: قد رددته عليك.

قال: فقام ابن الدغنة فقال: يا معشر قريش، إن ابن أبي قحافة قد رد علي جواري فشأنكم بصاحبكم.

وقد روى الإمام البخاري هذا الحديث متفردا به وفيه زيادة حسنة.

فقال: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، قال ابن شهاب: فأخبرني عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي ﷺ قالت: لم أعقل أبواي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله ﷺ طرفي النهار بكرة وعشية.

فلما ابتلي المسلمون، خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد، لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة فقال: أين تريد يا أبا بكر؟

فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي.

فقال ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج مثله، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وأنا لك جار فارجع، فاعبد ربك ببلدك.

فرجع وارتحل معه ابن الدغنة، وطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟ فلم يكذب قريش بجوار ابن الدغنة، وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره ويصلِّ فيها وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا.

فقال ابن الدغنة: ذلك لأبي بكر فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره، ولا يستعلن بصلاته، ولا يقرأ في غير داره.

ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره وبرزوكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فيتقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه وينظرون إليه..

وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة، فقدم عليهم.

فقالوا له: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره، فأعلن في الصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتتن أبناؤنا ونساؤنا فإنه فإن أحب على أن يقتصر أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن ذلك فسله أن يرد عليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان.

قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال: قد علمت الذي قد عاقدت عليه قريش فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترد إلى ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له.

فقال أبو بكر: فإني أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله عز وجل.

ثم ذكر تمام الحديث في هجرة أبي بكر رضي الله عنه مع رسول الله ﷺ كما سيأتي مبسوطا.

قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق قال: لقيه - يعني أبا بكر الصديق - حين خرج من جوار ابن الدغنة - سفيه من سفهاء قريش وهو عامد إلى الكعبة فحثا على رأسه ترابا، فمرَّ بأبي بكر الوليد بن المغيرة - أو العاص بن وائل - فقال له أبو بكر رضي الله عنه: ألا ترى ما يصنع هذا السفيه؟

فقال: أنت فعلت ذلك بنفسك.

قال: وهو يقول أي رب ما أحلمك.

أي رب ما أحلمك.

أي رب ما أحلمك.

فصل تعليق على القصص

كل هذه القصص ذكرها ابن إسحاق معترضا بها بين تعاقد قريش على بني هاشم وبني المطلب وكتابتهم عليهم الصحيفة الظالمة وحصرهم إياهم في الشعب، وبين نقض الصحيفة وما كان من أمرها: وهي أمور مناسبة لهذا الوقت، ولهذا قال الشافعي رحمه الله: من أراد المغازي فهو عيال على ابن إسحاق. نقض الصحيفة

قال ابن إسحاق: هذا وبنو هاشم وبنو المطلب في منزلهم الذي تعاقدت فيه قريش عليهم في الصحيفة التي كتبوها، ثم أنه قام في نقض تلك الصحيفة نفر من قريش، ولم يبل فيها أحدا أحسن من بلاء هشام بن عمرو بن ربيعة بن الحارث بن حبيب بن نصر بن جذيمةبن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي، وذلك أنه كان ابن أخي نضلة بن هاشم بن عبد مناف لأمه، وكان هشام لبني هاشم واصلا..

وكان ذا شرف في قومه، فكان - فيما بلغني - يأتي بالبعير، وبنو هاشم وبنو المطلب في الشعب ليلا قد أوقره طعاما، حتى إذا بلغ به فم الشعب خلع خطامه من رأسه ثم ضرب على جنبيه، فدخل الشعب عليهم ثم يأتي به قد أوقره بزا فيفعل به مثل ذلك، ثم أنه مشى إلى زهير بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب.

فقال: يا زهير، أقد رضيت أن تأكل الطعام، وتلبس الثياب، وتنكح النساء، وأخوالك حيث علمت لا يباعون ولا يبتاع منهم، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم؟أما إني أحلف بالله لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم، ما أجابك إليه أبدا.

قال: ويحك يا هشام! فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها حتى أنقضها.

قال: قد وجدت رجلا، قال من هو؟

قال: أنا.

قال له زهير: أبغنا ثالثا، فذهب إلى المطعم بن عدي

فقال له: يا مطعم، أقد رضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف، وأنت شاهد على ذلك موافق لقريش فيه، أما والله لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنهم إليها منكم سراعا، قال: ويحك فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، قال: قد وجدت لك ثانيا.

قال: من؟ قال أنا.

قال: أبغنا ثالثا.

قال: قد فعلت.

قال: من هو؟

قال: زهير بن أبي أمية.

قال: أبغنا رابعا، فذهب إلى أبي البختري بن هشام، فقال لهنحو ما قال للمطعم بن عدي.

فقال: وهل تجد أحدا يعين على هذا؟

قال: نعم!

قال: من هو؟

قال: زهير بن أبي أمية والمطعم بن عدي وأنا معك.

قال: أبغنا خامسا.

فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، فكلمه، وذكر له قرابتهم وحقهم، فقال له: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟

قال: نعم ثم سمى القوم.

فاتعدوا خطم الحجون ليلا بأعلا مكة فاجتمعوا هنالك، وأجمعوا أمرهم وتعاقدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها.

وقال زهير: أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم.

فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير بن أبي أمية عليه حلة فطاف بالبيت سبعا ثم أقبل على الناس.

فقال: يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى لا يبتاعون ولا يبتاع منهم، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.

قال أبو جهل: - وكان في ناحية المسجد - والله لا تشق.

قال: زمعة بن الأسود أنت والله أكذب، ما رضينا كتابها حين كتبت.

قال أبو البختري: صدق زمعة لا نرضى ما كتب فيها، ولا نقر به.

قال المطعم بن عدي: صدقتما وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها، ومما كتب فيها.

قال هشام بن عمرو نحوا من ذلك.

قال أبو جهل: هذا أمر قد قضي بليلٍ، تشور فيه بغير هذا المكان، قال: وأبو طالب جالس في ناحية المسجد وقام المطعم بن عدي إلى الصحيفة ليشقها فوجد الأرضة قد أكلتها إلا باسمك اللهم، وكان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة، فشلت يده فيما يزعمون.

قال ابن هشام: وذكر بعض أهل العلم: أن رسول الله ﷺ قال لأبي طالب: «يا عم إن الله قد سلط الأرضة على صحيفة قريش، فلم تدع فيها اسما هو لله إلا أثبتته فيها، ونفت منها الظلم والقطيعة والبهتان».

فقال: أربك أخبرك بهذا؟

قال: «نعم!».

قال: فوالله ما يدخل عليك أحد.

ثم خرج إلى قريش فقال: يا معشر قريش، إن ابن أخي قد أخبرني بكذا وكذا، فهلم صحيفتكم، فإن كانت كما قال فانتهوا عن قطيعتنا وانزلوا عنها، وإن كان كاذبا دفعت إليكم ابن أخي.

فقال القوم: قد رضينا فتعاقدوا على ذلك، ثم نظروا فإذا هي كما قال رسول الله ﷺ فزادهم ذلك شرا، فعند ذلك صنع الرهط من قريش في نقض الصحيفة ما صنعوا.

قال ابن إسحاق: فلما مزقت وبطل ما فيها، قال أبو طالب، فيما كان من أمر أولئك القوم الذين قاموا في نقض الصحيفة يمدحهم:

ألا هل أتى بحريَّنا صنع ربنا * على نأيهم والله بالناس أروَدُ

فيخبرهم أن الصحيفة مزِّقت * وأن كل ما لم يرضه الله مفسد

تراوحها إفك وسحر مجمَّع * ولم يلف سحرا آخرَ الدهر يصعد

تداعى لها من ليس فيها بقرقرٍ * فطائرها في رأسها يتردد

وكانت كفاء وقعة باثيمةٍ * ليقطع منها ساعدٌ ومقلد

ويظعن أهل المكَّتين فيهربوا * فرائصهم من خشية الشر تُرعد

ويترك حراثٌ يقلب أمره * أيتهم فيها عند ذلك وينجد

وتصعد بين الأخشبين كتيبة * لها حدج سهم وقوس ومرهد

فمن ينش من حضّار مكةَ عزةً * فعزتنا في بطن مكة أتلد

نشأنا بها والناس فيها قلائل * فلم ننفكك نزدادُ خيرا ونحمد

ونطعم حتى يترك الناس فضلهم * إذا جعلت أيدي المفيضين ترعد

جزى الله رهطا بالحجون تجمعوا * على ملأٍ يهدي لحزمٍ ويرشد

قعودا لذي حطم الحجون كأنهم * مقاولةٌ بل هم أعز وأمجد

أعان عليها كل صقر كأنه * إذا ما مشى في رفرف الدرع أحرد

جريءٌ على جل الخطوب كأنه * شهاب بكفي قابسٍ يتوقد

من الأكرمين من لؤي بن غالب * إذا سيم خسفا وجهه يتربد

طويلُ النجاد خارجٌ نصف ساقه * على وجهه يسقي الغمام ويسعد

عظيم الرماد سيدٌ وابن سيد * يحضُّ على مقري الضيوف ويحشد

ويبني لأبناءِ العشيرة صالحا * إذا نحن طفنا في البلاد ويمهد

ألظَّ بهذا الصلح كل مبرأ * عظيم اللواء أمره ثم يحمد

قضوا ما قضوا في ليلهم ثم أصبحوا * على مهلٍ وسائر الناس رقد

هم رجعوا سهل بن بيضاء راضيا * وسُرَّ أبو بكر بها ومحمد

متى شرك الأقوام في حل أمرنا * وكنا قديما قبلها نتودد

وكنا قديما لا نقر ظلامة * وندرك ما شئنا ولا نتشدد

فيالَ قصي هل لكم في نفوسكم * وهل لكم فيما يجيء به غد

فإني وإياكم كما قال قائلٌ * لديك البيان لو تكلمت أسود

قال السهيلي: أسود اسم جبل قتل به قتيل ولم يعرف قاتله

فقال أولياء المقتول: لديك البيان لو تكلمت أسود أي يا أسود لو تكلمت لأبنت لنا عمن قتله.

ثم ذكر ابن إسحاق شعر حسان يمدح المطعم بن عدي وهشام بن عمرو لقيامهما في نقض الصحيفة الظالمة الفاجرة الغاشمة.

وقد ذكر الأموي ههنا أشعارا كثيرة اكتفينا بما أورده ابن إسحاق.

وقال الواقدي: سألت محمد بن صالح وعبد الرحمن بن عبد العزيز متى خرج بنو هاشم من الشعب؟

قالا: في السنة العاشرة - يعني من البعثة - قبل الهجرة بثلاث سنين..

قلت: وفي هذه السنة بعد خروجهم توفي أبو طالب عم رسول الله ﷺ وزوجته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى.

فصل ذكر عداوة قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتنفير أحياء العرب والقادمين إلى مكة

وقد ذكر محمد بن إسحاق - رحمه الله - بعد إبطال الصحيفة قصصا كثيرة تتضمن نصب عداوة قريش لرسول الله ﷺ، وتنفير أحياء العرب والقادمين إلى مكة لحج أو عمرة أو غير ذلك منه، وإظهار الله المعجزات على يديه دلالة على صدقه فيما جاءهم به من البينات والهدى، وتكذيبنا لهم فيما يرمونه من البغي والعدوان والمكر والخداع، ويرمونه من الجنون والسحر والكهانة والتقول، والله غالب على أمره.

فذكر قصة الطفيل بن عمرو الدوسي مرسلة، وكان سيدا مطاعا شريفا في دوس، وكان قد قدم مكة فاجتمع به أشراف قريش وحذروه من رسول الله ﷺ ونهوه أن يجتمع به أو يسمع كلامه، قال: فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئا ولا أكلمه، حتى حشوت أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفا فرقا من أن يبلغني شيء من قوله، وأنا لا أريد أن أسمعه.

قال: فغدوت إلى المسجد فإذا رسول الله ﷺ قائم يصلي عند الكعبة، قال: فقمت منه قريبا فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله، قال: فسمعت كلاما حسنا، قال: فقلت في نفسي واثكل أمي، والله إني لرجل لبيب شاعر ما يخفى عليّ الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول! فإن كان الذي يأتي به حسنا قبلته، وإن كان قبيحا تركته.

قال: فمكثت حتى انصرف رسول الله ﷺ إلى بيته فاتبعته حتى إذا دخل بيته دخلت عليه

فقلت: يا محمد، إن قومك قالوا لي كذا وكذا - الذي قالوا -.

قال: فوالله ما برحوا بي يخوفونني أمرك حتى سددت أذنيّ بكرسف لئلا أسمع قولك، ثم أبى الله إلا أن يسمعني قولك، فسمعت قولا حسنا، فاعرض عليَّ أمرك.

قال: فعرض عليَّ رسول الله ﷺ الإسلام وتلا عليَّ القرآن، فلا والله ما سمعت قولا قط أحسن منه، ولا أمرا أعدل منه.

قال: فأسلمت وشهدت شهادة الحق.

وقلت: يا نبي الله إني امرؤ مطاع في قومي، وإني راجع إليهم وداعيهم إلى الإسلام، فادع الله أن يجعل لي آية تكون لي عونا عليهم فيما أدعوهم إليه.

قال: فقال: «اللهم اجعل له آية».

قال: فخرجت إلى قومي حتى إذا كنت بثنية تطلعني على الحاضر، وقع بين عيني نور مثل المصباح.

قال: فقلت: اللهم في غير وجهي، فإني أخشى أن يظنوا بها مثلة وقعت في وجهي لفراقي دينهم.

قال: فتحول فوقع في رأس سوطي..

قال: فجعل الحاضرون يتراؤن ذلك النور في رأس سوطي كالقنديل المعلق، وأنا أتهبط عليهم من الثنية، حتى جئتهم فأصبحت فيهم، فلما نزلت أتاني أبي - وكان شيخا كبيرا -.

فقلت: إليك عني يا أبة فلست منك ولست مني.

قال: ولم يا بني؟

قال: قلت: أسلمت وتابعت دين محمد ﷺ.

قال: أي بني فدينك ديني.

فقلت: فاذهب فاغتسل وطهر ثيابك، ثم ائتني حتى أعلمك مما علمت.

قال: فذهب فاغتسل وطهر ثيابه، ثم جاء فعرضت عليه الإسلام فأسلم.

قال: ثم أتتني صاحبتي.

فقلت: إليك عني، فلست منك ولست مني.

قالت: ولم؟ بأبي أنت وأمي.

قال: قلت: قد فرق بيني وبينك الإسلام، وتابعت دين محمد ﷺ.

قالت: فديني دينك.

قال: فقلت: فاذهبي إلى حمى ذي الشرى فتطهري منه، وكان ذو الشرى صنما لدوس وكان الحمى حمى حموه حوله به وشل من ماء يهبط من جبل.

قالت: بأبي أنت وأمي أتخشى على الصبية من ذي الشرى شيئا؟

قلت: لا، أنا ضامن لذلك.

قال: فذهبت فاغتسلت ثم جاءت فعرضت عليها الإسلام فأسلمت، ثم دعوت دوسا إلى الإسلام فأبطؤا عليّ، ثم جئت رسول الله ﷺ بمكة.

فقلت له: يا رسول الله: إنه قد غلبني على دوس الزنا فادع الله عليهم.

قال: «اللهم اهد دوسا، ارجع إلى قومك فادعهم وارفق بهم».

قال: فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الإسلام حتى هاجر رسول الله ﷺ إلى المدينة ومضى بدر وأحد والخندق، ثم قدمت على رسول الله ﷺ بمن أسلم معي من قومي ورسول الله ﷺ بخيبر حتى نزلت المدينة بسبعين - أو ثمانين بيتا - من دوس فلحقنا برسول الله ﷺ بخيبر فأسهم لنا مع المسلمين.

ثم لم أزل مع رسول الله ﷺ حتى فتح الله عليه مكة.

فقلت يا رسول الله: ابعثني إلى ذي الكفين، صنم عمرو بن حممة حتى أحرقه.

قال ابن إسحاق: فخرج إليه فجعل الطفيل وهو يوقد عليه النار يقول:

ياذا الكفين لست من عبادكا * ميلادنا أقدم من ميلادكا

إني حشوت النار في فؤادكا

قال: ثم رجع إلى رسول الله ﷺ فكان معه بالمدينة حتى قبض رسول الله ﷺ.

فلما أرتدت العرب خرج الطفيل مع المسلمين فسار معهم حتى فرغوا من طليحة ومن أرض نجد كلها، ثم سار مع المسلمين إلى اليمامة ومعه ابنه عمرو بن الطفيل..

فرأى رؤيا وهو متوجه إلى اليمامة فقال لأصحابه: إني قد رأيت رؤيا فاعبروها لي، رأيت أن رأسي حلق، وأنه خرج من فمي طائر، وأنه لقيتني امرأة فأدخلتني في فرجها وأرى ابني يطلبني طلبا حثيثا ثم رأيته حبس عني؟

قالوا: خيرا.

قال: أما أنا والله فقد أولتها.

قالوا: ماذا؟

قال: أما حلق رأسي: فوضعه، وأما الطائر الذي خرج منه: فروحي، وأما المرأة التي أدخلتني في فرجها: فالأرض تحفر لي فأغيب فيها، وأما طلب ابني إياي ثم حبسه عني: فإني أراه سيجتهد أن يصيبه ما أصابني.

فقتل رحمه الله تعالى شهيدا باليمامة، وجرح ابنه جراحة شديدة، ثم استبل منها ثم قتل عام اليرموك زمن عمر شهيدا رحمه الله.

هكذا ذكر محمد بن إسحاق قصة الطفيل بن عمرو مرسلة بلا إسناد، ولخبره شاهد في الحديث الصحيح.

قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: لما قدم الطفيل وأصحابه على رسول الله ﷺ قال: إن دوسا قد استعصت قال: «اللهم اهد دوسا وائت بهم» رواه البخاري عن أبي نعيم عن سفيان الثوري.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، أنبأنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

قال: قدم الطفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه.

فقالوا: يا رسول الله إن دوسا قد عصت وأبت فادع الله عليها.

قال أبو هريرة: فرفع رسول الله ﷺ يديه فقلت: هلكت دوس.

فقال: «اللهم اهد دوسا، وائت بهم»، إسناد جيد ولم يخرجوه.

وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن حجاج الصواف عن أبي الزبير عن جابر: أن الطفيل بن عمرو الدوسي أتى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله هل لك في حصن حصين ومنعة؟ - قال: حصن كان لدوس في الجاهلية - فأبى ذلك رسول الله ﷺ للذي ذخر الله للأنصار.

فلما هاجر النبي ﷺ إلى المدينة هاجر إليه الطفيل بن عمرو وهاجر معه رجل من قومه فاجتووا المدينة فمرض فجزع فأخذ مشاقص فقطع بها براجمه فشخبت يداه فما رقأ الدم حتى مات.

فرآه الطفيل بن عمرو في منامه في هيئة حسنة، ورآه مغطيا يديه.

فقال له: ما صنع ربك بك؟

فقال: غفر لي بهجرتي إلى نبيه ﷺ

قال: فما لي أراك مغطيا يديك؟

قال: قيل لي لن يصلح منك ما أفسدت..

قال: فقصها الطفيل على رسول الله ﷺ.

فقال رسول الله ﷺ: «اللهم وليديه فاغفر».

رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم كلاهما عن سليمان بن حرب به.

فإن قيل: فما الجمع بين هذا الحديث وبين ما ثبت في (الصحيحين) من طريق الحسن عن جندب قال:

قال رسول الله ﷺ: «كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح فجزع، فأخذ سكينا فحز بها يده فما رقأ الدم حتى مات، فقال الله عز وجل: عبدي بادرني بنفسه فحرمت عليه الجنة».

فالجواب من وجوه؛ أحدها: أنه قد يكون ذاك مشركا وهذا مؤمن، ويكون قد جعل هذا الصنيع سببا مستقلا في دخوله النار وإن كان شركه مستقلا إلا أنه نبه على هذا لتعتبر أمته.

الثاني: قد يكون هذاك عالما بالتحريم وهذا غير عالم لحداثة عهده بالإسلام.

الثالث: قد يكون ذاك فعله مستحلا له وهذا لم يكن مستحلا بل مخطئا.

الرابع: قد يكون أراد ذاك بصنيعه المذكور أن يقتل نفسه بخلاف هذا فإنه يجوز أنه لم يقصد قتل نفسه وإنما أراد غير ذلك.

الخامس: قد يكون هذاك قليل الحسنات فلم تقاوم كبر ذنبه المذكور فدخل النار، وهذا قد يكون كثير الحسنات فقاومت الذنب فلم يلج النار بل غفر له بالهجرة إلى نبيه ﷺ.

ولكن بقي الشين في يده فقط وحسنت هيئة سائره فغطى الشين منه فلما رآه الطفيل بن عمرو مغطيا يديه قال له: مالك؟

قال: قيل لي لن يصلح منك ما أفسدت.

فلما قصها الطفيل على رسول الله ﷺ دعا له فقال: «اللهم وليديه فاغفر» أي: فأصلح منها ما كان فاسدا.

والمحقق أن الله استجاب لرسول الله ﷺ في صاحب الطفيل بن عمرو.

قصة أعشى بن قيس

قال ابن هشام: حدثني خلاد بن قرة بن خالد السدوسي وغيره من مشايخ بكر بن وائل عن أهل العلم أن أعشى بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل خرج إلى رسول الله ﷺ يريد الإسلام، فقال يمدح النبي ﷺ:

ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا * وبتَّ كما بات السليم مسهَّدا

وما ذاك من عشق النساء وإنما * تناسيت قبل اليوم خلَّة مهْددا

ولكن أرى الدهر الذي هو خائن * إذا أصلحت كفَّاي عاد فأفسدا

كهولا وشبَّانا فقدتُ وثروةً * فلله هذا الدهر كي ترددا

وما زلت أبغي المال مذ أنا يافع * وليدا وكهلا حين شبْتُ وأمردا

وأبتذل العيس المراقيل تعتلي * مسافة ما بين النجير فصرخدا

ألا أيهذا السائلي أين يمَّمت * فإن لها في أهل يثرب موعدا

فإن تسألي عني فيا ربَّ سائل * حفيّ عن الأعشى به حيث أصعدا

أجدتُ برجليها النجاد وراجعت * يداها خنافا ليِّنا غير أحردا

وفيها إذا ما هجَّرتْ عجرفيّةٌ * إذا خلت حرباء الظهيرة أصيدا

وآليت لا آوي لها من كلالةٍ * ولا من حفى حتى تلاقي محمدا

متى ما تناخي عند باب ابن هاشم * تراحي وتلقي من فواضله ندى

نبي يرى ما لا ترون وذكره * أغار لعمري في البلاد وأنجدا

له صدقات ما تغبُّ ونائل * فليس عطاء اليوم مانعه غدا

أجدَّك لم تسمع وصاة محمدٍ * نبي الإله حيث أوصى وأشهدا

إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى * ولاقيت بعد الموت من قد تزودا

ندمت على أن لا تكون كمثله * فترصد للأمر الذي كان أرصدا

فإياك والميتات لا تقربنَّها * ولا تأخذن سهما حديدا لتقصدا

وذا النصب المنصوب لا تنسكنَّه * ولا تعبد الأوثان والله فاعبدا

ولا تقربنَّ جارة كان سرها * عليك حراما فانكحن أو تأبدا

وذا الرحم القربى فلا تقطعنَّه * لعاقبة ولا الأسير المقيدا

وسبِّح على حين العشية والضحى * ولا تحمد الشيطان والله فاحمدا

ولا تسخرن من بائسٍ ذي ضرارة * ولا تحسبنَّ المال للمرء مخلدا

قال ابن هشام: فلما كان بمكة - أو قريب منها - اعترضه بعض المشركين من قريش فسأله عن أمره فأخبره أنه جاء يريد رسول الله ﷺ ليسلم.

فقال له: يا أبا بصير إنه يحرم الزنا.

فقال الأعشى: والله إن ذلك لأمر مالي فيه من أرب.

فقال: يا أبا بصير إنه يحرم الخمر.

فقال الأعشى: أما هذه فوالله إن في نفسي منها العلالات، ولكني منصرف فأتروى منها عامي هذا، ثم آته فأسلم فانصرف فمات في عامه ذلك ولم يعد إلى النبي ﷺ.

هكذا أورد ابن هشام هذه القصة ههنا وهو كثير المؤاخذات لمحمد بن إسحاق رحمه الله، وهذا مما يؤاخذ به ابن هشام رحمه الله..

فإن الخمر إنما حرمت بالمدينة بعد وقعة بني النضير كما سيأتي بيانه فالظاهر أن عزم الأعشى على القدوم للإسلام إنما كان بعد الهجرة وفي شعره ما يدل على ذلك وهو قوله:

ألا أيها ذا السائلي أين يممت * فإن لها في أهل يثرب موعدا

وكان الأنسب والأليق بابن هشام أن يؤخر ذكر هذه القصة إلى ما بعد الهجرة ولا يوردها هاهنا والله أعلم.

قال السهيلي: وهذه غفلة من ابن هشام ومن تابعه فإن الناس مجمعون على أن الخمر لم ينزل تحريمها إلا في المدينة بعد أحد.

وقد قال: وقيل إن القائل للأعشى هو أبو جهل بن هشام في دار عتبة بن ربيعة.

وذكر أبو عبيدة أن القائل له ذلك: هو عامر بن الطفيل في بلاد قيس وهو مقبل إلى رسول الله ﷺ قال: وقوله ثم آته فأسلم لا يخرجه عن كفره بلا خلاف والله أعلم.

ثم ذكر ابن إسحاق هاهنا قصة الأراشي وكيف استعدى إلى رسول الله ﷺ من أبي جهل في ثمن الجمل الذي ابتاعه منه، وكيف أذل الله أبا جهل وأرغم أنفه حتى أعطاه ثمنه في الساعة الراهنة وقد قدَّمنا ذلك في ابتداء الوحي وما كان من أذية المشركين عند ذلك.

قصة مصارعة ركانة وكيف أراه صلى الله عليه وسلم الشجرة التي دعاها فأقبلت

قال ابن إسحاق: وحدثني أبي إسحاق بن يسار قال: وكان ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف أشد قريشا فخلا يوما برسول الله ﷺ في بعض شعاب مكة، فقال له رسول الله ﷺ: «يا ركانة ألا تتقي الله وتقبل ما أدعوك إليه؟».

قال: إني لو أعلم أن الذي تقول حق لاتبعتك.

فقال له رسول الله ﷺ: «أفرأيت إن صرعتك أتعلم أن ما أقول حق؟».

قال: نعم!

قال: «فقم حتى أصارعك».

قال: فقام ركانة إليه فصارعه فلما بطش به رسول الله ﷺ أضجعه لا يملك من نفسه شيئا ثم قال: عد يا محمد فعاد فصرعه.

فقال: يا محمد والله إن هذا للعجب، أتصرعني؟

قال رسول الله ﷺ: «وأعجب من ذلك إن شئت أريكه إن اتقيت الله واتبعت أمري»؟

قال: وما هو؟

قال: «أدعو لك هذه الشجرة التي ترى فتأتيني».

قال: فادعها..

فدعاها فأقبلت حتى وقفت بين يدي رسول الله ﷺ.

فقال لها: ارجعي إلى مكانك فرجعت إلى مكانها.

قال: فذهب ركانة إلى قومه فقال: يا بني عبد مناف ساحروا صاحبكم أهل الأرض فوالله ما رأيت أسحر منه قط، ثم أخبرهم بالذي رأى والذي صنع.

هكذا روى ابن إسحاق هذه القصة مرسلةً بهذا البيان.

وقد روى أبو داود والترمذي من حديث أبي الحسن العسقلاني عن أبي جعفر بن محمد بن ركانة عن أبيه.

أن ركانة صارع النبي ﷺ فصرعه النبي ﷺ.

ثم قال الترمذي: غريب ولا نعرف أبا الحسن ولا ابن ركانة.

قلت: وقد روى أبو بكر الشافعي بإسناد جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن يزيد بن ركانة صارع النبي ﷺ فصرعه النبي ﷺ ثلاث مرات، كل مرة على مائة من الغنم فلما كان في الثالثة قال: يا محمد ما وضع ظهري إلى الأرض أحد قبلك، وما كان أحد أبغض إلي منك.

وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ﷺ فقام عنه رسول الله ﷺ وردَّ عليه غنمه.

وأما قصة دعائه الشجرة فأقبلت فسيأتي في كتاب (دلائل النبوة) بعد السيرة من طرق جيدة صحيحة في مرات متعددة إن شاء الله وبه الثقة.

وقد تقدم عن أبي الأشدين أنه صارع النبي ﷺ فصرعه رسول الله ﷺ.

ثم ذكر ابن إسحاق قصة قدوم النصارى من أهل الحبشة نحوا من عشرين راكبا إلى مكة فأسلموا عن آخرهم، وقد تقدم ذلك بعد قصة النجاشي ولله الحمد والمنة.

قال ابن إسحاق: وكان رسول الله ﷺ إذا جلس في المسجد، يجلس إليه المستضعفون من أصحابه: خباب، وعمار، وأبو فكيهة، يسار، مولى صفوان بن أمية، وصهيب، وأشباههم من المسلمين.

هزئت بهم قريش وقال بعضهم لبعض: هؤلاء أصحابه كما ترون، أهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا بالهدى ودين الحق لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقنا هؤلاء إليه، وما خصهم الله به دوننا.

فأنزل الله عز وجل فيهم: { وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ * وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ * وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [60]..

قال: وكان رسول الله ﷺ كثيرا ما يجلس عند المروة إلى مبيعة غلام نصراني يقال له: جبر، عبد لبنى الحضرمي، وكانوا يقولون والله ما يعلم محمدا كثيرا مما يأتي به إلاجبر، فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم: { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ } [61].

ثم ذكر نزول (سورة الكوثر) في العاص بن وائل حين قال عن رسول الله ﷺ إنه أبتر أي: لا عقب له فإذا مات انقطع ذكره.

فقال الله تعالى: { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ } أي: المقطوع الذكر بعده، ولو خلف ألوفا من النسل والذرية وليس الذكر والصيت ولسان صدق بكثرة الأولاد والأنسال والعقب، وقد تكلمنا على هذه السورة في التفسير ولله الحمد.

وقد روي عن أبي جعفر الباقر: أن العاص بن وائل إنما قال ذلك حين مات القاسم بن النبي ﷺ، وكان قد بلغ أن يركب الدابة ويسير على النجيبة.

ثم ذكر نزول قوله: { وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر } وذلك بسبب قول أبي بن خلف وزمعة بن الأسود والعاص ابن وائل والنضر بن الحارث: لولا أنزل عليك ملك يكلم الناس عنك.

قال ابن إسحاق: ومر رسول الله ﷺ فيما بلغنا بالوليد بن المغيرة وأمية بن خلف وأبي جهل ابن هشام فهمزوه واستهزؤا به، فغاظه ذلك فأنزل الله تعالى في ذلك من أمرهم: { ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤن }.

قلت: وقال الله تعالى: { ولقد استهزئ برسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين }.

وقال تعالى: { إنا كفيناك المستهزئين }.

قال سفيان: عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.

قال: المستهزؤن: الوليد بن المغيرة، والأسود بن عبد يغوث الزهري، والأسود بن المطلب أبو زمعة، والحارث بن عيطل، والعاص بن وائل السهمي.

فأتاه جبريل فشكاهم إليه رسول الله ﷺ فأراه الوليد أبا عمرو بن المغيرة فأشار جبريل إلى أنمله وقال: كفيته.

ثم أراه الأسود بن المطلب فأومأ إلى عنقه وقال: كفيته.

ثم أراه الأسود بن عبد يغوث فأومأ إلى رأسه وقال: كفيته.

ثم أراه الحارث بن عيطل فأومأ إلى بطنه وقال: كفيته.

ومر به العاص بن وائل فأومأ إلى أخمصه وقال: كفيته..

فأما الوليد: فمر برجل من خزاعة وهو يريش نبلا له فأصاب أنمله فقطعها، وأما الأسود بن عبد يغوث: فخرج في رأسه قروح فمات منها، وأما الأسود بن المطلب: فعمي.

وكان سبب ذلك أنه نزل تحت سمرة فجعل يقول: يا بني ألا تدفعون عني قد قتلت فجعلوا يقولون: ما نرى شيئا.

وجعل يقول: يا بني ألا تمنعون عني قد هلكت، ها هو ذا الطعن بالشوك في عيني.

فجعلوا يقولون: ما نرى شيئا فلم يزل كذلك حتى عميت عيناه.

وأما الحارث بن عيطل: فأخذه الماء الأصفر في بطنه حتى خرج خرؤه من فيه فمات منها.

وأما العاص بن وائل: فبينما هو كذلك يوما إذ دخل في رأسه شبرقة حتى امتلأت منها فمات منها.

وقال غيره في هذا الحديث: فركب إلى الطائف على حمار فربض به على شبرقة - يعني شوكة - فدخلت في أخمص قدمه شوكة فقتلته.

رواه البيهقي بنحو من هذا السياق.

وقال ابن إسحاق: وكان عظماء المستهزئين كما حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير خمسة نفر.

وكانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم؛ الأسود بن المطلب أبو زمعة دعا عليه رسول الله ﷺ فقال: «اللهم أعم بصره وأثكله ولده».

والأسود بن عبد يغوث، والوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والحارث بن الطلاطلة.

وذكر أن الله تعالى أنزل فيهم: { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَها آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } [62].

وذكر أن جبريل أتى رسول الله ﷺ وهم يطوفون بالبيت، فقام وقام رسول الله ﷺ إلى جنبه، فمرَّ به الأسود ابن المطلب فرمى في وجهه بورقة خضراء فعمي.

ومرَّ به الأسود بن عبد يغوث فأشار إلى بطنه فاستسقى باطنه فمات منه حبنا.

ومرَّ به الوليد بن المغيرة فأشار إلى أثر جرح بأسفل كعبه كان أصابه قبل ذلك بسنين من مروره برجل يريش نبلا له من خزاعة فتعلق سهم بإزاره فخدشه خدشا يسيرا، فانتقض بعد ذلك فمات.

ومرَّ به العاص بن وائل فأشار إلى أخمص رجله فخرج على حمار له يريد الطائف فربض به على شبرقة فدخلت في أخمص رجله شوكة فقتلته.

ومر به الحارث بن الطلاطل فأشار إلى رأسه فامتحض قيحا فقتله..

ثم ذكر ابن إسحاق: أن الوليد بن المغيرة لما حضره الموت أوصى بنيه الثلاثة وهم: خالد وهشام والوليد.

فقال لهم: أي بني، أوصيكم بثلاث، دمي في خزاعة فلا تطلوه، والله إني لأعلم أنهم منه براء ولكني أخشى أن تسبوا به بعد اليوم، ورباي في ثقيف، فلا تدعوه حتى تأخذوه، وعقري عند أبي أزيهر الدوسي فلا يفوتنكم به.

وكان أبو أزيهر قد زوج الوليد بنتا له ثم أمسكها عنه فلم يدخلها عليه حتى مات، وكان قد قبض عقرها منه - وهو صداقها -.

فلما مات الوليد وثبت بنو مخزوم على خزاعة يلتمسون منهم عقل الوليد، وقالوا: إنما قتله سهم صاحبكم، فأبت عليهم خزاعة ذلك حتى تقاولوا أشعارا وغلظ بينهم الأمر.

ثم أعطتهم خزاعة بعض العقل واصطلحوا وتحاجزوا.

قال ابن إسحاق: ثم عدا هشام بن الوليد على أبي أزيهر وهو بسوق ذي المجاز فقتله، وكان شريفا في قومه وكانت ابنته تحت أبي سفيان - وذلك بعد بدر - فعمد يزيد بن أبي سفيان فجمع الناس لبني مخزوم وكان أبوه غائبا، فلما جاء أبو سفيان غاظه ما صنع ابنه يزيد فلامه على ذلك وضربه وودى أبا أزيهر وقال لابنه: أعمدت إلى أن تقتل قريش بعضها بعضا في رجل من دوس؟

وكتب حسان بن ثابت قصيدة له يحض أبا سفيان في دم أبي أزيهر، فقال: بئس ما ظن حسان أن يقتل بعضنا بعضا وقد ذهب أشرافنا يوم بدر.

ولما أسلم خالد بن الوليد وشهد الطائف مع رسول الله ﷺ سأله في ربا أبيه من أهل الطائف؟

قال ابن إسحاق: فذكر لي بعض أهل العلم: إن هؤلاء الآيات نزلن في ذلك: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [63] وما بعدها.

قال ابن إسحاق: ولم يكن في بني أزيهر ثأر نعلمه حتى حجر الإسلام بين الناس، إلا أن ضرار بن الخطاب بن مرداس الأسلمي خرج في نفر من قريش إلى أرض دوس فنزلوا على امرأة يقال لها أم غيلان مولاة لدوس، وكانت تمشط النساء وتجهز العرائس، فأرادت دوس قتلهم بأبي أزيهر فقامت دونه أم غيلان ونسوة كن معها حتى منعتهم.

قال السهيلي: يقال إنها أدخلته بين درعها وبدنها.

قال ابن هشام: فلما كانت أيام عمر بن الخطاب أتته أم غيلان وهي ترى أن ضرارا أخوه.

فقال لها عمر: لست بأخيه إلا في الإسلام، وقد عرفت منتك عليه فأعطاها على أنها بنت سبيل.

قال ابن هشام: وكان ضرار بن الخطاب لحق عمر بن الخطاب يوم أحد فجعل يضربه بعرض الرمح ويقول: انج يا ابن الخطاب لا أقتلك فكان عمر يعرفها له بعد الإسلام رضي الله عنهما.

فصل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على قريش حين استعصت عليه

وذكر البيهقي ها هنا دعاء النبي ﷺ على قريش حين استعصت عليه بسبع مثل سبع يوسف وأورد ما أخرجاه في (الصحيحين) من طريق الأعمش عن مسلم بن صبيح عن مسروق عن ابن مسعود.

قال: خمس مضين؛ اللزام والروم، والدخان، والبطشة، والقمر، وفي رواية عن ابن مسعود.

قال: إن قريشا، لما استعصت على رسول الله ﷺ وأبطئوا عن الإسلام.

قال: «اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف».

قال: فأصابتهم سنة حتى فحصت كل شيء، حتى أكلوا الجيف والميتة وحتى أن أحدهم كان يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع.

ثم دعا فكشف الله عنهم، ثم قرأ عبد الله هذه الآية: { إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ } [64] قال: فعادوا فكفروا فأخروا إلى يوم القيامة - أو قال: فأخروا إلى يوم بدر -.

قال عبد الله: إن ذلك لو كان يوم القيامة كان لا يكشف عنهم: { يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ } [65] قال يوم بدر.

وفي رواية عنه.

قال: لما رأى رسول الله ﷺ من الناس إدبارا.

قال: «اللهم سبع كسبع يوسف» فأخذتهم سنة حتى أكلوا الميتة والجلود والعظام.

فجاءه أبو سفيان وناس من أهل مكة فقالوا: يا محمد إنك تزعم أنك بعثت رحمة وأن قومك قد هلكوا، فادع الله لهم.

فدعا رسول الله ﷺ فسقوا الغيث، فأطبقت عليهم سبعا فشكا الناس كثرة المطر.

فقال: «اللهم حوالينا ولا علينا» فانجذب السحاب عن رأسه فسقى الناس حولهم.

قال: لقد مضت آية الدخان - وهو الجوع الذي أصابهم - وذلك قوله: { إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون } وآية الروم، والبطشة الكبرى، وانشقاق القمر، وذلك كله يوم بدر.

قال البيهقي: يريد - والله أعلم - البطشة الكبرى والدخان وآية اللزام كلها حصلت ببدر.

قال: وقد أشار البخاري إلى هذه الرواية.

ثم أورد من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب السختياني، عن عكرمة، عن ابن عباس.

قال: جاء أبو سفيان إلى رسول الله ﷺ يستغيث من الجوع لأنهم لم يجدوا شيئا حتى أكلوا العهن، فأنزل الله تعالى: { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } [66].

قال: فدعا رسول الله ﷺ حتى فرج الله عنهم.

ثم قال الحافظ البيهقي: وقد روى في قصة أبي سفيان ما دل على أن ذلك بعد الهجرة، ولعله كان مرتين والله أعلم.

فصل قصة فارس والروم

ثم أورد البيهقي قصة فارس والروم ونزول قوله تعالى: { الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } [67].

ثم روى من طريق سفيان الثوري عن حبيب بن أبي عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب، وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم لأنهم أهل أوثان، فذكر ذلك المسلمون لأبي بكر فذكره أبو بكر للنبي ﷺ فقال له: «أما أنهم سيظهرون» فذكر أبو بكر ذلك للمشركين.

فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلا إن ظهروا كان لك كذا وكذا، وإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا فذكر ذلك أبو بكر للنبي ﷺ.

فقال: «ألا جعلته أداة».

قال: دون العشر فظهرت الروم بعد ذلك.

وقد أوردنا طرق هذا الحديث في التفسير وذكرنا أن المباحث - أي: المراهن - لأبي بكر أمية بن خلف وأن الرهن كان على خمس قلايص، وأنه كان إلى مدة، فزاد فيها الصديق عن أمر رسول الله ﷺ وفي الرهن.

وأن غلبة الروم على فارس كان يوم بدر - أو كان يوم الحديبية - فالله أعلم.

ثم روى من طريق الوليد بن مسلم حدثنا أسيد الكلابي أنه سمع العلاء بن الزبير الكلابي يحدث عن أبيه.

قال: رأيت غلبة فارس الروم، ثم رأيت غلبة الروم فارس، ثم رأيت غلبة المسلمين فارس والروم وظهورهم على الشام والعراق، كل ذلك في خمس عشرة سنة.

فصل الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس

ذكر ابن عساكر أحاديث الإسراء في أوائل البعثة، وأما ابن إسحاق فذكرها في هذا الموطن بعد البعثة بنحو من عشر سنين، وروى البيهقي من طريق موسى بن عقبة عن الزهري أنه قال: أسري برسول الله ﷺ قبل خروجه إلى المدينة بسنة.

قال: وكذلك ذكره ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة.

ثم روى الحاكم عن الأصم عن أحمد بن عبد الجبار عن يونس بن بكير عن أسباط بن نصر عن إسماعيل السدي.

أنه قال: فرض على رسول الله ﷺ الخمس ببيت المقدس ليلة أُسري به قبل مهاجره بستة عشر شهرا، فعلى قول السدي يكون الإسراء في شهر ذي القعدة، وعلى قول الزهري وعروة يكون في ربيع الأول.

وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا عثمان عن سعيد ابن مينا عن جابر وابن عباس.

قالا: ولد رسول الله ﷺ عام الفيل يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول.

وفيه بعث، وفيه عرج به إلى السماء، وفيه هاجر، وفيه مات، فيه انقطاع.

وقد اختاره الحافظ عبد الغني بن سرور المقدسي في سيرته وقد أورد حديثا لا يصح سنده ذكرناه في فضائل شهر رجب أن الإسراء كان ليلة السابع والعشرين من رجب والله أعلم.

ومن الناس من يزعم أن الإسراء كان أول ليلة جمعة من شهر رجب وهي ليلة الرغائب التي أحدثت فيها الصلاة المشهورة ولا أصل لذلك والله أعلم.

وينشد بعضهم في ذلك:

ليلةَ الجمعةِ عُرِّج بالنبي * ليلةَ الجمعةِ أول رجب

وهذا الشعر عليه ركاكة وإنما ذكرناه استشهادا لمن يقول به.

وقد ذكرنا الأحاديث الواردة في ذلك مستقصاة عند قوله تعالى: { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير } فلتكتب من هناك على ما هي عليه من الأسانيد والعزو، والكلام عليها ومعها ففيها مقنع وكفاية ولله الحمد والمنة.

ولنذكر ملخص كلام ابن إسحاق رحمه الله فإنه قال بعد ذكر ما تقدم من الفصول: ثم أسري برسول الله ﷺ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى - وهو بيت المقدس من إيلياء - وقد فشا الإسلام بمكة في قريش وفي القبائل كلها.

قال: وكان من الحديث - فيما بلغني - عن مسراه ﷺ عن عبد الله بن مسعود وأبي سعيد الخدري وعائشة ومعاوية وأم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنهم والحسن بن أبي الحسن وابن شهاب الزهري وقتادة وغيرهم من أهل العلم ما اجتمع في هذا الحديث، كل يحدث عنه بعض ما ذكر لي من أمره.

وكان في مسراه ﷺ وما ذكر لي منه بلاء وتمحيص، وأمر من أمر الله وقدرته وسلطانه، فيه عبرة لأولي الألباب، وهدى ورحمة وثبات لمن آمن وصدق، وكان من أمر الله على يقين، فأسرى به كيف شاء وكما شاء ليريه من آياته ما أراد، حتى عاين ما عاين من أمره وسلطانه العظيم، وقدرته التي يصنع بها ما يريد.

وكان عبد الله بن مسعود - فيما بلغني - يقول: أتى رسول الله ﷺ بالبراق - وهي الدابة التي كانت تحمل عليها الأنبياء قبله، تضع حافرها في موضع منتهى طرفها - فحُمل عليها ثم خرج به صاحبه يرى الآيات فيما بين السماء والأرض حتى انتهى إلى بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء قد جمعوا له، فصلى بهم ثم أتى بثلاثة آنية: من لبن، وخمر، وماء.

فذكر أنه شرب إناء اللبن، فقال لي جبريل: هديت وهديت أمتك.

وذكر ابن إسحاق في سياق الحسن البصري مرسلا: أن جبريل أيقظه ثم خرج به إلى باب المسجد الحرام فأركبه البراق وهو دابة أبيض، بين البغل والحمار، وفي فخذيه جناحان يحفز بهما رجليه، يضع حافره في منتهى طرفه، ثم حملني عليه ثم خرج معي لا يفوتني ولا أفوته.

قلت: وفي الحديث وهو عن قتادة فيما ذكره ابن إسحاق أن رسول الله ﷺ لما أراد ركوب البراق شمس به فوضع جبريل يده على معرفته ثم قال: ألا تستحي يا براق مما تصنع، فوالله ما ركبك عبد لله قبل محمد أكرم عليه منه.

قال: فاستحى حتى أرفض عرقا ثم قرَّ حتى ركبته.

قال الحسن في حديثه: فمضى رسول الله ﷺ ومضى معه جبريل حتى انتهى به إلى بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء فأمهم رسول الله ﷺ فصلى بهم، ثم ذكر اختياره إناء اللبن على إناء الخمر وقول جبريل له: هديت وهديت أمتك وحرمت عليكم الخمر.

قال: ثم انصرف رسول الله ﷺ إلى مكة، فأصبح يخبر قريشا بذلك فذكر أنه كذبه أكثر الناس وارتدت طائفة بعد إسلامها، وبادر الصديق إلى التصديق وقال: إني لأصدقه في خبر السماء بكرة وعشية أفلا أصدقه في بيت المقدس وذكر أن الصديق سأله عن صفة بيت المقدس فذكرها له رسول الله ﷺ قال: فيومئذ سمي أبو بكر الصديق.

قال الحسن: وأنزل الله في ذلك: { وماجعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } الآية.

وذكر ابن إسحاق فيما بلغه عن أم هانئ.

أنها قالت: ما أسري برسول الله ﷺ إلا من بيتي نام عندي تلك الليلة بعد ما صلى العشاء الآخرة، فلما كان قبيل الفجر أهبنا فلما صلى الصبح وصلينا معه.

قال يا أم هانئ: «لقد صليت معكم العشاء الآخرة في هذا الوادي ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه ثم قد صليت الغداة معكم الآن كما ترين».

ثم قام ليخرج فأخذت بطرف ردائه فقلت: يا نبي الله لا تحدث بهذا الحديث الناس فيكذبونك ويؤذونك.

قال: «والله لأحدثنهموه» فأخبرهم فكذبوه.

فقال: وآية ذلك أني مررت بعير بني فلان بوادي كذا وكذا، فأنفرهم حس الدابة فندَّلهم بعير فدللتهم عليه وأنا متوجه إلى الشام، ثم أقبلت حتى إذا كنت بضجنان مررت بعير بني فلان فوجدت القوم نياما ولهم إناء فيه ماء قد غطوا عليه بشيء فكشفت غطاءه وشربت ما فيه، ثم غطيت عليه كما كان.

وآية ذلك أن عيرهم تصوب الآن من ثنية التنعيم البيضاء يقدمها جمل أورق عليه غرارتان إحداهما سوداء والأخرى برقاء.

قال: فابتدر القوم الثنية فلم يلقهم أول من الجمل الذي وصف لهم، وسألوهم عن الإناء وعن البعير فأخبروهم كما ذكر صلوات الله وسلامه عليه.

وذكر يونس بن بكير عن أسباط عن إسماعيل السدي أن الشمس كادت أن تغرب قبل أن يقدم ذلك العير، فدعا الله عز وجل فحبسها حتى قدموا كما وصف لهم.

قال: فلم تحتبس الشمس على أحد إلا عليه ذلك اليوم وعلى يوشع بن نون. رواه البيهقي.

قال ابن إسحاق: وأخبرني من لا أتهم عن أبي سعيد قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: لما فرغت مما كان في بيت المقدس أتى بالمعراج ولم أر شيئا قط أحسن منه، وهو الذي يمد إليه ميتكم عينيه إذا حضر، فأصعدني فيه صاحبي، حتى انتهى بي إلى باب من أبواب السماء، يقال له: باب الحفظة عليه بريد من الملائكة يقال له: إسماعيل، تحت يده اثنا عشر ألف ملك، تحت يد كل ملك منهم اثنا عشر ألف ملك.

قال: يقول رسول الله ﷺ إذا حدث بهذا الحديث { وما يعلم جنود ربك إلا هو }.

ثم ذكر بقية الحديث وهو مطول جدا وقد سقناه بإسناده ولفظه بكماله في التفسير وتكلمنا عليه فإنه من غرائب الأحاديث وفي إسناده ضعف، وكذا في سياق حديث أم هانئ فإن الثابت في (الصحيحين) من رواية شريك بن أبي نمر عن أنس أن الإسراء كان من المسجد من عند الحجر وفي سياقه غرابة أيضا من وجوه قد تكلمنا عليها هناك.

ومنها قوله: وذلك قبل أن يوحى إليه، والجواب أن مجيئهم أول مرة كان قبل أن يوحى إليه فكانت تلك الليلة ولم يكن فيها شيء ثم جاءه الملائكة ليلة أخرى ولم يقل في ذلك، وذلك قبل أن يوحى إليه بل جاءه بعد ما أوحي إليه فكان الإسراء قطعا بعد الإيحاء إما بقليل كما زعمه طائفة، أو بكثير نحو من عشر سنين كما زعمه آخرون وهو الأظهر.

وغسل صدره تلك الليلة قبل الإسراء غسلا ثانيا - أو ثالثا - على قول أنه مطلوب إلى الملأ الأعلى والحضرة الإلهية ثم ركب البراق رفعة له وتعظيما وتكريما فلما جاء بيت المقدس ربطه بالحلقة التي كانت تربط بها الأنبياء ثم دخل بيت المقدس فصلى في قبلته تحية المسجد.

وأنكر حذيفة رضي الله عنه دخوله إلى بيت المقدس وربطه الدابة وصلاته فيه وهذا غريب، والنص المثبت مقدم على النافي.

ثم اختلفوا في اجتماعه بالأنبياء وصلاته بهم أكان قبل عروجه إلى السماء كما دل عليه ما تقدم أو بعد نزوله منها كما دل عليه بعض السياقات وهو أنسب كما سنذكره على قولين فالله أعلم.

وقيل: أن صلاته بالأنبياء كانت في السماء، وهكذا تخيره من الآنية اللبن والخمر والماء هل كانت ببيت المقدس كما تقدم أو في السماء كما ثبت في الحديث الصحيح والمقصود أنه ﷺ لما فرغ من أمر بيت المقدس نصب له المعراج وهو السلم فصعد فيه إلى السماء ولم يكن الصعود على البراق كما قد يتوهمه بعض الناس بل كان البراق مربوطا على باب مسجد بيت المقدس ليرجع عليه إلى مكة.

فصعد من سماء إلى سماء في المعراج حتى جاوز السابعة وكلما جاء سماء تلقته منها مقربوها ومن فيها من أكابر الملائكة والأنبياء وذكر أعيان من رآه من المرسلين: كآدم في سماء الدنيا، ويحيى وعيسى في الثانية وإدريس في الرابعة، وموسى في السادسة - على الصحيح - وإبراهيم في السابعة مسندا ظهره إلى البيت المعمور الذي يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة يتعبدون فيه صلاة وطوافا ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة.

ثم جاوز مراتبهم كلهم حتى ظهر لمستوى يسمع فيه صريف الأقلام، ورفعت لرسول الله ﷺ سدرة المنتهى وإذا ورقها كآذان الفيلة، ونبقها كقلال هجر، وغشيها عند ذلك أمور عظيمة ألوان متعددة باهرة وركبتها الملائكة مثل الغربان على الشجرة كثرة وفراش من ذهب وغشيها من نور الرب جل جلاله، ورأى هناك جبريل عليه السلام له ستمائة جناح ما بين كل جناحين كما بين السماء والأرض وهو الذي يقول الله تعالى: { ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى } أي: ما زاغ يمينا ولا شمالا ولا ارتفع عن المكان الذي حدَّ له النظر إليه.

وهذا هو الثبات العظيم والأدب الكريم وهذه الرؤيا الثانية لجبريل عليه السلام على الصفة التي خلقه الله تعالى عليها، كما نقله ابن مسعود وأبو هريرة وأبو ذر وعائشة رضي الله عنهم أجمعين.

والأولى هي: قوله تعالى: { علَّمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى } وكان ذلك بالأبطح، تدلى جبريل على رسول الله ﷺ سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض حتى كان بينه وبينه قاب قوسين أو أدنى، هذا هو الصحيح في التفسير كما دل عليه كلام أكابر الصحابة المتقدم ذكرهم رضي الله عنهم.

فأما قول شريك عن أنس في حديث الإسراء: ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فقد يكون من فهم الراوي فأقحمه في الحديث والله أعلم.

وإن كان محفوظا فليس بتفسير للآية الكريمة بل هو شيء آخر غير ما دلت عليه الآية الكريمة والله أعلم.

وفرض الله سبحانه وتعالى على عبده محمد ﷺ وعلى أمته الصلوات ليلتئذ خمسين صلاة في كل يوم وليلة، ثم لم يزل يختلف بين موسى وبين ربه عز وجل حتى وضعها الرب جل جلاله وله الحمد والمنة إلى خمس.

وقال: هي خمس وهي خمسون الحسنة بعشر أمثالها فحصل له التكليم من الرب عز وجل ليلتئذ، وأئمة السنة كالمطبقين على هذا، واخلفوا في الرؤية فقال بعضهم: رآه بفؤاده مرتين قاله ابن عباس وطائفة: وأطلق ابن عباس وغيره الرؤية وهو محمول على التقييد.

وممن أطلق الرؤية: أبو هريرة وأحمد بن حنبل رضي الله عنهما، وصرح بعضهم بالرؤية بالعينين وأختاره ابن جرير وبالغ فيه وتبعه على ذلك آخرون من المتأخرين.

وممن نص على الرؤية بعيني رأسه: الشيخ أبو الحسن الأشعري فيما نقله السهيلي عنه، واختاره الشيخ أبو زكريا النووي في (فتاويه).

وقالت طائفة: لم يقع ذلك لحديث أبي ذر في صحيح مسلم.

قلت يا رسول الله: هل رأيت ربك؟

فقال: «نورٌ أنَّى أراه».

وفي رواية: «رأيت نورا».

قالوا: ولم يكن رؤية الباقي بالعين الفانية ولهذا قال الله تعالى لموسى فيما روي في بعض الكتب الإلهية: «يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات، ولا يابس إلا تدهده».

والخلاف في هذه المسألة مشهور بين السلف والخلف والله أعلم.

ثم هبط رسول الله ﷺ إلى بيت المقدس والظاهر أن الأنبياء هبطوا معه تكريما له وتعظيما عند رجوعه من الحضرة الإلهية العظيمة كما هي عادة الوافدين لا يجتمعون بأحد قبل الذي طلبوا إليه، ولهذا كان كلما مرَّ على واحد منهم يقول له جبريل - عندما يتقدم ذاك للسلام عليه -: هذا فلان فسلم عليه، فلو كان قد اجتمع بهم قبل صعوده لما احتاج إلى تعرف بهم مرة ثانية.

ومما يدل على ذلك أنه قال: فلما حانت الصلاة: أممتهم.

ولم يحن وقت إذ ذاك إلا صلاة الفجر فتقدمهم إماما بهم عن أمر جبريل فيما يرويه عن ربه عز وجل، فاستفاد بعضهم من هذا أن الإمام الأعظم يقدم في الإمامة على رب المنزل حيث كان بيت المقدس محلتهم ودار إقامتهم.

ثم خرج منه فركب البراق وعاد إلى مكة فأصبح بها وهو في غاية الثبات والسكينة والوقار..

وقد عاين في تلك الليلة من الآيات والأمور التي لو رآها - أو بعضها - غيره لأصبح مندهشا أو طائش العقل، ولكنه ﷺ أصبح واجما -أي: ساكنا - يخشى إن بدأ فأخبر قومه بما رأى أن يبادروا إلى تكذيبه، فتلطف بإخبارهم أولا بأنه جاء بيت المقدس في تلك الليلة وذلك أن أبا جهل - لعنه الله - رأى رسول الله ﷺ في المسجد الحرام وهو جالس واجم.

فقال له: هل من خبر؟

فقال: نعم!

فقال: ما هو؟

فقال: إني أسري بي الليلة إلى بيت المقدس.

قال: إلى بيت المقدس!

قال: نعم.

قال: أرأيت إن دعوت قومك لك لتخبرهم أتخبرهم بما أخبرتني به؟

قال: نعم!

فأراد أبو جهل جمع قريش ليسمعوا منه ذلك وأراد رسول الله ﷺ جمعهم ليخبرهم ذلك ويبلغهم.

فقال أبو جهل: هيا معشر قريش وقد اجتمعوا من أنديتهم.

فقال: أخبر قومك بما أخبرتني به.

فقص عليهم رسول الله ﷺ خبر ما رأى وأنه جاء بيت المقدس هذه الليلة وصلى فيه، فمن بين مصفق وبين مصفر تكذيبا له واستبعادا لخبره وطار الخبر بمكة وجاء الناس إلى أبي بكر رضي الله عنه فأخبروه أن محمدا ﷺ يقول كذا وكذا.

فقال: إنكم تكذبون عليه.

فقالوا: والله إنه ليقوله.

فقال: إن كان قاله فلقد صدق.

ثم جاء إلى رسول الله ﷺ وحوله مشركي قريش فسأله عن ذلك فأخبره فاستعلمه عن صفات بيت المقدس ليسمع المشركون ويعلموا صدقه فيما أخبرهم به.

وفي (الصحيح) أن المشركين هم الذين سألوا رسول الله ﷺ عن ذلك.

قال: فجعلت أخبرهم عن آياته فالتبس علي بعض الشيء، فجلى الله لي بيت المقدس حتى جعلت أنظر إليه دون دار عقيل وأنعته لهم.

فقال: أما الصفة: فقد أصاب.

وذكر ابن إسحاق ما تقدم من إخباره لهم بمروره بعيرهم وما كان من شربه مائهم، فأقام الله عليهم الحجة واستنارت لهم المحجة، فآمن من آمن على يقين من ربه وكفر من كفر بعد قيام الحجة عليه.

كما قال الله تعالى: { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ } [68] أي: اختبارا لهم وامتحانا.

قال ابن عباس: هي رؤيا عين أُريها رسول الله ﷺ وهذا مذهب جمهور السلف والخلف من أن الإسراء كان ببدنه وروحه صلوات الله وسلامه عليه كما دل على ذلك ظاهر السياقات من ركوبه وصعوده في المعراج وغير ذلك.

ولهذا قال فقال: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ } [69] والتسبيح إنما يكون عند الآيات العظيمة الخارقة فدلَّ على أنه بالروح والجسد والعبد عبارة عنهما..

وأيضا فلو كان مناما لما بادر كفار قريش إلى التكذيب به والاستبعاد له إذ ليس في ذلك كبير أمر، فدلَّ على أنه أخبرهم بأنه أسري به يقظة لا مناما.

وقوله في حديث شريك عن أنس: ثم استيقظت فإذا أنا في الحجر معدود في غلطات شريك أو محمول على أن الانتقال من حال إلى حال يسمى يقظة كما سيأتي في حديث عائشة رضي الله عنها حين ذهب رسول الله ﷺ الطائف فكذبوه، قال: فرجعت مهموما فلم استفق إلا بقرن الثعالب.

وفي حديث أبي أسيد حين جاء بابنه إلى رسول الله ﷺ ليحنكه فوضعه على فخذ رسول الله ﷺ واشتغل رسول الله ﷺ بالحديث مع الناس فرفع أبو أسيد ابنه، ثم استيقظ رسول الله ﷺ فلم يجد الصبي فسأل عنه فقالوا: رفع فسماه المنذر، وهذا الحمل أحسن من التغليط والله أعلم.

وقد حكى ابن إسحاق فقال: حدثني بعض آل أبي بكر عن عائشة أم المؤمنين أنها كانت تقول: ما فقد جسد رسول الله ﷺ ولكن الله أسرى بروحه.

قال: وحدثني يعقوب بن عتبة أن معاوية كان إذا سئل عن مسرى رسول الله ﷺ قال: كانت رؤيا من الله صادقة.

قال ابن إسحاق: فلم ينكر ذلك من قولهما لقول الحسن إن هذه الآية نزلت في ذلك: { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } وكما قال إبراهيم عليه السلام: { يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك } وفي الحديث: «تنام عيني وقلبي يقظان».

قال ابن إسحاق: فالله أعلم أي ذلك كان، قد جاءه، وعاين فيه ما عاين من أمر الله تعالى، على أي حالة كان نائما أو يقظانا كل ذلك حق وصدق.

قلت: وقد توقف ابن إسحاق في ذلك وجوَّز كلا من الأمرين من حيث الجملة، ولكن الذي لا يشك فيه ولا يتمارى أنه كان يقظانا لا محالة لما تقدم وليس مقتضى كلام عائشة رضي الله عنها أن جسده ﷺ ما فقد، وإنما كان الإسراء بروحه أن يكون مناما كما فهمه ابن إسحاق، بل قد يكون وقع الإسراء بروحه حقيقة وهو يقظان لا نائم وركب البراق وجاء بيت المقدس وصعد السموات وعاين ما عاين حقيقة ويقظة لا مناما.

لعل هذا مراد عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، ومراد من تابعها على ذلك، لا ما فهمه ابن إسحاق من أنهم أرادوا بذلك المنام والله أعلم..

تنبيه: ونحن لا ننكر وقوع منام قبل الإسراء طبق ما وقع بعد ذلك، فإنه ﷺ كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، وقد تقدم مثل ذلك في حديث بدء الوحي أنه رأى مثل ما وقع له يقظة مناما قبله ليكون ذلك من باب الإرهاص والتوطئة والتثبت والإيناس والله أعلم.

ثم قد اختلف العلماء في أن الإسراء والمعراج هل كانا في ليلة واحدة أو كل في ليلة على حدة؟

فمنهم من يزعم أن: الإسراء في اليقظة، والمعراج: في المنام.

وقد حكى المهلب بن أبي صفرة في شرحه البخاري عن طائفة أنهم ذهبوا إلى أن: الإسراء مرتين مرة بروحه مناما، ومرة ببدنه وروحه يقظة.

وقد حكاه الحافظ أبو القاسم السهيلي عن شيخه أبي بكر بن العربي الفقيه.

قال السهيلي: وهذا القول يجمع الأحاديث فإن في حديث شريك عن أنس وذلك فيما يرى قلبه وتنام عيناه ولا ينام قلبه.

وقال في آخره: ثم استيقظت فإذا أنا في الحجر وهذا منام، ودلَّ غيره على اليقظة، ومنهم من يدعي تعدد الإسراء في اليقظة أيضا حتى قال بعضهم: إنها أربع إسراءات.

وزعم بعضهم: أن بعضها كان بالمدينة، وقد حاول الشيخ شهاب الدين أبو شامة رحمه الله أن يوفق بين اختلاف ما وقع في روايات حديث الإسراء بالجمع المتعدد فجعل ثلاث إسراءات، مرة من مكة إلى بيت المقدس فقط على البراق، ومرة من مكة إلى السماء على البراق أيضا لحديث حذيفة، ومرة من مكة إلى بيت المقدس ثم إلى السموات.

فنقول: إن كان إنما حمله على القول بهذه الثلاث اختلاف الروايات فقد اختلف لفظ الحديث في ذلك على أكثر من هذه الثلاث صفات ومن أراد الوقوف على ذلك فلينظر فيما جمعناه مستقصيا في كتابنا التفسير عند قوله تعالى: { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا } وإن كان إنما حمله أن التقسيم انحصر في ثلاث صفات بالنسبة إلى بيت المقدس وإلى السموات فلا يلزم من الحصر العقلي والوقوع كذلك في الخارج إلا بدليل والله أعلم.

والعجب أن الإمام أبا عبد الله البخاري رحمه الله ذكر الإسراء بعد ذكره موت أبي طالب فوافق ابن إسحاق في ذكره المعراج في أواخر الأمر، وخالفه في ذكره بعد موت أبي طالب، وابن إسحاق أخَّر ذكر موت أبي طالب على الإسراء، فالله أعلم أي ذلك كان.

والمقصود أن البخاري فرَّق بين الإسراء وبين المعراج فبوب لكل واحد منهما بابا على حدة.

فقال: باب حديث الإسراء وقول الله سبحانه وتعالى: { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا }.

حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن قال: سمعت جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: «لما كذبتني قريش كنت في الحجر فجلى الله لي بيت المقدس فطفقت أحدثهم عن آياته وأنا أنظر إليه».

وقد رواه مسلم والترمذي والنسائي من حديث الزهري عن أبي سلمة عن جابر به.

ورواه مسلم والنسائي والترمذي من حديث عبد الله بن الفضل عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي ﷺ بنحوه.

ثم قال البخاري: باب حديث المعراج: حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا همام، حدثنا قتادة، عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة أن النبي ﷺ حدثهم عن ليلة أسري به.

قال: «بينما أنا في الحطيم - وربما قال في الحجر - مضجعا إذ أتاني آت»

فقال: وسمعته يقول: «فشق ما بين هذه إلى هذه».

فقلت للجارود وهو إلى جنبي ما يعني به.

قال: من نقرة نحره إلى شعرته، وسمعته يقول: من قصه إلى شعرته.

«فاستخرج قلبي ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانا، فغسل قلبي ثم حشي ثم أعيد، ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض».

فقال الجارود: وهو البراق يا أبا حمزة؟

قال أنس: نعم!: «يضع خطوه عند أقصى طرفه، فحملت عليه، فانطلق بي جبرائيل حتى أتى السماء الدنيا، فاستفتح.

قيل: من هذا؟

قال: جبرائيل.

قيل: ومن معك؟

قال: محمد.

قيل: وقد أرسل إليه؟

قال: نعم!

قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء، ففتح فلما خلصت فإذا فيها آدم.

فقال: هذا أبوك آدم، فسلِّم عليه فسلمت عليه فردَّ السلام.

ثم قال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح.

ثم صعد بي إلى السماء الثانية فاستفتح.

قيل: من هذا؟

قال: جبرائيل.

قيل: ومن معك؟

قال: محمد.

قيل: وقد أرسل إليه؟

قال: نعم.

قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء.

ففتح فلما خلصت إذا يحيى وعيسى وهما ابنا خالة.

قال: هذا يحيى وعيسى فسلِّم عليهما فسلمت عليهما فردا.

ثم قالا: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح.

ثم صعد بي إلى السماء الثالثة فاستفتح جبرائيل.

قيل: من هذا؟

قال: جبرائيل.

قال: ومن معك؟

قال: محمد.

قيل: وقد أرسل إليه؟

قال: نعم!

قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء.

ففتح فلما خلصت إذا يوسف قال: هذا يوسف فسلِّم عليه، فسلمت عليه فرد..

ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح.

ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح.

قيل: من هذا؟

قال: جبرائيل.

قال: ومن معك؟

قال: محمد.

قيل: وقد أرسل إليه؟

قال: نعم!

قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء.

فلما خلصت إذا إدريس، قال: هذا إدريس فسلِّم عليه فسلمت فرد.

ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح.

ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح.

قيل: من هذا؟

قال: جبرائيل.

قيل: ومن معك؟

قال: محمد.

قيل: وقد أرسل إليه؟

قال: نعم!

قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء.

فلما خلصت إذا هارون قال: هذا هارون فسلِّم عليه فسلمت عليه فرد.

ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح.

ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة فاستفتح.

فقيل: من هذا؟

قال: جبرائيل.

قيل: ومن معك؟

قال: محمد.

قيل: وقد أرسل إليه؟

قال: نعم!

قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء.

فلما خلصت إذا موسى قال: هذا موسى فسلِّم عليه، فسلمت عليه فرد.

ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح.

فلما تجاوزت بكى، فقيل له: ما يبكيك؟

قال: أبكي لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر من يدخلها من أمتي.

ثم صعد بي إلى السماء السابعة فاستفتح جبرائيل.

قيل: من هذا؟

قال: جبرائيل.

قيل: ومن معك؟

قال: محمد.

قيل: وقد بعث إليه؟

قال: نعم!

قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء.

فلما خلصت إذا إبراهيم قال: هذا أبوك إبراهيم فسلِّم عليه، فسلمت عليه فرد السلام.

ثم قال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح.

ثم رفعت إلى سدرة المنتهى وإذا أربعة أنهار؛ نهران ظاهران، ونهران باطنان.

فقلت: ما هذا يا جبرائيل؟

قال: أما الباطنان: فنهران في الجنة، وأما الظاهران: فالنيل والفرات.

ثم رفع لي البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل، فأخذت اللبن.

قال: هي الفطرة التي أنت عليها وأمتك.

ثم فرض عليَّ الصلوات خمسون صلاة كل يوم، فرجعت فمررت على موسى فقال: بما أمرت؟

قال: أمرت بخمسين صلاة كل يوم.

قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني والله جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة؛ فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، فرجعت فوضع عني عشرا.

فرجعت إلى موسى فقال مثله فرجعت فوضع عني عشرا.

فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فوضع عني عشرا.

فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فأمرت بعشر صلوات كل يوم، فقال مثله، فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم.

فرجعت إلى موسى فقال: بم أمرت؟

فقلت: بخمس صلوات كل يوم.

قال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك.

قال: سألت ربي حتى استحييت ولكن أرضى وأسلم.

قال: فلما جاوزت ناداني مناد أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي».

هكذا روى البخاري هذا الحديث ههنا.

وقد رواه في مواضع أخر من (صحيحه) ومسلم والترمذي والنسائي من طرق عن قتادة عن أنس بن مالك بن صعصعة..

ورويناه من حديث أنس بن مالك عن أبي بن كعب.

ومن حديث أنس عن أبي ذر.

ومن طرق كثيرة عن أنس عن النبي ﷺ.

وقد ذكرنا ذلك مستقصى بطرقه وألفاظه في التفسير، ولم يقع في هذا السياق ذكر بيت المقدس، وكان بعض الرواة يحذف بعض الخبر للعلم به، أو ينساه أو يذكر ما هو الأهم عنده، أو يبسط تارة فيسوقه كله، وتارة يحذف عن مخاطبه بما هو الأنفع عنده.

ومن جعل كل رواية إسراد على حدة كما تقدم عن بعضهم فقد أبعد جدا.

وذلك أن كل السياقات فيها السلام على الأنبياء، وفي كل منها يعرفه بهم، وفي كلها يفرض عليه الصلوات.

فكيف يمكن أن يدعي تعدد ذلك؟ هذا في غاية البعد والاستحالة والله أعلم.

ثم قال البخاري: حدثنا الحميدي حدثنا سفيان، عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله تعالى: { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ } [70] قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله ﷺ ليلة أسري به إلى بيت المقدس، والشجرة الملعونة في القرآن، قال: هي شجرة الزقوم.

فصل نزول فرضية الصلاة صبيحة الإسراء

ولما أصبح رسول الله ﷺ من صبيحة ليلة الإسراء جاءه جبرائيل عند الزوال فبين له كيفية الصلاة وأوقاتها، وأمر رسول الله ﷺ أصحابه فاجتمعوا وصلى به جبرائيل في ذلك اليوم إلى الغد، والمسلمون يأتمون بالنبي ﷺ وهو يقتدي بجبرائيل كما جاء في الحديث عن ابن عباس وجابر: «أمني جبرائيل عند البيت مرتين».

فبيـَّن له الوقتين الأول والآخر فهما وما بينهما الوقت الموسع، ولم يذكر توسعة في وقت المغرب.

وقد ثبت ذلك في حديث أبي موسى، وبريدة، وعبد الله بن عمرو، وكلها في (صحيح مسلم) وموضع بسط ذلك في كتابنا (الأحكام) ولله الحمد.

فأما ما ثبت في (صحيح البخاري) عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: «فرضت الصلاة أول ما فرضت ركعتين فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر».

وكذا رواه الأوزاعي عن الزهري، ورواه الشعبي عن مسروق عنها وهذا مشكل من جهة أن عائشة كانت تتم الصلاة في السفر وكذا عثمان بن عفان وقد تكلمنا على ذلك عند قوله تعالى: { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } [71]..

قال البيهقي: وقد ذهب الحسن البصري إلى أن صلاة الحضر أول ما فرضت أربعا كما ذكره مرسلا من صلاته عليه السلام صبيحة الإسراء: الظهر أربعا، والعصر أربعا، والمغرب ثلاثا يجهر في الأوليين، والعشاء أربعا يجهر في الأوليين، والصبح ركعتين يجهر فيهما.

قلت: فلعل عائشة أرادت أن الصلاة كانت قبل الإسراء تكون ركعتين ركعتين، ثم لما فرضت الخمس فرضت حضرا على ما هي عليه، ورخص في السفر أن يصلى ركعتين كما كان الأمر عليه قديما وعلى هذا لا يبقى إشكال بالكلية والله أعلم.

فصل في انشقاق القمر في زمان النبي صلى الله عليه وسلم

وجعل الله له آية على صدق رسول الله ﷺ فيما جاء به من الهدى ودين الحق حيث كان ذلك وقت إشارته الكريمة، قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز: { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ } [72].

وقد أجمع المسلمون على وقوع ذلك في زمنه عليه الصلاة والسلام، وجاءت بذلك الأحاديث المتواترة من طرق متعددة تفيد القطع عند من أحاط بها ونظر فيها.

ونحن نذكر من ذلك ما تيسر إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان.

وقد تقصينا ذلك في كتابنا التفسير فذكرنا الطرق والألفاظ محررة، ونحن نشير ههنا إلى أطراف من طرقها ونعزوها إلى الكتب المشهورة بحول الله وقوته.

وذلك مروي عن أنس بن مالك، وجبير بن مطعم، وحذيفة، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين.

أما أنس فقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: سأل أهل مكة النبي ﷺ آية فانشق القمر بمكة مرتين.

فقال: { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ } [73].

ورواه مسلم عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق به وهذا من مرسلات الصحابة.

والظاهر أنه تلقاه عن الجم الغفير من الصحابة، أو عن النبي ﷺ، أو عن الجميع، وقد روى البخاري ومسلم هذا الحديث من طريق شيبان.

زاد البخاري وسعيد بن أبي عروبة، وزاد مسلم وشعبة ثلاثتهم عن قتادة عن أنس: أن أهل مكة سألوا رسول الله ﷺ أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما، لفظ البخاري.

وأما جبير بن مطعم فقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن كثير، حدثنا سليمان بن كثير، عن حصين ابن عبد الرحمن عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: انشق القمر على عهد رسول الله ﷺ فصار فرقتين، فرقة على هذا الجبل، وفرقة على هذا الجبل.

فقالوا: سحرنا محمد!

فقالوا: إن كان سحرنا؛ فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم.

تفرد به أحمد.

وهكذا رواه ابن جرير من حديث محمد بن فضيل وغيره عن حصين به.

وقد رواه البيهقي من طريق إبراهيم بن طهمان، وهشيم كلاهما عن حصين بن عبد الرحمن، عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه عن جده به فزاد رجلا في الإسناد.

وأما حذيفة بن اليمان: فروى أبو نعيم في (الدلائل) من طريق عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السلمي.

قال: خطبنا حذيفة بن اليمان بالمدائن فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ } [74]. ألا وإن الساعة قد اقتربت، ألا وإن القمر قد انشق، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق، ألا وإن اليوم المضمار وغدا السباق.

فلما كانت الجمعة الثانية انطلقت مع أبي إلى الجمعة فحمد الله وقال مثله وزاد ألا وإن السابق من سبق إلى الجمعة، فلما كنا في الطريق قلت لأبي: ما يعني بقوله - غدا السباق - قال: من سبق إلى الجنة.

وأما ابن عباس فقال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير حدثنا بكر عن جعفر بن ربيعة، عن عراك بن مالك، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس قال: إن القمر انشق في زمان النبي ﷺ.

ورواه البخاري أيضا ومسلم من حديث بكر - وهو ابن مضر - عن جعفر قوله: { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ } [75].

قال: قد مضى ذلك كان قبل الهجرة انشق القمر حتى رأوا شقيه..

وهكذا رواه العوفي عن ابن عباس رضي الله عنه وهو من مرسلاته.

وقال الحافظ أبو نعيم: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا بكر بن سهيل، حدثنا عبد الغني بن سعيد، حدثنا موسى بن عبد الرحمن، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، وعن مقاتل عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: { اقتربت الساعة وانشق القمر }.

قال ابن عباس: اجتمع المشركون إلى رسول الله ﷺ منهم: الوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام والعاص بن وائل، والعاص بن هشام، والأسود ابن عبد يغوث، والأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، وزمعة بن الأسود، والنضر بن الحارث، ونظراؤهم كثير فقالوا للنبي ﷺ: إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين نصفا على أبي قبيس ونصفا على قعيقعان.

فقال لهم النبي ﷺ: «إن فعلت تؤمنوا؟».

قالوا: نعم! وكانت ليلة بدر، فسأل الله عز وجل أن يعطيه ما سألوا، فأمسى القمر وقد سلب نصفا على أبي قبيس ونصفا على قعيقعان، ورسول الله ﷺ ينادي يا أبا سلمة بن عبد الأسد والأرقم بن الأرقم اشهدوا.

ثم قال أبو نعيم: وحدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا الحسن بن العباس الرازي عن الهيثم بن العمان، حدثنا إسماعيل بن زياد، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: انتهى أهل مكة إلى رسول الله ﷺ فقالوا: هل من آية نعرف بها أنك رسول الله؟

فهبط جبرائيل فقال يا محمد: قل لأهل مكة أن يحتفلوا هذه الليلة فسيروا آية إن انتفعوا بها.

فأخبرهم رسول الله ﷺ بمقالة جبرائيل فخرجوا ليلة الشق ليلة أربع عشرة فانشق القمر نصفين نصفا على الصفا ونصفا على المروة فنظروا، ثم قالوا بأبصارهم فمسحوها، ثم أعادوا النظر فنظروا، ثم مسحوا أعينهم ثم نظروا فقالوا: يا محمد ما هذا إلا سحر واهب، فأنزل الله: { اقتربت الساعة وانشق القمر }.

ثم روى الضحاك عن ابن عباس قال: جاءت أحبار اليهود إلى رسول الله ﷺ فقالوا: أرنا آية حتى نؤمن بها، فسأل ربه فأراهم القمر قد انشق بجزئين؛ أحدهما على الصفا والآخر على المروة، قدر ما بين العصر إلى الليل ينظرون إليه ثم غاب.

فقالوا: هذا سحر مفترى.

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن عمرو الرزاز، حدثنا محمد بن يحيى القطعي، حدثنا محمد بن بكر، حدثنا ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كسف القمر على عهد رسول الله ﷺ فقالوا: سحر القمر فنزلت: { اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا هذا سحر مستمر }.

وهذا إسناد جيد وفيه أنه: كسف تلك الليلة فلعله حصل له انشقاق في ليلة كسوفه، ولهذا خفي أمره على كثير من أهل الأرض، ومع هذا قد شوهد ذلك في كثير من بقاع الأرض.

ويقال: إنه أرخ ذلك في بعض بلاد الهند، وبني بناء تلك الليلة وأرخ بليلة انشقاق القمر.

وأما ابن عمر: فقال الحافظ البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي قالا: حدثنا أبو العباس الأصم، حدثنا العباس بن محمد الدوري، حدثنا وهب بن جرير، عن شعبة، عن الأعمش، عن مجاهد به.

قال مسلم: كرواية مجاهد، عن أبي معمر، عن ابن مسعود.

وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

وأما عبد الله بن مسعود فقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن ابن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله ﷺ شقتين حتى نظروا إليه، فقال رسول الله ﷺ: «اشهدوا».

وهكذا أخرجاه من حديث سفيان - وهو ابن عيينة - به.

ومن حديث الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمر، عن عبد الله بن سمرة، عن ابن مسعود قال: انشق القمر ونحن مع رسول الله ﷺ بمنى، فقال النبي ﷺ: «اشهدوا».

وذهبت فرقة نحو الجبل. لفظ البخاري.

ثم قال البخاري: وقال أبو الضحاك، عن مسروق، عن عبد الله - بمكة - وتابعه محمد بن مسلم، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن عبد الله رضي الله عنه.

وقد أسند أبو داود الطيالسي حديث أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله ﷺ فقالت قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة.

فقالوا: انظروا ما يأتيكم به السفار؟ فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم.

قال: فجاء السفار فقالوا ذلك.

وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس، حدثنا العباس بن محمد الدوري، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا هشيم، حدثنا مغيرة، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله قال: انشق القمر بمكة حتى صار فرقتين، فقال كفار قريش لأهل مكة: هذا سحر سحركم به ابن أبي كبشة، انظروا السفار فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق، وإن كانوا لم يروا مثل ما رأيتم فهو سحر سحركم به.

قال فسئل السفار قال - وقدموا من كل وجهة - فقالوا رأينا.

وهكذا رواه أبو نعيم: من حديث جابر، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله به.

وقال الإمام أحمد: حدثنا مؤمل، حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عبد الله - وهو ابن مسعود - قال: انشق القمر على عهد رسول الله ﷺ حتى رأيت الجبل بين فرجتي القمر.

وهكذا رواه ابن جرير: من حديث أسباط، عن سماك به.

وقال الحافظ أبو نعيم: حدثنا أبو بكر الطلحي، حدثنا أبو حصين محمد بن الحسين الوادعي، حدثنا يحيى الحماني، حدثنا يزيد، عن عطاء، عن سماك، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: كنا مع النبي ﷺ بمنى وانشق القمر حتى صار فرقتين فرقة خلف الجبل، فقال النبي ﷺ: «اشهدوا اشهدوا».

وقال أبو نعيم: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا جعفر بن محمد القلانسي، حدثنا آدم بن أبي إياس، ثنا الليث بن سعد، حدثنا هشام بن سعد، عن عتبة، عن عبد الله بن عتبة، عن ابن مسعود قال: انشق القمر ونحن بمكة، فلقد رأيت أحد شقيه على الجبل الذي بمنى ونحن بمكة.

وحدثنا أحمد بن إسحاق، حدثنا أبو بكر بن أبي عاصم، حدثنا محمد بن حاتم، حدثنا معاوية بن عمرو، عن زائدة، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله قال: انشق القمر بمكة فرأيته فرقتين.

ثم روى من حديث علي بن سعيد بن مسروق، حدثنا موسى بن عمير، عن منصور بن المعتمر، عن زيد بن وهب، عن عبد الله بن مسعود قال: رأيت القمر والله منشقا باثنتين بينهما حراء.

وروى أبو نعيم من طريق السدي الصغير، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: انشق القمر فلقتين فلقة ذهبت، وفلقة بقيت.

قال ابن مسعود: لقد رأيت جبل حراء بين فلقتي القمر، فذهب فلقة، فتعجب أهل مكة من ذلك وقالوا: هذا سحر مصنوع سيذهب.

وقال ليث بن أبي سليم، عن مجاهد قال: انشق القمر على عهد رسول الله ﷺ فصار فرقتين فقال النبي ﷺ لأبي بكر: «فاشهد يا أبا بكر».

وقال المشركون: سحر القمر حتى انشق.

فهذه طرق متعددة قوية الأسانيد تفيد القطع لمن تأملها، وعرف عدالة رجالها، وما يذكره بعض القصَّاص من أن القمر سقط إلى الأرض حتى دخل في كم النبي ﷺ وخرج من الكم الآخر فلا أصل له، وهو كذب مفترى ليس بصحيح.

والقمر حين انشق لم يزايل السماء، غير أنه حين أشار إليه النبي ﷺ انشق عن إشارته فصار فرقتين، فسارت واحدة حتى صارت من وراء حراء، ونظروا إلى الجبل بين هذه وهذه كما أخبر بذلك ابن مسعود أنه شاهد ذلك.

وما وقع في رواية أنس في (مسند أحمد): فانشق القمر بمكة مرتين فيه نظر، والظاهر أنه أراد فرقتين، والله أعلم.

فصل في وفاة أبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم

ثم من بعده خديجة بنت خويلد زوجة رسول الله ﷺ ورضي الله عنها.

وقيل: بل هي توفيت قبله والمشهور الأول، وهذان المشفقان؛ هذا في الظاهر وهذه في الباطن، هذاك كافر وهذه مؤمنة صديقة رضي الله عنها وأرضاها.

قال ابن إسحاق: ثم إن خديجة وأبا طالب هلكا في عام واحد، فتتابعت على رسول الله ﷺ المصائب بهلك خديجة، وكانت له وزير صدق على الابتلاء يسكن إليها، وبهلك عمه أبي طالب وكان عضدا وحرزا في أمره ومنعة وناصرا على قومه.

وذلك قبل مهاجره إلى المدينة بثلاث سنين، فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله ﷺ من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه ترابا.

فحدثني هشام بن عروة عن أبيه قال: فدخل رسول الله ﷺ بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته تغسله وتبكي، ورسول الله ﷺ يقول: «لا تبكي يا بنية فإن الله مانع أباك».

ويقول بين ذلك: «ما نالتني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب».

وذكر ابن إسحاق قبل ذلك: أن أحدهم ربما طرح الأذى في برمته إذا نصبت له.

قال: فكان إذا فعلوا ذلك كما حدثني عمر بن عبد الله، عن عروة يخرج بذلك الشيء على العود فيقذفه على بابه ثم يقول: «يا بني عبد مناف أي جوار هذا، ثم يلقيه في الطريق».

قال ابن إسحاق: ولما اشتكى أبو طالب وبلغ قريشا ثقله قالت قريش بعضها لبعض: إن حمزة وعمر قد أسلما، وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها، فانطلقوا بنا إلى أبي طالب فليأخذ لنا على ابن أخيه وليعطه منا، فإنا والله ما نأمن أن يبتزونا أمرنا.

قال ابن إسحاق: وحدثني العباس بن عبد الله بن معبد بن عباس، عن بعض أهله، عن ابن عباس قال: لما مشوا إلى أبي طالب وكلموه - وهم أشراف قومه - عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وأبو سفيان بن حرب في رجال من أشرافهم.

فقالوا: يا أبا طالب إنك منا حيث قد علمت، وقد حضرك ما ترى وتخوفنا عليك، وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك، فادعه فخذ لنا منه، وخذ له منا ليكف عنا ولنكف عنه، وليدعنا وديننا ولندعه ودينه..

فبعث إليه أبو طالب، فجاءه فقال يا ابن أخي: هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليعطوك وليأخذوا منك.

قال: فقال رسول الله ﷺ: «يا عم كلمة واحدة تعطونها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم».

فقال أبو جهل: نعم وأبيك، وعشر كلمات.

قال: «تقولون لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه».

فصفقوا بأيديهم ثم قالوا يا محمد: أتريد أن تجعل الآلهة إلها واحدا؟! إن أمرك لعجب.

قال: ثم قال بعضهم لبعض: إنه والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئا مما تريدون، فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه، ثم تفرقوا.

قال: فقال أبو طالب: والله يا ابن أخي ما رأيتك سألتهم شططا.

قال: فطمع رسول الله ﷺ فيه فجعل يقول له: «أي عم فأنت قلها أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة».

فلما رأى حرص رسول الله ﷺ قال: يا ابن أخي والله لولا مخافة السبة عليك وعلى بني أبيك من بعدي، وأن تظن قريش أني إنما قلتها جزعا من الموت لقلتها، لا أقولها إلا لأسرك بها.

قال: فلما تقارب من أبي طالب الموت نظر العباس إليه يحرك شفتيه فأصغى إليه بإذنه، قال فقال: يا ابن أخي والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها.

قال: فقال رسول الله ﷺ: «لم أسمع».

قال: وأنزل الله تعالى في أولئك الرهط: { ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } [76] الآيات. وقد تكلمنا على ذلك في التفسير، ولله الحمد والمنة.

وقد استدل بعض من ذهب من الشيعة وغيرهم من الغلاة إلى أن أبا طالب مات مسلما بقول العباس هذا الحديث؛ يا ابن أخي، لقد قال الكلمة التي أمرته أن يقولها - يعني لا إله إلا الله -

والجواب عن هذا من وجوه:

أحدها: أن في السند مبهما لا يعرف حاله وهو قوله عن بعض أهله وهذا إبهام في الاسم والحال، ومثله يتوقف فيه لو انفرد.

وقد روى الإمام أحمد، والنسائي، وابن جرير نحوا من هذا السياق من طريق أبي أسامة، عن الأعمش، حدثنا عباد، عن سعيد بن جبير فذكره، ولم يذكر قول العباس.

ورواه الثوري أيضا عن الأعمش، عن يحيى بن عمارة الكوفي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس فذكره بغير زيادة قول العباس.

ورواه الترمذي وحسنه، والنسائي، وابن جرير أيضا.

ولفظ الحديث من سياق البيهقي فيما رواه من طريق الثوري، عن الأعمش، عن يحيى بن عمارة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:

مرض أبو طالب فجاءت قريش، وجاء النبي ﷺ عند رأس أبي طالب، فجلس رجل، فقام أبو جهل كي يمنعه ذاك وشكوه إلى أبي طالب فقال: يا ابن أخي ما تريد من قومك؟

فقال: «يا عم إنما أريد منهم كلمة تذل لهم بها العرب، وتؤدي إليهم بها الجزية العجم، كلمة واحدة»..

قال: ما هي؟

قال: «لا إله إلا الله».

قال: فقالوا: أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب!

قال: ونزل فيهم: { ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ } الآيات إلى قوله: { إِلَّا اخْتِلَاقٌ } [77].

ثم قد عارضه - أعني سياق ابن إسحاق - ما هو أصح منه، وهو ما رواه البخاري قائلا: حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبيه رضي الله عنه: أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي ﷺ وعنده أبو جهل فقال: «أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج بها عند الله».

فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزالا يكلماه حتى قال آخر ما كلمهم به: على ملة عبد المطلب.

فقال النبي ﷺ: «لأستغفر لك مالم أُنهَ عنك».

فنزلت: { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } [78].

ونزلت: { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [79].

ورواه مسلم: عن إسحاق بن إبراهيم، وعبد الله، عن عبد الرزاق.

وأخرجاه أيضا من حديث الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه بنحوه، وقال فيه: فلم يزل رسول الله ﷺ يعرضها عليه ويعودان له بتلك المقالة حتى قال آخر ما قال: على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله.

فقال النبي ﷺ: «أما لأستغفرن لك مالم أُنهَ عنك».

فأنزل الله - يعني بعد ذلك -: { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى }

ونزل في أبي طالب: { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين }

وهكذا روى الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي، والنسائي، من حديث يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: لما حضرت وفاة أبي طالب أتاه رسول الله ﷺ فقال: «يا عماه قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة».

فقال: لولا أن تعيرني قريش يقولون ما حمله عليه إلا فزع الموت لأقررت بها عينك، ولا أقولها إلا لأقر بها عينك.

فأنزل الله عز وجل: { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } [80].

وهكذا قال عبد الله بن عباس، وابن عمر، ومجاهد، والشعبي، وقتادة: إنها نزلت في أبي طالب حين عرض عليه رسول الله ﷺ أن يقول لا إله إلا الله فأبى أن يقولها، وقال: هو على ملة الأشياخ، وكان آخر ما قال هو على ملة عبد المطلب.

ويؤكد هذا كله ما قال البخاري: حدثنا مسدد، حدثنا يحيى بن محمد بن يحيى، عن سفيان، عن عبد الملك بن عمير، حدثني عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: حدثنا العباس بن عبد المطلب أنه قال: قلت للنبي ﷺ: ما أغنيت عن عمك فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟

قال: «هو في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار».

ورواه مسلم في (صحيحه): من طرق عن عبد الملك بن عمير به.

وأخرجاه في (الصحيحين) من حديث الليث: حدثني يزيد بن الهاد، عن عبد الله بن خباب، عن أبي سعيد أنه سمع النبي ﷺ ذكر عنده عمه فقال: «لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه». لفظ البخاري.

وفي رواية: «تغلي منه أم دماغه».

وروى مسلم: عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عفان، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي عثمان، عن ابن عباس: أن رسول الله ﷺ قال: «أهون أهل النار عذابا أبو طالب منتعل بنعلين من نار يغلي منهما دماغه».

وفي (مغازي) يونس بن بكير «يغلي منهما دماغه حتى يسيل على قدميه». ذكره السهيلي.

وقال الحافظ أبو بكر البزار في (مسنده): حدثنا عمرو - هو ابن إسماعيل بن مجالد - حدثنا أبي، عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر.

قال: سئل رسول الله ﷺ - أو قيل له - هل نفعت أبا طالب؟

قال: «أخرجته من النار إلى ضحضاح منها».

تفرد به البزار.

قال السهيلي: وإنما لم يقبل النبي ﷺ شهادة العباس أخيه أنه قال الكلمة وقال: «لم أسمع» لأن العباس كان إذ ذاك كافرا غير مقبول الشهادة.

قلت: وعندي أن الخبر بذلك ما صح لضعف سنده كما تقدم.

ومما يدل على ذلك: أنه سأل النبي ﷺ بعد ذلك عن أبي طالب فذكر له ما تقدم، وبتعليل صحته لعله قال ذلك عند معاينة الملك بعد الغرغرة حين لا ينفع نفسا إيمانها والله أعلم.

وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق: سمعت ناجية بن كعب يقول: سمعت عليا يقول: لما توفي أبي أتيت رسول الله ﷺ فقلت: إن عمك قد توفي.

فقال: «اذهب فواره».

فقلت: إنه مات مشركا.

فقال: «اذهب فواره» ولا تحدثن شيئا حتى تأتي.

ففعلت فأتيته، فأمرني أن أغتسل.

ورواه النسائي: عن محمد بن المثنى، عن غندر، عن شعبة.

ورواه أبو داود، والنسائي من حديث سفيان، عن أبي إسحاق، عن ناجية، عن علي: لما مات أبو طالب قلت يا رسول الله: إن عمك الشيخ الضال قد مات فمن يواريه؟

قال: «اذهب فوار أباك ولا تحدثن شيئا حتى تأتيني». فأتيته فأمرني فاغتسلت ثم دعا لي بدعوات ما يسرني أن لي بهن ما على الأرض من شيء.

وقال الحافظ البيهقي: أخبرنا أبو سعد الماليني، حدثنا أبو أحمد بن عدي، حدثنا محمد بن هارون بن حميد، حدثنا محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة، حدثنا الفضل، عن إبراهيم بن عبد الرحمن، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس: أن النبي ﷺ عاد من جنازة أبي طالب فقال: «وصلتك رحم، وجزيت خيرا يا عم».

قال: وروي عن أبي اليمان الهوزني، عن النبي ﷺ مرسلا، وزاد ولم يقم على قبره.

قال: وإبراهيم بن عبد الرحمن هذا هو الخوارزمي تكلموا فيه.

قلت: قد روى عنه غير واحد منهم: الفضل بن موسى السيناني، ومحمد بن سلام البيكندي، ومع هذا قال ابن عدي: ليس بمعروف، وأحاديثه عن كل من روى عنه ليست بمستقيمة.

وقد قدمنا ما كان يتعاطاه أبو طالب من المحاماة والمحاجة والممانعة عن رسول الله ﷺ، والدفع عنه وعن أصحابه، وما قاله فيه من الممادح والثناء، وما أظهره له ولأصحابه من المودة والمحبة والشفقة في أشعاره التي أسلفناها، وما تضمنته من العيب والتنقيص لمن خالفه وكذبه بتلك العبارة الفصيحة البليغة الهاشمية المطلبية التي لا تدانى ولا تسامى، ولا يمكن عربيا مقاربتها ولا معارضتها.

وهو في ذلك كله يعلم أن رسول الله ﷺ صادق بار راشد، ولكن مع هذا لم يؤمن قلبه.

وفرق بين علم القلب وتصديقه كما قررنا ذلك في شرح كتاب الإيمان من (صحيح البخاري) وشاهد ذلك قوله تعالى: { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون }

وقال تعالى في قوم فرعون: { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم }

وقال موسى لفرعون: { لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا }

وقول بعض السلف في قوله تعالى: { وهم ينهون عنه وينأون عنه } أنها نزلت في أبي طالب حيث كان ينهى الناس عن أذية رسول الله ﷺ، وينأى هو عما جاء به الرسول من الهدى ودين الحق.

فقد روي عن ابن عباس، والقاسم بن مخيمرة، وحبيب بن أبي ثابت، وعطاء بن دينار، ومحمد بن كعب، وغيرهم، ففيه نظر والله أعلم.

والأظهر والله أعلم: الرواية الأخرى عن ابن عباس؛ وهم ينهون الناس عن محمد أن يؤمنوا به.

وبهذا قال مجاهد، وقتادة، والضحاك، وغير واحد - وهو اختيار ابن جرير - وتوجيهه أن هذا الكلام سيق لتمام ذم المشركين حيث كانوا يصدون الناس عن اتباعه ولا ينتفعون هم أيضا به.

ولهذا قال: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } [81]..

وهذا اللفظ وهو قوله (وهم) يدل على أن المراد بهذا جماعة وهم المذكورون في سياق الكلام.

وقوله: { وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون } يدل على تمام الذم، وأبو طالب لم يكن بهذه المثابة، بل كان يصد الناس عن أذية رسول الله ﷺ وأصحابه بكل ما يقدر عليه من فعال ومقال، ونفس ومال، ولكن مع هذا لم يقدِّر الله له الإيمان لما له تعالى في ذلك من الحكمة العظيمة، والحجة القاطعة البالغة الدامغة التي يجب الإيمان بها والتسليم لها.

ولولا ما نهانا الله عنه من الاستغفار للمشركين لاستغفرنا لأبي طالب وترحمنا عليه.

فصل موت خديجة بنت خويلد

وذكر شيء من فضائلها ومناقبها رضي الله عنها وأرضاها، وجعل جنات الفردوس منقلبها ومثواها، وقد فعل ذلك لا محالة بخبر الصادق المصدوق حيث بشَّرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب.

قال يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو صالح، حدثنا الليث، حدثني عقيل، عن ابن شهاب قال:

قال عروة بن الزبير: وقد كانت خديجة توفيت قبل أن تفرض الصلاة.

ثم روى من وجه آخر عن الزهري أنه قال: توفيت خديجة بمكة قبل خروج رسول الله ﷺ إلى المدينة، وقبل أن تفرض الصلاة.

وقال محمد بن إسحاق: ماتت خديجة وأبو طالب في عام واحد.

وقال البيهقي: بلغني أن خديجة توفيت بعد موت أبي طالب بثلاثة أيام.

ذكره عبد الله بن منده في كتاب (المعرفة)، وشيخنا أبو عبد الله الحافظ.

قال البيهقي: وزعم الواقدي أن خديجة وأبا طالب ماتا قبل الهجرة بثلاث سنين عام خرجوا من الشعب، وأن خديجة توفيت قبل أبي طالب بخمس وثلاثين ليلة.

قلت: مرادهم قبل أن تفرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء، وكان الأنسب بنا أن نذكر وفاة أبي طالب وخديجة قبل الإسراء كما ذكره البيهقي وغير واحد، ولكن أخرنا ذلك عن الإسراء لمقصد ستطلع عليه بعد ذلك، فإن الكلام به ينتظم ويتسق الباب كما تقف على ذلك إن شاء الله.

وقال البخاري: حدثنا قتيبة، حدثنا محمد بن فضيل بن غزوان، عن عمارة، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة.

قال: أتى جبرائيل إلى رسول الله ﷺ فقال يا رسول الله: هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام - أو طعام أو شراب - فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب.

وقد رواه مسلم من حديث محمد بن فضيل به.

وقال البخاري: حدثنا مسدد، حدثنا يحيى، عن إسماعيل قال: قلت لعبد الله بن أبي أوفى: بشَّر النبي ﷺ خديجة؟

قال: نعم! ببيت من قصب لا صخب فيه ولا نصب.

ورواه البخاري أيضا، ومسلم من طرق، عن إسماعيل بن أبي خالد به.

قال السهيلي: وإنما بشَّرها ببيت في الجنة من قصب - يعني قصب اللؤلؤ - لأنها حازت قصب السبق إلى الإيمان، لا صخب فيه ولا نصب لأنها لم ترفع صوتها على النبي ﷺ ولم تتعبه يوما من الدهر فلم تصخب عليه يوما ولا آذته أبدا.

وأخرجاه في (الصحيحين) من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما غرت على امرأة للنبي ﷺ ما غرت على خديجة، وهلكت قبل أن يتزوجني - لما كنت أسمعه يذكرها - وأمره الله أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب، وإن كان ليذبح الشاة فيهدي في خلائلها منها ما يسعهن. لفظ البخاري.

وفي لفظ عن عائشة: ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة من كثرة ذكر رسول الله ﷺ إياها، وتزوجني بعدها بثلاث سنين وأمره ربه - أو جبرائيل - أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب.

وفي لفظ له قالت: ما غرت على أحد من نساء النبي ﷺ ما غرت على خديجة - وما رأيتها - ولكن كان يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة فيقطعها أعضاء، ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة فيقول: «إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد»..

ثم قال البخاري: حدثنا إسماعيل بن خليل، أخبرنا علي بن مسهر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله ﷺ فعرف استئذان خديجة فارتاع، فقال: «اللهم هالة».

قالت: فغرت فقلت: ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين، هلكت في الدهر، قد أبدلك الله خيرا منها.

وهكذا روى مسلم، عن سويد بن سعيد، عن علي بن مسهر به.

وهذا ظاهر في التقرير على أن عائشة خير من خديجة إما فضلا وإما عشرةً إذا لم ينكر عليها ولا يرد عليها. ذلك كما هو ظاهر سياق البخاري رحمه الله.

ولكن قال الإمام أحمد: حدثنا مؤمل أبو عبد الرحمن، حدثنا حماد بن سلمة عن عبد الملك - هو ابن عمير -، عن موسى بن طلحة عن عائشة قالت: ذكر رسول الله ﷺ يوما خديجة فأطنب في الثناء عليها، فأدركني ما يدرك النساء من الغيرة، فقلت: لقد أعقبك الله يا رسول الله من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين.

قال: فتغير وجه رسول الله ﷺ تغيرا لم أره تغير عند شيء قط إلا عند نزول الوحي أو عند المخيلة حتى يعلم رحمةً أو عذابا.

وكذا رواه عن بهز بن أسد، وعثمان بن مسلم، كلاهما عن حماد بن سلمة، عن عبد الملك بن عمير به.

وزاد بعده قوله: حمراء الشدقين، هلكت في الدهر الأول.

قال: قال: فتمعر وجهه تمعرا ما كنت أراه إلا عند نزول الوحي أو عند المخيلة حتى ينظر رحمة أو عذابا.

تفرد به أحمد، وهذا إسناد جيد.

وقال الإمام أحمد أيضا: عن ابن إسحاق: أخبرنا مجالد، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة.

قالت: كان النبي ﷺ إذا ذكر خديجة أثنى عليها بأحسن الثناء.

قالت: فغرت يوما فقلت: ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدقين، قد أبدلك الله خيرا منها.

قال: «ما أبدلني الله خيرا منها، وقد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبنني، وآستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء».

تفرد به أحمد أيضا، وإسناده لا بأس به.

ومجالد روى له مسلم متابعة، وفيه كلام مشهور، والله أعلم.

ولعل هذا أعني قوله: «ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء».

كان قبل أن يولد إبراهيم بن النبي ﷺ من مارية، وقبل مقدمها بالكلية وهذا معين.

فإن جميع أولاد النبي ﷺ كما تقدم وكما سيأتي من خديجة إلا إبراهيم فمن مارية القبطية المصرية رضي الله عنها.

وقد استدل بهذا الحديث جماعة من أهل العلم على تفضيل خديجة على عائشة رضي الله عنها وأرضاها.

وتكلم آخرون في إسناده وتأوله آخرون على أنها كانت خيرا عشرة وهو محتمل أو ظاهر.

وسببه أن عائشة تمت بشبابها وحسنها وجميل عشرتها، وليس مرادها بقولها قد أبدلك الله خيرا منها أنها تزكي نفسها وتفضلها على خديجة؛ فإن هذا أمر مرجعه إلى الله عز وجل كما قال: { فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } [82].

وقال تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ } [83] الآية..

وهذه مسألة وقع النزاع فيها بين العلماء قديما وحديثا، وبجانبها طرقا يقتصر عليها أهل الشيع وغيرهم ولا يعدلون بخديجة أحدا من النساء لسلام الرب عليها، وكون ولد النبي ﷺ جميعهم - إلا إبراهيم - منها، وكونه لم يتزوج عليها حتى ماتت إكراما لها وتقدير إسلامها، وكونها من الصدِّيقات ولها مقام صدق في أول البعثة، وبذلت نفسها ومالها لرسول الله ﷺ.

وأما أهل السنة فمنهم من يغلو أيضا ويثبت لكل واحدة منهما من الفضائل ما هو معروف، ولكن تحملهم قوة التسنن على تفضيل عائشة لكونها ابنة الصديق، ولكونها أعلم من خديجة؛ فإنه لم يكن في الأمم مثل عائشة في حفظها وعلمها وفصاحتها وعقلها، ولم يكن الرسول يحب أحدا من نسائه كمحبته إياها، ونزلت براءتها من فوق سبع سموات، وروت بعده عنه عليه السلام علما جما كثيرا طيبا مباركا فيه.

حتى قد ذكر كثير من الناس الحديث المشهور: «خذوا شطر دينكم عن الحميراء».

والحق أن كلا منهما لها من الفضائل ما لو نظر الناظر فيه لبهره وحيره، والأحسن التوقف في ذلك إلى الله عز وجل.

ومن ظهر له دليل يقطع به، أو يغلب على ظنه في هذا الباب فذاك الذي يجب عليه أن يقول بما عنده من العلم ومن حصل له توقف في هذه المسألة أو في غيرها فالطريق الأقوم، والمسلك الأسلم أن يقول الله أعلم.

وقد روى الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، والترمذي والنسائي، من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد» أي: خير زمانهما.

وروى شعبة، عن معاوية بن قرة، عن أبيه قرة بن إياس رضي الله عنه.

قال: قال رسول الله ﷺ: «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا ثلاث: مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام»..

رواه ابن مردويه في (تفسيره) وهذا إسناد صحيح إلى شعبة وبعده.

قالوا: والقدر المشترك بين الثلاث نسوة؛ آسية ومريم وخديجة أن كلا منهن كفلت نبيا مرسلا، وأحسنت الصحبة في كفالتها وصدقته.

فآسية: ربت موسى وأحسنت إليه وصدقته حين بعث.

ومريم: كفلت ولدها أتم كفالة وأعظمها وصدقته حين أرسل.

وخديجة: رغبت في تزويج رسول الله ﷺ بها، وبذلت في ذلك أموالها كما تقدم وصدقته حين نزل عليه الوحي من الله عز وجل.

وقوله: «وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» هو ثابت في (الصحيحين) من طريق شعبة أيضا، عن عمرو بن مرة، عن مرة الطيب الهمداني، عن أبي موسى الأشعري.

قال: قال رسول الله ﷺ: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام».

والثريد: هو الخبز واللحم جميعا، وهو أفخر طعام العرب كما قال بعض الشعراء:

إذا ما الخبز تأدمه بلحم * فذاك أمانة الله الثريد

ويحمل قوله: «وفضل عائشة على النساء» أن يكون محفوظا فيعم النساء المذكورات وغيرهن، ويحتمل أن يكون عاما فيما عداهن ويبقى الكلام فيها وفيهن موقوف يحتمل التسوية بينهن، فيحتاج من رجح واحدة منهن على غيرها إلى دليل من خارج والله أعلم.

فصل في تزويجه صلى الله عليه وسلم بعد خديجة رضي الله عنها بعائشة بنت الصديق وسودة بنت زمعة رضي الله عنهما

والصحيح أن عائشة تزوجها أولا كما سيأتي.

قال البخاري في باب تزويج عائشة: حدثنا معلى بن أسد، حدثنا وهيب، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: أن النبي ﷺ قال لها: «أريتك في المنام، مرتين أرى أنك في سرقة من حرير ويقول هذه امرأتك، فأكشف عنها فإذا هي أنت، فأقول إن كان هذا من عند الله يمضه».

قال البخاري باب نكاح الأبكار.

وقال ابن أبي مليكة: قال ابن عباس لعائشة: لم ينكح النبي ﷺ بكرا غيرك.

حدثنا إسماعيل بن عبد الله، حدثني أخي، عن سليمان بن بلال، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله أرأيت لو نزلت واديا وفيه شجرة قد أكل منها، ووجدت شجرة لم يؤكل منها في أيها كنت ترتع بعيرك؟

قال: «في التي لم يرتع منها» تعني أن النبي ﷺ لم يتزوج بكرا غيرها.

انفرد به البخاري ثم قال: حدثنا عبيد بن إسماعيل، حدثنا أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة.

قالت: قال لي رسول الله ﷺ: «أريتك في المنام فيجيء بك الملك في سرقة من حرير فقال لي: هذه امرأتك، فكشفت عن وجهك الثوب؛ فإذا هي أنت، فقلت: إن يكن هذا من عند الله يمضه».

وفي رواية: «أريتك في المنام ثلاث ليال».

وعند الترمذي: أن جبريل جاءه بصورتها في خرقة من حرير خضراء فقال: هذه زوجتك في الدنيا والآخرة.

وقال البخاري في باب تزويج الصغار من الكبار؛ حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا الليث بن يزيد، عن عراك، عن عروة: أن رسول الله ﷺ خطب عائشة إلى أبي بكر، فقال له أبو بكر: إنما أنا أخوك.

فقال: «أنت أخي في دين الله وكتابه وهي لي حلال».

هذا الحديث ظاهر سياقه كأنه مرسل، وهو عند البخاري والمحققين متصل لأنه من حديث عروة عن عائشة رضي الله عنها.

وهذا من إفراد البخاري رحمه الله.

وقال يونس بن بكير، عن هشام بن عروة، عن أبيه.

قال: تزوج رسول الله ﷺ عائشة بعد خديجة بثلاث سنين، وعائشة يومئذ ابنة ست سنين وبنى بها وهي ابنة تسع، ومات رسول الله ﷺ وعائشة ابنة ثمانية عشرة سنة، وهذا غريب.

وقد روى البخاري، عن عبيد بن إسماعيل، عن أبي أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه.

قال: توفيت خديجة قبل مخرج النبي ﷺ بثلاث سنين فلبث سنتين - أو قريبا من ذلك - ونكح عائشة وهي بنت ست سنين، ثم بنى بها وهي بنت تسع سنين.

وهذا الذي قاله عروة مرسل في ظاهر السياق كما قدمنا، ولكنه في حكم المتصل في نفس الأمر.

وقوله: تزوجها وهي ابنة ست سنين وبنى بها وهي ابنة تسع ما لا خلاف فيه بين الناس - وقد ثبت في (الصحاح) وغيرها - وكان بناؤه بها عليه السلام في السنة الثانية من الهجرة إلى المدينة.

وأما كون تزويجها كان بعد موت خديجة بنحو ثلاث سنين ففيه نظر.

فإن يعقوب بن سفيان الحافظ قال: حدثنا الحجاج، حدثنا حماد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: تزوجني رسول الله ﷺ متوفى خديجة قبل مخرجه من مكة، وأنا ابنة سبع - أو ست سنين - فلما قدمنا المدينة جاءني نسوة وأنا ألعب في أرجوحة وأنا مجممة، فهيآنني وصنعنني، ثم أتين بي إلى رسول الله ﷺ فبنى بي وأنا ابنة تسع سنين.

فقوله في هذا الحديث: - متوفى خديجة - يقتضي أنه على أثر ذلك قريبا، اللهم إلا أن يكون قد سقط من النسخة بعد متوفى خديجة فلا ينفي ما ذكره يونس بن بكير، وأبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، والله أعلم.

وقال البخاري: حدثنا فروة بن أبي المغراء، حدثنا علي بن مسهر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة.

قالت: تزوجني النبي ﷺ وأنا بنت ست سنين، فقدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج

فوعكت فتمزق شعري، وقد وفت لي جميمة، فأتتني أمي أم رومان، وإني لفي أرجوحة ومعي صواحب لي، فصرخت بي فأتيتها ما أدري ما تريد مني، فأخذت بيدي حتى أوقفتني على باب الدار، وإني لأنهج حتى سكن بعض نفسي، ثم أخذت شيئا من ماء فمست به وجهي ورأسي، ثم أدخلتني الدار.

قال: فإذا نسوة من الأنصار في البيت فقلن: على الخير والبركة وعلى خير طائر، فأسلمتني إليهن فأصلحن من شأني فلم يرعني إلا رسول الله ﷺ ضحىً، فأسلمنني إليه وأنا يومئذٍ بنت تسع سنين.

وقال الإمام أحمد في مسند عائشة أم المؤمنين: حدثنا محمد بن بشر، حدثنا بشر، حدثنا محمد بن عمرو، حدثنا أبو سلمة ويحيى قالا: قالت عائشة: لما هلكت خديجة جاءت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون فقالت: يا رسول الله ألا تزوج؟

قال: «من؟».

قالت: إن شئت بكرا وإن شئت ثيبا.

قال: «فمن البكر؟».

قالت: أحب خلق الله إليك عائشة ابنة أبي بكر.

قال: «ومن الثيب؟».

قالت: سودة بنت زمعة قد آمنت بك واتبعتك.

قال: «فاذهبي فاذكريهما علي».

فدخلت بيت أبي بكر فقالت: يا أم رومان ماذا أدخل الله عليك من الخير والبركة؟

قالت: وما ذاك؟

قالت: أرسلني رسول الله ﷺ أخطب عليه عائشة.

قالت: انظري أبا بكر حتى يأتي، فجاء أبو بكر فقلت: يا أبا بكر ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة؟

قال: وما ذاك؟

قالت: أرسلني رسول الله ﷺ أخطب عليه عائشة.

قال: وهل تصلح له إنما هي ابنة أخيه، فرجعت إلى رسول الله ﷺ فذكرت ذلك له.

قال: «ارجعي إليه فقولي له: أنا أخوك وأنت أخي في الإسلام وابنتك تصلح لي».

فرجعت فذكرت ذلك له.

قال: انتظري وخرج.

قالت أم رومان: إن مطعم بن عدي قد ذكرها على ابنه، ووالله ما وعد أبو بكر وعدا قط فأخلفه، فدخل أبو بكر على مطعم بن عدي وعنده امرأته أم الصبي فقالت: يا ابن أبي قحافة لعلك مصبي صاحبنا تدخله في دينك الذي أنت عليه إن تزوج إليك؟

فقال أبو بكر للمطعم ابن عدي: أقول هذه تقول؟

قال: إنها تقول ذلك.

فخرج من عنده وقد أذهب الله ما كان في نفسه من عِدته التي وعده، فرجع فقال لخولة: ادعي لي رسول الله ﷺ، فدعته فزوجها إياه وعائشة يومئذٍ بنت ست سنين.

ثم خرجت فدخلت على سودة بنت زمعة فقالت: ما أدخل الله عليك من الخير والبركة؟

قالت: وما ذاك؟

قالت: أرسلني رسول الله ﷺ أخطبك إليه.

قالت: وددت، ادخلي إلى أبي - بكر - فاذكري ذلك له - وكان شيخا كبيرا قد أدركه السن قد تخلف عن الحج - فدخلت عليه فحييته بتحية الجاهلية.

فقال: من هذه؟

قالت: خولة بنت حكيم.

قال: فما شأنك؟

قالت: أرسلني محمد بن عبد الله أخطب عليه سودة.

فقال: كفؤ كريم ماذا تقول صاحبتك؟

قالت: تحب ذلك.

قال: ادعيها إلي، فدعتها.

قال: أي بنية إن هذه تزعم أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب قد أرسل بخطبتك وهو كفؤ كريم، أتحبين أن أزوجك به؟

قالت: نعم.

قال: ادعيه لي، فجاء رسول الله ﷺ فزوجها إياه، فجاء أخوها عبد بن زمعة من الحج فجاء يحثي على رأسه التراب.

فقال بعد أن أسلم: لعمرك إني لسفيه يوم أحثي في رأسي التراب أن تزوج رسول الله ﷺ سودة بنت زمعة.

قالت عائشة: فقدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج في السنح.

قالت: فجاء رسول الله ﷺ فدخل بيتنا واجتمع إليه رجال من الأنصار ونساء، فجاءتني أمي وأنا لفي أرجوحة بين عذقين يرجح بي، فأنزلتني من الأرجوحة ولي جميمة ففرقتها، ومسحت وجهي بشيء من الماء.

ثم أقبلت تقودني حتى وقفت بي عند الباب وإني لأنهج حتى سكن من نفسي، ثم دخلت بي فإذا رسول الله ﷺ جالس على سرير في بيتنا وعنده رجال ونساء من الأنصار، فأجلستني في حجرة ثم قالت: هؤلاء أهلك فبارك الله لك فيهم، وبارك لهم فيك.

فوثب الرجال والنساء فخرجوا، وبنى بي رسول الله ﷺ في بيتنا ما نحرت علي جزور، ولا ذبحت علي شاة، حتى أرسل إلينا سعد بن عبادة بجفنة كان يرسل بها إلى رسول الله ﷺ إذا دار إلى نسائه، وأنا يومئذٍ ابنة تسع سنين.

وهذا السياق كأنه مرسل وهو متصل لما رواه البيهقي من طريق أحمد بن عبد الجبار: حدثنا عبد الله بن إدريس الأزدي، عن محمد بن عمرو، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: قالت عائشة: لما ماتت خديجة جاءت خولة بنت حكيم فقالت يا رسول الله: ألا تزوج؟

قال: «ومن؟».

قالت: إن شئت بكرا وإن شئت ثيبا.

قال: «من البكر ومن الثيب؟».

قالت: أما البكر فابنة أحب خلق الله إليك: عائشة، وأما الثيب: فسودة بنت زمعة قد آمنت بك واتبعتك.

قال: «فاذكريهما علي». وذكر تمام الحديث نحو ما تقدم.

وهذا يقتضي أن عقده على عائشة كان متقدما على تزويجه بسودة بنت زمعة، ولكن دخوله على سودة كان بمكة، وأما دخوله على عائشة فتأخر إلى المدينة في السنة الثانية كما تقدم، وكما سيأتي.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أسود، حدثنا شريك، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة.

قالت: لما كبرت سودة وهبت يومها لي، فكان رسول الله ﷺ يقسم لي بيومها مع نسائه.

قالت: وكانت أول امرأة تزوجها بعدي.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر، حدثنا عبد الحميد، حدثني شهر، حدثني عبد الله بن عباس: أن رسول الله ﷺ خطب امرأة من قومه يقال لها سودة، وكانت مصبية كان لها خمس صبية - أو ست من بعلها - مات.

فقال رسول الله ﷺ: «ما يمنعك مني؟».

قالت: والله يا نبي الله ما يمنعني منك أن لا تكون أحب البرية إلي، ولكني أكرمك أن يمنعوا هؤلاء الصبية عند رأسك بكرة وعشية.

قال: «فهل منعك مني غير ذلك؟».

قالت: لا والله.

قال لها رسول الله ﷺ: «يرحمك الله إن خير نساء ركبن أعجاز الإبل، صالح نساء قريش أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على بعل بذات يده».

قلت: وكان زوجها قبله عليه السلام السكران بن عمرو أخو سهيل بن عمرو، وكان ممن أسلم وهاجر إلى الحبشة كما تقدم.

ثم رجع إلى مكة فمات بها قبل الهجرة رضي الله عنه.

هذه السياقات كلها دالة على أن العقد على عائشة كان متقدما على العقد بسودة، وهو قول عبد الله بن محمد بن عقيل.

ورواه يونس، عن الزهري، واختار ابن عبد البر أن العقد على سودة قبل عائشة، وحكاه عن قتادة وأبي عبيد.

قال: ورواه عقيل عن الزهري.

فصل اجتراء قريش على رسول الله بعد وفاة عمه أبي طالب

قد تقدم ذكر موت أبي طالب عم رسول الله ﷺ، وأنه كان ناصرا له وقائما في صفه ومدافعا عنه بكل ما يقدر عليه من نفس ومال ومقال وفعال، فلما مات اجترأ سفهاء قريش على رسول الله ﷺ، ونالوا منه ما لم يكونوا يصلون إليه ولا يقدرون عليه.

كما قد رواه البيهقي، عن الحاكم، عن الأصم: حدثنا محمد بن إسحاق الصنعاني، حدثنا يوسف بن بهلول، حدثنا عبد الله بن إدريس، حدثنا محمد بن إسحاق، عمن حدثه، عن عروة بن الزبير، عن عبد الله بن جعفر.

قال: لما مات أبو طالب عرض لرسول الله ﷺ سفيه من سفهاء قريش، فألقى عليه ترابا، فرجع إلى بيته فأتت امرأة من بناته تمسح عن وجهه التراب وتبكي، فجعل يقول: «أي بنية لا تبكين فإن الله مانع أباك».

ويقول ما بين ذلك: «ما نالت قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب ثم شرعوا».

قد رواه زياد البكائي، عن محمد بن إسحاق، عن هشام بن عروة، عن أبيه مرسلا، والله أعلم.

وروى البيهقي أيضا، عن الحاكم وغيره، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن رسول الله ﷺ قال: «ما زالت قريش كاعين حتى مات أبو طالب».

ثم رواه عن الحاكم، عن الأصم، عن عباس الدوري، عن يحيى بن معين، حدثنا عقبة المجدر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، عن النبي ﷺ.

قال: «ما زالت قريش كاعة حتى توفي أبو طالب».

وقد روى الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي بسنده عن ثعلبة بن صغير، وحكيم بن حزام أنهما قالا: لما توفي أبو طالب وخديجة - وكان بينهما خمسة أيام - اجتمع على رسول الله ﷺ مصيبتان، ولزم بيته وأقل الخروج، ونالت منه قريش ما لم تكن تنال ولا تطمع فيه، فبلغ ذلك أبا لهب فجاءه فقال: يا محمد امض لما أردت وما كنت صانعا إذ كان أبو طالب حيا فاصنعه، لا واللات لا يوصل إليك حتى أموت.

وسبَّ ابن الغيطلة رسول الله ﷺ فأقبل إليه أبو لهب فنال منه، فولى يصيح يا معشر قريش صبا أبو عتبة، فأقبلت قريش حتى وقفوا على أبي لهب فقال: ما فارقت دين عبد المطلب، ولكني أمنع ابن أخي أن يضام حتى يمضي لما يريد.

فقالوا: لقد أحسنت وأجملت ووصلت الرحم، فمكث رسول الله ﷺ كذلك أياما يأتي ويذهب لا يعرض له أحد من قريش، وهابوا أبا لهب إذ جاء عقبة بن أبي معيط وأبو جهل إلى أبي لهب فقالا له: أخبرك ابن أخيك أين مدخل أبيك؟

فقال له أبو لهب: يا محمد أين مدخل عبد المطلب؟

قال: «مع قومه».

فخرج إليهما فقال: قد سألته فقال: مع قومه.

فقالا: يزعم أنه في النار.

فقال: يا محمد أيدخل عبد المطلب النار؟

فقال رسول الله ﷺ: «ومن مات على ما مات عليه عبد المطلب دخل النار»

فقال: أبو لهب - لعنه الله - والله لا برحت لك إلا عدوا أبدا وأنت تزعم أن عبد المطلب في النار، واشتد عند ذلك أبو لهب وسائر قريش عليه.

قال ابن إسحاق: وكان النفر الذين يؤذون رسول الله ﷺ في بيته: أبو لهب، والحكم بن أبي العاص بن أمية، وعقبة بن أبي معيط، وعدي بن الحمراء، وابن الأصداء الهذلي - وكانوا جيرانه - لم يسلم منهم أحد إلا الحكم بن أبي العاص.

وكان أحدهم - فيما ذكر لي - يطرح عليه رحم الشاة وهو يصلي، وكان أحدهم يطرحها في برمته إذا نصبت له، حتى اتخذ رسول الله ﷺ حجرا يستتر به منهم إذا صلى، فكان إذا طرحوا شيئا من ذلك يحمله على عود، ثم يقف به على بابه، ثم يقول: «يا بني عبد مناف أي جوار هذا؟» ثم يلقيه في الطريق.

قلت: وعندي أن غالب ما روي مما تقدم من طرحهم سلا الجزور بين كتفيه وهو يصلي.

كما رواه ابن مسعود وفيه أن فاطمة جاءت فطرحته عنه وأقبلت عليهم فشتمتهم، ثم لما انصرف رسول الله ﷺ دعا على سبعة منهم كما تقدم.

وكذلك ما أخبر به عبد الله بن عمرو بن العاص من خنقهم له عليه السلام خنقا شديدا حتى حال دونه أبو بكر الصديق قائلا: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟

وكذلك عزم أبي جهل - لعنه الله - على أن يطأ على عنقه وهو يصلي فحيل بينه وبين ذلك، وما أشبه ذلك كان بعد وفاة أبي طالب، والله أعلم.

فذكرها ههنا أنسب وأشبه.

فصل في ذهابه صلى الله عليه وسلم إلى أهل الطائف يدعوهم إلى دين الله

قال ابن إسحاق: فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله ﷺ من الأذى ما لم تكن نالته منه في حياة عمه أبي طالب، فخرج رسول الله ﷺ إلى الطائف، يلتمس من ثقيف النصرة والمنعة بهم من قومه، ورجا أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله تعالى، فخرج إليهم وحده.

قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن أبي زياد، عن محمد بن كعب القرظي.

قال: انتهى رسول الله ﷺ إلى الطائف وعمد إلى نفر من ثقيف هم سادة ثقيف وأشرافهم وهم أخوة ثلاثة: عبد ياليل، ومسعود، وحبيب بنو عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غيرة بن عوف بن ثقيف.

وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح، فجلس إليهم فدعاهم إلى الله، وكلمهم لما جاءهم له من نصرته على الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه.

فقال أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك.

وقال الآخر: أما وجد الله أحدا أرسله غيرك؟

وقال الثالث: والله لا أكلمك أبدا لئن كنت رسولا من الله كما تقول لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك.

فقام رسول الله ﷺ من عندهم وقد يئس من خير ثقيف، وقد قال لهم - فيما ذكر لي -: «إن فعلتم ما فعلتم فاكتموا علي».

وكره رسول الله ﷺ أن يبلغ قومه عنه فيذئرهم ذلك عليه، فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس وألجئوه إلى حائط لعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة وهما فيه.

ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فعمد إلى ظل حبلة من عنب، فجلس فيه وابنا ربيعة ينظران إليه، ويريان ما يلقى من سفهاء أهل الطائف.

وقد لقي رسول الله ﷺ - فيما ذكر لي - المرأة التي من بني جمح، فقال لها: «ماذا لقينا من أحمائك؟».

فلما اطمأن قال - فيما ذكر -: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو تحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى لا حول ولا قوة إلا بك».

قال: فلما رآه ابنا ربيعة عتبة وشيبة وما لقي، تحركت له رحمهما فدعوا غلاما نصرانيا يقال له: عداس، وقالا له: خذ قطفا من هذا العنب فضعه في هذا الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل، فقل له يأكل منه، ففعل عداس.

ثم ذهب به حتى وضعه بين يدي رسول الله ﷺ، ثم قال له: كل.

فلما وضع رسول الله ﷺ يده فيه قال: «بسم الله».

ثم أكل، ثم نظر عداس في وجهه ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد.

فقال له رسول الله ﷺ: «ومن أهل أي بلاد أنت يا عداس وما دينك؟».

قال: نصراني وأنا رجل من أهل نينوى.

فقال رسول الله ﷺ: «من قرية الرجل الصالح يونس بن متى».

فقال له عداس: وما يدريك ما يونس بن متى؟

فقال رسول الله ﷺ: «ذلك أخي كان نبيا وأنا نبي».

فأكب عداس على رسول الله ﷺ يقبل رأسه ويديه وقدميه.

قال: يقول أبناء ربيعة أحدهما لصاحبه أما غلامك فقد أفسده عليك، فلما جاء عداس قالا له: ويلك يا عداس! مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟

قال: يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي.

قالا له: ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك فإن دينك خير من دينه.

وقد ذكر موسى بن عقبة نحوا من هذا السياق إلا أنه لم يذكر الدعاء، وزاد: وقعد له أهل الطائف صفين على طريقه، فلما مرَّ جعلوا لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة حتى أدموه، فخلص منهم وهما يسيلان الدماء، فعمد إلى ظل نخلة وهو مكروب، وفي ذلك الحائط عتبة وشيبة ابنا ربيعة، فكره مكانهما لعداوتهما الله ورسوله.

ثم ذكر قصة عداس النصراني كنحو ما تقدم.

وقد روى الإمام أحمد، عن أبي بكر بن أبي شيبة: حدثنا مروان بن معاوية الفزاري، عن عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي، عن عبد الرحمن بن خالد بن أبي جبل العدواني، عن أبيه: أنه أبصر رسول الله ﷺ في مشرق ثقيف وهو قائم على قوس - أو عصى - حين أتاهم يبتغي عندهم النصر فسمعته يقول: { والسماء والطارق } حتى ختمها.

قال: فوعيتها في الجاهلية وأنا مشرك ثم قرأتها في الإسلام.

قال: فدعتني ثقيف فقالوا: ماذا سمعت من هذا الرجل؟

فقرأتها عليهم.

فقال من معهم من قريش: نحن أعلم بصاحبنا لو كنا نعلم ما يقول حقا لاتبعناه.

وثبت في (الصحيحين) من طريق عبد الله بن وهب: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة حدثته: أنها قالت لرسول الله ﷺ: هل أتى عليك يوم أشد عليك من يوم أحد؟

قال: «ما لقيت من قومك كان أشد منه يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني فقال:

إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث لك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، ثم ناداني ملك الجبال فسلَّم علي ثم قال: يا محمد! قد بعثني الله إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، قد بعثني إليك ربك لتأمرني ما شئت، إن شئت تطبق عليهم الأخشبين؟».

فقال رسول الله ﷺ: «أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا».

فصل سماع الجن لقراءة رسول الله عليه الصلاة والسلام

وقد ذكر محمد بن إسحاق سماع الجن لقراءة رسول الله ﷺ، وذلك مرجعه من الطائف حين بات بنخلة وصلى بأصحابه الصبح، فاستمع الجن الذين صرفوا إليه قراءته هنالك.

قال ابن إسحاق: وكانوا سبعة نفر من جن أهل نصيبين وأنزل الله تعالى فيهم قوله: { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرا مِنَ الْجِنِّ } [84].

قلت: وقد تكلمنا على ذلك مستقصى في التفسير، وتقدم قطعة من ذلك والله أعلم.

ثم دخل رسول الله ﷺ مكة مرجعه من الطائف في جوار المطعم بن عدي، وازداد قومه عليه حنقا وغيظا وجرأةً وتكذيبا وعنادا، والله المستعان وعليه التكلان.

وقد ذكر الأموي في (مغازيه): أن رسول الله ﷺ بعث أريقط إلى الأخنس بن شريق، فطلب منه أن يجيره بمكة.

فقال: إن حليف قريش لا يجير على صميمها، ثم بعثه إلى سهيل بن عمرو ليجيره فقال: إن بني عامر بن لؤي لا تجير على بني كعب بن لؤي، فبعثه إلى المطعم بن عدي ليجيره فقال: نعم قل له: فليأت.

فذهب إليه رسول الله ﷺ فبات عنده تلك الليلة، فلما أصبح خرج معه هو وبنوه ستة - أو سبعة - متقلدي السيوف جميعا، فدخلوا المسجد وقال لرسول الله ﷺ: طف واحتبوا بحمائل سيوفهم في المطاف، فأقبل أبو سفيان إلى مطعم فقال: أمجير أو تابع؟

قال: لا بل مجير.

قال: إذا لا تخفر، فجلس معه حتى قضى رسول الله ﷺ طوافه، فلما انصرف انصرفوا معه وذهب أبو سفيان إلى مجلسه.

قال: فمكث أياما، ثم أذن له في الهجرة فلما هاجر رسول الله ﷺ إلى المدينة توفي مطعم بن عدي بعده بيسير.

فقال حسان بن ثابت: والله لأرثينه فقال فيما قال:

فلو كان مجد مخلد اليوم واحد * من الناس نحي مجده اليوم مطعما

أجرت رسول الله منهم فأصبحوا * عبادك ما لبى محل وأحرما

فلو سئلت عنه معد بأسرها * وقحطان أو باقي بقية جرهما

لقالوا هو الموفي بخفرة جاره * وذمته يوما إذا ما تجشما

وما تطلع الشمس المنيرة فوقهم * على مثله فيهم أعز وأكرما

إباءً إذا يأبى وألين شيمة * وأنوم عن جار إذا الليل أظلما

قلت: ولهذا قال النبي ﷺ يوم أسارى بدر: «لو كان المطعم بن عدي حيا ثم سألني في هؤلاء النقباء لوهبتهم له».

فصل في عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه الكريمة على أحياء العرب

قال ابن إسحاق: ثم قدم رسول الله ﷺ مكة وقومه أشد ما كانوا عليه من خلافه وفراق دينه إلا قليلا مستضعفين ممن آمن به، فكان رسول الله ﷺ يعرض نفسه في المواسم - إذا كانت - على قبائل العرب يدعوهم إلى الله عز وجل، ويخبرهم أنه نبي مرسل، ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتى يبين عن الله ما بعثه به.

قال ابن إسحاق: فحدثني من أصحابنا من لا أتهم، عن زيد بن أسلم، عن ربيعة بن عباد الدؤلي - ومن حدثه أبو الزناد عنه - وحدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس قال: سمعت ربيعة عباد يحدثه أبي قال: إني لغلام شاب مع أبي بمنى، ورسول الله ﷺ يقف على منازل القبائل من العرب فيقول: «يا بني فلان إني رسول الله إليكم آمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي وتصدقوا بي وتمنعوني حتى أبين عن الله ما بعثني به».

قال: وخلفه رجل أحول وضيء له غديرتان عليه حلة عدنية، فإذا فرغ رسول الله ﷺ من قوله وما دعا إليه قال ذلك الرجل: يا بني فلان إن هذا إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم، وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أقيش إلى ما جاء به من البدعة والضلالة فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه.

قال: فقلت لأبي يا أبت من هذا الرجل الذي يتبعه ويرد عليه ما يقول؟

قال: هذا عمه عبد العزى بن عبد المطلب أبو لهب.

وقد روى الإمام أحمد هذا الحديث عن إبراهيم بن أبي العباس: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه: أخبرني رجل يقال له ربيعة بن عباد من بني الدئل وكان جاهليا فأسلم.

قال: رأيت رسول الله ﷺ في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول: «يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا». والناس مجتمعون عليه ووراءه رجل وضيء الوجه أحول ذو غديرتين يقول: إنه صابئ كاذب يتبعه حيث ذهب.

فسألت عنه فقالوا: هذا عمه أبو لهب.

ورواه البيهقي من طريق محمد بن عبد الله الأنصاري، عن محمد بن عمرو، عن محمد بن المنكدر، عن ربيعة الدئلي: رأيت رسول الله ﷺ بسوق ذي المجاز يتبع الناس في منازلهم يدعوهم إلى الله، ووراءه رجل أحول تقد وجنتاه وهو يقول: أيها الناس لا يغرنكم هذا عن دينكم ودين آبائكم.

قلت: من هذا؟

قالوا: هذا أبو لهب.

وكذا رواه أبو نعيم في (الدلائل) من طريق ابن أبي ذئب، وسعيد بن سلمة بن أبي الحسام كلاهما عن محمد بن المنكدر به نحوه.

ثم رواه البيهقي من طريق شعبة، عن الأشعث بن سليم، عن رجل من كنانة قال: رأيت رسول الله ﷺ بسوق ذي المجاز وهو يقول: «يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا».

وإذا رجل خلفه يسفي عليه التراب فإذا هو أبو جهل وهو يقول: يا أيها الناس لا يغرنكم هذا عن دينكم، فإنما يريد أن تتركوا عبادة اللات والعزى.

كذا قال في هذا السياق أبو جهل.

وقد يكون وهما ويحتمل أن يكون تارة يكون ذا، وتارة يكون ذا، وأنهما كانا يتناوبان على إذائه ﷺ.

قال ابن إسحاق: وحدثني ابن شهاب الزهري: أنه عليه السلام أتى كندة في منازلهم وفيهم سيد لهم يقال له مليح، فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم نفسه، فأبوا عليه.

قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حصين أنه أتى كلبا في منازلهم إلى بطن منهم يقال لهم: بنو عبد الله فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه، حتى إنه ليقول: «يا بني عبد الله إن الله قد أحسن اسم أبيكم»، فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم.

وحدثني بعض أصحابنا عن عبد الله بن كعب بن مالك: أن رسول الله ﷺ أتى بني حنيفة في منازلهم فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه، فلم يك أحد من العرب أقبح ردا عليه منهم.

وحدثني الزهري أنه أتى بني عامر بن صعصعة، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه فقال له رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب.

ثم قال له: أرأيت إن نحن تابعناك في أمرك ثم أظهرك الله على من يخالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟

قال: «الأمر لله يضعه حيث يشاء».

قال: فقال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بأمرك فأبوا عليه.

فلما صدر الناس رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم، قد كان أدركه السن حتى لا يقدر أن يوافي معهم المواسم، فكانوا إذا رجعوا إليه حدثوه بما يكون في ذلك الموسم، فلما قدموا عليه ذلك العام سألهم عما كان في موسمهم.

فقالوا: جاءنا فتى من قريش، ثم أحد بني عبد المطلب يزعم أنه نبي، يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به إلى بلادنا.

قال: فوضع الشيخ يده على رأسه، ثم قال: يا بني عامر هل لها من تلاف؟ هل لذناباها من مطلب؟ والذي نفس فلان بيده ما تقوَّلها إسماعيلي قط، وإنها لحق فأين رأيكم كان عنكم؟

وقال موسى بن عقبة عن الزهري: فكان رسول الله ﷺ في تلك السنين يعرض نفسه على قبائل العرب في كل موسم، ويكلم كل شريف قوم لا يسألهم مع ذلك إلا أن يؤوه ويمنعوه، ويقول: «لا أُكره أحدا منكم على شيء من رضي منكم بالذي أدعوه إليه فذلك ومن كره لم أكرهه إنما أريد أن تحرزوني فيما يراد لي من القتل حتى أبلغ رسالة ربي، وحتى يقضي الله لي ولمن صحبني بما شاء».

فلم يقبله أحد منهم وما يأت أحدا من تلك القبائل إلا قال: قوم الرجل أعلم به، أترون أن رجلا يصلحنا وقد أفسد قومه ولفظوه؟! وكان ذلك مما ذخره الله للأنصار وأكرمهم به.

وقد روى الحافظ أبو نعيم من طريق عبد الله بن الأجلح ويحيى بن سعيد الأموي كلاهما عن محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن العباس قال: قال لي رسول الله ﷺ: «لا أرى لي عندك ولا عند أخيك منعة فهل أنت مخرجي إلى السوق غدا حتى نقر في منازل قبائل الناس».

وكانت مجمع العرب قال: فقلت: هذه كندة ولفها وهي أفضل من يحج البيت من اليمن وهذه منازل بكر بن وائل، وهذه منازل بني عامر بن صعصعة، فاختر لنفسك؟

قال: فبدأ بكندة فأتاهم، فقال: «ممن القوم؟».

قالوا: من أهل اليمن.

قال: «من أي اليمن؟».

قالوا: من كندة.

قال: «من أي كندة؟».

قالوا: من بني عمرو بن معاوية.

قال: «فهل لكم إلى خير؟».

قالوا: وما هو؟

قال: «تشهدون أن لا إله إلا الله وتقيمون الصلاة وتؤمنون بما جاء من عند الله».

قال عبد الله بن الأجلح: وحدثني أبي عن أشياخ قومه أن كندة قالت له: إن ظفرت تجعل لنا الملك من بعدك؟

فقال رسول الله ﷺ: «إن الملك لله يجعله حيث يشاء».

فقالوا: لا حاجة لنا فيما جئتنا به.

وقال الكلبي: فقالوا: أجئتنا لتصدنا عن آلهتنا وننابذ العرب، الحق بقومك فلا حاجة لنا بك.

فانصرف من عندهم فأتى بكر بن وائل فقال: «ممن القوم؟».

قالوا: من بكر بن وائل.

فقال: «من أي بكر بن وائل؟».

قالوا: من بني قيس بن ثعلبة.

قال: «كيف العدد؟».

قالوا: كثير مثل الثرى.

قال: «فكيف المنعة؟».

قالوا: لا منعة جاورنا فارس فنحن لا نمتنع منهم ولا نجير عليهم.

قال: «فتجعلون لله عليكم إن هو أبقاكم حتى تنزلوا منازلهم وتستنكحوا نساءهم وتستعبدوا أبناءهم أن تسبحوا الله ثلاثا وثلاثين، وتحمدوه ثلاثا وثلاثين، وتكبروه أربعا وثلاثين».

قالوا: ومن أنت؟

قال: «أنا رسول الله».

ثم انطلق فلما ولى عنهم قال الكلبي: وكان عمه أبو لهب يتبعه فيقول للناس: لا تقبلوا قوله، ثم مر أبو لهب فقالوا: هل تعرف هذا الرجل؟

قال: نعم هذا في الذروة منا فعن أي شأنه تسألون؟

فأخبروه بما دعاهم إليه وقالوا: زعم أنه رسول الله.

قال: ألا لا ترفعوا برأسه قولا فإنه مجنون يهذي من أم رأسه.

قالوا: قد رأينا ذلك حين ذكر من أمر فارس ما ذكر.

قال الكلبي: فأخبرني عبد الرحمن المعايري عن أشياخ من قومه قالوا: أتانا رسول الله ﷺ ونحن بسوق عكاظ فقال: «ممن القوم؟».

قلنا: من بني عامر بن صعصعة.

قال: «من أي بني عامر بن صعصعة؟».

قالوا: بنو كعب بن ربيعة.

قال: «كيف المنعة فيكم؟».

قلنا: لا يرام ما قبلنا، ولا يسطلى بنارنا.

قال: فقال لهم: «إني رسول الله وآتيكم لتمنعوني حتى أبلغ رسالة ربي ولاأُكره أحدا منكم على شيء».

قالوا: ومن أي قريش أنت؟

قال: «من بني عبد المطلب».

قالوا: فأين أنت من عبد مناف؟

قال: «هم أول من كذبني وطردني».

قالوا: ولكنا لا نطردك ولا نؤمن بك وسنمنعك حتى تبلغ رسالة ربك.

قال: فنزل إليهم والقوم يتسوقون، إذ أتاهم بيحرة بن فراس القشيري فقال: من هذا الرجل أراه عندكم أنكره؟.

قالوا: محمد بن عبد الله القرشي.

قال: فما لكم وله؟

قالوا: زعم لنا أنه رسول الله ﷺ فطلب إلينا أن نمنعه حتى يبلغ رسالة ربه.

قال: ماذا رددتم عليه؟

قالوا: بالترحيب والسعة نخرجك إلى بلادنا ونمنعك ما نمنع به أنفسنا.

قال بحيرة: ما أعلم أحدا من أهل هذه السوق يرجع بشيء أشد من شيء ترجعون به بدأ تم ثم لتنابذوا الناس وترميكم العرب عن قوس واحدة، قومه أعلم به لو آنسوا منه خيرا لكانوا أسعد الناس به، أتعمدون إلى زهيق قد طرده قومه وكذبوه فتؤوونه وتنصرونه فبئس الرأي رأيتم.

ثم أقبل على رسول الله ﷺ فقال: قم فالحق بقومك، فوالله لولا أنك عند قومي لضربت عنقك.

قال: فقام رسول الله ﷺ إلى ناقته فركبها فغمز الخبيث بيحرة شاكلتها فقمصت برسول الله ﷺ فألقته.

وعند بني عامر يومئذٍ ضباعة ابنة عامر بن قرط، كانت من النسوة اللاتي أسلمن مع رسول الله ﷺ بمكة جاءت زائرة إلى بني عمها فقالت: يا آل عامر - ولا عامر لي - أيصنع هذا برسول الله بين أظهركم لا يمنعه أحد منكم؟

فقام ثلاثة من بني عمها إلى بيحرة واثنين أعاناه، فأخذ كل رجل منهم رجلا فجلد به الأرض، ثم جلس على صدره ثم علوا وجوههم لطما، فقال رسول الله ﷺ: «اللهم بارك على هؤلاء والعن هؤلاء»

قال: فأسلم الثلاثة الذين نصروه وقتلوا شهداء وهم: غطيف، وغطفان ابنا سهل، وعروة - أو عذرة - بن عبد الله بن سلمة رضي الله عنهم.

وقد روى هذا الحديث بتمامه الحافظ سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي في (مغازيه) عن أبيه به.

وهلك الآخرون: وهم بيحرة بن فراس، وحزن بن عبد الله بن سلمة بن قشير، ومعاوية بن عبادة أحد بني عقيل - لعنهم الله لعنا كثيرا -، وهذا أثر غريب كتبناه لغرابته والله أعلم.

وقد روى أبو نعيم له شاهدا من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه في قصة عامر بن صعصعة وقبيح ردهم عليه وأغرب من ذلك وأطول ما رواه أبو نعيم والحاكم والبيهقي - والسياق لأبي نعيم رحمهم الله - من حديث أبان بن عبد الله البجلي، عن أبان بن تغلب، عن عكرمة، عن ابن عباس حدثني علي بن أبي طالب

قال: لما أمر الله رسوله ﷺ أن يعرض نفسه على قبائل العرب، خرج وأنا معه، وأبو بكر إلى منى حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب، فتقدم أبو بكر رضي الله عنه فسلم، وكان أبو بكر مقدما في كل خير، وكان رجلا نسابة.

فقال: ممن القوم؟

قالوا: من ربيعة.

قال: وأي ربيعة أنتم أمن هامها أم من لهازمها؟.

قالوا: بل من هامها العظمى.

قال أبو بكر: فمن أي هامتها العظمى أنتم؟

فقالوا: ذهل الأكبر.

قال لهم أبو بكر: منكم عوف الذي كان يقال له لاحر بوادي عوف؟

قالوا: لا.

قال: فمنكم بسطام بن قيس: أبو اللواء ومنتهى الأحياء؟

قالوا: لا.

قال: فمنكم الحوفزان بن شريك قاتل الملوك وسالبها أنفسها؟

قالوا: لا.

قال: فمنكم جساس بن مرة بن ذهل حامي الذمار ومانع الجار؟

قالوا: لا.

قال: فمنكم المزدلف صاحب العمامة الفردة؟

قالوا: لا.

قال: فأنتم أخوال الملوك من كندة؟

قالوا: لا.

قال: فأنتم أصهار الملوك من لخم؟

قالوا: لا.

قال لهم أبو بكر رضي الله عنه: فلستم بذهل الأكبر بل أنتم من ذهل الأصغر.

قال: فوثب إليه منهم غلام يدعى دغفل بن حنظلة الذهلي - حين بقل وجهه - فأخذ بزمام ناقة أبي بكر وهو يقول:

إن على سائلنا أن نسأله * والعبء لا نعرفه أو نحمله

يا هذا إنك سألتنا فأخبرناك ولم نكتمك شيئا، ونحن نريد أن نسألك فمن أنت؟

قال: رجل من قريش.

فقال الغلام: بخ بخ أهل السؤدد والرئاسة قادمة العرب وهاديها فمن أنت من قريش؟

فقال له: رجل من بني تيم بن مرة.

فقال له الغلام: أمكنت والله الرامي من سواء الثغرة؟ أفمنكم قصي بن كلاب الذي قتل بمكة المتغلبين عليها وأجلى بقيتهم، وجمع قومه من كل أوب حتى أوطنهم مكة، ثم استولى على الدار، وأنزل قريشا منازلها فسمته العرب بذلك مجمعا وفيه يقول الشاعر:

أليس أبوكم كان يدعى مجمعا * به جمع الله القبائل من فهر

فقال أبو بكر: لا.

قال: فمنكم عبد مناف الذي انتهت إليه الوصايا وأبو الغطاريف السادة؟

فقال أبو بكر: لا.

قال: فمنكم عمرو بن عبد مناف هاشم الذي هشم الثريد لقومه ولأهل مكة ففيه يقول الشاعر:

عمرو العلا هشم الثريد لقومه * ورجال مكة مسنون عجاف

سنُّوا إليه الرحلتين كليهما * عند الشتاء ورحلة الأصياف

كانت قريش بيضة فتفلقت * فالمخُّ خالصةٌ لعبد مناف

الرايشين وليس يعرف رايشٌ * والقائلين هلمَّ للأضياف

والضاربين الكبش يبرق بيضه * والمانعين البيض بالأسياف

لله درك لو نزلت بدارهم * منعوك من أزل ومن إقراف

فقال أبو بكر: لا.

قال: فمنكم عبد المطلب شيبة الحمد، وصاحب عير مكة، ومطعم طير السماء والوحوش والسباع في الفلا الذي كأن وجهه قمر يتلألأ في الليلة الظلماء؟

قال: لا.

قال: أفمن أهل الإفاضة أنت؟

قال: لا.

قال: أفمن أهل الحجابة أنت؟

قال: لا.

قال: أفمن أهل الندوة أنت؟

قال: لا.

قال: أفمن أهل السقاية أنت؟

قال: لا.

قال: أفمن أهل الرفادة أنت؟

قال: لا.

قال: فمن المفيضين أنت؟

قال: لا.

ثم جذب أبو بكر رضي الله عنه زمام ناقته من يده

فقال له الغلام:

صادف درَّ السيلِ درٌّ يدفعه * يَهيضه حينا وحينا يرفعه

ثم قال: أما والله يا أخا قريش لو ثبت لخبرتك أنك من زمعات قريش ولست من الذوائب.

قال: فأقبل إلينا رسول الله ﷺ يتبسم.

قال علي: فقلت له: يا أبا بكر لقد وقعت من الأعرابي على باقعة

فقال: أجل يا أبا الحسن إنه ليس من طامة إلا وفوقها طامة، والبلاء موكل بالقول.

قال: ثم انتهينا إلى مجلس عليه السكينة والوقار، وإذا مشايخ لهم أقدار وهيئات، فتقدم أبو بكر فسلم - قال علي: وكان أبو بكر مقدما في كل خير - فقال لهم أبو بكر: ممن القوم؟

قالوا: من بني شيبان بن ثعلبة.

فالتفت إلى رسول الله ﷺ فقال: بأبي أنت وأمي ليس بعد هؤلاء من عز في قومهم.

وفي رواية: ليس وراء هؤلاء عذر من قومهم، وهؤلاء غرر في قومهم، وهؤلاء غرر الناس.

وكان في القوم مفروق ابن عمرو، وهانئ بن قبيصة، والمثنى بن حارثة، والنعمان بن شريك، وكان أقرب القوم إلى أبي بكر مفروق بن عمرو، وكان مفروق بن عمرو قد غلب عليهم بيانا ولسانا، وكانت له غديرتان تسقطان على صدره، فكان أدنى القوم مجلسا من أبي بكر.

فقال له أبو بكر: كيف العدد فيكم؟

فقال له: إنا لنزيد على ألف ولن تغلب ألف من قلة.

فقال له: فكيف المنعة فيكم؟

فقال: علينا الجهد ولكل قوم جد.

فقال أبو بكر: فكيف الحرب بينكم وبين عدوكم؟

فقال مفروق: إنا أشدُّ ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله يديلنا مرة ويديل علينا أخرى لعلك أخو قريش؟

فقال أبو بكر: إن كان بلغكم أنه رسول الله فها هو هذا..

فقال مفروق: قد بلغنا أنه يذكر ذلك فإلى ما تدعو يا أخا قريش، ثم التفت إلى رسول الله ﷺ، فجلس وقام أبو بكر يظله بثوبه فقال ﷺ: «أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأني رسول الله وأن تؤوني وتنصروني حتى أؤدي عن الله الذي أمرني به، فإن قريشا قد تظاهرت على أمر الله وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد».

قال له: وإلى ما تدعو أيضا يا أخا قريش؟

فتلا رسول الله ﷺ: { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانا } إلى قوله: { ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [85].

فقال له مفروق: وإلى ما تدعو أيضا يا أخا قريش؟ فوالله ما هذا من كلام أهل الأرض، ولو كان من كلامهم لعرفناه.

فتلا رسول الله ﷺ: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [86].

فقال له مفروق: دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك، وكأنه أحب أن يشركه في الكلام هانئ بن قبيصة.

فقال: وهذا هانئ بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا.

فقال له هانئ: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش وصدقت قولك، وإني أرى أن تركنا ديننا واتِّباعنا إياك على دينك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر لم نتفكر في أمرك، وننظر في عاقبة ما تدعو إليه زلة في الرأي، وطيشة في العقل، وقلة نظر في العاقبة وإنما تكون الزلة مع العجلة، وإن من ورائنا قوما نكره أن نعقد عليهم عقدا، ولكن ترجع ونرجع وتنظر وننظر وكأنه أحب أن يشركه في الكلام المثنى بن حارثة.

فقال: وهذا المثنى شيخنا وصاحب حربنا.

فقال المثنى: قد سمعت مقالتك واستحسنت قولك يا أخا قريش، وأعجبني ما تكلمت به.

والجواب هو جواب هانئ بن قبيصة وتركنا ديننا واتِّباعنا إياك لمجلس جلسته إلينا وإنا إنما نزلنا بين صريين أحدهما اليمامة، والآخر السماوة.

فقال له رسول الله ﷺ: وما هذان الصريان؟

فقال له: أما أحدهما: فطفوف البر وأرض العرب، وأما الآخر: فأرض فارس وأنهار كسرى، وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى أن لا نحدث حدثا، ولا نؤوي محدثا.

ولعل هذا الأمر الذي تدعونا إليه مما تكرهه الملوك، فأما ما كان مما يلي بلاد العرب فذنب صاحبه مغفور، وعذره مقبول، وأما ما كان يلي بلاد فارس فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره غير مقبول.

فإن أردت أن ننصرك ونمنعك مما يلي العرب فعلنا.

فقال رسول الله ﷺ: «ما أسأتم الرد إذ أفصحتم بالصدق إنه لا يقوم بدين الله إلا من حاطه من جميع جوانبه».

ثم قال رسول الله ﷺ: «أرأيتم إن لم تلبثوا إلا يسيرا حتى يمنحكم الله بلادهم وأموالهم ويفرشكم بناتهم أتسبحون الله وتقدسونه؟».

فقال له النعمان ابن شريك: اللهم وإن ذلك لك يا أخا قريش!

فتلا رسول الله ﷺ: { يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدا وَمُبَشِّرا وَنَذِيرا * وَدَاعِيا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجا مُنِيرا } [87].

ثم نهض رسول الله ﷺ قابضا على يدي أبي بكر.

قال علي: ثم التفت إلينا رسول الله ﷺ

فقال يا علي: «أية أخلاق للعرب كانت في الجاهلية - ما أشرفها - بها يتحاجزون في الحياة الدنيا».

قال: ثم دفعنا إلى مجلس الأوس والخزرج، فما نهضنا حتى بايعوا النبي ﷺ.

قال علي: وكانوا صدقاء صبراء فسرَّ رسول الله ﷺ من معرفة أبي بكر رضي الله عنه بأنسابهم.

قال: فلم يلبث رسول الله ﷺ إلا يسيرا حتى خرج إلى أصحابه فقال لهم: «احمدوا الله كثيرا فقد ظفرت اليوم أبناء ربيعة بأهل فارس، قتلوا ملوكهم واستباحوا عسكرهم وبي نصروا».

قال: وكانت الوقعة بقراقر إلى جنب ذي قار وفيها يقول الأعشى:

فدى لبني ذُهلِ بن شيبان ناقتي * وراكبها عند اللقاء وقلَّت

هموا ضربوا بالحنو حنو قراقر * مقدمة الهامرز حتى تولت

فلله عينا من رأى من فوارسٍ * كذهل بن شيبان بها حين ولت

فثاروا وثرنا والمودة بيننا * وكانت علينا غمرة فتجلت

هذا حديث غريب جدا كتبناه لما فيه من دلائل النبوة ومحاسن الأخلاق ومكارم الشيم وفصاحة العرب، وقد ورد هذا من طريق أخرى

وفيه: أنهم لما تحاربوا هم وفارس والتقوا معهم بقراقر مكان قريب من الفرات جعلوا شعارهم: اسم محمد ﷺ فنصروا على فارس بذلك، وقد دخلوا بعد ذلك في الإسلام.

وقال الواقدي: أخبرنا عبد الله بن وابصة العبسي عن أبيه عن جده قال: جاءنا رسول الله ﷺ في منازلنا بمنى ونحن نازلون بإزاء الجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف، وهو على راحلته مردفا خلفه زيد بن حارثة، فدعانا فوالله ما استجبنا له ولا خير لنا، قال: وقد كنا سمعنا به وبدعائه في المواسم، فوقف علينا يدعونا فلم نستجب له، وكان معنا ميسرة بن مسروق العبسي فقال لنا: أحلف بالله لو قد صدقنا هذا الرجل وحملناه حتى نحل به وسط بلادنا لكان الرأي.

فأحلف بالله ليظهرن أمره حتى يبلغ كل مبلغ.

فقال القوم: دعنا منك لا تعرضنا لما لا قِبل لنا به.

وطمع رسول الله ﷺ في ميسرة فكلمه.

فقال ميسرة: ما أحسن كلامك وأنوره، ولكن قومي يخالفونني وإنما الرجل بقومه فإذا لم يعضدوه فالعدى أبعد.

فانصرف رسول الله ﷺ وخرج القوم صادرين إلى أهليهم.

فقال لهم ميسرة: ميلوا نأتي فدك فإن بها يهودا نسائلهم عن هذا الرجل.

فمالوا إلى يهود فأخرجوا سِفرا لهم فوضعوه ثم درسوا ذكر رسول الله ﷺ النبي الأمي العربي يركب الحمار ويجتزي بالكسرة ليس بالطويل ولا بالقصير، ولا بالجعد ولا بالسبط، في عينيه حمرة مشرق اللون.

فإن كان هو الذي دعاكم فأجيبوه وادخلوا في دينه فإنا نحسده ولا نتبعه، وإنا منه في مواطن بلاء عظيم ولا يبقى أحد من العرب إلا اتبعه وإلا قاتله فكونوا ممن يتبعه.

فقال ميسرة: يا قوم ألا إن هذا الأمر بيـِّن.

فقال القوم: نرجع إلى الموسم ونلقاه فرجعوا إلى بلادهم وأبى ذلك عليهم رجالهم فلم يتبعه أحد منهم.

فلما قدم رسول الله ﷺ المدينة مهاجرا وحج حجة الوداع لقاه ميسرة فعرفه.

فقال يا رسول الله: والله ما زلت حريصا على اتباعك من يوم أنخت بنا حتى كان ما كان وأبى الله إلا ما ترى من تأخر إسلامي، وقد مات عامة النفر الذين كانوا معي فأين مدخلهم يا رسول الله؟

فقال رسول الله ﷺ: «كل من مات على غير دين الإسلام فهو في النار».

فقال الحمد لله الذي أنقذني، فأسلم وحسن إسلامه، وكان له عند أبي بكر مكان.

وقد استقصى الإمام محمد بن عمر الواقدي فقص خبر القبائل واحدة واحدة، فذكر عرضه عليه السلام نفسه على بني عامر، وغسان، وبني فزارة، وبني مرة، وبني حنيفة، وبني سليم، وبني عبس، وبني نضر بن هوازن، وبني ثعلبة بن عكابة، وكندة، وكلب، وبني الحارث بن كعب، وبني عذرة، وقيس بن الحطيم وغيرهم.

وسياق أخبارها مطولة وقد ذكرنا من ذلك طرفا صالحا ولله الحمد والمنة..

وقال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر، أنا إسرائيل بن يونس، عن عثمان - يعني: ابن المغيرة - عن سالم ابن أبي الجعد، عن جابر بن عبد الله.

قال: كان النبي ﷺ يعرض نفسه على الناس بالموقف فيقول: «هل من رجل يحملني إلى قومه فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي عز وجل؟»، فأتاه رجل من همدان، فقال: ممن أنت؟

قال الرجل: من همدان.

قال: فهل عند قومك من منعة؟

قال: نعم! ثم إن الرجل خشي أن يخفره قومه فأتى رسول الله ﷺ فقال: آتيهم فأخبرهم ثم آتيك من عام قابل!

قال: نعم! فانطلق وجاء وفد الأنصار في رجب.

وقد رواه أهل السنن الأربعة من طرق عن إسرائيل به.

وقال الترمذي: حسن صحيح.

فصل قدوم وفد الأنصار لمبايعة رسول الله عليه الصلاة والسلام

في قدوم وفد الأنصار عاما بعد عام حتى بايعوا رسول الله ﷺ بيعة بعد بيعة، ثم بعد ذلك تحول إليهم رسول الله ﷺ إلى المدينة.

حديث سويد بن صامت الأنصاري

وهو سويد بن الصامت بن عطية بن حوط بن حبيب بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، وأمه: ليلى بنت عمرو النجارية أخت سلمى بنت عمرو أم عبد المطلب بن هاشم.

فسويد هذا ابن خالة عبد المطلب جد رسول الله ﷺ.

قال محمد بن إسحاق بن يسار: وكان رسول الله ﷺ على ذلك من أمره كلما اجتمع الناس بالموسم أتاهم يدعو القبائل إلى الله وإلى الإسلام ويعرض عليهم نفسه وما جاء به من الله من الهدى والرحمة ولا يسمع بقادم يقدم مكة من العرب له اسم وشرف، إلا تصدى له ودعاه إلى الله تعالى، وعرض عليه ما عنده.

قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري، عن أشياخ من قومه.

قالوا: قدم سويد بن الصامت أخو بني عمرو بن عوف مكة حاجا - أو معتمرا - وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم الكامل لجلده وشعره وشرفه ونسبه، وهو الذي يقول:

ألا رب من تدعو صديقا ولو ترى * مقالته بالغيب ساءك ما يفري

مقالته كالشهد ما كان شاهدا * وبالغيب مأثور على ثغرة النحر

يسرك باديه وتحت أديمه * تميمة غش تبتري عقب الظهر

تبين لك العينان ما هو كاتم * من الغل والبغضاء بالنظر الشَّزر

فرشني بخيرٍ طالما قد بريتني * وخير الموالي من يريشُ ولا يبري

قال: فتصدى له رسول الله ﷺ حين سمع به فدعاه إلى الله والإسلام، فقال له سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي.

فقال له رسول الله ﷺ: «وما الذي معك؟»

قال: مجلة لقمان - يعني: حكمة لقمان -.

فقال رسول الله ﷺ: «أعرضها علي»، فعرضها عليه.

فقال: «إن هذا الكلام حسن والذي معي أفضل من هذا؛ قرآن أنزله الله عليّ هو هدىً ونور».

فتلا عليه رسول الله ﷺ القرآن ودعاه إلى الإسلام.

فلم يبعد منه وقال: إن هذا القول حسن.

ثم انصرف عنه فقدم المدينة على قومه فلم يلبث أن قتله الخزرج.

فإن كان رجال من قومه ليقولون: إنا لنراه قتل وهو مسلم، وكان قتله قبل بعاث.

وقد رواه البيهقي، عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن ابن إسحاق بأخصر من هذا.

إسلام إياس بن معاذ

قال ابن إسحاق: وحدثني الحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، عن محمود بن لبيد، قال: لما قدم أبو الحيسر، أنس بن رافع، مكة ومعه فتية من بني عبد الأشهل، فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، سمع بهم رسول الله ﷺ فأتاهم فجلس إليهم، فقال لهم: «هل لكم في خير مما جئتم له؟»

قال: قالوا: وما ذاك؟

قال: «أنا رسول الله إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا، وأنزل عليَّ الكتاب».

ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن. : 181)

قال: فقال إياس بن معاذ - وكان غلاما حدثا -: يا قوم هذا والله خير مما جئتم له.

فأخذ أبو الحيسر أنس بن رافع حفنة من تراب البطحاء فضرب بها وجه إياس بن معاذ وقال: دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا.

قال: فصمت إياس وقام رسول الله ﷺ عنهم، وانصرفوا إلى المدينة، وكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج.

قال: ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك.

قال محمود بن لبيد: فأخبرني من حضرني من قومه أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله ويكبره ويحمده ويسبحه حتى مات فما كانوا يشكون أنه قد مات مسلما، لقد كان استشعر الإسلام في ذلك المجلس، حين سمع من رسول الله ﷺ ما سمع.

قلت: كان يوم بعاث - وبعاث موضع بالمدينة - كانت فيه وقعة عظيمة قتل فيها خلق من أشراف الأوس والخزرج وكبرائهم، ولم يبق من شيوخهم إلا القليل.

وقد روى البخاري في (صحيحه)، عن عبيد بن إسماعيل، عن أبي أمامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: كان يوم بعاث يوما قدَّمه الله لرسوله، قدم رسول الله ﷺ إلى المدينة وقد افترق ملاؤهم، وقتل سراتهم.

باب بدء إسلام الأنصار رضي الله عنهم

قال ابن إسحاق: فلما أراد الله إظهار دينه وإعزاز نبيه، وإنجاز موعده له، خرج رسول الله ﷺ في الموسم الذي لقيه فيه النفر من الأنصار، فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم، فبينا هو عند العقبة لقي رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا.

فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن أشياخ من قومه قالوا: لما لقيهم رسول الله ﷺ قال لهم: «من أنتم؟»

قالوا: نفر من الخزرج.

قال: «أمن موالي يهود؟»

قالوا: نعم!

قال: «أفلا تجلسون أكلمكم؟»

قالوا: بلى.

فجلسوا معه فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن.

قال: وكان مما صنع الله بهم في الإسلام أن يهود كانوا معهم في بلادهم، وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم أهل شرك أصحاب أوثان، وكانوا قد غزوهم ببلادهم، فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا: إن نبيا مبعوث الآن قد أظل زمانه نتبعه نقتلكم معه قتل عاد وإرم.

فلما كلَّم رسول الله ﷺ أولئك النفر ودعاهم إلى الله.

قال بعضهم لبعض: يا قوم تعلمون والله إنه النبي الذي توعدكم به يهود، فلا يسبقنكم إليه، فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام وقالوا له: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله بك فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك.

ثم انصرفوا عن رسول الله ﷺ راجعين إلى بلادهم قد آمنوا وصدقوا.

قال ابن إسحاق: وهم فيما ذكر لي ستة نفر كلهم من الخزرج وهم: أبو أمامة أسعد بن زرارة بن عدس بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار.

قال أبو نعيم: وقد قيل: إنه أول من أسلم من الأنصار من الخزرج.

ومن الأوس: أبو الهيثم بن التيهان.

وقيل: إن أول من أسلم: رافع بن مالك، ومعاذ بن عفراء والله أعلم.

وعوف بن الحارث بن رفاعة بن سواد بن مالك بن غنم بن مالك بن النجار - وهو ابن عفراء - النجاريان، ورافع بن مالك بن العجلان بن عمرو بن عامر بن زريق الزرقي، وقطبة بن عامر بن حديدة بن عمرو بن غنم بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن تزيد بن جشم بن الخزرج السلمي.

ثم من بني سواد، وعقبة بن عامر بن نابي بن زيد بن حرام بن كعب بن سلمة السلمي أيضا، ثم من بني حرام، وجابر بن عبد الله بن رئاب بن النعمان بن سنان بن عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة السلمي أيضا، ثم من بني عبيد رضي الله عنهم.

وهكذا روي عن الشعبي والزهري وغيرهما: أنهم كانوا ليلتئذٍ ستة نفر من الخزرج.

وذكر موسى بن عقبة فيما رواه عن الزهري، وعروة بن الزبير: أن أول اجتماعه عليه السلام بهم كانوا ثمانية وهم: معاذ بن عفراء، وأسعد بن زرارة، ورافع بن مالك، وذكوان - وهو ابن عبد قيس -، وعبادة بن الصامت، وأبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة، وأبو الهيثم بن التيهان، وعويم بن ساعدة.

فأسلموا وواعدوه إلى قابل.

فرجعوا إلى قومهم فدعوهم إلى الإسلام، وأرسلوا إلى رسول الله ﷺ معاذ بن عفراء ورافع بن مالك: أن ابعث إلينا رجلا يفقهنا.

فبعث إليهم مصعب بن عمير فنزل على أسعد بن زرارة وذكر تمام القصة كما سيوردها ابن إسحاق أتم من سياق موسى بن عقبة. والله أعلم.

قال ابن إسحاق: فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله ﷺ ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم، فلم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله ﷺ، حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثني عشر رجلا.

وهم: أبو أمامة أسعد بن زرارة المتقدم ذكره، وعوف بن الحارث المتقدم، وأخوه معاذ - وهما ابنا عفراء -، ورافع بن مالك المتقدم أيضا، وذكوان بن عبد قيس بن خلدة بن مخلد بن عامر بن زريق الزرقي.

قال ابن هشام: وهو أنصاري مهاجري.

وعبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم بن فهر بن ثعلبة بن غنم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج، وحليفهم أبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة بن خزمة بن أصرم البلوي، والعباس بن عبادة بن نضلة بن مالك بن العجلان بن يزيد بن غنم بن سالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج العجلاني، وعقبة بن عامر بن نابي المتقدم، وقطبة بن عامر بن حديدة المتقدم، فهؤلاء عشرة من الخزرج.

ومن الأوس: اثنان، وهما: عويم بن ساعدة، وأبو الهيثم مالك بن التيهان.

قال ابن هشام: التيهان يخفف ويثقل كميت وميت.

قال السهيلي: أبو الهيثم بن التيهان: اسمه مالك بن مالك بن عتيك بن عمرو بن عبد الأعلم بن عامر بن زعون بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس.

قال: وقيل: إنه أراشي.

وقيل: بلوي.

وهذا لم ينسبه ابن إسحاق ولا ابن هشام.

قال: والهيثم فرخ العقاب، وضرب من النبات، والمقصود: أن هؤلاء الاثني عشر رجلا شهدوا الموسم عامئذٍ وعزموا على الاجتماع برسول الله ﷺ فلقوه بالعقبة فبايعوه عندها بيعة النساء، وهي: العقبة الأولى.

وروى أبو نعيم: أن رسول الله ﷺ قرأ عليهم من قوله في سورة إبراهيم: { وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا } إلى آخرها.

وقال ابن إسحاق: حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن أبي مرثد بن عبد الله اليزني عن عبد الرحمن بن عسيلة الصنابحي عن عبادة - وهو ابن الصامت - قال: كنت ممن حضر العقبة الأولى، وكنا اثني عشر رجلا.

فبايعنا رسول الله ﷺ على بيعة النساء، وذلك قبل أن يفترض الحرب، على أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف.

فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئا فأمركم إلى الله، إن شاء عذب وإن شاء غفر.

وقد روى البخاري ومسلم هذا الحديث من طريق الليث بن سعد، عن يزيد ابن أبي حبيب به نحوه.

قال ابن إسحاق: وذكر ابن شهاب الزهري، عن عائذ الله أبي إدريس الخولاني: أن عبادة بن الصامت حدثه

قال: بايعنا رسول الله ﷺ ليلة العقبة الأولى أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئا فأخذتم بحده في الدنيا فهو كفارة له، وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة فأمركم إلى الله إن شاء عذب وإن شاء غفر.

وهذا الحديث مخرج في (الصحيحين) وغيرهما من طرق عن الزهري به نحوه.

وقوله: على بيعة النساء - يعني: وفق على ما نزلت عليه بيعة النساء بعد ذلك عام الحديبية - وكان هذا مما نزل على وفق ما بايع عليه أصحابه ليلة العقبة.

وليس هذا عجيب فإن القرآن نزل بموافقة عمر بن الخطاب في غير ما موطن كما بيناه في سيرته وفي التفسير، وإن كانت هذه البيعة وقعت عن وحي غير متلو فهو أظهر. والله أعلم.

قال ابن إسحاق: فلما انصرف عنه القوم بعث رسول الله ﷺ معهم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي.

وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين.

وقد روى البيهقي، عن ابن إسحاق قال: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أن رسول الله ﷺ إنما بعث مصعبا حين كتبوا إليه أن يبعثه إليهم، وهو الذي ذكره موسى بن عقبة كما تقدم، إلا أنه جعل المرة الثانية هي الأولى.

قال البيهقي: وسياق ابن إسحاق أتم.

وقال ابن إسحاق: فكان عبد الله بن أبي بكر يقول: لا أدري ما العقبة الأولى.

ثم يقول ابن إسحاق: بلى لعمري قد كانت عقبة وعقبة.

قالوا كلهم: فنزل مصعب على أسعد بن زرارة فكان يسمى بالمدينة المقرئ.

قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أنه كان يصلي بهم، وذلك أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض رضي الله عنهم أجمعين.

قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: كنت قائد أبي حين ذهب بصره فكنت إذا خرجت به إلى الجمعة فسمع الأذان بها صلى على أبي أمامة أسعد بن زرارة.

قال: فمكث حينا على ذلك لا يسمع لأذان الجمعة إلا صلى عليه واستغفر له.

قال: فقلت في نفسي: والله إن هذا بي لعجز، ألا أسأله؟

فقلت: يا أبت مالك إذا سمعت الأذان للجمعة صليت على أبي أمامة؟

فقال: أي بني، كان أول من جمع بنا بالمدينة في هزم النبيت من حرة بني بياضة في بقيع يقال له: بقيع الخضمات.

قال: قلت: وكم أنتم يومئذٍ؟

قال: أربعون رجلا.

وقد روى هذا الحديث أبو داود، وابن ماجه من طريق محمد بن إسحاق رحمه الله.

وقد روى الدار قطني، عن ابن عباس: أن رسول الله ﷺ كتب إلى مصعب بن عمير يأمره بإقامة الجمعة، وفي إسناده غرابة والله أعلم.

قال ابن إسحاق: وحدثني عبيد الله بن المغيرة بن معيقيب، وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أن أسعد بن زرارة خرج بمصعب بن عمير يريد به دار بني عبد الأشهل، ودار بني ظفر، وكان سعد بن معاذ ابن خالة أسعد بن زرارة، فدخل به حائطا من حوائط بني ظفر على بئر يقال له: بئر مرق، فجلسا في الحائط، واجتمع إليهما رجال ممن أسلم، وسعد بن معاذ وأسيد بن الحضير، يومئذٍ سيدا قومهما من بني عبد الأشهل، وكلاهما مشرك على دين قومه.

فلما سمعا به، قال سعد لأسيد: لا أبالك، انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارينا ليسفها ضعفاءنا، فازجرهما، وإنههما أن يأتيا دارينا فإنه لولا أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت كفيتك ذلك، هو ابن خالتي ولا أجد عليه مقدما.

قال: فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم أقبل إليهما، فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب: هذا سيد قومه وقد جاءك فاصدق الله فيه.

قال مصعب: إن يجلس أكلمه.

قال: فوقف عليهما متشتما، فقال: ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة.

وقال موسى بن عقبة: فقال له غلام: أتيتنا في دارنا بهذا الرعيد الغريب الطريد ليتسفه ضعفاءنا بالباطل ويدعوهم إليه.

قال ابن إسحاق: فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره؟

قال: أنصفت، قال: ثم ركز حربته وجلس إليهما فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن، فقالا - فيما يذكر عنهما - والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهله، ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟

قالا له تغتسل فتطهر وتطهر ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي، فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وتشهَّد شهادة الحق ثم قام فركع ركعتين، ثم قال لهما: إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وسأرسله إليكما الآن، سعد بن معاذ.

ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلا، قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟

قال: كلمت الرجلين، فوالله ما رأيت بهما بأسا.

وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليحقروك، قال: فقام سعد بن معاذ مغضبا مبادرا تخوفا للذي ذكر له من بني حارثة، وأخذ الحربة في يده ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئا.

ثم خرج إليهما سعد فلما رآهما مطمئنين، عرف أن أسيدا إنما أراد أن يسمع منهما، فوقف عليهما متشمتما ثم قال لأسعد بن زرارة: والله يا أبا أمامة والله لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني، أتغشانا في دارنا بما نكره؟

قال: وقد قال أسعد لمصعب: جاءك والله سيد مَنْ ورائه قومه، إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان.

قال: فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع فإن رضيت أمرا رغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره؟

قال سعد: أنصفت ثم ركز الحربة وجلس فعرض عليه الإسلام وقرأ عليه القرآن.

وذكر موسى بن عقبة: أنه قرأ عليه أول الزخرف.

قال: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهله ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟

قالا: تغتسل فتطهر وتطهر ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي ركعتين.

قال: فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وشهد شهادة الحق، ثم ركع ركعتين، ثم أخذ حربته فأقبل عائدا إلى نادي قومه ومعه أسيد بن الحضير، فلما رآه قومه مقبلا قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف عليهم قال يا بني عبد الأشهل: كيف تعلمون أمري فيكم؟

قالوا: سيدنا وأوصلنا وأفضلنا رأيا وأيمننا نقيبة، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، قال: فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلما أو مسلمة.

ورجع سعد ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة فأقاما عنده يدعوان الناس إلى الإسلام حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد، وخطمة، ووائل، وواقف، وتلك أوس وهم من الأوس بن حارثة وذلك أنهم كان فيهم أبو قيس بن الأسلت واسمه صيفي.

وقال الزبير بن بكار: اسمه الحارث، وقيل: عبيد الله واسم أبيه الأسلت عامر بن جشم بن وائل بن زيد بن قيس بن عامر بن مرة بن مالك بن الأوس.

وكذا نسبه الكلبي أيضا.

وكان شاعرا لهم قائدا يستمعون منه ويطيعونه، فوقف بهم عن الإسلام حتى كان بعد الخندق.

قلت: وأبو قيس بن الأسلت هذا ذكر له ابن إسحاق أشعارا بائية حسنة تقرب من أشعار أمية بن أبي الصلت الثقفي.

قال ابن إسحاق فيما تقدم: ولما انتشر أمر رسول الله ﷺ في العرب وبلغ البلدان ذكر بالمدينة ولم يكن حي من العرب أعلم بأمر رسول الله ﷺ حين ذكر، وقبل أن يذكر من هذا الحي من الأوس والخزرج، وذلك لما كان يسمعون من أحبار يهود.

فلما وقع أمره بالمدينة وتحدثوا بما بين قريش فيه من الاختلاف قال أبو قيس بن الأسلت أخو بني واقف.

قال السهيلي: هو أبو قيس صرمة بن أبي أنس واسم أبي أنس قيس بن صرمة بن مالك بن عدي بن عمرو بن غنم بن عدي ابن النجار، قال: وهو الذي أنزل فيه وفي عمر { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } الآية.

قال ابن إسحاق: وكان يحب قريشا، وكان لهم صهرا.

كانت تحته أرنب بنت أسد بن عبد العزى بن قصي وكان يقيم عندهم السنين بامرأته.

قال قصيدة يعظم فيها الحرمة وينهى قريشا فيها عن الحرب ويذكر فضلهم وأحلامهم ويذكرهم بلاء الله عندهم ودفعه عنهم الفيل وكيده ويأمرهم بالكف عن رسول الله ﷺ:

أيا راكبا إما عرضت فبلغن * مغلغلةً عني لؤي بن غالب

رسولَ امرئٍ قد راعه ذاتُ بينكم * على النأي محزون بذلك ناصب

وقد كان عندي للهموم معرّس * ولم اقض منها حاجتي ومآربي

نُبِيتُكم شرجين، كل قبيلة * لها أزمل من بين مُذْكٍ وحاطب

أعيذكم بالله من شر صنعكم * وشر تباغيكم ودسِّ العقارب

وإظهار أخلاقٍ ونجوى سقيمة * كوخز الأشافي وقعها حق صائب

فذكرهم بالله أول وهلة * واحلال إحرام الظباء الشوازب

وقل لهم والله يحكم حكمه * ذروا الحرب تذهب عنكم في المراحِب

متى تبعثوها تبعثوها ذميمةً * هي الغول للأقصين أو للأقارب

تقطع أرحاما وتهلك أمة * وتبري السديف من سنام وغارب

وتستبدلوا بالأتحمية بعدها * شليلا وأصداء ثيابَ المحارب

وبالمسك والكافور غُبرا سوابغا * كأن قتيريها عيونُ الجنادب

فإياكم والحرب لاتعلقنكم * وحوضا وخيم الماء مرَّ المشارب

تزين للأقوام ثم يرونها * بعاقبةٍ إذ بيّتت أمُّ صاحب

تحرق لا تشوي ضعيفا وتنتحي * ذوي العز منكم بالحتوف الصوائب

ألم تعلموا ما كان في حرب داحس * فتعتبروا أو كان في حرب حاطب

وكم ذا أصابت من شريف مسود * طويل العماد ضيفه غير خائب

عظيم رماد النار يحمد أمره * وذي شيمة محض كريم المضارب

وماء هُريق في الضلال كأنما * أذاعت به ريح الصبا والجنائب

يخبركم عنها امرؤ حقَّ عالمٍ * بأيامها والعلمُ علمُ التجارب

فبيعوا الحراب ملمُحارب واذكروا * حسابكم والله خير محاسب

وليُّ امرئ فاختار دينا فلا يكن * عليكم رقيبٌ غير رب الثواقب

أقيموا لنا دينا حنيفا فأنتموا * لنا غاية، قد يهتدى بالذوائب

وأنتم لهذا الناس نورٌ وعصمة * تؤمون والأحلام غير عوازب

وأنتم إذا ما حصَّل الناس جوهرٌ * لكم سرة البطحاء شمُّ الأرانب

تصونون أنسابا كراما عتيقةً * مهذبة الأنسابِ غير أشائب

يرى طالبُ الحاجات نحو بيوتكم * عصائبَ هلكى تهتدي بعصائب

لقد علم الأقوام أن سُراتكم * على كل حال خير أهل الجباجب

وأفضله رأيا وأعلاه سُنةً * وأقولُه للحقِّ وسط المواكب

فقوموا فضلوا ربكم وتمسحوا * بأركان هذا البيت بين الأخاشب

فعندكم منه بلاءٌ ومصدقٌ * غداةَ أبي يكسوم هادي الكتائب

كتيبته بالسهل تمشي ورجله * على القاذفات في رءوس المناقب

فلما أتاكم نصر ذي العرش ردهم * جنود المليك بين سافٍ وحاصب

فولّوا سراعا هاربين ولم يؤب * إلى أهله مِلحُبشِ غيرُ عصائب

فإن تهلكوا نهلِكْ وتهلكْ مواسمٌ * يعاشُ بها قول امرئٍ غيرِ كاذب

وحرب داحس الذي ذكرها أبو قيس في شعره كانت في زمن الجاهلية مشهورة، وكان سببها فيما ذكره أبو عبيد معمر بن المثنى وغيره: أن فرسا يقال له: داحس كانت لقيس بن زهير بن جذيمة بن رواحة الغطفاني، أجراه مع فرس لحذيفة بن بدر بن عمرو بن جؤبة الغطفاني أيضا يقال لها: الغبراء، فجاءت داحس سابقا فأمر حذيفة من ضرب وجهه فوثب مالك بن زهير فلطم وجه الغبراء، فقام حمل بن بدر فلطم مالكا.

ثم أن أبا جنيدب العبسي لقي عوف بن حذيفة فقتله، ثم لقي رجل من بني فزارة مالكا فقتله، فشبت الحرب بين بني عبس وفزارة فقتل حذيفة بن بدر وأخوه حمل بن بدر وجماعات آخرون.

وقالوا في ذلك أشعارا كثيرة يطول بسطها وذكرها.

قال ابن هشام: وأرسل قيس داحسا والغبراء وأرسل حذيفة الخطار والحنفاء، والأول أصح.

قال: وأما حرب حاطبفيعني: حاطب بن الحارث بن قيس بن هيشة بن الحارث بن أمية بن معاوية بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس.

كان قتل يهوديا جارا للخزرج، فخرج إليه يزيد بن الحارث بن قيس بن مالك بن أحمر بن حارثة بن ثعلبة بن كعب بن مالك بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج، وهو الذي يقال له: ابن قسحم في نفر من بني الحارث بن الخزرج فقتلوه فوقعت الحرب بين الأوس والخزرج فاقتتلوا قتالا شديدا وكان الظفر للخزرج.

وقتل يومئذ الأسود بن الصامت الأوسي، قتله المجذر بن ذياد حليف بني عوف بن الخزرج، ثم كانت بينهم حروب يطول ذكرها أيضا.

والمقصود: أن أبا قيس بن الأسلت مع علمه وفهمه لم ينتفع بذلك حين قدم مصعب بن عمير المدينة ودعا أهلها إلى الإسلام، فأسلم من أهلها بشر كثير ولم يبق دار - أي: محلة - من دور المدينة إلا وفيها مسلم ومسلمات غير دار بني واقف قبيلة أبي قيس، ثبطهم عن الإسلام وهو القائل أيضا:

أربَّ الناسِ أشياءٌ ألمتْ * يلفّ الصعبُ منها بالذلول

أرب الناس إما أن ضللنا * فيسرنا لمعروفِ السبيل

فلولا ربنا كنا يهودا * وما دين اليهود بذي شكول

ولولا ربنا كنا نصارى * مع الرهبان في جبل الجليل

ولكنا خُلقنا إذ خُلقنا * حنيفا دينُنا عن كل جيل

نسوق الهديَ ترسُفُ مذعناتٍ * مكشَّفة المناكبِ في الجلول

وحاصل ما يقول: أنه حائر فيما وقع من الأمر الذي قد سمعه من بعثة رسول الله ﷺ فتوقف الواقفي في ذلك مع علمه ومعرفته.

وكان الذي ثبطه عن الإسلام أولا عبد الله بن أبيّ بن سلول بعدما أخبره أبو قيس أنه الذي بُشر به يهود فمنعه عن الإسلام.

قال ابن إسحاق: ولم يسلم إلى يوم الفتح هو وأخوه وخرج، وأنكر الزبير بن بكار أن يكون أبو قيس أسلم، وكذا الواقدي.

قال: كان عزم على الإسلام أول ما دعاه رسول الله ﷺ، فلامه عبد الله بن أبي فحلف لا يسلم إلى حول فمات في ذي القعدة.

وقد ذكر غيره فيما حكاه ابن الأثير في كتابه (أسد الغابة): أنه لما حضره الموت دعاه النبي ﷺ إلى الإسلام فسمع يقول: لا إله إلا الله.

وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس بن مالك: أن رسول الله ﷺ عاد رجلا من الأنصار، فقال: «يا خال! قل لا إله إلا الله».

فقال: أخال أم عم؟

قال: «بل خال».

قال: فخير لي أن أقول لا إله إلا الله؟

فقال رسول الله ﷺ: «نعم!»

تفرد به أحمد رحمه الله.

وذكر عكرمة وغيره: أنه لما توفي أراد ابنه أن يتزوج امرأته كبيشة بنت معن بن عاصم، فسألت رسول الله ﷺ في ذلك فأنزل الله: { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ } الآية [88].

وقال ابن إسحاق، وسعيد بن يحيى الأموي في (مغازيه): كان أبو قيس هذا قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح، وفارق الأوثان، واغتسل من الجنابة، وتطهر من الحائض من النساء، وهمَّ بالنصرانية ثم أمسك عنها ودخل بيتا له فاتخذه مسجدا لا يدخل عليه فيه حائض ولا جنب وقال: أعبد إله إبراهيم حين فارق الأوثان وكرهها، حتى قدم رسول الله ﷺ فأسلم فحسن إسلامه، وكان شيخا كبيرا وكان قوّالا بالحق معظما لله في جاهليته.

يقول في ذلك أشعارا حسانا وهو الذي يقول:

يقول أبو قيس وأصبح عاديا * ألا ما استطعتم من وصاتي فافعلوا

فأوصيكم بالله والبر والتقى * وأعراضِكم والبرِّ بالله أول

وإن قومُكم سادوا فلا تحسدنهم * وإن كنتم أهل الرئاسة فاعدلوا

وإن نزلت إحدى الدواهي بقومكم * فأنفسكم دون العشيرة فاجعلوا

وإن ناب غُرْمٌ فادحُ فارفقوهم * وما حمَّلوكم في الملمات فاحملوا

وإن أنتم أمعزتم فتعففوا * وإن كان فضل الخير فيكم فأفضلوا

وقال أبو قيس أيضا:

سبحوا الله شرقَ كل صباح * طلعت شمسُه وكلِّ هلال

عالم السر والبيان جميعا * ليس ما قال ربنا بضلال

وله الطير تستزيد وتأوي * في وكور من آمنات الجبال

وله الوحشُ بالفلاةِ تراها * في حقافٍ وفي ظلال الرمال

وله هوّدت يهودُ ودانت * كلَّ دينٍ مخافةً من عُضال

وله شمس النصارى وقاموا * كلَّ عيدٍ لربهم واحتفال

وله الراهبُ الحبيسُ تراه * رهنَ بؤسٍ وكان أنعمَ بال

يا بني الأرحام لا تقطعوها * وصِلُوها قصيرةً من طوال

واتقوا الله في ضعاف اليتامى * وبما يستحلّ غير الحلال

واعلموا أن لليتيم وليا * عالما يهتدي بغير سؤال

ثم مال اليتيم لا تأكلوه * إن مال اليتيم يرعاه والي

يا بني التخوم لا تخزلوها * إن جزل التخوم ذو عقّال

يا بني الأيام لا تأمنوها * واحذروا مكرها ومرَّ الليالي

واعلموا أن مرها لنفاد * الخلق ما كان من جديدٍ وبالي

واجمعوا أمركم على البر والتقـ * ـوى وتركِ الخنا وأخذِ الحلال

قال ابن إسحاق: وقال أبو قيس صرمة أيضا يذكر ما أكرمهم الله به من الإسلام، وما خصهم به من نزول رسول الله ﷺ عندهم:

ثوى في قريشٍ بضعَ عشرةَ حجةً * يذكر لو يلقى صديقا مُواتيا

وسيأتي ذكرها بتمامها فيما بعد إن شاء الله وبه الثقة.

قصة بيعة العقبة الثانية

قال ابن إسحاق: ثم أن مصعب بن عمير رجع إلى مكة، وخرج من خرج من الأنصار من المسلمين إلى الموسم مع حجاج قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكة، فواعدوا رسول الله ﷺ العقبة من أواسط أيام التشريق، حين أراد الله بهم من كرامته والنصر لنبيه وإعزاز الإسلام وأهله، وإذلال الشرك وأهله.

فحدثني معبد بن كعب بن مالك: أن أخاه عبد الله بن كعب - وكان من أعلم الأنصار - حدثه أن أباه كعبا حدثه - وكان ممن شهد العقبة وبايع رسول الله ﷺ بها -.

قال: خرجنا في حجاج قومنا من المشركين وقد صلينا وفقهنا، ومعنا البراء بن معرور سيدنا وكبيرنا، فلما وجهنا لسفرنا، وخرجنا من المدينة، قال البراء: يا هؤلاء، إني قد رأيت رأيا والله ما أدري أتوافقونني عليه أم لا؟

قلنا: وما ذاك؟

قال: قد رأيت أن لا أدع هذه البنية مني بظهر - يعني: الكعبة - وأن أصلي إليها.

قال: فقلنا: والله ما بلغنا أن نبينا ﷺ يصلي إلا إلى الشام وما نريد أن نخالفه.

فقال: إني لمصلٍّ إليها، قال: فقلنا له: لكنا لا نفعل.

قال: فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام وصلى هو إلى الكعبة حتى قدمنا مكة.

قال: وقد كنا قد عبنا عليه ما صنع وأبى إلا الإقامة على ذلك.

فلما قدمنا مكة، قال لي: يا ابن أخي، انطلق بنا إلى رسول الله ﷺ حتى أسأله عما صنعت في سفري هذا فإنه قد وقع في نفسي منه شيء لما رأيت من خلافكم إياي فيه.

قال: فخرجنا نسأل عن رسول الله ﷺ - وكنا لا نعرفه ولم نره قبل ذلك -فلقينا رجلا من أهل مكة فسألناه عن رسول الله ﷺ قال: هل تعرفانه؟

فقلنا: لا.

فقال: هل تعرفان العباس بن عبد المطلب عمه؟

قال: قلنا: نعم! وقد كنا نعرف العباس كان لا يزال يقدم علينا تاجرا، قال: فإذا دخلتما المسجد فهو الرجل الجالس مع العباس.

قال: فدخلنا المسجد وإذا العباس جالس ورسول الله ﷺ جالس معه، فسلمنا ثم جلسنا إليه؛ فقال رسول الله ﷺ للعباس: «هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل؟»

قال: نعم، هذا البراء بن معرور سيد قومه وهذا كعب بن مالك قال: فوالله ما أنسى قول رسول الله ﷺ الشاعر؟

قال: «نعم!»

فقال له البراء بن معرور: يا نبي الله، إني خرجت في سفري هذا قد هداني الله تعالى للإسلام، فرأيت أن لا أجعل هذه البنية مني بظهر فصليت إليها وقد خالفني أصحابي في ذلك حتى وقع في نفسي من ذلك شيء فماذا ترى؟

قال: «قد كنت على قبلة لو صبرت عليها»

قال: فرجع البراء إلى قبلة رسول الله ﷺ فصلى معنا إلى الشام، قال: وأهله يزعمون أنه صلى إلى الكعبة حتى مات، وليس ذلك كما قالوا: نحن أعلم به منهم.

قال كعب بن مالك: ثم خرجنا إلى الحج وواعدنا رسول الله ﷺ العقبة من أوسط أيام التشريق، فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله ﷺ فيها ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر، سيد من سادتنا أخذناه وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا، فكلمناه وقلنا له: يا أبا جابر إنك سيد من سادتنا وشريف من أشرافنا وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدا.

ثم دعوناه إلى الإسلام وأخبرناه بميعاد رسول الله ﷺ إيانا العقبة قال: فأسلم وشهد معنا العقبة وكان نقيبا.

وقد روى البخاري: حدثني إبراهيم، حدثنا هشام: أن ابن جريج أخبرهم: قال عطاء: قال جابر: أنا وأبي وخالي من أصحاب العقبة.

قال عبد الله بن محمد: قال ابن عيينة: أحدهم: البراء بن معرور.

حدثنا علي بن المديني، حدثنا سفيان قال: كان عمرو يقول: سمعت جابر بن عبد الله يقول: شهد بي خالاي العقبة.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن ابن خثيم، عن أبي الزبير، عن جابر قال: مكث رسول الله ﷺ بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم، عكاظ ومجنة، وفي المواسم يقول: «من يؤويني؟ من ينصرني؟ حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة» فلا يجد أحدا يؤويه ولا ينصره حتى أن الرجل ليخرج من اليمن أو من مضر - كذا قال فيه - فيأتيه قومه وذوو رحمه.

فيقولون: احذر غلام قريش لا يفتنك، ويمضي بين رحالهم يدعوهم إلى الله عز وجل وهم يشيرون إليه بالأصابع حتى بعثنا الله إليه من يثرب فآويناه وصدقناه، فيخرج الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام.

ثم ائتمروا جميعا، فقلنا: حتى متى نترك رسول الله ﷺ يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟ فرحل إليه منا سبعون رجلا حتى قدموا عليه في الموسم فواعدناه شعب العقبة، فاجتمعنا عندها من رجل ورجلين حتى توافينا.

فقلنا: يا رسول الله، علام نبايعك؟

قال: «تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافوا في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة».

فقمنا إليه نبايعه وأخذ بيده أسعد بن زرارة - وهو من أصغرهم - وفي رواية البيهقي: - وهو أصغر السبعين - إلا أنا، فقال: رويدا يا أهل يثرب فإنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وإن إخراجه اليوم مناوأة للعرب كافة وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف.

فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك فخذوه وأجركم على الله، وأما أنتم قوم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه، فبينوا ذلك فهو أعذر لكم عند الله.

قالوا: أبط عنا يا أسعد فوالله لا ندع هذه البيعة ولا نسلبها أبدا.

قال: فقمنا إليه فبايعناه وأخذ علينا وشرط ويعطينا على ذلك الجنة.

وقد رواه الإمام أحمد أيضا، والبيهقي من طريق داود بن عبد الرحمن العطار - زاد البيهقي عن الحاكم - بسنده إلى يحيى بن سليم كلاهما، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن أبي إدريس به نحوه.

وهذا إسناد جيد على شرط مسلم ولم يخرجوه.

وقال البزار: وروى غير واحد، عن ابن خثيم ولا نعلمه يروي عن جابر إلا من هذا الوجه.

وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن موسى بن عبد الله، عن أبي الزبير، عن جابر قال: كان العباس آخذا بيد رسول الله ﷺ ورسول الله يواثقنا، فلما فرغنا قال رسول الله ﷺ: «أخذت وأعطيت».

وقال البزار: حدثنا محمد بن معمر، حدثنا قبيصة، حدثنا سفيان - هو الثوري -، عن جابر - يعني: الجعفي - عن داود - وهو ابن أبي هند، - عن الشعبي، عن جابر - يعني: ابن عبد الله - قال: قال رسول الله ﷺ للنقباء من الأنصار: «تؤوني وتمنعوني؟».

قالوا: نعم.

قالوا: فما لنا؟

قال: «الجنة».

ثم قال: لا نعلمه يروي إلا بهذا الإسناد عن جابر.

ثم قال ابن إسحاق: عن معبد، عن عبد الله، عن أبيه كعب بن مالك قال: فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله ﷺ نتسلل تسلل القطا مستخفين حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلا، ومعنا امرأتان من نسائنا: نسيبة بنت كعب، أم عمارة، إحدى نساء بني مازن بن النجار، وأسماء ابنة عمرو بن عدي بن نابي إحدى نساء بني سلمة وهي: أم منيع.

وقد صرح ابن إسحاق - في رواية يونس بن بكير عنه - بأسمائهم وأنسابهم وما ورد في بعض الأحاديث: أنهم كانوا سبعين، والعرب كثيرا ما تحذف الكسر.

وقال عروة بن الزبير، وموسى بن عقبة: كانوا سبعين رجلا وامرأة واحدة، قال: منهم أربعون من ذوي أسنانهم، وثلاثون من شبابهم، قال: وأصغرهم أبو مسعود وجابر بن عبد الله.

قال كعب بن مالك: فلما اجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله ﷺ حتى جاءنا ومعه العباس بن عبد المطلب وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له.

فلما جلس كان أول متكلم العباس بن عبد المطلب، فقال: يا معشر الخزرج، - قال: وكانت العرب إنما يسمون هذا الحي من الأنصار الخزرج خزرجها وأوسها - إن محمدا منا حيث علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عزة من قومه، ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الإنحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم فمن الآن فدعوه، فإنه في عزة ومنعة من قومه وبلده.

قال: فقلنا له: قد سمعنا ما قلت: فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت، قال: فتكلم رسول الله ﷺ فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغب في الإسلام.

قال: «أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم».

قال: فأخذ البراء بن معرور بيده وقال: نعم! فوالذي بعثك بالحق نبيا لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أبناء الحروب وأهل الحلقة ورثناها كابرا عن كابر.

قال: فاعترض القول، والبراء يكلم رسول الله ﷺ، أبو الهيثم بن التيهان فقال يا رسول الله: إن بيننا وبين الرجال حبالا وإنا قاطعوها - يعني: اليهود - فهل عسيت إن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟

قال: فتبسم رسول الله ﷺ ثم قال: «بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم».

قال كعب: وقد قال رسول الله ﷺ: «أخرجوا إليَّ منكم اثني عشر نقيبا يكونون على قومهم بما فيهم».

فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبا، تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس.

قال ابن إسحاق: وهم: أبو أمامة أسعد بن زرارة المتقدم، وسعد بن الربيع بن عمرو بن أبي زهير بن مالك بن امرئ القيس بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج، وعبد الله بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن عمرو بن امرئ القيس الأكبر بن مالك الأغر بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج، ورافع بن مالك بن العجلان المتقدم.

والبراء بن معرور بن صخر بن خنساء بن سنان بن عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن تزيد بن جشم بن الخزرج، وعبد الله بن عمرو بن حرام بن ثعلبة بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة، وعبادة بن الصامت المتقدم.

وسعد بن عبادة بن دليم بن حارثة بن خزيمة بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج، والمنذر بن عمرو بن خنيس بن حارثة بن لوذان بن عبد ود بن زيد بن ثعلبة بن الخزرج بن ساعدة بن كعب ابن الخزرج.

فهؤلاء تسعة من الخزرج ومن الأوس ثلاثة: وهم: أسيد بن حضير بن سماك بن عتيك بن رافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك ابن الأوس، وسعد بن خيثمة بن الحارث بن مالك بن كعب بن النحاط بن كعب بن حارثة بن غنم بن السلم بن امرئ القيس بن مالك بن الأوس.

ورفاعة بن عبد المنذر بن زنير بن زيد بن أمية بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس.

قال ابن هشام: وأهل العلم يعدون فيهم أبا الهيثم بن التيهان بدل رفاعة هذا، وهو كذلك في رواية يونس عن ابن إسحاق.

واختاره السهيلي وابن الأثير في (أسد الغابة).

ثم استشهد ابن هشام على ذلك بما رواه عن أبي زيد الأنصاري فيما ذكره من شعر كعب بن مالك في ذكر النقباء الإثني عشر هذه الليلة - ليلة العقبة الثانية - حين قال:

أبلغ أبيا أنه فال رأيه * وحان غداة الشعب والحين واقع

أبى الله ما منتك نفسك إنه * بمرصاد أمر الناس راءٍ وسامع

وأبلغ أبا سفيان أن قد بدالنا * بأحمد نورٌ من هدى الله ساطع

فلا ترغبن في حشد أمر تريده * وألَّبْ وجمِّع كل ما أنت جامع

ودونك فاعلم أن نقض عهودنا * أباه عليك الرهطُ حين تبايعوا

أباه البراءُ وابن عمرٍ كلاهما * وأسعد يأباه عليك ورافع

وسعد أباه الساعدي ومنذر * لأنفك إن حاولت ذلك جادع

وما ابن ربيع إن تناولت عهده * بمسلّمه لا يطمعن ثم طامع

وأيضا فلا يعطيكه ابن رواحة * وإخفارُه من دونه السمُّ ناقع

وفاء به، والقوقلي بن صامت * بمندوحة عما تحاول يافع

أبو هيثم أيضا وفيٌّ بمثلها * وفاء بما أعطى من العهد خانع

وما ابن حضير إن أردت بمْطِمِعٍ * فهل أنت عن أحموقة الغي نازع

وسعد أخو عمرو بن عوف فإنه * ضروح لما حاولت ملأمر مانع

أولاك نجوم لا يغبَّك منهم * عليك بنحسٍ في دجى الليل طالع

قال ابن هشام: فذكر فيهم أبا الهيثم بن التيهان ولم يذكر رفاعة.

قلت: وذكر سعد بن معاذ وليس من النقباء بالكلية في هذه الليلة.

وروى يعقوب بن سفيان عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن مالك.

قال: كان الأنصار ليلة العقبة سبعون رجلا، وكان نقباؤهم اثني عشر نقيبا، تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس.

وحدثني شيخ من الأنصار أن جبرائيل كان يشير إلى رسول الله ﷺ إلى من يجعله نقيبا ليلة العقبة وكان أسيد بن حضير أحد النقباء تلك الليلة، رواه البيهقي.

وقال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم: أن رسول الله ﷺ قال للنقباء: «أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل على قومي - يعني: المسلمين -».

قالوا: نعم!

وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله ﷺ قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري أخو بني سالم بن عوف: يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟

قالوا: نعم!

قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا أنهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلا أسلمتموه فمن الآن فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة.

قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا؟

قال: «الجنة».

قالوا: ابسط يدك فبسط يده فبايعوه.

قال عاصم ابن عمر بن قتادة: وإنما قال العباس بن عبادة ذلك ليشد العقد في أعناقهم.

وزعم عبد الله بن أبي بكر أنه إنما قال ذلك ليؤخر القوم البيعة تلك الليلة، رجاء أن يحضرها عبد الله بن أبي بن سلول سيد الخزرج ليكون أقوى لأمر القوم، فالله أعلم أي ذلك كان.

قال ابن إسحاق: فبنو النجار يزعمون أن أبا أمامة، أسعد بن زرارة، كان أول من ضرب على يده.

وبنو عبد الأشهل يقولون: بل أبو الهيثم بن التيهان.

قال ابن إسحاق: وحدثني معبد بن كعب عن أخيه عبد الله عن أبيه كعب بن مالك.

قال: فكان أول من ضرب على يد رسول الله ﷺ البراء بن معرور، ثم بايع بعد القوم.

وقال ابن الأثير في (أسد الغابة): وبنو سلمة يزعمون أن أول من بايعه ليلتئذ كعب بن مالك.

وقد ثبت في (صحيح البخاري ومسلم)من حديث الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب عن أبيه عن كعب بن مالك في حديثه حين تخلف عن غزوة تبوك.

قال: ولقد شهدت مع رسول الله ﷺ ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدرا أكثر في الناس منها.

وقال البيهقي: أخبرنا أبو الحسين بن بشران أخبرنا أبو عمرو بن السماك حدثنا حنبل بن إسحاق حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين حدثنا زكريا بن أبي زائدة، عن عامر الشعبي قال: انطلق رسول الله ﷺ مع العباس عمه إلى السبعين من الأنصار عند العقبة تحت الشجرة، فقال: «ليتكلم متكلمكم ولا يطل الخطبة فإن عليكم من المشركين عينا، وإن يعلموا بكم يفضحوكم».

فقال قائلهم - وهو أبو أمامة -: سل يا محمد لربك ما شئت، ثم سل لنفسك بعد ذلك ما شئت.

ثم أخبرنا ما لنا من الثواب على الله وعليكم إذا فعلنا ذلك.

قال: «أسألكم لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأسألكم لنفسي وأصحابي أن تؤوونا وتنصرونا وتمنعونا مما تمنعون منه أنفسكم».

قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟

قال: «لكم الجنة».

قالوا: فلك ذلك.

ثم رواه حنبل عن الإمام أحمد عن يحيى بن زكريا عن مجالد عن الشعبي عن أبي مسعود الأنصاري فذكره قال: وكان أبو مسعود أصغرهم.

وقال أحمد: عن يحيى عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي قال: فما سمع الشيب والشبان خطبة مثلها.

وقال البيهقي: أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمد بن محمش أخبرنا محمد بن إبراهيم بن الفضل الفحام، أخبرنا محمد بن يحيى الذهلي، أخبرنا عمرو بن عثمان الرقي، حدثنا زهير، ثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن إسماعيل بن عبيد الله بن رفاعة عن أبيه.

قال: قدَّمت روايا خمر، فأتاها عبادة بن الصامت فخرقها وقال: إنا بايعنا رسول الله ﷺ على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن نقول في الله لا تأخذنا فيه لومة لائم، وعلى أن ننصر رسول الله ﷺ إذا قدم علينا يثرب مما نمنع به أنفسنا وأرواحنا وأبناءنا ولنا الجنة.

فهذه بيعة رسول الله ﷺ التي بايعناه عليها، وهذا إسناد جيد قوي ولم يخرجوه.

وقد روى يونس عن ابن إسحاق قال حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده عبادة بن الصامت.

قال: بايعنا رسول الله ﷺ بيعة الحرب على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا، ومنشطنا ومكرهنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم.

قال ابن إسحاق في حديثه عن معبد بن كعب عن أخيه عبد الله بن كعب بن مالك.

قال: فلما بايعنا رسول الله ﷺ صرخ الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت سمعته قط: يا أهل الجباجب - والجباجب المنازل - هل لكم في مذمم والصباء معه قد اجتمعوا على حربكم.

قال: فقال رسول الله ﷺ: «هذا أزب العقبة، هذا ابن أزبب».

قال ابن هشام: ويقال ابن أزيب.

«أتسمع أي عدو الله؟ أما والله لا تفرغن لك».

ثم قال رسول الله ﷺ «ارفضوا إلى رحالكم».

قال: فقال العباس بن عبادة بن نضلة: يا رسول الله والذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل منى غدا بأسيافنا؟

قال: فقال رسول الله ﷺ: «لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم».

قال: فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا فيها حتى أصبحنا، فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش، حتى جاؤنا في منازلنا فقالوا: يا معشر الخزرج، إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا، من أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم.

قال: فانبعث مَنْ هناك من مشركي قومنا يحلفون ما كان من هذا شيء وما عملناه، قال: وصدقوا لم يعلموا، قال: وبعضنا ينظر إلى بعض.

قال: ثم قام القوم وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي، وعليه نعلان له جديدان، قال: فقلت له كلمة - كأني أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا - يا أبا جابر أما تستطيع أن تتخذ وأنت سيد من سادتنا مثل نعلي هذا الفتى من قريش؟

قال: فسمعها الحارث فخلعهما من رجليه ثم رمى بهما إليَّ.

قال: والله لتنتعلنهما، قال: يقول أبو جابر: مه أحفظت والله الفتى فأردد إليه نعليه.

قال: قلت: والله لا أردهما، فأل والله صالح، لئن صدق الفأل لأسلبنه.

قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر أنهم أتوا عبد الله بن أبي سلول فقالوا مثل ما ذكر كعب من القول فقال لهم: إن هذا الأمر جسيم ما كان قومي ليتفرقوا عليَّ مثل هذا وما علمته كان.

قال: فانصرفوا عنه.

قال: ونفر الناس من منى فتنطس القوم الخبر فوجدوه قد كان، فخرجوا في طلب القوم فأدركوا سعد بن عبادة بإذاخر والمنذر بن عمرو أخا بني ساعدة بن كعب بن الخزرج، وكلاهما كان نقيبا.

فأما المنذر فأعجز القوم، وأما سعد بن عبادة فأخذوه فربطوا يديه إلى عنقه بنسع رحله ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة يضربونه ويجذبونه بجمته - وكان ذا شعر كثير -.

قال سعد: فوالله إني لفي أيديهم إذ طلع عليَّ نفر من قريش، فيهم رجل وضيء أبيض، شعشاع، حلو من الرجال، فقلت في نفسي: إن يك عند أحد من القوم خير فعند هذا.

فلما دنا مني رفع يده فلكمني لكمة شديدة، فقلت في نفسي: لا والله ما عندهم بعد هذا من خير، فوالله إني لفي أيديهم يسحبونني إذ أوى لي رجل ممن معهم.

قال: ويحك أما بينك وبين أحد من قريش جوار ولا عهد؟

قال: قلت: بلى والله لقد كنت أجير لجبير بن مطعم تجاره وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادي.

وللحارث بن حرب بن أمية بن عبد شمس: فقال: ويحك فاهتف باسم الرجلين، واذكر ما بينك وبينهما، قال: ففعلت، وخرج ذلك الرجل إليهما فوجدهما في المسجد عند الكعبة، فقال لهما: إن رجلا من الخزرج الآن ليضرب بالأبطح ليهتف بكما ويذكر أن بينه وبينكما جوار.

قالا: ومن هو؟

قال: سعد بن عبادة.

قالا: صدق والله، إن كان ليجير لنا تجارنا، ويمنعهم أن يظلموا ببلده، قال: فجاء فخلصا سعدا من أيديهم، فانطلق.

وكان الذي لكم سعدا سهيل بن عمرو.

قال ابن هشام: وكان الذي أوى له أبو البختري بن هشام.

وروى البيهقي بسنده عن عيسى بن أبي عيسى بن جبير قال: سمعت قريش قائلا يقول في الليل على أبي قبيس:

فإن يُسلِمِ السعدان يصبح محمدٌ * بمكة لا يخشى خلاف المخالف

فلما أصبحوا قال أبو سفيان: من السعدان؟ أسعد بن بكر أم سعد بن هذيم؟

فلما كانت الليلة الثانية سمعوا قائلا يقول:

أيا يا سعد سعد الأوس كن أنت ناصرا * ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف

أجيبا إلى داعي الهدى وتمنيا * على الله في الفردوس منية عارف

فإن ثوابَ اللهِ للطالبِ الهدى * جنانٌ من الفردوس ذاتُ رفارف

فلما أصبحوا قال أبو سفيان: هو والله سعد بن معاذ وسعد بن عبادة.

فصل إظهار الأنصار إسلامهم بعد بيعة العقبة الثانية

قال ابن إسحاق: فلما رجع الأنصار الذين بايعوا رسول الله ﷺ ليلة العقبة الثانية إلى المدينة أظهروا الإسلام بها.

وفي قومهم بقايا من شيوخ لهم على دينهم من الشرك منهم: عمرو بن الجموح بن زيد بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة، كان ابنه معاذ بن عمرو ممن شهد العقبة وبايع رسول الله ﷺ بها، وكان عمرو بن الجموح من سادات بني سلمة وأشرافهم، وكان قد اتخذ صنما من خشب في داره يقال له: مناة كما كانت الأشراف يصنعون، يتخذه إلها يعظمه ويظهره.

فلما أسلم فتيان بني سلمة ابنه معاذ، ومعاذ بن جبل كانوا يدلجون بالليل على صنم عمرو ذلك، فيحملونه فيطرحونه في بعض حفر بني سلمة وفيها عذر الناس منكسا على رأسه، فإذا أصبح عمرو قال: ويلكم من عدا على إلهنا هذه الليلة؟ثم يغدو يلتمسه حتى إذا وجده غسله وطيبه وطهره ثم قال: أما والله لو أعلم من فعل بك هذا لأخزينه.

فإذا أمسى ونام عمرو عدوا عليه، ففعلوا مثل ذلك، فيغدوا فيجده في مثل ما كان فيه من الأذى، فيغسله ويطيبه ويطهره، ثم يعدون عليه إذا أمسى فيفعلون به مثل ذلك، فلما أكثروا عليه، استخرجه من حيث ألقوه يوما، فغسله وطهره وطيبه.

ثم جاء بسيفه فعلقه عليه، ثم قال له: إني والله ما أعلم من يصنع بك ما أرى، فإن كان فيك خير فامتنع هذا السيف معك.

فلما أمسى ونام عمرو عدوا عليه، فأخذوا السيف من عنقه، ثم أخذوا كلبا ميتا فقرنوه به بحبل، ثم ألقوه في بئر من آبار بني سلمة، فيها عذر من عذر الناس وغدا عمرو بن الجموح فلم يجده في مكانه الذي كان به، فخرج يتبعه حتى إذا وجده في تلك البئر منكسا مقرونا بكلب ميت، فلما رآه أبصر شأنه وكلَّمه من أسلم من قومه فأسلم برحمة الله، وحسن إسلامه.

فقال حين أسلم وعرف من الله ما عرف، وهو يذكر صنمه ذلك وما أبصر من أمره ويشكر الله الذي أنقذه مما كان فيه من العمى والضلالة ويقول:

والله لو كنت إلها لم تكن * أنت وكلب وسط بئر في قرن

أُفٍّ لملقاك إلها مستدِن * الآن فتَّشناك عن سوء الغبن

الحمدُ لله العليّ ذي المنن * الواهب الرزاق ديَّان الدِّين

هو الذي أنقذني من قبل أن * أكونَ في ظلمة قبرٍ مرتهَن

فصل يتضمن أسماء من شهد بيعة العقبة الثانية ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان

فمن الأوس أحد عشر رجلا: أسيد بن حضير أحد النقباء لم يشهد بدرا، وأبو الهيثم بن التيهان بدري أيضا، وسلمة بن سلامة بن وقش بدري، وظهير بن رافع، وأبو بردة بن دينار بدري، ونهير بن الهيثم بن نابي بن مجدعة بن حارثة، وسعد بن خيثمة أحد النقباء بدري وقتل بها شهيدا.

ورفاعة بن عبد المنذر بن زنير نقيب بدري، وعبد الله بن جبير بن النعمان بن أمية بن البرك بدري، وقتل يوم أحد شهيدا أميرا على الرماة.

ومعن بن عدي بن الجد بن عجلان بن الحارث بن ضبيعة البلوي حليف للأوس شهد بدرا وما بعدها وقتل باليمامة شهيدا، وعويم بن ساعدة شهد بدرا وما بعدها.

ومن الخزرج: اثنان وستون رجلا:

أبو أيوب خالد بن زيد وشهد بدرا وما بعدها ومات بأرض الروم زمن معاوية شهيدا، ومعاذ بن الحارث وأخواه عوف ومعوذ - وهم بنو عفراء - بدريون، وعمارة بن حزم شهد بدرا وما بعدها وقتل باليمامة.

وأسعد بن زرارة أبو أمامة أحد النقباء مات قبل بدر.

وسهل بن عتيك بدري، وأوس بن ثابت بن المنذر بدري، وأبو طلحة زيد بن سهل بدري.

وقيس بن أبي صعصعة عمرو بن زيد بن عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن كان أميرا على الساقة يوم بدر.

وعمرو بن غزية، وسعد بن الربيع أحد النقباء شهد بدرا وقتل يوم أحد، وخارجة بن زيد شهد بدرا وقتل يوم أحد، وعبد الله بن رواحة أحد النقباء شهد بدرا وأحد والخندق، وقتل يوم مؤتة أميرا.

وبشير بن سعد بدري، وعبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه الذي أُري النداء للصلاة وهو بدري.

وخلاد بن سويد بدري أحدي خندقي.

وقتل يوم بني قريظة شهيدا، طرحت عليه رحى فشدخته فيقال: إن رسول الله ﷺ قال: «إن له لأجر شهيدين».

وأبو مسعود عقبة بن عمرو البدري، قال ابن إسحاق: وهو أحدث من شهد العقبة سنا ولم يشهد بدرا، وزياد بن لبيد بدري، وفروة بن عمرو بن وذفة وخالد بن قيس بن مالك بدري، ورافع بن مالك أحد النقباء.

وذكوان بن عبد قيس بن خلدة بن مخلد بن عامر بن رزيق، وهو الذي يقال له: مهاجري أنصاري لأنه أقام عند رسول الله ﷺ بمكة حتى هاجر منها، وهو بدري قتل يوم أحد.

وعباد بن قيس بن عامر بن خالد بن عامر بن رزيق بدري، وأخوه الحارث بن قيس بن عامر بدري أيضا.

والبراء بن معرور أحد النقباء وأول من بايع فيما تزعم بنو سلمة وقد مات قبل مقدم النبي ﷺ المدينة، وأوصى له بثلث ماله فردَّه رسول الله ﷺ على ورثته.

وابنه بشر بن البراء وقد شهد بدرا وأحدا والخندق ومات بخيبر شهيدا من أكله مع رسول الله ﷺ من تلك الشاة المسمومة رضي الله عنه.

وسنان بن صيفي بن صخر بدري، والطفيل بن النعمان بن خنساء بدري، قتل يوم الخندق، ومعقل بن المنذر بن سرح بدري، وأخوه يزيد بن المنذر بدري، ومسعود بن زيد بن سبيع، والضحاك بن حارثة بن زيد بن ثعلبة بدري.

ويزيد بن خذام بن سبيع، وجبار بن صخر بن أمية بن خنساء بن سنان بن عبيد بدري، والطفيل بن مالك بن خنساء بدري، وكعب بن مالك، وسليم بن عامر بن حديدة بدري، وقطبة بن عامر بن حديدة بدري، وأخوه أبو المنذر يزيد بدري أيضا.

وأبو اليسر كعب بن عمرو بدري، وصيفي بن سواد بن عباد، وثعلبة بن غنمة بن عدي بن نابي بدري واستشهد بالخندق، وأخوه عمرو بن غنمة بن عدي.

وعبس بن عامر بن عدي بدري، وخالد بن عمرو بن عدي بن نابي، وعبد الله بن أنيس حليف لهم من قضاعة، وعبد الله بن عمرو بن حرام أحد النقباء بدري واستشهد يوم أحد، وابنه جابر بن عبد الله.

ومعاذ بن عمرو بن الجموح بدري، وثابت بن الجذع بدري وقتل شهيدا بالطائف، وعمير بن الحارث بن ثعلبة بدري، وخديج بن سلامة حليف لهم من بلى.

ومعاذ بن جبل شهد بدرا وما بعدها ومات بطاعون عمواس في خلافة عمر بن الخطاب، وعبادة بن الصامت أحد النقباء شهد بدرا وما بعدها.

والعباس بن عبادة بن نضلة وقد أقام بمكة حتى هاجر منها فكان يقال له: مهاجري أنصاري أيضا وقتل يوم أحد شهيدا، وأبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة بن خزمة بن أصرم حليف لهم من بني غصينة من بلى، وعمرو بن الحارث بن كندة، ورفاعة بن عمرو بن زيد بدري.

وعقبة بن وهب بن كلدة حليف لهم بدري، وكان ممن خرج إلى مكة فأقام بها حتى هاجر منها فهو ممن يقال له: مهاجري أنصاري أيضا.

وسعد بن عبادة بن دليم أحد النقباء، والمنذر بن عمرو نقيب بدري أحدي وقتل يوم بئر معونة أميرا وهو الذي يقال له: أعتق ليموت.

وأما المرأتان: فأم عمارة نسيبة بنت كعب بن عمرو بن عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن بن النجار المازنية النجارية.

قال ابن إسحاق: وقد كانت شهدت الحرب مع رسول الله ﷺ وشهدت معها أختها وزوجها زيد بن عاصم بن كعب، وابناها خبيب وعبد الله، وابنها خبيب هذا هو الذي قتله مسيلمة الكذاب حين جعل يقول له: أتشهد أن محمدا رسول الله؟

فيقول: نعم.

فيقول: أتشهد أني رسول الله؟

فيقول: لا أسمع.

فجعل يقطعه عضوا عضوا حتى مات في يديه لا يزيده على ذلك، فكانت أم عمارة ممن خرج إلى اليمامة مع المسملين حين قتل مسيلمة ورجعت وبها اثني عشر جرحا من بين طعنة وضربة رضي الله عنها.

والأخرى: أم منيع أسماء ابنة عمرو بن عدي بن سنان بن نابي بن عمرو بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة رضي الله عنها.

باب الهجرة من مكة إلى المدينة

قال الزهري: عن عروة، عن عائشة، قالت: قال رسول الله ﷺ - وهو يومئذ بمكة - للمسلمين: «قد أريت دار هجرتكم، أريت سبخة ذات نخل بين لابتين».

فهاجر من هاجر قبل المدينة حين ذكر ذلك رسول الله ﷺ، ورجع إلى المدينة من كان هاجر إلى أرض الحبشة من المسلمين. رواه البخاري

وقال أبو موسى: عن النبي ﷺ: «رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب».

وهذا الحديث قد أسنده البخاري في مواضع أُخر بطوله.

ورواه مسلم كلاهما: عن أبي كريب، زاد مسلم وعبد الله بن مراد كلاهما عن أبي أسامة، عن يزيد بن عبد الله بن أبي بردة، عن جده أبي بردة، عن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري، عن النبي ﷺ الحديث بطوله.

قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو العباس القاسم بن القاسم السياري بمرو، حدثنا إبراهيم بن هلال، حدثنا علي بن الحسن بن شقيق، حدثنا عيسى بن عبيد الكندي، عن غيلان بن عبد الله العامري، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، عن جرير: أن النبي ﷺ قال: «إن الله أوحى إلي أي هؤلاء البلاد الثلاثة نزلت فهي دار هجرتك، المدينة أو البحرين أو قنسرين».

قال أهل العلم: ثم عزم له على المدينة فأمر أصحابه بالهجرة إليها.

هذا حديث غريب جدا، وقد رواه الترمذي في (المناقب) من (جامعه) منفردا به عن أبي عمار الحسين بن حريث، عن الفضل بن موسى، عن عيسى بن عبيد، عن غيلان بن عبد الله العامري، عن أبي زرعة بن عمر بن جرير، عن جرير قال: قال رسول الله ﷺ: «إن الله أوحى إليّ أي هؤلاء الثلاثة نزلت فهي دار هجرتك، المدينة أو البحرين أو قنسرين».

ثم قال: غريب لا نعرفه إلا من حديث الفضل تفرد به أبو عمار.

قلت: وغيلان بن عبد الله العامري هذا ذكره ابن حبان في الثقات إلا أنه قال: روى عنه أبي زرعة حديثا منكرا في الهجرة والله أعلم.

قال ابن إسحاق: لما أذن الله تعالى في الحرب بقوله: { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ } الآية [89].

فلما أذن الله في الحرب وتابعه هذا الحي من الأنصار على الإسلام والنصرة له، ولمن اتبعه وأوى إليهم من المسلمين.

أمر رسول الله ﷺ أصحابه من المهاجرين من قومه ومن معه بمكة من المسلمين بالخروج إلى المدينة، والهجرة إليها واللحوق بإخوانهم من الأنصار.

وقال: «إن الله قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها»، فخرجوا إليها أرسالا، وأقام رسول الله ﷺ بمكة ينتظر أن يأذن له ربه في الخروج من مكة والهجرة إلى المدينة.

فكان أول من هاجر إلى المدينة من أصحاب رسول الله ﷺ من المهاجرين من قريش:

من بني مخزوم: أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم وكانت هجرته إليها قبل بيعة العقبة بسنة حين آذته قريش مرجعه من الحبشة فعزم على الرجوع إليها، ثم بلغه أن بالمدينة لهم إخوانا فعزم إليها.

قال ابن إسحاق: فحدثني أبي، عن سلمة بن عبد الله بن عمر بن أبي سلمة، عن جدته أم سلمة زوج النبي ﷺ قالت: لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل لي بعيره ثم حملني عليه، وجعل معي ابني سلمة بن أبي سلمة في حجري، ثم خرج يقود بي بعيره، فلما رأته رجال بني المغيرة قاموا إليه فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا؟ هذه علام نتركك تسير بها في البلاد؟

قالت: فنزعوا خطام البعير من يده وأخذوني منه، قالت: وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد رهط أبي سلمة، وقالوا: والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا.

قالت: فتجاذبوا ابني سلمة بينهم حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبد الأسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة، قالت: ففرق بيني وبين ابني وبين زوجي.

قالت: فكنت أخرج كل غداة فأجلس في الأبطح فما أزال أبكي حتى أمسي - سنة أو قريبا منها - حتى مرَّ بي رجل من بني عمي أحد بني المغيرة فرأى ما بي فرحمني، فقال لبني المغيرة: ألا تخرجون من هذه المسكينة؟ فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها.

قالت: فقالوا لي: إلحقي بزوجك إن شئت.

قالت: فردَّ بنو عبد الأسد إلي عند ذلك ابني، قالت: فارتحلت بعيري، ثم أخذت ابني فوضعته في حجري، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة، قالت: وما معي أحد من خلق الله حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، أخا بني عبد الدار، فقال: إلى أين يا ابنة أبي أمية؟

قلت: أريد زوجي بالمدينة.

قال: أوما معك أحد؟

قلت: ما معي أحد إلا الله وبني هذا.

فقال: والله مالك من مترك فأخذ بخطام البعير، فانطلق معي يهوي بي، فوالله ما صحبت رجلا من العرب قط أرى أنه كان أكرم منه، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي، ثم استأخر عني حتى إذا نزلت استأخر ببعيري فحط عنه ثم قيده في الشجر ثم تنحى عني إلى شجرة فاضطجع تحتها.

فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فقدمه فرحله ثم استأخر عني، وقال: اركبي فإذا ركبت فاستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه، فقادني حتى ينزل بي، فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء قال: زوجك في هذه القرية - وكان أبو سلمة بها نازلا - فادخليها على بركة الله.

ثم انصرف راجعا إلى مكة، فكانت تقول: ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة، وما رأيت صاحبا قط كان أكرم من عثمان بن طلحة.

أسلم عثمان بن طلحة بن أبي طلحة العبدري هذا بعد الحديبية، وهاجر هو وخالد بن الوليد معا، وقتل يوم أحد أبوه وأخوته: الحارث وكلاب ومسافع، وعمه عثمان بن أبي طلحة.

ودفع إليه رسول الله ﷺ يوم الفتح وإلى ابن عمه شيبة والد بني شيبة مفاتيح الكعبة أقرها عليهم في الإسلام كما كانت في الجاهلية، ونزل في ذلك قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } الآية [90]

قال ابن إسحاق: ثم كان أول من قدمها من المهاجرين بعد أبي سلمة عمار بن ربيعة حليف بني عدي، معه امرأته ليلى بنت أبي حثمة العدوية، ثم عبد الله بن جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة، حليف بني أمية بن عبد شمس، احتمل بأهله وبأخيه عبد، أبي أحمد، اسمه عبد كما ذكره ابن إسحاق، وقيل: ثمامة.

قال السهيلي: والأول أصح.

وكان أبو أحمد رجلا ضرير البصر وكان يطوف مكة أعلاها وأسفلها بغير قائد، وكان شاعرا وكانت عنده الفارعة بنت أبي سفيان بن حرب، وكانت أمه أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم.

فغلقت دار بني جحش هجرة، فمرَّ بها عتبة بن ربيعة، والعباس بن عبد المطلب، وأبو جهل بن هشام وهم مصعدون إلى أعلى مكة، فنظر إليها عتبة تخفق أبوابها يبابا ليس بها ساكن، فلما رآها كذلك تنفس الصعداء وقال:

وكل دار وإن طالت سلامتها * يوما ستدركها النكباء والحوب

قال ابن هشام: وهذا البيت لأبي داود الأيادي في قصيدة له

قال السهيلي: واسم أبي داود حنظلة بن شرقي وقيل: حارثة

ثم قال عتبة: أصبحت دار بني جحش خلاء من أهلها.

فقال أبو جهل: وما تبكي عليه من فل بن فل، ثم قال: - يعني للعباس - هذا من عمل ابن أخيك هذا فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وقطع بيننا.

قال ابن إسحاق: فنزل أبو سلمة، وعامر بن ربيعة، وبنو جحش بقباء على مبشر بن عبد المنذر، ثم قدم المهاجرون أرسالا، قال: وكان بنو غنم بن دودان أهل إسلام، قد أوعبوا إلى المدينة هجرة رجالهم ونساؤهم وهم:

عبد الله بن جحش، وأخوه أبو أحمد، وعكاشة بن محصن، وشجاع وعقبة ابنا وهب، وأربد بن جميرة، ومنقذ بن نباتة، وسعيد بن رقيش، ومحرز بن نضلة، وزيد بن رقيش، وقيس بن جابر، وعمرو بن محصن، ومالك بن عمرو، وصفوان بن عمرو، وثقف بن عمرو، وربيعة بن أكثم.

والزبير بن عبيدة، وتمام بن عبيدة، وسخبرة بن عبيدة، ومحمد بن عبد الله بن جحش.

ومن نسائهم: زينب بنت جحش، وحمنة بنت جحش، وأم حبيب بنت جحش، وجدامة بنت جندل، وأم قيس بنت محصن، وأم حبيب بنت ثمامة، وآمنة بنت رقيش، وسخبرة بنت تميم.

قال أبو أحمد بن جحش في هجرتهم إلى المدينة:

ولما رأتني أم أحمد غاديا * بذمة من أخشى بغيب وأرهب

تقول: فإما كنت لا بد فاعلا * فيمم بنا البلدان ولننأ يثرب

فقلت لها ما يثرب بمظنة * وما يشأ الرحمن فالعبد يركب

إلى الله وجهي والرسول ومن يقم * إلى الله يوما وجهه لا يخيب

فكم قد تركنا من حميم مناصح * وناصحة تبكي بدمع وتندب

ترى أن وترا نائيا عن بلادنا * ونحن نرى أن الرغائب نطلب

دعوت بني غنم لحقن دمائهم * وللحق لما لاح للناس ملحب

أجابوا بحمد الله لما دعاهم * إلى الحق داع والنجاح فأوعبوا

وكنا وأصحابا لنا فارقوا الهدى * أعانوا علينا بالسلاح وأجلبوا

كفوجين إما منهما فموفق * على الحق مهدي وفوج معذب

طغوا وتمنوا كذبة وأزلهم * عن الحق إبليس فخابوا وخيبوا

ورعنا إلى قول النبي محمد * فطاب ولاة الحق منا وطيبوا

نمتُّ بأرحام إليهم قريبة * ولا قرب بالأرحام إذ لا تقرب

فأي ابن أخت بعدنا يأمننكم * وأية صهر بعد صهري يرقب

ستعلم يوما أيَّنا إذ تزايلوا * وزيل أمر الناس للحق أصوب

قال ابن إسحاق: ثم خرج عمر بن الخطاب، وعياش بن أبي ربيعة حتى قدما المدينة.

فحدثني نافع عن عبد الله بن عمر عن أبيه.

قال: اتعدنا لما أردت الهجرة إلى المدينة أنا وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص؛ التناضب من إضاة بني غفار فوق سرف، وقلنا: أينا لم يصبح عندها فقد حبس، فليمض صاحباه، قال: فأصبحت أنا وعياش عند التناضب وحبس هشام وفتن فافتتن.

فلما قدمنا المدينة نزلنا في بني عمرو بن عوف بقباء، وخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام إلى عياش - وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما - حتى قدما المدينة ورسول الله ﷺ بمكة، فكلماه وقالا له: إن أمك قد نذرت أن لا يمس رأسها مشط حتى تراك، ولا تستظل من شمس حتى تراك، فرقَّ لها.

فقلت له: إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم، فوالله لو قد آذى أمك القمل لامتشطت، ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت.

قال: فقال: أبرّ قسم أمي ولي هنالك مال فآخذه.

قال: قلت: والله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريش مالا، فلك نصف مالي ولا تذهب معهما.

قال: فأبى عليّ إلا أن يخرج معهما، فلما أبى إلا ذلك.

قلت: أما إذ فعلت ما فعلت فخذ ناقتي هذه فإنها ناقة نجيبة ذلول فالزم ظهرها، فإن رابك من أمر القوم ريب فانج عليها.

فخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل: يا بن أخي والله لقد استغلظت بعيري هذا أفلا تعقبني على ناقتك هذه؟

قال: بلى.

فأناخ وأناخا ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه فأوثقاه رباطا، ثم دخلا به مكة وفتناه فافتتن.

قال عمر: فكنا نقول: لا يقبل الله ممن افتتن توبة.

وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم حتى قدم رسول الله ﷺ المدينة وأنزل الله: { قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } [91].

قال عمر: وكتبتها وبعثت بها إلى هشام بن العاص.

قال هشام: فلما أتتني جعلت أقرأها بذي طوى أصعد بها وأصوب ولا أفهمها حتى قلت: اللهم فهمنيها، فألقى الله في قلبي أنها إنما أنزلت فينا وفيما كنا نقول في أنفسنا، ويقال: فينا.

قال: فرجعت إلى بعيري فجلست عليه فلحقت برسول الله ﷺ بالمدينة.

وذكر ابن هشام: أن الذي قدم بهشام بن العاص، وعياش ابن أبي ربيعة إلى المدينة، الوليد بن الوليد المغيرة سرقهما من مكة وقدم فيها يحملهما على بعيره وهو ماش معهما، فعثر فدميت أصبعه فقال:

هل أنت إلا أصبع دميت * وفي سبيل الله ما لقيت

وقال البخاري: حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، أنبأنا أبو إسحاق سمع البراء.

قال: أول من قدم علينا مصعب بن عمير وابن أم مكتوم، ثم قدم علينا عمار وبلال.

وحدثني محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق سمعت البراء بن عازب.

قال: أول من قدم علينا مصعب بن عمير وابن أم مكتوم وكانا يقرئان الناس، فقدم بلال وسعد وعمار بن ياسر ثم قدم عمر بن الخطاب في عشرين نفرا من أصحاب النبي ﷺ، ثم قدم النبي ﷺ، فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله ﷺ حتى جعل الإماء يقلن: قدم رسول الله ﷺ، فما قدم حتى قرأت { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } [92] في سور من المفصل.

ورواه مسلم في (صحيحه) من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء ابن عازب بنحوه وفيه التصريح بأن سعد بن أبي وقاص هاجر قبل قدوم رسول الله ﷺ المدينة، وقد زعم موسى بن عقبة عن الزهري أنه إنما هاجر بعد رسول الله ﷺ والصواب ما تقدم..

قال ابن إسحاق: ولما قدم عمر بن الخطاب المدينة هو ومن لحق به من أهله وقومه وأخوه زيد بن الخطاب، وعمرو، وعبد الله ابنا سراقة بن المعتمر، وخنيس بن حذافة السهمي - زوج ابنته حفصة -، وابن عمه سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وواقد بن عبد الله التميمي حليف لهم، وخولى بن أبي خولى، ومالك بن أبي خولى حليفان لهم من بني عجل، وبنو البكير إياس، وخالد، وعاقل، وعامر وحلفاؤهم من بني سعد بن ليث، فنزلوا على رفاعة بن عبد المنذر بن زنير في بني عمرو بن عوف بقباء.

قال ابن إسحاق: ثم تتابع المهاجرون رضي الله عنهم: فنزل طلحة بن عبيد الله، وصهيب بن سنان على خُبيب بن إساف أخي بلحارث بن الخزرج بالسنح.

ويقال: بل نزل طلحة على أسعد بن زرارة.

قال ابن هشام: وذكر لي عن أبي عثمان النهدي أنه قال: بلغني أن صُهيبا حين أراد الهجرة قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكا حقيرا فكثر مالك عندنا وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك، والله لا يكون ذلك.

فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي؟

قالوا: نعم!

قال: فإني قد جعلت لكم مالي.

فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فقال: «ربح صهيب، ربح صهيب».

وقد قال البيهقي: حدثنا الحافظ أبو عبد الله - إملاء - أخبرنا أبو العباس إسماعيل بن عبد الله بن محمد بن ميكال، أخبرنا عبدان الأهوازي، حدثنا زيد بن الجريش، حدثنا يعقوب بن محمد الزهري، حدثنا حصين بن حذيفة بن صيفي بن صهيب، حدثني أبي وعمومتي عن سعيد بن المسيب عن صهيب.

قال: قال رسول الله ﷺ: «أريت دار هجرتكم سبخة بين ظهراني حرتين، فإما أن تكون هجر أو تكون يثرب».

قال: وخرج رسول الله ﷺ إلى المدينة وخرج معه أبو بكر، وكنت قد هممت معه بالخروج فصدني فتيان من قريش، فجعلت ليلتي تلك أقوم لا أقعد.

فقالوا: قد شغله الله عنكم ببطنه - ولم أكن شاكيا -فناموا.

فخرجت ولحقني منهم ناس بعد ما سرت بريدا ليردوني فقلت لهم: إن أعطيتكم أواقي من ذهب وتخلوا سبيلي وتوفون لي، ففعلوا فتبعتهم إلى مكة فقلت: احفروا تحت أسكفة الباب فإن بها أواقي، واذهبوا إلى فلانة فخذوا الحلتين..

وخرجت حتى قدمت على رسول الله ﷺ بقباء قبل أن يتحول منها، فلما رآني قال: «يا أبا يحيى ربح البيع، ثلاثا».

فقلت يا رسول الله ﷺ: ما سبقني إليك أحد، وما أخبرك إلا جبرائيل عليه السلام.

قال ابن إسحاق: ونزل حمزة بن عبد المطلب، وزيد بن حارثة، وأبو مرثد كناز بن الحصين، وابنه مرثد الغنويان حليفا حمزة، وأنسة، وأبو كبشة موليا رسول الله ﷺ على كلثوم بن الهدم أخي بني عمرو بن عوف بقباء.

وقيل: على سعد بن خيثمة.

وقيل: بل نزل حمزة على أسعد بن زرارة والله أعلم.

قال: ونزل عبيدة بن الحارث وأخواه الطفيل وحصين ومسطح بن أثاثة وسويبط بن سعد بن حريملة أخو بني عبد الدار وطليب بن عمير أخو بني عبد بن قصي، وخباب مولى عتبة بن غزوان على عبد الله بن سلمة أخي بلعجلان بقباء ونزل عبد الرحمن بن عوف في رجال من المهاجرين على سعد بن الربيع.

ونزل الزبير بن العوام وأبو سبرة بن أبي رهم على منذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح بالعصبة، دار بني جحجبى، ونزل مصعب بن عمير على سعد بن معاذ، ونزل أبو حذيفة بن عتبة وسالم مولاه على سلمة.

قال ابن إسحاق: وقال الأموي: على خبيب بن إساف أخي بني حارثة، ونزل عتبة بن غزوان على عباد بن بشر بن وقش في بني عبد الأشهل، ونزل عثمان بن عفان على أوس بن ثابت بن المنذر أخي حسان بن ثابت في دار بني النجار.

قال ابن إسحاق: ونزل العزاب من المهاجرين على سعد بن خيثمة وذلك أنه كان عزبا والله أعلم في أي ذلك كان.

وقال يعقوب بن سفيان: حدثني أحمد بن أبي بكر بن الحارث بن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف حدثنا عبد العزيز بن محمد عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أنه قال: قدمنا من مكة فنزلنا العصبة، عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح، وسالم مولى أبي حذيفة، فكان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة لأنه كان أكثرهم قرآنا..

فصل في سبب هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه الكريمة

قال الله تعالى: { وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانا نَصِيرا } [93].

أرشده الله وألهمه أن يدعو بهذا الدعاء و أن يجعل له مما هو فيه فرجا قريبا ومخرجا عاجلا، فأذن له تعالى في الهجرة إلى المدينة النبوية حيث الأنصار والأحباب، فصارت له دارا وقرارا، وأهلها له أنصارا.

قال أحمد بن حنبل وعثمان بن أبي شيبة: عن جرير عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس: كان رسول الله ﷺ بمكة، فأُمر بالهجرة وأُنزل عليه: { وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا }.

وقال قتادة: أدخلني مدخل صدق: المدينة، وأخرجني مخرج صدق: الهجرة من مكة، واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا: كتاب الله وفرائضه وحدوده.

قال ابن إسحاق: وأقام رسول الله بمكة بعد أصحابه من المهاجرين ينتظر أن يؤذن له في الهجرة ولم يتخلف معه بمكة إلا من حبس أو فتن، إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر بن أبي قحافة رضي الله عنهما وكان أبو بكر كثيرا ما يستأذن رسول الله ﷺ في الهجرة فيقول له: «لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبا» فيطمع أبو بكر أن يكون.

فلما رأت قريش أن رسول الله ﷺ قد صار له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم، عرفوا أنهم قد نزلوا دارا وأصابوا منهم منعة..

فحذروا خروج رسول الله ﷺ إليهم وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم، فاجتمعوا له في دار الندوة - وهي دار قصي بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمرا إلا فيها - يتشاورون فيما يصنعون في أمر رسول الله ﷺ حين خافوه.

قال ابن إسحاق: فحدثني من لا أتهم من أصحابنا عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد بن جبر، عن عبد الله بن عباس، وغيره مما لا أتهم عن عبد الله بن عباس.

قال: لما اجتمعوا لذلك واتعدوا أن يدخلوا في دار الندوة ليتشاوروا فيها في أمر رسول الله ﷺ، غدوا في اليوم الذي اتعدوا له وكان ذلك اليوم يسمى يوم الزحمة، فاعترضهم إبليس لعنه الله في صورة شيخ جليل عليه بتلة فوقف على باب الدار فلما رأوه واقفا على بابها قالوا: من الشيخ؟

قال: شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون وعسى أن لا يعدمكم منه رأيا ونصحا.

قالوا: أجل فادخل، فدخل معهم وقد اجتمع فيها أشراف قريش عتبة، وشيبة ابنا ربيعة، وأبو سفيان، وطعيمة بن عدي، وجبير بن مطعم بن عدي، والحارث بن عامر بن نوفل، والنضر بن الحارث وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، وحكيم بن حزام، وأبو جهل بن هشام، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وأمية بن خلف، ومن كان منهم وغيرهم ممن لا يعد من قريش.

فقال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم، وإننا والله ما نأمنه على الوثوب علينا بمن قد اتبعه من غيرنا، فاجمعوا فيه رأيا، قال: فتشاوروا ثم قال قائل منهم: - قيل إنه أبو البختري بن هشام - احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابا ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله زهيرا والنابغة ومن مضى منهم من هذا الموت حتى يصيبه ما أصابهم.

فقال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأي والله لئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب هذا الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه، فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من أيديكم، ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم، ما هذا لكم برأي.

فتشاوروا ثم قال قائل منهم: نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا فإذا خرج عنا فوالله ما نبالي أين ذهب ولا حيث وقع، إذا غاب عنا وفرغنا منه فأصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت..

قال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأي ألم تروا حسن حديثه، وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به؟ والله لو فعلتم ذلك ما أمنت أن يحل على حي من العرب، فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه، ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم بهم فيأخذ أمركم من أيديكم، ثم يفعل بكم ما أراد، أديروا فيه رأيا غير هذا.

فقال أبو جهل بن هشام: والله إن لي فيه رأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد.

قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟

قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتىً شابا جليدا نسيبا وسيطا فينا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفا صارما، ثم يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعها، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا.

فرضوا منا بالعقل فعقلناه لهم، قال: يقول الشيخ النجدي: القول ما قال الرجل هذا الرأي ولا رأي غيره فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له.

فأتى جبرائيل رسول الله ﷺ فقال له: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه.

قال: فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام فيثبون عليه، فلما رأى رسول الله ﷺ مكانهم قال لعلي بن أبي طالب: «نم على فراشي وتسج ببردي هذا الحضرمي الأخضر، فنم فيه فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم»، وكان رسول الله ﷺ ينام في برده ذلك إذا نام.

وهذه القصة التي ذكرها ابن إسحاق قد رواها الواقدي بأسانيده عن عائشة وابن عباس وعلي وسراقة بن مالك بن جعشم وغيرهم دخل حديث بعضهم في بعض فذكر نحو ما تقدم.

قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن أبي زياد عن محمد بن كعب القرظي.

قال: لما اجتمعوا له وفيهم أبو جهل قال - وهم على بابه -: إن محمدا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم من بعد موتكم، فجعلت لكم جنان كجنان الأردن، وإن لم تفعلوا كان فيكم ذبح ثم بعثتم بعد موتكم، ثم جعلت لكم نار تحرقون فيها.

قال: فخرج رسول الله ﷺ فأخذ حفنة من تراب في يده ثم قال: «نعم أنا أقول ذلك، أنت أحدهم»، وأخذ الله على أبصارهم عنه فلا يرونه فجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم وهو يتلو هذه الآيات: { يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } إلى قوله: { وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ } [94]..

ولم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابا ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب فأتاهم آت ممن لم يكن معهم فقال: ما تنتظرون ههنا؟

قالوا: محمدا.

فقال: خيبكم الله، قد والله خرج عليكم محمد ثم ما ترك منكم رجلا إلا وقد وضع على رأسه ترابا، وانطلق لحاجته! أفما ترون ما بكم؟

قال: فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب، ثم جعلوا يتطلعون فيرون عليا على الفراش متسجيا ببرد رسول الله ﷺ فيقولون: والله إن هذا لمحمد نائما، عليه برده، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا فقام علي عن الفراش فقالوا: والله لقد كان صدقنا الذي كان حدثنا.

قال ابن إسحاق: فكان مما أنزل الله في ذلك اليوم وما كانوا أجمعوا له قوله تعالى: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [95]، وقوله: { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ } [96] قال ابن إسحاق: فأذن الله لنبيه ﷺ عند ذلك بالهجرة.

باب هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه الكريمة من مكة إلى المدينة ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه

وذلك أول التاريخ الإسلامي كما اتفق عليه الصحابة في الدولة العمرية كما بيناه في سيرة عمر رضي الله عنه وعنهم أجمعين.

قال البخاري: حدثنا مطر بن الفضل، ثنا روح، ثنا هشام، ثنا عكرمة عن ابن عباس.

قال: بُعث النبي ﷺ لأربعين سنة، فمكث فيها ثلاث عشرة يوحى إليه، ثم أمر بالهجرة فهاجر عشر سنين، ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة..

وقد كانت هجرته عليه السلام في شهر ربيع الأول سنة ثلاث عشرة من بعثته عليه السلام وذلك في يوم الاثنين كما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس أنه قال: ولد نبيكم يوم الاثنين، وخرج من مكة يوم الاثنين، ونبئ يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، وتوفي يوم الاثنين.

قال محمد بن إسحاق: وكان أبو بكر حين استأذن رسول الله ﷺ في الهجرة فقال له: «لا تعجل لعل الله أن يجعل لك صاحبا».

وقد طمع بأن يكون رسول الله ﷺ إنما يعني نفسه، فابتاع راحلتين حبسهما في داره يعلفهما إعدادا لذلك.

قال الواقدي: اشتراهما بثمانمائة درهم.

قال ابن إسحاق: فحدثني من لا أتهم عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: كان لا يخطئ رسول الله ﷺ أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار، إما بكرة، وإما عشية حتى إذا كان اليوم الذي أذن الله فيه رسوله ﷺ في الهجرة والخروج من مكة من بين ظهري قومه أتانا رسول الله ﷺ بالهاجرة في ساعة كان لا يأتي فيها، قالت: فلما رآه أبو بكر قال: ما جاء رسول الله ﷺ في هذه الساعة إلا لأمر حدث!

قالت: فلما دخل تأخر له أبو بكر عن سريره.

فجلس رسول الله ﷺ وليس عند رسول الله ﷺ أحد إلا أنا وأختي أسماء بنت أبي بكر، فقال رسول الله ﷺ: «أخرج عني من عندك».

قال: يا رسول الله إنما هما ابنتاي، وما ذاك فداك أبي وأمي؟

قال: «إن الله قد أذن لي في الخروج والهجرة».

قالت: فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله ﷺ؟

قال: الصحبة.

قالت: فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يومئذٍ يبكي.

ثم قال: يا نبي الله إن هاتين راحلتين كنت أعددتهما لهذا، فاستأجرا عبد الله بن أرقط، قال ابن هشام: ويقال عبد الله بن أريقط، رجلا من بني الدئل بن بكر، وكانت أمه من بني سهم بن عمرو، وكان مشركا يدلهما على الطريق ودفعا إليه راحلتيهما، فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما.

قال ابن إسحاق: ولم يعلم - فيما بلغني - بخروج رسول الله ﷺ أحد حين خرج إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر الصديق وآل أبي بكر، أما علي، فإن رسول الله ﷺ أمره أن يتخلف حتى يؤدي عن رسول الله ﷺ الودائع التي كانت عنده للناس..

وكان رسول الله ﷺ وليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده لما يعلم من صدقه وأمانته.

قال ابن إسحاق: فلما أجمع رسول الله ﷺ الخروج أتى أبا بكر بن أبي قحافة فخرجا من خوخة لأبي بكر في ظهر بيته.

وقد روى أبو نعيم من طريق إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق.

قال: بلغني أن رسول الله ﷺ لما خرج من مكة مهاجرا إلى الله يريد المدينة قال: «الحمد لله الذي خلقني ولم أك شيئا، اللهم أعني على هول الدنيا، وبوائق الدهر، ومصائب الليالي والأيام، اللهم اصحبني في سفري، واخلفني في أهلي، وبارك لي فيما رزقتني ولك فذلِّلني، وعلى صالح خلقي فقومني، وإليك رب فحببني، وإلى الناس فلا تكلني، رب المستضعفين وأنت ربي، أعوذ بوجهك الكريم الذي أشرقت له السموات والأرض، وكشفت به الظلمات، وصلح عليه أمر الأولين والآخرين، أن تحل عليَّ غضبك، وتنزل بي سخطك، أعوذ بك من زوال نعمتك، وفجأة نقمتك، وتحول عافيتك وجميع سخطك، لك العقبى عندي خير ما استطعت، لا حول ولا قوة إلا بك».

قال ابن إسحاق: ثم عمدا إلى غار بثور - جبل بأسفل مكة - فدخلاه، وأمر أبو بكر الصديق ابنه عبد الله أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره، ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبر.

وأمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاره، ثم يريحها عليهما يأتيهما إذا أمسى في الغار.

فكان عبد الله بن أبي بكر يكون في قريش نهاره معهم يسمع ما يأتمرون به، وما يقولون في شأن رسول الله ﷺ وأبي بكر، ثم يأتيهما إذا أمسى فيخبرهما الخبر.

وكان عامر بن فهيرة يرعى في رعيان أهل مكة، فإذا أمسى أراح عليهما غنم أبي بكر فاحتلبا وذبحا.

فإذا غدا عبد الله بن أبي بكر من عندهما إلى مكة أتبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم يعفي عليه.

وسيأتي في سياق البخاري ما يشهد لهذا وقد حكى ابن جرير عن بعضهم: أن رسول الله ﷺ سبق الصديق في الذهاب إلى غار ثور، وأمر عليا أن يدله على مسيره ليلحقه، فلحقه في أثناء الطريق، وهذا غريب جدا وخلاف المشهور من أنهما خرجا معا.

قال ابن إسحاق: وكانت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما.

قالت أسماء: ولما خرج رسول الله ﷺ وأبو بكر أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل بن هشام فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجت إليهم فقالوا: أين أبوك ياابنة أبي بكر؟

قالت: قلت: لا أدري والله أين أبي.

قالت: فرفع أبو جهل يده - وكان فاحشا خبيثا - فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي ثم انصرفوا..

قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير أن أباه حدثه عن جدته أسماء.

قالت: لما خرج رسول الله ﷺ وخرج أبو بكر معه، احتمل أبو بكر ماله كله معه خمسة آلاف درهم - أو ستة آلاف درهم - فانطلق بها معه.

قالت: فدخل علينا جدي أبو قحافة - وقد ذهب بصره -.

فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه؟

قالت: قلت: كلا يا أبة إنه قد ترك لنا خيرا كثيرا.

قالت: وأخذت أحجارا فوضعتها في كوة في البيت الذي كان أبي يضع ماله فيها، ثم وضعت عليها ثوبا، ثم أخذت بيده فقلت: يا أبة ضع يدك على هذا المال.

قالت: فوضع يده عليه.

فقال: لا بأس إذ كان قد ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم، ولا والله ما ترك لنا شيئا ولكن أردت أن أسكن الشيخ بذلك.

وقال ابن هشام: وحدثني بعض أهل العلم أن الحسن بن أبي الحسن البصري.

قال: انتهى رسول الله ﷺ وأبو بكر إلى الغار ليلا، فدخل أبو بكر قبل رسول الله ﷺ فلمس الغار لينظر أفيه سبع أو حية، يقي رسول الله ﷺ بنفسه، وهذا فيه انقطاع من طرفيه.

وقد قال أبو القاسم البغوي: حدثنا داود بن عمرو الضبي، ثنا نافع بن عمر الجمحي، عن ابن أبي مليكة: أن النبي ﷺ لما خرج هو وأبو بكر إلى ثور، فجعل أبو بكر يكون أمام النبي ﷺ مرة، وخلفه مرة.

فسأله النبي ﷺ عن ذلك فقال: إذا كنت خلفك خشيت أن تؤتى من أمامك، وإذا كنت أمامك خشيت أن تؤتى من خلفك.

حتى إذا انتهى إلى الغار من ثور قال أبو بكر: كما أنت حتى أدخل يدي فأحسه وأقصه فإن كانت فيه دابة أصابتني قبلك.

قال نافع: فبلغني أنه كان في الغار جحر فألقم أبو بكر رجله ذلك الجحر تخوفا أن يخرج منه دابة أو شيء يؤذي رسول الله ﷺ، وهذا مرسل وقد ذكرنا له شواهد أخر في سيرة الصديق رضي الله عنه.

وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو بكر أحمد ابن إسحاق، أنا موسى بن الحسن، ثنا عباد، ثنا عفان بن مسلم، ثنا السري بن يحيى، ثنا محمد بن سيرين.

قال: ذكر رجال على عهد عمر فكأنهم فضلوا عمر على أبي بكر.

فبلغ ذلك عمر فقال: والله لليلة من أبي بكر خير من آل عمر، وليوم من أبي بكر خير من آل عمر، لقد خرج رسول الله ﷺ ليلة انطلق إلى الغار ومعه أبو بكر فجعل يمشي ساعة بين يديه وساعة خلفه، حتى فطن رسول الله ﷺ فقال: «يا أبا بكر مالك تمشي ساعة خلفي وساعة بين يدي؟».

فقال: يا رسول الله أذكر الطلب، فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد، فأمشي بين يديك.

فقال: «يا أبا بكر لو كان شيء لأحببت أن يكون بك دوني؟».

قال: نعم، والذي بعثك بالحق ما كانت لتكون من ملمة إلا أحببت أن تكون لي دونك.

فلما انتهينا إلى الغار قال أبو بكر: مكانك يا رسول الله حتى استبرئ لك الغار، فدخل فاستبرأه، حتى إذا كان في أعلاه ذكر أنه لم يستبرئ الجحرة.

فقال: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ الجحرة.

فدخل فاستبرأ ثم قال: انزل يا رسول الله، فنزل.

ثم قال عمر: والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر.

وقد رواه البيهقي من وجه آخر عن عمر وفيه: أن أبا بكر جعل يمشي بين يدي رسول الله ﷺ تارة، وخلفه أخرى، وعن يمينه وعن شماله.

وفيه: أنه لما حفيت رجلا رسول الله ﷺ حمله الصديق على كاهله، وأنه لما دخل الغار سدد تلك الأجحرة كلها.

وبقي منها جحر واحد، فألقمه كعبه فجعلت الأفاعي تنهشه ودموعه تسيل.

فقال له رسول الله ﷺ: «لا تحزن إن الله معنا».

وفي هذا السياق غرابة ونكارة.

وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو.

قالا: ثنا أبو العباس الأصم، ثنا عباس الدوري، ثنا أسود بن عامر شاذان، ثنا إسرائيل، عن الأسود، عن جندب بن عبد الله.

قال: كان أبو بكر مع رسول الله ﷺ في الغار، فأصاب يده حجر فقال:

إن أنت إلا أصبع دميت * وفي سبيل الله ما لقيت

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، أخبرني عثمان الجزري أن مقسما مولى ابن عباس أخبره عن ابن عباس في قوله تعالى: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ } [97].

قال: تشاورت قريش ليلة بمكة.

فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق يريدون النبي ﷺ.

وقال بعضهم: بل اقتلوه.

وقال بعضهم: بل أخرجوه.

فأطلع الله نبيه ﷺ على ذلك، فبات علي على فراش النبي ﷺ تلك الليلة، وخرج النبي ﷺ حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبي ﷺ.

فلما أصبحوا ثاروا عليه، فلما رأوا عليا ردَّ الله عليهم مكرهم.

فقالوا: أين صاحبك هذا؟

فقال: لاأدري.

فاقتفوا أثره فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا الجبل فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت.

فقالوا: لو دخل هاهنا أحد لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال.

وهذا إسناد حسن وهو من أجود ما وري في قصة نسج العنكبوت على فم الغار، وذلك من حماية الله رسوله ﷺ..

وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن سعيد القاضي في مسند أبي بكر: حدثنا بشار الخفاف، ثنا جعفر وسليمان، ثنا أبو عمران الجوني، حدثنا المعلى بن زياد عن الحسن البصري.

قال: انطلق النبي ﷺ وأبو بكر إلى الغار.

وجاءت قريش يطلبون النبي ﷺ، وكانوا إذا رأوا على باب الغار نسج العنكبوت قالوا: لم يدخل أحد، وكان النبي ﷺ قائما يصلي وأبو بكر يرتقب.

فقال أبو بكر للنبي ﷺ: هؤلاء قومك يطلبونك، أما الله ما على نفسي أئل ولكن مخافة أن أرى فيك ما أكره.

فقال له النبي ﷺ: «يا أبا بكر لا تخف إن الله معنا».

وهذا مرسل عن الحسن، وهو حسن بحاله من الشاهد، وفيه زيادة صلاة النبي ﷺ في الغار.

وقد كان عليه السلام إذا أحزنه أمر صلى.

وروى هذا الرجل - أعني أبو بكر أحمد بن علي القاضي - عن عمرو الناقد، عن خلف بن تميم، عن موسى بن مطر، عن أبيه، عن أبي هريرة أن أبا بكر.

قال لابنه: يا بني إذا حدث في الناس حدث فأت الغار الذي اختبأت فيه أنا ورسول الله ﷺ فكن فيه فإنه سيأتيك رزقك فيه بكرةً وعشيا.

وقد نظم بعضهم هذا في شعره حيث يقول:

نسج داود ما حمى صاحب الغا * ر وكان الفخار للعنكبوت

وقد ورد أن حمامتين عششتا على بابه أيضا.

وقد نظم ذلك الصرصري في شعره حيث يقول:

فغمى عليه العنكبوت بنسجه * وظل على الباب الحمام يبيض

والحديث بذلك رواه الحافظ ابن عساكر من طريق يحيى بن محمد بن صاعد: حدثنا عمرو بن علي، ثنا عون بن عمرو أبو عمرو القيسي - ويلقب بعوين - حدثني أبو مصعب المكي.

قال: أدركت زيد بن أرقم، والمغيرة بن شعبة، وأنس بن مالك، يذكرون أن النبي ﷺ ليلة الغار أمر الله شجرة فخرجت في وجه النبي ﷺ تستره، وأن الله بعث العنكبوت فنسجت ما بينهما فسترت وجه رسول الله ﷺ وأمر الله حمامتين وحشيتين فأقبلتا يدفان حتى وقعتا بين العنكبوت وبين الشجرة، وأقبلت فتيان قريش من كل بطن منهم رجل، معهم عصيهم وقسيهم وهراواتهم، حتى إذا كانوا من رسول الله ﷺ قدر مائتي ذراع قال الدليل: - وهو سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي - هذا الحجر ثم لا أدري أين وضع رجله.

فقال الفتيان: أنت لم تخطئ منذ الليلة..

حتى إذا أصبحوا قال: انظروا في الغار، فاستبقه القوم حتى إذا كانوا من النبي ﷺ قدر خمسين ذراعا، فإذا الحمامتان، فرجع.

فقالوا: ما ردك أن تنظر في الغار؟

قال: رأيت حمامتين وحشيتين بفم الغار، فعرفت أن ليس فيه أحد.

فسمعها النبي ﷺ فعرف أن الله قد درأ عنهما بهما، فسمت عليهما - أي: برك عليهما - وأحدرهما الله إلى الحرم فأفرخا كما ترى.

وهذا حديث غريب جدا من هذا الوجه.

قد رواه الحافظ أبو نعيم من حديث مسلم بن إبراهيم وغيره عن عون بن عمرو - وهو الملقب بعوين - بإسناده مثله.

وفيه: أن جميع حمام مكة من نسل تيك الحمامتين، وفي هذا الحديث: أن القائف الذي اقتفى لهم الأثر: سراقة بن مالك المدلجي.

وقد روى الواقدي عن موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه أن الذي اقتفى لهم الأثر كرز بن علقمة.

قلت: ويحتمل أن يكونا جميعا، اقتفيا الأثر والله أعلم.

وقد قال الله تعالى: { إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [98].

يقول تعالى مؤنبا لمن تخلف عن الجهاد مع الرسول: { إلا تنصروه } أنتم فإن الله ناصره ومؤيده ومظفره كما نصره { إذ أخرجه الذين كفروا } من أهل مكة هاربا ليس معه غير صاحبه وصديقه أبي بكر ليس غيره ولهذا قال: { ثاني اثنين إذ هما في الغار } : أي وقد لجآ إلى الغار فأقاما فيه ثلاثة أيام ليسكن الطلب عنهما.

وذلك لأن المشركين حين فقدوهما كما تقدم ذهبوا في طلبهما كل مذهب من سائر الجهات، وجعلوا لمن ردهما - أو أحدهما - مائة من الإبل، واقتصوا آثارهما حتى اختلط عليهم.

وكان الذي يقتص الأثر لقريش سراقة بن مالك بن جعشم كما تقدم، فصعدوا الجبل الذي هما فيه وجعلوا يمرون على باب الغار، فتحاذي أرجلهم لباب الغار ولا يرونهما، حفظا من الله لهما.

كما قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، ثنا همام أن ثابت، عن أنس بن مالك، أن أبا بكر حدثه.

قال: قلت للنبي ﷺ ونحن في الغار: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه؟

فقال: «يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما».

وأخرجه البخاري ومسلم في (صحيحيهما) من حديث همام به..

وقد ذكر بعض أهل السير أن أبا بكر لما قال ذلك، قال النبي ﷺ: «لو جاءنا من ههنا لذهبنا من هنا».

فنظر الصديق إلى الغار قد انفرج من الجانب الآخر، وإذا البحر قد اتصل به، وسفينة مشدودة إلى جانبه.

وهذا ليس بمنكر من حيث القدرة العظيمة، ولكن لم يرد ذلك بإسناد قوي ولا ضعيف، ولسنا نثبت شيئا من تلقاء أنفسنا، ولكن ما صح أو حسن سنده قلنا به، والله أعلم.

وقد قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا الفضل بن سهل، ثنا خلف بن تميم، ثنا موسى بن مطير القرشي، عن أبيه عن أبي هريرة أن أبا بكر قال لابنه: يا بني إن حدث في الناس حدث فأت الغار الذي رأيتني اختبأت فيه أنا ورسول الله ﷺ فكن فيه، فإنه سيأتيك فيه رزقك غدوة وعشية.

ثم قال البزار: لا نعلم يرويه غير خلف بن تميم.

قلت: وموسى بن مطير هذا ضعيف متروك، وكذبه يحيى بن معين فلا يقبل حديثه.

وقد ذكر يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق أن الصديق قال في دخولهما الغار، وسيرهما بعد ذلك وما كان من قصة سراقة كما سيأتي شعرا.

فمنه قوله:

قال النبي - ولم أجزع - يوقرني * ونحن في سدف من ظلمة الغار

لا تخش شيئا فإن الله ثالثنا * وقد توكل لي منه بإظهار

وقد روى أبو نعيم هذه القصيدة من طريق زياد عن محمد بن إسحاق فذكرها مطولة جدا، وذكر معها قصيدة أخرى والله أعلم.

وقد روى ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير.

قال: فمكث رسول الله ﷺ بعد الحج - يعني: الذي بايع فيه الأنصار - بقية ذي الحجة والمحرم وصفر، ثم إن مشركي قريش أجمعوا أمرهم ومكرهم على أن يقتلوا رسول الله ﷺ، أو يحبسوه أو يخرجوه.

فأطلعه الله على ذلك فأنزل عليه: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا } [99]. الآية.

فأمر عليا فنام على فراشه، وذهب هو وأبو بكر، فلما أصبحوا ذهبوا في طلبهما في كل وجه يطلبونهما.

وهكذا ذكر موسى بن عقبة في (مغازيه) وأن خروجه هو وأبو بكر إلى الغار كان ليلا.

وقد تقدم عن الحسن البصري فيما ذكره ابن هشام التصريح بذلك أيضا.

وقال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير، ثنا الليث عن عقيل.

قال ابن شهاب: فأخبرني عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي ﷺ قالت: لم أعقل أبواي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله ﷺ طرفي النهار: بكرة وعشية.

فلما ابتلي المسلمون، خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة، فذكرت ما كان من ردِّه لأبي بكر إلى مكة وجواره له كما قدمناه عند هجرة الحبشة، إلى قوله فقال أبو بكر: فإني أردُّ عليك جوارك وأرضى بجوار الله..

قالت: والنبي ﷺ يومئذٍ بمكة فقال النبي ﷺ للمسلمين: «إني أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين: وهما الحرتان».

فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع بعض من كان هاجر قبل الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر مهاجرا قبل المدينة.

فقال له رسول الله ﷺ: «على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي».

فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي؟

قال: نعم.

فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله ﷺ ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر - وهو الخبط - أربعة أشهر، وذكر بعضهم: أنه علفهما ستة أشهر.

قال ابن شهاب، قال عروة، قالت عائشة: فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في حر الظهيرة، فقال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله ﷺ مقبلا متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر.

قالت: فجاء رسول الله ﷺ فاستأذن فأذن له، فدخل فقال النبي ﷺ: «أخرج من عندك».

فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله ﷺ.

قال: فإنه قد أذن لي في الخروج.

فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت وأمي.

قال النبي ﷺ: «نعم!».

قال أبو بكر: فخذ أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين.

فقال رسول الله ﷺ: «بالثمن».

قالت عائشة: فجهزناهما أحث الجهاز فصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب، فلذلك سميت ذات النطاقين.

قالت: ثم لحق رسول الله ﷺ وأبو بكر بغار في جبل ثور، فمكثا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت، لا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام..

ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليهما حين يذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل - وهو لبن منحتهما ورضيعهما - حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث.

واستأجر رسول الله ﷺ وأبو بكر رجلا من بني الدئل وهو من بني عبد ابن عدي هاديا خريتا - والخريت الماهر بالهداية - قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث ليال.

وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل فأخذ بهم طريق السواحل.

قال ابن شهاب: فأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي وهو ابن أخي سراقة أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن مالك بن جعشم.

يقول: جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله ﷺ وأبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج إذ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس.

فقال: يا سراقة إني رأيت آنفا أسودة بالساحل أراها محمدا وأصحابه.

قال سراقة: فعرفت أنهم هم فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا، ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت بيتي فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي، وهي من وراء أكمة فتحبسها عليَّ، وأخذت رمحي فخرجت من ظهر البيت، فخططت بزجة الأرض وخفضت عاليه، حتى أتيت فرسي فركبتها فدفعتها ففرت بي حتى دنوت منهم، فعثرت بي فرسي، فخررت عنها فقمت فأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها أضرهم أم لا.

فخرج الذي أكره، فركبت فرسي وعصيت الأزلام فجعل فرسي يقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله ﷺ وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها فأهويت، ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذ لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت الأزلام فخرج الذي أكره..

فناديتهم بالأمان فوقفوا فركبت فرسي حتى جئتهم ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله ﷺ.

فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع.

فلم يرزآني ولم يسألاني إلا أن قالا: اخف عنا.

فسألته أن يكتب لي كتاب أمن فأمر عامر ابن فهيرة فكتب لي رقعة من أدم، ثم مضى رسول الله ﷺ.

وقد روى محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبد الرحمن بن مالك بن جعشم عن أبيه عن عمه سراقة فذكر هذه القصة، إلا أنه ذكر أنه استقسم بالأزلام أول ما خرج من منزله فخرج السهم الذي يكره لا يضره، وذكر أنه عثر به فرسه أربع مرات، وكل ذلك يستقسم بالأزلام ويخرج الذي يكره لا يضره، حتى ناداهم بالأمان.

وسأل أن يكتب له كتابا يكون أمارة ما بينه وبين رسول الله ﷺ، قال: فكتب لي كتابا في عظم - أو رقعة أو خرقة - وذكر أنه جاء به إلى رسول الله ﷺ وهو بالجعرانة مرجعه من الطائف، فقال له: «يوم وفاء وبر، أدنه»، فدنوت منه وأسلمت.

قال ابن هشام: هو عبد الرحمن بن الحارث بن مالك بن جعشم وهذا الذي قاله جيد.

ولما رجع سراقة جعل لا يلقى أحدا من الطلب إلا ردَّه وقال: كفيتم هذا الوجه، فلما ظهر أن رسول الله ﷺ قد وصل إلى المدينة، جعل سراقة يقص على الناس ما رأى وما شاهد من أمر النبي ﷺ وما كان من قضية جواده، واشتهر هذا عنه.

فخاف رؤساء قريش معرته، وخشوا أن يكون ذلك سببا لإسلام كثير منهم، وكان سراقة أمير بني مدلج ورئيسهم، فكتب أبو جهل - لعنه الله - إليهم:

بني مدلج إني أخاف سفيهكم * سراقة مستغوٍ لنصر محمد

عليكم به ألا يفرق جمعكم * فيصبح شتى بعد عزٍ وسؤدد

قال: فقال سراقة بن مالك يجيب أبا جهل في قوله هذا:

أبا حكم والله لو كنت شاهدا * لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه

عجيب ولم تشكك بأن محمدا * رسول وبرهان فمن ذا يقاومه

عليك فكف القوم عنه فإنني * أخال لنا يوما ستبدو معالمه

بأمر تودَّ النصر فيه فإنهم * وإن جميع الناس طرا مسالمه

وذكر هذا الشعر: الأموي في (مغازيه) بسنده عن أبي إسحاق وقد رواه أبو نعيم بسنده من طريق زياد عن ابن إسحاق، وزاد في شعر أبي جهل أبياتا تتضمن كفرا بليغا.

وقال البخاري بسنده إلى ابن شهاب فأخبرني عروة بن الزبير أن رسول الله ﷺ لقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشام إلى مكة، فكسى الزبير رسول الله ﷺ وأبا بكر ثياب بياض، وسمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله ﷺ من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم.

فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من اليهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله ﷺ وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب فلم يملك اليهودي أن قال بأعلا صوته: يا معشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرون فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول الله ﷺ بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول فقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله ﷺ صامتا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم يرَ رسول الله ﷺ يحيي أبا بكر حتى أصابت الشمس رسول الله ﷺ، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه.

فعرف الناس رسول الله ﷺ عند ذلك فلبث رسول الله ﷺ في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة وأسس المسجد الذي أسس على التقوى وصلى فيه رسول الله ﷺ، ثم ركب راحلته وسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد رسول الله ﷺ بالمدينة، وهو يصلي فيه يومئذٍ رجال من المسلمين.

وكان مربدا للتمر لسهيل وسهل غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة..

فقال رسول الله ﷺ حين بركت به راحلته: «هذا إن شاء الله المنزل».

ثم دعا رسول الله ﷺ الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا، فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى رسول الله ﷺ أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما، ثم بناه مسجدا.

فطفق رسول الله ﷺ ينقل معهم اللبن في بنيانه، وهو يقول حين ينقل اللبن:

هذا الحمال لا حمال خيبر * هذا أبرّ ربَّنا وأطهر

ويقول:

لاهمِّ إن الأجر أجر الآخرة * فارحم الأنصار والمهاجره

فتمثل بشعر رجل من المسلمين لم يسم لي.

قال ابن شهاب: ولم يبلغنا في الأحاديث أن رسول الله ﷺ تمثل ببيت شعر تام غير هذه الأبيات.

هذا لفظ البخري وقد تفرد بروايته دون مسلم، وله شواهد من وجوه أخر وليس فيه قصة أم معبد الخزاعية، ولنذكر هنا ما يناسب ذلك مرتبا أولا فأولا.

قال الإمام أحمد: حدثنا عمرو بن محمد، أبو سعيد العنقزي، ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب.

قال: اشترى أبو بكر من عازب سرجا بثلاثة عشر درهما، فقال أبو بكر لعازب: مر البراء فيلحمله إلى منزلي.

فقال: لا حتى تحدثنا كيف صنعت حين خرج رسول الله ﷺ وأنت معه؟

فقال أبو بكر: خرجنا فأدلجنا فاحثثنا يومنا وليلتنا حتى أظهرنا وقام قائم الظهيرة، فضربت بصري هل أرى ظلا نأوي إليه، فإذا أنا بصخرة فأهويت إليها فإذا بقية ظلها، فسويته لرسول الله ﷺ وفرشت له فروة وقلت: اضطجع يا رسول الله فاضطجع.

ثم خرجت أنظر هل أرى أحدا من الطلب فإذا أنا براعي غنم، فقلت: لمن أنت يا غلام؟

فقال لرجل من قريش - فسماه فعرفته - فقلت: هل في غنمك من لبن؟

قال: نعم!

قلت: هل أنت حالب لي؟

قال: نعم!

فأمرته فاعتقل شاة منها ثم أمرته فنفض ضرعها من الغبار، ثم أمرته فنفض كفيه من الغبار، ومعي إداوة على فمها خرقة فحلب لي كثبة من اللبن فصببت على القدح حتى برد أسفله، ثم أتيت رسول الله ﷺ فوافيته وقد استيقظ.

فقلت: اشرب يا رسول الله فشرب حتى رضيت.

ثم قلت: هل آن الرحيل؟

فارتحلنا والقوم يطلبوننا فلم يدركنا أحد منهم إلا سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له.

فقلت يا رسول الله: هذا الطلب قد لحقنا؟

قال: «لا تحزن إن الله معنا»، حتى إذا دنا منا فكان بيننا وبينه قدر رمح - أو رمحين - أو قال رمحين أو ثلاثة -.

قلت يا رسول الله: هذا الطلب قد لحقنا؟ وبكيت.

قال: لم تبكي؟

قلت: أما والله ما على نفسي أبكي، ولكن أبكي عليك.

فدعا عليه رسول الله ﷺ فقال: «اللهم اكفناه بما شئت» فسلخت قوائم فرسه إلى بطنها في أرض صلد ووثب عنها وقال: يا محمد قد علمت أن هذا عملك فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه، فوالله لأعمين على من ورائي من الطلب، وهذه كنانتي فخذ منها سهما فإنك ستمر بإبلي وغنمي بموضع كذا وكذا فخذ منها حاجتك.

فقال رسول الله ﷺ: «لا حاجة لي فيها».

ودعا له رسول الله ﷺ فأطلق ورجع إلى أصحابه، ومضى رسول الله ﷺ وأنا معه حتى قدمنا ليلا المدينة وتلقاه الناس فخرجوا في الطرق على الأناجير واشتد الخدم والصبيان في الطريق يقولون: الله أكبر جاء رسول الله ﷺ، جاء محمد.

قال: وتنازع القوم أيهم ينزل عليه.

قال: فقال رسول الله ﷺ: «أنزل الليلة على بني النجار أخوال عبد المطلب لأكرمهم بذلك» فلما أصبح، غدا حيث أمر.

قال البراء: أول من قدم علينا من المهاجرين مصعب بن عمير أخو بني عبد الدار، ثم قدم علينا ابن أم مكتوم الأعمى أحد بني فهر، ثم قدم علينا عمر بن الخطاب في عشرين راكبا.

فقلنا: ما فعل رسول الله؟

قال: هو على أثري، ثم قدم رسول الله ﷺ وأبو بكر معه.

قال البراء: ولم يقدم رسول الله ﷺ حتى قرأت سورا من المفصل.

أخرجاه في الصحيحين من حديث إسرائيل بدون قول البراء أول من قدم علينا إلخ..

فقد انفرد به مسلم فرواه من طريق إسرائيل به.

وقال ابن إسحاق: فأقام رسول الله ﷺ في الغار ثلاثا ومعه أبو بكر، وجعلت قريش فيه حين فقدوه مائة ناقة لمن رده عليهم.

فلما مضت الثلاث وسكن عنهما الناس، أتاهما صاحبهما الذي استأجراه ببعيريهما وبعير له، وأتتهما أسماء بنت أبي بكر بسفرتهما، ونسيت أن تجعل لها عصاما فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة فإذا ليس فيها عصام، فتحل نطاقها فتجعله عصاما، ثم علقتها به، فكان يقال لها ذات النطاقين لذلك.

قال ابن إسحاق: فلما قرب أبو بكر الراحلتين إلى رسول الله ﷺ قدم له أفضلهما ثم قال: اركب فداك أبي وأمي.

فقال رسول الله ﷺ: «إني لا أركب بعيرا ليس لي».

قال: فهي لك يا رسول الله بأبي أنت وأمي.

قال: «لا ولكن ما الثمن الذي ابتعتها به».

قال: كذا وكذا.

قال: «أخذتها بذلك».

قال: هي لك يا رسول الله.

وروى الواقدي بأسانيده أنه عليه السلام أخذ: القصواء، قال: وكان أبو بكر اشتراهما بثمانمائة درهم.

وروى ابن عساكر من طريق أبي أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: وهي الجدعاء.

وهكذا حكى السهيلي عن ابن إسحاق أنها: الجدعاء والله أعلم.

قال ابن إسحق: فركبا وانطلقا، وأردف أبو بكر عامر بن فهيرة مولاه خلفه، ليخدمهما في الطريق فحدثت عن أسماء أنها قالت: لما خرج رسول الله ﷺ وأبو بكر أتانا نفر من قريش منهم: أبو جهل فذكر ضربه لها على خدها لطمة طرح منها قرطها من أذنها كما تقدم.

قالت: فمكثنا ثلاث ليال ما ندري أين وجه رسول الله ﷺ حتى أقبل رجل من الجن من أسفل مكة يتغنى بأبيات من شعر غناء العرب، وإن الناس ليتبعونه يسمعون صوته وما يرونه حتى خرج من أعلا مكة وهو يقول:

جزى الله رب الناس خير جزائه * رفيقين حلا خيمتي أم معبد

هما نزلا بالبر ثم تروَّحا * فأفلح من أمسى رفيق محمد

ليهن بني كعب مكان فتاتهم * ومقعدها للمؤمنين بمرصد

قالت أسماء: فلما سمعنا قوله عرفنا حيث وجه رسول الله ﷺ، وأن وجهه إلى المدينة.

قال ابن إسحاق: وكانوا أربعة: رسول الله ﷺ، وأبو بكر، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، وعبد الله بن أرقد، كذا يقول ابن إسحاق والمشهور عبد الله بن أريقط الدئلي وكان إذ ذاك مشركا..

قال ابن إسحاق: ولما خرج بهما دليلهما عبد الله بن أرقد سلك بهما أسفل مكة، ثم مضى بهما على الساحل حتى عارض الطريق أسفل من عسفان، ثم سلك بهما على أسفل أمج، ثم استجاز بهما حتى عارض الطريق بعد أن أجاز قديدا، ثم أجاز بهما من مكانه ذلك فسلك بهما الخرار، ثم أجاز بهما ثنية المرة، ثم سلك بهما لقفا، ثم أجاز بهما مدلجة لقف.

ثم استبطن بهما مدلجة مجاج، ثم سلك بهما مرجح مجاج، ثم تبطن بهما مرجح من ذي العضوين، ثم بطن ذي كشد، ثم أخذ بهما على الجداجد، ثم على الأجرد، ثم سلك بهما ذا سلم، من بطن أعداء مدلجة تعهن، ثم على العبابيد، ثم أجاز بهما القاحة.

ثم هبط بهما العرج وقد أبطأ عليهم بعض ظهرهم، فحمل رسول الله ﷺ رجل من أسلم يقال له: أوس بن حجر على جمل يقال له: ابن الرِّداء إلى المدينة وبعث معه غلاما يقال له: مسعود بن هنيدة، خرج بهما دليلهما من العرج فسلك بها ثنية العائر عن يمين ركوبة - ويقال: ثنية الغائر فيما قال ابن هشام - حتى هبط بهما بطن ريم.

ثم قدم بهما قباء على بني عمرو بن عوف لإثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول يوم الاثنين حين اشتد الضحاء وكادت الشمس تعتدل.

وقد روى أبو نعيم من طريق الواقدي نحوا من ذكر هذه المنازل، وخالفه في بعضها والله أعلم.

قال أبو نعيم: حدثنا أبو حامد بن جبلة، حدثنا محمد بن إسحاق، عن السراج، حدثنا محمد بن عبادة بن موسى العجلي، حدثني أخي موسى ابن عبادة، حدثني عبد الله بن سيار، حدثني إياس بن مالك بن الأوس الأسلمي عن أبيه..

قال: لما هاجر رسول الله ﷺ وأبو بكر مروا بابل لنا بالجحفة.

فقال رسول الله ﷺ: «لمن هذه الإبل؟».

فقال: لرجل من أسلم، فالتفت إلى أبي بكر.

فقال: «سلمت إن شاء الله، فقال: ما اسمك؟».

قال: مسعود، فالتفت إلى أبي بكر.

فقال: «سعدت إن شاء الله».

قال: فأتاه أبي فحمله على جمل يقال له: ابن الرداء.

قلت: وقد تقدم عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ خرج من مكة يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين.

والظاهر أن بين خروجه عليه السلام من مكة ودخوله المدينة خمسة عشر يوما، لأنه أقام بغار ثور ثلاثة أيام، ثم سلك طريق الساحل وهي أبعد من الطريق الجادة واجتاز في مروره على أم معبد بنت كعب من بني كعب بن خزاعة، قال ابن هشام.

وقال يونس عن ابن إسحاق: اسمها عاتكة بنت خلف بن معبد بن ربيعة بن أصرم.

وقال الأموي: هي عاتكة بنت تبيع حليف بني منقذ بن ربيعة بن أصرم بن صنبيس بن حرام بن خيسة بن كعب بن عمرو، ولهذه المرأة من الولد معبد ونضرة وحنيدة بنو أبي معبد، واسمه أكتم بن عبد العزى بن معبد بن ربيعة بن أصرم بن صنبيس، وقصتها مشهورة مروية من طرق يشد بعضها بعضا.

قصة أم معبد الخزاعية

قال يونس عن ابن إسحاق: فنزل رسول الله ﷺ بخيمة أم معبد واسمها عاتكة بنت خلف بن معبد بن ربيعة بن أصرم فأرادوا القرى.

فقالت: والله ما عندنا طعام ولا لنا منحة ولا لنا شاة إلا حائل، فدعا رسول الله ﷺ ببعض غنمها فمسح ضرعها بيده ودعا الله، وحلب في العس حتى أرغى وقال: «اشربي يا أم معبد».

فقالت: اشرب فأنت أحق به، فرده عليها فشربت ثم، دعا بحائل أخرى ففعل مثل ذلك بها فشربه، ثم دعا بحائل أخرى ففعل بها مثل ذلك فسقى دليله، ثم دعا بحائل أخرى ففعل بها مثل ذلك فسقى عامرا، ثم تروح.

وطلبت قريش رسول الله ﷺ حتى بلغوا أم معبد فسألوا عنه.

فقالوا: أرأيت محمدا من حليته كذا وكذا؟ فوصفوه لها.

فقالت: ما أدري ما تقولون، قدمنا فتى حالب الحائل.

قالت قريش: فذاك الذي نريد.

وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن معمر، حدثنا يعقوب بن محمد، حدثنا عبد الرحمن بن عقبة، بن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله، ثنا أبي عن أبيه عن جابر قال: لما خرج رسول الله ﷺ وأبو بكر مهاجرين فدخلا الغار، إذا في الغار جحر فألقمه أبو بكر عقبه حتى أصبح مخافة أن يخرج على رسول الله ﷺ منه شيء.

فأقاما في الغار ثلاث ليال ثم خرجا حتى نزلا بخيمات أم معبد فأرسلت إليه أم معبد أني أرى وجوها حسانا، وإن الحي أقوى على كرامتكم مني، فلما أمسوا عندها بعثت مع ابن لها صغير بشفرة وشاة، فقال رسول الله ﷺ: «أردد الشفرة وهات لنا فرقا» يعني: القدح.

فأرسلت إليه أن لا لبن فيها ولا ولد.

قال: «هات لنا فرقا» فجاءت بفرق فضرب ظهرها فاجترت ودرت فحلب فملأ القدح فشرب وسقى أبا بكر، ثم حلب فبعث فيه إلى أم معبد.

ثم قال البزار: لا نعلمه يروى إلا بهذا الإسناد.

وعبد الرحمن بن عقبة لا نعلم أحدا حدث عنه إلا يعقوب بن محمد وإن كان معروفا في النسب.

وروى الحافظ البيهقي من حديث يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، ثنا عبد الرحمن بن الأصبهاني، سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

قال: خرجت مع رسول الله ﷺ من مكة فانتهينا إلى حي من أحياء العرب، فنظر رسول الله ﷺ إلى بيت منتحيا فقصد إليه، فلما نزلنا لم يكن فيه إلا امرأة فقالت: يا عبد الله! إنما أنا امرأة وليس معي أحد، فعليكما بعظيم الحي إن أردتم القرى، قال: فلم يجبها وذلك عند المساء، فجاء ابن لها بأعنز لها يسوقها، فقالت: يا بني انطلق بهذه العنز والشفرة إلى هذين الرجلين فقل لهما تقول لكما أمي: اذبحا هذه وكلا وأطعمانا.

فلما جاء قال له النبي ﷺ: «انطلق بالشفرة وجئني بالقدح».

قال: إنها قد عزبت وليس بها لبن.

قال: «انطلق».

فجاء بقدح فمسح النبي ﷺ ضرعها، ثم حلب حتى ملأ القدح.

ثم قال: «انطلق به إلى أمك».

فشربت حتى رويت، ثم جاء به فقال: «انطلق بهذه وجئني بأخرى».

ففعل بها كذلك ثم سقى أبا بكر، ثم جاء بأخرى ففعل بها كذلك، ثم شرب النبي ﷺ، فبتنا ليلتنا، ثم انطلقنا، فكانت تسميه المبارك.

وكثرت غنمها حتى جلبت جلبا إلى المدينة، فمر أبو بكر فرأى ابنها فعرفه، فقال: يا أمه هذا الرجل الذي كان مع المبارك.

فقامت إليه فقالت: يا عبد الله من الرجل الذي كان معك؟

قال: أو ما تدرين من هو؟

قالت: لا.

قال: هو نبي الله.

قالت: فأدخلني عليه.

قال: فأدخلها فأطعمها رسول الله ﷺ وأعطاها - زاد ابن عبدان في روايته - قالت: فدلني عليه.

فانطلقت معي وأهدت لرسول الله ﷺ شيئا من أقط ومتاع الأعراب.

قال: فكساها وأعطاها.

قال: ولا أعلمه إلا قال: وأسلمت، إسناد حسن.

وقال البيهقي: هذه القصة شبيهة بقصة أم معبد، والظاهر أنها هي والله أعلم..

وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي.

قالا ثنا أبو العباس الأصم، ثنا الحسن بن مكرم، حدثني أبو أحمد بشر بن محمد السكري، ثنا عبد الملك بن وهب المذحجي، ثنا أبجر بن الصباح عن أبي معبد الخزاعي أن رسول الله ﷺ خرج ليلة هاجر من مكة إلى المدينة هو وأبو بكر وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر ودليلهم عبد الله بن أريقط الليثي، فمروا بخيمتي أم معبد الخزاعية، وكانت أم معبد امرأة برزة جلدة تحتبي وتجلس بفناء الخيمة فتطعم وتسقي، فسألوها هل عندها لحم أو لبن يشترونه منها؟ فلم يجدوا عندها شيء من ذلك.

وقالت: لو كان عندنا شيء ما أعوذكم القرى، وإذا القوم مرملون مسنتون.

فنظر رسول الله ﷺ فإذا شاة في كسر خيمتها، فقال: «ما هذه الشاة يا أم معبد؟».

فقالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم.

قال: «فهل بها من لبن».

قالت: هي أجهد من ذلك.

قال: «تأذنين لي أن أحلبها؟».

قالت: إن كان بها حلب فاحلبها.

فدعا رسول الله ﷺ بالشاة فمسحها وذكر اسم الله، ومسح ضرعها وذكر اسم الله، ودعا بإناء لها يربض الرهط فتفاجت واجترت فحلب فيها تجا حتى ملأه فسقاها وسقى أصحابه فشربوا عللا بعد نهل، حتى إذا رووا شرب آخرهم وقال: «ساقي القوم آخرهم».

ثم حلب فيه ثانيا عودا على بدء فغادره عندها ثم ارتحلوا، قال: فقلما لبث أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافا يتساوكن هزلى لا نِقَي بهن، مخهن قليل فلما رأى اللبن عجب وقال: من أين هذا اللبن يا أم معبد، ولا حلوبة في البيت والشاة عازب؟

فقالت: لا والله إنه مرَّ بنا رجل ملوك كان من حديثه كيت وكيت.

فقال: صفيه لي فوالله إني لأراه صاحب قريش الذي تطلب.

فقالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة حسن الخلق مليح الوجه لم تعبه ثجلة ولم تزر به صعلة قسيم وسيم في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صحل.

أحول أكحل أزج أقرن في عنقه سطع وفي لحيته كثاثة.

إذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلم سما وعلاه البهاء، حلو المنطق، فصل، لا نزر ولا هذر كأن منطقه خرزات نظم ينحدرن، أبهى الناس وأجمله من بعيد، وأحسنه من قريب.

ربعة لا تنساه عين من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرا، وأحسنهم قدا له رفقاء يحفون به إن قال استمعوا لقوله، وإن أمر تبادروا لأمره، محفود محشود، لا عابس ولا معتد، فقال: - يعني: بعلها - هذا والله صاحب قريش الذي تطلب، ولو صادفته لالتمست أن أصحبه، ولأجهدن إن وجدت إلى ذلك سبيلا، قال: وأصبح صوت بمكة عال بين السماء والأرض يسمعونه ولا يرون من يقول وهو يقول:

جزى الله رب الناس خير جزائه * رفيقين حلا خيمتي أم معبد

هما نزلا بالبر وارتحلا به * فأفلح من أمسى رفيق محمد

فيال قصي ما زوى الله عنكم * به من فعال لا تجُارى وسؤدد

سلوا أختكم عن شاتها وإنائها * فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد

دعاها بشاة حائل فتحلبت * له بصريح ضرة الشاة مربد

فغادره رهنا لديها لحالب * يدر لها في مصدر ثم مورد

قال: وأصبح الناس - يعني: بمكة - وقد فقدوا نبيهم، فأخذوا على خيمتي أم معبد حتى لحقوا برسول الله ﷺ قال: وأجابه حسان بن ثابت:

لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم * وقد سر من يسري إليهم ويغتدي

ترحل عن قوم فزالت عقولهم * وحل على قوم بنور مجدد

هداهم به بعد الضلالة ربهم * وأرشدهم من يتبع الحق يرشد

وهل يستوي ضلال قوم تسفهوا * عمىً وهداة يهتدون بمهتد

نبي يرى ما لا يرى الناس حوله * ويتلو كتاب الله في كل مشهد

وإن قال في يوم مقالة غائب * فتصديقها في اليوم أو في ضحى الغد

ليهن أبا بكر سعادة جده * بصحبته، من يسعد الله يسعد

ويهن بني كعب مكان فتاتهم * ومقعدها للمسلمين بمرصد

قال: - يعني: عبد الملك بن وهب - فبلغني أن أبا معبد أسلم وهاجر إلى النبي ﷺ.

وهكذا روى الحافظ أبو نعيم من طريق عبد الملك بن وهب المذحجي فذكر مثله سواء وزاد في آخره قال عبد الملك: بلغني أن أم معبد هاجرت وأسلمت ولحقت برسول الله ﷺ.

ثم رواه أبو نعيم من طرق، عن بكر بن محرز الكلبي الخزاعي، عن أبيه محرز بن مهدي، عن حرام بن هشام بن حبيش بن خالد، عن أبيه، عن جده حبيش بن خالد صاحب رسول الله ﷺ أن رسول الله ﷺ حين أخرج من مكة منها مهاجرا هو وأبو بكر وعامر بن فهيرة ودليلهما عبد الله بن أريقط الليثي فمروا بخيمة أم معبد وكانت امرأة برزة جلدة تحتبي بفناء القبة وذكر مثل ما تقدم سواء.

قال: وحدثناه - فيما أظن - محمد بن أحمد بن علي بن مخلد، ثنا محمد بن يونس بن موسى - يعني: الكديمي - ثنا عبد العزيز بن يحيى بن عبد العزيز مولى العباس بن عبد المطلب، ثنا محمد بن سليمان بن سليط الأنصاري، حدثني أبي، عن أبيه سليط البدري.

قال: لما خرج رسول الله ﷺ في الهجرة ومعه أبو بكر وعامر بن فهيرة وابن أريقط يدلهم على الطريق، مر بأم معبد الخزاعية وهي لا تعرفه فقال لها: «يا أم معبد هل عندك من لبن؟»

قالت: لا والله إن الغنم لعازبة.

قال: «فما هذه الشاة؟»

قالت: خلفها الجهد عن الغنم.

ثم ذكر تمام الحديث كنحو ما تقدم.

ثم قال البيهقي: يحتمل أن هذه القصص كلها واحدة، ثم ذكر قصة شبيهة بقصة شاة أم معبد الخزاعية فقال: حدثنا أبو عبد الله الحافظ - إملاء - حدثنا أبو بكر أحمد بن إسحاق بن أيوب، أخبرنا محمد بن غالب، ثنا أبو الوليد، ثنا عبد الله بن إياد بن لقيط، ثنا إياد بن لقيط، عن قيس بن النعمان.

قال: لما انطلق النبي ﷺ وأبو بكر مستخفين، مروا بعبد يرعى غنما فاستسقياه اللبن، فقال: ما عندي شاة تحلب، غير أن ههنا عناقا حملت أول الشتاء، وقد أخدجت وما بقي لها من لبن، فقال: «ادع بها»

فدعا بها فاعتقلها النبي ﷺ ومسح ضرعها ودعا حتى أنزلت، وجاء أبو بكر بمجن فحلب فسقى أبا بكر، ثم حلب فسقى الراعي، ثم جلس فشرب.

فقال الراعي: بالله من أنت؟ فوالله ما رأيت مثلك قط.

قال: «أوتراك تكتم علي حتى أخبرك؟»

قال: نعم!

قال: «فإني محمد رسول الله».

فقال: أنت الذي تزعم قريش أنه صابئ؟

قال: «إنهم ليقولون ذلك؟».

قال: فإني أشهد أنك نبي، وأشهد أن ما جئت به حق، وأنه لا يفعل ما فعلت إلا نبي وأنا متبعك.

قال: «إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا فإذا بلغك أني قد ظهرت فأتنا».

ورواه أبو يعلى الموصلي، عن جعفر بن حميد الكوفي، عن عبد الله بن إياد بن لقيط به.

وقد ذكر أبو نعيم ههنا قصة عبد الله بن مسعود فقال: حدثنا عبد الله بن جعفر، ثنا يونس بن حبيب، ثنا أبو داود، ثنا حماد بن سلمة، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله بن مسعود.

قال: كنت غلاما يافعا أرعى غنما لعتبة بن أبي معيط بمكة، فأتى رسول الله ﷺ وأبو بكر - وقد فرَّا من المشركين - فقال: «يا غلام عندك لبن تسقينا؟»

فقلت: إني مؤتمن ولست بساقيكما.

فقالا: «هل عندك من جذعة لم ينز عليها الفحل بعد؟»

قلت: نعم!

فأتيتهما بها، فاعتقلها أبو بكر، وأخذ رسول الله ﷺ الضرع فدعا فحفل الضرع، وجاء أبو بكر بصخرة متقعرة فحلب فيها.

ثم شرب هو وأبو بكر وسقياني، ثم قال للضرع: «أقلص أقلص».

فلما كان بعد أتيت رسول الله ﷺ فقلت: علمني من هذا القول الطيب - يعني: القرآن -

فقال رسول الله ﷺ: «إنك غلام معلم» فأخذت من فيه سبعين سورة ما ينازعني فيها أحد.

فقوله في هذا السياق: وقد فرَّا من المشركين ليس المراد منه وقت الهجرة، إنما ذلك في بعض الأحوال قبل الهجرة.

فإن ابن مسعود ممن أسلم قديما وهاجر إلى الحبشة ورجع إلى مكة كما تقدم، وقصته هذه صحيحة ثابتة في الصحاح وغيرها والله أعلم.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن مصعب بن عبد الله - هو الزبيري - حدثني أبي، عن فائد مولى عبادل قال: خرجت مع إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة فأرسل إبراهيم بن عبد الرحمن بن سعد حتى إذا كنا بالعرج أتى ابن سعد - وسعد هو الذي دل رسول الله ﷺ على طريق ركوبه - فقال إبراهيم: أخبرني ما حدَّثك أبوك؟

قال ابن سعد: حدثني أبي أن رسول الله ﷺ أتاهم ومعه أبو بكر - وكانت لأبي بكر عندنا بنت مسترضعة - وكان رسول الله ﷺ أراد الاختصار في الطريق إلى المدينة، فقال لها سعد: هذا الغائر من ركوبه وبه لصان من أسلم يقال لهما: المهانان.

فإن شئت أخذنا عليهما، فقال النبي ﷺ: «خذ بنا عليهما»

قال سعد: فخرجنا حتى إذا أشرفنا إذا أحدهما يقول لصاحبه هذا اليماني.

فدعاهما رسول الله ﷺ فعرض عليهما الإسلام فأسلما، ثم سألهما عن أسمائهما فقالا: نحن المهانان.

فقال: «بل أنتما المكرمان» وأمرهما أن يقدما عليه المدينة فخرجنا حتى إذا أتينا ظاهر قباء فتلقاه بنو عمرو بن عوف فقال رسول الله ﷺ: «أين أبو أمامة أسعد بن زرارة؟»

فقال سعد بن خيثمة: إنه أصاب قبلي يا رسول الله أفلا أخبره ذلك؟

ثم مضى رسول الله ﷺ حتى إذا طلع على النخل فإذا الشرب مملوء، فالتفتَ رسول الله إلى أبي بكر فقال: «يا أبا بكر هذا المنزل رأيتني أنزل إلى حياض كحياض بني مدلج» انفرد به أحمد.

فصل في دخوله عليه السلام المدينة وأين استقر منزله بها

قد تقدم فيما رواه البخاري، عن الزهري، عن عروة: أن النبي ﷺ دخل المدينة عند الظهيرة.

قلت: ولعل ذلك كان بعد الزوال لما ثبت في (الصحيحين) من حديث إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب، عن أبي بكر في حديث الهجرة قال: فقدمنا ليلا فتنازعه القوم أيهم ينزل عليه، فقال رسول الله ﷺ: «أنزل على بني النجار أخوال عبد المطلب أكرمهم بذلك».

وهذا والله أعلم إما أن يكون يوم قدومه إلى قباء فيكون حال وصوله إلى قرب المدينة كان في حر الظهيرة وأقام تحت تلك النخلة ثم سار بالمسلمين فنزل قباء وذلك ليلا، وأنه أطلق على ما بعد الزوال ليلا، فإن العشى من الزوال، وإما أن يكون المراد بذلك لمّا رحل من قباء كما سيأتي فسار فما انتهى إلى بني النجار إلا عشاء كما سيأتي بيانه والله أعلم.

وذكر البخاري، عن الزهري، عن عروة: أنه نزل في بني عمرو بن عوف بقباء وأقام فيهم بضع عشرة ليلة وأسس مسجد قباء في تلك الأيام، ثم ركب ومعه الناس حتى بركت به راحلته في مكان مسجده، وكان مربدا لغلامين يتيمين وهما: سهل وسهيل، فابتاعه منهما واتخذه مسجدا.

وذلك في دار بني النجار رضي الله عنهم.

وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عويم بن ساعدة قال: حدثني رجال من قومي من أصحاب النبي ﷺ قالوا: لما بلغنا مخرج النبي ﷺ من مكة وتوكفنا قدومه كنا نخرج إذا صلينا الصبح، إلى ظاهر حرتنا ننتظر النبي ﷺ، فوالله ما نبرح حتى تغلبنا الشمس على الظلال، فإذا لم نجد ظلا دخلنا - وذلك في أيام حارة - حتى إذا كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله جلسنا كما كنا نجلس، حتى إذ لم يبق ظل دخلنا بيوتنا، وقدم رسول الله ﷺ حين دخلنا البيوت فكان أول من رآه رجل من اليهود وقد رأى ما كنا نصنع، وأنا ننتظر قدوم رسول الله ﷺ علينا، فصرخ بأعلا صوته:

يا بني قيلة! هذا جدكم قد جاء، فخرجنا إلى رسول الله ﷺ وهو في ظل نخلة، ومعه أبو بكر في مثل سنه، وأكثرنا لم يكن رأى رسول الله ﷺ قبل ذلك، وركبه الناس وما يعرفونه من أبي بكر، حتى زال الظل عن رسول الله ﷺ، فقام أبو بكر فأظله بردائه، فعرفناه عند ذلك.

وقد تقدم مثل ذلك في سياق البخاري وكذا ذكر موسى بن عقبة في (مغازيه).

وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم، ثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس بن مالك.

قال: إني لأسعى في الغلمان يقولون: جاء محمد، فأسعى ولا أرى شيئا، ثم يقولون: جاء محمد، فأسعى ولا أرى شيئا، قال: حتى جاء رسول الله ﷺ وصاحبه أبو بكر.

فكمنا في بعض خراب المدينة، ثم بعثنا رجلا من أهل البادية يؤذن بهما الأنصار فاستقبلهما زهاء خمسمائة من الأنصار حتى انتهوا إليهما فقالت الأنصار: انطلقا آمنين مطاعين.

فأقبل رسول الله ﷺ وصاحبه بين أظهرهم، فخرج أهل المدينة حتى أن العواتق لفوق البيوت يتراءينه يقلن: أيهم هو؟ أيهم هو؟ فما رأينا منظرا شبيها به.

قال أنس: فلقد رأيته يوم دخل علينا ويوم قبض. فلم أر يومين شبيها بهما.

ورواه البيهقي، عن الحاكم، عن الأصم، عن محمد بن إسحاق الصنعاني، عن أبي النضر هاشم بن القاسم، عن سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس بنحوه - أو مثله -.

وفي (الصحيحين)من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء، عن أبي بكر في حديث الهجرة.

قال: وخرج الناس حين قدمنا المدينة في الطرق وعلى البيوت والغلمان والخدم يقولون: الله أكبر جاء رسول الله، الله أكبر جاء محمد، الله أكبر جاء محمد، الله أكبر جاء رسول الله.

فلما أصبح انطلق وذهب حيث أمر.

وقال البيهقي: أخبرنا أبو عمرو الأديب، أخبرنا أبو بكر الإسماعيلي: سمعت أبا خليفة يقول: سمعت ابن عائشة يقول: لما قدم رسول الله ﷺ المدينة جعل النساء والصبيان يقلن:

طلع البدر علينا * من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا * ما دعا لله داع

قال محمد بن إسحاق: فنزل رسول الله ﷺ - فيما يذكرون يعني: حين نزل - بقباء على كلثوم بن الهدم أخي بني عمرو بن عوف ثم أحد بني عبيد، ويقال: بل نزل على سعد بن خيثمة.

ويقول: من يذكر أنه نزل على كلثوم بن الهدم: إنما كان رسول الله ﷺ إذا خرج من منزل كلثوم بن الهدم جلس للناس في بيت سعد بن خيثمة، وذلك أنه كان عزبا لا أهل له، وكان يقال لبيته: بيت العزاب والله أعلم.

ونزل أبو بكر رضي الله عنه على خبيب بن إساف أحد بني الحارث بن الخزرج بالسنح وقيل: على خارجة بن زيد بن أبي زهير أخي بني الحارث بن الخزرج.

قال ابن إسحاق: وأقام علي بن أبي طالب بمكة ثلاث ليال وأيامها، حتى أدى عن رسول الله ﷺ الودائع التي كانت عنده، ثم لحق برسول الله ﷺ فنزل معه على كلثوم بن الهدم.

فكان علي بن أبي طالب إنما كانت إقامته بقباء ليلة أو ليلتين.

يقول: كانت بقباء امرأة لا زوج لها مسلمة، فرأيت إنسانا يأتيها من جوف الليل فيضرب عليها بابها فتخرج إليه فيعطيها شيئا معه فتأخذه، فاستربت بشأنه فقلت لها: يا أمة الله من هذا الذي يضرب عليك بابك كل ليلة فتخرجين إليه فيعطيك شيئا لا أدري ما هو؟ وأنت امرأة مسلمة لا زوج لك؟

قالت: هذا سهل بن حنيف، وقد عرف أني امرأة لا أحد لي، فإذا أمسى عدا على أوثان قومه فكسرها ثم جاءني بها فقال: احتطبي بهذا، فكان علي رضي الله عنه يأثر ذلك من شأن سهل بن حنيف حين هلك عنده بالعراق.

قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله ﷺ بقباء في بني عمرو بن عوف يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس وأسس مسجده، ثم أخرجه الله من بين أظهرهم يوم الجمعة وبنو عمرو بن عوف يزعمون أنه مكث فيهم أكثر من ذلك.

وقال عبد الله بن إدريس: عن محمد بن إسحاق قال: وبنو عمرو بن عوف يزعمون: أنه عليه السلام أقام فيهم ثماني عشر ليلة.

قلت: وقد تقدم فيما رواه البخاري من طريق الزهري، عن عروة: أنه عليه السلام أقام فيهم بضع عشرة ليلة.

وحكى موسى بن عقبة، عن مجمع بن يزيد بن حارثة أنه قال: أقام رسول الله ﷺ فينا - يعني: في بني عمرو بن عوف بقباء - اثنتين وعشرين ليلة.

وقال الواقدي: ويقال: أقام فيهم أربع عشرة ليلة.

قال ابن إسحاق: فأدركت رسول الله ﷺ الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها في المسجد الذي في بطن الوادي - وادي رانوناء - فكان أول جمعة صلاها بالمدينة.

فأتاه عتبان بن مالك وعباس بن عبادة بن نضلة في رجال من بني سالم فقالوا: يا رسول الله، أقم عندنا في العدد والعدة والمنعة.

قال: «خلوا سبيلها فإنها مأمورة» - لناقته - فخلوا سبيلها فانطلقت حتى إذا وازت دار بني بياضة تلقاه زياد بن لبيد وفروة بن عمرو في رجال من بني بياضة فقالوا: يا رسول الله: هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة؟

قال: «خلوا سبيلها فإنها مأمورة»، فخلوا سبيلها.

فانطلقت حتى إذا مرت بدار بني ساعدة اعترضه سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو في رجال من بني ساعدة، فقالوا: يا رسول الله، هلم إلينا في العدد والمنعة.

قال: «خلوا سبيلها فإنها مأمورة».

فخلوا سبيلها فانطلقت حتى إذا وازت دار بني الحارث بن الخزرج اعترضه سعد بن الربيع وخارجة بن زيد وعبد الله بن رواحة في رجال من بني الحارث بن الخزرج فقالوا: يا رسول الله، هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة.

قال: «خلوا سبيلها فإنها مأمورة».

فخلوا سبيلها فانطلقت حتى إذا مرت بدار عدي بن النجار - وهم أخواله - دنيا أم عبد المطلب، سلمى بنت عمرو إحدى نسائهم، اعترضه سليط بن قيس وأبو سليط أسيرة بن خارجة في رجال من بني عدي بن النجار فقالوا: يا رسول الله، هلم إلى أخوالك إلى العدد والعدة والمنعة؟

قال: «خلوا سبيلها فإنها مأمورة».

فخلوا سبيلها فانطلقت حتى إذا أتت دار بني مالك بن النجار بركت على باب مسجده عليه السلام اليوم، وكان يومئذٍ مربدا لغلامين يتيمين من بني مالك بن النجار وهما: سهل وسهيل ابنا عمرو، وكانا في حجر معاذ بن عفراء.

قلت: وقد تقدم في رواية البخاري من طريق الزهري عن عروة: أنهما كانا في حجر أسعد بن زرارة والله أعلم.

وذكر موسى بن عقبة: أن رسول الله ﷺ مرَّ في طريقه بعبد الله بن أُبيّ بن سلول وهو في بيت.

فوقف رسول الله ﷺ ينتظر أن يدعوه إلى المنزل - وهو يومئذٍ سيد الخزرج في أنفسهم - فقال عبد الله: أنظر الذين دعوك فانزل عليهم، فذكر ذلك رسول الله ﷺ لنفر من الأنصار.

فقال سعد بن عبادة يعتذر عنه: لقد منَّ الله علينا بك يا رسول الله وإنا نريد أن نعقد على رأسه التاج ونملكه علينا.

قال موسى بن عقبة: وكانت الأنصار قد اجتمعوا قبل أن يركب رسول الله ﷺ من بني عمرو بن عوف فمشوا حول ناقته لا يزال أحدهم ينازع صاحبه زمام الناقة شحا على كرامة رسول الله ﷺ وتعظيما له، وكلما مرَّ بدار من دور الأنصار دعوه إلى المنزل فيقول ﷺ: «دعوها فإنها مأمورة، فإنما أنزل حيث أنزلني الله».

فلما انتهت الناقة إلى دار أبي أيوب بركت به على الباب فنزل فدخل بيت أبي أيوب حتى ابتنى مسجده ومساكنه.

قال ابن إسحاق: لما بركت الناقة برسول الله ﷺ لم ينزل عنها حتى وثبت فسارت غير بعيد ورسول الله ﷺ واضع لها زمامها لا يثنيها به، ثم التفتت إلى خلفها فرجعت إلى مبركها أول مرة، فبركت فيه، ثم تحلحلت ورزمت ووضعت جرانها فنزل عنها رسول الله ﷺ.

فاحتمل أبو أيوب خالد بن زيد رحله فوضعه في بيته ونزل عليه رسول الله ﷺ وسأل عن المربد لمن هو؟

فقال له معاذ بن عفراء: هو يا رسول الله لسهل وسهيل ابني عمرو وهما يتيمان لي وسأرضيهما منه فاتخذه مسجدا، فأمر به رسول الله ﷺ أن يُبنى ونزل رسول الله ﷺ في دار أبي أيوب حتى بني مسجده ومساكنه فعمل فيه رسول الله ﷺ والمسلمون من المهاجرين والأنصار.

وستأتي قصة بناء المسجد قريبا إن شاء الله.

وقال البيهقي (في الدلائل): وقال أبو عبد الله: أخبرنا أبو الحسن علي بن عمرو الحافظ، ثنا أبو عبد الله محمد بن مخلد الدوري، ثنا محمد بن سليمان بن إسماعيل بن أبي الورد، ثنا إبراهيم بن صرمة، ثنا يحيى بن سعيد، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس.

قال: قدم رسول الله ﷺ المدينة فلما دخلنا جاء الأنصار برجالها ونسائها فقالوا: إلينا يا رسول الله.

فقال: «دعوا الناقة فإنها مأمورة».

فبركت على باب أبي أيوب فخرجت جوار من بني النجار يضربن بالدفوف وهن يقلن:

نحن جوار من بني النجار * يا حبذا محمد من جار

فخرج إليهم رسول الله ﷺ فقال: «أتحبونني؟»

فقالوا: أي والله يا رسول الله.

فقال: «وأنا والله أحبكم، وأنا والله أحبكم، وأنا والله أحبكم».

هذا حديث غريب من هذا الوجه لم يروه أحد من أصحاب السنن، وقد خرجه الحاكم في (مستدركه) كما يروى.

ثم قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي، أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن سليمان النحاس المقرئ ببغداد، ثنا عمر بن الحسن الحلبي، حدثنا أبو خيثمة المصيصي، ثنا عيسى بن يونس، عن عوف الأعرابي، عن ثمامة، عن أنس قال: مرَّ النبي ﷺ بحي من بني النجار، وإذا جوار يضربن بالدفوف يقلن:

نحن جوار من بني النجار * يا حبذا محمد من جار

فقال رسول الله ﷺ: «يعلم الله أن قلبي يحبكم».

ورواه ابن ماجه، عن هشام بن عمار، عن عيسى بن يونس به.

وفي (صحيح البخاري) عن معمر، عن عبد الوارث، عن عبد العزيز، عن أنس قال: رأى النبي ﷺ النساء والصبيان مقبلين - حسبت أنه قال من عرس - فقام النبي ﷺ ممثلا فقال: «اللهم أنتم من أحب الناس إلي» قالها ثلاث مرات.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، حدثني أبي، حدثني عبد العزيز بن صهيب، ثنا أنس بن مالك قال: أقبل رسول الله ﷺ إلى المدينة وهو مردف أبا بكر، وأبو بكر شيخ يعرف ورسول الله ﷺ شاب لا يعرف، قال: فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: يا أبا بكر من هذا الرجل الذي بين يديك؟

فيقول: هذا الرجل يهديني السبيل، فيحسب الحاسب إنما يهديه الطريق، وإنما يعني: سبيل الخير.

فالتفت أبو بكر فإذا هو بفارس قد لحقهم فقال: يا نبي الله هذا فارس قد لحق بنا، فالتفت رسول الله ﷺ فقال: «اللهم اصرعه».

فصرعته فرسه ثم قامت تحمحم، ثم قال: مرني يا نبي الله بما شئت.

فقال: «قف مكانك ولا تتركن أحدا يلحق بنا».

قال: فكان أول النهار جاهدا على رسول الله ﷺ، وكان آخر النهار مسلحة له.

قال: فنزل رسول الله ﷺ جانب الحرة ثم بعث إلى الأنصار فجاؤا فسلموا عليهما وقالوا: اركبا آمنين مطاعين.

فركب رسول الله ﷺ وأبو بكر وحفوا حولهما بالسلاح، وقيل في المدينة: جاء نبي الله ﷺ فاستشرفوا نبي الله ينظرون إليه ويقولون: جاء نبي الله.

قال: فأقبل يسير حتى نزل إلى جانب دار أبي أيوب، قال: فإنه ليحدث أهله إذ سمع به عبد الله بن سلام وهو في نخل لأهله يحترف لهم، فعجل أن يضع الذي يحترف فيها فجاء وهي معه، وسمع من نبي الله ﷺ ورجع إلى أهله، وقال: نبي الله: أي بيوت أهلنا أقرب؟

فقال أبو أيوب: أنا يا نبي الله، هذه داري وهذا بابي قال: فانطلق فهيئ لنا مقيلا، فذهب فهيأ لهما مقيلا.

ثم جاء فقال يا رسول الله: قد هيأت مقيلا قوما على بركة الله فقيلا، فلما جاء نبي الله ﷺ جاء عبد الله بن سلام فقال: أشهد أنك نبي الله حقا، وإنك جئت بحق، ولقد علمت يهود أني سيدهم وابن سيدهم، وأعلمهم وابن أعلمهم، فادعهم فسلهم.

فدخلوا عليه، فقال لهم رسول الله ﷺ: «يا معشر اليهود ويلكم اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقا وأني جئت بحق أسلموا».

فقالوا: ما نعلمه، ثلاثا.

وكذا رواه البخاري منفردا به عن محمد غير منسوب، عن عبد الصمد به.

قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد بن عبد الله اليزني، عن أبي رهم السماعي، حدثني أبو أيوب.

قال: لما نزل علي رسول الله ﷺ في بيتي نزل في السفل، وأنا وأم أيوب في العلو، فقلت له: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إني أكره وأعظم أن أكون فوقك وتكون تحتي فاظهر أنت فكن في العلو وننزل نحن فنكون في السفل، فقال: «يا أبا أيوب إن أرفق بنا وبمن يغشانا أن أكون في سفل البيت».

فكان رسول الله ﷺ في سفله وكنا فوقه في المسكن.

فلقد انكسر حب لنا فيه ماء فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا مالنا لحاف غيرها ننشف بها الماء تخوفا أن يقطر على رسول الله ﷺ منه شيء فيؤذيه، قال: وكنا نصنع له العشاء ثم نبعث إليه فإذا ردَّ علينا فضله تيممت أنا وأم أيوب موضع يده فأكلنا منه نبتغي بذلك البركة، حتى بعثنا إليه ليلة بعشائه وقد جعلنا له فيه بصلا - أو ثوما - فردَّه رسول الله ﷺ فلم أر ليده فيه أثرا.

قال: فجئته فزعا فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي رددت عشاءك ولم أر فيه موضع يدك؟

فقال: «إني وجدت فيه ريح هذه الشجرة، وأنا رجل أناجي فأما أنتم فكلوه».

قال: فأكلناه ولم نصنع له تلك الشجرة بعد.

وكذلك رواه البيهقي من طريق الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الحسن - أو أبي الخير - مرثد بن عبد الله اليزني، عن أبي رهم، عن أبي أيوب فذكره.

ورواه أبو بكر بن أبي شيبة، عن يونس بن محمد المؤدب، عن الليث.

وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو عمرو الحيري، ثنا عبد الله بن محمد، ثنا أحمد بن سعيد الدارمي، ثنا أبو النعمان، ثنا ثابت بن يزيد، ثنا عاصم الأحول، عن عبد الله بن الحارث، عن أفلح مولى أبي أيوب، عن أبي أيوب: أن رسول الله ﷺ نزل عليه فنزل في السفل وأبو أيوب في العلو فانتبه أبو أيوب فقال: نمشي فوق رأس رسول الله ﷺ! فتنحوا فباتوا في جانب، ثم قال للنبي ﷺ - يعني: في ذلك - فقال النبي ﷺ: «السفل أرفق بنا».

فقال: لا أعلو سقيفة أنت تحتها، فتحول رسول الله ﷺ في العلو، وأبو أيوب في السفل فكان يصنع لرسول الله ﷺ طعاما فإذا جيء به سأل عن موضع أصابعه فيتتبع موضع أصابع رسول الله ﷺ فصنع له طعاما فيه ثوم، فلما ردَّ إليه سأل عن موضع أصابع رسول الله ﷺ فقيل له: لم يأكل، ففزع وصعد إليه

فقال: أحرام؟

فقال النبي ﷺ: «لا، ولكني أكرهه».

قال: فإني أكره ما تكره - أو ما كرهت - قال: وكان النبي ﷺ يأتيه الملك.

رواه مسلم عن أحمد بن سعيد به.

وثبت في (الصحيحين) عن أنس بن مالك قال: جيء رسول الله ﷺ ببدر، وفي رواية: بقدر فيه خضروات من بقول، قال: فسأل فأخبر بما فيها فلما رآها كره أكلها، قال: «كل فإني أناجي من لا تناجي».

وقد روى الواقدي: أن أسعد بن زرارة لما نزل رسول الله ﷺ في دار أبي أيوب أخذ بخطام ناقة رسول الله ﷺ فكانت عنده.

وروي عن زيد بن ثابت أنه قال: أول هدية أهديت إلى رسول الله ﷺ حين نزل دار أبي أيوب أنا جئت بها، قصعة فيها خبز مثرود بلبن وسمن، فقلت: أرسلت بهذه القصعة أمي، فقال: بارك الله فيك ودعا أصحابه فأكلوا، ثم جاءت قصعة سعد بن عبادة ثريد وعراق لحم وما كانت من ليلة إلا وعلى باب رسول الله ﷺ الثلاث والأربعة يحملون الطعام يتناوبون، وكان مقامه في دار أبي أيوب سبعة أشهر قال: وبعث رسول الله ﷺ - وهو نازل في دار أبي أيوب - مولاه زيد بن حارثة وأبا رافع ومعهما بعيران وخمسمائة درهم ليجيئا بفاطمة وأم كلثوم ابنتي رسول الله ﷺ، وسودة بنت زمعة زوجته، وأسامة بن زيد، وكانت رقية قد هاجرت مع زوجها عثمان، وزينب عند زوجها بمكة أبي العاص بن الربيع، وجاءت معهم أم أيمن امرأة زيد بن حارثة وخرج معهم عبد الله بن أبي بكر بعيال أبي بكر وفيهم عائشة أم المؤمنين ولم يدخل بها رسول الله ﷺ.

وقال البيهقي: أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، حدثنا خلف بن عمرو العكبري، ثنا سعيد بن منصور، ثنا عطاف بن خالد، ثنا صديق بن موسى، عن عبد الله بن الزبير: أن رسول الله ﷺ قدم المدينة فاستناخت به راحلته بين دار جعفر بن محمد بن علي وبين دار الحسن بن زيد فأتاه الناس فقالوا: يا رسول الله المنزل.

فانبعثت به راحلته فقال: «دعوها فإنها مأمورة».

ثم خرجت به حتى جاءت موضع المنبر فاستناخت ثم تحللت، وثم عريش كانوا يعرشونه ويعمرونه ويتبردون فيه، فنزل رسول الله ﷺ عن راحلته فيه فآوى إلى الظل فأتاه أبو أيوب، فقال: يا رسول الله: إن منزلي أقرب المنازل إليك فأنقل رحلك إلي.

قال: «نعم!»

فذهب برحله إلى المنزل، ثم أتاه رجل، فقال: يا رسول الله، أين تحل؟

قال: «إن الرجل مع رحله حيث كان».

وثبت رسول الله ﷺ في العريش اثنتي عشرة ليلة حتى بنى المسجد، وهذه منقبة عظيمة لأبي أيوب خالد بن زيد رضي الله عنه، حيث نزل في داره رسول الله ﷺ.

وقد روينا من طريق يزيد بن أبي حبيب، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس رضي الله عنه: أنه لما قدم أبو أيوب البصرة - وكان ابن عباس نائبا عليها من جهة علي بن أبي طالب رضي الله عنه - فخرج له ابن عباس عن داره حتى أنزله فيها كما أنزل رسول الله ﷺ في داره، وملكه كل ما أغلق عليها بابها.

ولما أراد الانصراف أعطاه ابن عباس عشرين ألفا، وأربعين عبدا.

وقد صارت دار أبي أيوب بعده إلى مولاه أفلح.

فاشتراها منه المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بألف دينار وصلح ما وهى من بنيانها ووهبها لأهل بيت فقراء من أهل المدينة.

وكذلك نزوله عليه السلام في دار بني النجار واختيار الله له ذلك منقبة عظيمة وقد كان في المدينة دور كثيرة تبلغ تسعا كل دار محلة مستقلة بمساكنها ونخيلها وزروعها وأهلها، كل قبيلة من قبائلهم قد اجتمعوا في محلتهم وهي كالقرى المتلاصقة، فاختار الله لرسول الله دار بني مالك بن النجار.

وقد ثبت في (الصحيحين) من حديث شعبة: سمعت قتادة، عن أنس بن مالك.

قال: قال رسول الله ﷺ: «خير دور الأنصار بنو النجار، ثم بنو عبد الأشهل، ثم بنو الحارث بن الخزرج، ثم بنو ساعدة، وفي كل دور الأنصار خير».

فقال سعد بن عبادة: ما أرى النبي ﷺ إلا قد فضل علينا.

فقيل: قد فضلكم على كثير.

هذا لفظ البخاري.

وكذلك رواه البخاري ومسلم من حديث أنس، وأبي سلمة، عن أبي أسيد مالك بن ربيعة، ومن حديث عبادة بن سهل، عن أبي حميد عن النبي ﷺ بمثله سواء.

زاد في حديث أبي حميد؛ فقال: أبو أسيد لسعد بن عبادة: ألم تر أن النبي ﷺ خير الأنصار فجعلنا آخرا، فأدرك سعد النبي ﷺ فقال: يا رسول الله خيرت دور الأنصار فجعلتنا آخرا؟

قال: «أوليس بحسبكم أن تكونوا من الأخيار».

قد ثبت لجميع من أسلم من أهل المدينة وهم الأنصار الشرف والرفعة في الدنيا والآخرة.

قال الله تعالى: { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [100].

وقال تعالى: { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [101].

وقال رسول الله ﷺ: «لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار، ولو سلك الناس واديا وشعبا لسلكت وادي الأنصار وشعبهم، والأنصار شعار والناس دثار».

وقال: «الأنصار كرشي وعيبتي».

وقال: «أنا سلم لمن سالمهم، وحرب لمن حاربهم».

وقال البخاري: حدثنا حجاج بن منهال، ثنا شعبة، حدثني عدي بن ثابت قال: سمعت البراء بن عازب يقول: سمعت رسول الله ﷺ - أو قال: قال رسول الله ﷺ -: «الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله».

وقد أخرجه بقية الجماعة إلا أبا داود من حديث شعبة به.

وقال البخاري أيضا: حدثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا شعبة، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن جبير، عن أنس بن مالك، عن النبي ﷺ قال: «آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار».

ورواه البخاري أيضا، عن أبي الوليد، والطيالسي، ومسلم، من حديث خالد بن الحارث، وعبد الرحمن بن مهدي أربعتهم عن شعبة به.

والآيات والأحاديث في فضائل الأنصار كثيرة جدا.

وما أحسن ما قال أبو قيس صرمة بن أبي أنس المتقدم ذكره أحد شعراء الأنصار في قدوم رسول الله ﷺ إليهم ونصرهم إياه ومواساتهم له ولأصحابه رضي الله عنهم أجمعين.

قال ابن إسحاق: وقال أبو قيس صرمة بن أبي أنس أيضا يذكر ما أكرمهم الله به من الإسلام وما خصهم به من رسوله عليه السلام:

ثوى في قريش بضع عشرة حجةً * يذكر لو يلقى صديقا مواتيا

ويعرض في أهل المواسم نفسه * فلم ير من يؤوي ولم ير داعيا

فلما أتانا واطمأنت به النوى * وأصبح مسرورا بطيبة راضيا

وألفى صديقا واطمأنت به النوى * وكان له عونا من الله باديا

يقص لنا ما قال نوح لقومه * وما قال موسى إذ أجاب المناديا

فأصبح لا يخشى من الناس واحدا * قريبا ولا يخشى من الناس نائيا

بذلنا له الأموال من جل مالنا * وأنفسنا عند الوغى والتآسيا

نعادي الذي عادى من الناس كلهم * جميعا ولو كان الحبيب المواسيا

ونعلم أن الله لا شيء غيره * وأن كتاب الله أصبح هاديا

أقول إذا صليت في كل بيعة * حنانيك لا تظهر علينا الأعاديا

أقول إذا جاوزت أرضا مخيفة * تباركت اسم الله أنت المواليا

فطأ معرضا إن الحتوف كثيرة * وأنك لا تبقي لنفسك باقيا

فوالله ما يدري الفتى كيف سعيه * إذا هو لم يجعل له الله واقيا

ولا تحفل النخل المعيمة ربها * إذا أصبحت ريا وأصبح ثاويا

ذكرها ابن إسحاق وغيره ورواها عبد الله بن الزبير الحميدي وغيره، عن سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عجوز من الأنصار قالت: رأيت عبد الله بن عباس يختلف إلى صرمة بن قيس يروي هذه الأبيات رواه البيهقي.

فصل تشريف المدينة بهجرته عليه السلام

وقد شرفت المدينة أيضا بهجرته عليه السلام إليها وصارت كهفا لأولياء الله وعباده الصالحين، ومعقلا وحصنا منيعا للمسلمين ودار هدى للعالمين.

والأحاديث في فضلها كثيرة جدا لها موضع آخر نوردها فيه إن شاء الله.

وقد ثبت في (الصحيحين) من طريق حبيب بن يساف، عن جعفر بن عاصم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها».

ورواه مسلم أيضا عن محمد بن رافع، عن شبابة، عن عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن ابن عمر، عن النبي ﷺ نحوه.

وفي (الصحيحين) أيضا من حديث مالك، عن يحيى بن سعيد أنه سمع أبا الحباب سعيد بن يسار: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله ﷺ: «أمرت بقرية تأكل القرى، يقول: يثرب، وهي: المدينة، تنقي الناس كما ينقي الكير خبث الحديد» وقد انفرد الإمام مالك عن بقية الأئمة الأربعة بتفضيلها على مكة.

وقد قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو الوليد، وأبو بكر بن عبد الله، قالا: ثنا الحسن بن سفيان، ثنا أبو موسى الأنصاري، ثنا سعيد بن سعيد، حدثني أخي، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «اللهم إنك أخرجتني من أحب البلاد إليَّ فاسكني أحب البلاد إليك».

فأسكنه الله المدينة.

وهذا حديث غريب جدا، والمشهور عن الجمهور: أن مكة أفضل من المدينة إلا المكان الذي ضم جسد رسول الله ﷺ

وقد استدل الجمهور على ذلك بأدلة يطول ذكرها ههنا ومحلها ذكرناها في كتاب (المناسك من الأحكام) إن شاء الله تعالى.

وأشهر دليل لهم في ذلك ما قال الإمام أحمد: حدثنا أبو اليمان، ثنا شعيب، عن الزهري، أخبرنا أبو سلمة بن عبد الرحمن: أن عبد الله بن عدي بن الحمراء أخبره أنه سمع النبي ﷺ وهو واقف بالحزورة في سوق مكة يقول: «والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلي، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت».

وكذا رواه أحمد، عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن صالح بن كيسان، عن الزهري به.

وهكذا رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه من حديث الليث، عن عقيل، عن الزهري به.

وقال الترمذي: حسن صحيح.

وقد رواه يونس، عن الزهري به.

ورواه محمد بن عمرو، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، وحديث الزهري عندي أصح.

قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، ثنا معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة قال: وقف رسول الله ﷺ على الحزورة

فقال: «علمت أنك خير أرض الله وأحب الأرض إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت».

وكذا رواه النسائي من حديث معمر به.

قال الحافظ البيهقي: وهذا وهم من معمر.

وقد رواه بعضهم عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة وهو أيضا وهم، والصحيح: رواية الجماعة.

وقال أحمد أيضا: حدثنا إبراهيم بن خالد، ثنا رباح، عن معمر، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن أبي سلمة، عن بعضهم أن رسول الله ﷺ قال وهو في سوق الحزورة: «والله إنك لخير أرض الله وأحب الأرض إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت».

ورواه الطبراني، عن أحمد بن خليد الحلبي، عن الحميدي، عن الدراوردي، عن ابن أخي الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن عبد الله بن عدي بن الحمراء به.

فهذه طرق هذا الحديث، وأصحها ما تقدم والله أعلم.

وقائع السنة الأولى من الهجرة

اتفق الصحابة رضي الله عنهم في سنة ست عشرة - وقيل: سنة سبع عشرة، أو ثماني عشرة - في الدولة العمرية على جعل ابتداء التاريخ الإسلامي من سنة الهجرة، وذلك أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه رفع إليه صك - أي: حجة - لرجل على آخر، وفيه: إنه يحل عليه في شعبان.

فقال عمر: أي شعبان؟ أشعبان هذه السنة التي نحن فيها أو السنة الماضية، أو الآتية؟

ثم جمع الصحابة فاستشارهم في وضع تاريخ يتعرفون به حلول الديون وغير ذلك.

فقال قائل: أرخوا كتاريخ الفرس فكره ذلك وكانت الفرس يؤرخون بملكوهم واحدا بعد واحد.

وقال قائل: أرخوا بتاريخ الروم. وكانوا يؤرخون بملك اسكندر بن فلبس المقدوني فكره ذلك.

وقال آخرون: أرخوا بمولد رسول الله ﷺ، وقال آخرون: بل بمبعثه، وقال آخرون: بل بهجرته.

وقال آخرون: بل بوفاته عليه السلام.

فمال عمر رضي الله عنه إلى التاريخ بالهجرة لظهوره واشتهاره واتفقوا معه على ذلك.

وقال البخاري في (صحيحه): التاريخ ومتى أرخوا التاريخ.

حدثنا عبد الله بن مسلم، ثنا عبد العزيز، عن أبيه، عن سهل بن سعد قال: ما عدوا من مبعث النبي ﷺ ولا من وفاته، ما عدوا إلا من مقدمه المدينة.

وقال الواقدي: حدثنا ابن أبي الزناد، عن أبيه قال: استشار عمر في التاريخ فأجمعوا على الهجرة.

وقال أبو داود الطيالسي، عن قرة بن خالد السدوسي، عن محمد بن سيرين قال: قام رجل إلى عمر فقال: أرخوا.

فقال: ما أرخوا؟

فقال: شيء تفعله الأعاجم يكتبون في شهر كذا من سنة كذا.

فقال عمر: حسن فأرخوا.

فقالوا: من أي السنين نبدأ؟

فقالوا: من مبعثه، وقالوا: من وفاته.

ثم أجمعوا على الهجرة.

ثم قالوا: وأي الشهور نبدأ؟

قالوا: رمضان.

ثم قالوا: المحرم، فهو مصرف الناس من حجهم وهو شهر حرام فاجتمعوا على المحرم.

وقال ابن جرير: حدثنا قتيبة، ثنا نوح بن قيس الطائي، عن عثمان بن محصن: أن ابن عباس كان يقول في قوله تعالى: { وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ } [102]: هو المحرم فجر السنة.

وروى عن عبيد بن عمير قال: إن المحرم شهر الله وهو رأس السنة يكسي البيت، ويؤرخ به الناس، ويضرب فيه الورق.

وقال أحمد: حدثنا روح بن عبادة، ثنا زكريا بن إسحاق، عن عمرو بن دينار قال: إن أول من ورخ الكتب يعلى بن أمية باليمن، وأن رسول الله ﷺ قدم المدينة في ربيع الأول وأن الناس أرخوا لأول السنة.

وروى محمد بن إسحاق، عن الزهري، وعن محمد بن صالح، عن الشعبي أنهما قالا: أرخ بنو إسماعيل من نار إبراهيم، ثم أرخوا من بنيان إبراهيم وإسماعيل البيت، ثم أرخوا من موت كعب بن لؤي، ثم أرخوا من الفيل، ثم أرخ عمر بن الخطاب من الهجرة وذلك سنة سبع عشرة - أو ثماني عشرة - وقد ذكرنا هذا الفصل محررا بأسانيده وطرقه في السيرة العمرية ولله الحمد.

والمقصود: أنهم جعلوا ابتداء التاريخ الإسلامي من سنة الهجرة، وجعلوا أولها من المحرم فيما اشتهر عنهم وهذا هو قول جمهور الأئمة.

وحكى السهيلي وغيره عن الإمام مالك أنه قال: أول السنة الإسلامية ربيع الأول لأنه الشهر الذي هاجر فيه رسول الله ﷺ.

وقد استدل السهيلي على ذلك في موضع آخر بقوله تعالى: { لمسجد أسس على التقوى من أول يوم } أي: من أول يوم حلول النبي ﷺ المدينة، وهو أول يوم من التاريخ كما اتفق الصحابة على أول سني التاريخ عام الهجرة.

ولا شك أن هذا الذي قاله الإمام مالك رحمه الله مناسب، ولكن العمل على خلافه، وذلك لأن أول شهور العرب المحرم فجعلوا السنة الأولى سنة الهجرة، وجعلوا أولها المحرم كما هو المعروف لئلا يختلط النظام والله أعلم.

فنقول وبالله المستعان: استهلت سنة الهجرة المباركة ورسول الله ﷺ مقيم بمكة، وقد بايع الأنصار بيعة العقبة الثانية كما قدمنا في أوسط أيام التشريق وهي ليلة الثاني عشر من ذي الحجة قبل سنة الهجرة.

ثم رجع الأنصار وأذن رسول الله ﷺ للمسلمين في الهجرة إلى المدينة فهاجر من هاجر من أصحابه إلى المدينة حتى لم يبق بمكة من يمكنه الخروج إلا رسول الله ﷺ، وحبس أبو بكر نفسه على رسول الله ﷺ ليصحبه في الطريق كما قدمنا ثم خرجا على الوجه الذي تقدم بسطه.

وتأخر علي بن أبي طالب بعد النبي ﷺ بأمره ليؤدي ما كان عنده عليه السلام من الودائع، ثم لحقهم بقباء فقدم رسول الله ﷺ يوم الاثنين قريبا من الزوال وقد اشتد الضحاء.

قال الواقدي وغيره: وذلك لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول.

وحكاه ابن إسحاق إلا أنه لم يعرج عليه ورجَّح أنه لثنتي عشرة ليلة خلت منه، وهذا هو المشهور الذي عليه الجمهور.

وقد كانت مدة إقامته عليه السلام بمكة بعد البعثة ثلاث عشرة سنة في أصح الأقوال، وهو رواية حماد بن سلمة عن أبي جمرة الضبعي عن ابن عباس.

قال: بعث رسول الله ﷺ لأربعين سنة، وأقام بمكة ثلاث عشرة سنة.

وهكذا روى ابن جرير، عن محمد بن معمر، عن روح بن عبادة، عن زكريا بن إسحاق، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس أنه قال: مكث رسول الله ﷺ بمكة ثلاث عشرة.

وتقدم أن ابن عباس كتب أبيات صرمة بن أبي أنس بن قيس:

ثوى في قريش بضع عشرة حجة * يذكر لو يلقى صديقا مواتيا

وقال الواقدي: عن إبراهيم بن إسماعيل، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس: أنه استشهد بقول صرمة.

ثوى في قريش بضع عشرة حجة * يذكر لو يلقى صديقا مواتيا

وهكذا رواه ابن جرير، عن الحارث، عن محمد بن سعد، عن الواقدي خمس عشرة حجة، وهو قول غريب جدا.

وأغرب منه ما قال ابن جرير: حدثت عن روح بن عبادة، ثنا سعيد، عن قتادة قال: نزل القرآن على رسول الله ﷺ ثماني سنين بمكة، وعشرا بالمدينة.

وكان الحسن يقول: عشرا بمكة، وعشرا بالمدينة، وهذا القول الآخر الذي ذهب إليه الحسن البصري من أنه أقام بمكة عشر سنين ذهب إليه أنس بن مالك وعائشة وسعيد بن المسيب وعمرو بن دينار فيما رواه ابن جرير عنهم.

وهو رواية عن ابن عباس رواها أحمد بن حنبل، عن يحيى بن سعيد، عن هشام، عن عكرمة، عن ابن عباس.

قال: أنزل على النبي ﷺ وهو ابن ثلاث وأربعين، فمكث بمكة عشرا.

وقد قدمنا عن الشعبي أنه قال: قرن إسرافيل برسول الله ﷺ ثلاث سنين يلقي إليه الكلمة والشيء، وفي رواية: يسمع حسه ولا يرى شخصه، ثم كان بعد ذلك جبريل.

وقد حكى الواقدي عن بعض مشايخه: أنه أنكر قول الشعبي هذا، وحاول ابن جرير أن يجمع بين قول من قال إنه عليه السلام أقام بمكة عشرا، وقول من قال ثلاث عشرة بهذا الذي ذكره الشعبي والله أعلم.

فصل تأسيس مسجد قباء

ولما حل الركاب النبوي بالمدينة، وكان أول نزوله بها في دار بني عمرو بن عوف وهي قباء كما تقدم فأقام بها - أكثر ما قيل -: ثنتين وعشرين ليلة، وقيل: ثماني عشرة ليلة.

وقيل: بضع عشرة ليلة.

وقال موسى بن عقبة: ثلاث ليال.

والأشهر ما ذكره ابن إسحاق وغيره أنه عليه السلام أقام فيهم بقباء من يوم الاثنين إلى يوم الجمعة.

وقد أسس في هذه المدة المختلف في مقدارها - على ما ذكرناه - مسجد قباء.

وقد ادعى السهيلي: أن رسول الله ﷺ أسسه في أول يوم قدم إلى قباء وحمل على ذلك قوله تعالى: «لمسجد أسس على التقوى من أول يوم».

ورد قول من أعربها: من تأسيس أول يوم، وهو مسجد شريف فاضل نزل فيه قوله تعالى: { لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } [103]، كما تكلمنا على تقرير ذلك في التفسير وذكرنا الحديث الذي في (صحيح مسلم) أنه مسجد المدينة والجواب عنه.

وذكرنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا حسن بن محمد، ثنا أبو إدريس، ثنا شرحبيل، عن عويم بن ساعدة: أنه حدثه أن رسول الله ﷺ أتاهم في مسجد قباء فقال: «إن الله قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم فما هذا الطهور الذي تطهرون به؟».

قالوا: والله يا رسول الله ما نعلم شيئا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا.

وأخرجه ابن خزيمة في (صحيحه) وله شواهد أخر.

وروي عن خزيمة بن ثابت، ومحمد بن عبد الله بن سلام، وابن عباس.

وقد روى أبو داود، والترمذي، وابن ماجه من حديث يونس بن الحارث، عن إبراهيم بن أبي ميمونة، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: نزلت هذه الآية في أهل قباء: { فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المتطهرين }.

قال: كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية.

ثم قال الترمذي: غريب من هذا الوجه.

قلت: ويونس بن الحارث هذا ضعيف والله أعلم.

وممن قال: بأنه المسجد الذي أسس على التقوى ما رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير.

ورواه علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، وحكى عن الشعبي، والحسن البصري، وقتادة، وسعيد بن جبير، وعطية العوفي، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم.

وقد كان النبي ﷺ يزوره فيما بعد ويصلي فيه، وكان يأتي قباء كل سبت تارة راكبا وتارةً ماشيا.

وفي الحديث: «صلاة في مسجد قباء كعمرة».

وقد ورد في حديث: أن جبرائيل عليه السلام هو الذي أشار للنبي ﷺ إلى موضع قبلة مسجد قباء، فكان هذا المسجد أول مسجد بني في الإسلام بالمدينة، بل أول مسجد جعل لعموم الناس في هذه الملة.

واحترزنا بهذا عن المسجد الذي بناه الصديق بمكة عند باب داره يتعبد فيه ويصلي لأن ذاك كان لخاصة نفسه لم يكن للناس عامة والله أعلم.

وقد تقدم إسلام سلمان في البشارات، وأن سلمان الفارسي لما سمع بقدوم رسول الله ﷺ إلى المدينة ذهب إليه وأخذ معه شيئا فوضعه بين يديه وهو بقباء قال: هذا صدقة، فكفَّ رسول الله ﷺ فلم يأكله وأمر أصحابه فأكلوا منه، ثم جاء مرة أخرى ومعه شيء فوضعه وقال: هذه هدية فأكل منه وأمر أصحابه فأكلوا.

تقدم الحديث بطوله.

فصل في إسلام عبد الله بن سلام

قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، ثنا عوف، عن زرارة، عن عبد الله بن سلام.

قال: لما قدم رسول الله ﷺ المدينة انجفل الناس، فكنت فيمن انجفل، فلما تبينت وجهه عرفت أنه ليس بوجه كذاب.

فكان أول شيء سمعته يقول: «يا أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام».

ورواه الترمذي، وابن ماجه، من طرق عن عوف الأعرابي، عن زرارة بن أبي أوفى به عنه.

وقال الترمذي: صحيح.

ومقتضى هذا السياق يقتضي أنه سمع بالنبي ﷺ ورآه أول قدومه حين أناخ بقباء في بني عمرو بن عوف.

وتقدم في رواية عبد العزيز بن صهيب، عن أنس أنه اجتمع به حين أناخ عند دار أبي أيوب عند ارتحاله من قباء إلى دار بني النجار كما تقدم.

فلعله رآه أول ما رآه بقباء، واجتمع به بعد ما صار إلى دار بني النجار، والله أعلم.

وفي سياق البخاري من طريق عبد العزيز عن أنس.

قال: فلما جاء النبي ﷺ جاء عبد الله بن سلام فقال: أشهد أنك رسول الله وأنك جئت بحق، وقد علمت يهود أني سيدهم وابن سيدهم وأعلمهم وابن أعلمهم فادعهم فسلهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت قالوا فيَّ ما ليس فيَّ.

فأرسل نبي الله ﷺ إلى اليهود فدخلوا عليه.

فقال لهم: «يا معشر اليهود ويلكم، اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقا وأني جئتكم بحق فأسلموا».

قالوا: ما نعلمه.

قالوا ذلك للنبي ﷺ قالها ثلاث مرار.

قال: «فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟»

قالوا: ذاك سيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا.

قال: «أفرأيتم إن أسلم؟»

قالوا: حاش لله ما كان ليسلم.

قال: «يا ابن سلام اخرج عليهم» فخرج فقال: يا معشر يهود اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله وأنه جاء بالحق.

فقالوا: كذبت.

فأخرجهم رسول الله ﷺ، هذا لفظه.

وفي رواية: فلما خرج عليهم شهد شهادة الحق.

قالوا: شَرُّنَا وابن شَرِّنَا، وتنقصوه فقال: يا رسول الله هذا الذي كنت أخاف.

وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا الأصم، حدثنا محمد بن إسحاق الصنعاني، ثنا عبد الله بن أبي بكر، ثنا حميد، عن أنس.

قال: سمع عبد الله بن سلام بقدوم النبي ﷺ - وهو في أرض له - فأتى النبي ﷺ فقال: إني أسائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟

قال: «أخبرني بهن جبريل آنفا».

قال: جبريل؟

قال: «نعم!»

قال: عدو اليهود من الملائكة.

ثم قرأ: { مَنْ كَانَ عَدُوّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ } [104]

قال: «أما أول أشراط الساعة: فنار تخرج على الناس من المشرق تسوقهم إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة: فزيادة كبد حوت، وأما الولد: فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد إلى أبيه، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت الولد».

فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت وأنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني.

فجاءت اليهود فقال: «أي رجل عبد الله بن سلام فيكم؟»

قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا.

قال: «أرأيتم إن أسلم؟»

قالوا: أعاذه الله من ذلك.

فخرج عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله.

قالوا: شرنا وابن شرنا وانتقصوه.

قال: هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله.

ورواه البخاري، عن عبد بن منير، عن عبد الله بن أبي بكر به.

ورواه عن حامد بن عمر، عن بشر بن المفضل، عن حميد به.

قال محمد بن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر، عن يحيى بن عبد الله، عن رجل من آل عبد الله بن سلام قال: كان من حديث عبد الله بن سلام حين أسلم - وكان حبرا عالما - قال: لما سمعت برسول الله وعرفت صفته واسمه وهيئته وزمانه الذي كنا نتوكف له، فكنت بقباء مسرا بذلك صامتا عليه حتى قدم رسول الله ﷺ المدينة، فلما قدم نزل بقباء في بني عمرو بن عوف.

فأقبل رجل حتى أخبر بقدومه، وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها، وعمتي خالدة بنت الحارث تحتي جالسة، فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله ﷺ كـَّبرتُ، فقالت لي عمتي حين سمعت تكبيري: لو كنت سمعت بموسى بن عمران مازدت.

قال: قلت لها: أي عمه، والله هو أخو موسى بن عمران وعلى دينه بعث بما بعث به.

قال: فقالت له: يا ابن أخي أهو الذي كنا نخبر أنه يبعث مع نفس الساعة؟

قال: قلت لها: نعم!

قالت: فذاك إذا.

قال: فخرجت إلى رسول الله ﷺ فأسلمت ثم رجعت إلى أهل بيتي فأمرتهم فأسلموا وكتمت إسلامي من اليهود وقلت: يا رسول الله إن اليهود قوم بهت، وإني أحب أن تدخلني في بعض بيوتك فتغيبني عنهم، ثم تسألهم عني فيخبروك كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا بإسلامي، فإنهم إن يعلموا بذلك بهتوني وعابوني، وذكر نحو ما تقدم.

قال: فأظهرت إسلامي وإسلام أهل بيتي وأسلمت عمتي خالدة بنت الحارث فحسن إسلامها.

وقال يونس بن بكير: عن محمد بن إسحاق، حدثني عبد الله بن أبي بكر، حدثني محدث، عن صفية بنت حيي قالت:

لم يكن أحد من أبي وعمي أحب إليهما مني، لم ألقهما في ولد لهما قط أهش إلا أخذاني دونه، فلما قدم رسول ﷺ قباء - قرية بني عمرو بن عوف - غدا إليه أبي وعمي أبو ياسر بن أخطب مغلسين، فوالله ما جاآنا إلا مع مغيب الشمس.

فجاآنا فاترين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينا، فهششت إليهما كما كنت أصنع فوالله ما نظر إلي واحد منهما، فسمعت عمي أبا ياسر يقول لأبي: أهو هو؟

قال: نعم والله!

قال: تعرفه بنعته وصفته؟

قال نعم والله!

قال: فماذا في نفسك منه؟

قال: عداوته والله ما بقيت.

وذكر موسى بن عقبة، عن الزهري: أن أبا ياسر بن أخطب حين قدم رسول الله ﷺ المدينة ذهب إليه وسمع منه وحادثه، ثم رجع إلى قومه فقال: يا قوم أطيعونِ فإن الله قد جاءكم بالذي كنتم تنتظرون، فاتبعوه ولا تخالفوه فانطلق أخوه حيي بن أخطب - وهو يومئذ سيد اليهود، وهما من بني النضير - فجلس إلى رسول الله وسمع منه، ثم رجع إلى قومه - وكان فيهم مطاعا - فقال: أتيت من عند رجل والله لا أزال له عدوا أبدا.

فقال له أخوه أبو ياسر: يا ابن أم أطعني في هذا الأمر واعصني فيما شئت بعده لا تهلك.

قال: والله لا أطيعك أبدا، واستحوذ عليه الشيطان واتبعه قومه على رأيه.

قلت: أما أبو ياسر واسمه وأما حيي بن أخطب فلا أدري ما آل إليه أمره، وأما حيي بن أخطب والد صفية بنت حيي فشرب عداوة النبي ﷺ وأصحابه، ولم يزل ذلك دأبه لعنه الله حتى قتل صبرا بين يدي رسول الله ﷺ يوم قتل مقاتلة بني قريظة كما سيأتي، إن شاء الله.

فصل خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ

ولما ارتحل عليه السلام من قباء وهو راكب ناقته القصواء وذلك يوم الجمعة أدركه وقت الزوال وهو في دار بني سالم بن عوف، فصلى بالمسلمين الجمعة هنالك، في واد يقال له: وادي رانواناء فكانت أول جمعة صلاها رسول الله ﷺ بالمسلمين بالمدينة، أو مطلقا لأنه والله أعلم لم يكن يتمكن هو وأصحابه بمكة من الاجتماع حتى يقيموا بها جمعة ذات خطبة وإعلان بموعظة وما ذاك إلا لشدة مخالفة المشركين له، وأذيتهم إياه.

ذكر خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ

قال ابن جرير: حدثني يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، عن سعيد بن عبد الرحمن الجمحي: أنه بلغه عن خطبة النبي ﷺ في أول جمعة صلاها بالمدينة في بني سالم بن عمرو بن عوف رضي الله عنهم: «الحمد لله أحمده وأستعينه، وأستغفره وأستهديه، وأومن به ولا أكفره، وأعادي من يكفره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق والنور والموعظة على فترة من الرسل، وقلة من العلم، وضلالة من الناس، وانقطاع من الزمان، ودنو من الساعة، وقرب من الأجل.

من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى وفرط وضل ضلالا بعيدا، وأوصيكم بتقوى الله فإنه خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضه على الآخرة، وأن يأمره بتقوى الله، فاحذروا ما حذركم الله من نفسه، ولا أفضل من ذلك نصيحة، ولا أفضل من ذلك ذكرى.

وإنه تقوى لمن عمل به على وجل ومخافة من ربه، وعون صدق على ما تبتغون من أمر الآخرة، ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمر السر والعلانية لا ينوي بذلك إلا وجه الله يكن له ذكرا في عاجل أمره وذخرا فيما بعد الموت، حين يفتقر المرء إلى ما قدم، وما كان من سوى ذلك يود لو أن بينه وبينه أمدا بعيدا، ويحذركم الله نفسه والله رؤف بالعباد.

والذي صدق قوله، وأنجز وعده، لأخلف لذلك فإنه يقول تعالى: { ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد } واتقوا الله في عاجل أمركم وآجله في السر والعلانية فإنه { من يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا } { ومن يتق الله فقد فاز فوزا عظيما } وإن تقوى الله توقي مقته، وتوقي عقوبته، وتوقي سخطه.

وإن تقوى الله تبيض الوجه، وترضي الرب، وترفع الدرجة، خذوا بحظكم ولا تفرطوا في جنب الله قد علمكم الله كتابه، ونهج لكم سبيله ليعلم الذين صدقوا وليعلم الكاذبين فأحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وسماكم المسلمين ليهلك من هلك عن بينة ويحي من حي عن بينة ولا قوة إلا بالله، فأكثروا ذكر الله واعملوا لما بعد الموت فإنه من أصلح ما بينه وبين الله يكفه ما بينه وبين الناس ذلك بأن الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه، ويملك من الناس ولا يملكون منه، الله أكبر ولا قوة إلا بالله العلي العظيم».

هكذا أوردها ابن جرير وفي السند إرسال.

وقال البيهقي: باب - أول خطبة خطبها رسول الله ﷺ حين قدم المدينة -:

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو العباس الأصم، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، ثنا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدثني المغيرة بن عثمان بن محمد بن عثمان، والأخنس بن شريق، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال: كانت أول خطبة خطبها رسول الله ﷺ بالمدينة أن قام فيها فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: «أما بعد: أيها الناس فقدموا لأنفسكم، تعلمن والله ليصعقن أحدكم، ثم ليدعن غنمه ليس لها راع، ثم ليقولن له ربه - ليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه - ألم يأتك رسولي فبلغك، وآتيتك مالا، وأفضلت عليك، فما قدمت لنفسك؟ فينظر يمينا وشمالا فلا يرى شيئا، ثم ينظر قدَّامه فلا يرى غير جهنم، فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة فإن بها تجزي الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف والسلام على رسول الله ورحمة الله وبركاته».

ثم خطب رسول الله ﷺ مرة أخرى فقال: «أن الحمد لله أحمده وأستعينه، نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إن أحسن الحديث كتاب الله، قد أفلح من زينه الله في قلبه وأدخله في الإسلام بعد الكفر واختاره على ما سواه من أحاديث الناس، إنه أحسن الحديث وأبلغه، أحبوا من أحب الله، أحبوا الله من كل قلوبكم ولا تملوا كلام الله وذكره ولا تقسى عنه قلوبكم فإنه من يختار الله ويصطفي فقد سماه خيرته من الأعمال، وخيرته من العباد.

والصالح من الحديث ومن كل ما أوتي الناس من الحلال والحرام فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا واتقوه حق تقاته واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم وتحابوا بروح الله بينكم إن الله يغضب أن ينكث عهده والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته».

وهذه الطريق أيضا مرسلة إلا أنها مقوية لما قبلها وإن اختلفت الألفاظ.

فصل في بناء مسجده الشريف ومقامه بدار أبي أيوب

وقد أُختلف في مدة مقامه بها، فقال الواقدي: سبعة أشهر، وقال غيره: أقل من شهر والله أعلم.

قال البخاري: حدثنا إسحاق بن منصور، أخبرنا عبد الصمد، قال: سمعت أبي يحدث فقال: حدثنا أبو التياح يزيد بن حميد الضبي، حدثنا أنس بن مالك.

قال: لما قدم رسول الله ﷺ المدينة نزل في علو المدينة في حي يقال لهم: بنو عمرو بن عوف، فأقام فيهم أربع عشرة ليلة ثم أرسل إلى ملأ بني النجار فجاؤا متقلدي سيوفهم، قال: وكأني أنظر إلى رسول الله ﷺ على راحلته وأبو بكر ردفه، وملأ بني النجارى حوله حتى ألقي بفناء أبي أيوب، قال: فكان يصلي حيث أدركته الصلاة، ويصلي في مرابض الغنم، قال: ثم أمر ببناء المسجد فأرسل إلى ملأ بني النجار فجاؤوا فقال: «يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا».

فقالوا: لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله عز وجل، قال: فكان فيه ما أقول لكم، كانت فيه قبور المشركين، وكانت فيه خرب، وكان فيه نخل، فأمر رسول الله ﷺ بقبور المشركين فنبشت، وبالخرب فسويت، وبالنخل فقطع.

قال: فصفوا النخل قبلة المسجد، وجعلوا عضادتيه حجارة، قال: فجعلوا ينقلون ذلك الصخر وهم يرتجزون، ورسول الله ﷺ معهم

يقول: «اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة * فانصر الأنصار والمهاجرة»

وقد رواه البخاري في مواضع أخر ومسلم من حديث أبي عبد الصمد وعبد الوارث بن سعيد.

وقد تقدم في (صحيح البخاري) عن الزهري عن عروة أن المسجد الذي كان مربدا - وهو بيدر التمر - ليتيمين كانا في حجر أسعد بن زرارة وهما سهل وسهيل، فساومهما فيه رسول الله ﷺ فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله فأبى حتى ابتاعه منهما وبناه مسجدا.

قال: وجعل رسول الله ﷺ يقول وهو ينقل معهم التراب: «هذا الحمال لا حمال خيبر * هذا أبر ربنا وأطهر»

ويقول: «لا هم إن الأجر أجر الآخره * فارحم الأنصار والمهاجرة»

وذكر موسى بن عقبة أن أسعد بن زرارة عوضهما منه نخلا له في بياضة، قال: وقيل: ابتاعه منهما رسول الله ﷺ.

قلت: وذكر محمد ابن إسحاق أن المربد كان لغلامين يتيمين في حجر معاذ بن عفراء وهما: سهل وسهيل ابنا عمرو فالله أعلم.

وروى البيهقي: من طريق أبي بكر بن أبي الدنيا، حدثنا الحسن بن حماد الضبي، ثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن.

قال: لما بنى رسول الله ﷺ المسجد أعانه عليه أصحابه وهو معهم يتناول اللبن حتى أغبر صدره، فقال: «ابنوه عريشا كعريش موسى».

فقلت للحسن: ما عريش موسى؟

قال: إذا رفع يديه بلغ العريش - يعني: السقف - وهذا مرسل.

وروى من حديث حماد بن سلمة، عن أبي سنان عن يعلى بن شداد بن أوس، عن عبادة: أن الأنصار جمعوا مالا فأتوا به النبي ﷺ فقالوا يا رسول الله: ابن هذا المسجد وزينه، إلى متى نصلي تحت هذا الجريد؟

فقال: «ما بي رغبة عن أخي موسى، عريش كعريش موسى» وهذا حديث غريب من هذا الوجه.

وقال أبو داود: حدثنا محمد بن حاتم، حدثنا عبد الله بن موسى، عن سنان، عن فراس، عن عطية العوفي، عن ابن عمر أن مسجد النبي ﷺ كانت سواريه على عهد رسول الله ﷺ من جذوع النخل، أعلاه مظلل بجريد النخل، ثم إنها تخربت في خلافة أبي بكر، فبناها بجذوع جريد النخل، ثم إنها تخربت في خلافة عثمان فبناها بالآجر، فما زالت ثابتة حتى الآن، وهذا غريب.

وقد قال أبو داود أيضا: حدثنا مجاهد بن موسى، حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثني أبي، عن أبي صالح، ثنا نافع عن ابن عمر أخبره أن المسجد كان على عهد رسول الله ﷺ مبنيا باللبن، وسقفه الجريد، وعمده خشب النخل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئا، وزاد فيه عمر، وبناه على بنائه في عهد النبي ﷺ باللبن والجريد وأعاد عمده خشبا.

وغيره عثمان رضي الله عنه وزاد فيه زيادة كثيرة، وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقصة، وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالساج وهكذا رواه البخاري عن علي بن المديني عن يعقوب بن إبراهيم به.

قلت: زاده عثمان بن عفان رضي الله عنه متأولا قوله ﷺ: «من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة».

ووافقه الصحابة الموجودون على ذلك ولم يغيروه بعده، فيستدل بذلك على الراجح من قول العلماء أن حكم الزيادة حكم المزيد فتدخل الزيادة في حكم سائر المسجد من تضعيف الصلاة فيه وشد الرحال إليه، وقد زيد في زمان الوليد بن عبد الملك باني جامع دمشق زاده له بأمره عمر بن عبد العزيز حين كان نائبه على المدينة وأدخل الحجرة النبوية فيه كما سيأتي بيانه في وقته.

ثم زيد زيادة كثيرة فيما بعد، وزيد من جهة القبلة حتى صارت الروضة والمنبر بعد الصفوف المقدمة كما هو المشاهد اليوم.

قال ابن إسحاق: ونزل رسول الله على أبي أيوب حتى بنى مسجده ومساكنه، وعمل فيه رسول الله ﷺ ليرغّب المسلمين في العمل فيه.

فعمل فيه المهاجرون والأنصار ودأبوا فيه.

فقال قائل من المسلمين:

لئن قعدنا والنبي يعمل * لذاك منا العمل المضلل

وارتجز المسلمون وهم يبنونه يقولون:

لا عيش إلا عيش الآخره * اللهم ارحم الأنصار والمهاجرة

فيقول رسول الله ﷺ: «لا عيش إلا عيش الآخرة، اللهم ارحم المهاجرين والأنصار».

قال: فدخل عمار بن ياسر وقد أثقلوه باللَّبِن فقال: يا رسول الله: قتلوني يحملون علي ما لا يحملون.

قالت أم سلمة: فرأيت رسول الله ﷺ ينفض وفرته بيده - وكان رجلا جعدا - وهو يقول: «ويح ابن سمية ليسوا بالذين يقتلونك إنما يقتلك الفئة الباغية».

وهذا منقطع من هذا الوجه بل هو معضل بين محمد بن إسحاق وبين أم سلمة وقد وصله مسلم في (صحيحه) من حديث شعبة، عن خالد الحذاء، عن سعيد والحسن - يعني: ابني أبي الحسن البصري - عن أمهما خيرة مولاة أم سلمة، عن أم سلمة قالت: قال رسول الله ﷺ: «تقتل عمار الفئة الباغية».

ورواه من حديث ابن علية، عن ابن عون، عن الحسن، عن أمه، عن أم سلمة أن رسول الله ﷺ قال لعمار وهو ينقل الحجارة: «ويح لك يا ابن سمية تقتلك الفئة الباغية».

وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن الحسن يحدث، عن أمه، عن أم سلمة قالت: لما كان رسول الله ﷺ وأصحابه يبنون المسجد، جعل أصحاب النبي ﷺ يحمل كل واحد لبنة لبنة، وعمار يحمل لبنتين لبنة عنه ولبنة عن النبي ﷺ فمسح ظهره.

وقال: «ابن سمية، للناس أجر ولك أجران، وآخر زادك شربة من لَبن وتقتلك الفئة الباغية».

وهذا إسناد على شرط (الصحيحين).

وقد أورد البيهقي وغيره من طريق جماعة عن خالد الحذاء، عن عكرمة، عن أبي سعيد الخدري.

قال: كنا نحمل في بناء المسجد لبنة لبنة، وعمار يحمل لبنتين لبنتين.

فرآه النبي ﷺ فجعل ينفض التراب عنه

ويقول: «ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار».

قال: يقول عمار: أعوذ بالله من الفتن.

لكن روى هذا الحديث الإمام البخاري، عن مسدد، عن عبد العزيز بن المختار، عن خالد الحذاء، وعن إبراهيم بن موسى، عن عبد الوهاب الثقفي، عن خالد الحذاء به إلا أنه لم يذكر قوله: «تقتلك الفئة الباغية».

قال البيهقي: وكأنه إنما تركها لما رواه مسلم من طريق عن أبي نضرة، عن أبي سعيد قال: أخبرني من هو خير مني أن رسول الله ﷺ قال لعمار حين جعل يحفر الخندق، جعل يمسح رأسه ويقول: «بؤس ابن سمية تقتلك فئة باغية».

وقد رواه مسلم أيضا من حديث شعبة، عن أبي مسلم، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد قال: حدثني من هو خير مني - أبو قتادة - أن رسول الله ﷺ قال لعمار بن ياسر: «بؤسا لك يا ابن سمية تقتلك الفئة الباغية».

وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا وهيب عن داود بن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد أن رسول الله ﷺ لما حفر الخندق كان الناس يحملون لبنة لبنة، وعمار - ناقه من وجع كان به - فجعل يحمل لبنتين لبنتين قال أبو سعيد: فحدثني بعض أصحابي أن رسول الله ﷺ كان ينفض التراب عن رأسه ويقول: «ويحك ابن سمية تقتلك الفئة الباغية».

قال البيهقي: فقد فرق بين ما سمعه بنفسه وما سمعه من أصحابه.

قال: ويشبه أن يكون قوله: الخندق وهما أو أنه قال له ذلك في بناء المسجد وفي حفر الخندق والله أعلم.

قلت: حمل اللبن في حفر الخندق لا معنى له، والظاهر أنه اشتبه على الناقل والله أعلم.

وهذا الحديث من (دلائل النبوة) حيث أخبر صلوات الله وسلامه عليه عن عمار أنه تقتله الفئة الباغية وقد قتله أهل الشام في وقعة صفين وعمار مع علي وأهل العراق كما سيأتي بيانه وتفصيله في موضعه.

وقد كان علي أحق بالأمر من معاوية.

ولا يلزم من تسمية أصحاب معاوية بغاة تكفيرهم كما يحاوله جهلة الفرقة الضالة من الشيعة وغيرهم لأنهم وإن كانوا بغاة في نفس الأمر فإنهم كانوا مجتهدين فيما تعاطوه من القتال وليس كل مجتهد مصيبا بل المصيب له أجران والمخطئ له أجر.

ومن زاد في هذا الحديث بعد تقتلك الفئة الباغية - لا أنالها الله شفاعتي يوم القيامة - فقد افترى في هذه الزيادة على رسول الله ﷺ، فإنه لم يقلها إذ لم تنقل من طريق تقبل والله أعلم.

وأما قوله: «يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار»، فإن عمارا وأصحابه يدعون أهل الشام إلى الألفة واجتماع الكلمة.

وأهل الشام يريدون أن يستأثروا بالأمر دون من هو أحق به، وأن يكون الناس أوزاعا على كل قطر إمام برأسه، وهذا يؤدي إلى افتراق الكلمة واختلاف الأمة فهو لازم مذهبهم وناشئ عن مسلكهم، وإن كانوا لا يقصدونه والله أعلم.

وسيأتي تقرير هذه المباحث إذا انتهينا إلى وقعة صفين من كتابنا هذا بحول الله وقوته وحسن تأييده وتوفيقه والمقصود ههنا إنما هو قصة بناء المسجد النبوي على بانيه أفضل الصلاة والتسليم.

وقد قال الحافظ البيهقي في (الدلائل): حدثنا أبو عبد الله الحافظ املاء، ثنا أبو بكر بن إسحاق، أخبرنا عبيد بن شريك، ثنا نعيم بن حماد، ثنا عبد الله بن المبارك، أخبرنا حشرج بن نباتة، عن سعيد ابن جمهان، عن سفينة مولى رسول الله ﷺ.

قال: لما بنى رسول الله ﷺ المسجد جاء أبو بكر بحجر فوضعه، ثم جاء عمر بحجر فوضعه، ثم جاء عثمان بحجر فوضعه.

فقال رسول الله ﷺ: «هؤلاء ولاة الأمر بعدي».

ثم رواه من حديث يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن حشرج، عن سعيد، عن سفينة.

قال: لما بنى رسول الله ﷺ المسجد وضع حجرا.

ثم قال: «ليضع أبو بكر حجرا إلى جنب حجري، ثم ليضع عمر حجره إلى جنب حجر أبي بكر، ثم ليضع عثمان حجره إلى جنب حجر عمر» فقال رسول الله ﷺ: «هؤلاء الخلفاء من بعدي»، وهذا الحديث بهذا السياق غريب جدا.

والمعروف ما رواه الإمام أحمد، عن أبي النضر، عن حشرج بن نباتة العبسي، وعن بهز وزيد بن الحباب وعبد الصمد وحماد بن سلمة كلاهما، عن سعيد بن جمهان، عن سفينة قال: سمعت رسول الله يقول: «الخلافة ثلاثون عاما، ثم يكون من بعد ذلك الملك».

ثم قال سفينة: أمسك؛ خلافة أبي بكر سنتين، وخلافة عمر عشر سنين، وخلافة عثمان اثنتا عشرة سنة، وخلافة علي ست سنين، هذا لفظ أحمد.

ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من طرق، عن سعيد بن جمهان، وقال الترمذي: حسن لا نعرفه إلا من حديثه ولفظه «الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم يكون ملكا عضوضا» وذكر بقيته.

قلت: ولم يكن في مسجد النبي ﷺ أول ما بني منبر يخطب الناس عليه، بل كان النبي ﷺ يخطب الناس وهو مستندا إلى جذع عند مصلاه في الحائط القبلي فلما اتخذ له عليه السلام المنبر كما سيأتي بيانه في موضعه وعدل إليه ليخطب عليه.

فلما جاوز ذلك الجذع خار ذلك الجذع وحنَّ حنين النوق العشار لما كان يسمع من خطب الرسول عليه السلام عنده، فرجع إليه النبي ﷺ فاحتضنه حتى سكن كما يسكن المولود الذي يسكت كما سيأتي تفصيل ذلك من طرق عن سهل بن سعد الساعدي، وجابر وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وأنس بن مالك، وأم سلمة رضي الله عنهم.

وما أحسن ما قال الحسن البصري بعد ما روى هذا الحديث عن أنس بن مالك: يا معشر المسلمين: الخشبة تحن إلى رسول الله ﷺ شوقا إليه، أو ليس الرجال الذين يرجون لقاءه أحق أن يشتاقوا إليه؟

تنبيه على فضل هذا المسجد الشريف

قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن أنيس بن أبي يحيى، حدثني أبي.

قال: سمعت أبا سعيد الخدري قال: اختلف رجلان رجل من بني خدرة ورجل من بني عمرو بن عوف في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال الخدري: هو مسجد رسول الله ﷺ وقال العمري: هو مسجد قباء، فأتيا رسول الله ﷺ فسألاه عن ذلك فقال: «هو هذا المسجد» لمسجد رسول الله ﷺ وقال: «في ذلك خير كثير» يعني مسجد قباء.

ورواه الترمذي، عن قتيبة، عن حاتم بن إسماعيل، عن أنيس بن أبي يحيى الأسلمي به وقال: حسن صحيح.

وروى الإمام أحمد، عن إسحاق بن عيسى، عن الليث بن سعد والترمذي والنسائي جميعا، عن قتيبة، عن الليث، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه قال: تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى وذكر نحو ما تقدم.

وفي (صحيح مسلم) من حديث حميد الخراط، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سأل عبد الرحمن بن أبي سعيد: كيف سمعت أباك في المسجد الذي أسس على التقوى؟

قال أبي: أتيت رسول الله ﷺ فسألته عن المسجد الذي أسس على التقوى فأخذ كفا من حصباء فضرب به الأرض.

ثم قال: «هو مسجدكم هذا».

وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا ربيعة بن عثمان التميمي، عن عمران بن أبي أنس، عن سهيل بن سعد.

قال: اختلف رجلان على عهد رسول الله ﷺ في المسجد في الذي أسس على التقوى.

فقال أحدهما: هو مسجد رسول الله ﷺ وقال الآخر: هو مسجد قباء، فأتيا رسول الله ﷺ فسألاه، فقال: «هو مسجدي هذا».

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو نعيم، حدثنا عبد الله بن عامر الأسلمي، عن عمران بن أبي أنس، عن سهل بن سعد، عن أبي بن كعب أن النبي ﷺ قال: «المسجد الذي أسس على التقوى مسجدي هذا».

فهذه طرق متعددة لعلها تقرب من إفادة القطع بأنه مسجد الرسول ﷺ وإلى هذا ذهب عمر وابنه عبد الله، وزيد بن ثابت، وسعيد بن المسيب واختاره ابن جرير.

وقال آخرون: لا منافاة بين نزول الآية في مسجد قباء كما تقدم بيانه، وبين هذه الأحاديث، لأن هذا المسجد أولى بهذه الصفة، من ذلك لأن هذا أحد المساجد الثلاثة التي تشد الرحال إليها كما ثبت في (الصحيحين) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ مسجدي هذا، والمسجد الحرام، ومسجد بيت المقدس» وفي صحيح مسلم، عن أبي سعيد، عن النبي ﷺ قال: «لا تشدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» وذكرها.

وثبت في (الصحيحين) أن رسول الله ﷺ قال: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام».

وفي (مسند أحمد) بأسناد حسن زيادة حسنة وهي قوله: «فإن ذلك أفضل».

وفي (الصحيحين) من حديث يحيى القطان، عن حبيب، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي».

والأحاديث في فضائل هذا المسجد الشريف كثيرة جدا وسنوردها في كتاب (المناسك من كتاب الأحكام الكبير) إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.

وقد ذهب الإمام مالك وأصحابه إلى أن مسجد المدينة أفضل من المسجد الحرام لأن ذاك بناه إبراهيم، وهذا بناه محمد ﷺ، ومعلوم أن محمدا ﷺ أفضل من إبراهيم عليه السلام.

وقد ذهب الجمهور إلى خلاف ذلك وقرروا أن المسجد الحرام أفضل لأنه في بلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، وحرمه إبراهيم الخليل عليه السلام، ومحمد خاتم المرسلين، فاجتمع فيه من الصفات ما ليس في غيره، وبسط هذه المسألة موضع آخر وبالله المستعان.

فصل بناء الحجرات لرسول الله حول مسجده الشريف

وبني لرسول الله ﷺ حول مسجده الشريف حُجر لتكون مساكن له ولأهله وكانت مساكن قصيرة البناء قريبة الفناء قال الحسن بن أبي الحسن البصري - وكان غلاما مع أمه خيرة مولاة أم سلمة -: لقد كنت أنال أطول سقف في حجر النبي ﷺ بيدي.

قلت: إلا أنه قد كان الحسن البصري شكلا ضخما طوالا رحمه الله.

وقال السهيلي (في الروض): كانت مساكنه عليه السلام مبنية من جريد عليه طين بعضها من حجارة مرضومة وسقوفها كلها من جريد.

وقد حكى عن الحسن البصري ما تقدم.

قال: وكانت حجره من شعر مربوطة بخشب من عرعر.

قال: وفي (تاريخ البخاري) أن بابه عليه السلام كان يقرع بالأظافير، فدلَّ على أنه لم يكن لأبوابه حلق.

قال: وقد أضيفت الحجر كلها بعد موت أزواج رسول الله ﷺ إلى المسجد.

قال الواقدي وابن جرير وغيرهما: ولما رجع عبد الله بن أريقط الدئلي إلى مكة بعث معه رسول الله ﷺ وأبو بكر زيد بن حارثة، وأبا رافع موليا رسول الله ﷺ ليأتوا بأهاليهم من مكة وبعثا معهم بحملين وخمسمائة درهم ليشتروا بها إبلا من قديد، فذهبوا فجاؤا ببنتي النبي ﷺ، فاطمة وأم كلثوم، وزوجتيه: سودة وعائشة، وأمها أم رومان، وأهل النبي ﷺ، وآل أبي بكر صحبة عبد الله بن أبي بكر.

وقد شرد بعائشة وأمها أم رومان الجمل في أثناء الطريق فجعلت أم رومان تقول: واعروساه، وابنتاه!

قالت عائشة: فسمعت قائلا يقول: أرسلي خطامه، فأرسلت خطامه فوقف بإذن الله وسلمنا الله عز وجل.

فتقدموا فنزلوا بالسنح، ثم دخل رسول الله ﷺ بعائشة في شوال بعد ثمانية أشهر كما سيأتي، وقدمت معهم أسماء بنت أبي بكر امرأة الزبير بن العوام وهي حامل متم بعبد الله بن الزبير كما سيأتي بيانه في موضعه من آخر هذه السنة.

فصل فيما أصاب المهاجرين من حمى المدينة

قال البخاري: حدثنا عبد الله بن وهب بن يوسف، ثنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: لما قدم رسول الله ﷺ المدينة وعك أبو بكر وبلال، قالت: فدخلت عليهما فقلت: يا أبه كيف تجدك؟ويا بلال كيف تجدك؟

قالت: وكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:

كل امرئ مصبح في أهله * والموت أدنى من شراك نعله

وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى يرفع عقيرته ويقول:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة * بواد وحولي اذخر وجليل

وهل أرِدن يوما مياه مجنة * وهل يبدون لي شامة وطفيل

قالت عائشة: فجئت رسول الله ﷺ فأخبرته فقال: «اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد وصححها وبارك لنا في صاعها ومدها، وانقل حماها فاجعلها بالجحفة».

ورواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن هشام مختصرا.

وفي رواية البخاري له عن أبي أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة فذكره وزاد بعد شعر بلال ثم يقول: اللهم العن عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأمية بن خلف كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء.

فقال رسول الله ﷺ: «اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم بارك لنا في صاعها وفي مدها وصححها لنا وانقل حماها إلى الجحفة».

قالت: وقدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله وكان بطحان يجري نجلا، - يعني: ماء آجنا -.

وقال زياد عن محمد بن إسحاق حدثني هشام بن عروة وعمر بن عبد الله بن عروة بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن عائشة قالت: لما قدم رسول الله ﷺ المدينة قدمها وهي أوبأ أرض الله من الحمى، فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم، وصرف الله ذلك عن نبيه.

قالت: فكان أبو بكر وعامر بن فهيرة وبلال موليا أبى بكر في بيت واحد، فأصابتهم الحمى، فدخلت عليهم أعودهم وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب، وبهم ما لا يعلمه إلا الله من شدة الوعك فدنوت من أبي بكر فقلت له: كيف تجدك يا أبه؟

فقال:

كل امرئ مصبح في أهله * والموت أدنى من شراك نعله

قالت: فقلت: والله ما يدرى أبي ما يقول، قالت: ثم دنوت إلى عامر بن فهيرة فقلت له: كيف تجدك يا عامر؟

قال:

لقد وجدت الموت قبل ذوقه * إن الجبان حتفه من فوقه

كل امرئ مجاهد بطوقه * كالثور يحمي جلده بروقه

قال: فقلت: والله ما يدري ما يقول.

قالت: وكان بلال إذا أدركته الحمى اضطجع بفناء البيت ثم رفع عقيرته فقال:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة * بفخ وحولي إذخر وجليل

وهل أرِدَّن يوما مياه مجنة * وهل يبدون لي شامة وطفيل

قالت عائشة: فذكرت لرسول الله ﷺ ما سمعت منهم وقلت: إنهم ليهذون وما يعقلون من شدة الحمى.

فقال: «اللهم حبب إلينا المدينة، كما حببت إلينا مكة أو أشد، وبارك لنا في مدها وصاعها، وانقل وباءها إلى مهيعة» ومهيعة: هي الجحفة.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يونس، ثنا ليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي بكر بن إسحاق بن يسار، عن عبد الله بن عروة، عن عروة، عن عائشة قالت: لما قدم رسول الله ﷺ المدينة اشتكى أبو بكر وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر وبلال، فاستأذنت عائشة رسول الله ﷺ في عيادتهم فأذن لها، فقالت لأبي بكر: كيف تجدك؟

فقال:

كل امرئ مصبح في أهله * والموت أدنى من شراك نعله

وسألت عامرا فقال:

إني وجدت الموت قبل ذوقه * إن الجبان حتفه من فوقه

وسألت بلالا فقال:

يا ليت شعري هل أبيتن ليلة * بفخ وحولي إذخر وجليل

فأتت رسول الله ﷺ فأخبرته، فنظر إلى السماء وقال: «اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة أو أشد، اللهم بارك لنا في صاعها وفي مدها، وانقل وباءها إلى مهيعة».

وهي الجحفة فيما زعموا.

وكذا رواه النسائي عن قتيبة عن الليث به، ورواه الإمام أحمد من طريق عبد الرحمن بن الحارث عنها مثله.

وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو.

قالا: ثنا أبو العباس الأصم، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، ثنا يونس بن بكير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: قدم رسول الله ﷺ المدينة وهي أوبأ أرض الله، وواديها بطحان نجل يجري عليه الأثل.

قال هشام: وكان وباؤها معروفا في الجاهلية، وكان إذا كان الوادي وبيئا فأشرف عليها الإنسان قيل له: أن ينهق نهيق الحمار، فإذا فعل ذلك لم يضره وباء ذلك الوادي.

وقد قال الشاعر حين أشرف على المدينة:

لعمري لئن عبرت من خيفة الردى * نهيق الحمار إنني لجزوع

وروى البخاري من حديث موسى بن عقبة: عن سالم بن عبد الله، عن أبيه أن النبي ﷺ قال: «رأيت كأن امرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت من المدينة حتى قامت بمهيعة وهي - الجحفة فأولتها أن وباء المدينة نقل إلى مهيعة وهي الجحفة -» هذا لفظ البخاري، ولم يخرجه مسلم، ورواه الترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه من حديث موسى بن عقبة.

وقد روى حماد بن زيد عن هشام بن عروة، عن عائشة قالت: قدم رسول الله ﷺ المدينة وهي وبيئة، فذكر الحديث بطوله إلى قوله «وانقل حماها إلى الجحفة».

قال هشام: فكان المولود يولد بالجحفة فلا يبلغ الحلم حتى تصرعه الحمى.

ورواه البيهقي في (دلائل النبوة).

وقال يونس عن ابن إسحاق: قدم رسول الله ﷺ المدينة وهي وبيئة.

فأصاب أصحابه بها بلاء وسقم حتى أجهدهم ذلك، وصرف الله ذلك عن نبيه ﷺ وقد ثبت في (الصحيحين) عن ابن عباس قال: قدم رسول الله ﷺ وأصحابه صبيحة رابعة - يعني: مكة - عام عمرة القضاء.

فقال المشركون: إنه يقدم عليكم وفد قد وهنهم حمى يثرب، فأمرهم رسول الله ﷺ أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بين الركنين، ولم يمنعه أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم.

قلت: وعمرة القضاء كانت في سنة سبع في ذي القعدة فأما أن يكون تأخر دعاؤه عليه السلام بنقل الوباء إلى قريب من ذلك، أو أنه رفع وبقي آثار منه قليل.

أو أنهم بقوا في خمار وما كان أصابهم من ذلك إلى تلك المدة والله أعلم.

وقال زياد: عن ابن إسحاق، وذكر ابن شهاب الزهري، عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أن رسول الله ﷺ لما قدم المدينة هو وأصحابه أصابتهم حمى المدينة حتى جهدوا مرضا، وصرف الله ذلك عن نبيه ﷺ حتى كانوا وما يصلون إلا وهم قعود.

قال: فخرج رسول الله ﷺ وهم يصلون كذلك فقال لهم: «اعلموا أن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم».

فتجشم المسلمون القيام على ما بهم من الضعف والسقم التماس الفضل.

فصل في عقده عليه السلام الألفة بين المهاجرين والأنصار بالكتاب

الذي أمر به فكتب بينهم والمؤاخاة التي أمرهم بها وقررهم عليها وموادعته اليهود الذين كانوا بالمدينة

وكان بها من أحياء اليهود بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة، وكان نزولهم بالحجاز قبل الأنصار أيام بخت نصر حين دوخ بلاد المقدس فيما ذكره الطبري.

ثم لما كان سيل العرم وتفرقت شذر مذر نزل الأوس والخزرج المدينة عند اليهود فحالفوهم، وصاروا يتشبهون بهم لما يرون لهم عليهم من الفضل في العلم المأثور عن الأنبياء لكن منَّ الله على هؤلاء الذين كانوا مشركين بالهدى والإسلام وخذل أولئك لحسدهم وبغيهم واستكبارهم عن اتباع الحق.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، ثنا حماد بن سلمة، ثنا عاصم الأحول، عن أنس بن مالك.

قال: حالف رسول الله ﷺ بين المهاجرين والأنصار في دار أنس بن مالك.

وقد رواه الإمام أحمد أيضا، والبخاري، ومسلم، وأبو داود من طرق متعددة عن عاصم بن سليمان الأحول، عن أنس بن مالك.

قال: حالف رسول الله ﷺ بين قريش والأنصار في داري.

وقال الإمام أحمد: حدثنا نصر بن باب، عن حجاج - هو ابن أرطأة - قال: وحدثنا سريج، ثنا عباد، عن حجاج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي ﷺ كتب كتابا بين المهاجرين والأنصار أن يعقلوا معاقلهم، وأن يفدوا عانيهم بالمعروف والإصلاح بين المسلمين.

قال أحمد: وحدثنا سريج، ثنا عباد، عن حجاج، عن الحكم، عن قاسم، عن ابن عباس مثله.

تفرد به الإمام أحمد.

وفي (صحيح مسلم) عن جابر: كتب رسول الله ﷺ على كل بطن عقولة.

دستور المدينة

وقال محمد ابن إسحاق: وكتب رسول الله ﷺ كتابا بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه يهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم، واشترط عليهم وشرط لهم.

«بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي الأمي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم.

-1- أنهم أمة واحدة من دون الناس.

-2- المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

-3-وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

ثم ذكر كل بطن من بطون الأنصار وأهل كل دار:

-4-وبنو الحارث على ربعتهم حسب المقطع الثالث.

-5-وبنو ساعدة على ربعتهم حسب المقطع الثالث.

-6-وبنوجشم على ربعتهم حسب المقطع الثالث.

-7-وبنو النجار على ربعتهم حسب المقطع الثالث.

-8-وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم حسب المقطع الثالث.

-9-وبنو النبيت على ربعتهم حسب المقطع الثالث.

-10-وبنو أوس على ربعتهم حسب المقطع الثالث.

إلى أن قال:

-11-وإن المؤمنين لا يتركون مفرحا بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أوعقل.

-12-ولا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه.

-13-وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى، دسيسة ظلم أو أثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين وأن أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد أحدهم.

-14-ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر ولا ينصر كافر على مؤمن.

-15-وأن ذمة الله واحدة: يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.

-16-وأنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا تناصر عليهم.

-17-وإن سلم المؤمنين واحدة: لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم.

-18-وأن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضا.

-19-وإن المؤمنين يبيء بعضهم بعضا بما نال دماءهم في سبيل الله وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه.

-20-وأنه لا يجبر مشرك مالا لقريش ولا نفسا ولا يحول دونه على مؤمن.

-21-وأنه من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولي المقتول، وأن المؤمنين عليه كافة ولا يحل لهم إلا قيام عليه.

-22-وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثنا ولا يؤويه وأنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل.

-23-وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد ﷺ.

-24-وأن اليهود يتفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.

-25-وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين: لليهود دينهم وللمسلمين دينهم ومواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.

-26-وأن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف.

-27-وأن ليهود بني الحرث مثل ما ليهود بني عوف.

-28-وأن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف.

-29-وأن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف.

-30-وأن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف.

-31-وأن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.

-32-وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم.

-33-وإن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف وأن البر دون الإثم.

-34-وأن موالي ثعلبة كأنفسهم.

-35-وأن بطانة يهود كأنفسهم.

-36-وأنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد وأنه لا ينحجر على ثأر جرح وأنه من فتك نفسه فتك وأهل بيته إلا من ظلم وأن الله على أبر من هذا.

-37-وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وأنه لم يأثم امرؤ بحليفه وأن النصر للمظلوم.

-38-وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.

-39-وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.

-40-وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.

-41-وأنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها.

-42-وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله، وأن الله على اتقى ما في هذه الصحيفة وأبره.

-43-وأنه لا تجار قريش ولا من نصرها.

-44-وأن بينهم النصر على من دهم يثرب.

-45-وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وأنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين، على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم.

-46-وأن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر الحسن من أهل هذه الصحيفة، وأن البر دون الإثم.

-47-لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وأن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره، وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وأنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم و أثم وأن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله ﷺ».

كذا أورده ابن إسحاق بنحوه.

وقد تكلم عليه أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله في كتاب (الغريب) وغيره بما يطول.

فصل في مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار

كما قال تعالى: { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [105].

وقال تعالى: { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدا } [106].

قال البخاري: حدثنا الصلت بن محمد، ثنا أبو أسامة، عن إدريس، عن طلحة بن مصرف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: { ولكل جعلنا موالي }.

قال: ورثة.

{ والذين عاقدت أيمانكم } كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه للأخوة التي آخى النبي ﷺ بينهم، فلما نزلت { ولكل جعلنا موالي } نسخت ثم قال: { والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } من النصر والرفادة والنصيحة، وقد ذهب الميراث ويوصى له.

وقال الإمام أحمد: قرئ على سفيان: سمعت عاصما، عن أنس قال: حالف النبي ﷺ بين المهاجرين والأنصار في دارنا قال سفيان: كأنه يقول: آخي.

وقال محمد بن إسحاق: وآخى رسول الله ﷺ بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، فقال - فيما بلغنا ونعوذ بالله أن نقول عليه ما لم يقل -: «تآخوا في الله أخوين أخوين»، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب فقال: «هذا أخي».

فكان رسول الله ﷺ سيد المرسلين، وإمام المتقين، ورسول رب العالمين، الذي ليس له خطير ولا نظير من العباد، وعلي بن أبي طالب أخوين، وكان حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله وعم رسول الله ﷺ وزيد بن حارثة مولى رسول الله ﷺ أخوين وإليه أوصى حمزة يوم أحد، وجعفر بن أبي طالب ذو الجناحين ومعاذ بن جبل أخوين.

قال ابن هشام: كان جعفر يومئذٍ غائبا بأرض الحبشة.

قال ابن إسحاق: وكان أبو بكر وخارجة بن زيد الخزرجي أخوين، وعمر بن الخطاب وعتبان بن مالك أخوين، وأبو عبيدة وسعد بن معاذ أخوين، وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع أخوين، والزبير بن العوام وسلمة بن سلامة بن وقش أخوين.

ويقال: بل كان الزبير وعبد الله بن مسعود أخوين، وعثمان بن عفان وأوس بن ثابت بن المنذر النجاري أخوين، وطلحة بن عبيد الله وكعب بن مالك أخوين، وسعيد بن زيد وأبي بن كعب أخوين، ومصعب بن عمير وأبو أيوب أخوين، وأبو حذيفة بن عتبة وعباد بن بشر أخوين، وعمار وحذيفة بن اليمان العبسي حليف عبد الأشهل أخوين.

ويقال: بل كان عمار وثابت بن قيس بن شماس أخوين.

قلت: وهذا السند من وجهين.

قال: وأبو ذر برير بن جنادة والمنذر بن عمرو المعنق ليموت أخوين، وحاطب بن أبي بلتعة وعويم بن ساعدة أخوين، وسلمان وأبو الدرداء أخوين، وبلال وأبو رويحة عبد الله بن عبد الرحمن الخثعمي ثم أحد الفزع أخوين.

قال: فهؤلاء ممن سمي لنا ممن كان رسول الله ﷺ آخى بينهم من أصحابه رضي الله عنهم.

قلت: وفي بعض ما ذكره نظر، أما مؤاخاة النبي ﷺ وعلي فإن من العلماء من ينكر ذلك ويمنع صحته ومستنده في ذلك أن هذه المؤاخاة إنما شرعت لأجل ارتفاق بعضهم من بعض وليتألف قلوب بعضهم على بعض، فلا معنى لمؤاخاة النبي ﷺ لأحد منهم، ولا مهاجري لمهاجري آخر كما ذكره من مؤاخاة حمزة وزيد بن حارثة اللهم إلا أن يكون النبي ﷺ لم يجعل مصلحة علي إلى غيره فإنه كان ممن ينفق عليه رسول الله ﷺ من صغره في حياة أبيه أبي طالب كما تقدم عن مجاهد وغيره.

وكذلك يكون حمزة قد التزم بمصالح مولاهم زيد بن حارثة فآخاه بهذا الاعتبار والله أعلم.

وهكذا ذكره لمؤاخاة جعفر ومعاذ بن جبل فيه نظر كما أشار إليه عبد الملك بن هشام، فإن جعفر بن أبي طالب إنما قدم في فتح خيبر في أول سنة سبع كما سيأتي بيانه، فكيف يؤاخي بينه وبين معاذ بن جبل أول مقدمه عليه السلام إلى المدينة اللهم إلا أن يقال أنه أرصد لأخوته إذا قدم حين يقدم، وقوله: وكان أبو عبيدة وسعد بن معاذ أخوين يخالف لما رواه الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا حماد، ثنا ثابت عن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ آخى بين أبي عبيدة بن الجراح وبين أبي طلحة.

وكذا رواه مسلم منفردا به عن حجاج بن الشاعر عن عبد الصمد بن عبد الوارث به وهذا أصح مما ذكره ابن إسحاق من مؤاخاة أبي عبيدة وسعد بن معاذ والله أعلم.

وقال البخاري: باب كيف آخى النبي ﷺ بين أصحابه.

وقال عبد الرحمن بن عوف: آخى النبي ﷺ بيني وبين سعد بن الربيع لما قدمنا المدينة.

وقال أبو جحيفة: آخى النبي ﷺ بين سلمان الفارسي وأبي الدرداء رضي الله عنهما: حدثنا محمد بن يوسف، ثنا سفيان عن حميد عن أنس قال: قدم عبد الرحمن بن عوف المدينة فآخى النبي ﷺ بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلني على السوق.

فربح شيئا من أقط وسمن، فرآه النبي ﷺ بعد أيام وعليه وضر من صفرة، فقال النبي ﷺ: «مهيم يا عبد الرحمن؟»

قال يا رسول الله: تزوجت امرأة من الأنصار.

قال: «فما سقت فيها؟»

قال: وزن نواة من ذهب، قال النبي ﷺ: «أولم ولو بشاة».

تفرد به من هذا الوجه.

وقد رواه أيضا في مواضع أخر، ومسلم من طرق عن حميد به.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، ثنا حماد، ثنا ثابت وحميد عن أنس: أن عبد الرحمن بن عوف قدم المدينة فآخى رسول الله ﷺ بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فقال له سعد: أي أخي أنا أكثر أهل المدينة مالا فانظر شطر مالي فخذه وتحتي امرأتان فانظر أيهما أعجب إليك حتى أطلقها.

فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق فدلوه فذهب فاشترى وباع فربح فجاء بشيء من أقط وسمن.

ثم لبث ما شاء الله أن يلبث فجاء وعليه ودع زعفران فقال رسول الله ﷺ: «مهيم؟»

فقال يا رسول الله: تزوجت امرأة، قال: «ما أصدقتها؟»

قال: وزن نواة من ذهب، قال: «أولم ولو بشاة».

قال عبد الرحمن: فلقد رأيتني ولو رفعت حجرا لرجوت أن أصيب ذهبا وفضة.

وتعليق البخاري هذا الحديث عن عبد الرحمن بن عوف غريب فإنه لا يعرف مسندا إلا عن أنس اللهم إلا أن يكون أنس تلقاه عنه فالله أعلم.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، أخبرنا حميد عن أنس.

قال قال المهاجرون يا رسول الله: ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل، ولا أحسن بذلا من كثير، لقد كفونا المؤونة وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله.

قال: «لا! ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم».

هذا حديث ثلاثي الإسناد على شرط (الصحيحين) ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة من هذا الوجه، وهو ثابت في (الصحيح).

وقال البخاري: أخبرنا الحكم بن نافع، أخبرنا شعيب، ثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة.

قال قالت الأنصار: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل.

قال: «لا».

قالوا: أفتكفوننا المؤونة ونشرككم في الثمرة، قالوا: سمعنا وأطعنا تفرد به.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: قال رسول الله ﷺ للأنصار: «إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم».

فقالوا: أموالنا بيننا قطائع.

فقال رسول الله ﷺ: «أو غير ذلك؟».

قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟

قال: «هم قوم لا يعرفون العمل، فتكفونهم وتقاسمونهم الثمر».

قالوا: نعم!

وقد ذكرنا ما ورد من الأحاديث والآثار في فضائل الأنصار وحسن سجاياهم عند قوله تعالى: { والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم } الآية.

فصل في موت أبي أمامة أسعد بن زرارة

ابن عدس بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار أحد النقباء الاثني عشر ليلة العقبة على قومه بني النجار، وقد شهد العقبات الثلاث وكان أول من بايع رسول الله ﷺ ليلة العقبة الثانية في قول، وكان شابا وهو أول من جمع بالمدينة في نقيع الخضمات في هزم النبيت كما تقدم.

قال محمد بن إسحاق وهلك في تلك الأشهر أبو أمامة أسعد بن زرارة والمسجد يبنى أخذته الذبحة - أو الشهقة -.

وقال ابن جرير في (التاريخ): أخبرنا محمد بن عبد الأعلى، ثنا يزيد بن زريع، عن معمر، عن الزهري، عن أنس أن رسول الله ﷺ كوى أسعد بن زرارة في الشوكة، رجاله ثقات.

قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة قال: قال رسول الله ﷺ: «بئس الميت أبو أمامة، ليهود ومنافقي العرب، يقولون لو كان نبيا لم يمت صاحبه، ولا أملك لنفسي ولا لصاحبي من الله شيئا».

وهذا يقتضي أنه أول من مات بعد مقدم النبي ﷺ، وقد زعم أبو الحسن بن الأثير في (أسد الغابة) أنه مات في شوال بعد مقدم النبي ﷺ بسبعة أشهر، فالله أعلم.

وذكر محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة: أن بني النجار سألوا رسول الله ﷺ أن يقيم لهم نقيبا بعد أبي أمامة أسعد بن زرارة فقال: «أنتم أخوالي وأنا بما فيكم وأنا نقيبكم».

وكره أن يخص بها بعضهم دون بعض.

فكان من فضل بني النجار الذي يعتدون به على قومهم أن كان رسول الله ﷺ نقيبهم.

قال ابن الأثير: وهذا يرد قول أبي نعيم وابن منده في قولهما: أن أسعد بن زرارة كان نقيبا على بني ساعدة، إنما كان على بني النجار، وصدق ابن الأثير فيما قال.

وقد قال أبو جعفر بن جرير في (التاريخ): كان أول من توفي بعد مقدمه عليه السلام المدينة من المسلمين - فيما ذكر - صاحب منزله كلثوم بن الهدم، لم يلبث بعد مقدمه إلا يسيرا حتى مات، ثم توفي بعده أسعد بن زرارة وكانت وفاته في سنة مقدمه قبل أن يفرغ بناء المسجد بالذبحة - أو الشهقة -.

قلت: وكلثوم بن الهدم بن امرئ القيس بن الحارث بن زيد بن عبيد بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس الأنصاري الأوسي وهو من بني عمرو بن عوف وكان شيخا كبيرا أسلم قبل مقدم رسول الله ﷺ المدينة، ولما قدم رسول الله ﷺ المدينة ونزل بقباء نزل في منزل هذا في الليل؛ وكان يتحدث بالنهار مع أصحابه في منزل سعد بن الربيع رضي الله عنهما إلى أن ارتحل إلى دار بني النجار كما تقدم.

قال ابن الأثير: وقد قيل: إنه أول من مات من المسلمين بعد مقدم رسول الله ﷺ، ثم بعده أسعد بن زرارة، ذكره الطبري.

فصل في ميلاد عبد الله بن الزبير في شوال سنة الهجرة

فكان أول مولود ولد في الإسلام من المهاجرين كما أن النعمان بن بشير أول مولود ولد للأنصار بعد الهجرة رضي الله عنهما.

وقد زعم بعضهم أن ابن الزبير ولد بعد الهجرة بعشرين شهرا قاله أبو الأسود.

ورواه الواقدي: عن محمد بن يحيى بن سهل بن أبي حثمة، عن أبيه عن جده، وزعموا أن النعمان ولد قبل الزبير بستة أشهر على رأس أربعة عشر شهرا من الهجرة، والصحيح ما قدمنا.

فقال البخاري: حدثنا زكريا بن يحيى، ثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أسماء أنها حملت بعبد الله بن الزبير قالت: فخرجت وأنا متم فأتيت المدينة فنزلت بقباء فولدته بقباء، ثم أتيت به رسول الله ﷺ فوضعه في حجره، ثم دعا بتمرة فمضغها، ثم تفل في فيه فكان أول شيء دخل جوفه ريق رسول الله ﷺ، ثم حنكه بتمرة، ثم دعا له وبرك عليه.

فكان أول مولود ولد في الإسلام.

تابعه خالد بن مخلد عن علي بن مسهر عن هشام عن أبيه عن أسماء أنها هاجرت إلى النبي ﷺ وهي حبلى.

حدثنا قتيبة عن أبي أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: أول مولود ولد في الإسلام عبد الله بن الزبير، أتوا به النبي ﷺ فأخذ النبي ﷺ ثمرة فلاكها، ثم أدخلها في فيه فأول ما دخل بطنه ريق النبي ﷺ.

فهذا حجة على الواقدي وغيره لأنه ذكر أن النبي ﷺ بعث مع عبد الله بن أريقط لما رجع إلى مكة زيد بن حارثة وأبا رافع ليأتوا بعياله وعيال أبي بكر فقدموا بهم أثر هجرة النبي ﷺ وأسماء حامل متم: أي مقرب قد دنا وضعها لولدها، فلما ولدته كــَّبر المسلمون تكبيرة عظيمة فرحا بمولده لأنه كان قد بلغهم عن اليهود أنهم سحروهم حتى لا يولد لهم بعد هجرتهم ولد، فأكذب الله اليهود فيما زعموا.

فصل بناؤه صلى الله عليه وسلم بعائشة

وبنى رسول الله ﷺ بعائشة في شوال من هذه السنة

قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، ثنا سفيان عن إسماعيل بن أمية، عن عبد الله بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: تزوجني رسول الله ﷺ في شوال، وبنى بي في شوال، فأي نساء رسول الله ﷺ كان أخطى عنده مني؟

وكانت عائشة تستحب أن تدخل نساءها في شوال.

ورواه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه من طرق عن سفيان الثوري به.

وقال الترمذي: حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث سفيان الثوري فعلى هذا يكون دخوله بها عليه السلام بعد الهجرة بسبعة أشهر - أو ثمانية أشهر -.

وقد حكى القولين ابن جرير، وقد تقدم في تزويجه عليه السلام بسودة كيفية تزويجه ودخوله بعائشة بعد ما قدموا المدينة وأن دخوله بها كان بالسنح نهارا وهذا خلاف ما يعتاده الناس اليوم، وفي دخوله عليه السلام بها في شوال ردا لما يتوهمه بعض الناس من كراهية الدخول بين العيدين خشية المفارقة بين الزوجين وهذا ليس بشيء لما قالته عائشة رادة على من توهمه من الناس في ذلك الوقت: تزوجني في شوال، وبنى بي في شوال - أي دخل بي - في شوال، فأي نسائه كان أحظى عنده مني؟

فدلَّ هذا على أنها فهمت منه عليه السلام أنها أحب نسائه إليه، وهذا الفهم منها صحيح لما دل على ذلك من الدلائل الواضحة، ولو لم يكن إلا الحديث الثابت في (صحيح البخاري) عن عمرو بن العاص: قلت: يا رسول الله أي الناس أحب إليك؟

قال: «عائشة».

قلت: من الرجال؟

قال: «أبوها».

فصل الزيادة في صلاة الحضر في السنة الأولى من الهجرة

قال ابن جرير: وفي هذه السنة - يعني: السنة الأولى من الهجرة - زيد في صلاة الحضر - فيما قيل - ركعتان، وكانت صلاة الحضر والسفر ركعتين، وذلك بعد مقدم النبي ﷺ المدينة بشهر في ربيع الآخر لمضي ثنتي عشرة ليلة مضت، وقال: وزعم الواقدي أنه لا خلاف بين أهل الحجاز فيه.

قلت: قد تقدم الحديث الذي رواه البخاري: من طريق معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: فرضت الصلاة أول ما فرضت ركعتين، فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر.

وروي من طريق الشعبي عن مسروق عنها.

وقد حكى البيهقي عن الحسن البصري أن صلاة الحضر أول ما فرضت فرضت أربعا والله أعلم.

وقد تكلمنا على ذلك في تفسير سورة النساء عند قوله تعالى: { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ } الآية [107].

فصل في الأذان ومشروعيته

قال ابن إسحاق: فلما اطمأن رسول الله ﷺ بالمدينة واجتمع إليه إخوانه من المهاجرين واجتمع كبائر الأنصار استحكم أمر الإسلام، فقامت الصلاة وفرضت الزكاة والصيام، وقامت الحدود وفرض الحلال والحرام وتبوأ الإسلام بين أظهرهم وكان هذا الحي من الأنصار هم الذين تبوؤا الدار والإيمان.

وقد كان رسول الله ﷺ حين قدمها إنما يجتمع الناس إليه للصلاة لحين مواقيتها بغير دعوة، فهمَّ رسول الله ﷺ أن يجعل بوقا كبوق يهود الذي يدعون به لصلاتهم، ثم كرهه، ثم أمر بالناقوس فنحت ليضرب به المسلمين للصلاة، فبينا هم على ذلك رأى عبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه أخو بلحارث بن الخزرج، النداء، فأتى رسول الله ﷺ فقال يا رسول الله: إنه طاف بي هذه الليلة طائف، مرَّ بي رجل عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوسا في يده، فقلت: يا عبد الله أتبيع هذا الناقوس؟

فقال: وما تصنع به؟

قال: قلت: ندعو به إلى الصلاة.

قال: ألا أدلك على خير من ذلك؟

قلت: وما هو؟

قال: تقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله.

فلما أخبر بها رسول الله ﷺ قال: «إنها لرؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال فالقها عليه، فليؤذن بها فإنه أندى صوتا منك».

فلما أذن بها بلال سمعه عمر بن الخطاب وهو في بيته، فخرج إلى رسول الله ﷺ وهو يجر رداءه وهو يقول: يا نبي الله والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذي رأى.

فقال رسول الله ﷺ: «فلله الحمد على ذلك».

قال ابن إسحاق: فحدثني بهذا الحديث محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن محمد بن عبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه، عن أبيه.

وقد روى هذا الحديث أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن خزيمة من طرق عن محمد بن إسحاق به، وصححه الترمذي وابن خزيمة وغيرهما.

وعند أبي داود أنه علَّمه الإقامة قال: ثم تقول إذا أقمت الصلاة:

الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله.

وقد روى ابن ماجه هذا الحديث: عن أبي عبيد محمد بن عبيد بن ميمون، عن محمد بن سلمة الحراني، عن ابن إسحاق كما تقدم.

ثم قال: قال أبو عبيد: وأخبرني أبو بكر الحكمي أن عبد الله بن زيد الأنصاري قال في ذلك:

الحمد لله ذي الجلال وذي الإ * كرام حمدا على الأذان كبيرا

إذ أتاني به البشير من اللـ * ـه فأكرم به لدي بشيرا

في ليال والى بهن ثلاث * كلما جاء زادني توقيرا

قلت: وهذا الشعر غريب وهو يقتضي أنه رأى ذلك ثلاث ليال حتى أخبر به رسول الله ﷺ فالله أعلم.

ورواه الإمام أحمد من حديث محمد بن إسحاق قال: وذكر الزهري عن سعيد بن المسيب، عن عبد الله بن زيد به نحو رواية ابن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم التيمي ولم يذكر الشعر.

وقال ابن ماجه: حدثنا محمد بن خالد بن عبد الله الواسطي، ثنا أبي عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه أن رسول الله ﷺ استشار الناس لما يهمهم من الصلاة، فذكروا البوق فكرهه من أجل اليهود، ثم ذكروا الناقوس فكرهه من أجل النصارى.

فأري النداء تلك الليل رجل من الأنصار يقال له عبد الله بن زيد وعمر بن الخطاب، فطرق الأنصاري رسول الله ﷺ ليلا فأمر رسول الله ﷺ بلالا فأذن به.

قال الزهري: وزاد بلال في نداء صلاة الغداة، الصلاة خير من النوم مرتين، فأقرها رسول الله ﷺ.

فقال عمر: يا رسول الله رأيت مثل الذي رأى ولكنه سبقني، وسيأتي تحرير هذا الفصل في باب الأذان من كتاب (الأحكام الكبير) إن شاء الله تعالى وبه الثقة.

فأما الحديث الذي أورده السهيلي بسنده من طريق البزار: حدثنا محمد بن عثمان بن مخلد، ثنا أبي عن زياد بن المنذر، عن محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب فذكر حديث الإسراء.

وفيه: فخرج ملك من وراء الحجاب فأذن بهذا الأذان وكلما قال كلمة صدقه الله تعالى، ثم أخذ الملك بيد محمد ﷺ فقدمه فأمَّ بأهل السماء وفيهم آدم ونوح.

ثم قال السهيلي: وأخلق بهذا الحديث أن يكون صحيحا لما يعضده ويشاكله من حديث الإسراء.

فهذا الحديث ليس كما زعم السهيلي أنه صحيح بل هو منكر تفرد به زياد بن المنذر أبو الجارود الذي تنسب إليه الفرقة الجارودية وهو من المتهمين، ثم لو كان هذا قد سمعه رسول الله ﷺ ليلة الإسراء لأوشك أن يأمر به بعد الهجرة في الدعوة إلى الصلاة والله أعلم.

قال ابن هشام: وذكر ابن جريج قال: قال لي عطاء: سمعت عبيد بن عمير يقول: ائتمر النبي ﷺ وأصحابه بالناقوس للاجتماع للصلاة، فبينا عمر بن الخطاب يريد أن يشتري خشبتين للناقوس إذ رأى عمر في المنام: لا تجعلوا الناقوس بل أذنوا للصلاة.

فذهب عمر إلى النبي ﷺ ليخبره بما رأى وقد جاء النبي ﷺ الوحي بذلك فما راع عمر إلا بلال يؤذن.

فقال رسول الله ﷺ حين أخبره بذلك: «قد سبقك بذلك الوحي».

وهذا يدل على أنه قد جاء الوحي بتقرير ما رآه عبد الله بن زيد بن عبد ربه كما صرح به بعضهم والله تعالى أعلم.

قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن امرأة من بني النجار قالت: كان بيتي من أطول بيت حول المسجد، فكان بلال يؤذن عليه للفجر كل غداة، فيأتي بسحر، فيجلس على البيت ينتظر الفجر، فإذا رآه تمطى، ثم قال: اللهم أحمدك وأستعينك على قريش أن يقيموا دينك.

قالت: ثم يؤذن، قالت: والله ما علمته كان تركها ليلة واحدة - يعني: هذه الكلمات - ورواه أبو داود من حديثه منفردا به.

فصل في سرية حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه

قال ابن جرير: وزعم الواقدي: أن رسول الله ﷺ عقد في هذه السنة في شهر رمضان على رأس سبعة أشهر من مهاجره لحمزة بن عبد المطلب لواء أبيض في ثلاثين رجلا من المهاجرين ليعترض لعيرات قريش، وأن حمزة لقي أبا جهل في ثلاثمائة رجل من قريش فحجز بينهم مجدي بن عمرو ولم يكن بينهم قتال.

قال: وكان الذي يحمل لواء حمزة أبو مرثد الغنوي.

فصل في سرية عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب

قال ابن جرير: وزعم الواقدي أيضا: أن النبي ﷺ عقد في هذه السنة على رأس ثمانية أشهر في شوال لعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف لواء أبيض وأمره بالمسير إلى بطن رابغ.

وكان لواؤه مع مسطح بن أثاثة فبلغ ثنية المرة وهي بناحية الجحفة في ستين من المهاجرين ليس فيهم أنصاري، وأنهم التقوا هم والمشركون على ماء يقال له: أحياء وكان بينهم الرمي دون المسابقة.

فقال الواقدي: وكان المشركون مائتين عليهم أبو سفيان صخر بن حرب وهو المثبت عندنا.

وقيل: كان عليهم مكرز بن حفص.

فصل في سرية سعد بن أبي وقاص إلى الخرار

قال الواقدي: وفيها - يعني: في السنة الأولى في ذي القعدة - عقد رسول الله ﷺ لسعد بن أبي وقاص إلى الخرار لواء أبيض يحمله المقداد بن الأسود.

فحدثني أبو بكر بن إسماعيل، عن أبيه، عن عامر بن سعد، عن أبيه.

قال: خرجت في عشرين رجلا على أقدامنا، أو قال: أحد وعشرين رجلا، فكنا نكمن النهار ونسير الليل حتى صبحنا الخرار صبح خامسة، وكان رسول الله ﷺ قد عهد إلي أن لا أجاوز الخرار، وكانت العير قد سبقتني قبل ذلك بيوم.

قال الواقدي: كانت العير ستين وكان من مع سعد كلهم من المهاجرين.

قال أبو جعفر بن جرير (رح) وعند ابن إسحاق (رح) أن هذه السرايا الثلاث التي ذكرها الواقدي كلها في السنة الثانية من الهجرة من وقت التاريخ.

قلت: كلام ابن إسحاق ليس بصريح فيما قاله أبو جعفر (رح) لمن تأمله كما سنورده في أول كتاب (المغازي) في أول السنة الثانية من الهجرة وذلك تلوما نحن فيه إن شاء الله، ويحتمل أن يكون مراده أنها وقعت هذه السرايا في السنة الأولى، وسنزيدها بسطا وشرحا إذا انتهينا إليها إن شاء الله تعالى.

والواقدي (رح) عنده زيادات حسنة، وتاريخ محرر غالبا فإنه من أئمة هذا الشأن الكبار، وهو صدوق في نفسه مكثار كما بسطنا القول في عدالته وجرحه في كتابنا (الموسوم بالتكميل في معرفة الثقات والضعفاء والمجاهيل) ولله الحمد والمنة.

فصل ميلاد عبد الله بن الزبير وهو أول مولود ولد في الإسلام

وممن ولد في هذه السنة المباركة - وهي: الأولى من الهجرة - عبد الله بن الزبير فكان أول مولود ولد في الإسلام بعد الهجرة كما رواه البخاري عن أمه أسماء وخالته عائشة أم المؤمنين ابنتي الصديق رضي الله عنهما.

ومن الناس من يقول: ولد النعمان بن بشير قبله بستة أشهر، فعلى هذا يكون ابن الزبير أول مولود ولد بعد الهجرة من المهاجرين، ومن الناس من يقول: إنهما ولدا في السنة الثانية من الهجرة والظاهر الأول كما قدمنا بيانه ولله الحمد والمنة، وسنشير في آخر السنة الثانية إلى القول الثاني إن شاء الله تعالى.

قال ابن جرير: وقد قيل: إن المختار بن أبي عبيد وزياد بن سمية ولدا في هذه السنة الأولى فالله أعلم.

من توفي في السنة الأولى من الصحابة

كلثوم بن الهدم الأوسي الذي نزل رسول الله ﷺ في مسكنه بقباء إلى حين ارتحل منها إلى دار بني النجار كما تقدم.

وبعده - فيها - أبو أمامة أسعد بن زرارة نقيب بني النجار توفي ورسول الله ﷺ يبني المسجد كما تقدم رضي الله عنهما وأرضاهما.

قال ابن جرير: وفي هذه السنة - يعني: الأولى من الهجرة - مات أبو أحيحة بماله بالطائف، ومات الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل السهمي فيها بمكة.

قلت: وهؤلاء ماتوا على شركهم لم يسلموا لله عز وجل.

ذكر ما وقع في السنة الثانية من الهجرة

وقع فيها كثير من المغازي والسرايا ومن أعظمها وأجلها بدر الكبرى التي كانت في رمضان منها، وقد فرق الله بها بين الحق والباطل، والهدى والغي، وهذا أوان ذكر المغازي والبعوث فنقول وبالله المستعان

كتاب المغازي

قال الإمام محمد بن إسحاق بن يسار في كتاب (السيرة) بعد ذكر أحبار اليهود ونصبهم العداوة للإسلام وأهله وما نزل فيهم من الآيات:

فمنهم حيي بن أخطب وأخواه أبو ياسر وجدي، وسلام بن مشكم، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وسلام بن أبي الحقيق وهو أبو رافع الأعور، تاجر أهل الحجاز وهو الذي قتله الصحابة بأرض خيبر كما سيأتي، والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق، وعمرو بن جحاش، وكعب بن الأشرف وهو من طيء.

ثم أحد بني نبهان وأمه من بني النضير، وقد قتله الصحابة قبل أبى رافع كما سيأتي، وحليفاه الحجاج بن عمرو، وكردم بن قيسم لعنهم الله فهؤلاء من بني النضير، ومن بني ثعلبة بن الفطيون عبد الله بن صوريا، ولم يكن بالحجاز - بعد - أعلم بالتوراة منه.

قلت: وقد قيل: أنه أسلم، وابن صلوبا ومخيريق وقد أسلما يوم أحد كما سيأتي، وكان حبر قومه.

ومن بني قينقاع: زيد بن اللصيت، وسعد بن حنيف، ومحمود بن شيخان، وعزيز بن أبي عزيز، وعبد الله بن ضيف، وسويد بن الحارث، ورفاعة بن قيس، وفنحاص وأشيع ونعمان بن أضا، وبحرى بن عمرو، وشاش بن عدي، وشاش بن قيس، وزيد بن الحارث، ونعمان بن عمير، وسكين بن أبي سكين، وعدي بن زيد، ونعمان بن أبي أوفى أبو أنس.

ومحمود بن دحية، ومالك بن صيف، وكعب بن راشد، وعازر ورافع بن أبي رافع، وخالد وأزار بن أبي أزار.

قال ابن هشام: ويقال: آزر بن أبي آزر، ورافع بن حارثة، ورافع بن حريملة، ورافع بن خارجة، ومالك بن عوف، ورفاعة بن زيد بن التابوت، وعبد الله بن سلام.

قلت: وقد تقدم إسلامه رضي الله عنه.

قال ابن إسحاق: وكان حبرهم وأعلمهم، وكان اسمه الحصين فلما أسلم سماه رسول الله ﷺ عبد الله.

قال ابن إسحاق: ومن بني قريظة: الزبير بن باطا بن وهب، وعزال بن شموال، وكعب بن أسد وهو صاحب عقدهم الذي نقضوه عام الأحزاب، وشمويل بن زيد، وجبل بن عمرو بن سكينة، والنحام بن زيد، وكردم بن كعب، ووهب بن زيد، ونافع بن أبي نافع، وأبو نافع، وعدي بن زيد، والحارث بن عوف، وكردم بن زيد، وأسامة بن حبيب، ورافع بن زميلة، وجبل بن أبي قشير، ووهب بن يهوذا.

قال: ومن بني زريق: لبيد بن أعصم وهو الذي سحر رسول الله ﷺ.

ومن يهود بني حارثة: كنانة بن صوريا.

ومن يهود بني عمرو بن عوف: قردم بن عمرو.

ومن يهود بني النجار: سلسلة بن برهام.

قال ابن إسحاق: فهؤلاء أحبار يهود وأهل الشرور والعداوة لرسول الله ﷺ، وأصحابه رضي الله عنهم، وأصحاب المسألة الذين يكثرون الأسئلة لرسول الله ﷺ على وجه التعنت والعناد والكفر، قال: وأصحاب النصب لأمر الإسلام ليطفئوه إلا ما كان من عبد الله بن سلام ومخيريق.

ثم ذكر إسلام عبد الله بن سلام وإسلام عمته خالدة بنت الحارث كما قدمناه، وذكر إسلام مخيريق يوم أحد كما سيأتي وأنه قال لقومه - وكان يوم السبت -: يا معشر يهود والله إنكم لتعلمون أن نصر محمد عليكم لحق، قالوا: إن اليوم يوم السبت، قال: لا سبت لكم.

ثم أخذ سلاحه وخرج وعهد إلى من وراءه من قومه إن قتلت هذا اليوم فأموالي لمحمد يرى فيها ما أراه الله - وكان كثير الأموال - ثم لحق برسول الله ﷺ فقاتل حتى قتل رضي الله عنه.

قال فكان رسول الله ﷺ يقول فيما بلغني: «مخيريق خير يهود».

فصل كفر بعض المنافقين من الأوس والخزرج بعد إسلامهم

ثم ذكر ابن إسحاق من مال إلى هؤلاء الأضداد من اليهود من المنافقين من الأوس والخزرج فمن الأوس: زوى بن الحارث، وجلاس بن سويد بن الصامت الأنصاري، وفيه نزل: { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ } [108] وذلك أنه قال حين تخلف عن غزوة تبوك: لئن كان هذا الرجل صادقا لنحن شر من الحمر، فنماها ابن امرأته عمير بن سعد إلى رسول الله ﷺ فأنكر الجلاس ذلك وحلف ما قال فنزل فيه ذلك.

قال: وقد زعموا أنه تاب وحسنت توبته حتى عرف منه الإسلام والخير.

قال: وأخوه الحارث بن سويد، وهو الذي قتل المجذر بن ذياد البلوي، وقيس بن زيد أحد بني ضبيعة يوم أحد، خرج مع المسلمين وكان منافقا فلما التقى الناس عدا عليهما فقتلهما ثم لحق بقريش.

قال ابن هشام: وكان المجذر قد قتل أباه سويد بن الصامت في بعض حروب الجاهلية فأخذ بثأر أبيه منه يوم أحد، كذا قال ابن هشام.

وقد ذكر ابن إسحاق أن الذي قتل سويد بن الصامت إنما هو معاذ بن عفراء قتله في غير حرب قبل يوم بعاث رماه بسهم فقتله.

وأنكر ابن هشام أن يكون الحارث قتل قيس بن زيد، قال: لأن ابن إسحاق لم يذكره في قتلى أحد.

قال ابن إسحاق: وقد كان رسول الله ﷺ، أمر عمر بن الخطاب بقتله إن هو ظفر به، فبعث الحارث إلى أخيه الجلاس يطلب له التوبة ليرجع إلى قومه، فأنزل الله - فيما بلغني عن ابن عباس -: { كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْما كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [109] إلى آخر القصة.

قال: وبجاد بن عثمان بن عامر، ونبتل بن الحارث وهو الذي قال فيه رسول الله ﷺ: «من أحب أن ينظر إلى شيطان فلينظر إلى هذا».

وكان جسيما أدلم ثائر شعر الرأس أحمر العينين أسفع الخدين، وكان يسمع الكلام من رسول الله ﷺ ثم ينقله إلى المنافقين وهو الذي قال: إنما محمد أذن، من حدثه بشيء صدقه.

فأنزل الله فيه: { وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ } [110] الآية.

قال: وأبو حبيبة بن الأزعر وكان ممن بنى مسجد الضرار، وثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير، وهما اللذان عاهدا الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ثم نكثا، فنزل فيهما ذلك، ومعتب هو الذي قال يوم أحد: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا فنزل فيه الآية.

وهو الذي قال يوم الأحزاب: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يؤمن أن يذهب إلى الغائط فنزل فيه: { وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا }.

قال ابن إسحاق: والحارث بن حاطب.

قال ابن هشام: ومعتب بن قشير، وثعلبة والحارث ابنا حاطب، وهما من بني أمية بن زيد من أهل بدر وليسوا من المنافقين فيما ذكر لي من أثق به من أهل العلم.

قال: وقد ذكر ابن إسحاق: ثعلبة والحارث في بني أمية بن زيد في أسماء أهل بدر.

قال ابن إسحاق: وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف وبخرج، وكان ممن بني مسجد الضرار وعمرو بن حرام وعبد الله بن نبتل، وجارية بن عامر بن العطاف، وابناه يزيد ومجمع ابنا جارية وهم ممن اتخذ مسجد الضرار، وكان مجمع غلاما حدثا قد جمع أكثر القرآن وكان يصلي بهم فيه، فلما خرب مسجد الضرار - كما سيأتي بيانه بعد غزوة تبوك - وكان في أيام عمر سأل أهل قباء عمر أن يصلي بهم مجمع فقال: لا والله، أو ليس أمام المنافقين في مسجد الضرار؟

فحلف بالله ما علمت بشيء من أمرهم فزعموا: أن عمر تركه فصلى بهم.

قال: ووديعة بن ثابت وكان ممن بنى مسجد الضرار وهو الذي قال: إنما كنا نخوض ونلعب فنزل فيه ذلك.

قال: وخذام بن خالد وهو الذي أخرج مسجد الضرار من داره.

قال ابن هشام مستدركا على ابن إسحاق في منافقي بني النبيت من الأوس وبشر ورافع ابنا زيد.

قال ابن إسحاق: ومربع بن قيظي - وكان أعمى - وهو الذي قال لرسول الله ﷺ حين أجاز في حائطه وهو ذاهب إلى أحد: لا أحل لك إن كنت نبيا أن تمر في حائطي وأخذ في يده حفنة من تراب ثم قال: والله لو أعلم أني لا أصيب بها غيرك لرميتك بها، فابتدره القوم ليقتلوه فقال رسول الله ﷺ: «دعوه فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر».

وقد ضربه سعد بن زيد الأشهلي بالقوس فشجه.

قال: وأخوه أوس بن قيظي وهو الذي قال لرسول الله ﷺ يوم الخندق: إن بيوتنا عورة.

قال الله: { وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارا } [111].

قال: وحاطب بن أمية بن رافع وكان شيخا جسيما قد عسا في جاهليته، وكان له ابن من خيار المسلمين يقال له: يزيد بن حاطب أصيب يوم أحد حتى أثبتته الجراحات، فحمل إلى دار بني ظفر.

فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: فإنه اجتمع إليه من بها من رجال المسلمين ونسائهم وهو يموت فجعلوا يقولون: أبشر بالجنة يا ابن حاطب.

قال: فنجم نفاق أبيه فجعل يقول: أجل جنة من حرمل، غررتم والله هذا المسكين من نفسه.

قال: وبشير بن أبيرق أبو طعمة سارق الدرعين الذي أنزل الله فيه: { ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم } الآيات.

قال: وقزمان حليف لبني ظفر الذي قتل يوم أحد سبعة نفر، ثم لما آلمته الجراحة قتل نفسه وقال: والله ما قاتلت إلا حمية على قومي ثم مات لعنه الله.

قال ابن إسحاق: لم يكن في بني عبد الأشهل منافق ولا منافقة يعلم إلا أن الضحاك بن ثابت كان يتهم بالنفاق وحب يهود فهؤلاء كلهم من الأوس.

قال ابن إسحاق: ومن الخزرج: رافع بن وديعة، وزيد بن عمرو، وعمرو بن قيس، وقيس بن عمرو بن سهل، والجد بن قيس وهو الذي قال: يا محمد ائذن لي ولا تفتني.

وعبد الله بن أبي بن سلول، وكان رأس المنافقين ورئيس الخزرج والأوس أيضا، كانوا قد أجمعوا على أن يملكوه عليهم في الجاهلية، فلما هداهم الله للإسلام قبل ذلك شرق اللعين بريقه وغاظه ذلك جدا، وهو الذي قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، وقد نزلت فيه آيات كثيرة جدا.

وفيه وفي وديعة - رجل من بني عوف - ومالك بن أبي قوقل، وسويد وداعس، وهم من رهطه نزل قوله تعالى: { لئن أخرجوا لا يخرجون معهم } الآيات حين مالوا في الباطن إلى بني النضير.

فصل في إسلام بعض أحبار يهود نفاقا

ثم ذكر ابن إسحاق من أسلم من أحبار اليهود على سبيل التقية فكانوا كفارا في الباطن فأتبعهم بصنف المنافقين وهم من شرهم.

سعد بن حنيف، وزيد بن اللصيت، وهو الذي قال حين ضلت ناقة رسول الله ﷺ: يزعم محمد أنه يأتيه خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته؟

فقال رسول الله ﷺ: «والله لا أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلني الله عليها فهي في هذا الشعب قد حبستها شجرة بزمامها».

فذهب رجال من المسلمين فوجدوها كذلك.

قال: ونعمان بن أوفى، وعثمان بن أوفى، ورافع بن حريملة، وهو الذي قال فيه رسول الله ﷺ يوم مات - فيما بلغنا -: «قد مات اليوم عظيم من عظماء المنافقين».

ورفاعة بن زيد بن التابوت: وهو الذي هبت الريح الشديدة يوم موته عند مرجع رسول الله ﷺ من تبوك فقال: «إنها هبت لموت عظيم من عظماء الكفار».

فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة قد مات في ذلك اليوم، وسلسلة بن برهام، وكنانة بن صوريا، فهؤلاء ممن أسلم من منافقي اليهود قال: فكان هؤلاء المنافقون يحضرون المسجد ويسمعون أحاديث المسلمين ويسخرون ويستهزئون بدينهم فاجتمع في المسجد يوما منهم أناس فرآهم رسول الله ﷺ يتحدثون بينهم خافضي أصواتهم قد لصق بعضهم إلى بعض، فأمر بهم رسول الله ﷺ فأخرجوا من المسجد إخراجا عنيفا، فقام أبو أيوب إلى عمرو بن قيس أحد بني النجار - وكان صاحب آلهتهم في الجاهلية - فأخذ برجله فسحبه حتى أخرجه وهو يقول - لعنه الله -: أتخرجني يا أبا أيوب من مربد بني ثعلبة؟

ثم أقبل أبو أيوب إلى رافع بن وديعة النجاري فلببه بردائه، ثم نتره نترا شديدا ولطم وجهه فأخرجه من المسجد وهو يقول: أف لك منافقا خبيثا.

وقام عمارة بن حزم إلى زيد بن عمرو - وكان طويل اللحية - فأخذ بلحيته وقاده بها قودا عنيفا حتى أخرجه من المسجد، ثم جمع عمارة يديه جميعا فلدمه بهما لدمة في صدره خر منها قال: يقول: خدشتني يا عمارة، فقال عمارة: أبعدك الله يا منافق فما أعد الله لك من العذاب أشد من ذلك، فلا تقربن مسجد رسول الله ﷺ.

وقام أبو محمد مسعود بن أوس بن زيد بن أصرم بن زيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار - وكان بدريا - إلى قيس بن عمرو بن سهل وكان شابا - وليس في المنافقين شاب سواه - فجعل يدفع في قفاه حتى أخرجه.

وقام رجل من بني خدرة إلى رجل يقال له: الحارث بن عمرو - وكان ذا جمة - فأخذ بجمته فسحبه بها سحبا عنيفا على ما مرَّ به من الأرض حتى أخرجه، فجعل يقول المنافق: قد أغلظت يا أبا الحارث.

فقال: إنك أهل لذلك أي عدو الله لما أنزل فيك، فلا تقربن مسجد رسول الله ﷺ فإنك نجس، وقام رجل من بني عمرو بن عوف إلى أخيه زوى بن الحارث فأخرجه إخراجا عنيفا وأفف منه، وقال: غلب عليك الشيطان وأمره.

ثم ذكر ابن إسحاق ما نزل فيهم من الآيات من سورة البقرة ومن سورة التوبة، وتكلم على تفسير ذلك فأجاد وأفاد رحمه الله.

أول المغازي وهي غزوة الأبواء أو غزوة ودان

وهو بعث حمزة بن عبد المطلب أبو عبيدة بن الحارث كما سيأتي في المغازي.

قال البخاري: (كتاب المغازي).

قال ابن إسحاق: أول ما غزا رسول الله ﷺ الأبواء، ثم بواط، ثم العشيرة، ثم روى عن زيد بن أرقم أنه سئل: كم غزا رسول الله ﷺ؟

قال: تسع عشرة شهد منها سبع عشرة أولهن العسيرة - أو العشيرة -.

وسيأتي الحديث بإسناده ولفظه والكلام عليه عند غزوة العشيرة إن شاء الله وبه الثقة.

وفي (صحيح البخاري) عن بريدة قال: غزا رسول الله ﷺ ست عشرة غزوة، ولمسلم عنه: أنه غزا مع رسول الله ﷺ ست عشرة غزوة.

وفي رواية له عنه: أن رسول الله ﷺ غزا تسع عشرة غزوة وقاتل في ثماني منهن.

وقال الحسين بن واقد: عن ابن بريدة، عن أبيه: أن رسول الله ﷺ غزا سبع عشرة غزوة وقاتل في ثمان: يوم بدر، وأحد، والأحزاب، والمريسيع، وقديد، وخيبر، ومكة، وحنين.

وبعث أربعا وعشرين سرية.

وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا محمد بن عثمان الدمشقي التنوخي، ثنا الهيثم بن حميد، أخبرني النعمان، عن مكحول: أن رسول الله ﷺ غزا ثمانية عشر غزوة، قاتل في ثمان غزوات، أولهن بدر، ثم أحد، ثم الأحزاب، ثم قريظة، ثم بئر معونة، ثم غزوة بني المصطلق من خزاعة، ثم غزوة خيبر، ثم غزوة مكة، ثم حنين والطائف.

قوله: بئر معونة بعد قريظة فيه نظر، والصحيح: أنها بعد أحد كما سيأتي.

قال يعقوب: حدثنا سلمة بن شبيب، ثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، سمعت سعيد بن المسيب يقول: غزا رسول الله ﷺ ثماني عشرة غزوة، وسمعته مرة أخرى يقول: أربعا وعشرين، فلا أدري أكان ذلك وهما أو شيئا سمعه بعد ذلك.

وقد روى الطبراني، عن الدبري، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري قال: غزا رسول الله ﷺ أربعا وعشرين غزوة.

وقال عبد الرحمن بن حميد في (مسنده): حدثنا سعيد بن سلام، ثنا زكريا بن إسحاق، حدثنا أبو الزبير، عن جابر.

قال: غزا رسول الله ﷺ إحدى وعشرين غزوة.

وقد روى الحاكم من طريق هشام، عن قتادة: أن مغازي رسول الله ﷺ وسراياه كانت ثلاثا وأربعين.

ثم قال الحاكم: لعله أراد السرايا دون الغزوات فقد ذكرت في (الإكليل) على الترتيب بعوث رسول الله ﷺ وسراياه زيادة على المائة.

قال: وأخبرني الثقة من أصحابنا ببخارى: أنه قرأ في كتاب أبي عبد الله ابن نصر السرايا والبعوث دون الحروب نيفا وسبعين، وهذا الذي ذكره الحاكم غريب جدا، وحمله كلام قتادة على ما قال فيه نظر.

وقد روى الإمام أحمد، عن أزهر بن القاسم الراسبي، عن هشام الدستوائي، عن قتادة: أن مغازي رسول الله ﷺ وسراياه ثلاث وأربعون، أربع وعشرون بعثا وتسع عشرة غزوة.

خرج في ثمان منها بنفسه: بدر، وأحد، والأحزاب، والمريسيع، وخيبر، وفتح مكة وحنين.

وقال موسى بن عقبة: عن الزهري: هذه مغازي رسول الله ﷺ التي قاتل فيها، يوم بدر في رمضان سنة ثنتين، ثم قاتل يوم أحد في شوال سنة ثلاث، ثم قاتل يوم الخندق - وهو يوم الأحزاب وبني قريظة - في شوال من سنة أربع، ثم قاتل بني المصطلق وبني لحيان في شعبان سنة خمس، ثم قاتل يوم خيبر سنة ست، ثم قاتل يوم الفتح في رمضان سنة ثمان، ثم قاتل يوم حنين وحاصر أهل الطائف في شوال سنة ثمان.

ثم حج أبو بكر سنة تسع، ثم حج رسول الله ﷺ حجة الوداع سنة عشر، وغزا اثنتي عشرة غزوة ولم يكن فيها قتال، وكانت أول غزاة غزاها الأبواء.

وقال حنبل بن هلال: عن إسحاق بن العلاء، عن عبد الله بن جعفر الرقي، عن مطرف بن مازن اليماني، عن معمر، عن الزهري قال: أول آية نزلت في القتال: { أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا } الآية بعد مقدم رسول الله ﷺ المدينة، فكان أول مشهد شهده رسول الله ﷺ يوم بدر يوم الجمعة لسبع عشرة من رمضان إلى أن قال: ثم غزا بني النضير، ثم غزا أحدا في شوال - يعني: من سنة ثلاث -.

ثم قاتل يوم الخندق في شوال سنة أربع، ثم قاتل بني لحيان في شعبان سنة خمس، ثم قاتل يوم خيبر سنة ست، ثم قاتل يوم الفتح في شعبان سنة ثمان، وكانت حنين في رمضان سنة ثمان.

وغزا رسول الله ﷺ إحدى عشرة غزوة لم يقاتل فيها، فكانت أول غزوة غزا رسول الله ﷺ: الأبواء، ثم العشيرة، ثم غزوة غطفان، ثم غزوة بني سليم، ثم غزوة الأبواء، ثم غزوة بدر الأولى، ثم غزوة الطائف، ثم غزوة الحديبية، ثم غزوة الصفراء، ثم غزوة تبوك آخر غزوة.

ثم ذكر البعوث، هكذا كتبته من تاريخ الحافظ ابن عساكر وهو غريب جدا، والصواب ما سنذكره فيما بعد إن شاء الله مرتبا.

وهذا الفن مما ينبغي الاعتناء به والاعتبار بأمره والتهيؤ له كما رواه محمد بن عمر الواقدي، عن عبد الله بن عمر بن علي، عن أبيه، سمعت علي بن الحسين يقول: كنا نعلم مغازي النبي ﷺ كما نعلم السورة من القرآن.

قال الواقدي: وسمعت محمد بن عبد الله يقول: سمعت عمي الزهري يقول في علم المغازي: علم الآخرة والدنيا.

وقال محمد بن إسحاق (رح) في (المغازي) بعد ذكره ما تقدم مما سقناه عنه من تعيين رؤس الكفر من اليهود والمنافقين لعنهم الله أجمعين وجمعهم في أسفل سافلين.

ثم أن رسول الله ﷺ تهيأ لحربه وقام فيما أمره الله به من جهاد عدوه وقتال من أمره به ممن يليه من المشركين.

قال: وقد قدم رسول الله ﷺ المدينة يوم الاثنين حين اشتد الضحاء وكادت الشمس تعتدل لثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول، ورسول الله ﷺ يومئذٍ ابن ثلاث وخمسين سنة، وذلك بعد أن بعثه الله بثلاث عشرة سنة، فأقام بقية شهر ربيع الأول وشهر ربيع الآخر وجمادين ورجبا وشعبان وشهر رمضان وشوالا وذا القعدة وذا الحجة، وولي تلك الحجة المشركون.

والمحرم، ثم خرج رسول الله ﷺ غازيا في صفر على رأس اثني عشر شهرا من مقدمه المدينة.

قال ابن هشام: واستعمل على المدينة سعد بن عبادة.

قال ابن إسحاق: حتى بلغ ودان وهي غزوة الأبواء.

قال ابن جرير: ويقال لها: غزوة ودان أيضا، يريد قريشا وبني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، فوادعته فيها بنو ضمرة وكان الذي وادعه منهم مخشى بن عمرو الضمري، وكان سيدهم في زمانه ذلك.

ورجع رسول الله ﷺ إلى المدينة ولم يلق كيدا فأقام بها بقية صفر وصدرا من شهر ربيع الأول.

قال ابن هشام: وهي أول غزوة غزاها عليه السلام.

قال الواقدي: وكان لواؤه مع عمه حمزة، وكان أبيض.

سرية عبيدة بن الحارث

قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله ﷺ في مقامه ذلك بالمدينة عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف بن قصي في ستين - أو ثمانين - راكبا من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد، فسار حتى بلغ ماءً بالحجاز بأسفل ثنية المرة فلقي بها جمعا عظيما من قريش، فلم يكن بينهم قتال إلا أن سعد بن أبي وقاص قد رمى يومئذٍ بسهم، فكان أول سهم رمي به في سبيل الله في الإسلام ثم انصرف القوم عن القوم، وللمسلمين حامية.

وفر من المشركين إلى المسلمين المقداد بن عمرو البهراني حليف بني زهرة، وعتبة بن غزوان بن جابر المازني حليف بني نوفل بن عبد مناف، وكانا مسلمين ولكنهما خرجا ليتوصلا بالكفار.

قال ابن إسحاق: وكان على المشركين يومئذٍ عكرمة بن أبي جهل.

وروى ابن هشام، عن أبي عمرو بن العلاء، عن أبي عمرو المدني أنه قال: كان عليهم مكرز بن حفص.

قلت: وقد تقدم عن حكاية الواقدي قولان:

أحدهما: أنه مكرز.

والثاني: أنه أبو سفيان صخر بن حرب، وأنه رجح أنه أبو سفيان فالله أعلم.

ثم ذكر ابن إسحاق القصيدة المنسوبة إلى أبي بكر الصديق في هذه السرية التي أولها:

أمن طيف سلمى بالبطاح الدمائث * أرقت وأمر في العشيرة حادث

ترى من لؤي فرقة لا يصدها * عن الكفر تذكير ولا بعث باعث

رسول أتاهم صادق فتكذبوا * عليه وقالوا لست فينا بماكث

إذا ما دعوناهم إلى الحق أدبروا * وهروا هرير المحجرات اللواهث

القصيدة إلى آخرها، وذكر جواب عبد الله بن الزبعري في مناقضتها التي أولها:

أمن رسم دار أقفرت بالعثاعث * بكيت بعين دمعها غير لابث

ومن عجيب الأيام - والدهر كله * له عجب - من سابقات وحادث

لجيش أتانا ذي عرام يقوده * عبيدة يدعى في الهياج ابن حارث

لنترك أصناما بمكة عكفا * مواريث موروث كريم لوارث

وذكر تمام القصيدة وما منعنا من إيرادها بتمامها إلا أن الإمام عبد الملك بن هشام (رح) وكان إماما في اللغة ذكر أن أكثر أهل العلم بالشعر ينكر هاتين القصيدتين.

قال ابن إسحاق: وقال سعد بن أبي وقاص في رميته تلك فيما يذكرون:

ألا هل أتى رسول الله أني * حميت صحابتي بصدور نبلي

أذود بها أوائلهم ذيادا * بكل حزونة وبكل سهل

فما يعتد رام في عدو * بسهم يا رسول الله قبلي

وذلك أن دينك دين صدق * وذو حق أتيت به وفضل

ينجى المؤمنون به ويخزى * به الكفار عند مقام مهل

فمهلا قد غويت فلا تعبني * غوي الحي ويحك يا ابن جهل

قال ابن هشام: وأكثر أهل العلم بالشعر ينكرها لسعد.

قال ابن إسحاق: فكانت راية عبيدة - فيما بلغنا - أول راية عقدها رسول الله ﷺ في الإسلام لأحد من المسلمين.

وقد خالفه الزهري وموسى بن عقبة والواقدي فذهبوا إلى أن بعث حمزة قبل بعث عبيدة بن الحارث والله أعلم.

وسيأتي في حديث سعد بن أبي وقاص: أن أول أمراء السرايا عبد الله بن جحش الأسدي.

قال ابن إسحاق: وبعض العلماء يزعم: أن رسول الله ﷺ بعثه حين أقبل من غزوة الأبواء قبل أن يصل إلى المدينة وهكذا حكى موسى بن عقبة عن الزهري.

فصل في سرية حمزة بن عبد المطلب

قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله ﷺ في مقامه ذلك حمزة بن عبد المطلب بن هاشم إلى سيف البحر من ناحية العيص في ثلاثين راكبا من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد فلقي أبا جهل بن هشام بذلك الساحل في ثلاثمائة راكب من أهل مكة فحجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني وكان موادعا للفريقين جميعا فانصرف، بعض القوم عن بعض ولم يكن بينهم قتال.

قال ابن إسحاق: وبعض الناس يقول: كانت راية حمزة أول راية عقدها رسول الله ﷺ لأحد من المسلمين، وذلك أن بعثه وبعث عبيدة كانا معا فشبِه ذلك على الناس.

قلت: وقد حكى موسى بن عقبة عن الزهري أن بعث حمزة قبل عبيدة بن الحارث، ونص على أن بعث حمزة كان قبل غزوة الأبواء.

فلما قفل عليه السلام من الأبواء بعث عبيدة بن الحارث في ستين من المهاجرين، وذكر نحو ما تقدم.

وقد تقدم عن الواقدي أنه قال: كانت سرية حمزة في رمضان من السنة الأولى، وبعدها سرية عبيدة في شوال منها والله أعلم.

وقد أورد ابن إسحاق عن حمزة رضي الله عنه شعرا يدل على أن رايته أول راية عقدت في الإسلام، لكن قال ابن إسحاق: فإن كان حمزة قال ذلك فهو كما قال، لم يكن يقول إلا حقا، والله أعلم أي ذلك كان.

فأما ما سمعنا من أهل العلم عندنا فعبيدة أول.

والقصيدة هي قوله:

ألا يالقومي للتحلم والجهل * وللنقض من رأي الرجال وللعقل

وللراكبينا بالمظالم لم نطأ * لهم حرمات من سوام ولا أهل

كأنا بتلناهم ولا بتل عندنا * لهم غير أمر بالعفاف وبالعدل

وأمر بإسلام فلا يقبلونه * وينزل منهم مثل منزلة الهزل

فما برحوا حتى انتدبت لغارة * لهم حيث حلوا أبتغي راحة الفضل

بأمر رسول الله أول خافق * عليه لواء لم يكن لاح من قبل

لواء لديه النصر من ذي كرامة * إله عزيز فعله أفضل الفعل

عشية ساروا حاشدين وكلنا * مراجله من غيظ أصحابه تغلي

فلما تراءينا أناخوا فعقلوا * مطايا وعقلنا مدى غرض النبل

وقلنا لهم حبل الإله نصيرنا * وما لكم إلا الضلالة من حبل

فثار أبو جهل هنالك باغيا * فخاب ورد الله كيد أبي جهل

وما نحن إلا في ثلاثين راكبا * وهم مائتان بعد واحدة فضل

فيال لؤي لا تطيعوا غواتكم * وفيؤا إلى الإسلام والمنهج السهل

فإني أخاف أن يصب عليكم * عذاب فتدعوا بالندامة والثكل

قال: فأجابه أبو جهل بن هشام - لعنه الله - فقال:

عجبت لأسباب الحنيظة والجهل * وللشاغبين بالخلاف وبالبطل

وللتاركين ما وجدنا جدودنا * عليه ذوي الأحساب والسؤدد الجزل

ثم ذكر تمامها.

قال ابن هشام: وأكثر أهل العلم بالشعر ينكر هاتين القصيدتين لحمزة رضي الله عنه ولأبي جهل - لعنه الله -.

غزوة بواط من ناحية رضوى

قال ابن إسحاق: ثم غزا رسول الله ﷺ في شهر ربيع الأول - يعني: من السنة الثانية - يريد قريشا.

قال ابن هشام: واستعمل على المدينة السائب بن عثمان بن مظعون.

وقال الواقدي: استخلف عليها سعد بن معاذ.

وكان رسول الله ﷺ في مائتي راكب، وكان لواؤه مع سعد بن أبي وقاص وكان مقصده أن يعترض لعير قريش وكان فيه أمية بن خلف ومائة رجل وألفان وخمسمائة بعير.

قال ابن إسحاق: حتى بلغ بواط من ناحية رضوى، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا فلبث بها بقية شهر ربيع الآخر وبعض جمادى الأولى.

غزوة العشيرة

قال ابن هشام: واستعمل على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد.

قال الواقدي: وكان لواؤه مع حمزة بن عبد المطلب.

قال: وخرج عليه السلام يتعرض لعيرات قريش ذاهبة إلى الشام.

قال ابن إسحاق: فسلك على نقب بني دينار، ثم على فيناء الخيار، فنزل تحت شجرة ببطحاء ابن أزهر يقال لها: ذات الساق فصلى عندها فثم مسجده، فصنع له عندها طعام فأكل منه وأكل الناس معه، فرسوم أثافي البرمة معلوم هناك، واستسقى له من ماء يقال له: المشيرب.

ثم ارتحل فنزك الخلائق بيسار وسلك شعبة عبد الله، ثم صب للشاد حتى هبط ملل، فنزل بمجتمعه ومجتمع الضبوعة، ثم سلك فرش ملل حتى لقي الطريق بصخيرات اليمام، ثم اعتدل به الطريق حتى نزل العشيرة من بطن ينبع فأقام بها جمادى الأولى وليال من جمادى الآخرة ووادع فيها بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا.

وقد قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، ثنا وهب، ثنا شعبة، عن أبي إسحاق.

قال: كنت إلى جنب زيد بن أرقم فقيل له: كم غزا رسول الله ﷺ من غزوة؟

قال: تسع عشرة.

قلت: كم غزوة أنت معه؟

قال: سبع عشرة غزوة، قلت: فأيهن كان أول؟

قال: العشير - أو العسير - فذكرت لقتادة فقال: العشير.

وهذا الحديث ظاهر في أن أول الغزوات العشيرة، ويقال: بالسين وبهما مع حذف التاء، وبهما مع المد اللهم إلا أن يكون المراد غزاة شهدها مع النبي ﷺ زيد بن أرقم العشيرة وحينئذً لا ينفي أن يكون قبلها غيرها لم يشهدها زيد بن أرقم وبهذا يحصل الجمع بين ما ذكره محمد بن إسحاق وبين هذا الحديث والله أعلم.

قال محمد بن إسحاق: ويومئذٍ قال رسول الله ﷺ لعلي ما قال.

فحدثني يزيد بن محمد بن خيثم، عن محمد بن كعب القرظي، حدثني أبو يزيد محمد بن خيثم، عن عمار بن ياسر.

قال: كنت أنا وعلي بن أبي طالب رفيقين في غزوة العشيرة من بطن ينبع، فلما نزلها رسول الله ﷺ أقام بها شهرا فصالح بها بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة فوادعهم.

فقال لي علي بن أبي طالب: هل لك يا أبا اليقظان أن نأتي هؤلاء النفر - من بني مدلج يعملون في عين لهم - ننظر كيف يعملون؟

فأتيناهم فنظرنا إليهم ساعة فغشينا النوم فعمدنا إلى صور من النخل في دقعاء من الأرض فنمنا فيه.

فوالله ما أهبنا إلا ورسول الله ﷺ يحركنا بقدمه فجلسنا وقد تتربنا من تلك الدقعاء فيومئذٍ قال رسول الله ﷺ لعلي: «يا أبا تراب» لما عليه من التراب فأخبرناه بما كان من أمرنا فقال: «ألا أخبركم بأشقى الناس رجلين؟»

قلنا: بلى يا رسول الله.

فقال: «أحيمر ثمود الذي عقر الناقة والذي يضر بك يا علي على هذه - ووضع رسول الله ﷺ يده على رأسه - حتى تبل منها هذه - ووضع يده على لحيته -».

وهذا حديث غريب من هذا الوجه له شاهد من وجه آخر في تسمية علي أبا تراب كما في (صحيح البخاري): أن عليا خرج مغاضبا فاطمة، فجاء المسجد فنام فيه فدخل رسول الله ﷺ فسألها عنه فقالت: خرج مغاضبا فجاء إلى المسجد فأيقظه وجعل يمسح التراب عنه ويقول: «قم أبا تراب قم أبا تراب».

غزوة بدر الأولى

قال ابن إسحاق: ثم لم يقم رسول الله ﷺ بالمدينة حين رجع من العشيرة إلا ليال قلائل لا تبلغ العشرة، حتى أغار كرز بن جابر الفهري على سرح المدينة، فخرج رسول الله ﷺ في طلبه حتى بلغ واديا يقال له: سفوان من ناحية بدر، وهي غزوة بدر الأولى، وفاته كرز فلم يدركه.

وقال الواقدي: وكان لواؤه مع علي بن أبي طالب.

قال ابن هشام والواقدي: وكان قد استخلف على المدينة زيد بن حارثة.

قال ابن إسحاق: فرجع رسول الله ﷺ فأقام جمادى ورجبا وشعبان وقد كان بعث بين يدي ذلك سعدا في ثمانية رهط من المهاجرين، فخرج حتى بلغ الخرار من أرض الحجاز.

قال ابن هشام: ذكر بعض أهل العلم أن بعث سعد هذا كان بعد حمزة، ثم رجع ولم يلق كيدا.

هكذا ذكره ابن إسحاق مختصرا وقد تقدم ذكر الواقدي لهذه البعوث الثلاثة، أعني بعث حمزة في رمضان، وبعث عبيدة في شوال، وبعث سعد في ذي القعدة كلها في السنة الأولى.

وقد قال الإمام أحمد: حدثني عبد المتعال بن عبد الوهاب، حدثني يحيى بن سعيد.

وقال عبد الله بن الإمام أحمد: وحدثني سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي، حدثنا أبي، ثنا المجالد، عن زياد بن علاقة، عن سعد بن أبي وقاص.

قال: لما قدم رسول الله ﷺ المدينة جاءته جهينة فقالوا: إنك قد نزلت بين أظهرنا فأوثق حتى نأتيك وقومنا، فأوثق لهم فأسلموا قال: فبعثنا رسول الله ﷺ في رجب ولا نكون مائة وأمرنا أن نغير على حي من بني كنانة إلى جنب جهينة فأغرنا عليهم وكانوا كثيرا فلجأنا إلى جهينة فمنعونا وقالوا: لم تقاتلون في الشهر الحرام؟

فقال بعضنا لبعض: ما ترون؟

فقال بعضنا: نأتي نبي الله فنخبره، وقال قوم: لا بل نقيم ههنا، وقلت أنا في أناس معي: لا بل نأتي عير قريش فنقتطعها.

وكان الفيء إذ ذاك من أخذ شيئا فهو له، فانطلقنا إلى العير وانطلق أصحابنا إلى النبي ﷺ فأخبروه الخبر فقام غضبان محمر الوجه.

فقال: «أذهبتم من عندي جميعا ورجعتم متفرقين إنما أهلك من كان قبلكم الفرقة، لأبعثن عليكم رجلا ليس بخيركم أصبركم على الجوع والعطش».

فبعث علينا عبد الله بن جحش الأسدي فكان أول أمير في الإسلام.

وقد رواه البيهقي في (الدلائل) من حديث يحيى بن أبي زائدة عن مجالد به نحوه

وزاد بعد قولهم لأصحابه: لم تقاتلون في الشهر الحرام؟

فقالوا: نقاتل في الشهر الحرام من أخرجنا من البلد الحرام.

ثم رواه من حديث أبي أسامة عن مجالد، عن زياد بن علاقة، عن قطبة بن مالك، عن سعد بن أبي وقاص فذكر نحوه.

فأدخل بين سعد وزياد قطبة بن مالك وهذا أنسب والله أعلم.

وهذا الحديث يقتضي أن أول السرايا: عبد الله بن جحش الأسدي وهو خلاف ما ذكره ابن إسحاق أن أول الرايات: عقدت لعبيدة بن الحارث بن المطلب، وللواقدي حديث زعم أن أول الرايات: عقدت لحمزة بن عبد المطلب والله أعلم.

باب سرية عبد الله بن جحش

التي كان سببها لغزوة بدر العظمى وذلك يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير.

قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله ﷺ عبد الله ابن جحش بن رئاب الأسدي في رجب مقفله من بدر الأولى وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد، وهم: أبو حذيفة بن عتبة، وعكاشة بن محصن بن حرثان حليف بني أسد بن خزيمة، وعتبة بن غزوان حليف بني نوفل، وسعد بن أبي وقاص الزهري، وعامر بن ربيعة الوائلي حليف بني عدي، وواقد بن عبد الله ابن عبد مناف بن عرين بن ثعلبة بن يربوع التميمي حليف بني عدي أيضا، وخالد بن البكير أحد بني سعد بن ليث حليف بني عدي أيضا، وسهل بن بيضاء الفهري، فهؤلاء سبعة ثامنهم: أميرهم عبد الله بن جحش رضي الله عنه.

وقال يونس: عن ابن إسحاق: كانوا ثمانية وأميرهم التاسع فالله أعلم.

قال ابن إسحاق: وكتب له كتابا وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه، فيمضي لما أمره به، ولا يستكره من أصحابه أحدا.

فلما سار بهم يومين فتح الكتاب فإذا فيه: إذا نظرت في كتابي فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، فترصد بها قريشا وتعلم لنا من أخبارهم، فلما نظر في الكتاب قال: سمعا وطاعة وأخبر أصحابه بما في الكتاب.

وقال: قد نهاني أن أستكره أحدا منكم فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع فأما أنا فماض لأمر رسول الله ﷺ فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف منهم أحد.

وسلك على الحجاز حتى إذا كان بمعدن، فوق الفرع يقال له: بحران، أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يعتقبانه فتخلفا في طلبه ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل نخلة، فمرت عير لقريش فيها عمرو بن الحضرمي.

قال ابن هشام: واسم الحضرمي عبد الله بن عباد أحد الصدف وعثمان بن عبد الله بن المغيرة المخزومي وأخوه نوفل والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة، فلما رآهم القوم هابوهم وقد نزلوا قريبا منهم فأشرف لهم عكاشة بن محصن وكان قد حلق رأسه.

فلما رأوه أمنوا، وقال عمار: لا بأس عليكم منهم، وتشاور الصحابة فيهم وذلك في آخر يوم من رجب، فقالوا: والله لئن تركتموهم هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعن به منكم، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام فتردد القوم، وهابوا الإقدام عليهم، ثم شجعوا أنفسهم عليهم، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم، وأخذ ما معهم.

فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، واستأسر عثمان بن عبد الله، والحكم بن كيسان وأفلت القوم نوفل بن عبد الله فأعجزهم، وأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله ﷺ.

وقد ذكر بعض آل عبد الله بن جحش أن عبد الله قال لأصحابه: إن لرسول الله ﷺ فيما غنمتا الخمس فعزله، وقسم الباقي بين أصحابه وذلك قبل أن ينزل الخمس.

قال: لما نزلنا الخمس نزل كما قسمه عبد الله بن جحش كما قاله ابن إسحاق، فلما قدموا على رسول الله ﷺ قال: «ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام» فوقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا.

فلما قال ذلك رسول الله ﷺ أسقط في أيدي القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا، وقالت قريش: قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال، فقال من يرد عليهم من المسلمين ممن كان بمكة: إنما أصابوا ما أصابوا في شعبان، وقالت يهود: تفائل بذلك على رسول الله ﷺ عمرو ابن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله، عمرو عمرت الحرب، والحضرمي حضرت الحرب، وواقد بن عبد الله وقدت الحرب، فجعل الله ذلك عليهم لا لهم.

فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله تعالى على رسوله ﷺ: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا } [112].

أي: إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به، وعن المسجد الحرام، وإخراجكم منه وأنتم أهله أكبر عند الله من قتل من قتلتم منهم والفتنة أكبر من القتل، أي: قد كانوا يفتنون المسلم عن دينه، حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه، فذلك أكبر عند الله من القتل، ثم هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه، غير تائبين ولا نازعين، ولهذا قال الله تعالى: { ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا } الآية.

قال ابن إسحاق: فلما نزل القرآن بهذا الأمر، وفرج الله عن المسلمين ما كانوا فيه من الشفق، قبض رسول الله ﷺ العير والأسيرين، وبعثت قريش في فداء عثمان والحكم بن كيسان فقال رسول الله ﷺ: «لا نفديكموهما حتى يقدم صاحبانا» - يعني: سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان - فإنا نخشاكم عليهما، فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم.

فقدم سعد وعتبة فافداهما رسول الله ﷺ.

فأما الحكم بن كيسان فأسلم فحسن إسلامه وأقام عند رسول الله ﷺ حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا، وأما عثمان بن عبد الله فلحق بمكة فمات بها كافرا.

قال ابن إسحاق: فلما تجلى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه حين نزل القرآن، طمعوا في الأجر، فقالوا يا رسول الله: أنطمع أن تكون لنا غزاة نعطى فيها أجر المجاهدين؟

فأنزل الله فيهم: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [113] فوصفهم الله من ذلك على أعظم الرجاء.

قال ابن إسحاق: والحديث في ذلك عن الزهري ويزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير.

وهكذا ذكر موسى بن عقبة في (مغازيه) عن الزهري وكذا روى شعيب عن الزهري عن عروة نحوا من هذا وفيه: وكان ابن الحضرمي أول قتيل قتل بين المسلمين والمشركين.

وقال عبد الملك بن هشام: هو أول قتيل قتله المسلمون، وهذه أول غنيمة غنمها المسلمون، وعثمان والحكم بن كيسان أول من أسره المسلمون.

قلت: وقد تقدم فيما رواه الإمام أحمد: عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: فكان عبد الله بن جحش أول أمير في الإسلام.

وقد ذكرنا في التفسير لما أورده ابن إسحاق شواهد مسندة فمن ذلك ما رواه الحافظ أبو محمد بن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، حدثني الحضرمي، عن أبي السوار، عن جندب بن عبد الله: أن رسول الله ﷺ بعث رهطا وبعث عليهم أبا عبيدة بن الجراح، أو عبيدة بن الحارث، فلما ذهب بكى صبابة إلى رسول الله ﷺ فجلس، فبعث عليهم مكانه عبد الله بن جحش وكتب له كتابا وأمره أن لا يقرأه حتى يبلغ مكان كذا وكذا.

وقال: «لا تكرهن أحدا على المسير معك من أصحابك» فلما قرأ الكتاب استرجع وقال سمعا وطاعة لله ولرسوله، فخبرهم الخبر وقرأ عليهم الكتاب فرجع منهم رجلان وبقي بقيتهم فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب أو جمادى، فقال المشركون للمسلمين: قتلتم في الشهر الحرام، فأنزل الله: { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير } الآية.

وقال إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير في (تفسيره): عن أبي مالك، عن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، عن جماعة من الصحابة { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير } وذلك أن رسول الله ﷺ بعث سرية وكانوا سبعة نفر عليهم عبد الله بن جحش وفيهم عمار بن ياسر، وأبو حذيفة بن عتبة، وسعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان، وسهل بن بيضاء، وعامر بن فهيرة، وواقد بن عبد الله اليربوعي حليف لعمر بن الخطاب، وكتب لابن جحش كتابا وأمره أن لا يقرأه حتى ينزل بطن ملل فلما نزل بطن ملل فتح الكتاب فإذا فيه: أن سر حتى تنزل بطم نخلة فقال لأصحابه: من كان يريد الموت فليمض وليوص فإنني موص وماض لأمر رسول الله ﷺ فسار وتخلف عنه سعد وعتبة أضلا راحلة لهما فأقاما يطلبانها، وسار هو وأصحابه حتى نزل بطن نخلة فإذا هو بالحكم بن كيسان، والمغيرة بن عثمان، وعبد الله بن المغيرة.

فذكر قتل واقد لعمرو بن الحضرمي ورجعوا بالغنيمة والأسيرين فكانت أول غنيمة غنمها المسلمون.

وقال المشركون: إن محمدا يزعم أنه يتبع طاعة الله وهو أول من استحل الشهر الحرام وقتل صاحبنا في رجب.

وقال المسلمون: إنما قتلناه في جمادى.

قال السدي: وكان قتلهم له أول ليلة من رجب وآخر ليلة من جمادى الآخرة.

قلت: لعل جمادى كان ناقصا فاعتقدوا بقاء الشهر ليلة الثلاثين، وقد كان الهلال رؤي تلك الليلة فالله أعلم.

وهكذا روى العوفي عن ابن عباس أن ذلك كان في آخر ليلة من جمادى، وكانت أول ليلة من رجب، ولم يشعروا وكذا تقدم في حديث جندب الذي رواه ابن أبى حاتم.

وقد تقدم في سياق ابن إسحاق أن ذلك كان في آخر ليلة من رجب وخافوا إن لم يتداركوا هذه الغنيمة وينتهزوا هذه الفرصة دخل أولئك في الحرم فيتعذر عليهم ذلك فأقدموا عليهم عالمين بذلك وكذا قال الزهري عن عروة رواه البيهقي فالله أعلم أي ذلك كان.

قال الزهري عن عروة فبلغنا أن رسول الله ﷺ عقل ابن الحضرمي وحرم الشهر الحرام كما كان يحرمه حتى أنزل الله براءة رواه البيهقي.

قال ابن إسحاق: فقال أبو بكر الصديق في غزوة عبد الله بن جحش جوابا للمشركين فيما قالوا من إحلال الشهر الحرام.

قال ابن هشام: هي لعبد الله بن جحش:

تعدون قتلا في الحرام عظيمة * وأعظم منه لو يرى الرشد راشد

صدودكم عما يقول محمد * وكفر به والله راء وشاهد

وإخراجكم من مسجد الله أهله * لئلا يرى لله في البيت ساجد

فإنا وإن عيرتمونا بقتله * وأرجف بالإسلام باغ وحاسد

سقينا من ابن الحضرمي رماحنا * بنخلة لما أوقد الحرب واقد

دما وابن عبد الله عثمان بيننا * ينازعه غلّ من القيد عاند

فصل في تحويل القبلة في سنة ثنتين من الهجرة قبل وقعة بدر

وقال بعضهم: كان ذلك في رجب من سنة ثنتين وبه قال قتادة وزيد بن أسلم وهو رواية عن محمد بن إسحاق.

وقد روى أحمد عن ابن عباس ما يدل على ذلك وهو ظاهر حديث البراء بن عازب كما سيأتي والله أعلم.

وقيل: في شعبان منها.

قال ابن إسحاق: بعد غزوة عبد الله بن جحش: ويقال: صرفت القبلة في شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من مقدم رسول الله ﷺ المدينة.

وحكى هذا القول ابن جرير من طريق السدي فسنده عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة.

قال الجمهور الأعظم: إنما صرفت في النصف من شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من الهجرة.

ثم حكي عن محمد بن سعد، عن الواقدي أنها حولت يوم الثلاثاء النصف من شعبان، وفي هذا التحديد نظر والله أعلم.

وقد تكلمنا على ذلك مستقصى في التفسير عند قوله تعالى: { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } [114]، وما قبلها وما بعدها من اعتراض سفهاء اليهود والمنافقين والجهلة الطغام على ذلك لأنه أول نسخ وقع في الإسلام هذا وقد أحال الله قبل ذلك في سياق القرآن تقرير جواز النسخ عند قوله: { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير }.

وقد قال البخاري: حدثنا أبو نعيم سمع زهيرا عن أبي إسحاق، عن البراء أن النبي ﷺ صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا - أو سبعة عشر شهرا - وكان يعجبه أن تكون قبلته إلى البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها إلى الكعبة العصر وصلى معه قوم فخرج رجل ممن كان معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع النبي ﷺ ِقبل مكة فداروا كما هم قبل البيت، وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحول رجال قتلوا لم ندر ما نقول فيهم فأنزل الله: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } [115] رواه مسلم من وجه آخر.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا الحسن بن عطية، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: كان رسول الله ﷺ قد صلى نحو بيت المقدس ستة عشر - أو سبعة عشر - شهرا، وكان يحب أن يوجه نحو الكعبة فأنزل الله: { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [116].

قال: فوجه نحو الكعبة وقال السفهاء من الناس: - وهم اليهود - ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها.

فأنزل الله: { قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } وحاصل الأمر أن رسول الله ﷺ كان يصلي بمكة إلى بيت المقدس والكعبة بين يديه كما رواه الإمام أحمد، عن ابن عباس رضي الله عنه، فلما هاجر إلى المدينة لم يمكنه أن يجمع بينهما فصلى إلى بيت المقدس أول مقدمه المدينة واستدبر الكعبة ستة عشر شهرا - أو سبعة عشر شهرا - وهذا يقتضي أن يكون ذلك إلى رجب من السنة الثانية والله أعلم.

وكان عليه السلام يحب أن يصرف قبلته نحو الكعبة قبلة إبراهيم وكان يكثر الدعاء والتضرع والابتهال إلى الله عز وجل فكان مما يرفع يديه وطرفه إلى السماء سائلا ذلك فأنزل الله عز وجل: { قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام } الآية.

فلما نزل الأمر بتحويل القبلة خطب رسول الله ﷺ المسلمين وأعلمهم بذلك كما رواه النسائي عن أبي سعيد بن المعلى وأن ذلك كان وقت الظهر.

وقال بعض الناس: نزل تحويلها بين الصلاتين قاله مجاهد وغيره ويؤيد ذلك ما ثبت في (الصحيحين) عن البراء أن أول صلاة صلاها عليه السلام إلى الكعبة بالمدينة العصر والعجب أن أهل قباء لم يبلغهم خبر ذلك إلى صلاة الصبح من اليوم الثاني كما ثبت في (الصحيحين) عن ابن عمر.

قال: بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله ﷺ قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة، فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة.

وفي (صحيح مسلم) عن أنس بن مالك نحو ذلك.

والمقصود أنه لما نزل تحويل القبلة إلى الكعبة ونسخ به الله تعالى حكم الصلاة إلى بيت المقدس طعن طاعنون من السفهاء والجهلة والأغبياء قالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، هذا والكفرة من أهل الكتاب يعلمون أن ذلك من الله لما يجدونه من صفة محمد ﷺ في كتبهم من أن المدينة مهاجره وأنه سيؤمر بالاستقبال إلى الكعبة كما قال: { وإن الذين أورثوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم } الآية.

وقد أجابهم الله تعالى مع هذا كله عن سؤالهم، ونعتهم فقال: { سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } أي: هو المالك المتصرف الحاكم الذي لا معقب لحكمه الذي يفعل ما يشاء في خلقه ويحكم ما يريد في شرعه، وهو الذي يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، ويضل من يشاء عن الطريق القويم، وله في ذلك الحكمة التي يجب لها الرضا والتسليم.

ثم قال تعالى: { وكذلك جعلناكم أمة وسطا } أي: خيارا { لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا } أي: وكما اخترنا لكم أفضل الجهات في صلاتكم وهديناكم إلى قبلة أبيكم إبراهيم والد الأنبياء بعد التي كان يصلي بها موسى فمن قبله من المرسلين كذلك جعلناكم خيار الأمم وخلاصة العالم وأشرف الطوائف وأكرم التالد والطارف لتكونوا يوم القيامة شهداء على الناس لإجماعهم عليكم وإشارتهم يومئذ بالفضيلة إليكم.

كما ثبت في (صحيح البخاري): عن أبي سعيد مرفوعا من استشهاد نوح بهذه الأمة يوم القيامة وإذا استشهد بهم نوح مع تقدم زمانه فمن بعده بطريق الأولى والأخرى.

ثم قال تعالى مبينا حكمته في حلول نقمته بمن شك وارتاب بهذه الواقعة.

وحلول نعمته على من صدق وتابع هذه الكائنة.

فقال: { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول }.

قال ابن عباس: إلا لنرى من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، وإن كانت لكبيرة أي: وإن كانت هذه الكائنة العظيمة الموقع كبيرة المحل شديدة الأمر إلا على الذي هدى الله أي: فهم مؤمنون بها مصدقون لها لا يشكون ولا يرتابون بل يرضون ويؤمنون ويعملون لأنهم عبيد للحاكم العظيم القادر المقتدر الحليم الخبير اللطيف العليم وقوله: { وما كان الله ليضيع إيمانكم } أي: بشرعته استقبال بيت المقدس والصلاة إليه { إن الله بالناس لرؤف رحيم }.

والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جدا يطول استقصاؤها وذلك مبسوط في التفسير وسنزيد ذلك بيانا في كتابنا (الأحكام الكبير).

وقد روى الإمام أحمد: حدثنا علي بن عاصم، حدثنا حصين بن عبد الرحمن، عن عمرو بن قيس، عن محمد بن الأشعث، عن عائشة قالت: قال رسول الله ﷺ: - يعني: في أهل الكتاب - «إنهم لم يحسدونا على شيء كما يحسدوننا على يوم الجمعة التي هدانا الله إليها وضلوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلوا، وعلى قولنا خلف الإمام آمين».

فصل في فريضة شهر رمضان سنة ثنتين قبل وقعة بدر

قال ابن جرير: وفي هذه السنة فرض صيام شهر رمضان، وقد قيل: إنه فرض في شعبان منها

ثم حكى أن رسول الله ﷺ حين قدم المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم عنه

فقالوا: هذا يوم نجى الله فيه موسى وغرق فيه آل فرعون.

فقال: «نحن أحق بموسى منكم» فصامه وأمر الناس بصيامه، وهذا الحديث ثابت في (الصحيحين) عن ابن عباس: وقد قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّاما مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [117] الآية.

وقد تكلمنا على ذلك في التفسير بما فيه الكفاية من إيراد الأحاديث المتعلقة بذلك والآثار المروية في ذلك والأحكام المستفادة منه ولله الحمد.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر، حدثنا المسعودي، حدثنا عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل.

قال: أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال، وأحيل الصيام ثلاثة أحوال، فذكر أحوال الصلاة قال: وأما أحوال الصيام فإن رسول الله ﷺ قدم المدينة فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، وصام عاشوراء ثم أن الله فرض عليه الصيام وأنزل: { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم } إلى قوله { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } فكان من شاء صام ومن شاء أطعم مسكينا فأجزأ ذلك عنه.

ثم إن الله أنزل الآية الأخرى: { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } إلى قوله: { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } فأثبت صيامه على المقيم الصحيح ورخص فيه للمريض والمسافر وأثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام فهذان حولان.

قال: وكانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا، فإذا ناموا امتنعوا.

ثم أن رجلا من الأنصار يقال له: صرمة كان يعمل صائما حتى أمسى فجاء أهله فصلى العشاء ثم نام فلم يأكل ولم يشرب حتى أصبح فأصبح صائما، فرآه رسول الله ﷺ قد جهد جهدا شديدا فقال: «مالي أراك قد جهدت جهدا شديدا؟»

فأخبره، قال: وكان عمر قد أصاب من النساء بعد ما نام فأتى رسول الله ﷺ فذكر ذلك له فأنزل الله: { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم } إلى قوله: { ثم أتموا الصيام إلى الليل }.

ورواه أبو داود في (سننه)، والحاكم في (مستدركه) من حديث المسعودي نحوه.

وفي (الصحيحين) من حديث الزهري، عن عروة، عن عائشة أنها قالت: كان عاشوراء يصام، فلما نزل رمضان كان من شاء صام ومن شاء أفطر.

وللبخاري، عن ابن عمر، وابن مسعود مثله، ولتحرير هذا موضع آخر من التفسير ومن (الأحكام الكبير) وبالله المستعان.

قال ابن جرير: وفي هذه السنة أمر الناس بزكاة الفطر، وقد قيل: إن رسول الله ﷺ خطب الناس قبل الفطر بيوم - أو يومين - وأمرهم بذلك، قال: وفيها صلى النبي ﷺ صلاة العيد وخرج بالناس إلى المصلى فكان أول صلاة عيد صلاها وخرجوا بين يديه بالحربة وكانت للزبير وهبها له النجاشي فكانت تحمل بين يدي رسول الله ﷺ في الأعياد.

قلت: وفي هذه السنة فيما ذكره غير واحد من المتأخرين فرضت الزكاة ذات النصب كما سيأتي تفصيل ذلك كله بعد وقعة بدر إن شاء الله تعالى وبه الثقة وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

غزوة بدر العظمى يوم الفرقان يوم التقى الجمعان

قال الله تعالى: { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [118].

وقال الله تعالى: { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ } [119] وما بعدها إلى تمام القصة من سورة الأنفال وقد تكلمنا عليها هنالك وسنورد هاهنا في كل موضع ما يناسبه.

قال ابن إسحاق - رحمه الله - بعد ذكره سرية عبد الله بن جحش: ثم إن رسول الله ﷺ سمع بأبي سفيان صخر بن حرب مقبلا من الشام في عير لقريش عظيمة فيها أموال وتجارة، وفيها ثلاثون رجلا - أو أربعون - منهم: مخرمة بن نوفل، وعمرو بن العاص.

قال موسى بن عقبة: عن الزهري: كان ذلك بعد مقتل ابن الحضرمي بشهرين، قال: وكان في العير ألف بعير تحمل أموال قريش بأسرها إلا حويطب بن عبد العزى فلهذا تخلف عن بدر.

قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن مسلم بن شهاب، وعاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر، ويزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير وغيرهم من علمائنا، عن ابن عباس، كل قد حدثني بعض الحديث فاجتمع حديثهم فيما سقت من حديث بدر.

قالوا: لما سمع رسول الله ﷺ بأبي سفيان مقبلا من الشام ندب المسلمين إليهم وقال: «هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها»، فانتدب الناس فخفف بعضهم وثقل بعض، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله ﷺ يلقى حربا، وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتجسس من لقي من الركبان تخوفا على أموال الناس حتى أصاب خبرا من بعض الركبان أن محمدا قد استنفر أصحابه لك ولعيرك فحذر عند ذلك.

فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى مكة، وأمره أن يأتي قريشا فيستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها في أصحابه، فخرج ضمضم بن عمرو سريعا إلى مكة.

قال ابن إسحاق: فحدثني من لا أتهم عن عكرمة، عن ابن عباس، ويزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير.

قالا: وقد رأت عاتكة بنت عبد المطلب قبل قدوم ضمضم إلى مكة بثلاث ليال رؤيا أفزعتها، فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب فقالت له: يا أخي والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفظعتني وتخوفت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة فاكتم عليّ ما أحدثك، قال لها: وما رأيت؟

قالت: رأيت راكبا أقبل على بعير له، حتى وقف بالأبطح، ثم صرخ بأعلا صوته: ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث، فأرى الناس اجتمعوا إليه.

ثم دخل المسجد والناس يتبعونه فبينما هم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة، ثم صرخ بمثلها: إلا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث.

ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس فصرخ بمثلها، ثم أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوي حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار إلا دخلتها منها فلقة.

قال العباس: والله إن هذه لرؤيا، وأنت فاكتميها لا تذكريها لأحد، ثم خرج العباس فلقي الوليد بن عتبة - وكان له صديقا - فذكرها له واستكتمه إياها فذكرها الوليد لابنه عتبة ففشا الحديث حتى تحدثت به قريش في أنديتها.

قال العباس: فغدوت لأطوف بالبيت وأبو جهل ابن هشام في رهط من قريش قعود يتحدثون برؤيا عاتكة، فلما رآني أبو جهل قال: يا أبا الفضل إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا، فلما فرغت أقبلت حتى جلست معهم فقال أبو جهل: يا بني عبد المطلب، متى حدثت فيكم هذه النبية؟

قال: قلت: وما ذاك؟

قال: تلك الرؤيا التي رأت عاتكة.

قال: قلت: وما رأت؟

قال: يا بني عبد المطلب، أما رضيتم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم! قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه

قال: انفروا في ثلاث، فسنتربص بكم هذه الثلاث فإن يك حقا ما تقول فسيكون، وإن تمض ثلاث ولم يكن من ذلك شيء نكتب عليكم كتابا أنكم أكذب أهل بيت في العرب.

قال العباس: فوالله ما كان مني إليه كبير شيء إلا أني جحدت ذلك وأنكرت أن تكون رأت شيئا.

قال: ثم تفرقنا فلما أمسيت لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني، فقالت: أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم، ثم قد تناول النساء وأنت تسمع، ثم لم يكن عندك غيرة لشيء مما سمعت؟

قال: قلت: قد والله فعلت ما كان مني إليه من كبير، وأيم الله لأتعرضن له، فإذا عاد لأكفيكنه.

قال: فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة وأنا حديد مغضب أرى أني قد فاتني منه أمر أحب أن أدركه منه.

قال: فدخلت المسجد فرأيته فوالله إني لأمشي نحوه أتعرضه ليعود لبعض ما قال فأقع به، وكان رجلا خفيفا حديد الوجه، حديد اللسان، حديد النظر، قال: إذ خرج نحو باب المسجد يشتد، قال:

قلت في نفسي: ماله - لعنه الله - أكل هذا فرق مني أن أشاتمه؟!

وإذا هو قد سمع ما لم أسمع صوت ضمضم بن عمرو الغفاري وهو يصرخ ببطن الوادي واقفا على بعيره قد جدع بعيره، وحول رحله وشق قميصه وهو يقول: يا معشر قريش، اللطيمة اللطيمة، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه لا أرى أن تدركوها الغوث الغوث.

قال: فشغلني عنه وشغله عني ما جاء من الأمر فتجهز الناس سراعا وقالوا: أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي؟ كلا والله ليعلمن غير ذلك.

وذكر موسى بن عقبة رؤيا عاتكة كنحو من سياق ابن إسحاق.

قال: فلما جاء ضمضم بن عمرو على تلك الصفة خافوا من رؤيا عاتكة فخرجوا على الصعب والذلول.

قال ابن إسحاق: فكانوا بين رجلين إما خارج وإما باعث مكانه رجلا، وأوعبت قريش فلم يتخلف من أشرافها أحد إلا أن أبا لهب ابن عبد المطلب بعث مكانه العاصي بن هشام بن المغيرة استأجره بأربعة آلاف درهم كانت له عليه قد أفلس بها.

قال ابن إسحاق: وحدثني ابن أبي نجيح: أن أمية بن خلف كان قد أجمع القعود وكان شيخا جليلا جسيما ثقيلا، فأتاه عقبة بن أبي معيط وهو جالس في المسجد بين ظهراني قومه بمجمرة يحملها، فيها نار ومجمر، حتى وضعها بين يديه ثم قال: يا أبا علي، استجمر فإنما أنت من النساء.

قال: قبحك الله وقبح ما جئت به.

قال: ثم تجهز وخرج مع الناس هكذا قال ابن إسحاق في هذه القصة.

وقد رواها البخاري على نحو آخر فقال: حدثني أحمد بن عثمان، حدثنا شريح بن مسلمة، ثنا إبراهيم بن يوسف، عن أبيه، عن أبي إسحاق، حدثني عمرو بن ميمون: أنه سمع عبد الله بن مسعود حدث عن سعد بن معاذ: أنه كان صديقا لأمية بن خلف وكان أمية إذا مرَّ بالمدينة نزل على سعد بن معاذ، وكان سعد إذا مرَّ بمكة نزل على أمية، فلما قدم رسول الله ﷺ المدينة انطلق سعد بن معاذ معتمرا فنزل على أمية بمكة.

قال سعد لأمية: أنظر لي ساعة خلوة لعلي أطوف بالبيت، فخرج به قريبا من نصف النهار، فلقيهما أبو جهل، فقال: يا أبا صفوان، من هذا معك؟

قال: هذا سعد.

قال له أبو جهل: ألا أراك تطوف بمكة آمنا وقد أويتم الصباة وزعمتم أنكم تنصرونهم وتعينونهم أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالما.

فقال له سعد - ورفع صوته عليه -: أما والله لئن منعتني هذا لأمنعنك ما هو أشد عليك منه طريقك على المدينة.

فقال له أمية: لا ترفع صوتك يا سعد على أبي الحكم فإنه سيد أهل الوادي.

قال سعد: دعنا عنك يا أمية فوالله لقد سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إنهم قاتلوك».

قال: بمكة؟

قال: لا أدري.

ففزع لذلك أمية فزعا شديدا فلما رجع إلى أهله قال: يا أم صفوان، ألم تري ما قال لي سعد؟

قالت: وما قال لك؟

قال: زعم أن محمدا أخبرهم أنهم قاتلي.

فقلت له: بمكة؟

قال: لا أدري.

فقال أمية: والله لا أخرج من مكة.

فلما كان يوم بدر استنفر أبو جهل الناس فقال: أدركوا عيركم، فكره أمية أن يخرج فأتاه أبو جهل فقال: يا أبا صفوان، إنك متى يراك الناس قد تخلفت وأنت سيد أهل الوادي تخلفوا معك، فلم يزل به أبو جهل حتى قال: أما إذ عبتني فوالله لأشترين أجود بعير بمكة.

ثم قال أمية: يا أم صفوان، جهزيني.

فقالت له: يا أبا صفوان وقد نسيت ما قال لك أخوك اليثربي؟

قال: لا، وما أريد أن أجوز معهم إلا قريبا.

فلما خرج أمية أخذ لا ينزل منزلا إلا عقل بعيره فلم يزل كذلك حتى قتله الله ببدر.

وقد رواه البخاري في موضع آخر، عن محمد بن إسحاق، عن عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق به نحوه.

تفرد به البخاري.

وقد رواه الإمام أحمد: عن خلف بن الوليد، وعن أبي سعيد، كلاهما عن إسرائيل.

وفي رواية إسرائيل قالت له امرأته: والله إن محمدا لا يكذب.

قال ابن إسحاق: ولما فرغوا من جهازهم وأجمعوا المسير، ذكروا ما كانوا بينهم وبين بني بكر بن عبد مناة من الحرب.

فقالوا: إنا نخشى أن يأتونا من خلفنا، وكانت الحرب التي كانت بين قريش وبين بني بكر في ابن لحفص بن الأخيف من بني عامر بن لؤي قتله رجل من بني بكر بإشارة عامر بن يزيد بن عامر بن الملوح.

ثم أخذ بثأره أخوه مكرز بن حفص فقتل عامرا وخاض بسيفه في بطنه، ثم جاء الليل فعلقه بأستار الكعبة فخافوهم بسبب ذلك الذي وقع بينهم.

قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير قال: لما أجمعت قريش المسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر فكاد ذلك أن يثنيهم، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي وكان من أشراف بني كنانة.

فقال: أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه، فخرجوا سراعا.

قلت: وهذا معنى قوله تعالى: { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ * وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [120].

غرَّهم - لعنه الله - حتى ساروا وسار معهم منزلة منزلة ومعه جنوده وراياته كما قاله غير واحد منهم، فأسلمهم لمصارعهم.

فلما رأى الجد والملائكة تنزل للنصر وعاين جبريل نكص على عقبيه وقال: إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله.

وهذا كقوله تعالى: { كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } [121].

وقد قال الله تعالى: { وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقا } [122].

فإبليس - لعنه الله - لما عاين الملائكة يومئذٍ تنزل للنصر فرَّ ذاهبا، فكان أول من هزم يومئذٍ بعد أن كان هو المشجع لهم المجير لهم كما غرهم ووعدهم ومناهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا.

وقال يونس: عن ابن إسحاق: خرجت قريش على الصعب والذلول في تسعمائة وخمسين مقاتلا، معهم مائتا فرس يقودونها، ومعهم القيان يضربن بالدفوف ويغنين بهجاء المسلمين.

وذكر المطعمين لقريش يوما يوما، وذكر الأموي: أن أول من نحر لهم حين خرجوا من مكة أبو جهل نحر لهم عشرا، ثم نحر لهم أمية بن خلف بعسفان تسعا، ونحر لهم سهيل بن عمرو بقديد عشرا، ومالوا من قديد إلى مياه نحو البحر فظلوا فيها وأقاموا بها يوما فنحر لهم شيبة بن ربيعة تسعا.

ثم أصبحوا بالجحفة فنحر لهم يومئذٍ عتبة بن ربيعة عشرا، ثم أصبحوا بالأبواء فنحر لهم نبيه ومنبه ابنا الحجاج عشرا، ونحر لهم العباس بن عبد المطلب عشرا، ونحر لهم الحارث بم عامر بن نوفل تسعا، ونحر لهم على ماء بدر أبو البختري عشرا، ونحر لهم مقبس الجمحي على ماء بدر تسعا، ثم أكلوا من أزوادهم.

قال الأموي: حدثنا أبي، حدثنا أبو بكر الهذلي قال: كان مع المشركين ستون فرسا وستمائة درع، وكان مع رسول الله ﷺ فرسان وستون درعا.

هذا ما كان من أمر هؤلاء في نفيرهم من مكة ومسيرهم إلى بدر.

وأما رسول الله ﷺ فقال ابن إسحاق: وخرج رسول الله ﷺ في ليال مضت من شهر رمضان في أصحابه واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بالناس، ورد أبا لبابة من الروحاء واستعمله على المدينة، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير وكان أبيض، وبين يدي رسول الله ﷺ رايتان سوداوان:

إحداهما مع علي بن أبي طالب يقال لها: العقاب، والأخرى مع بعض الأنصار.

قال ابن هشام: كانت راية الأنصار مع سعد بن معاذ.

وقال الأموي: كانت مع الحباب بن المنذر.

قال ابن إسحاق: وجعل رسول الله ﷺ على الساقة قيس بن أبي صعصعة أخا بني مازن بن النجار.

وقال الأموي: وكان معهم فرسان:

على إحداهما مصعب بن عمير، وعلى الأخرى الزبير بن العوام، ومن سعد بن خيثمة ومن المقداد بن الأسود.

وقد روى الإمام أحمد: من حديث أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن علي قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد.

وروى البيهقي: من طريق ابن وهب، عن أبي صخر، عن أبي معاوية البلخي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن عليا قال له: ما كان معنا إلا فرسان فرس للزبير وفرس للمقداد ابن الأسود - يعني: يوم بدر -.

وقال الأموي: حدثنا أبي، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن التيمي قال: كان مع رسول الله ﷺ يوم بدر فارسان: الزبير بن العوام على الميمنة، والمقداد بن الأسود على الميسرة.

قال ابن إسحاق: وكان معهم سبعون بعيرا يعتقبونها، فكان رسول الله ﷺ وعلي ومرثد بن أبي مرثد يعتقبون بعيرا، وكان حمزة وزيد بن حارثة وأبو كبشة وأنسة يعتقبون بعيرا.

كذا قال ابن إسحاق رحمه الله تعالى.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، عن حماد بن سلمة، حدثنا عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود.

قال: كنا يوم بدر كل ثلاثة على بعير، كان أبو لبابة وعلي زميل رسول الله ﷺ.

قال: فكانت عقبة رسول الله ﷺ فقالا: نحن نمشي عنك.

فقال: «ما أنتما بأقوى مني ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما».

وقد رواه النسائي، عن الفلاس، عن ابن مهدي، عن حماد بن سلمة به.

قلت: ولعل هذا كان قبل أن يرد أبا لبابة من الروحاء، ثم كان زميلاه على مرثد بدل أبي لبابة والله أعلم.

وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن زرارة بن أبي أوفى، عن سعد بن هشام، عن عائشة: أن رسول الله ﷺ أمر بالأجراس أن تقطع من أعناق الإبل يوم بدر، وهذا على شرط الصحيحين.

وإنما رواه النسائي، عن أبي الأشعث، عن خالد بن الحارث، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة به.

قال شيخنا الحافظ المزي في (الأطراف): وتابعه سعيد بن بشر، عن قتادة.

وقد رواه هشام، عن زرارة، عن أبي هريرة فالله أعلم.

وقال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير، ثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك: أن عبد الله بن كعب قال: سمعت كعب بن مالك يقول: لم أتخلف عن رسول الله ﷺ في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك، غير أني تخلفت عن غزوة بدر ولم يعاتب الله أحدا تخلف عنها، إنما خرج رسول الله ﷺ يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، تفرد به.

قال ابن إسحاق: فسلك رسول الله ﷺ طريقه من المدينة إلى مكة، على نقب المدينة، ثم على العقيق، ثم على ذي الحليفة، ثم على أولات الجيش، ثم مرَّ على تربان، ثم على ملل، ثم على غميس الحمام، ثم على صخيرات اليمامة، ثم على السيالة، ثم على فج الروحاء، ثم على شنوكة، وهي الطريق المعتدلة حتى إذا كان بعرق الظبية لقي رجلا من الأعراب، فسألوه عن الناس، فلم يجدوا عنده خبرا.

فقال له الناس: سلِّم على رسول الله ﷺ.

قال: أوفيكم رسول الله ﷺ؟

قالوا: نعم!

فسلَّم عليه ثم قال: لئن كنت رسول الله فأخبرني عما في بطن ناقتي هذه.

قال له سلمة بن سلامة بن وقش: لا تسأل رسول الله، وأقبل علي فأنا أخبرك عن ذلك نزوت عليها ففي بطنها منك سخلة.

فقال رسول الله ﷺ: «مه، أفخشت على الرجل».

ثم أعرض عن سلمة، ونزل رسول الله سجسج، وهي بئر الروحاء، ثم ارتحل منها حتى إذا كان منها بالمنصرف ترك طريق مكة بيسار، وسلك ذات اليمين على النازية يريد بدرا، فسلك في ناحية منها حتى إذا جزع واديا يقال له: وحقان بين النازية وبين مضيق الصفراء ثم على المضيق ثم انصب منه حتى إذا كان قريبا من الصفراء بعث بسبس بن عمرو الجهني حليف بني ساعدة، وعدي ابن أبي الزغباء حليف بني النجار إلى بدر يتجسسان الأخبار عن أبي سفيان صخر بن حرب وعيره.

وقال موسى بن عقبة: بعثهما قبل أن يخرج من المدينة فلما رجعا فأخبراه بخبر العير استنفر الناس إليها فإن كان ما ذكره موسى بن عقبة وابن إسحاق محفوظا فقد بعثهما مرتين والله أعلم.

قال ابن إسحاق - رحمه الله -: ثم ارتحل رسول الله ﷺ وقد قدمهما فلما استقبل الصفراء وهي قرية بين جبلين سأل عن جبليها ما أسماؤهما؟

فقالوا: يقال لأحدهما: مسلح، وللآخر: مخرئ، وسأل عن أهلهما؟

فقيل: بنو النار، وبنو حراق، بطنان من غفار.

فكرههما رسول الله ﷺ والمرور بينهما وتفاءل بأسمائهما وأسماء أهلهما فتركهما والصفراء بيسار وسلك ذات اليمين على واد، يقال له: ذفران فجزع فيه، ثم نزل وأتاه الخبر عن قريش ومسيرهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار الناس، وأخبرهم عن قريش فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن.

ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه.

فقال له رسول الله ﷺ خير ودعا له.

ثم قال رسول الله ﷺ: «أشيروا علي أيها الناس».

وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم كانوا عدد الناس، وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله، إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا.

فكان رسول الله ﷺ يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم.

فلما قال ذلك رسول الله ﷺ، قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟

قال: «أجل».

قال: فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، على السمع والطاعة لك، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فو الذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا إنا لصبر في الحرب صدق عند اللقاء.

لعل الله يريك منا ما تقرُّ به عينك، فسر على بركة الله.

قال: فسرَّ رسول الله ﷺ بقول سعد ونشطه ثم قال: «سيروا وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم».

هكذا رواه ابن إسحاق - رحمه الله - وله شواهد من وجوه كثيرة فمن ذلك ما رواه البخاري في (صحيحه):حدثنا أبو نعيم، حدثنا إسرائيل، عن مخارق، عن طارق بن شهاب قال: سمعت ابن مسعود يقول: شهدت من المقداد بن الأسود مشهدا لأن أكون صاحبه كان أحب إلي مما عدل به، أتى النبي ﷺ وهو يدعو على المشركين فقال: لا نقول كما قال قوم موسى لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك.

قال: فرأيت النبي ﷺ أشرق وجهه لذلك وسره.

انفرد به البخاري دون مسلم فرواه في مواضع من (صحيحه) من حديث مخارق به.

ورواه النسائي من حديثه وعنده: وجاء المقداد بن الأسود يوم بدر على فرس فذكره.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبيدة - هو ابن حميد - عن حميد الطويل، عن أنس قال: استشار النبي ﷺ مخرجه إلى بدر فأشار عليه أبو بكر، ثم استشارهم فأشار عليه عمر، ثم استشارهم فقال بعض الأنصار: إياكم يريد رسول الله يا معشر الأنصار.

فقال بعض الأنصار: يا رسول الله، إذا لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن والذي بعثك بالحق لو ضربت أكبادها إلى برك الغماد لاتبعناك.

وهذا إسناد ثلاثي صحيح على شرط الصحيح.

وقال أحمد أيضا: حدثنا عفان، ثنا حماد، عن ثابت، عن أنس بن مالك: أن رسول الله ﷺ شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان قال: فتكلم أبو بكر فأعرض عنه، ثم تكلم عمر فأعرض عنه، فقال: سعد بن عبادة إيانا يريد رسول الله ﷺ والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحار لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا.

فندب رسول الله ﷺ الناس.

قال: «فانطلقوا حتى نزلوا بدرا»، ووردت عليهم روايا قريش وفيهم غلام أسود لبني الحجاج فأخذوه وكان أصحاب رسول الله ﷺ يسألونه عن أبي سفيان وأصحابه فيقول: ما لي علم بأبي سفيان ولكن هذا أبو جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف فإذا قال ذلك ضربوه فإذا ضربوه.

قال: نعم! أنا أخبركم هذا أبو سفيان فإذا تركوه فسألوه قال: مالي بأبي سفيان علم ولكن هذا أبو جهل وعتبة وشيبة وأمية، فإذا قال هذا أيضا ضربوه ورسول الله ﷺ قائم يصلي، فلما رأى ذلك انصرف فقال: «والذي نفسي بيده إنكم لتضربونه إذا صدق وتتركونه إذا كذبكم».

قال: وقال رسول الله ﷺ: «هذا مصرع فلان يضع يده على الأرض ههنا وههنا»، فما أماط أحدهم عن موضع يد رسول الله ﷺ.

ورواه مسلم عن أبي بكر عن عفان به نحوه.

وقد روى ابن أبي حاتم في تفسيره وابن مردويه - واللفظ له - من طريق عبد الله بن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم عن أبي عمران أنه سمع أبا أيوب الأنصاري يقول:

قال رسول الله ﷺ ونحن بالمدينة: «إني أخبرت عن عير أبي سفيان أنها مقبلة فهل لكم أن نخرج قبل هذه العير لعل الله يغنمناها؟».

فقلنا: نعم!

فخرج وخرجنا فلما سرنا يوما أو يومين قال لنا: «ما ترون في القوم فإنهم قد أخبروا بمخرجكم؟».

فقلنا: لا والله ما لنا طاقة بقتال القوم ولكنا أردنا العير

ثم قال: «ما ترون في قتال القوم؟».

فقلنا مثل ذلك.

فقام المقداد بن عمرو فقال: إذا لا نقول لك يا رسول الله كما قال قوم موسى لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون.

قال: فتمنينا معشر الأنصار لو أنا قلنا مثل ما قال المقداد أحب إلينا من أن يكون لنا مال عظيم فأنزل الله عز وجل على رسوله: { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ } [123] وذكر تمام الحديث.

وروى ابن مردويه أيضا من طريق محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي، عن أبيه، عن جده.

قال: خرج رسول الله ﷺ إلى بدر حتى إذا كان بالروحاء خطب الناس فقال: «كيف ترون؟».

فقال أبو بكر: يا رسول الله بلغنا أنهم بكذا وكذا.

قال: ثم خطب الناس فقال: «كيف ترون؟».

فقال عمر مثل قول أبي بكر.

ثم خطب الناس فقال: «كيف ترون؟».

فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله إيانا تريد؟ فو الذي أكرمك وأنزل عليك الكتاب ما سلكتها قط ولا لي بها علم، ولئن سرت حتى تأتي برك الغماد من ذي يمن لنسيرن معك ولا نكون كالذين قالوا لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم متبعون، ولعل أن تكون خرجت لأمر وأحدث الله إليك غيره فانظر الذي أحدث الله إليك فامض فصل حبال من شئت واقطع حبال من شئت وعاد من شئت وسالم من شئت وخذ من أموالنا ما شئت.

فنزل القرآن على قول سعد: { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ } [124] الآيات.

وذكره الأموي في (مغازيه) وزاد بعد قوله: وخذ من أموالنا ما شئت وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرت به من أمر فأمرنا تبع لأمرك فوالله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك..

قال ابن إسحاق: ثم ارتحل رسول الله ﷺ من ذفران فسلك على ثنايا يقال لها الأصافر، ثم انحط منها إلى بلد يقال له الدية وترك الحنان بيمين وهو كثيب عظيم كالجبل العظيم، ثم نزل قريبا من بدر فركب هو ورجل من أصحابه.

قال ابن هشام: هو أبو بكر.

قال ابن إسحاق: - كما حدثني محمد بن يحيى بن حبان - حتى وقف على شيخ من العرب فسأله عن قريش، وعن محمد وأصحابه، وما بلغه عنهم.

فقال الشيخ: لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما؟

فقال له رسول الله ﷺ: «إذا أخبرتنا أخبرناك».

فقال: أو ذاك بذاك؟

قال: «نعم!».

قال الشيخ: فإنه بلغني أن محمدا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي به رسول الله ﷺ وبلغني أن قريشا خرجوا يوم كذا وكذا فإن كان الذي أخبرني صدقني فهم اليوم بمكان كذا وكذا، للمكان الذي به قريش، فلما فرغ من خبره قال: ممن أنتما؟

فقال له رسول الله ﷺ: «نحن من ماء» ثم انصرف عنه.

قال: يقول الشيخ: ما من ماء أمن ماء العراق؟

قال ابن هشام: يقال لهذا الشيخ: سفيان الضمري.

قال ابن إسحاق: ثم رجع رسول الله ﷺ إلى أصحابه فلما أمسى بعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص في نفر من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون الخبر له كما حدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير فأصابوا راوية لقريش فيها أسلم غلامي بني الحجاج وعريض أبو يسار غلام بني العاص ابن سعيد، فأتوا بهما فسألوهما، ورسول الله ﷺ قائم يصلي.

فقالوا: نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء، فكره القوم خبرهما، ورجوا أن يكونا لأبي سفيان فضربوهما، فلما أذلقوهما قالا: نحن لأبي سفيان فتركوهما، وركع رسول الله ﷺ وسجد سجدتيه وسلم.

وقال: «إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما، صدقا والله إنهما لقريش، أخبراني عن قريش؟».

قالا: هم والله وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى، والكثيب العقنقل.

فقال لهما رسول الله ﷺ: «كم القوم؟».

قالا: كثير.

قال: «ما عدتهم؟».

قالا: لا ندري.

قال: «كم ينحرون كل يوم؟».

قالا: يوما تسعا ويوما عشرا.

فقال رسول الله ﷺ: «القوم ما بين التسعمائة إلى الألف».

ثم قال لهما: «فمن فيهم من أشراف قريش؟».

قالا: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر بن نوفل، وطعيمة بن عدي بن نوفل، والنضر بن الحارث، وزمعة بن الأسود، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وسهيل بن عمرو، وعمرو بن عبدود.

قال: فأقبل رسول الله ﷺ على الناس

فقال: «هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها».

قال ابن إسحاق: وكان بسبس بن عمرو، وعدي بن أبي الزغباء قد مضيا حتى نزلا بدرا فأناخا إلى تل قريب من الماء، ثم أخذا شنا لهما يستقيان فيه.

ومجدي بن عمرو الجهني على الماء، فسمع عدي وبسبس جاريتين من جواري الحاضر وهما يتلازمان على الماء والملزومة تقول لصاحبتها: إنما تأتي العير غدا أو بعد غد فاعمل لهم، ثم أقضيك الذي لك.

قال مجدي: صدقت ثم خلص بينهما.

وسمع ذلك عدي وبسبس فجلسا على بعيريهما، ثم انطلقا حتى أتيا رسول الله ﷺ وأخبراه بما سمعا، وأقبل أبو سفيان حتى تقدم العير حذرا حتى ورد الماء.

فقال لمجدي بن عمرو: هل أحسست أحدا؟

قال: ما رأيت أحدا أنكره، إلا أني قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل، ثم استقيا في شن لهما، ثم انطلقا.

فأتى أبو سفيان مناخهما فأخذ من أبعار بعيريهما ففته فإذا فيه النوى.

فقال: هذه والله علائف يثرب فرجع إلى أصحابه سريعا فضرب وجه عيره عن الطريق فساحل بها وترك بدرا بيسار وانطلق حتى أسرع.

وأقبلت قريش، فلما نزلوا الجحفة رأى جهيم بن الصلت بن مخرمة ابن المطلب بن عبد مناف رؤيا.

فقال: إني رأيت فيما يرى النائم، وإني لبين النائم واليقظان إذ نظرت إلى رجل قد أقبل على فرس حتى وقف، ومعه بعير له.

ثم قال: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف، وفلان وفلان فعد رجالا ممن قتل يوم بدر من أشراف قريش، ثم رأيته ضرب في لبة بعيره، ثم أرسله في العسكر فما بقي خباء من أخبية العسكر إلا أصابه نضح من دمه فبلغت أبا جهل - لعنه الله - فقال: هذا أيضا نبي آخر من بني المطلب سيعلم غدا من المقتول إن نحن التقينا.

قال ابن إسحاق: ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره، أرسل إلى قريش: أنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم فقد نجاها الله فارجعوا.

فقال أبو جهل بن هشام: والله لا نرجع حتى نرد بدرا وكان بدر موسما من مواسم العرب يجتمع لهم به سوق كل عام فنقيم عليه ثلاثا، فننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا أبدا فامضوا.

وقال الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي - وكان حليفا لبني زهرة - وهم بالجحفة: يا بني زهرة قد نجى الله لكم أموالكم، وخلص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل، وإنما نفرتم لتمنعوه وماله، فاجعلوا بها جبنها وارجعوا فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا في غير ضيعة لا ما يقول هذا.

قال: فرجعوا فلم يشهدها زهري واحد، أطاعوه وكان فيهم مطاعا ولم يكن بقي بطن من قريش إلا وقد نفر منهم ناس إلا بني عدي لم يخرج منهم رجل واحد، فرجعت بنو زهرة مع الأخنس فلم يشهد بدرا من هاتين القبيلتين أحد.

قال: ومضى القوم وكان بين طالب بن أبي طالب - وكان في القوم - وبين بعض قريش محاورة.

فقالوا: والله قد عرفنا يا بني هاشم - وإن خرجتم معنا - أن هواكم مع محمد، فرجع طالب إلى مكة مع من رجع، وقال في ذلك:

لا هُمَّ إما يغزوَنَّ طالب * في عصبة محالفٍ محارب

في مقنبٍ من هذا المقانب * فليكن المسلوب غير السالب

وليكن المغلوب غير الغالب

قال ابن إسحاق: ومضت قريش حتى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادي، خلف العقنقل وبطن الوادي وهو يليل، بين بدر وبين العقنقل، الكثيب الذي خلفه قريش، والقليب ببدر في العدوة الدنيا من بطن يليل إلى المدينة.

قلت: وفي هذا

قال تعالى: { إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ } أي: من ناحية الساحل { وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرا كَانَ مَفْعُولا } الآيات [125].

وبعث الله السماء وكان الوادي دهسا، فأصاب رسول الله ﷺ وأصحابه منها ماء لبَّد لهم الأرض ولم يمنعهم من السير، وأصاب قريشا منها ماء لم يقدروا على أن يرتحلوا معه.

قلت: وفي هذا قوله تعالى: { وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ } [126].

فذكر أنه طهرهم ظاهرا وباطنا، وأنه ثبَّت أقدامهم وشجع قلوبهم وأذهب عنهم تخذيل الشيطان وتخويفه للنفوس ووسوسته الخواطر، وهذا تثبيت الباطن والظاهر وأنزل النصر عليهم من فوقهم في قوله: { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ } [127] أي: على الرؤوس { وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } أي: لئلا يستمسك منهم السلاح { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [128].

قال ابن جرير: حدثني هارون بن إسحاق، ثنا مصعب بن المقدام، ثنا إسرائيل، ثنا إسحاق، عن حارثة، عن علي بن أبي طالب.

قال: أصابنا من الليل طش من المطر - يعني: الليلة التي كانت في صبيحتها وقعة بدر - فانطلقنا تحت الشجر والحجف نستظل تحتها من المطر، وبات رسول الله ﷺ - يعني: قائما يصلي - وحرض على القتال.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن علي.

قال: ما كان فينا فارس يوم بدر إلا المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله ﷺ تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح، وسيأتي هذا الحديث مطولا.

ورواه النسائي، عن بندار، عن غندر، عن شعبة به: وقال مجاهد: أنزل عليهم المطر فأطفأ به الغبار وتلبدت به الأرض وطابت به أنفسهم وثبتت به أقدامهم.

قلت: وكانت ليلة بدر ليلة الجمعة السابعة عشر من شهر رمضان سنة ثنتين من الهجرة، وقد بات رسول الله ﷺ تلك الليلة يصلي إلى جذم شجرة هناك، ويكثر في سجوده أن يقول: «يا حي يا قيوم» يكرر ذلك ويلظ به عليه السلام.

قال ابن إسحاق: فخرج رسول الله ﷺ يبادرهم إلى الماء حتى جاء أدنى ماء من بدر نزل به.

قال ابن إسحاق: فحدثت عن رجال من بني سلمة أنهم ذكروا أن الحباب بن منذر بن الجموح.

قال: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟

قال: «بل هو الرأي والحرب والمكيدة».

قال: يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل فأمض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم، فننزله، ثم نغور ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون.

فقال رسول الله ﷺ: «لقد أشرت بالرأي».

قال الأموي: حدثنا أبي قال: وزعم الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس.

قال: بينا رسول الله ﷺ يجمع الأقماص وجبريل عن يمينه إذ أتاه ملك من الملائكة.

فقال: يا محمد إن الله يقرأ عليك السلام.

فقال رسول الله ﷺ: «هو السلام ومنه السلام وإليه السلام».

فقال الملك: إن الله يقول لك أن الأمر هو الذي أمرك به الحباب ابن المنذر.

فقال رسول الله ﷺ: «يا جبريل هل تعرف هذا؟».

فقال: ما كل أهل السماء أعرف وإنه لصادق وما هو بشيطان.

فنهض رسول الله ﷺ ومن معه من الناس فسار حتى أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه، ثم أمر بالقلب فعورت، وبنى حوضا على القليب الذي نزل عليه فملئ ماء ثم قذفوا فيه الآنية.

وذكر بعضهم: أن الحباب بن المنذر لما أشار بما أشار به على رسول الله ﷺ نزل ملك من السماء وجبريل عند النبي ﷺ.

فقال الملك: يا محمد ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك إن الرأي ما أشار به الحباب، فنظر رسول الله ﷺ إلى جبريل.

فقال: «ليس كل الملائكة أعرفهم وأنه ملك وليس بشيطان».

وذكر الأموي: أنهم نزلوا على القليب الذي يلي المشركين نصف الليل وأنهم نزلوا فيه واستقوا منه وملؤا الحياض حتى أصبحت ملاء وليس للمشركين ماء.

قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حدث: أن سعد ابن معاذ.

قال: يا نبي الله ألا نبني لك عريشا تكون فيه ونعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدونا فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا، كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى، جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلف عنك أقوام ما نحن بأشد حبا لك منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم ويناصحونك ويجاهدون معك.

فأثنى عليه رسول الله ﷺ خيرا ودعا له بخير، ثم بني لرسول الله ﷺ عريش كان فيه.

قال ابن إسحاق: وقد ارتحلت قريش حين أصبحت فأقبلت، فلما رآها رسول الله ﷺ تصوب من العقنقل - وهو الكثيب الذي جاؤا منه إلى الوادي - قال: «اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك اللهم فنصرك الذي وعدتني اللهم أحنهم الغداة».

وقد قال: رسول الله ﷺ - وقد رأى عتبة بن ربيعة في القوم وهو على جمل له أحمر- «إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر» إن يطيعوه يرشدوا قال: وقد كان خفاف بن إيماء بن رحضة أو أبوه إيماء بن رحضة الغفاري، بعث إلى قريش ابنا له بجزائر أهداها لهم.

وقال: إن أحببتم أن نمدكم بسلاح ورجال فعلنا.

قال: فأرسلوا إليه مع ابنه أن وصلتك رحم، وقد قضيت الذي عليك، فلعمري إن كنا إنما نقاتل الناس ما بنا ضعف عنهم، وإن كنا إنما نقاتل الله، كما يزعم محمد فما لأحد بالله من طاقة.

قال: فلما نزل الناس أقبل نفر من قريش حتى وردوا حوض رسول الله ﷺ فيهم حكيم بن حزام.

فقال رسول الله ﷺ: «دعوهم»، فما شرب منه رجل يومئذٍ إلا قتل، إلا ما كان من حكيم بن حزام فإنه لم يقتل، ثم أسلم بعد ذلك فحسن إسلامه فكان إذا اجتهد في يمينه قال: لا والذي نجاني يوم بدر.

قلت: وقد كان أصحاب رسول الله ﷺ يومئذٍ ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا كما سيأتي بيان ذلك في فصل نعقده بعد الوقعة، ونذكر أسماءهم على حروف المعجم إن شاء الله.

ففي (صحيح البخاري) عن البراء.

قال: كنا نتحدث أن أصحاب بدر ثلثمائة وبضع عشرة على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر، وما جاوزه معه إلا مؤمن.

وللبخاري أيضا عنه.

قال: استصغرت أنا وابن عمر يوم بدر وكان المهاجرون يوم بدر نيفا على ستين، والأنصار نيفا وأربعون ومائتان.

وروى الإمام أحمد عن نصر بن رئاب، عن حجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس أنه قال: كان أهل بدر ثلثمائة وثلاثة عشر، وكان المهاجرون ستة وسبعين، وكان هزيمة أهل بدر لسبع عشرة مضين من شهر رمضان يوم الجمعة.

وقال الله تعالى: { إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ } [129] الآية.

وكان ذلك في منامه تلك الليلة وقيل: إنه نام في العريش وأمر الناس أن لا يقاتلوا حتى يأذن لهم، فدنا القوم منهم فجعل الصديق يوقظه ويقول: يا رسول الله دنوا منا فاستيقظ، وقد أراه الله إياهم في منامه قليلا.

ذكره الأموي وهو غريب جدا.

وقال تعالى: { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرا كَانَ مَفْعُولا } [130].

فعند ما تقابل الفريقان قلل الله كلا منهما في أعين الآخرين ليجترئ هؤلاء على هؤلاء، وهؤلاء على هؤلاء لما له في ذلك من الحكمة البالغة، وليس هذا معارض لقوله تعالى في سورة آل عمران: { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ } [131].

فإن المعنى في ذلك على أصح القولين: أن الفرقة الكافرة ترى الفرقة المؤمنة مثلي عدد الكافرة على الصحيح أيضا، وذلك عند التحام الحرب والمسابقة أوقع الله الوهن والرعب في قلوب الذين كفروا فاستدرجهم أولا بأن أراهم إياهم عند المواجهة قليلا، ثم أيد المؤمنين بنصره فجعلهم في أعين الكافرين على الضعف منهم، حتى وهنوا وضعفوا وغلبوا.

ولهذا قال: { وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ }.

قال إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيد وعبد الله قال: لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتى أني لأقول لرجل إلى جنبي أتراهم سبعين؟

فقال: أراهم مائة.

قال ابن إسحاق: وحدثني أبي إسحاق بن يسار وغيره من أهل العلم، عن أشياخ من الأنصار قالوا: لما اطمأن القوم بعثوا عمير بن وهب الجمحي فقالوا: أحزر لنا القوم أصحاب محمد، قال: فاستجال بفرسه حول العسكر، ثم رجع إليهم.

فقال: ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا، أو ينقصون، ولكن أمهلوني حتى أنظر أللقوم كمين أو مدد.

قال: فضرب في الوادي حتى أبعد فلم ير شيئا، فرجع إليهم فقال: ما رأيت شيئا، ولكن قد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم، حتى يقتل رجلا منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك فروا رأيكم يا معشر قريش؟

فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس، فأتى عتبة بن ربيعة فقال: يا أبا الوليد إنك كبير قريش وسيدها، والمطاع فيها، هل لك إلى أن لا تزال تذكر فيها بخير إلى آخر الدهر؟

قال: وما ذاك يا حكيم؟

قال: ترجع بالناس وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمي.

قال: قد فعلت.

أنت عليَّ بذلك، إنما هو حليفي فعليَّ عقله وما أصيب من ماله.

فأت ابن الحنطلية - يعني: أبا جهل - فإني لا أخشى أن يسجر أمر الناس غيره.

ثم قام عتبة خطيبا فقال: يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر إلى وجه رجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه - أو ابن خاله - أو رجلا من عشيرته فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب، فإن أصابوه فذلك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون.

قال حكيم: فانطلقت حتى جئت أبا جهل، فوجدته قد نثل درعا فهو يهنئها.

فقلت له يا أبا الحكم: إن عتبة أرسلني إليك بكذا وكذا.

فقال: انتفخ والله سحره حين رأى محمدا وأصحابه، فلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، وما بعتبة ما قال، ولكنه رأى محمدا وأصحابه أكلة جزور، وفيهم ابنه فقد تخوفكم عليه، ثم بعث إلى عامر بن الحضرمي.

فقال: هذا حليفك يريد أن يرجع الناس، وقد رأيت ثأرك بعينك فقم فانشد خفرتك ومقتل أخيك.

فقام عامر بن الحضرمي فاكتشف ثم صرخ: واعمراه واعمراه.

قال: فحميت الحرب وحقب أمر الناس واستوثقوا على ما هم عليه من الشر وأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة.

فلما بلغ عتبة قول أبي جهل انتفخ والله سحره.

قال: سيعلم مصفر استه من انتفخ سحره أنا أم هو.

ثم التمس عتبة بيضة ليدخلها في رأسه فما وجد في الجيش بيضة تسعه من عظم رأسه فلما رأى ذلك اعتجر على رأسه ببرد له.

وقد روى ابن جرير: من طريق مسور بن عبد الملك اليربوعي، عن أبيه، عن سعيد بن المسيب.

قال: بينا نحن عند مروان بن الحكم إذ دخل حاجبه فقال: حكيم بن حزام يستأذن، قال: ائذن له.

فلما دخل قال: مرحبا يا أبا خالد أدن، فحال عن صدر المجلس حتى جلس بينه وبين الوسادة، ثم استقبله.

فقال: حدثنا حديث بدر.

فقال: خرجنا حتى إذا كنا بالجحفة رجعت قبيلة من قبائل قريش بأسرها فلم يشهد أحد من مشركيهم بدرا، ثم خرجنا حتى نزلنا العدوة التي قال الله تعالى، فجئت عتبة بن ربيعة.

فقلت: يا أبا الوليد هل لك في أن تذهب بشرف هذا اليوم ما بقيت؟

قال: أفعل ماذا؟

قلت: إنكم لا تطلبون من محمد إلا دم ابن الحضرمي وهو حليفك، فتحمل بديته ويرجع الناس.

فقال: أنت علي بذلك وأذهب إلى ابن الحنظلية - يعني أبا جهل - فقل له: هل لك أن ترجع اليوم بمن معك عن ابن عمك؟

فجئته فإذا هو في جماعة من بين يديه ومن خلفه، وإذا ابن الحضرمي واقف على رأسه وهو يقول: فسخت عقدي من عبد شمس، وعقدي اليوم إلى بني مخزوم.

فقلت له: يقول لك عتبة بن ربيعة هل لك أن ترجع اليوم بمن معك؟

قال: أما وجد رسولا غيرك؟

قلت: لا، ولم أكن لأكون رسولا لغيره.

قال حكيم: فخرجت مبادرا إلى عتبة لئلا يفوتني من الخبر شيء وعتبة متكئ على إيماء بن رحضة الغفاري، وقد أهدى إلى المشركين عشرة جزائر، فطلع أبو جهل الشر في وجهه.

فقال لعتبة: انتفخ سحرك؟

فقال له عتبة: ستعلم.

فسلَّ أبو جهل سيفه فضرب به متن فرسه، فقال إيماء بن رحضة: بئس الفأل هذا، فعند ذلك قامت الحرب.

وقد صف رسول الله ﷺ أصحابه وعباهم أحسن تعبية، فروى الترمذي عن عبد الرحمن بن عوف.

قال: صفنا رسول الله ﷺ يوم بدر ليلا.

وروى الإمام أحمد من حديث ابن لهيعة، حدثني يزيد بن أبي حبيب أن أسلم أبا عمران حدثه أنه سمع أبا أيوب يقول: صفنا رسول الله ﷺ يوم بدر فبدرت منا بادرة أمام الصف، فنظر إليهم النبي ﷺ فقال: «معي معي».

تفرد به أحمد وهذا إسناد حسن.

وقال ابن إسحاق: وحدثني حبان بن واسع بن حبان عن أشياخ من قومه: أن رسول الله ﷺ عدل صفوف أصحابه يوم بدر، وفي يده قدح يعدل به القوم، فمرَّ بسواد بن غزية حليف بني عدي ابن النجار وهو مستنتل من الصف، فطعن في بطنه بالقدح وقال: «استو يا سواد».

فقال: يا رسول الله أوجعتني، وقد بعثك الله بالحق والعدل، فأقدني فكشف رسول الله ﷺ عن بطنه.

فقال: «استقد».

قال: فاعتنقه فقبل بطنه.

فقال: «ما حملك على هذا يا سواد؟».

قال: يا رسول الله، حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمسَّ جلدي جلدك، فدعا له رسول الله ﷺ بخير وقاله.

قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن عوف بن الحارث - وهو ابن عفراء - قال: يا رسول الله ما يضحك الرب من عبده؟

قال: «غمسه يده في العدو حاسرا».

فنزع درعا كانت عليه فقذفها، ثم أخذ سيفه فقاتل حتى قتل رضي الله عنه.

قال ابن إسحاق: ثم عدل رسول الله ﷺ الصفوف ورجع إلى العريش فدخله ومعه أبو بكر ليس معه فيه غيره.

وقال ابن إسحاق: وغيره وكان سعد بن معاذ رضي الله عنه واقفا على باب العريش متقلدا بالسيف، ومعه رجال من الأنصار يحرسون رسول الله ﷺ خوفا عليه من أن يدهمه العدو من المشركين والجنائب النجائب، مهيأة لرسول الله ﷺ إن احتاج إليها ركبها ورجع إلى المدينة كما أشار به سعد بن معاذ.

وقد روى البزار في (مسنده) من حديث محمد بن عقيل عن علي أنه خطبهم.

فقال: يا أيها الناس من أشجع الناس؟

فقالوا: أنت يا أمير المؤمنين.

فقال: أما إني ما بارزني أحد إلا انتصفت منه، ولكن هو أبو بكر، إنا جعلنا لرسول الله ﷺ عريشا فقلنا من يكون مع رسول الله ﷺ لئلا يهوي إليه أحد من المشركين، فوالله ما دنا أحد إلا أبو بكر شاهرا بالسيف على رأس رسول الله ﷺ لا يهوي إليه أحد إلا أهوى إليه فهذا أشجع الناس.

قال: ولقد رأيت رسول الله ﷺ وأخذته قريش فهذا يحاده، وهذا يتلتله ويقولون: أنت جعلت الآلهة إلها واحدا، فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر يضرب ويجاهد ويتلتل هذا، وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله.

ثم رفع علي بردة كانت عليه فبكى حتى أخضلت لحيته.

ثم قال: أنشدكم الله أمؤمن آل فرعون خير أم هو؟

فسكت القوم، فقال علي: فوالله لساعة من أبي بكر خير من ملء الأرض من مؤمن آل فرعون، ذاك رجل يكتم إيمانه وهذا رجل أعلن إيمانه.

ثم قال البزار: لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه.

فهذه خصوصية للصديق حيث هو مع الرسول في العريش كما كان معه في الغار رضي الله عنه وأرضاه.

ورسول الله ﷺ يكثر الابتهال والتضرع والدعاء ويقول فيما يدعو به: «اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها في الأرض» وجعل يهتف بربه عز وجل.

ويقول: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم نصرك» ويرفع يديه إلى السماء حتى سقط الرداء عن منكبيه.

وجعل أبو بكر رضي الله عنه يلتزمه من ورائه ويسوي عليه رداءه ويقول مشفقا عليه من كثرة الابتهال: يا رسول الله بعض مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك.

هكذا حكى السهيلي عن قاسم بن ثابت: أن الصديق إنما قال بعض مناشدتك ربك من باب الإشفاق لما رأى من نصبه في الدعاء والتضرع حتى سقط الرداء عن منكبيه فقال: بعض هذا يا رسول الله أي: لم تتعب نفسك هذا التعب والله قد وعدك بالنصر.

وكان رضي الله عنه رقيق القلب شديد الإشفاق على رسول الله ﷺ.

وحكى السهيلي عن شيخه أبي بكر بن العربي بأنه قال: كان رسول الله ﷺ في مقام الخوف والصديق في مقام الرجاء وكان مقام الخوف في هذا الوقت - يعني: أكمل - قال: لأن لله أن يفعل ما يشاء فخاف أن لا يعبد في الأرض بعدها، فخوفه ذلك عبادة.

قلت: وأما قول بعض الصوفية إن هذا المقام في مقابلة ما كان يوم الغار فهو قول مردود على قائله إذ لم يتذكر هذا القائل عور ما قال، ولا لازمه ولا ما يترتب عليه والله أعلم.

هذا وقد تواجه الفئتان وتقابل الفريقان، وحضر الخصمان بين يدي الرحمن، واستغاث بربه سيد الأنبياء، وضج الصحابة بصنوف الدعاء إلى رب الأرض والسماء سامع الدعاء وكاشف البلاء، فكان أول من قتل من المشركين الأسود بن عبد الأسد المخزومي.

قال ابن إسحاق: وكان رجلا شرسا سيء الخلق فقال: أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه أو لأموتن دونه.

فلما خرج خرج إليه حمزة بن عبد المطلب، فلما التقيا ضربه حمزة فاطن قدمه بنصف ساقه وهو دون الحوض فوقع على ظهره تشخب رجله دما نحو أصحابه، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه يريد - زعم - أن تبر يمينه واتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض.

قال الأموي: فحمى عند ذلك عتبة بن ربيعة وأراد أن يظهر شجاعته، فبرز بين أخيه شيبة وابنه الوليد، فلما توسطوا بين الصفين دعوا إلى البراز فخرج إليهم فتية من الأنصار ثلاثة هم: عوف ومعاذ ابنا الحارث، وأمهما عفراء، والثالث عبد الله بن رواحة - فيما قيل -.

فقالوا: من أنتم؟

قالوا: رهط من الأنصار.

فقالوا: ما لنا بكم من حاجة.

وفي رواية فقالوا: أكفاء كرام ولكن أخرجوا إلينا من بني عمنا، ونادى مناديهم: يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا.

فقال النبي ﷺ: «قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا علي».

وعند الأموي أن النفر من الأنصار لما خرجوا كره ذلك رسول الله ﷺ لأنه أول موقف واجه فيه رسول الله ﷺ أعداءه فأحب أن يكون أولئك من عشيرته فأمرهم بالرجوع وأمر أولئك الثلاثة بالخروج.

قال ابن إسحاق: فلما دنوا منهم.

قالوا: من أنتم؟ - وفي هذا دليل أنهم كانوا ملبسين لا يعرفون من السلاح -.

فقال عبيدة: عبيدة.

وقال حمزة: حمزة.

وقال علي: علي.

قالوا: نعم!! أكفاء كرام.

فبارز عبيدة وكان أسن القوم، عتبة، وبارز حمزة شيبة، وبارز علي الوليد بن عتبة.

فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله، وأما علي فلم يمهل الوليد أن قتله، واختلف عبيدة وعتبة بينهما بضربتين كلاهما أثبت صاحبه، وكرَّ حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فذففا عليه، واحتملا صاحبهما فحازاه إلى أصحابهما رضي الله عنه.

وقد ثبت في (الصحيحين): من حديث أبي مجلز، عن قيس بن عباد، عن أبي ذر: أنه كان يقسم قسما أن هذه الآية: { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } [132] نزلت في حمزة وصاحبه، وعتبة وصاحبه يوم برزوا في بدر.

هذا لفظ البخاري في تفسيرها.

وقال البخاري: حدثنا حجاج بن منهال حدثنا المعتمر بن سليمان سمعت أبي، ثنا أبو مجلز، عن قيس بن عباد، عن علي بن أبي طالب.

أنه قال: أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن عز وجل في الخصومة يوم القيامة.

قال قيس: وفيهم نزلت: { هذان خصمان اختصموا في ربهم } قال هم الذين بارزوا يوم بدر علي، وحمزة، وعبيدة، وشيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، تفرد به البخاري.

وقد أوسعنا الكلام عليها في التفسير بما فيه كفاية ولله الحمد والمنة.

وقال الأموي: حدثنا معاوية بن عمرو، عن أبي إسحاق، عن ابن المبارك، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله البهي.

قال: برز عتبة، وشيبة، والوليد، وبرز إليهم حمزة، وعبيدة، وعلي.

فقالوا: تكلموا نعرفكم.

فقال حمزة: أنا أسد الله وأسد رسول الله أنا حمزة بن عبد المطلب.

فقال: كفؤ كريم.

وقال علي: أنا عبد الله وأخو رسول الله.

وقال عبيدة: أنا الذي في الحلفاء.

فقام كل رجل إلى رجل فقاتلوهم فقتلهم الله.

فقالت هند في ذلك:

أعيني جودي بدمع سرب * على خير خندف لم ينقلب

تداعى له رهطه غدوة * بنو هاشم وبنو المطلب

يذيقونه حد أسيافهم * يعلونه بعد ما قد عطب

ولهذا نذرت هند أن تأكل من كبد حمزة.

قلت: وعبيدة هذا هو ابن الحارث بن المطلب بن عبد مناف، ولما جاؤا به إلى رسول الله ﷺ أضجعوه إلى جانب موقف رسول الله ﷺ فأشرفه رسول الله ﷺ قدمه، فوضع خده على قدمه الشريفة وقال يا رسول الله: لو رآني أبو طالب لعلم أني أحق بقوله:

ونسلمه حتى نصرع دونه * ونذهل عن أبنائنا والحلائل

ثم مات رضي الله عنه.

فقال رسول الله ﷺ: «أشهد أنك شهيد» رواه الشافعي رحمه الله.

وكان أول قتيل من المسلمين في المعركة: مهجع مولى عمر بن الخطاب رمي بسهم فقتله.

قال ابن إسحاق: فكان أول من قتل، ثم رمي بعده حارثة بن سراقة أحد بني عدي بن النجار وهو يشرب من الحوض بسهم فأصاب نحره فمات.

وثبت في (الصحيحين) عن أنس أن حارثة بن سراقة قتل يوم بدر وكان في النظارة أصابه سهم غرب فقتله، فجاءت أمه فقالت يا رسول الله: أخبرني عن حارثة فإن كان في الجنة صبرت وإلا فليرين الله ما أصنع - يعني: من النياح - وكانت لم تحرم بعد.

فقال لها رسول الله ﷺ: «ويحك أهبلت، إنها جنان ثمان وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى».

قال ابن إسحاق: ثم تزاحف الناس ودنا بعضهم من بعض.

وقال: أمر رسول الله ﷺ أصحابه أن لا يحملوا حتى يأمرهم.

وقال: «إن اكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنبل».

وفي (صحيح البخاري) عن أبي أسيد.

قال: قال لنا رسول الله ﷺ يوم بدر: «إذا أكثبوكم - يعني: المشركين - فارموهم واستبقوا نبلكم».

وقال البيهقي، أخبرنا الحاكم، أخبرنا الأصم، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن أبي إسحاق، حدثني عبد الله بن الزبير.

قال: جعل رسول الله ﷺ شعار المهاجرين يوم بدر: يا بني عبد الرحمن، وشعار الخزرج: يا بني عبد الله، وشعار الأوس: يا بني عبيد الله، وسمى خيله: خيل الله.

وقال ابن هشام: وكان شعار الصحابة يوم بدر: أحد أحد.

قال ابن إسحاق: ورسول الله ﷺ في العريش معه أبو بكر رضي الله عنه - يعني: وهو يستغيث الله عز وجل - كما قال تعالى: { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [133].

قال الإمام أحمد: حدثنا أبو نوح قراد، ثنا عكرمة بن عمار، ثنا سماك الحنفي أبو زميل، حدثني ابن عباس، حدثني عمر بن الخطاب.

قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله ﷺ إلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيف، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النبي ﷺ القبلة وعليه رداؤه وإزاره ثم قال: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد بعد في الأرض أبدا».

فما زال يستغيث بربه ويدعوه حتى سقط رداؤه.

فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فرده، ثم التزمه من ورائه ثم قال يا رسول الله: كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك فأنزل الله: { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين } وذكر تمام الحديث كما سيأتي.

وقد رواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن جرير وغيرهم من حديث عكرمة بن عمار اليماني وصححه علي ابن المديني والترمذي، وهكذا قال غير واحد عن ابن عباس والسدي وابن جرير وغيرهم أن هذه الآية نزلت في دعاء النبي ﷺ يوم بدر، وقد ذكر الأموي وغيره أن المسلمين عجوا إلى الله عز وجل في الاستغاثة بجنابه والاستعانة به وقوله تعالى: { بألف من الملائكة مردفين } أي: ردفا لكم ومددا لفئتكم رواه العوفي عن ابن عباس.

وقاله مجاهد وابن كثير، وعبد الرحمن ابن زيد وغيرهم.

وقال أبو كدينة، عن قابوس، عن ابن عباس: { مردفين } وراء كل ملك ملك.

وفي رواية عنه بهذا الإسناد: { مردفين } بعضهم على أثر بعض وكذا قال أبو ظبيان والضحاك وقتادة.

وقد روى علي بن أبي طلحة الوالبي، عن ابن عباس قال: وأمد الله نبيه والمؤمنين بألف من الملائكة، وكان جبريل في خمسمائة مجنبة، وميكائيل في خمسمائة مجنبة، وهذا هو المشهور.

ولكن قال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثنا إسحاق، ثنا يعقوب بن محمد الزهري، حدثني عبد العزيز بن عمران، عن الربعي، عن أبي الحويرث، عن محمد بن جبير، عن علي.

قال: نزل جبريل في ألف من الملائكة على ميمنة النبي ﷺ وفيهما أبو بكر، ونزل ميكائيل في ألف من الملائكة على ميسرة النبي ﷺ وأنا في الميسرة.

ورواه البيهقي في (الدلائل) من حديث محمد بن جبير عن علي فزاد: ونزل إسرافيل في ألف من الملائكة، وذكر أنه طعن يومئذٍ بالحربة حتى أختضبت إبطه من الدماء، فذكر أنه نزلت ثلاثة آلاف من الملائكة، وهذا غريب وفي إسناده ضعف ولو صح لكان فيه تقوية لما تقدم من الأقوال ويؤيدها قراءة من قرأ: { بألف من الملائكة مردفين } بفتح الدال والله أعلم.

وقال البيهقي: أخبرنا الحاكم، أخبرنا الأصم، ثنا محمد بن سنان القزاز، ثنا عبيد الله بن عبد المجيد أبو علي الحنفي، حدثنا عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب، أخبرني إسماعيل بن عوف بن عبد الله بن أبي رافع، عن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

قال: لما كان يوم بدر قاتلت شيئا من قتال، ثم جئت مسرعا لأنظر إلى رسول الله ﷺ ما فعل.

قال: فجئت فإذا هو ساجد يقول: «يا حي يا قيوم، يا حي يا قيوم».

لا يزيد عليها فرجعت إلى القتال، ثم جئت وهو ساجد يقول ذلك أيضا، فذهبت إلى القتال، ثم جئت وهو ساجد يقول ذلك أيضا، حتى فتح الله على يده.

وقد رواه النسائي في (اليوم والليلة) عن بندار، عن عبيد الله بن عبد المجيد أبي علي الحنفي.

وقال الأعمش: عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله ابن مسعود.

قال: ما سمعت مناشدا ينشد حقا له أشد من مناشدة محمد ﷺ يوم بدر.

جعل يقول: «اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد»، ثم التفت وكأن شق وجهه القمر.

وقال: «كأني أنظر إلى مصارع القوم عشية».

رواه النسائي من حديث الأعمش به.

وقال: لما التقينا يوم بدر قام رسول الله ﷺ فما رأيت مناشدا ينشد حقا له أشد مناشدة من رسول الله ﷺ وذكره.

وقد ثبت إخباره عليه السلام بمواضع مصارع رؤس المشركين يوم بدر في (صحيح مسلم) عن أنس بن مالك كما تقدم، وسيأتي في (صحيح مسلم) أيضا عن عمر بن الخطاب.

ومقتضى حديث ابن مسعود أنه أخبر بذلك يوم الوقعة وهو مناسب، وفي الحديثين الآخرين عن أنس وعمر ما يدل على أنه أخبر بذلك قبل ذلك بيوم ولا مانع من الجمع بين ذلك بأن يخبر به قبل بيوم وأكثر، وأن يخبر به قبل ذلك بساعة يوم الوقعة والله أعلم.

وقد روى البخاري: من طرق عن خالد الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس أن النبي ﷺ قال وهو في قبة له يوم بدر: «اللهم أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبدا».

فأخذ أبو بكر بيده وقال: حسبك يا رسول الله ألححت على ربك فخرج وهو يثب في الدرع وهو يقول: { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ } [134] وهذه الآية مكية.

وقد جاء تصديقها يوم بدر كما رواه ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، ثنا أبو الربيع الزهراني، ثنا حماد، عن أيوب، عن عكرمة.

قال: لما نزلت { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ }.

قال عمر: أي جمع يهزم وأي جمع يغلب؟

قال عمر: فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله ﷺ يثب في الدرع وهو يقول: { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ } فعرفت تأويلها يومئذٍ.

وروى البخاري من طريق ابن جريج، عن يوسف بن ماهان سمع عائشة تقول: نزل على محمد بمكة - وإني لجارية ألعب -: { بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر }.

قال ابن إسحاق: وجعل رسول الله ﷺ يناشد ربه ما وعده من النصر ويقول فيما يقول: «اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد».

وأبو بكر يقول: يا نبي الله بعض مناشدتك ربك فإن الله منجز لك ما وعدك، وقد خفق النبي ﷺ خفقةً وهو في العريش، ثم انتبه فقال: «أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده، على ثناياه النقع» يعني: الغبار.

قال: ثم خرج رسول الله ﷺ إلى الناس فحرضهم.

وقال: «والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر، إلا أدخله الله الجنة».

قال عمير بن الحمام أخو بني سلمة وفي يده تمرات يأكلهن: بخٍ بخٍ أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء؟

قال: ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل رحمه الله.

وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم بن سليمان، عن ثابت، عن أنس.

قال: بعث رسول الله ﷺ بسبسا عينا ينظر ما صنعت عير أبي سفيان، فجاء وما في البيت أحد غيري وغير النبي ﷺ.

قال: لا أدري ما استثني من بعض نسائه.

قال: فحدثه الحديث.

قال: فخرج رسول الله فتكلم.

فقال: «إن لنا طلبة فمن كان ظهره حاضر فليركب معنا» فجعل رجال يستأذنونه في ظهورهم في علو المدينة.

قال: «لا إلا من كان ظهره حاضرا».

وانطلق رسول الله ﷺ وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر، وجاء المشركون.

فقال رسول الله ﷺ: «لا يتقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه»، فدنا المشركون.

فقال رسول الله ﷺ: «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض».

قال: يقول عمير بن الحمام الأنصاري يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض؟

قال: «نعم!».

قال: بخٍ بخٍ؟

فقال رسول الله: «ما يحملك على قول بخٍ بخٍ؟».

قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها.

قال: «فإنك من أهلها».

قال: فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن.

ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها حياة طويلة.

قال: فرمى ما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل رحمه الله.

ورواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وجماعة عن أبي النضر هاشم بن القاسم، عن سليمان بن المغيرة به، وقد ذكر ابن جرير أن عميرا قاتل وهو يقول رضي الله عنه:

ركضا إلى الله بغير زاد * إلا التقى وعمل المعاد

والصبر في الله على الجهاد * وكل زاد عرضة النفاد

غير التقى والبر والرشاد

وقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن علي.

قال: لما قدمنا المدينة أصبنا من ثمارها فاجتويناها وأصابنا بها وعك، وكان رسول الله ﷺ يتحيز عن بدر.

فلما بلغنا أن المشركين قد أقبلوا سار رسول الله ﷺ إلى بدر - وبدر بئر - فسبقنا المشركين إليها فوجدنا فيها رجلين: رجلا من قريش، ومولى لعقبة بن أبي معيط فأما القرشي فانفلت، وأما المولى فوجدناه فجعلنا نقول له كم القوم؟

فيقول: هم والله كثير عددهم شديد بأسهم.

فجعل المسلمون إذا قال ذلك ضربوه حتى انتهوا به إلى رسول الله ﷺ.

فقال له: «كم القوم؟».

قال: هم والله كثير عددهم شديد بأسهم.

فجهد النبي ﷺ أن يخبره كم هم فأبى ثم أن النبي ﷺ سأله «كم ينحرون من الجزر؟».

فقال: عشرا كل يوم.

فقال النبي ﷺ: «القوم ألف، كل جزور لمائة وتبعها».

ثم إنه أصابنا من الليل طش من مطر فانطلقنا تحت الشجر والحجف نستظل تحتها من المطر، وبات رسول الله ﷺ يدعو ربه ويقول: «اللهم إنك إن تهلك هذه الفئة لا تعبد».

فلما طلع الفجر نادى الصلاة عباد الله، فجاء الناس من تحت الشجر والحجف فصلى بنا رسول الله ﷺ وحرَّض على القتال.

ثم قال: «إن جمع قريش تحت هذه الضلع الحمراء من الجبل».

فلما دنا القوم منا وصاففناهم إذا رجل منهم على جمل له أحمر يسير في القوم.

فقال رسول الله ﷺ: «يا علي ناد حمزة».

وكان أقربهم من المشركين من صاحب الجمل الأحمر فجاء حمزة، فقال: هو عتبة بن ربيعة وهو ينهى عن القتال ويقول لهم: يا قوم أعصبوها برأسي وقولوا جبن عتبة بن ربيعة، وقد علمتم أني لست بأجبنكم.

فسمع بذلك أبو جهل فقال: أنت تقول ذلك والله لو غيرك يقوله لأعضضته قد ملأت رئتك جوفك رعبا.

فقال: إياي تعير يا مصفر استه سيعلم اليوم أينا الجبان فبرز عتبة وأخوه شيبة وابنه الوليد حمية.

فقالوا: من يبارز؟

فخرج فتية من الأنصار مشببة.

فقال عتبة: لا نريد هؤلاء، ولكن نبارز من بني عمنا من بني عبد المطلب.

فقال رسول الله ﷺ: «قم يا حمزة، وقم يا علي، وقم يا عبيدة بن الحارث بن المطلب».

فقتل الله عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة، وجرح عبيدة فقتلنا منهم سبعين وأسرنا سبعين، وجاء رجل من الأنصار بالعباس بن عبد المطلب أسيرا.

فقال العباس: يا رسول الله والله إن هذا ما أسرني لقد أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجها على فرس أبلق ما أراه في القوم.

فقال الأنصاري: أنا أسرته يا رسول الله.

فقال: «اسكت، فقد أيدك الله بملك كريم».

قال: فأسرنا من بني عبد المطلب العباس وعقيلا ونوفل بن الحارث، هذا سياق حسن وفيه شواهد لما تقدم ولما سيأتي.

وقد تفرد بطوله الإمام أحمد

وروى أبو داود بعضه من حديث إسرائيل به.

ولما نزل رسول الله ﷺ من العريش وحرَّض الناس على القتال والناس على مصافهم صابرين ذاكرين الله كثيرا كما قال الله تعالى آمرا لهم: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرا } الآية [135].

وقال الأموي: حدثنا معاوية بن عمرو، عن أبي إسحاق.

قال: قال الأوزاعي: كان يقال: قلما ثبت قوم قياما، فمن استطاع عند ذلك أن يجلس أو يغض طرفه ويذكر الله رجوت أن يسلم من الرياء.

وقال عتبة بن ربيعة يوم بدر لأصحابه: ألا ترونهم - يعني أصحاب النبي ﷺ - جثيا على الركب كأنهم حرس يتلمظون كما تتلمظ الحيات - أو قال: الأفاعي -.

قال الأموي في (مغازيه): وقد كان النبي ﷺ حين حرَّض المسلمين على القتال قد نفل كل امرئ ما أصاب.

وقال: «والذي نفسي بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة».

وذكر قصة عمير بن الحمام كما تقدم، وقد قاتل بنفسه الكريمة قتالا شديدا ببدنه، وكذلك أبو بكر الصديق كما كانا في العريش يجاهدان بالدعاء والتضرع، ثم نزلا فحرضا وحثا على القتال وقاتلا بالأبدان جمعا بين المقامين الشريفين.

قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن علي.

قال: لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله ﷺ وهو أقربنا من العدو، وكان من أشد الناس يومئذٍ بأسا.

ورواه النسائي من حديث أبي إسحاق، عن حارثة، عن علي.

قال: كنا إذا حمي البأس ولقي القوم اتقينا برسول الله ﷺ.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو نعيم، حدثنا مسعر، عن أبي عون، عن أبي صالح الحنفي، عن علي.

قال: قيل لعلي ولأبي بكر رضي الله عنهما يوم بدر: مع أحدكما جبريل ومع الآخر ميكائيل، وإسرافيل ملك عظيم يشهد القتال ولا يقاتل - أو يشهد الصف - وهذا يشبه ما تقدم من الحديث أن أبا بكر كان في الميمنة ولما تنزل الملائكة يوم بدر تنزيلا كان جبريل على أحد المجنبتين في خمسمائة من الملائكة، فكان في الميمنة من ناحية أبي بكر الصديق، وكان ميكائيل على المجنبة الأخرى في خمسمائة من الملائكة فوقفوا في الميسرة وكان علي بن أبي طالب فيها.

وفي حديث رواه أبو يعلى من طريق محمد بن جبير بن مطعم، عن علي.

قال: كنت أسبح على القليب يوم بدر فجاءت ريح شديدة، ثم أخرى ثم أخرى، فنزل ميكائيل في ألف من الملائكة فوقف على يمين رسول الله ﷺ وهناك أبو بكر، وإسرافيل في ألف في الميسرة وأنا فيها، وجبريل في ألف.

قال: ولقد طفت يومئذٍ حتى بلغ إبطي.

وقد ذكر صاحب العقد وغيره أن أفخر بيت قالته العرب قول حسان بن ثابت:

وببئر بدر إذ يكف مطيهم * جبريل تحت لوائنا ومحمد

وقد قال البخاري: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا جرير، عن يحيى ابن سعيد، عن معاذ بن رفاعة ابن رافع الزرقي، عن أبيه - وكان أبوه من أهل بدر -.

قال: جاء جبريل إلى رسول الله ﷺ فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟

قال: «من أفضل المسلمين - أو كلمة نحوها -».

قال: وكذلك من شهد بدرا من الملائكة.

انفرد به البخاري.

وقد قال الله تعالى: { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ } - يعني: الرؤس - { وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } [136].

وفي (صحيح مسلم) من طريق عكرمة بن عمار، عن أبي زميل، حدثني ابن عباس.

قال: بينما رجل من المسلمين يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم إذ نظر إلى المشرك أمامه قد خرَّ مستلقيا، فنظر إليه فإذا هو حطم أنفه وشق وجهه كضربة السوط واخضر ذلك أجمع فجاء الأنصاري فحدث ذاك رسول الله ﷺ.

فقال: «صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة» فقتلوا يومئذٍ سبعين، وأسروا سبعين.

قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عمن حدثه، عن ابن عباس، عن رجل من بني غفار.

قال: حضرت أنا وابن عم لي بدرا ونحن على شركنا، وإنا لفي جبل ننتظر الوقعة على من تكون الدائرة، فأقبلت سحابة، فلما دنت من الجبل سمعنا منها حمحمة الخيل، وسمعنا قائلا يقول: أقدم حيزوم، فأما صاحبي فانكشف قناع قلبه فمات مكانه، وأما أنا لكدت أن أهلك ثم انتعشت بعد ذلك.

وقال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر عن بعض بني ساعدة، عن أبي أسيد مالك بن ربيعة - وكان شهد بدرا - قال: - بعد أن ذهب بصره - لو كنت اليوم ببدر ومعي بصري لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة لا أشك فيه ولا أتمارى.

فلما نزلت الملائكة ورآها إبليس وأوحى الله إليهم: { أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا }، وتثبتهم أن الملائكة كانت تأتي الرجل في صورة الرجل يعرفه فيقول له: أبشروا فإنهم ليسوا بشيء والله معكم كروا عليهم.

وقال الواقدي: حدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس.

قال: كان الملك يتصور في صورة من يعرفون من الناس يثبتونهم فيقول: إني قد دنوت منهم، وسمعتهم يقولون: لو حملوا علينا ما ثبتنا، ليسوا بشيء، إلى غير ذلك من القول فذلك قوله: { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا } الآية [137].

ولما رأى إبليس الملائكة نكص على عقبيه وقال: إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون وهو في صورة سراقة.

وأقبل أبو جهل يحرِّض أصحابه ويقول: لا يهولنكم خذلان سراقة إياكم، فإنه كان على موعد من محمد وأصحابه ثم قال: واللات والعزى لا نرجع حتى نفرق محمدا وأصحابه في الجبال، فلا تقتلوهم وخذوهم أخذا.

وروى البيهقي من طريق سلامة، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال:

قال أبو أسيد - بعد ما ذهب بصره -: يا ابن أخي والله لو كنت أنا وأنت ببدر ثم أطلق الله بصري لأريتك الشعب الذي خرجت علينا منه الملائكة من غير شك ولا تمار.

وروى البخاري عن إبراهيم بن موسى، عن عبد الوهاب، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال يوم بدر: «هذا جبريل آخذ برأس فرسه وعليه أداة الحرب».

وقال الواقدي: حدثنا ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، وأخبرني موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبيه.

وحدثني عابد بن يحيى، عن أبي الحويرث، عن عمارة بن أكيمة الليثي، عن عكرمة، عن حكيم بن حزام قالوا: لما حضر القتال ورسول الله ﷺ رافع يديه يسأل الله النصر وما وعده يقول: «اللهم إن ظهروا على هذه العصابة ظهر الشرك ولا يقوم لك دين».

وأبو بكر يقول: والله لينصرنك الله وليبيضن وجهك، فأنزل الله ألفا من الملائكة مردفين عند اكتناف العدو.

قال رسول الله ﷺ: «أبشر يا أبا بكر هذا جبريل معتجر بعمامة صفراء آخذ بعنان فرسه بين السماء والأرض»، فلما نزل إلى الأرض تغيَّب عني ساعة، ثم طلع وعلى ثناياه النقع يقول: أتاك نصر الله إذ دعوته. وروى البيهقي عن أبي أمامة بن سهل، عن أبيه.

قال: يا بني لقد رأيتنا يوم بدر وأن أحدنا ليشير إلى رأس المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف.

وقال ابن إسحاق: حدثني والدي، حدثني رجال من بني مازن، عن أبي واقد الليثي قال: إني لأتبع رجلا من المشركين لأضربه فوقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي فعرفت أن غيري قد قتله.

وقال يونس بن بكير، عن عيسى بن عبد الله التيمي، عن الربيع بن أنس قال: كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوهم بضرب فوق الأعناق وعلى البنان مثل سمة النار وقد أحرق به.

وقال ابن إسحاق: حدثني من لا أتهم عن مقسم، عن ابن عباس.

قال: كانت سيماء الملائكة يوم بدر عمائم بيض قد أرخوها على ظهورهم إلا جبريل فإنه كانت عليه عمامة صفراء.

وقد قال ابن عباس: لم تقاتل الملائكة في يوم سوى يوم بدر من الأيام، وكانوا يكونون فيما سواه من الأيام عددا ومددا لا يضربون.

وقال الواقدي: حدثني عبد الله بن موسى بن عبد الله بن أبي أمية، عن مصعب بن عبد الله، عن مولى لسهيل بن عمرو سمعت سهيل بن عمرو يقول: لقد رأيت يوم بدر رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض معلمين يقتلون ويأسرون.

وكان أبو أسيد يحدث بعد أن ذهب بصره.

قال: لو كنت معكم الآن ببدر ومعي بصري، لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة لا أشك ولا أمتري.

قال: وحدثني خارجة بن إبراهيم، عن أبيه.

قال: قال رسول الله ﷺ لجبريل: «من القائل يوم بدر من الملائكة أقدم حيزوم؟».

فقال جبريل: يا محمد ما كل أهل السماء أعرف.

قلت: وهذا الأثر مرسل، وهو يرد قول من زعم أن حيزوم اسم فرس جبريل كما قاله السهيلي وغيره والله أعلم.

وقال الواقدي: حدثني إسحاق بن يحيى، عن حمزة بن صهيب، عن أبيه قال: فما أدري كم يد مقطوعة وضربة جائفة لم يدم كلمها وقد رأيتها يوم بدر.

وحدثني محمد بن يحيى، عن أبي عقيل، عن رافع بن خديج، عن أبي بردة بن نيار قال: جئت يوم بدر بثلاثة رؤس فوضعتهن بين يدي رسول الله ﷺ فقلت: أما رأسان فقتلتهما، وأما الثالث فإني رأيت رجلا طويلا ضربه فتدهدى أمامه فأخذت رأسه.

فقال رسول الله ﷺ: «ذاك فلان من الملائكة».

وحدثني موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه.

قال: كان السائب بن أبي حبيش يحدث في زمن عمر يقول: والله ما أسرني أحد من الناس.

فيقال: فمن؟

يقول: لما انهزمت قريش انهزمت معها فأدركني رجل أشعر طويل على فرس أبيض فأوثقني رباطا وجاء عبد الرحمن بن عوف فوجدني مربوطا فنادى في العسكر من أسر هذا؟ حتى انتهى بي إلى رسول الله ﷺ.

فقال: «من أسرك؟».

قلت: لا أعرفه وكرهت أن أخبره بالذي رأيت.

فقال رسول الله ﷺ: «أسرك ملك من الملائكة، اذهب يا ابن عوف بأسيرك».

وقال الواقدي: حدثني عابد بن يحيى، حدثنا أبو الحويرث، عن عمارة بن أكيمة، عن حكيم بن حزام.

قال: لقد رأيتنا يوم بدر وقد وقع بجاد من السماء قد سدَّ الأفق فإذا الوادي يسيل نهلا فوقع في نفسي أن هذا شيء من السماء أيد به محمد، فما كانت إلا الهزيمة ولقي الملائكة.

وقال إسحاق بن راهويه: حدثنا وهب بن جرير بن حازم، حدثني أبي، عن محمد بن إسحاق، حدثني أبي، عن جبير بن مطعم.

قال: رأيت قبل هزيمة القوم - والناس يقتتلون - مثل البجاد الأسود قد نزل من السماء مثل النمل الأسود، فلم أشك أنها الملائكة، فلم يكن إلا هزيمة القوم، ولما تنزلت الملائكة للنصر ورآهم رسول الله ﷺ حين أغفى إغفاءة، ثم استيقظ وبشَّر بذلك أبا بكر وقال: «أبشر يا أبا بكر هذا جبريل يقود فرسه على ثناياه النقع» يعني: من المعركة.

ثم خرج رسول الله ﷺ من العريش في الدرع فجعل يحرض على القتال ويبشر الناس بالجنة ويشجعهم بنزول الملائكة والناس بعد على مصافهم لم يحملوا على عدوهم حصل لهم السكينة والطمأنينة، وقد حصل النعاس الذي هو دليل على الطمأنينة والثبات والإيمان، كما قال: { إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ } [138].

وهذا كما حصل لهم بعد ذلك يوم أحد بنص القرآن، ولهذا قال ابن مسعود: النعاس في المصاف من الإيمان، والنعاس في الصلاة من النفاق.

وقال الله تعالى: { إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ } [139].

قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، ثنا محمد بن إسحاق، حدثني الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة أن أبا جهل قال - حين التقى القوم -: اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة.

فكان هو المستفتح وكذا ذكره ابن إسحاق في السيرة ورواه النسائي من طريق صالح بن كيسان، عن الزهري، ورواه الحاكم من حديث الزهري أيضا، ثم قال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

وقال الأموي: حدثنا أسباط بن محمد القرشي، عن عطية، عن مطرف في قوله: { إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءكُمُ }.

قال: قال أبو جهل: اللهم أعن أعز الفئتين، وأكرم القبيلتين، وأكثر الفريقين.

فنزلت: { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح }.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: { وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ } [140].

قال: أقبلت عير أهل مكة تريد الشام فبلغ ذلك أهل المدينة فخرجوا ومعهم رسول الله ﷺ يريدون العير، فبلغ ذلك أهل مكة فأسرعوا إليها لكيلا يغلب عليها النبي ﷺ وأصحابه فسبقت العير رسول الله ﷺ، وكان الله قد وعدهم إحدى الطائفتين، وكانوا يحبون أن يلقوا العير، وسار رسول الله ﷺ بالمسلمين يريد القوم، وكره القوم مسيرهم لشوكة القوم.

فنزل النبي ﷺ والمسلمون، وبينهم وبين الماء رملة دعصة فأصاب المسلمون ضعف شديد وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ يوسوسهم تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله، وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم كذا! فأمطر الله عليهم مطرا شديدا فشرب المسلمون وتطهروا فأذهب الله عنهم رجز الشيطان، فصار الرمل لبدا ومشى الناس عليه والدواب، فساروا إلى القوم وأيد الله نبيه والمؤمنين بألف من الملائكة.

فكان جبريل في خمسمائة من الملائكة مجنبة وميكائيل في خمسمائة من الملائكة مجنبة وجاء إبليس في جند الشياطين ومعه ذريته وهم في صورة رجال من بني مدلج والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، وقال الشيطان للمشركين: لا غالب لكم اليوم من الناس، وإني جار لكم.

فلما اصطف الناس قال أبو جهل: اللهم أولانا بالحق فانصره.

ورفع رسول الله ﷺ يديه فقال: «يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا».

فقال له جبريل: خذ قبضة من التراب، فأخذ قبضة من التراب فرمى بها وجوههم، فما المشركين من أحد إلا وأصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة، فولوا مدبرين.

وأقبل جبريل إلى إبليس فلما رآه - وكانت يده في يد رجل من المشركين - انتزع إبليس يده ثم ولى مدبرا وشيعته.

فقال الرجل: يا سراقة أما زعمت أنك لنا جار؟

قال: { إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [141] وذلك حين رأى الملائكة رواه البيهقي في (الدلائل).

وقال الطبراني حدثنا مسعدة بن سعد العطار، ثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، ثنا عبد العزيز بن عمران، ثنا هشام بن سعد، عن عبد ربه ابن سعيد بن قيس الأنصاري، عن رفاعة بن رافع.

قال: لما رأى إبليس ما فعل الملائكة بالمشركين يوم بدر أشفق أن يخلص إليه، فتشبث به الحارث بن هشام وهو يظن أنه سراقة بن مالك، فوكز في صدر الحارث ثم خرج هاربا حتى ألقى نفسه في البحر ورفع يديه فقال: اللهم إني أسألك نظرتك إياي وخاف أن يخلص القتل إليه.

وأقبل أبو جهل فقال: يا معشر الناس لا يهولنكم خذلان سراقة بن مالك فإنه كان على ميعاد من محمد، ولا يهولنكم قتل شيبة وعتبة والوليد فإنهم قد عجلوا، فواللات والعزى لا نرجع حتى نفرقهم بالجبال، فلا ألفين رجلا منكم قتل رجل ولكن خذوهم أخذا حتى تعرفوهم سوء صنيعهم من مفارقتهم إياكم ورغبتهم عن اللات والعزى.

ثم قال أبو جهل متمثلا:

ما تنقم الحرب الشموس مني * بازل عامين حديث سني

لمثل هذا ولدتني أمي

وروى الواقدي عن موسى بن يعقوب الزمعي، عن عمه، عن أبي بكر بن أبي سليمان، عن أبي حتمة سمعت مروان بن الحكم يسأل حكيم بن حزام عن يوم بدر فجعل الشيخ يكره ذلك، فألح عليه فقال حكيم: التقينا فاقتتلنا فسمعت صوتا وقع من السماء إلى الأرض مثل وقعة الحصاة في الطست، وقبض النبي ﷺ القبضة التراب فرمى بها فانهزمنا.

قال الواقدي: وحدثنا أبو إسحاق بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير، سمعت نوفل بن معاوية الديلي يقول: انهزمنا يوم بدر ونحن نسمع صوتا كوقع الحصى في الطاس في أفئدتنا ومن خلفنا، وكان ذلك من أشد الرعب علينا.

وقال الأموي: حدثنا أبي، ثنا ابن أبي إسحاق، حدثني الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير، أن أبا جهل حين التقى القوم قال: اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة، فكان هو المستفتح.

فبينما هم على تلك الحال وقد شجع الله المسلمين على لقاء عدوهم وقللهم في أعينهم حتى طمعوا فيهم، خفق رسول الله ﷺ خفقة في العريش، ثم انتبه فقال: «أبشر يا أبا بكر هذا جبريل معتجر بعمامته آخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع أتاك نصر الله وعدته».

وأمر رسول الله ﷺ فأخذ كفا من الحصى بيده ثم خرج فاستقبل القوم.

فقال: «شاهت الوجوه».

ثم نفحهم بها ثم قال لأصحابه: «احملوا فلم تكن إلا الهزيمة» فقتل الله من قتل من صناديدهم، وأسر من أسر منهم.

وقال زياد عن ابن إسحاق ثم أن رسول الله ﷺ أخذ حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشا، ثم قال: «شاهت الوجوه»، ثم نفحهم بها وأمر أصحابه فقال: «شدوا».

فكانت الهزيمة، فقتل الله من قتل من صناديد قريش، وأسر من أسر من أشرافهم.

وقال السدي الكبير: قال رسول الله ﷺ لعلي يوم بدر: «أعطني حصباء من الأرض» فناوله حصباء عليها تراب فرمى به وجوه القوم فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه من ذلك التراب شيء، ثم ردفهم المسلمون يقتلونهم ويأسرونهم وأنزل الله في ذلك: { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى } [142].

وهكذا قال عروة، وعكرمة، ومجاهد، ومحمد بن كعب، ومحمد بن قيس، وقتادة، وابن زيد، وغيرهم أن هذه الآية نزلت في ذلك يوم بدر، وقد فعل عليه السلام مثل ذلك في غزوة حنين كما سيأتي في موضعه إذا انتهينا إليه إن شاء الله وبه الثقة.

وذكر ابن إسحاق أن رسول الله ﷺ لما حرض أصحابه على القتال ورمى المشركين بما رماهم به من التراب وهزمهم الله تعالى صعد إلى العريش أيضا ومعه أبو بكر، ووقف سعد بن معاذ ومن معه من الأنصار على باب العريش ومعهم السيوف خيفة أن تكر راجعة من المشركين إلى النبي ﷺ.

قال ابن إسحاق: ولما وضع القوم أيديهم يأسرون رأى رسول الله ﷺ - فيما ذكر لي - في وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس.

فقال له: «كأني بك يا سعد تكره ما يصنع القوم؟».

قال: أجل والله يا رسول الله كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك.

فكان الإثخان في القتل أحب إلي من استبقاء الرجال.

قال ابن إسحاق: وحدثني العباس بن عبد الله بن معبد، عن بعض أهله، عن عبد الله بن عباس، أن النبي ﷺ قال لأصحابه يومئذٍ: «إني قد عرفت أن رجالا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي منكم أحدا من بني هاشم فلا يقتله ومن لقي أبا البختري بن هشام بن الحارث بن أسد فلا يقتله، ومن لقي العباس بن عبد المطلب عم رسول الله ﷺ فلا يقتله فإنه إنما خرج مستكرها».

فقال أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة: أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا ونترك العباس، والله لئن لقيته لأحمنه بالسيف.

فبلغت رسول الله ﷺ فقال لعمر: «يا أبا حفص».

قال عمر: والله إنه لأول يوم كناني فيه رسول الله ﷺ بأبي حفص، «أيضرب وجه عم رسول الله بالسيف».

فقال عمر: يا رسول الله دعني فلأضرب عنقه بالسيف فوالله لقد نافق.

فقال أبو حذيفة: ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذٍ، ولا أزال منها خائفا إلا أن تكفرها عني الشهادة فقتل يوم اليمامة شهيدا رضي الله عنه.

مقتل أبي البختري بن هشام

قال ابن إسحاق: وإنما نهى رسول الله ﷺ عن قتل أبي البختري لأنه كان أكف القوم عن رسول الله ﷺ وهو بمكة.

كان لا يؤذيه ولا يبلغه عنه شيء يكرهه، وكان ممن قام في نقض الصحيفة فلقيه المجذر بن ذياد البلوي حليف الأنصار.

فقال له: إن رسول الله ﷺ نهانا عن قتلك ومع أبي البختري زميل له خرج معه من مكة وهو جنادة بن مليحة وهو من بني ليث.

قال: وزميلي؟

فقال له المجذر: لا والله ما نحن بتاركي زميلك، ما أمرنا رسول الله إلا بك وحدك.

قال: لا والله إذا لأموتن أنا وهو جميعا لا يتحدث عني نساء قريش بمكة أني تركت زميلي حرصا على الحياة.

وقال أبو البختري وهو ينازل المجذر:

لن يترك ابن حرة زميله * حتى يموت أو يرى سبيله

قال فاقتتلا فقتله المجذر بن زياد وقال في ذلك:

إما جهلت أو نسيت نسبي * فأثبت النسبة إني من بلى

الطاعنين برماح اليزني * والطاعنين الكبش حتى ينحني

بشر بيتم من: أبوه البختري * أو بشرن بمثلها مني بني

أنا الذي يقال أصلي من بلى * أطعن بالصعدة حتى تنثني

وأعبط القرن بعصب مشرفي * أرزم للموت كإرزام المري

يذيقونه حد أسيافهم * يعلونه بعد ما قد عطب

فلا يرى مجذرا يفري فري

ثم أتى المجذر رسول الله ﷺ فقال: والذي بعثك بالحق لقد جهدت عليه أن يستائر فآتيك به فأبى إلا أن يقاتلني، فقاتلته فقتلته.

فصل في مقتل أمية بن خلف

قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، وحدثنيه أيضا عبد الله بن أبي بكر وغيرهما، عن عبد الرحمن ابن عوف قال: كان أمية بن خلف لي صديقا بمكة، وكان اسمي عبد عمرو، فتسميت حين أسلمت عبد الرحمن، فكان يلقاني ونحن بمكة فيقول: يا عبد عمرو

أرغبت عن اسم سماكه أبوك؟

قال: فأقول: نعم!

قال: فإني لا أعرف الرحمن، فاجعل بيني وبينك شيئا أدعوك به، أما أنت فلا تجيبني باسمك الأول، وأما أنا فلا أدعوك بما لا أعرف.

قال: وكان إذا دعاني يا عبد عمرو لم أجبه.

قال: فقلت له: يا أبا علي اجعل ما شئت.

قال: فأنت عبد الإله.

قال: قلت: نعم!

قال: فكنت إذا مررت به قال: يا عبد الإله فأجيبه فأتحدث معه، حتى إذا كان يوم بدر، مررت به وهو واقف مع ابنه علي وهو آخذ بيده، قال: ومعي أدراع لي قد استلبتها، فأنا أحملها فلما رآني.

قال: يا عبد عمرو فلم أجبه.

فقال: يا عبد الإله.

فقلت: نعم!

قال: هل لك فيَّ فأنا خير لك من هذه الأدراع التي معك؟

قال: قلت: نعم هاالله.

قال: فطرحت الأدراع من يدي، وأخذت بيد ه وبيد ابنه.

وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط، أما لكم حاجة في اللبن؟

قال: ثم خرجت أمشي بهما.

قال ابن إسحاق: حدثني عبد الواحد بن أبي عون، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه عن عبد الرحمن بن عوف.

قال: قال لي أمية ابن خلف وأنا بينه وبين ابنه آخذا بأيديهما: يا عبد الإله من الرجل منكم المعلم بريشة نعامة في صدره؟

قال: قلت: حمزة.

قال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل.

قال عبد الرحمن: فوالله إني لأقودهما إذ رآه بلال معي - وكان هو الذي يعذب بلالا بمكة على ترك الإسلام - فلما رآه قال: رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا، قال: قلت: أي بلال أسيري، قال: لا نجوت إن نجا.

ثم قال: صرخ بأعلا صوته يا أنصار الله! رأس الكفر أمية بن خلف لا نجوت إن نجا، فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مثل المسكة فأنا أذب عنه، قال: فأخلف رجل السيف فضرب رجل ابنه فوقع، وصاح أمية صيحة ما سمعت بمثلها قط.

قال: قلت: أنج بنفسك ولا نجاء بك، فوالله ما أغني عنك شيئا.

قال: فهبروهما بأسيافهم حتى فرغوا منهما.

قال: فكان عبد الرحمن يقول: يرحم الله بلالا فجعني بأدراعي وبأسيريّ.

وهكذا رواه البخاري في (صحيحه) قريبا من هذا السياق فقال في (الوكالة): حدثنا عبد العزيز - هو ابن عبد الله - حدثنا يوسف - هو ابن الماجشون - عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن ابن عوف، عن أبيه، عن جده عبد الرحمن بن عوف.

قال: كاتبت أمية بن خلف كتابا بأن يحفظني في صاغيتي بمكة وأحفظه في صاغيته بالمدينة، فلما ذكرت الرحمن قال: لا أعرف الرحمن، كاتبني باسمك الذي كان في الجاهلية فكاتبته عبد عمرو، فلما كان يوم بدر خرجت إلى جبل لأحرزه حين نام الناس فأبصره بلال فخرج حتى وقف على مجلس من الأنصار فقال: أمية بن خلف؟! لا نجوت إن نجا أمية بن خلف.

فخرج معه فريق من الأنصار في آثارنا، فلما خشيت أن يلحقونا خلفت لهم ابنه لأشغلهم فقتلوه، ثم أتوا حتى تبعونا وكان رجلا ثقيلا، فلما أدركونا قلت له: أبرك فبرك، فألقيت عليه نفسي لأمنعه فتخللوه بالسيوف من تحتي حتى قتلوه، وأصاب أحدهم رجلي بسيفه فكان عبد الرحمن بن عوف يرينا ذلك في ظهر قدمه، سمع يوسف صالحا وإبراهيم أباه.

تفرد به البخاري من بينهم كلهم.

وفي مسند رفاعة بن رافع أنه هو الذي قتل أمية بن خلف.

مقتل أبي جهل لعنه الله

قال ابن هشام: وأقبل أبو جهل يومئذٍ يرتجز وهو يقاتل ويقول:

ما تنقم الحرب العوان مني * بازل عامين حديث سني

لمثل هذا ولدتني أمي

قال ابن إسحاق: ولما فرغ رسول الله ﷺ من عدوه، أمر بأبي جهل أن يلتمس في القتلى.

وكان أول من لقي أبا جهل كما حدثني ثور بن زيد، عن عكرمة، عن ابن عباس وعبد الله بن أبي بكر أيضا قد حدثني ذلك قالا: قال معاذ بن عمرو بن الجموح أخو بني سلمة: سمعت القوم وأبو جهل في مثل الحرجة وهم يقولون: أبو الحكم لا يخلص إليه، فلما سمعتها جعلته من شأني فصمدت نحوه، فلما أمكنني حملت عليه فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه، فوالله ما شبهتها حين طاحت إلا بالنواة تطيح من تحت مرضخة النوى حين يضرب بها.

قال: وضربني ابنه عكرمة على عاتقي فطرح يدي فتعلقت بجلدة من جنبي، وأجهضني القتال عنه، فلقد قاتلت عامة يومي وإني لأسحبها خلفي، فلما آذتني وضعت عليها قدمي، ثم تمطيت بها عليها حتى طرحتها.

قال ابن إسحاق: ثم عاش بعد ذلك حتى كان زمن عثمان.

ثم مرَّ بأبي جهل - وهو عقير - معوذ بن عفراء فضربه حتى أثبته، وتركه وبه رمق.

وقاتل معوذ حتى قتل، فمرَّ عبد الله بن مسعود بأبي جهل حين أمر رسول الله ﷺ أن يلتمس في القتلى وقد قال لهم رسول الله ﷺ - فيما بلغني -: «أنظروا إن خفي عليكم في القتلى إلى أثر جرح في ركبته فإني ازدحمت أنا وهو يوما على مأدبة لعبد الله بن جدعان ونحن غلامان وكنت أشف منه بيسير فدفعته فوقع على ركبته فجحش في أحدهما جحشا لم يزل أثره به».

قال ابن مسعود: فوجدته بآخر رمق فعرفته.

فوضعت رجلي على عنقه.

قال: وقد كان ضبث بي مرة بمكة فآذاني ولكزني ثم قلت له: هل أخزاك الله يا عدو الله؟

قال: وبماذا أخزاني؟

قال: أعمد من رجل قتلتموه أخبرني لمن الدائرة اليوم؟

قال: قلت لله ولرسوله.

قال ابن إسحاق: وزعم رجال من بني مخزوم أن ابن مسعود كان يقول: قال لي: لقد ارتقيت مرتقى صعبا يا رويعي الغنم، قال: ثم احتززت رأسه ثم جئت به رسول الله ﷺ فقلت: يا رسول الله هذا رأس عدو الله.

فقال: «آلله الذي لا إله غيره؟».

وكانت يمين رسول الله ﷺ فقلت: نعم! والله الذي لا إله غيره ثم ألقيت رأسه بين يدي رسول الله ﷺ فحمد الله.

هكذا ذكر ابن إسحاق رحمه الله.

وقد ثبت في (الصحيحين) من طريق يوسف بن يعقوب بن الماجشون، عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عوف.

قال: إني لواقف يوم بدر في الصف فنظرت عن يميني وشمالي، فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، فتمنيت أن أكون بين أظلع منهما فغمزني أحدهما فقال: يا عم أتعرف أبا جهل؟

فقلت: نعم وما حاجتك إليه؟

قال: أخبرت أنه يسب رسول الله ﷺ والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا.

فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال لي أيضا مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل وهو يجول في الناس فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكم الذي تسألان عنه.

فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه ثم انصرفا إلى النبي ﷺ فأخبراه، فقال: «أيكما قتله؟».

قال كل منهما: أنا قتلته.

قال: «هل مسحتما سيفيكما؟».

قالا: لا.

قال: فنظر النبي ﷺ في السيفين، فقال: «كلاهما قتله».

وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح والآخر معاذ بن عفراء.

وقال البخاري: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، ثنا إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن جده.

قال: قال عبد الرحمن: إني لفي الصف يوم بدر إذ التفت فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن فكأني لم آمن بمكانهما إذ قال لي أحدهما سرا من صاحبه: يا عم أرني أبا جهل.

فقلت: يا ابن أخي ما تصنع به؟

قال: عاهدت الله إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه.

وقال لي الآخر سرا من صاحبه مثله، قال: فما سرني أنني بين رجلين مكانهما فأشرت لهما إليه فشدا عليه مثل الصقرين حتى ضرباه وهما ابنا عفراء.

وفي (الصحيحين)أيضا من حديث أبي سليمان التيمي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ: «من ينظر ماذا صنع أبو جهل؟».

قال ابن مسعود: أنا يا رسول الله.

فانطلق فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد.

قال: فأخذ بلحيته، قال: فقلت أنت أبو جهل؟

فقال: وهو فوق رجل قتلتموه - أو قال: قتله قومه -. وعند البخاري عن أبي سلمة، عن إسماعيل بن قيس، عن ابن مسعود، أنه أتى أبا جهل فقال: هل أخزاك الله؟

فقال: هل أعمد من رجل قتلتموه.

وقال الأعمش عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، قال: انتهيت إلى أبي جهل وهو صريع، وعليه بيضة ومعه سيف جيد، ومعي سيف رديء فجعلت أنقف رأسه بسيفي، وأذكر نقفا كان ينقف رأسي بمكة، حتى ضعفت يده فأخذت سيفه فرفع رأسه، فقال: على من كانت الدائرة لنا أو علينا، ألست رويعينا بمكة؟

قال: فقتلته، ثم أتيت النبي ﷺ فقلت: قتلت أبا جهل.

فقال: «آلله الذي لا إله إلا هو؟».

فاستحلفني ثلاث مرات، ثم قام معي إليهم فدعا عليهم.

وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، قال: قال عبد الله: انتهيت إلى أبي جهل يوم بدر وقد ضربت رجله، وهو يذب الناس عنه بسيف له، فقلت: الحمد الله الذي أخزاك الله يا عدو الله.

قال: هل هو إلا رجل قتله قومه.

فجعلت أتناوله بالسيف لي غير طائل فأصبت يده، فندر سيفه فأخذته فضربته حتى قتلته.

قال: ثم خرجت حتى أتيت النبي ﷺ كأنما أقل من الأرض فأخبرته، فقال: «آلله الذي لا إله إلا هو؟» فرددها ثلاثا.

قال: قلت: «آلله الذي لا إله إلا هو».

قال: فخرج يمشي معي حتى قام عليه فقال: «الحمد لله الذي قد أخزاك الله يا عدو الله، هذا كان فرعون هذه الأمة».

وفي رواية أخرى قال ابن مسعود: فنفلني سيفه.

وقال أبو إسحاق الفزاري، عن الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن ابن مسعود، قال: أتيت رسول الله ﷺ يوم بدر، فقلت: قد قتلت أبا جهل.

فقال: «آلله الذي لا إله إلا هو؟».

فقلت: آلله الذي لا إله إلا هو مرتين - أو ثلاثا -.

قال: فقال النبي ﷺ: «الله أكبر، الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده».

ثم قال: «انطلق فأرنيه».

فانطلقت فأريته، فقال: «هذا فرعون هذه الأمة».

ورواه أبو داود والنسائي من حديث أبي إسحاق السبيعي به.

وقال الواقدي: وقف رسول الله ﷺ على مصرع ابني عفراء، فقال: «رحم الله ابني عفراء فهما شركاء في قتل فرعون هذه الأمة، ورأس أئمة الكفر».

فقيل: يا رسول الله ومن قتله معهما؟

قال: «الملائكة وابن مسعود قد شرك في قتله» رواه البيهقي.

وقال البيهقي: أخبرنا الحاكم، أخبرنا الأصم، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس بن بكير، عن عنبسة بن الأزهر، عن أبي إسحاق، قال: لما جاء رسول الله ﷺ البشير يوم بدر بقتل أبي جهل، استحلفه ثلاثة أيمان بالله الذي لا إله إلا هو، لقد رأيته قتيلا؟ فحلف له فخر رسول الله ﷺ ساجدا.

ثم روى البيهقي من طريق أبي نعيم، عن سلمة بن رجاء، عن الشعثاء - امرأة من بني أسد - عن عبد الله بن أبي أوفى: أن رسول الله ﷺ صلى ركعتين حين بشر بالفتح، وحين جيء برأس أبي جهل.

وقال ابن ماجه: حدثنا أبو بشر بكر بن خلف، حدثنا سلمة بن رجاء قال: حدثتني شعثاء، عن عبد الله بن أبي أوفى: أن رسول الله ﷺ صلى يوم بشِّر برأس أبي جهل ركعتين.

وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا أبي، حدثنا هشام، أخبرنا مجالد، عن الشعبي: أن رجلا قال لرسول الله ﷺ: إني مررت ببدر، فرأيت رجلا يخرج من الأرض فيضربه رجل بمقمعة معه، حتى يغيب في الأرض ثم يخرج فيفعل به مثل ذلك مرارا.

فقال رسول الله ﷺ: «ذاك أبو جهل بن هشام يعذب إلى يوم القيامة».

وقال الأموي في (مغازيه): سمعت أبي، ثنا المجالد بن سعيد، عن عامر قال: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ، فقال: إني رأيت رجلا جالسا في بدر، ورجل يضرب رأسه بعمود من حديد حتى يغيب في الأرض.

فقال رسول الله ﷺ: «ذاك أبو جهل وكل به ملك يفعل به كلما خرج، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة».

وقال البخاري: حدثنا عبيد بن إسماعيل، ثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه قال: قال الزبير: لقيت يوم بدر عبيدة بن سعيد بن العاص، وهو مدجج لا يرى منه إلا عيناه، وهو يكنى أبا ذات الكرش، فقال: أنا أبو ذات الكرش فحملت عليه بعنزة، فطعنته في عينه فمات.

قال هشام: فأخبرت أن الزبير قال: لقد وضعت رجلي عليه ثم تمطيت، فكان الجهد أن نزعتها، وقد انثنى طرفاها.

قال عروة: فسأله إياها رسول الله ﷺ فأعطاه إياها، فلما قبض رسول الله ﷺ أخذها ثم طلبها أبو بكر فأعطاه إياها، فلما قبض أبو بكر سألها إياه عمر بن الخطاب فأعطاه إياها، فلما قبض عمر أخذها ثم طلبها عثمان منه فأعطاه إياها، فلما قتل عثمان وقعت عند آل علي، فطلبها عبد الله بن الزبير فكانت عنده حتى قتل.

وقال ابن هشام: حدثني أبو عبيدة وغيره من أهل العلم بالمغازي: أن عمر بن الخطاب قال لسعيد بن العاص - ومرَّ به -:

إني أراك كأن في نفسك شيئا، أراك تظن أني قتلت أباك، إني لو قتلته لم أعتذر إليك من قتله، ولكني قتلت خالي العاص بن هشام بن المغيرة، فأما أبوك فإني مررت به وهو يبحث بحث الثور بروقه، فحدت عنه وقصد له ابن عمه علي فقتله.

قال ابن إسحاق: وقاتل عكاشة بن محصن بن حرثان الأسدي، حليف بني عبد شمس، يوم بدر بسيفه حتى انقطع في يده، فأتى رسول الله ﷺ فأعطاه جذلا من حطب، فقال: «قاتل بهذا يا عكاشة».

فلما أخذه من رسول الله ﷺ هزَّه فعاد سيفا في يده طويل القامة، شديد المتن أبيض الحديدة، فقاتل به حتى فتح الله على المسلمين، وكان ذلك السيف يسمى: (العون).

ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد مع رسول الله ﷺ حتى قتله طليحة الأسدي أيام الردة، وأنشد طليحة في ذلك قصيدة منها قوله:

عشية غادرت ابن أقرم ثاويا * وعكاشة الغنمي عند مجال

وقد أسلم بعد ذلك طليحة كما سيأتي بيانه.

قال ابن إسحاق: وعكاشة هو الذي قال حين بشَّر رسول الله ﷺ أمته بسبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب: ادع الله أن يجعلني منهم.

قال: «اللهم اجعله منهم».

وهذا الحديث مخرج في الصحاح والحسان وغيرهما.

قال ابن إسحاق: وقال رسول الله ﷺ - فيما بلغني -: «منا خير فارس في العرب».

قالوا: ومن هو يا رسول الله؟

قال: «عكاشة بن محصن».

فقال ضرار بن الأزور: ذاك رجل منا يا رسول الله.

قال: «ليس منكم ولكنه منا للحلف».

وقد روى البيهقي، عن الحاكم، من طريق محمد بن عمر الواقدي: حدثني عمر بن عثمان الخشني، عن أبيه، عن عمته، قالت: قال عكاشة بن محصن: انقطع سيفي يوم بدر فأعطاني رسول الله ﷺ عودا فإذا هو سيف أبيض طويل، فقاتلت به حتى هزم الله المشركين، ولم يزل عنده حتى هلك.

وقال الواقدي: وحدثني أسامة بن زيد، عن داود بن الحصين، عن رجال من بني عبد الأشهل عدة، قالوا: انكسر سيف سلمة بن حريش يوم بدر، فبقي أعزل لا سلاح معه، فأعطاه رسول الله ﷺ قضيبا كان في يده من عراجين ابن طاب، فقال: «اضرب به».

فإذا سيف جيد فلم يزل عنده، حتى قتل يوم جسر أبي عبيد.

ردُّه عليه السلام عين قتادة

قال البيهقي في (الدلائل): أخبرنا أبو سعد الماليني، أخبرنا أبو أحمد عبد الله بن عدي، حدثنا أبو يعلى، حدثنا يحيى الحماني، ثنا عبد العزيز بن سليمان بن الغسيل، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن أبيه عن جده قتادة بن النعمان:

أنه أصيبت عينه يوم بدر، فسالت حدقته على وجنته، فأرادوا أن يقطعوها، فسألوا رسول الله ﷺ فقال: «لا»، فدعاه فغمز حدقته براحته، فكان لا يدري أي عينيه أصيب.

وفي رواية: فكانت أحسن عينيه.

وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز: أنه لما أخبره بهذا الحديث عاصم بن عمر بن قتادة، وأنشد مع ذلك:

أنا ابن الذي سالت على الخد عينه * فردت بكف المصطفى أيما رد

فقال عمر بن عبد العزيز، رحمه الله، عند ذلك منشدا قول أمية بن أبي الصلت في سيف بن ذي يزن، فأنشده عمر في موضعه حقا:

تلك المكارم لا قعبان من لبن * شيبا بماءٍ فعادا بعد أبوالا

فصل قصة أخرى شبيهة بها

قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا محمد بن صالح، أخبرنا الفضل بن محمد الشعراني، حدثنا إبراهيم بن المنذر، أخبرنا عبد العزيز بن عمران، حدثني رفاعة بن رافع بن مالك.

قال: لما كان يوم بدر تجمع الناس على أمية بن خلف، فأقبلت إليه فنظرت إلى قطعة من درعه قد انقطعت من تحت إبطه، قال: فطعنته بالسيف فيها طعنة، ورميت بسهم يوم بدر، ففقئت عيني فبصق فيها رسول الله ﷺ، ودعا لي فما أذاني منها شيء.

وهذا غريب من هذا الوجه، وإسناده جيد ولم يخرجوه.

ورواه الطبراني من حديث إبراهيم بن المنذر.

قال ابن هشام: ونادى أبو بكر ابنه عبد الرحمن وهو يومئذ مع المشركين لم يسلم بعد، فقال: أين مالي يا خبيث؟

فقال عبد الرحمن:

لم يبق إلا شكة ويعبوب * وصارم يقتل ضلال الشيب

يعني: لم يبق إلا عدة الحرب وحصان وهو اليعبوب، يقاتل عليه شيوخ الضلالة، هذا يقوله في حال كفره.

وقد روينا في (مغازي الأموي): أن رسول الله ﷺ جعل يمشي هو وأبو بكر الصديق بين القتلى، ورسول الله ﷺ يقول: «نفلق هاما».

فيقول الصديق:

من رجال أعزةٍ * علينا وهم كانوا أعق وأظلما

طرح رؤوس الكفر في بئر يوم بدر

قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن رومان، عن عروة، عن عائشة قالت: لما أمر رسول الله ﷺ بالقتلى أن يطرحوا في القليب، طرحوا فيه إلا ما كان من أمية بن خلف، فإنه انتفخ في درعه فملأها فذهبوا ليخرجوه فتزايل لحمه، فأقروه وألقوا عليه ما غيبه من التراب والحجارة.

فلما ألقاهم في القليب، وقف عليهم فقال: «يا أهل القليب هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا».

قالت: فقال له أصحابه: يا رسول الله أتكلم قوما موتى؟

فقال: «لقد علموا أن ما وعدهم ربهم حق».

قالت عائشة: والناس يقولون لقد سمعوا ما قلتُ لهم، وإنما قال رسول الله ﷺ: لقد علموا.

قال ابن إسحاق: وحدثني حميد الطويل، عن أنس بن مالك قال: سمع أصحاب النبي ﷺ رسول الله من جوف الليل، وهو يقول: «يا أهل القليب، يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا أمية بن خلف، ويا أبا جهل بن هشام - فعدد من كان منهم في القليب - هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا».

فقال المسلمون: يا رسول الله ﷺ أتنادي قوما قد جيفوا؟

فقال: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني».

وقد رواه الإمام أحمد، عن ابن أبي عدي، عن حميد، عن أنس، فذكر نحوه.

وهذا على شرط الشيخين.

قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله ﷺ قال: «يا أهل القليب بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس؛ هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا».

قلت: وهذا مما كانت عائشة رضي الله عنها تتأوله من الأحاديث، كما قد جمع ما كانت تتأوله من الأحاديث في جزء، وتعتقد أنه معارض لبعض الآيات، وهذا المقام مما كانت تعارض فيه قوله: { وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ } [143].

وليس هو بمعارض له، والصواب قول الجمهور من الصحابة ومن بعدهم للأحاديث الدالة نصا، على خلاف ما ذهبت إليه رضي الله عنها وأرضاها.

وقال البخاري: حدثنا عبيد بن إسماعيل، حدثنا أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: ذكر عند عائشة أن ابن عمر رفع إلى النبي ﷺ أن الميت يعذب في قبره ببكاء أهله، فقالت: رحمه الله إنما قال رسول الله ﷺ: «إنه ليعذب بخطيئته وذنبه، وإن أهله ليبكون عليه الآن».

قالت: وذاك مثل قوله: إن رسول الله ﷺ قام على القليب، وفيه قتلى بدر من المشركين فقال لهم ما قال، قال: «إنهم ليسمعون ما أقول»، وإنما قال: «إنهم الآن ليعلمون إنما كنت أقول لهم حق».

ثم قرأت: { إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى } [144] { وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ } [145] تقول: حين تبوؤا مقاعدهم في النار.

وقد رواه مسلم، عن أبي كريب، عن أبي أسامة به، وقد جاء التصريح بسماع الميت بعد دفنه في غير ما حديث، كما سنقرر ذلك في كتاب الجنائز من (الأحكام الكبير) إن شاء الله.

ثم قال البخاري: حدثني عثمان، ثنا عبدة، عن هشام، عن أبيه، عن ابن عمر قال: وقف النبي ﷺ على قليب بدر، فقال: «هل وجدتم ما وعد ربكم حقا».

ثم قال: «إنهم الآن يسمعون ما أقول لهم».

وذكر لعائشة فقالت: إنما قال النبي ﷺ: «إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق»، ثم قرأت: { إنك لا تسمع الموتى } حتى قرأت الآية.

وقد رواه مسلم، عن أبي كريب، عن أبي أسامة، وعن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع، كلاهما عن هشام بن عروة.

وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، سمع روح بن عبادة، ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة قال: ذكر لنا أنس بن مالك عن أبي طلحة أن رسول الله ﷺ أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش، فقذفوا في طوى من أطواء بدر خبيث مخبث، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال.

فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها، ثم مشى وتبعه أصحابه وقالوا: ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته، حتى قام على شفى الركي، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم:

«يا فلان ابن فلان ويا فلان بن فلان، يسركم أنكم أطعتم الله ورسوله، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟».

فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح فيها؟

فقال النبي ﷺ: «والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم».

قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما.

وقد أخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجه من طرق عن سعيد بن أبي عروبة.

ورواه الإمام أحمد، عن يونس بن محمد المؤدب، عن شيبان بن عبد الرحمن، عن قتادة قال: حدث أنس بن مالك فذكر مثله، فلم يذكر أبا طلحة، وهذا إسناد صحيح.

ولكن الأول أصح وأظهر والله أعلم.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، ثنا حماد، عن ثابت، عن أنس: أن رسول الله ﷺ ترك قتلى بدر ثلاثة أيام حتى جيفوا، ثم أتاهم فقام عليهم فقال: «يا أمية بن خلف، يا أبا جهل بن هشام، يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا».

قال: فسمع عمر صوته، فقال: يا رسول الله أتناديهم بعد ثلاث، وهل يسمعون؟يقول الله تعالى: { إنك لا تسمع الموتى }.

فقال: «والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن لا يستطيعون أن يجيبوا».

ورواه مسلم، عن هدبة بن خالد، عن حماد بن سلمة به.

وقال ابن إسحاق وقال حسان بن ثابت:

عرفت ديار زينب بالكثيب * كخط الوحي في الورق القشيب

تداولها الرياح وكل جون * من الوسمي منهمرٌ سكوب

فأمسى رسمها خلقا وأمست * يبابا بعد ساكنها الحبيب

فدع عنك التذكر كل يوم * ورد حرارة القلب الكئيب

وخبّر بالذي لا عيب فيه * بصدق غير إخبار الكذوب

بما صنع المليك غداة بدر * لنا في المشركين من النصيب

غداة كأن جمعهم حراءٌ * بدت أركانه جنح الغروب

فلاقيناهم منا بجمعٍ * كأسد الغاب مردانٍ وشيب

أمام محمدٍ قد وازروه * على الأعداء في لفح الحروب

بأيديهم صوارمٌ مرهفاتٌ * وكل مجرّب خاطي الكعوب

بنو الأوس الغطارف وآزرتها * بنو النّجار في الدِّين الصليب

فغادرنا أبا جهل صريعا * وعتبة قد تركنا بالجبوب

وشيبةً قد تركنا في رجالٍ * ذوي حسب إذا نسبوا حسيب

يناديهم رسول الله لمّا * قذفناهم كباكب في القليب

ألم تجدوا كلامي كان حقا * وأمر الله يأخذ بالقلوب

فما نطقوا ولو نطقوا لقالوا: * صدقت وكنت ذا رأيٍ مصيب

قال ابن إسحاق: ولما أمر رسول الله ﷺ أن يلقوا في القليب، أخذ عتبة بن ربيعة، فسحب في القليب فنظر رسول الله ﷺ - فيما بلغني - في وجه أبي حذيفة بن عتبة فإذا هو كئيب قد تغير لونه، فقال:

«يا حذيفة لعلك قد دخلك من شأن أبيك شيء» - أو كما قال رسول الله ﷺ -.

فقال: لا والله يا رسول الله ما شككت في أبي ولا في مصرعه، ولكني كنت أعرف من أبي رأيا وحلما وفضلا، فكنت أرجو أن يهديه ذلك للإسلام، فلما رأيت ما أصابه وذكرت ما مات عليه من الكفر، بعد الذي كنت أرجو له، أحزنني ذلك.

فدعا له رسول الله ﷺ بخير، وقال له: «خيرا».

وقال البخاري: حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، ثنا عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس: { الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرا } [146].

قال: هم والله كفار قريش.

قال عمرو: هم قريش، ومحمد نعمة الله { وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ } [147]

قال: النار يوم بدر.

قال ابن إسحاق وقال حسان بن ثابت:

قومي الذين هم آووا نبيّهم * وصدّقوه وأهل الأرض كفار

إلا خصائص أقوام هم سلفٌ * للصالحين من الأنصار أنصار

مستبشرين بقسم الله قولهم * لما أتاهم كريم الأصل مختار

أهلا وسهلا ففي أمنٍ وفي سعةٍ * نعم النبيُّ ونعم القسم والجار

فأنزلوه بدار لا يخاف بها * من كان جارهم دارا هي الدار؟

وقاسموهم بها الأموال إذ قدموا * مهاجرين وقسم الجاهل النار

سرنا وساروا إلى بدر لحينهم * لو يعلمون يقين العلم ما ساروا

والاهم بغرور ثم أسلمهم * إن الخبيث لمن والاه غرّار

وقال: إني لكم جار فأوردهم * شرَّ الموارد فيه الخزي والعار

ثم التقينا فولّوا عن سراتهم * من منجدين ومنهم فرقة غاروا

وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن أبي بكر، وعبد الرزاق، قالا: حدثنا إسرائيل، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما فرغ رسول الله ﷺ من القتلى، قيل له: عليك العير ليس دونها شيء.

فناداه العباس وهو في الوثاق: إنه لا يصلح لك.

قال: لم؟

قال: لأن الله وعدك إحدى الطائفتين، وقد أنجز لك ما وعدك.

وقد كانت جملة من قتل من سراة الكفار يوم بدر سبعين، هذا مع حضور ألف من الملائكة، وكان قدر الله السابق فيمن بقي منهم أن سيسلم منهم بشر كثير، ولو شاء الله لسلط عليهم ملكا واحدا، فأهلكهم عن آخرهم، ولكن قتلوا من لا خير فيه بالكلية.

وقد كان في الملائكة جبريل الذي أمره الله تعالى فاقتلع مدائن قوم لوط، وكن سبعا فيهن من الأمم والدواب والأراضي والمزروعات، ما لا يعلمه إلا الله، فرفعهن حتى بلغ بهن عنان السماء على طرف جناحه، ثم قلبهن منكسات واتبعهن بالحجارة التي سومت لهم، كما ذكرنا ذلك في قصة قوم لوط كما تقدم.

وقد شرَّع الله جهاد المؤمنين للكافرين، وبين تعالى حكمه في ذلك فقال: { فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ } [148] الآية.

وقال تعالى: { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ } [149] الآية.

فكان قتل أبي جهل على يدي شاب من الأنصار، ثم بعد ذلك يوقف عليه عبد الله بن مسعود ومسك بلحيته، وصعد على صدره حتى قال له: لقد رقيت مرتقى صعبا يا رويعي الغنم.

ثم بعد هذا حز رأسه واحتمله حتى وضعه بين يدي رسول الله، فشفى الله به قلوب المؤمنين، كان هذا أبلغ من أن تأتيه صاعقة أو أن يسقط عليه سقف منزله أو يموت حتف أنفه، والله أعلم.

وقد ذكر ابن إسحاق فيمن قتل يوم بدر مع المشركين ممن كان مسلما، ولكنه خرج معهم تقية منهم، لأنه كان فيهم مضطهدا قد فتنوه عن إسلامه جماعة، منهم: الحارث بن زمعة بن الأسود، وأبو قيس بن الفاكه، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة، وعلي بن أمية بن خلف، والعاص بن منبه بن الحجاج.

قال: وفيهم نزل قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرا } [150].

وكان جملة الأسارى يومئذٍ سبعين أسيرا، كما سيأتي الكلام عليهم فيما بعد إن شاء الله.

منهم: من آل رسول الله ﷺ عمه العباس بن عبد المطلب، وابن عمه عقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وقد استدل الشافعي والبخاري وغيرهما بذلك على أنه ليس كل من ملك ذا رحم محرم يعتق عليه، وعارضوا به حديث الحسن عن ابن سمرة في ذلك، فالله أعلم.

وكان فيهم أبو العاص بن الربيع بن عبد شمس بن أمية، زوج زينب بنت النبي ﷺ.

فصل اختلاف الصحابة في الأسارى على قولين

وقد اختلف الصحابة في الأسارى أيقتلون أو يفادون على قولين، كما قال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عاصم، عن حميد، عن أنس - وذكر رجل - عن الحسن.

قال: استشار رسول الله ﷺ الناس في الأسارى يوم بدر، فقال: «إن الله قد أمكنكم منهم».

قال: فقام عمر فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم.

قال: فأعرض عنه النبي ﷺ، ثم عاد النبي فقال للناس مثل ذلك، فقام أبو بكر الصديق فقال: يا رسول الله نرى أن تعفو عنهم وأن تقبل منهم الفداء.

قال: فذهب عن وجه رسول الله ﷺ ما كان فيه من الغم، فعفا عنهم وقبل منهم الفداء.

قال: وأنزل الله تعالى: { لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ } [151] الآية.

انفرد به أحمد.

وقد روى الإمام أحمد - واللفظ له - ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وصححه وكذا علي بن المديني، وصححه من حديث عكرمة بن عمار، حدثنا سماك الحنفي - أبو زميل - حدثني ابن عباس، حدثني عمر ابن الخطاب قال:

نظر رسول الله ﷺ إلى أصحابه يوم بدر وهم ثلاثمائة ونيف، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة، فذكر الحديث كما تقدم إلى قوله: فقتل منهم سبعون رجلا، وأسر منهم سبعون رجلا، واستشار رسول الله ﷺ أبا بكر وعليا وعمر.

فقال أبو بكر: يا رسول الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والأخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضدا.

فقال رسول الله ﷺ: «ما ترى يا ابن الخطاب؟».

قال: قلت: والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكنني من فلان قريب لعمر فأضرب عنقه، وتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين، وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم.

فهوى رسول الله ﷺ ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت، وأخذ منهم الفداء.

فلما كان من الغد قال عمر: فغدوت إلى النبي ﷺ وأبي بكر وهما يبكيان، فقلت يا رسول الله: أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما؟

فقال رسول الله ﷺ: «أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء، قد عرض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة» - لشجرة قريبة - وأنزل الله تعالى: { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ } [152] من الفداء، ثم أحل لهم الغنائم وذكر تمام الحديث.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله ﷺ: «ما تقولون في هؤلاء الأسرى؟».

قال: فقال أبو بكر: يا رسول الله قومك وأهلك استبقهم واستأن بهم، لعل الله أن يتوب عليهم.

قال: وقال عمر: يا رسول الله أخرجوك وكذبوك قربهم فأضرب أعناقهم.

قال: وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله أنظر واديا كثير الحطب، فأدخلهم فيه ثم أضرمه عليهم نارا.

قال: فدخل رسول الله ﷺ ولم يرد عليهم شيئا.

فقال ناس: يأخذ بقول أبي بكر وقال ناس: يأخذ بقول عمر وقال ناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة.

فخرج عليهم فقال: «إن الله ليلين قلوب رجال فيه، حتى تكون ألين من اللين، وإن الله ليشد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم قال: { فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [153] مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى، قال: { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [154]، وإن مثلك يا عمر كمثل نوح قال: { رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارا } [155]، وإن مثلك يا عمر كمثل موسى قال: { رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ } [156]، أنتم عالة فلا يبقين أحد إلا بفداء أو ضربة عنق».

قال عبد الله: فقلت: يا رسول الله إلا سهيل بن بيضاء، فإني قد سمعته يذكر الإسلام.

قال: فسكت.

قال: فما رأيتني في يوم أخوف أن تقع علي حجارة من السماء من ذلك اليوم حتى قال: إلا سهيل بن بيضاء.

قال: فأنزل الله: { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [157]. إلى آخر الآيتين.

وهكذا رواه الترمذي، والحاكم من حديث أبي معاوية.

وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

ورواه ابن مردويه، من طريق عبد الله بن عمر، وأبي، هريرة بنحو ذلك.

وقد روى عن أبي أيوب الأنصاري بنحوه.

وقد روى ابن مردويه، والحاكم في (المستدرك) من حديث عبيد الله بن موسى، حدثنا إسرائيل، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: لما أسر الأسارى يوم بدر أسر العباس فيمن أسر، أسره رجل من الأنصار، قال: وقد أوعدته الأنصار أن يقتلوه.

فبلغ ذلك النبي ﷺ فقال: «إني لم أنم الليلة من أجل عمي العباس، وقد زعمت الأنصار أنهم قاتلوه».

قال عمر: أفآتيهم؟

قال: «نعم».

فأتى عمر الأنصار فقال لهم: «أرسلوا العباس».

فقالوا: لا والله لا نرسله.

فقال لهم عمر: فإن كان لرسول الله رضى؟

قالوا: فإن كان له رضى فخذه.

فأخذه عمر فلما صار في يده، قال له عمر: يا عباس أسلم فوالله لئن تسلم أحب إلي من أن يسلم الخطاب، وما ذاك إلا لما رأيت رسول الله يعجبه إسلامك.

قال: واستشار رسول الله ﷺ أبا بكر، فقال أبو بكر: عشيرتك فأرسلهم.

واستشار عمر فقال: اقتلهم.

ففاداهم رسول الله ﷺ فأنزل الله: { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ } [158] الآية.

ثم قال الحاكم في (صحيحه): هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

وروى الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، من حديث سفيان الثوري، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة، عن علي قال: جاء جبريل إلى النبي ﷺ، فقال: خـِّير أصحابك في الأسارى إن شاؤا الفداء، وإن شاؤا القتل على أن يقتل عاما قابلا منهم مثلهم.

قالوا: الفداء أو يقتل منا.

وهذا حديث غريب جدا، ومنهم من رواه مرسلا عن عبيدة، والله أعلم.

وقد قال ابن إسحاق، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن ابن عباس، في قوله: { لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } يقول: لولا أني لا أعذب من عصاني حتى أتقدم إليه لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم.

وهكذا روي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أيضا، واختاره ابن إسحاق وغيره.

وقال الأعمش: سبق منه أن لا يعذب أحدا شهد بدرا.

وهكذا روي عن سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح، وقال مجاهد والثوري: { لولا كتاب من الله سبق } أي: لهم بالمغفرة.

وقال الوالبي عن ابن عباس: سبق في أم الكتاب الأول أن المغانم وفداء الأسارى حلال لكم، ولهذا قال بعده: { فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالا طَيِّبا } [159].

وهكذا روي عن أبي هريرة، وابن مسعود، وسعيد بن جبير، وعطاء، والحسن، وقتادة، والأعمش، واختاره ابن جرير، وقد ترجح هذا القول بما ثبت في (الصحيحين) عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي؛ نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة».

وروى الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ: «لم تحل الغنائم لسود الرؤوس غيرنا».

ولهذا قال تعالى: { فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالا طَيِّبا } [160] فأذن الله تعالى في أكل الغنائم، وفداء الأسارى.

وقد قال أبو داود: حدثنا عبد الرحمن بن المبارك العيشي، ثنا سفيان بن حبيب، ثنا شعبة، عن أبي العنبس، عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس: أن رسول الله ﷺ جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة، وهذا كان أقل ما فودي به أحد منهم من المال، وأكثر ما فودي به الرجل منهم أربعة آلاف درهم.

وقد وعد الله من آمن منهم بالخلف عما أخذ منه في الدنيا والآخرة، فقال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرا يُؤْتِكُمْ خَيْرا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ } [161] الآية.

وقال الوالبي عن ابن عباس: نزلت في العباس ففادى نفسه بالأربعين أوقية من ذهب، قال العباس: فآتاني الله أربعين عبدا - يعني: كلهم يتجر له -.

قال: وأنا أرجو المغفرة التي وعدنا الله جل ثناؤه.

وقال ابن إسحاق: حدثني العباس بن عبد الله بن مغفل، عن بعض أهله، عن ابن عباس قال: لما أمسى رسول الله ﷺ يوم بدر والأسارى محبوسون بالوثاق، بات النبي ﷺ ساهرا أول الليل، فقال له أصحابه: مالك لا تنام يا رسول الله؟ - وقد أسر العباس رجل من الأنصار - فقال: «سمعت أنين عمي العباس في وثاقه».

فأطلقوه فسكت، فنام رسول الله ﷺ.

قال ابن إسحاق: وكان رجلا موسرا ففادى نفسه بمائة أوقية من ذهب.

قلت: وهذه المائة كانت عن نفسه وعن ابني أخويه عقيل ونوفل، وعن حليفه عتبة بن عمرو أحد بني الحارث بن فهر، كما أمره بذلك رسول الله ﷺ حين ادعى أنه كان قد أسلم.

فقال له رسول الله ﷺ: «أما ظاهرك فكان علينا والله أعلم بإسلامك وسيجزيك».

فادعى أنه لا مال عنده، قال: «فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل وقلت لها: إن أصبت في سفري فهذا لبني الفضل وعبد الله وقثم».

فقال: والله إني لأعلم أنك رسول الله إن هذا شيء ما علمه إلا أنا وأم الفضل.

رواه ابن إسحاق عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن ابن عباس.

وثبت في (صحيح البخاري) من طريق موسى بن عقبة، قال الزهري: حدثني أنس بن مالك قال: إن رجالا من الأنصار استأذنوا رسول الله ﷺ، قالوا: إيذن لنا فلنترك لابن اختنا العباس فداءه.

فقال: «لا والله لا تذرون منه درهما».

قال البخاري: وقال إبراهيم بن طهمان، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس: أن النبي ﷺ أتى بمال من البحرين، فقال: «انثروه في المسجد».

فكان أكثر مال أتى به رسول الله ﷺ، إذ جاءه العباس فقال: يا رسول الله أعطني إني فاديت نفسي وفاديت عقيلا.

فقال: «خذ».

فحثا في ثوبه ثم ذهب يقله فلم يستطع، فقال: مر بعضهم يرفعه إلي.

قال: «لا».

قال: فارفعه أنت علي.

قال: «لا».

فنثر منه ثم ذهب يقله فلم يستطع، فقال: مر بعضهم يرفعه إلي.

قال: «لا».

قال: فارفعه أنت علي.

قال: «لا».

فنثر منه ثم احتمله على كاهله ثم انطلق.

فما زال يتبعه بصره حتى خفي علينا عجبا من حرصه، فما قام رسول الله ﷺ وثم منها درهم.

وقال البيهقي: أخبرنا الحاكم، أخبرنا الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس، عن أسباط بن نصر، عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي.

قال: كان فداء العباس وابني أخويه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب كل رجل أربعمائة دينار، ثم توعد تعالى الآخرين، فقال: { وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [162].

فصل عدد القتلى والأسرى من المشركين يوم بدر سبعون

والمشهور أن الأسارى يوم بدر كانوا سبعين، والقتلى من المشركين سبعين، كما ورد في غير ما حديث مما تقدم، وسيأتي إن شاء الله.

وكما في حديث البراء بن عازب في (صحيح البخاري): أنهم قتلوا يوم بدر سبعين، وأسروا سبعين.

وقال موسى بن عقبة: قتل يوم بدر من المسلمين من قريش ستة، ومن الأنصار ثمانية، وقتل من المشركين تسعة وأربعين، وأسر منهم تسعة وثلاثين.

هكذا رواه البيهقي عنه.

قال: وهكذا ذكر ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة في عدد من استشهد من المسلمين وقتل من المشركين.

ثم قال: أخبرنا الحاكم، أخبرنا الأصم، أخبرنا أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق.

قال: واستشهد من المسلمين يوم بدر أحد عشر رجلا، أربعة من قريش وسبعة من الأنصار، وقتل من المشركين بضعة وعشرون رجلا.

وقال في موضع آخر: وكان مع رسول الله ﷺ أربعون أسيرا، وكانت القتلى مثل ذلك.

ثم روى البيهقي: من طريق أبي صالح كاتب الليث، عن الليث، عن عقيل، عن الزهري قال: وكان أول قتيل من المسلمين مهجع مولى عمر، ورجل من الأنصار، وقتل يومئذ من المشركين زيادة على سبعين، وأسر منهم مثل ذلك.

قال: ورواه ابن وهب، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، قال: قال البيهقي - وهو الأصح - فيما رويناه في عدد من قتل من المشركين وأسر منهم، ثم استدل على ذلك بما ساقه هو والبخاري أيضا من طريق أبي إسحاق، عن البراء بن عازب قال:

أمّر رسول الله ﷺ على الرماة يوم أحد عبد الله بن جبير، فأصابوا منا سبعين - يعني: يوم أحد - وكان النبي ﷺ وأصحابه قد أصابوا من المشركين يوم بدر أربعين ومائة، سبعين أسيرا، وسبعين قتيلا.

قلت: والصحيح أن جملة المشركين كانوا ما بين التسعمائة إلى الألف، وقد صرح قتادة بأنهم كانوا تسعمائة وخمسين رجلا، وكأنه أخذه من هذا الذي ذكرناه، والله أعلم.

وفي حديث عمر المتقدم أنهم كانوا زيادة على الألف، والصحيح الأول لقوله عليه السلام: «القوم ما بين التسعمائة إلى الألف»، وأما الصحابة يومئذٍ فكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، كما سيأتي التنصيص على ذلك وعلى أسمائهم إن شاء الله.

وتقدم في حديث الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس: أن وقعة بدر كانت يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان، وقاله أيضا عروة بن الزبير، وقتادة، وإسماعيل، والسدي الكبير، وأبو جعفر، الباقر. (جص:3 367)

وروى البيهقي من طريق قتيبة، عن جرير، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عبد الله بن مسعود في ليلة القدر قال: تحروها لإحدى عشرة بقين فإن صبيحتها يوم بدر.

قال البيهقي: وروي عن زيد بن أرقم أنه سئل عن ليلة القدر، فقال: ليلة تسع عشرة ما شك، وقال: يوم الفرقان يوم التقى الجمعان.

قال البيهقي: والمشهور عن أهل المغازي أن ذلك لسبع عشرة ليلة مضت من شهر رمضان.

ثم قال البيهقي: أخبرنا أبو الحسين بن بشران، حدثنا أبو عمرو بن السماك، حدثنا حنبل بن إسحاق، ثنا أبو نعيم، ثنا عمرو بن عثمان: سمعت موسى بن طلحة يقول: سئل أبو أيوب الأنصاري عن يوم بدر فقال: إما لسبع عشرة خلت أو لثلاث عشرة خلت أو لإحدى عشرة بقيت، وإما لسبع عشرة بقيت.

وهذا غريب جدا.

وقد ذكر الحافظ بن عساكر في ترجمة قباث بن أشيم الليثي، من طريق الواقدي وغيره بإسنادهم إليه: أنه شهد يوم بدر مع المشركين فذكر هزيمتهم مع قلة أصحاب رسول الله ﷺ، قال:

وجعلت أقول في نفسي: ما رأيت مثل هذا الأمر فر منه إلا النساء، والله لو خرجت نساء قريش بالسِّهاء، ردت محمدا وأصحابه.

فلما كان بعد الخندق، قلت: لو قدمت المدينة فنظرت إلى ما يقول محمد، وقد وقع في نفسي الإسلام.

قال: فقدمتها فسألت عنه، فقالوا: هو ذاك في ظل المسجد في ملأ من أصحابه، فأتيته وأنا لا أعرفه من بين أصحابه فسلمت.

فقال: يا قباث بن أشيم أنت القائل يوم بدر: ما رأيت مثل هذا الأمر فر منه إلا النساء؟

فقلت: أشهد أنك رسول الله فإن هذا الأمر ما خرج مني إلى أحد قط، ولا تزمزمت به إلا شيئا حدثت به نفسي، فلولا أنك نبي ما أطلعك الله عليه، هلم أبايعك على الإسلام فأسلمت.

فصل اختلاف الصحابة يوم بدر في المغانم لمن تكون

وقد اختلفت الصحابة رضي الله عنهم يوم بدر في المغانم من المشركين يومئذٍ، لمن تكون منهم وكانوا ثلاثة أصناف حين ولى المشركون.

ففرقة أحدقت برسول الله ﷺ تحرسه خوفا من أن يرجع أحد من المشركين إليه.

وفرقة ساقت وراء المشركين يقتلون منهم ويأسرون، وفرقة جمعت المغانم من متفرقات الأماكن.

فادعى كل فريق من هؤلاء أنه أحق بالمغنم من الآخرين لما صنع من الأمر المهم.

قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الرحمن بن الحارث وغيره، عن سليمان بن موسى، عن مكحول، عن أبي أمامة الباهلي قال: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال، فقال:

فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا فجعله إلى رسول الله ﷺ، فقسمه بين المسلمين عن بواء، يقول: عن سواء.

وهكذا رواه أحمد عن محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق به.

ومعنى قوله: على السواء: أي ساوى فيها بين الذين جمعوها وبين الذين اتبعوا العدو وبين الذين ثبتوا تحت الرايات، لم يخصص بها فريقا منهم، ممن ادعى التخصيص بها، ولا ينفي هذا تخميسها وصرف الخمس في مواضعه، كما قد يتوهمه بعض العلماء منهم أبو عبيدة وغيره، والله أعلم.

بل قد تنفل رسول الله ﷺ سيفه ذو الفقار من مغانم بدر.

قال ابن جرير: وكذا اصطفى جملا لأبي جهل كان في أنفه برة من فضة، وهذا قبل إخراج الخمس أيضا.

وقال الإمام أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو، ثنا ابن إسحاق، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عباس بن أبي ربيعة، عن سليمان بن موسى، عن أبي سلام، عن أبي أمامة، عن عبادة بن الصامت قال:

خرجنا مع النبي ﷺ فشهدت معه بدرا، فالتقى الناس فهزم الله العدو، فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون، وأكبت طائفة على المغنم يحوزونه ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسول الله ﷺ لا يصيب العدو منه غرة، حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض.

قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها وليس لأحد فيها نصيب.

وقال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم بأحق به منا نحن نفينا منها العدو وهزمناهم.

وقال الذين أحدقوا برسول الله ﷺ: خفنا أن يصيب العدو منه غرة فاشتغلنا به.

فأنزل الله: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [163]، فقسمها رسول الله بين المسلمين.

وكان رسول الله ﷺ إذا أغار في أرض العدو نفل الربع، فإذا أقبل راجعا نفل الثلث، وكان يكره الأنفال.

وقد روى الترمذي، وابن ماجه من حديث الثوري، عن عبد الرحمن بن الحارث آخره، وقال الترمذي: هذا حديث حسن.

ورواه ابن حبان في (صحيحه)، والحاكم في (مستدركه) من حديث عبد الرحمن.

وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجه.

وقد روى أبو داود، والنسائي، وابن حبان، والحاكم، من طرق عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله ﷺ: «من صنع كذا وكذا فله كذا وكذا».

فسارع في ذلك شبان الرجال، وبقي الشيوخ تحت الرايات، فلما كانت الغنائم جاؤا يطلبون الذي جعل لهم، قال الشيوخ: لا تستأثروا علينا فإنا كنا ردءا لكم، لو انكشفتم لفئتم إلينا، فتنازعوا فأنزل الله تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }

وقد ذكرنا في سبب نزول هذه الآية آثارا أخرى يطول بسطها ههنا، ومعنى الكلام: أن الأنفال مرجعها إلى حكم الله ورسوله يحكما فيها بما فيه المصلحة للعباد في المعاش والمعاد.

ولهذا قال تعالى: { قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }.

ثم ذكر ما وقع في قصة بدر وما كان من الأمر حتى انتهى إلى قوله: { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ } الآية.

فالظاهر أن هذه الآية مبينة لحكم الله في الأنفال، الذي جعل مرده إليه وإلى رسوله ﷺ، فبينه تعالى وحكم فيه بما أراد تعالى، وهو قول أبي زيد وقد زعم أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله، أن رسول الله ﷺ قسم غنائم بدر على السواء بين الناس، ولم يخمسها.

ثم نزل بيان الخمس بعد ذلك ناسخا لما تقدم.

وهكذا روى الوالبي عن ابن عباس وبه قال مجاهد، وعكرمة، والسدي، وفي هذا نظر، والله أعلم.

فإن في سياق الآيات قبل آية الخمس وبعدها كلها في غزوة بدر فيقتضي أن ذلك نزل جملة في وقت واحد غير متفاصل بتأخر يقتضي نسخ بعضه بعضا، ثم في (الصحيحين) عن علي رضي الله عنه أنه قال في قصة شار فيه الذين اجتب أسنمتهما حمزة إن إحداهما كانت من الخمس يوم بدر ما يرد صريحا على أبي عبيد أن غنائم بدر لم تخمس، والله أعلم.

بل خمست كما هو قول البخاري وابن جرير وغيرهما، وهو الصحيح الراجح، والله أعلم.

فصل رجوع النبي عليه السلام من بدر إلى المدينة

في رجوعه عليه السلام من بدر إلى المدينة، وما كان من الأمور في مسيره إليها مؤيدا منصورا عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام، وقد تقدم أن الوقعة كانت يوم الجمعة السابع عشر من رمضان، سنة اثنتين من الهجرة.

وثبت في (الصحيحين)أنه كان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاثة أيام، وقد أقام عليه السلام بعرصة بدر ثلاثة أيام كما تقدم، وكان رحيله منها ليلة الاثنين فركب ناقته ووقف على قليب بدر فقرع أولئك الذين سحبوا إليه، كما تقدم ذكره.

ثم سار عليه السلام ومعه الأسارى والغنائم الكثيرة.

وقد بعث عليه السلام بين يديه بشيرين إلى المدينة بالفتح والنصر والظفر على من أشرك بالله وجحده وبه كفر.

أحدهما: عبد الله بن رواحة إلى أعالي المدينة.

والثاني: زيد بن حارثة إلى السافلة.

قال أسامة بن زيد: فأتانا الخبر حين سوينا التراب على رقية بنت رسول الله ﷺ وكان زوجها عثمان بن عفان رضي الله عنه قد احتبس عندها يمرضها بأمر رسول الله ﷺ، وقد ضرب له رسول الله بسهمه وأجره في بدر.

قال أسامة: فلما قدم أبي - زيد بن حارثة - جئته وهو واقف بالمصلى وقد غشيه الناس وهو يقول: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وزمعة بن الأسود، وأبو البختري العاص بن هشام، وأمية بن خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج.

قال: قلت: يا أبة أحق هذا؟

قال: أي والله يا بني.

وروى البيهقي: من طريق حماد بن سلمة عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أسامة بن زيد أن النبي ﷺ خلف عثمان وأسامة ابن زيد على رقية بنت رسول الله ﷺ أيام بدرٍ، فجاء زيد بن حارثة على العضباء ناقة رسول الله ﷺ بالبشارة، قال أسامة: فسمعت الهيعة فخرجت فإذا زيد قد جاء بالبشارة، فوالله ما صدقت حتى رأينا الأسارى.

وضرب رسول الله ﷺ لعثمان بسهمه.

وقال الواقدي: صلى رسول الله ﷺ مرجعه من بدر العصر بالأثيل فلما صلى ركعة تبسم فسئل عن تبسمه فقال: «مرَّ بي ميكائيل وعلى جناحه النقع فتبسم إلي وقال: إني كنت في طلب القوم، وأتاه جبريل حين فرغ من قتال أهل بدر، على فرس أنثى معقود الناصية وقد عصم ثنييه الغبار».

فقال: يا محمد إن ربي بعثني إليك وأمرني أن لا أفارقك حتى ترضى، هل رضيت؟

قال: «نعم».

قال الواقدي: قالوا: وقدم رسول الله ﷺ زيد بن حارثة وعبد الله ابن رواحة من الأثيل فجاءا يوم الأحد حين اشتد الضحى وفارق عبد الله بن رواحة زيد بن حارثة من العقيق فجعل عبد الله بن رواحة ينادي على راحلته: يا معشر الأنصار أبشروا بسلامة رسول الله ﷺ وقتل المشركين وأسرهم، قتل ابنا ربيعة، وابنا الحجاج، وأبو جهل، وقتل زمعة بن الأسود، وأمية بن خلف، وأسر سهيل بن عمرو.

قال عاصم بن عدي: فقمت إليه فنحوته فقلت: أحقا يا ابن رواحة؟

فقال: أي والله وغدا يقدم رسول الله ﷺ بالأسرى مقرنين.

ثم تتبع دور الأنصار بالعالية يبشرهم دارا دارا والصبيان ينشدون معه يقولون: قتل أبو جهل الفاسق، حتى إذا انتهى إلى دار بني أمية وقدم زيد بن حارثة على ناقة رسول الله ﷺ القصواء يبشر أهل المدينة.

فلما جاء المصلى صاح على راحلته: قتل عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وابنا الحجاج، وقتل أمية ابن خلف، وأبو جهل، وأبو البختري، وزمعة بن الأسود، وأسر سهيل ابن عمرو ذو الأنياب في أسرى كثير، فجعل بعض الناس لا يصدقون زيدا ويقولون: ما جاء زيد بن حارثة إلا فلا حتى غاظ المسلمين ذلك وخافوا.

وقدم زيد حين سوينا التراب على رقية بنت رسول الله ﷺ بالبقيع.

وقال رجل من المنافقين لأسامة: قتل صاحبكم ومن معه؟

وقال آخر لأبي لبابة: قد تفرق أصحابكم تفرقا لا يجتمعون فيه أبدا وقد قتل عليه أصحابه وقتل محمد وهذه ناقته نعرفها، وهذا زيد لا يدري ماذا يقول من الرعب، وجاء فلا، فقال أبو لبابة: يكذب الله قولك.

وقالت اليهود: ما جاء زيد إلا فلا.

قال أسامة: فجئت حتى خلوت بأبي فقلت: أحق ما تقول؟

فقال: أي والله حق ما أقول يا بني فقويت نفسي ورجعت إلى ذلك المنافق فقلت: أنت المرجف برسول الله وبالمسلمين، لنقدمنك إلى رسول الله إذا قدم فليضربن عنقك.

فقال: إنما هو شيء سمعته من الناس يقولونه.

قال: فجيء بالأسرى وعليهم شقران مولى رسول الله ﷺ وكان قد شهد معهم بدرا وهم تسع وأربعون رجلا الذين أحصوا.

قال الواقدي: وهم سبعون في الأصل مجتمع عليه لا شك فيه.

قال: ولقي رسول الله ﷺ إلى الروحاء رؤوس الناس يهنئونه بما فتح الله عليه.

فقال له أسيد بن الحضير: يا رسول الله الحمد لله الذي أظفرك وأقر عينك، والله يا رسول الله ما كان تخلفي عن بدر وأنا أظن أنك تلقى العدو، ولكن ظننت أنها عير ولو ظننت أنه عدو ما تخلفت.

فقال له رسول الله: «صدقت».

قال ابن إسحاق: ثم أقبل رسول الله ﷺ قافلا إلى المدينة ومعه الأسارى وفيهم: عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث وقد جعل على النفل عبد الله بن كعب بن عمرو بن عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن بن النجار.

فقال راجز من المسلمين: - قال ابن هشام: يقال إنه هو عدي بن أبي الزغباء -:

أقم لها صدورها يا بسبس * ليس بذي الطلح لها معرس

ولا بصحراء عمير محبس * إن مطايا القوم لا تحبَّس

فحملها على الطريق أكيس * قد نصر الله وفر الأخس

قال: ثم أقبل رسول الله ﷺ حتى إذا خرج من مضيق الصفراء نزل على كثيب بني المضيق وبين النازية يقال له: سير إلى سرجة به.

فقسَّم هنالك النفل الذي أفاء الله على المسلمين من المشركين على السواء، ثم ارتحل حتى إذا كان بالروحاء لقيه المسلمون يهنئونه بما فتح الله عليه ومن معه من المسلمين.

فقال لهم سلمة بن سلامة بن وقش كما حدثني عاصم بن عمر ويزيد بن رومان: ما الذي تهنئوننا به؟ والله إن لقينا إلا عجائز صلعا كالبدن المعلقة فنحرناها فتبسم رسول الله ﷺ ثم قال: «أي ابن أخي أولئك الملأ».

قال ابن هشام: يعني: الأشراف والرؤساء.

مقتل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط لعنهما الله

قال ابن إسحاق: حتى إذا كان رسول الله ﷺ بالصفراء قتل النضر بن الحارث، قتله علي بن أبي طالب كما أخبرني بعض أهل العلم من أهل مكة، ثم خرج حتى إذا كان بعرق الظبية قتل عقبة بن أبي معيط.

قال ابن إسحاق: فقال عقبة حين أمر رسول الله ﷺ بقتله: فمن للصبية يا محمد؟

قال: «النار».

وكان الذي قتله عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح أخو بني عمرو بن عوف كما حدثني أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر.

وكذا قال موسى بن عقبة في (مغازيه) وزعم أن رسول الله ﷺ لم يقتل من الأسارى أسيرا غيره.

قال: ولما أقبل إليه عاصم بن ثابت قال: يا معشر قريش علام أقتل من بين من ههنا؟

قال: على عداوتك الله ورسوله.

وقال حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب، عن الشعبي قال: لما أمر النبي ﷺ بقتل عقبة قال: أتقتلني يا محمد من بين قريش؟

قال: «(نعم! أتدرون ما صنع هذا بي؟ جاء وأنا ساجد خلف المقام فوضع رجله على عنقي وغمزها فما رفعها حتى ظننت أن عيني ستندران، وجاء مرة أخرى بسلا شاة فألقاه على رأسي وأنا ساجد فجاءت فاطمة فغسلته عن رأسي».

قال ابن هشام: ويقال: بل قتل عقبة علي بن أبي طالب فيما ذكره الزهري وغيره من أهل العلم.

قلت: كان هذان الرجلان من شر عباد الله وأكثرهم كفرا وعنادا وبغيا وحسدا وهجاءً للإسلام وأهله لعنهما الله وقد فعل.

قال ابن هشام: فقالت قتيلة بنت الحارث أخت النضر بن الحارث في مقتل أخيها:

يا راكبا إن الأثيل مظنة * من صبح خامسة وأنت موفق

أبلغ بها ميتا بأن تحيةً * ما إن تزال بها النجائب تخفق

مني إليك وعبرةً مسفوحة * جادت بوابلها وأخرى تخنق

هل يسمعن النضر إن ناديته * أم كيف يسمع ميت لا ينطق

أمحمد يا خير ضيء كريمة * من قومها والفحل فحل معرق

ما كان ضرك بأعز لو مننت وربما * من الفتى وهو المغيظ المحنق

أو كنت قابل فدية فلينفقن * بأعز ما يغلو به ما ينفق

والنضر أقرب من أسرت قرابة * وأحقهم إن كان عتق يعتق

ظلت سيوف بني أبيه تنوشه * لله أرحام هنالك تشقق

صبرا يقاد إلى المنية متعبا * رسف المقيد وهو عان موثق

قال ابن هشام: ويقال والله أعلم: أن رسول الله ﷺ لما بلغه هذا الشعر قال: «لو بلغني هذا قبل قتله لمننت عليه».

قال ابن إسحاق: وقد تلقى رسول الله ﷺ بهذا الموضع أبو هند، مولى فروة بن عمرو البياضي حجامه عليه السلام ومعه زق خمر مملوء حيسا - وهو التمر والسويق بالسمن - هدية لرسول الله ﷺ فقبله منه ووصى به الأنصار.

قال ابن إسحاق: ثم مضى رسول الله ﷺ حتى قدم المدينة قبل الأسارى بيوم.

قال ابن إسحاق: وحدثني نبيه بن وهب أخو بني عبد الدار: أن رسول الله ﷺ حين أقبل بالأسارى فرقهم بين أصحابه، وقال: «استوصوا بهم خيرا».

قال: وكان أبو عزيز بن عمير بن هاشم أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمه في الأسارى، قال أبو عزيز: مرَّ بي أخي مصعب بن عمير ورجل من الأنصار يأسرني فقال: شديد يك به فإن أمه ذات متاع لعلها تفديه منك.

قال أبو عزيز: فكنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصوني بالخبز وأكلوا التمر لوصية رسول الله ﷺ إياهم بنا ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلا نفحني بها فأستحي فأردها فيردها علي ما يمسها.

قال ابن هشام: وكان أبو عزيز هذا صاحب لواء المشركين ببدر بعد النضر بن الحارث، ولما قال أخوه مصعب لأبي اليسر - وهو الذي أسره - ما قال: قال له أبو عزيز: يا أخي هذه وصاتك بي؟

فقال له مصعب: إنه أخي دونك فسألت أمه عن أغلى ما فدى به قرشي فقيل لها: أربعة آلاف درهم، فبعثت بأربعة آلاف درهم ففدته بها.

قلت: وأبو عزيز هذا اسمه زرارة فيما قاله ابن الأثير في (غابة الصحابة)، وعدَّه خليفة بن خياط في أسماء الصحابة.

وكان أخ مصعب بن عمير لأبيه، وكان لهما أخ آخر لأبويهما وهو أبو الروم بن عمير وقد غلط من جعله قتل يوم أحد كافرا ذاك أبو عزة كما سيأتي في موضعه والله أعلم.

قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر أن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة قال: قدم بالأسارى حين قدم بهم وسودة بنت زمعة زوج النبي ﷺ عند آل عفراء في مناحتهم على عوف ومعوذ ابني عفراء، قال: وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب.

قال: تقول سودة: والله إني لعندهم إذ أتينا فقيل: هؤلاء الأسارى قد أتي بهم، قالت: فرجعت إلى بيتي ورسول الله ﷺ فيه وإذا أبو يزيد سهيل بن عمرو في ناحية الحجرة مجموعة يداه إلى عنقه بحبل.

قالت: فلا والله ما ملكت نفسي حين رأيت أبا يزيد كذلك أن قلت: أي أبا يزيد أعطيتم بأيديكم ألا متم كراما؟ فوالله ما أنبهني إلا قول رسول الله ﷺ من البيت: «يا سودة أعلى الله وعلى رسوله تحرضين؟».

قال: قلت يا رسول الله: والذي بعثك بالحق ما ملكت نفسي حين رأيت أبا يزيد مجموعة يداه إلى عنقه أن قلت ما قلت.

ثم كان من قصة الأسارى بالمدينة ما سيأتي بيانه وتفصيله فيما بعد من كيفية فدائهم وكميته إن شاء الله.

ذكر فرح النجاشي بوقعة بدر رضي الله عنه

قال الحافظ البيهقي: أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن عبيد الله الحرفي ببغداد، حدثنا أحمد بن سلمان النجاد، حدثنا عبد الله بن أبي الدنيا، حدثني حمزة بن العباس، ثنا عبدان بن عثمان، ثنا عبد الله بن المبارك أخبرنا عبد الرحمن بن يزيد، بن جابر، عن عبد الرحمن - رجل من أهل صنعاء -.

قال: أرسل النجاشي ذات يوم إلى جعفر بن أبي طالب وأصحابه، فدخلوا عليه وهو في بيت عليه خلقان ثياب جالس على التراب.

قال جعفر: فأشفقنا منه حين رأيناه على تلك الحال، فلما أن رأى ما في وجوهنا قال: إني أبشركم بما يسركم إنه جاءني من نحو أرضكم عين لي، فأخبرني أن الله عز وجل قد نصر نبيه ﷺ وأهلك عدوه وأسر فلان وفلان وفلان وقتل فلان وفلان وفلان.

التقوا بواد يقال له: بدر كثير الأراك كأني أنظر إليه كنت أرعى لسيدي رجل من بني ضمرة إبله، فقال له جعفر: ما بالك جالس على التراب ليس تحتك بساط وعليك هذه الأخلاط؟

قال: إنا نجد فيما أنزل الله على عيسى: إن حقا على عباد الله أن يحدثوا لله تواضعا عند ما يحدث لهم من نعمة، فلما أحدث الله لي نصر نبيه ﷺ أحدثت له هذا التواضع.

وصول خبر مصاب أهل بدر إلى أهاليهم بمكة

قال ابن إسحاق: وكان أول من قدم مكة بمصاب قريش الحيسمان بن عبد الله الخزاعي فقالوا له: ما وراءك؟

قال: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف، وزمعة بن الأسود ونبيه ومنبه، وأبو البختري بن هشام.

فلما جعل يعدد أشراف قريش، قال صفوان ابن أمية: والله لن يعقل هذا، فسلوه عني، فقالوا: ما فعل صفوان بن أمية؟

قال: هو ذاك جالسا في الحجر، قد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا.

قال موسى بن عقبة: ولما وصل الخبر إلى أهل مكة وتحققوه قطعت النساء شعورهم وعقرت خيول كثيرة ورواحل.

وذكر السهيلي عن كتاب (الدلائل) لقاسم بن ثابت أنه قال: لما كانت وقعة بدر سمعت أهل مكة هاتفا من الجن يقول:

أزار الحنيفيون بدرا وقيعةً * سينقضُّ منها ركن كسرى وقيصرا

أبادت رجالا من لؤي وأبرزت * خرائد يضربن الترائب حسرا

فيا ويح من أمسى عدو محمد * لقد جار عن قصد الهدى وتحيرا

قال ابن إسحاق: وحدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، عن عكرمة مولى ابن عباس قال: قال أبو رافع مولى رسول الله ﷺ: كنت غلاما للعباس ابن عبد المطلب، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، فأسلم العباس، وأسلمت أم الفضل، وكان العباس يهاب قومه، ويكره خلافهم، وكان يكتم إسلامه، وكان ذا مال كثير متفرق في قومه.

وكان أبو لهب قد تخلف عن بدر فبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة - وكذلك كانوا صنعوا، لم يتخلف منهم رجل إلا بعث مكانه رجلا - فلما جاءه الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش، كبته الله وأخزاه، ووجدنا في أنفسنا قوة وعزا.

قال: وكنت رجلا ضعيفا وكنت أعمل الأقداح أنحتها في حجرة زمزم، فوالله إني لجالس فيها أنحت أقداحي، وعندي أم الفضل جالسة، وقد سرَّنا ما جاءنا من الخبر.

إذ أقبل أبو لهب يجر رجليه بشر، حتى جلس على طنب الحجرة فكان ظهره إلى ظهري، فبينا هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان - واسمه المغيرة - ابن الحارث بن عبد المطلب قد قدم.

قال: فقال أبو لهب: هلم إلي فعندك لعمري الخبر، قال: فجلس إليه والناس قيام عليه، فقال: يا ابن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس؟

قال: والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاؤا، ويأسروننا كيف شاؤا، وأيم الله مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجالا بيضا على جبل بلق بين السماء والأرض، والله ما تليق شيئا ولا يقوم لها شيء.

قال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة بيدي ثم قلت: تلك والله الملائكة.

قال: فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة، قال: وثاورته فاحتملني وضرب بي الأرض، ثم برك علي يضربني - وكنت رجلا ضعيفا - فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة فأخذته فضربته به ضربة فبلغت في رأسه شجة منكرة.

وقالت: استضعفته إن غاب عنه سيده، فقام موليا ذليلا فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة فقتلته.

زاد يونس عن ابن إسحاق: فلقد تركه ابناه بعد موته ثلاثا ما دفناه حتى أنتن.

وكانت قريش تتقي هذه العدسة كما تتقي الطاعون حتى قال لهم رجل من قريش: ويحكما ألا تستحيان أن أباكما قد أنتن في بيته لا تدفنانه؟

فقالا: إنا نخشى عدوة هذه القرحة.

فقال: انطلقا فأنا أعينكما عليه فوالله ما غسلوه إلا قذفا بالماء عليه من بعيد ما يدنون منه، ثم احتملوه إلى أعلا مكة فأسندوه إلى جدار، ثم رضموا عليه الحجارة.

قال يونس عن ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة أم المؤمنين أنها كانت لا تمرُّ على مكان أبي لهب هذا إلا تسترت بثوبها حتى تجوزه.

قال ابن إسحاق وحدثني يحيى بن عباد قال: ناحت قريش على قتلاهم، ثم قالوا: لا تفعلوا يبلغ محمدا وأصحابه فيشمتوا بكم، ولا تبعثوا في أسراكم حتى تستأنسوا بهم لا يأرب عليكم محمد وأصحابه في الفداء.

قلت: وكان هذا من تمام ما عذب الله به أحياءهم في ذلك الوقت، وهو تركهم النوح على قتلاهم، فإن البكاء على الميت مما يبل فؤاد الحزين.

قال ابن إسحاق: وكان الأسود بن المطلب قد أصيب له ثلاثة من ولده، زمعة، وعقيل، والحارث، وكان يحب أن يبكي على بنيه قال: فبينما هو كذلك إذ سمع نائحة من الليل، فقال لغلام له - وكان قد ذهب بصره -: أنظر هل أحل النحب هل بكت قريش على قتلاها لعلي أبكي على أبي حكيمة - يعني: ولده زمعة - فإن جوفي قد احترق؟

قال: فلما رجع إليه الغلام قال: إنما هي امرأة تبكي على بعير لها أضلته.

قال: فذاك حين يقول الأسود:

أتبكي أن أضل لها بعير * ويمنعها من النوم السهود

فلا تبكي على بكر ولكن * على بدر تقاصرت الجدود

على بدر سراة بني هصيص * ومخزوم ورهط أبي الوليد

وبكى إن بكيت أبا عقيل * وبكى حارثا أسد الأسود

وبكيهم ولا تُسمي جميعا * وما لأبي حكيمة من نديد

ألا قد ساد بعدهم رجال * ولولا يوم بدر لم يسودوا

بعث قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فداء أسراهم

قال ابن إسحاق: وكان في الأسارى أبو وداعة بن ضبيرة السهمي.

فقال رسول الله ﷺ: «إن له بمكة ابنا كيسا تاجرا ذا مال، وكأنكم به قد جاء في طلب فداء أبيه».

فلما قالت قريش: لا تعجلوا بفداء أسراكم لا يأرب عليكم محمد وأصحابه؛ قال المطلب بن أبي وداعة، وهو الذي كان رسول الله ﷺ عَنى: صدقتم لا تعجلوا، وانسل من الليل وقدم المدينة فأخذ أباه بأربعة آلاف درهم فانطلق به.

قلت: وكان هذا أول أسير فدي ثم بعثت قريش في فداء أسراهم، فقدم مكرز بن حفص بن الأخيف في فداء سهيل بن عمرو، وكان الذي أسراه مالك بن الدخشم أخو بني سالم بن عوف فقال في ذلك:

أسرت سهيلا فلا ابتغي * أسيرا به من جميع الأمم

وخندف تعلم أن الفتى * فتاها سهيل إذا يظلم

ضربت بذي الشفر حتى انثنى * وأكرهت نفسي على ذي العلم

قال ابن إسحاق: وكان سهيل رجلا أعلم من شفته السفلى.

قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن عمرو بن عطاء أخو بني عامر ابن لؤي: أن عمر بن الخطاب قال لرسول الله ﷺ: دعني أنزع ثنية سهيل بن عمر ويدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيبا في موطن أبدا؟

فقال رسول الله ﷺ: «لا أمثل به فيمثل الله بي وإن كنت نبيا».

قلت: وهذا حديث مرسل بل معضل.

قال ابن إسحاق: وقد بلغني أن رسول الله ﷺ قال لعمر في هذا «إنه عسى أن يقوم مقاما لا تذمه».

قلت: وهذا هو المقام الذي قامه سهيل بمكة حين مات رسول الله ﷺ وارتد من ارتد من العرب، ونجم النفاق بالمدينة وغيرها.

فقام بمكة فخطب الناس وثبتهم على الدين الحنيف كما سيأتي في موضعه.

قال ابن إسحاق: فلما قاولهم فيه مكرز وانتهى إلى رضائهم قالوا: هات الذي لنا.

قال: اجعلوا رجلي مكان رجله وخلوا سبيله حتى يبعث إليكم بفدائه، فخلوا سبيل سهيل وحبسوا مكرزا عندهم.

وأنشد له ابن إسحاق في ذلك شعرا أنكره ابن هشام، فالله أعلم.

قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر قال: وكان في الأسارى عمرو بن أبي سفيان صخر بن حرب.

قال ابن إسحاق: وكانت أمه بنت عقبة بن أبي معيط.

قال ابن هشام: بل كانت أمه أخت أبي معيط.

قال ابن هشام: وكان الذي أسره علي بن أبي طالب.

قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر قال: فقيل لأبي سفيان: أفد عمرا ابنك، قال: أيجتمع على دمي ومالي، قتلوا حنظلة وأفدي عمرا؟ دعوه في أيديهم يمسكوه ما بدا لهم.

قال: فبينما هو كذلك محبوس بالمدينة إذ خرج سعد بن النعمان بن أكال أخو بني عمرو بن عوف، ثم أحد بني معاوية معتمرا ومعه مرية له وكان شيخا مسلما في غنم له بالبقيع، فخرج من هنالك معتمرا ولم يظن أنه يحبس بمكة إنما جاء معتمرا، وقد كان عهد قريش أن قريشا لا يعرضون لأحد جاء حاجا أو معتمرا إلا بخير.

فعدا عليه أبو سفيان بن حرب بمكة فحبسه بابنه عمر وقال في ذلك:

أرهط ابن أكَّالٍ أجيبوا دعاءه * تعاقدتم لا تسلموا السيد الكهلا

فإن بني عمرو لئام أذلة * لئن لم يكفوا عن أسيرهم الكبلا

قال: فأجابه حسان بن ثابت يقول:

لو كان سعد يوم مكة مطلقا * لأكثر فيكم قبل أن يؤسر القتلا

بعضب حسام أو بصفراء نبعة * تحنُّ إذا ما أنبضت تحفز النبلا

قال: ومشى بنو عمرو بن عوف إلى رسول الله ﷺ فأخبروه خبره وسألوه أن يعطيهم عمرو بن أبي سفيان فيفكوا به صاحبهم فأعطاهم النبي فبعثوا به إلى أبي سفيان فخلى سبيل سعد.

قال ابن إسحاق: وقد كان في الأسارى أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن أمية ختن رسول الله ﷺ وزوج ابنته زينب.

قال ابن هشام: وكان الذي أسره خراش بن الصمة أحد بني حرام.

قال ابن إسحاق: وكان أبو العاص من رجال مكة المعدودين مالا وأمانة وتجارة، وكانت أمه هالة بنت خويلد أخت خديجة بنت خويلد، وكانت خديجة هي التي سألت رسول الله ﷺ أن يزوجه بابنتها زينب وكان لا يخالفها وذلك قبل الوحي.

وكان عليه السلام قد زوج ابنته رقية - أو أم كلثوم - من عتبة بن أبي لهب، فلما جاء الوحي قال أبو لهب: اشغلوا محمدا بنفسه، وأمر ابنه عتبة فطلق ابنة رسول الله ﷺ قبل الدخول، فتزوجها عثمان بن عفان رضي الله عنه.

ومشوا إلى أبي العاص فقالوا: فارق صاحبتك ونحن نزوجك بأي امرأة من قريش شئت.

قال: لا والله لا أفارق صاحبتي وما أحب أن لي بامرأتي امرأة من قريش، وكان رسول الله ﷺ يثني عليه في صهره خيرا فيما بلغني.

قلت: الحديث بذلك في الثناء عليه في صهره ثابت في الصحيح كما سيأتي.

قال ابن إسحاق: وكان رسول الله ﷺ لا يحل بمكة ولا يحرم، مغلوبا على أمره، وكان الإسلام قد فرق بين زينب ابنة رسول الله ﷺ وبين أبي العاص، وكان لا يقدر على أن يفرق بينهما.

قلت: إنما حرم الله المسلمات على المشركين عام الحديبية سنة ست من الهجرة كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

قال ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة قالت: لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب بنت رسول الله ﷺ في فداء أبي العاص بمال، وبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بني عليها، قالت: فلما رآها رسول الله ﷺ رق لها رقة شديدة وقال: «إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردوا عليها الذي لها فافعلوا».

قالوا: نعم! يا رسول الله، فأطلقوه وردوا عليها الذي لها.

قال ابن إسحاق: فكان ممن سمي لنا ممن من عليه رسول الله ﷺ من الأسارى بغير فداء:

من بني أمية: أبو العاص بن الربيع.

ومن بني مخزوم: المطلب بن حنطب بن الحارث بن عبيد بن عمر بن مخزوم، أسره بعض بني الحارث بن الخزرج فترك في أيديهم حتى خلوا سبيله فلحق بقومه.

قال ابن إسحاق: وقد كان رسول الله ﷺ قد أخذ عليه أن يخلي سبيل زينب - يعني: أن تهاجر إلى المدينة - فوفى أبو العاص بذلك كما سيأتي.

وقد ذكر ذلك ابن إسحاق ههنا فأخرناه لأنه أنسب والله أعلم.

وقد تقدم ذكر افتداء العباس بن عبد المطلب عم النبي ﷺ نفسه وعقيلا ونوفلا ابني أخويه بمائة أوقية من الذهب.

وقال ابن هشام: كان الذي أسر أبي العاص أبو أيوب خالد بن زيد.

قال ابن إسحاق: وصيفي بن أبي رفاعة بن عائذ بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ترك في أيدي أصحابه، فأخذوا عليه ليبعثن لهم بفدائه فخلوا سبيله ولم يف لهم.

قال حسان بن ثابت في ذلك:

ما كان صيفي ليوفي أمانةً * قفا ثعلبٍ أعيا ببعض الموارد

قال ابن إسحاق: وأبو عزة عمرو بن عبد الله بن عثمان بن أهيب بن حذافة بن جمع كان محتاجا ذا بنات، قال يا رسول الله: لقد عرفت ما لي من مال، وإني لذو حاجة وذو عيال، فامنن علي.

فمنَّ عليه رسول الله ﷺ وأخذ عليه أن لا يظاهر عليه أحدا.

فقال أبو عزة يمدح رسول الله ﷺ على ذلك:

من مبلغ عني الرسول محمدا * بأنك حق والمليك حميد

وأنت امرؤ تدعو إلى الحق والهدى * عليك من الله العظيم شهيد

وأنت امرؤ بوئت فينا مباءة * لها درجات سهلة وصعود

فإنك من حاربته لمحارب * شقي ومن سالمته لسعيد

ولكن إذا ذكّرت بدرا وأهله * تأوَّب ما بي، حسرة وقعود

قلت: ثم إن أبا عزة هذا نقض ما كان عاهد الرسول عليه، ولعب المشركون بعقله فرجع إليهم، فلما كان يوم أحد أسر أيضا فسأل من النبي ﷺ أن يمنَّ عليه أيضا فقال النبي ﷺ: «لا أدعك تمسح عارضيك وتقول: خدعت محمدا مرتين».

ثم أمر به فضربت عنقه كما سيأتي في غزوة أحد.

ويقال: إن فيه قال رسول الله ﷺ: «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين»، وهذا من الأمثال التي لم تسمع إلا منه عليه السلام.

قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير قال: جلس عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية في الحجر بعد مصاب أهل بدر بيسير، وكان عمير بن وهب شيطانا من شياطين قريش وممن كان يؤذي رسول الله ﷺ وأصحابه ويلقون منه عناء وهو بمكة وكان ابنه وهب بن عمير في أسارى بدر.

قال ابن هشام: والذي أسره رفاعة بن رافع أحد بني زريق.

قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن جعفر، عن عروة: فذكر أصحاب القليب ومصابهم فقال صفوان: والله ما أن في العيش بعدهم خير.

قال له عمير: صدقت، أما والله لولا دين علي ليس عندي قضاؤه، وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي، لركبت إلى محمد حتى أقتله، فإن لي فيهم علة ابني أسير في أيديهم.

قال: فاغتنمها صفوان بن أمية فقال: علي دينك أنا أقضيه عنك وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا، لا يسعني شيء ويعجز عنهم.

فقال له عمير: فاكتم علي شأني وشأنك.

قال: سأفعل.

قال: ثم أمر عمير بسيفه، فشحذ له وسم ثم انطلق حتى قدم المدينة، فبينما عمر بن الخطاب في نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر، ويذكرون ما أكرمهم الله به وما أراهم في عدوهم، إذ نظر عمر إلى عمير بن وهب وقد أناخ على باب المسجد متوشحا السيف.

فقال: هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب ما جاء إلا لشر وهو الذي حرش بيننا وحزرنا للقوم يوم بدر، ثم دخل على رسول الله ﷺ فقال: يا نبي الله هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء متوشحا سيفه.

قال: «فأدخله علي».

قال: فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه فلببه بها، وقال لمن كان معه من الأنصار: ادخلوا على رسول الله ﷺ فاجلسوا عنده واحذروا عليه من هذا الخبيث فإنه غير مأمون.

ثم دخل به على رسول الله ﷺ فلما رآه رسول الله وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه قال: «أرسله يا عمر، ادن يا عمير».

فدنا ثم قال: أنعم صباحا - وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم - فقال رسول الله: «قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير بالسلام تحية أهل الجنة».

قال: أما والله يا محمد إن كنت بها لحديث عهد.

قال: «فما جاء بك يا عمير؟».

قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا فيه.

قال: «فما بال السيف في عنقك؟»

قال: قبحها الله من سيوف وهل أغنت شيئا؟

قال: «أصدقني ما الذي جئت له؟»

قال: ما جئت إلا لذلك.

قال: «بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت: لولا دين علي وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمدا، فتحمل لك صفوان بن أمية بدينك وعيالك، على أن تقتلني له والله حائل بينك وبين ذلك».

فقال عمير: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله فالحمد لله الذي هداني للإسلام وساقني هذا المساق.

ثم شهد شهادة الحق.

فقال رسول الله ﷺ: «فقهوا أخاكم في دينه، وعلموه القرآن وأطلقوا أسيره»، ففعلوا.

ثم قال يا رسول الله: إني كنت جاهدا على إطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان على دين الله، وأنا أحب أن تأذن لي فأقدم مكة فأدعوهم إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام لعل الله يهديهم، وإلا آذيتهم في دينهم كما كنت أوذي أصحابك في دينهم.

فأذن له رسول الله ﷺ فلحق بمكة، وكان صفوان حين خرج عمير بن وهب يقول: ابشروا بوقعة تأتيكم الآن في أيام تنسيكم وقعة بدر، وكان صفوان يسأل عنه الركبان حتى قدم راكب فأخبره عن إسلامه، فحلف أن لا يكلمه أبدا ولا ينفعه بنفع أبدا.

قال ابن إسحاق: فلما قدم عمير مكة أقام بها يدعوا إلى الإسلام ويؤذي من خالفه أذى شديدا فأسلم على يديه ناس كثير.

قال ابن إسحاق: وعمير بن وهب - أو الحارث بن هشام - هو الذي رأى عدو الله إبليس حين نكص على عقبيه يوم بدر وفر هاربا وقال: إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون، وكان إبليس يومئذٍ في صورة سراقة بن مالك بن جعشم أمير مدلج.

فصل نزول سورة الأنفال في بدر

ثم إن الإمام محمد بن إسحاق رحمه الله تكلم على ما نزل من القرآن في قصة بدر وهو من أول سورة الأنفال إلى آخرها فأجاد وأفاد، وقد تقصينا الكلام على ذلك في كتابنا التفسير فمن أراد الإطلاع على ذلك فلينظره ثم ولله الحمد والمنة.

فصل تسمية من شهد بدرا من المسلمين

ثم شرع ابن إسحاق في تسمية من شهد بدرا من المسلمين فسرد أسماء من شهدها من المهاجرين أولا، ثم أسماء من شهدها من الأنصار أوسها وخزرجها إلى أن قال: فجميع من شهد بدرا من المسلمين من المهاجرين والأنصار من شهدها ومن ضرب له بسهمه وأجره ثلثمائة رجل وأربعة عشر رجلا، من المهاجرين ثلاثة وثمانون، ومن الأوس أحد وستون رجلا.

ومن الخزرج مائة وسبعون رجلا.

وقد سردهم البخاري في (صحيحه) مرتبين على حروف المعجم بعد البداءة برسول الله ﷺ ثم بأبي بكر وعثمان وعلي رضي الله عنهم.

وهذه تسمية من شهد بدرا من المسلمين مرتبين على حروف المعجم وذلك من كتاب (الأحكام الكبير) للحافظ ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي وغيره بعد البداءة باسم رئيسهم وفخرهم وسيد ولد آدم محمد رسول الله ﷺ.

أسماء أهل بدر مرتبة على حروف المعجم وأوله حرف الألف

أبي بن كعب النجاري: سيد القراء، الأرقم بن أبي الأرقم، وأبو الأرقم عبد مناف بن أسد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي، أسعد بن يزيد بن الفاكه بن يزيد بن خلدة بن عامر بن العجلان.

أسود بن زيد بن ثعلبة بن عبيد بن غنم، كذا قال موسى بن عقبة.

وقال الأموي: سواد بن رزام بن ثعلبة بن عبيد بن عدي شك فيه، وقال سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق: سواد بن رزيق بن ثعلبة.

وقال ابن عائذ: سواد بن زيد، أسير بن عمرو الأنصاري أبو سليط، وقيل: أسير بن عمرو بن أمية بن لوزان بن سالم بن ثابت الخزرجي، ولم يذكره موسى بن عقبة، أنس بن قتادة بن ربيعة بن خالد بن الحارث الأوسي، كذا سماه موسى بن عقبة، وسماه الأموي في السيرة: أنيس.

قلت: وأنس بن مالك خادم النبي ﷺ لما روى عمر بن شبة النميري: حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، عن أبيه، عن ثمامة بن أنس: قال: قيل لأنس بن مالك: أشهدت بدرا؟

قال: وأين أغيب عن بدر لا أم لك؟!

وقال محمد بن سعد: أخبرنا محمد بن عبد الله الأنصاري، ثنا أبي، عن مولى لأنس بن مالك أنه قال لأنس: شهدت بدرا؟

قال: لا أم لك وأين أغيب عن بدر؟

قال محمد بن عبد الله الأنصاري: خرج أنس بن مالك مع رسول الله ﷺ إلى بدر وهو غلام يخدمه.

قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي في (تهذيبه): هكذا قال الأنصاري: ولم يذكر ذلك أحد من أصحاب المغازي.

أنس بن معاذ بن أنس بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار، أنسة الحبشي مولى رسول الله ﷺ، أوس بن ثابت بن المنذر النجاري، أوس بن خولي بن عبد الله بن الحارث بن عبيد بن مالك بن سالم بن غنم بن عوف بن الخزرج الخزرجي.

وقال موسى بن عقبة: أوس بن عبد الله بن الحارث بن خولي، أوس بن الصامت الخزرجي أخو عبادة بن الصامت، إياس بن البكير بن عبد ياليل بن ناشب بن غيرة بن سعد بن ليث بن بكر حليف بني عدي بن كعب.

حرف الباء

بجير بن أبي بجير حليف بني النجار، بحاث بن ثعلبة بن خزمة بن أصرم بن عمرو بن عمارة البلوي حليف الأنصار، بسبس بن عمرو بن ثعلبة بن خرشة بن زيد بن عمرو بن سعيد بن ذبيان بن رشدان بن قيس بن جهينة الجهني حليف بني ساعدة وهو أحد العينين هو وعدي بن أبي الزغباء كما تقدم.

بشر بن البراء بن معرور الخزرجي الذي مات بخيبر من الشاة المسمومة، بشير بن سعد بن ثعلبة الخزرجي والد النعمان بن بشير، ويقال: إنه أول من بايع الصديق.

بشير بن عبد المنذر أبو لبابة الأوسي رده عليه السلام من الروحاء واستعمله على المدينة وضرب له بسهمه وأجره.

حرف التاء

تميم بن يعار بن قيس بن عدي بن أمية بن جدارة بن عوف بن الحارث بن الخزرج، تميم مولى خراش بن الصمة، تميم مولى بني غنم بن السلم.

وقال ابن هشام: هو مولى سعد بن خيثمة.

حرف الثاء

ثابت بن أقرم بن ثعلبة بن عدي بن العجلان، ثابت بن ثعلبة ويقال لثعلبة هذا: الجدع بن زيد بن الحارث بن حرام بن غنم بن كعب بن سلمة.

ثابت بن خالد بن النعمان بن خنساء بن عسيرة بن عبد بن عوف بن غنم بن مالك بن النجار النجاري، ثابت بن خنساء بن عمرو بن مالك بن عدي بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار النجاري، ثابت بن عمرو بن زيد بن عدي بن سواد بن مالك بن غنم بن عدي بن النجار النجاري، ثابت بن هزال الخزرجي.

ثعلبة بن حاطب بن عمرو بن عبيد بن أمية بن زيد بن مالك بن الأوس، ثعلبة بن عمرو بن عبيد بن مالك النجاري، ثعلبة بن عمرو بن محصن الخزرجي، ثعلبة بن عنمة بن عدي بن نابئ السلمي.

ثقف بن عمرو من بني حجر آل بني سليم وهو من حلفاء بني كثير بن غنم بن دودان بن أسد.

حرف الجيم

جابر بن خالد بن مسعود بن عبد الأشهل بن حارثة بن دينار بن النجار النجاري، جابر بن عبد الله بن رئاب بن النعمان بن سنان بن عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة السلمي أحد الذين شهدوا العقبة.

قلت: فأما جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام السلمي أيضا فذكره البخاري فيهم في مسند عن سعيد بن منصور عن أبي معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر وقال: كنت أمتح لأصحابي الماء يوم بدر.

وهذا الإسناد على شرط مسلم لكن قال محمد بن سعد: ذكرت لمحمد بن عمر - يعني: الواقدي - هذا الحديث فقال هذا وهم من أهل العراق وأنكر أن يكون جابر شهد بدرا.

وقال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا روح بن عبادة، ثنا زكريا بن إسحاق، ثنا أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: غزوت مع رسول الله ﷺ تسع عشرة غزوة ولم أشهد بدرا ولا أحدا منعني أبي فلما قتل أبي يوم أحد لم أتخلف عن رسول الله ﷺ عن غزاة.

ورواه مسلم عن أبي خيثمة عن روح.

جبار بن صخر السلمي، جبر بن عتيك الأنصاري، جبير بن إياس الخزرجي.

حرف الحاء

الحارث بن أنس بن رافع الخزرجي، الحارث بن أوس بن معاذ بن أخي سعد بن معاذ الأوسي، الحارث بن حاطب بن عمرو بن عبيد بن أمية بن زيد بن مالك بن الأوس رده عليه السلام من الطريق وضرب له بسهمه وأجره الحارث ابن خزمة بن عدي بن أبي غنم بن سالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج حليف لبني زعور ابن عبد الأشهل.

الحارث بن الصمة الخزرجي ردَّه عليه السلام لأنه كسر من الطريق وضرب له بسهمه وأجره، الحارث بن عرفجة الأوسي، الحارث بن قيس بن خلدة أبو خالد الخزرجي، الحارث بن النعمان بن أمية الأنصاري.

حارثة بن سراقة النجاري أصابه سهم غرب وهو في النظارة فرفع إلى الفردوس، حارثة بن النعمان بن رافع الأنصاري، حاطب بن أبي بلتعة اللخمي حليف بني أسد بن عبد العزى بن قصي.

حاطب بن عمرو بن عبيد بن أمية الأشجعي من بني دهمان هكذا ذكره ابن هشام عن غير ابن إسحاق.

وقال الواقدي: حاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عبدود كذا ذكره ابن عائذ في (مغازيه).

وقال ابن أبي حاتم: حاطب بن عمرو بن عبد شمس سمعته من أبي وقال: هو رجل مجهول.

الحباب بن المنذر الخزرجي ويقال: كان لواء الخزرج معه يومئذٍ، حبيب بن أسود مولى بني حرام من بني سلمة.

وقال موسى بن عقبة: حبيب بن سعد بدل أسود، وقال ابن أبي حاتم: حبيب بن أسلم مولى آل جشم بن الخزرج أنصاري بدري.

حريث بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه الأنصاري أخو عبد الله بن زيد الذي أرى النداء، الحصين ابن الحارث بن المطلب بن عبد مناف، حمزة بن عبد المطلب بن هاشم عم رسول الله ﷺ.

حرف الخاء

خالد بن البكير أخو إياس المتقدم، خالد بن زيد أبو أيوب النجاري، خالد بن قيس بن مالك بن العجلان الأنصاري، خارجة بن الحمير حليف بني خنساء من الخزرج، وقيل: اسمه حارثة بن الحمير وسماه ابن عائذ خارجة فالله أعلم.

خارجة بن زيد الخزرجي صهر الصديق، خباب بن الأرت حليف بني زهرة وهو من المهاجرين الأولين وأصله من بني تميم ويقال: من خزاعة، خباب مولى عتبة بن غزوان من المهاجرين الأولين، خراش بن الصمة السلمي، خبيب بن إساف بن عنبة الخزرجي، خريم بن فاتك ذكره البخاري فيهم.

خليفة بن عدي الخزرجي، خليد بن قيس بن النعمان بن سنان بن عبيد الأنصاري السلمي، خنيس بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي السهمي قتل يومئذٍ فتأيمت منه حفصة بنت عمر بن الخطاب.

خوات بن جبير الأنصاري ضرب له بسهمه وأجره لم يشهدها بنفسه، خولى بن أبي خولى العجلي حليف بني عدي من المهاجرين الأولين، خلاد بن رافع، وخلاد بن سويد، وخلاد بن عمرو بن الجموح الخزرجيون.

حرف الذال

ذكوان بن عبد قيس الخزرجي، ذو الشمالين بن عبد بن عمرو بن نضلة من غبشان بن سليم بن ملكان بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر من بني خزاعة حليف لبني زهرة قتل يومئذٍ شهيدا.

قال ابن هشام: واسمه عمير وإنما قيل له: ذو الشمالين لأنه كان أعسرا.

حرف الراء

رافع بن الحارث الأوسي، رافع بن عنجدة قال ابن هشام: هي أمه، رافع بن المعلى بن لوذان الخزرجي قتل يومئذٍ.

ربعي بن رافع بن الحارث بن زيد بن حارثة بن الجد بن عجلان بن ضبيعة وقال موسى بن عقبة: ربعي بن أبي رافع، ربيع بن إياس الخزرجي، ربيعة بن أكثم بن سخبرة بن عمرو بن لكيز بن عامر بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة حليف ابني عبد شمس بن عبد مناف وهو من المهاجرين الأولين.

رخيلة بن ثعلبة بن خالد بن ثعلبة بن عامر بن بياضة الخزرجي، رفاعة بن رافع الزرقي أخو خلاد بن رافع، رفاعة بن عبد المنذر بن زنير الأوسي أخو أبي لبابة، رفاعة بن عمرو بن زيد الخزرجي.

حرف الزاي

الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي ابن عمة رسول الله ﷺ وحواريه، زياد بن عمرو وقال موسى بن عقبة: زياد بن الأخرس بن عمرو الجهني.

وقال الواقدي: زياد بن كعب بن عمرو بن عدي بن رفاعة بن كليب بن برذعة بن عدي بن عمرو الزبعري بن رشدان بن قيس بن جهينة، زياد بن لبيد الزرقي، زياد بن المزين بن قيس الخزرجي، زيد بن أسلم بن ثعلبة بن عدي بن عجلان بن ضبيعة، زيد بن حارثة بن شرحيبل مولى رسول الله ﷺ رضي الله عنه.

زيد بن الخطاب بن نفيل أخو عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، زيد بن سهل بن الأسود بن حرام النجاري أبو طلحة رضي الله عنه.

حرف السين

سالم بن عمير الأوسي، سالم بن غنم بن عوف الخزرجي، سالم بن معقل مولى أبي حذيفة، السائب بن عثمان بن مظعون الجمحي شهد مع أبيه، سبيع بن قيس بن عائد الخزرجي.

سبرة ابن فاتك ذكره البخاري، سراقة بن عمرو النجاري، سراقة بن كعب النجاري أيضا، سعد بن خولة مولى بني عامر بن لؤي من المهاجرين الأولين.

سعد بن خيثمة الأوسي قتل يومئذٍ شهيدا، سعد بن الربيع الخزرجي الذي قتل يوم أحد شهيدا، سعد بن زيد بن مالك الأوسي، وقال الواقدي: سعد بن زيد بن الفاكه الخزرجي.

سعد بن سهيل بن عبد الأشهل التجاري، سعد بن عبيد الأنصاري، سعد بن عثمان بن خلدة الخزرجي أبو عبادة، وقال ابن عائذ: أبو عبيدة.

سعد بن معاذ الأوسي وكان لواء الأوس معه، سعد بن عبادة بن دليم الخزرجي ذكره غير واحد منهم عروة والبخاري وابن أبي حاتم والطبراني فيمن شهد بدرا، ووقع في (صحيح مسلم) ما يشهد بذلك حين شاور النبي ﷺ في ملتقى النفير من قريش فقال سعد بن عبادة: كأنك تريدنا يا رسول الله الحديث.

والصحيح: أن ذلك سعد بن معاذ، والمشهور: أن سعد بن عبادة ردَّه من الطريق، قيل: لاستنابته على المدينة، وقيل: لذعته حية فلم يتمكن من الخروج إلى بدر حكاه السهيلي عن ابن قتيبة فالله أعلم.

سعد بن أبي وقاص مالك بن أهيب الزهري أحد العشرة، سعد بن مالك أبو سهل، قال الواقدي: تجهز ليخرج فمرض فمات قبل الخروج.

سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل العدوي ابن عم عمر بن الخطاب، يقال: قدم من الشام بعد مرجعهم من بدر فضرب له رسول الله ﷺ بسهمه وأجره، سفيان بن بشر بن عمرو الخزرجي، سلمة بن أسلم بن حريش الأوسي.

سلمة بن ثابت بن وقش بن زغبة، سلمة بن سلامة بن وقش بن زغبة، سليم بن الحارث النجاري، سليم بن عمرو السلمي، سليم بن قيس بن فهد الخزرجي، سليم بن ملحان أخو حرام بن ملحان النجاري، سماك بن أوس بن خرشة أبو دجانة ويقال: سماك بن خرشة، سماك بن سعد بن ثعلبة الخزرجي وهو أخو بشير بن سعد المتقدم.

سهل بن حنيف الأوسي، سهل بن عتيك النجاري.

سهل بن قيس السلمي، سهيل بن رافع النجاري الذي كان له ولأخيه موضع المسجد النبوي كما تقدم.

سهيل بن وهب الفهري وهو ابن بيضاء وهي أمه، سنان بن أبي سنان بن محصن حرثان من المهاجرين حليف بنى عبد شمس بن عبد مناف، سنان بن صيفي السلمي، سواد بن زريق بن زيد الأنصاري.

وقال الأموي: سواد رزام، سواد بن غزية بن أهيب البلوي، سويبط بن سعد بن حرملة العبدري، سويد بن مخشي أبو مخشي الطائي حليف بني عبد شمس وقيل اسمه: أزيد بن حمير.

حرف الشين

شجاع بن وهب بن ربيعة الأسدي أسد بن خزيمة حليف بني عبد شمس من المهاجرين الأولين، شماس بن عثمان المخزومي.

قال ابن هشام: واسمه عثمان بن عثمان وإنما سمي شماسا لحسنه وشبهه شماسا كان في الجاهلية، شقران مولى رسول الله ﷺ قال الواقدي: لم يسهم له وكان على الأسرى فأعطاه كل رجل ممن له في الأسرى شيئا فحصل له أكثر من سهم.

حرف الصاد

صهيب بن سنان الرومي من المهاجرين الأولين، صفوان بن وهب بن ربيعة الفهري أخو سهيل بن بيضاء قتل شهيدا يومئذٍ، صخر بن أمية بن خنساء السلمي.

حرف الضاد

ضحاك بن حارثة بن زيد السلمي، ضحاك بن عبد عمرو النجاري، ضمرة بن عمرو الجهني، وقال موسى بن عقبة: ضمرة بن كعب بن عمرو حليف الأنصار وهو أخو زياد بن عمرو.

حرف الطاء

طلحة بن عبيد الله التيمي أحد العشرة قدم من الشام بعد مرجعهم من بدر فضرب له رسول الله ﷺ بسهمه وأجره، طفيل بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف من المهاجرين وهو أخو حصين وعبيدة، طفيل بن مالك بن خنساء السلمي.

طفيل بن النعمان بن خنساء السلمي ابن عم الذي قبله.

طليب بن عمير ابن وهب بن أبي كبير بن عبد بن قصي ذكره الواقدي.

حرف الظاء

ظهير بن رافع الأوسي ذكره البخاري.

حرف العين

عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح الأنصاري الذي حمته الدبر حين قتل بالرجيع، عاصم بن عدي بن الجد بن عجلان ردَّه عليه السلام من الروحاء وضرب له بسهمه وأجره، عاصم بن قيس بن ثابت الخزرجي، عاقل بن البكير أخو إياس وخالد وعامر، عامر بن أمية بن زيد بن الحسحاس النجاري، عامر بن الحارث الفهري كذا ذكره سلمة عن ابن إسحاق، وابن عائذ، وقال موسى بن عقبة، وزياد: عن ابن إسحاق: عمرو بن الحارث.

عامر بن ربيعة بن مالك العنزي حليف بني عدي من المهاجرين، عامر بن سلمة بن عامر بن عبد الله البلوي القضاعي حليف بني سالم بن مالك بن سالم بن غنم.

قال ابن هشام: ويقال عمر بن سلمة، عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر أبو عبيدة بن الجراح أحد العشرة من المهاجرين الأولين.

عامر بن فهيرة مولى أبي بكر، عامر بن مخلد النجاري، عائذ بن ماعض بن قيس الخزرجي، عباد بن بشر بن وقش الأوسي، عباد بن قيس بن عامر الخزرجي، عباد بن قيس بن عبشة الخزرجي أخو سبيع المتقدم.

عباد بن الخشخاش القضاعي، عبادة بن الصامت الخزرجي، عبادة بن قيس بن كعب بن قيس، عبد الله بن أمية بن عرفطة، عبد الله بن ثعلبة بن خزمة أخو بحاث المتقدم.

عبد الله بن جحش بن رئاب الأسدي، عبد الله بن جبير بن النعمان الأوسي، عبد الله بن الجد بن قيس السلمي، عبد الله بن حق بن أوس الساعدي.

وقال موسى بن عقبة والواقدي وابن عائذ: عبد رب بن حق، وقال ابن هشام: عبد ربه بن حق، عبد الله بن الحمير حليف لبني حرام وهو أخو خارجة بن الحمير من أشجع.

عبد الله بن الربيع بن قيس الخزرجي، عبد الله بن رواحة الخزرجي، عبد الله بن زيد بن عبد ربه بن ثعلبة الخزرجي الذي أرى النداء، عبد الله بن سراقة العدوي لم يذكره موسى بن عقبة ولا الواقدي ولا ابن عائذ وذكره ابن إسحاق وغيره.

عبد الله بن سلمة بن مالك العجلان حليف الأنصار، عبد الله بن سهل بن رافع أخو بني زعورا، عبد الله بن سهيل بن عمرو خرج مع أبيه والمشركين ثم فر من المشركين إلى المسلمين فشهدها معهم.

عبد الله بن طارق بن مالك القضاعي حليف الأوس، عبد الله بن عامر من بلى ذكره ابن إسحاق، عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول الخزرجي وكان أبوه رأس المنافقين.

عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم أبو سلمة زوج أم سلمة قتل يومئذٍ، عبد الله بن عبد مناف بن النعمان السلمي، عبد الله بن عبس، عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن تيم بن مرة بن كعب أبو بكر الصديق رضي الله عنه.

عبد الله بن عرفطة بن عدي الخزرجي، عبد الله بن عمر بن حرام السلمي أبو جابر، عبد الله بن عمير بن عدي الخزرجي، عبد الله بن قيس بن خالد النجاري، عبد الله بن قيس بن صخر بن حرام السلمي.

عبد الله بن كعب بن عمرو بن عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن بن النجار جعله النبي ﷺ مع عدي بن أبي الزغباء على النفل يوم بدر، عبد الله بن مخرمة بن عبد العزى من المهاجرين الأولين.

عبد الله بن مسعود الهذلي حليف بني زهرة من المهاجرين الأولين، عبد الله بن مظعون الجمحي من المهاجرين الأولين، عبد الله بن النعمان بن بلدمة السلمي، عبد الله بن أنيسة بن النعمان السلمي، عبد الرحمن بن جبر بن عمرو أبو عبيس الخزرجي.

عبد الرحمن بن عبد الله بن ثعلبة أبو عقيل القضاعي البلوي، عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب الزهري أحد العشرة رضي الله عنهم، عبس بن عامر بن عدي السلمي، عبيد بن التيهان أخو أبو الهيثم بن التيهان ويقال: عتيك بدل عبيد، عبيد بن ثعلبة من بني غنم بن مالك عبيد بن زيد بن عامر بن عمرو بن العجلان بن عامر، عبيد بن أبي عبيد، عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف أخو الحصين والطفيل وكان أحد الثلاثة الذين بارزوا يوم بدر فقطعت يده ثم مات بعد المعركة رضي الله عنه.

عتبان بن مالك بن عمرو الخزرجي عتبة بن ربيعة بن خالد بن معاوية البهراني حليف بني أمية بن لوذان، عتبة بن عبد الله بن صخر السلمي، عتبة بن غزوان بن جابر من المهاجرين الأولين.

عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف الأموي أمير المؤمنين أحد الخلفاء الأربعة وأحد العشرة تخلف على زوجته رقية بنت رسول الله ﷺ يمرضها حتى ماتت فضرب له بسهمه وأجره.

عثمان بن مظعون الجمحي أبو السائب أخو عبد الله وقدامة من المهاجرين الأولين، عدي بن أبي الزغباء الجهني وهو الذي أرسله رسول الله ﷺ وبسبس بن عمرو بين يديه عينا.

عصمة بن الحصين بن وبرة بن خالد بن العجلان، عصيمة حليف لبني الحارث بن سوار من أشجع وقيل: من بني أسد ابن خزيمة، عطية بن نويرة بن عامر بن عطية الخزرجي، عقبة بن عامر بن نابي السلمي، عقبة بن عثمان بن خلدة الخزرجي أخو سعد بن عثمان، عقبة بن عمرو أبو مسعود البدري وقع في (صحيح البخاري) أنه شهد بدرا وفيه نظر عند كثير من أصحاب المغازي ولهذا لم يذكروه.

عقبة بن وهب بن ربيعة الأسدي أسد خزيمة حليف لبني عبد شمس وهو أخو شجاع بن وهب من المهاجرين الأولين، عقبة بن وهب بن كلدة حليف بني غطفان، عكاشة بن محصن الغنمي من المهاجرين الأولين وممن لا حساب عليه.

علي بن أبي طالب الهاشمي أمير المؤمنين أحد الخلفاء الأربعة وأحد الثلاثة الذين بارزوا يومئذٍ رضي الله عنه، عمار بن ياسر العنسي المذحجي من المهاجرين الأولين، عمارة بن حزم بن زيد النجاري.

عمر بن الخطاب أمير المؤمنين أحد الخلفاء الأربعة وأحد الشيخين المقتدى بهم رضي الله عنهما، عمر بن عمرو بن إياس من أهل اليمن حليف لبني لوذان بن عمرو بن سالم وقيل: هو أخو ربيع وورقة، عمرو بن ثعلبة بن وهب بن عدي بن مالك بن عدي بن عامر أبو حكيم، عمرو بن الحارث بن زهير ابن أبي شداد بن ربيعة بن هلال بن أهيب ابن ضبشة بن الحارث بن فهر الفهري، عمرو بن سراقة العدوي من المهاجرين، عمرو بن أبي سرح الفهري من المهاجرين.

وقال الواقدي وابن عائذ: معمر بدل عمرو، عمرو بن طلق بن زيد بن أمية بن سنان بن كعب بن غنم وهو في بني حرام، عمرو بن الجموح بن حرام الأنصاري، عمرو بن قيس بن زيد بن سواد بن مالك بن غنم ذكره الواقدي والأموي.

عمرو بن قيس بن مالك بن عدي بن خنساء بن عمرو بن مالك بن عدي بن عامر أبو خارجة ولم يذكره موسى بن عقبة، عمرو بن عامر بن الحارث الفهري ذكره موسى بن عقبة، عمرو بن معبد بن الأزعر الأوسي، عمرو بن معاذ الأوسي أخو سعد بن معاذ.

عمير بن الحارث بن ثعلبة ويقال: عمرو بن الحارث بن لبدة بن ثعلبة السلمي، عمير بن حرام بن الجموح السلمي ذكره ابن عائذ والواقدي، عمير بن الحمام بن الجموح ابن عم الذي قبله قتل يومئذٍ شهيدا.

عمير بن عامر بن مالك بن الخنساء بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن أبو داود المازني، عمير بن عوف مولى سهيل بن عمرو وسماه الأموي وغيره: عمرو بن عوف وكذا وقع في (الصحيحين) في حديث بعث أبي عبيدة إلى البحرين، عمير بن مالك بن أهيب الزهري أخو سعد بن أبي وقاص قتل يومئذٍ شهيدا.

عنترة مولى بني سليم وقيل: إنه منهم فالله أعلم، عوف بن الحارث بن رفاعة بن الحارث النجاري وهو بن عفراء بنت عبيد بن ثعلبة النجارية قتل يومئذٍ شهيدا، عويم بن ساعدة الأنصاري من بني أمية زيد عياض بن غنم الفهري من المهاجرين الأولين رضي الله عنهم أجمعين.

حرف الغين

غنام بن أوس الخزرجي ذكره الواقدي وليس بمجمع عليه.

حرف الفاء

الفاكه بن بشر بن الفاكه الخزرجي، فروة بن عمرو بن ودفة الخزرجي.

حرف القاف

قتادة بن النعمان الأوسي، قدامة بن مظعون الجمحي من المهاجرين أخو عثمان وعبد الله، قطبة بن عامر بن حديدة السلمي.

قيس بن السكن النجاري، قيس بن أبي صعصعة عمرو بن زيد المازني كان على الساقة يوم بدر.

قيس بن محصن بن خالد الخزرجي، قيس بن مخلد بن ثعلبة النجاري.

حرف الكاف

كعب بن حمان ويقال: جمار ويقال: جماز وقال ابن هشام: كعب بن عبشان ويقال: كعب بن مالك بن ثعلبة بن جماز.

وقال الأموي: كعب بن ثعلبة بن حبالة بن غنم الغساني من حلفاء بني الخزرج بن ساعدة، كعب بن زيد بن قيس النجاري، كعب بن عمرو أبو اليسر السلمي، كلفة بن ثعلبة أحد البكائين ذكره موسى بن عقبة، كناز بن حصين بن يربوع أبو مرثد الغنوي من المهاجرين الأولين.

حرف الميم

مالك بن الدخشم ويقال: ابن الدخشن الخزرجي، مالك بن أبي خولى الجعفي حليف بني عدي، مالك بن ربيعة أبو أسيد الساعدي، مالك بن قدامة الأوسي، مالك بن عمرو أخو ثقف بن عمرو وكلاهما مهاجري وهما من حلفاء بني تميم بن دودان بن أسد.

مالك بن قدامة الأوسي، مالك بن مسعود الخزرجي، مالك بن ثابت بن نميلة المزني حليف لبني عمرو بن عوف، مبشر بن عبد المنذر بن زنير الأوسي أخو أبي لبابة ورفاعة قتل يومئذ شهيدا، المجذر بن زياد البلوي مهاجري، محرز بن عامر النجاري.

محرز بن نضلة الأسدي حليف بني عبد شمس مهاجري، محمد بن مسلمة حليف بني عبد الأشهل، مدلج ويقال: مدلاج بن عمرو أخو ثقف بن عمرو مهاجري، مرثد بن أبي مرثد الغنوي، مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب بن عبد مناف من المهاجرين الأولين وقيل: اسمه عوف، مسعود بن أوس الأنصاري النجاري.

مسعود بن خلدة الخزرجي، مسعود بن ربيعة القاري حليف بني زهرة مهاجري، مسعود بن سعد ويقال: ابن عبد سعد بن عامر بن عدي بن جشم بن مجدعة بن حارثة بن الحارث، مسعود بن سعد بن قيس الخزرجي.

مصعب بن عمير العبدري مهاجري كان معه اللواء يومئذٍ، معاذ بن جبل الخزرجي، معاذ بن الحارث النجاري هذا هو ابن عفراء أخو عوف ومعوذ، معاذ بن عمرو بن الجموح الخزرجي، معاذ بن ماعض الخزرجي أخو عائذ، معبد بن عباد بن قشير بن الفدم بن سالم بن غنم ويقال: معبد بن عبادة بن قيس، وقال الواقدي: قشعر بدل قشير، وقال ابن هشام: قشعر أبو خميصة.

معبد بن قيس بن صخر السلمي أخو عبد الله بن قيس، معتب بن عبيد بن إياس البلوي القضاعي، معتب بن عوف الخزاعي حليف بني مخزوم من المهاجرين، معتب بن قشير الأوسي، معقل بن المنذر السلمي، معمر بن الحارث الجمحي من المهاجرين.

معن بن عدي الأوسي، معوذ بن الحارث الجمحي وهو ابن عفراء أخو معاذ بن عوف، معوذ بن عمرو بن الجموح السلمي لعله أخو معاذ بن عمرو، المقداد بن عمرو البهراني وهو المقداد بن الأسود من المهاجرين الأولين وهو ذو المقال المحمود ابن المتقدم ذكره وكان أحد الفرسان يومئذٍ.

مليل بن وبرة الخزرجي، المنذر بن عمرو بن خنيس الساعدي، المنذر بن قدامة بن عرفجة الخزرجي، المنذر بن محمد بن عقبة الأنصاري من بني جحجبي، مهجع مولى عمر بن الخطاب أصله من اليمن وكان أول قتيل من المسلمين يومئذٍ.

حرف النون

نصر بن الحارث بن عبد رزاح بن ظفر بن كعب، نعمان بن عبد عمرو النجاري وهو أخو الضحاك.

نعمان بن عمرو بن رفاعة النجاري، نعمان بن عصر بن الحارث حليف لبني الأوس، نعمان بن مالك بن ثعلبة الخزرجي ويقال له: قوقل، نعمان بن يسار مولى لبني عبيد ويقال: نعمان بن سنان.

نوفل بن عبيد الله بن نضلة الخزرجي.

حرف الهاء

هانئ بن نيار أبو بردة البلوي خال البراء بن عازب، هلال بن أمية الواقفي وقع ذكره في أهل بدر في (الصحيحين) في قصة كعب بن مالك ولم يذكره أحد من أصحاب المغازي، هلال بن المعلى الخزرجي أخو رافع بن المعلى.

حرف الواو

واقد بن عبد الله التميمي حليف بني عدي من المهاجرين، وديعة بن عمرو بن جراد الجهني ذكره الواقدي وابن عائذ، ورقة بن إياس بن عمرو الخزرجي أخو ربيع بن إياس، وهب بن سعد بن أبي سرح ذكره موسى بن عقبة وابن عائذ والواقدي في بني عامر بن لؤي ولم يذكره ابن إسحاق.

حرف الياء

يزيد بن الأخنس بن جناب بن حبيب بن جرة السلمي، قال السهيلي: شهد هو وأبوه وابنه يعني: بدرا ولا يعرف لهم نظير في الصحابة ولم يذكرهم ابن إسحاق والأكثرون لكن شهدوا معه بيعة الرضوان.

يزيد بن الحارث بن قيس الخزرجي وهو الذي يقال له: ابن قسحم وهي أمه قتل يومئذٍ شهيدا ببدر، يزيد بن عامر بن حديدة أبو المنذر السلمي، يزيد بن المنذر بن سرح السلمي وهو أخو معقل بن المنذر.

باب الكنى

أبو أسيد مالك بن ربيعة تقدم، أبو الأعور بن الحارث بن ظالم النجاري، وقال ابن هشام: أبو الأعور الحارث بن ظالم، وقال الواقدي: أبو الأعور كعب بن الحارث بن جندب بن ظالم.

أبو بكر الصديق عبد الله بن عثمان تقدم.

أبو حبة بن عمرو بن ثابت أحد بني ثعلبة بن عمرو بن عوف الأنصاري.

أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة من المهاجرين وقيل: اسمه مهشم، أبو الحمراء مولى الحارث بن رفاعة بن عفراء، أبو خزيمة بن أوس بن أصرم النجاري، أبو سبرة مولى أبي رهم بن عبد العزى من المهاجرين، أبو سنان بن محصن بن حرثان أخو عكاشة ومعه ابنه سنان من المهاجرين.

أبو الصياح بن النعمان وقيل: عمير بن ثابت بن النعمان بن أمية بن امرئ القيس بن ثعلبة رجع من الطريق وقتل يوم خيبر رجع لجرح أصابه من حجر فضرب له بسهمه، أبو عرفجة من خلفاء بني جحجبي، أبو كبشة مولى رسول الله ﷺ، أبو لبابة بشير بن عبد المنذر تقدم.

أبو مرثد الغنوي كناز بن حصين تقدم، أبو مسعود البدري عقبة بن عمرو تقدم، أبو مليل بن الأزعر بن زيد الأوسي.

فصل عدد الذين شهدوا بدرا ثلثمائة وأربعة عشر رجلا

فكان جملة من شهد بدرا من المسلمين ثلثمائة وأربعة عشر رجلا منهم: رسول الله ﷺ كما قال البخاري: حدثنا عمرو بن خالد، ثنا زهير، ثنا أبو إسحاق، سمعت البراء بن عازب يقول: حدثني أصحاب محمد ﷺ ورضي عنهم ممن شهد بدرا أنهم كانوا عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر بضعة عشر وثلاثمائة.

قال البراء: لا والله ما جاوز معه النهر إلا مؤمن.

ثم رواه البخاري من طريق إسرائيل، وسفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن البراء نحوه.

قال ابن جرير: وهذا قول عامة السلف: إنهم كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا.

وقال أيضا: حدثنا محمود، ثنا وهب، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: استصغرت أنا وابن عمر يوم بدر وكان المهاجرون يوم بدر نيفا على ستين والأنصار نيفا وأربعين ومائتين هكذا وقع في هذه الرواية.

وقال ابن جرير: حدثني محمد بن عبيد المحاربي، ثنا أبو مالك الجبني، عن الحجاج - وهو ابن أرطأة - عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: كان المهاجرون يوم بدر سبع وسبعين رجلا.

وكان الأنصار مائتين وستة وثلاثين رجلا.

وكان حامل راية النبي ﷺ علي بن أبي طالب.

وحامل راية الأنصار: سعد بن عبادة.

وهذا يقتضي أنهم كانوا ثلثمائة وستة رجال.

قال ابن جرير: وقيل: كانوا ثلثمائة وسبعة رجال.

قلت: وقد يكون هذا عد معهم النبي ﷺ والأول عدهم بدونه فالله أعلم.

وقد تقدم عن ابن إسحاق: أن المهاجرين كانوا ثلاثة وثمانين رجلا.

وأن الأوس أحد وستون رجلا.

والخزرج مائة وسبعون رجلا وسردهم.

وهذا مخالف لما ذكره البخاري ولما روى عن ابن عباس فالله أعلم.

وفي (الصحيح) عن أنس أنه قيل له: شهدت بدرا؟

فقال: وأين أغيب؟

وفي (سنن أبي داود) عن سعيد بن منصور، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان طلحة بن نافع، عن جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام أنه قال: كنت أميح لأصحابي الماء يوم بدر.

وهذان لم يذكرهما البخاري ولا الضياء فالله أعلم.

قلت: وفي الذين عدهم ابن إسحاق في أهل بدر من ضرب له بسهم في مغنمها وأنه لم يحضرها تخلف عنها لعذر أذن له في التخلف بسببها وكانوا ثمانية أو تسعة وهم:

عثمان بن عفان تخلف على رقية بنت رسول الله ﷺ يمرضها حتى ماتت فضرب له بسهمه وأجره.

وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل كان بالشام فضرب له بسهمه وأجره.

وطلحة بن عبيد الله كان بالشام أيضا فضرب له بسهمه وأجره.

وأبو لبابة بشير بن عبد المنذر ردَّه رسول الله ﷺ من الروحاء حين بلغه خروج النفير من مكة فاستعمله على المدينة وضرب له بسهمه وأجره.

والحارث بن حاطب بن عبيد بن أمية ردَّه رسول الله ﷺ أيضا من الطريق وضرب له بسهمه وأجره.

والحارث بن الصمة كسر بالروحاء فرجع فضرب له بسهمه زاد الواقدي وأجره.

وخوات بن جبير لم يحضر الوقعة وضرب له بسهمه وأجره.

وأبو الصياح بن ثابت خرج مع رسول الله ﷺ فأصاب ساقه فصيل حجر فرجع وضرب له بسهمه وأجره.

قال الواقدي: وسعد أبو مالك تجهز ليخرج فمات، وقيل: إنه مات بالروحاء فضرب له بسهمه وأجره.

وكان الذين استشهدوا من المسلمين يومئذٍ أربعة عشر رجلا من المهاجرين ستة وهم:

عبيدة بن الحارث بن المطلب قطعت رجله فمات بالصفراء رحمه الله، وعمير بن أبي الوقاص أخو سعد بن أبي وقاص الزهري قتله العاص بن سعيد وهو ابن ست عشرة سنة ويقال: إنه كان قد أمره رسول الله ﷺ بالرجوع لصغره فبكى فأذن له في الذهاب فقتل رضي الله عنه.

وحليفهم ذو الشمالين بن عبد عمرو الخزاعي، وصفوان بن بيضاء، وعاقل بن البكير الليثي حليف بني عدي، ومهجع مولى عمر بن الخطاب وكان أول قتيل قتل من المسلمين يومئذٍ.

ومن الأنصار ثمانية وهم:

حارثة بن سراقة رماه حبان بن العرقة بسهم فأصاب حنجرته فمات، ومعوذ وعوف ابنا عفراء، ويزيد بن الحارث - ويقال: ابن قسحم -، وعمير بن الحمام، ورافع بن المعلى بن لوذان، وسعد بن خيثمة، ومبشر بن عبد المنذر رضي الله عن جميعهم.

وكان مع المسلمين سبعون بعيرا كما تقدم.

قال ابن إسحاق: وكان معهم فرسان على أحدهما: المقداد بن الأسود واسمها: بغرجة - ويقال: ستجة -، وعلى الأخرى: الزبير بن العوام واسمها: اليعسوب.

وكان معهم لواء يحمله: مصعب بن عمير.

ورايتان يحمل أحداهما للمهاجرين: علي بن أبي طالب، والتي للأنصار: يحملها سعد بن عبادة.

وكان رأس مشورة المهاجرين: أبو بكر الصديق، ورأس مشورة الأنصار: سعد بن معاذ.

وأما جمع المشركين فأحسن ما يقال فيهم إنهم كانوا ما بين التسعمائة إلى الألف، وقد نص عروة وقتادة أنهم كانوا تسعمائة وخمسين رجلا.

وقال الواقدي: كانوا تسعمائة وثلاثين رجلا وهذا التحديد يحتاج إلى دليل وقد تقدم في بعض الأحاديث أنهم كانوا أزيد من ألف فلعله عدد أتباعهم معهم والله أعلم.

وقد تقدم الحديث الصحيح عند البخاري عن البراء أنه قتل منهم سبعون وأسر سبعون وهذا قول الجمهور، ولهذا قال كعب بن مالك في قصيدة له:

فأقام بالعطن المعطَّن منهم * سبعون عتبة منهم والأسود

وقد حكى الواقدي الإجماع على ذلك وفيما قاله نظر، فإن موسى بن عقبة وعروة بن الزبير قالا خلاف ذلك وهما من أئمة هذا الشأن فلا يمكن حكاية الإتفاق بدون قولهما وإن كان قولهما مرجوحا بالنسبة إلى الحديث الصحيح والله أعلم.

وقد سرد أسماء القتلى والأسارى ابن إسحاق وغيره وحرر ذلك الحافظ الضياء في أحكامه جيدا وقد تقدم في غضون سياقات القصة ذكر أول من قتل منهم وهو الأسود بن عبد الأسد المخزومي، وأول من فرَّ وهو خالد بن الأعلم الخزاعي - أو العقيلي - حليف بني مخزوم وما أفاده ذلك فإنه أسر وهو القائل في شعره:

ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا * ولكن على أقدامنا يقطر الدم

فما صدق في ذلك، وأول من أسروا: عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث قتلا صبرا بين يدي رسول الله ﷺ من بين الأسارى، وقد اختلف في أيهما قتل أولا على قولين وأنه عليه السلام أطلق جماعة من الأسارى مجانا بلا فداء منهم:

أبو العاص بن الربيع الأموي والمطلب بن حنطب بن الحارث المخزومي، وصيفي بن أبي رفاعة كما تقدم، وأبو عزة الشاعر، ووهب بن عمير بن وهب الجمحي كما تقدم.

وفادى بقيتهم حتى عمه العباس أخذ منه أكثر مما أخذ من سائر الأسرى لئلا يحابيه لكونه عمه مع أنه قد سأله الذين أسروه من الأنصار أن يتركوا له فداءه فأبى عليهم ذلك، وقال: لا تتركوا منه درهما.

وقد كان فداؤهم متفاوتا فأقل ما أخذ أربعمائة، ومنهم من أخذ منه أربعون أوقية من ذهب.

قال موسى بن عقبة: وأخذ من العباس مائة أوقية من ذهب، ومنهم من استؤجر على عمل بمقدار فدائه كما قال الإمام أحمد حدثنا علي بن عاصم قال: قال داود: ثنا عكرمة عن ابن عباس قال: كان ناس من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء فجعل رسول الله ﷺ فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة.

قال: فجاء غلام يوما يبكي إلى أمه فقالت: ما شأنك؟

فقال: ضربني معلمي.

فقالت: الخبيث يطلب بدخل بدر والله لا تأتيه أبدا.

انفرد به أحمد وهو على شرط (السنن) وتقدم بسط ذلك كله ولله الحمد والمنة.

فصل في فضل من شهد بدرا من المسلمين

قال البخاري في هذا الباب: حدثنا عبد الله بن محمد، ثنا معاوية بن عمرو، ثنا أبو إسحاق، عن حميد سمعت أنسا يقول: أصيب حارثة يوم بدر فجاءت أمه إلى رسول الله ﷺ فقالت: يا رسول الله قد عرفت منزلة حارثة مني فإن يك في الجنة أصبر وأحتسب، وأن تكن الأخرى فترى ما أصنع.

فقال: «ويحك أوهبلت أو جنة واحدة هي؟ إنها جنان كثيرة وإنه في جنة الفردوس».

تفرد به البخاري من هذا الوجه.

وقد روى من غير هذا الوجه من حديث ثابت وقتادة عن أنس وأن حارثة كان في النظارة وفيه: «أن ابنك أصاب الفردوس الأعلى».

وفي هذا تنبيه عظيم على فضل أهل بدر فإن هذا الذي لم يكن في بحيحة القتال ولا في حومة الوغى بل كان من النظارة من بعيد وإنما أصابه سهم غرب وهو يشرب من الحوض ومع هذا أصاب بهذا الموقف الفردوس التي هي أعلى الجنان وأوسط الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة التي أمر الشارع أمته إذا سألوا الله الجنة أن يسألوه إياها فإذا كان هذا حال هذا فما ظنك بمن كان واقفا في نحر العدو وعدوهم على ثلاثة أضعافهم عددا وعددا.

ثم روى البخاري ومسلم جميعا: عن إسحاق بن راهويه، عن عبد الله بن أدريس، عن حصين بن عبد الرحمن، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي بن أبي طالب قصة حاطب بن أبي بلتعة وبعثه الكتاب إلى أهل مكة عام الفتح، وأن عمر استأذن رسول الله ﷺ في ضرب عنقه فإنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين.

فقال رسول الله ﷺ: «قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».

ولفظ البخاري: «أليس من أهل بدر ولعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة - أو قد غفرت لكم -».

فدمعت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم.

وروى مسلم عن قتيبة عن الليث عن أبي الزبير عن جابر أن عبدا لحاطب جاء رسول الله ﷺ يشكو حاطبا

قال: يا رسول الله ليدخلن حاطب النار.

فقال رسول الله ﷺ: «كذبت لا يدخلها إنه شهد بدرا والحديبية».

وقال الإمام أحمد حدثنا سليمان بن داود حدثنا أبو بكر بن عياش حدثني الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال:

قال رسول الله ﷺ: «لن يدخل النار رجل شهد بدرا أو الحديبية».

تفرد به أحمد وهو على شرط مسلم.

وقال الإمام أحمد حدثنا يزيد أنبأنا حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: «إن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».

ورواه أبو داود، عن أحمد بن سنان وموسى بن إسماعيل كلاهما عن يزيد بن هارون به.

وروى البزار في (مسنده) ثنا محمد بن مرزوق، ثنا أبو حذيفة، ثنا عكرمة، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال:

قال رسول الله ﷺ: «إني لأرجو أن لا يدخل النار من شهد بدرا إن شاء الله».

ثم قال: لا نعلمه يروى عن أبي هريرة إلا من هذا الوجه.

قلت: وقد تفرد البزار بهذا الحديث ولم يخرجوه وهو على شرط (الصحيح) والله أعلم.

وقال البخاري في باب شهود الملائكة بدرا: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، ثنا جرير، عن يحيى بن سعيد، عن معاذ ابن رفاعة بن رافع الزرقي، عن أبيه - وكان أبوه من أهل بدر - قال: جاء جبريل إلى النبي ﷺ فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟

قال: «من أفضل المسلمين - أو كلمة نحوها -».

قال: وكذلك من شهد بدرا من الملائكة.

انفرد به البخاري.

قدوم زينب بنت الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة

قال ابن إسحاق: ولما رجع أبو العاص إلى مكة، وقد خلى سبيله - يعني: كما تقدم - بعث رسول الله ﷺ زيد بن حارثة ورجلا من الأنصار مكانه فقال: «كونا ببطن يأجج حتى تمر بكما زينب فتصاحباها فتأتياني بها».

فخرجا مكانهما وذلك بعد بدر بشهر - أو شيعه - فلما قدم أبو العاص مكة أمرها باللحوق بأبيها فخرجت تجهز.

قال ابن إسحاق فحدثني عبد الله بن أبي بكر قال: حدثت عن زينب أنها قالت: بينا أنا أتجهز لقيتني هند بنت عتبة فقالت: يا ابنة محمد ألم يبلغني أنك تريدين اللحوق بأبيك؟

قالت: فقلت: ما أردت ذلك.

فقالت: أي ابنة عم لا تفعلي، إن كان لك حاجة بمتاع مما يرفق بك في سفرك أو بمال تتبلغين به إلى أبيك فإن عندي حاجتك فلا تضطبني مني فإنه لا يدخل بين النساء ما بين الرجال.

قالت: والله ما أراها قالت ذلك إلا لتفعل.

قالت: ولكني خفتها فأنكرت أن أكون أريد ذلك.

قال ابن إسحاق: فتجهزت فلما فرغت من جهازها قدم إليها أخو زوجها كنانة بن الربيع بعيرا فركبته وأخذ قوسه وكنانته، ثم خرج بها نهارا يقود بها وهي في هودج لها، وتحدث بذلك رجال من قريش، فخرجوا في طلبها حتى أدركوها بذي طوى وكان أول من سبق إليها هبار بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى الفهري فروعها هبار بالرمح وهي في الهودج، وكانت حاملا فيما يزعمون فطرحت وبرك حموها كنانة ونثر كنانته.

ثم قال: والله لا يدنو مني رجل إلا وضعت فيه سهما فتكركر الناس عنه.

وأتى أبو سفيان في جلة من قريش فقال: يا أيها الرجل كف عنا نبلك حتى نكلمك، فكفَّ فأقبل أبو سفيان حتى وقف عليه فقال: إنك لم تصب خرجت بالمرأة على رؤوس الناس علانية وقد عرفت مصيبتنا ونكبتنا وما دخل علينا من محمد، فيظن الناس إذ خرجت بابنته إليه علانية على رؤوس الناس من بين أظهرنا إن ذلك عن ذل أصابنا وإن ذلك ضعف منا ووهن ولعمري ما لنا بحبسها من أبيها من حاجة وما لنا من نؤرة.

ولكن ارجع بالمرأة حتى إذا هدأت الأصوات وتحدث الناس أن قد رددناها فسلها سرا وألحقها بأبيها، قال: ففعل.

وقد ذكر ابن إسحاق: أن أولئك النفر الذين ردوا زينب لما رجعوا إلى مكة قالت هند تذمهم على ذلك:

أفي السلم أعيارا جفاءً وغلظةً * وفي الحرب أشباه النساء العوارك

وقد قيل: إنها قالت ذلك للذين رجعوا من بدر بعد ما قتل منهم الذين قتلوا.

قال ابن إسحاق: فأقامت ليال حتى إذا هدأت الأصوات خرج بها ليلا حتى أسلمها إلى زيد بن حارثة وصاحبه فقدما بها ليلا على رسول الله ﷺ.

وقد روى البيهقي في (الدلائل): من طريق عمر بن عبد الله بن عروة ابن الزبير، عن عروة، عن عائشة فذكر قصة خروجها وردهم لها ووضعها ما في بطنها وإن رسول الله ﷺ بعث زيد بن حارثة وأعطاه خاتمه لتجيء معه فتلطف زيد فأعطاه راعيا من مكة فأعطى الخاتم لزينب فلما رأته عرفته فقالت: من دفع إليك هذا؟

قال: رجل في ظاهر مكة، فخرجت زينب ليلا فركبت وراءه حتى قدم بها المدينة.

قال: فكان رسول الله ﷺ يقول: «هي أفضل بناتي أصيبت فيَّ».

قال: فبلغ ذلك علي بن الحسين بن زين العابدين فأتى عروة فقال: ما حديث بلغني أنك تحدثته؟

فقال عروة: والله ما أحب أن لي ما بين المشرق والمغرب وأني انتقص فاطمة حقا هو لها، وأما بعد ذلك فلك أن لا أحدث به أبدا.

قال ابن إسحاق: فقال في ذلك عبد الله بن رواحة أو أبو خيثمة أخو بني سالم بن عوف.

قال ابن هشام: هي لأبي خيثمة:

أتاني الذي لا يقدر الناس قدره * لزينب فيهم من عقوق ومأثم

وأخراجها لم يخز فيها محمد * على مأقط وبيننا عطر منشم

وأمسى أبو سفيان من حلف ضمضم * ومن حربنا في رغم أنف ومندم

قرنا ابنه عمرا ومولى يمينه * بذي حلق جلد الصلاصل محكم

فأقسمت لا تنفك منا كتائب * سراة خميس من لهام مسوم

نزوع قريش الكفر حتى نعلها * بخاطمة فوق الأنوف بميسم

ننزلهم أكناف نجد ونخلة * وإن يتهموا بالخيل والرجل نتهم

يدى الدهر حتى لا يعوج سردنا * ونلحقهم آثار عاد وجرهم

ويندم قوم لم يطيعوا محمدا * على أمرهم وأي حين تندّم

فأبلغ أبا سفيان إما لقيته * لئن أنت لم تخلص سجودا وتسلم

فأبشر بخزي في الحياة معجل * وسربال قار خالدا في جهنم

قال ابن إسحاق: ومولى يمين أبي سفيان الذي عناه الشاعر هو عامر بن الحضرمي.

وقال ابن هشام: إنما هو عقبة بن عبد الحارث بن الحضرمي، فأما عامر بن الحضرمي فإنه قتل يوم بدر.

قال ابن إسحاق: وقد حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن سليمان بن يسار، عن أبي إسحاق الدوسي، عن أبي هريرة.

قال: بعث النبي ﷺ سرية أنا فيها فقال: «إن ظفرتم بهبار بن الأسود والرجل الذي سبق معه إلى زينب فحرقوهما بالنار».

فلما كان الغد بعث إلينا فقال: «إني قد كنت أمرتكم بتحريق هذين الرجلين إن أخذتموهما، ثم رأيت أنه لا ينبغي لأحد أن يحرق بالنار إلا الله عز وجل، فإن ظفرتم بهما فاقتلوهما».

تفرد به ابن إسحاق وهو على شرط (السنن) ولم يخرجوه.

وقال البخاري: حدثنا قتيبة، ثنا الليث، عن بكير، عن سليمان بن يسار، عن أبي هريرة أنه قال: بعثنا رسول الله ﷺ في بعث فقال: «إن وجدتم فلانا وفلانا فاحرقوهما بالنار».

ثم قال حين أردنا الخروج: «إني أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا وأن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن وجدتموها فاقتلوهما».

وقد ذكر ابن إسحاق أن أبا العاص أقام بمكة على كفره و استمرت زينب عند أبيها بالمدينة حتى إذا كان قبيل الفتح خرج أبو العاص في تجارة لقريش، فلما قفل من الشام لقيته سرية فأخذوا ما معه وأعجزهم هربا وجاء تحت الليل إلى زوجته زينب فاستجار بها فأجارته.

فلما خرج رسول الله ﷺ لصلاة الصبح وكبر وكبر الناس صرخت من صفة النساء: أيها الناس إني قد أجرت أبا العاص ابن الربيع، فلما سلًّم رسول الله ﷺ أقبل على الناس فقال: «أيها الناس هل سمعتم الذي سمعت».

قالوا: نعم!

قال: «أما والذي نفس محمد بيده ما علمت بشيء حتى سمعت ما سمعتم وإنه بجير على المسلمين أدناهم».

ثم انصرف رسول الله ﷺ فدخل على ابنته زينب فقال: «أي بنية أكرمي مثواه ولا يخلصن إليك فإنك لا تحلين له».

قال: وبعث رسول الله ﷺ فحثهم على رد ما كان معه فردوه بأسره لا يفقد منه شيئا فأخذه أبو العاص، فرجع به إلى مكة فأعطى كل إنسان ما كان له ثم قال: يا معشر قريش هل بقي لأحد منكم عندي مال لم يأخذه؟

قالوا: لا فجزاك الله خيرا فقد وجدناك وفيا كريما.

قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، والله ما منعني عن الإسلام عنده إلا تخوف أن تظنوا أني إنما أردت أن آكل أموالكم، فلما أداها الله إليكم وفرغت منها أسلمت.

ثم خرج حتى قدم على رسول الله ﷺ.

قال ابن إسحاق: فحدثني داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ردَّ عليه رسول الله ﷺ زينب على النكاح الأول ولم يحدث شيئا بعد ست سنين.

وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث محمد بن إسحاق.

وقال الترمذي: ليس بإسناده بأس ولكن لا نعرف وجه هذا الحديث ولعله قد جاء من قبل حفظ داود بن الحصين.

وقال السهيلي: لم يقل به أحد من الفقهاء فيما علمت وفي لفظ ردها عليه رسول الله ﷺ بعد ست سنين، وفي رواية بعد سنتين بالنكاح الأول رواه ابن جرير، وفي رواية لم يحدث نكاحا.

وهذا الحديث قد أشكل على كثير من العلماء فإن القاعدة عندهم أن المرأة إذا أسلمت وزوجها كافر فإن كان قبل الدخول تعجلت الفرقة وإن كان بعده انتظر إلى انقضاء العدة فإن أسلم فيها استمر على نكاحها، وإن انقضت ولم يسلم انفسخ نكاحها.

وزينب رضي الله عنها أسلمت حين بعث رسول الله ﷺ وهاجرت بعد بدر بشهر وحرم المسلمات على المشركين عام الحديبية سنة ست، وأسلم أبو العاص قبل الفتح سنة ثمان، فمن قال ردَّها عليه بعد ست سنين، أي: من حين هجرتها فهو صحيح، ومن قال بعد سنتين أي: من حين حرمت المسلمات على المشركين فهو صحيح أيضا.

وعلى كل تقدير فالظاهر انقضاء عدتها في هذه المدة التي أقلها سنتان من حين التحريم أو قريب منها، فكيف ردَّها عليه بالنكاح الأول؟

فقال قائلون: يحتمل أن عدتها لم تنقض وهذه قصة يمين يتطرق إليها الاحتمال، وعارض آخرون هذا الحديث بالحديث الأول الذي رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه من حديث الحجاج بن أرطأة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن رسول الله ﷺ ردَّ بنته على أبي العاص بن الربيع بمهر جديد ونكاح جديد.

قال الإمام أحمد: هذا حديث ضعيف واهٍ، ولم يسمع الحجاج من عمرو بن شعيب إنما سمعه من محمد بن عبيد الله العرزمي، والعرزمي لا يساوي حديثه شيئا.

والحديث الصحيح الذي روى أن النبي ﷺ أقرها على النكاح الأول.

وهكذا قال الدارقطني: لا يثبت هذا الحديث والصواب حديث ابن عباس أن رسول الله ﷺ ردَّها بالنكاح الأول.

وقال الترمذي: هذا حديث في إسناده مقال والعمل عليه عند أهل العلم أن المرأة إذا أسلمت قبل زوجها ثم أسلم زوجها أنه أحق بها ما كانت في العدة وهو قول مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق.

وقال آخرون: بل الظاهر انقضاء عدتها، ومن روى أنه جدد لها نكاحا فضعيف ففي قضية زينب والحالة هذه دليل على أن المرأة إذا أسلمت وتأخر إسلام زوجها حتى انقضت عدتها فنكاحها لا ينفسخ بمجرد ذلك بل يبقى بالخيار إن شاءت تزوجت غيره وإن شاءت تربصت وانتظرت إسلام زوجها أي: وقت كان وهي امرأته ما لم تتزوج، وهذا القول فيه قوة وله حظ من جهة الفقه والله أعلم.

ويستشهد لذلك بما ذكره البخاري حيث قال: نكاح من أسلم من المشركات وعدتهن: حدثنا إبراهيم بن موسى، ثنا هشام، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس: كان المشركون على منزلتين من رسول الله ﷺ والمؤمنين، كانوا مشركي أهل الحرب يقاتلونهم ويقاتلونه ومشركي أهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه.

فكان إذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر فإذا طهرت حل لها النكاح، فإن هاجر زوجها قبل أن تنكح رُدَّت إليه وإن هاجر عبد منهم أو أمة فهما حران ولهما ما للمهاجرين.

ثم ذكر أهل العهد مثل حديث مجاهد هذا لفظه بحروفه، فقوله: فكان إذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر يقتضي أنها كانت تستبرئ بحيضة ولا تعتد بثلاثة قروء.

وقد ذهب قوم إلى هذا وقوله: فإن هاجر زوجها قبل أن تنكح رُدَّت إليه يقتضي أنه وإن هاجر بعد انقضاء مدة الإستبراء والعدة أنها ترد إلى زوجها الأول ما لم تنكح زوجا غيره كما هو الظاهر من قصة زينب بنت النبي ﷺ وكما ذهب إليه من ذهب من العلماء، والله أعلم.

ما قيل من الأشعار في بدر العظمى

فمن ذلك ما ذكره ابن إسحاق عن حمزة بن عبد المطلب وأنكرها ابن هشام:

ألم تر أمرا كان من عجب الدهر * وللحين أسباب مبينة الأمر

وما ذاك إلا أن وقوما أفادهم * فخافوا تواص بالعقوق وبالكفر

عشية راحوا نحو بدر بجمعهم * وكانوا رهونا للركية من بدر

وكنا طلبنا العير لم نبغ غيرها * فساروا إلينا فالتقينا على قدر

فلما التقينا لم تكن مثنويةٌ * لنا غير طعن بالمثقفة السمر

وضرب ببيض يختلي إلهام حدٍّها * مشهرة الألوان بينة الأثر

ونحن تركنا عتبة الغي ثاويا * وشيبة في قتلى تجرجم في الجفر

وعمرو ثوى فيمن ثوى من حماتهم * فشقت جيوب النائحات على عمرو

جيوب نساء من لؤي بن غالب * كرام تفرعن الذوائب من فهر

أولئك قوم قتلوا في ضلالهم * وخلوا لواء غير محتضر النصر

لواء ضلال قاد إبليس أهله * فخاس بهم، إن الخبيث إلى غدر

وقال لهم، إذ عاين الأمر واضحا * برئت إليكم ما بي اليوم من صبر

فإني أرى ما لا ترون وإنني * أخاف عقاب الله والله ذو قسر

فقدمهم للحين حتى تورطوا * وكان بما لم يخبر القوم ذا خبر

فكانوا غداة البئر ألفا وجمعنا * ثلاث مئين كالمسدمة الزهر

وفينا جنود الله حين يمدنا * بهم في مقام ثم مستوضح الذكر

فشدَّ بهم جبريل تحت لوائنا * لدى مأزقٍ فيه مناياهم تجري

وقد ذكر ابن إسحاق جوابها من الحارث بن هشام تركناها عمدا.

وقال علي بن أبي طالب وأنكرها ابن هشام:

ألم تر أن الله أبلى رسوله * بلاء عزيز ذي اقتدار وذي فضل

بما أنزل الكفار دار مذلة * فلاقوا هوانا من أسار ومن قتل

فأمسى رسول الله قد عز نصره * وكان رسول الله أرسل بالعدل

فجاء بفرقان من الله منزلٍ * مبينة آياته لذوي العقل

فآمن أقوام بذاك وأيقنوا * فأمسوا بحمد الله مجتمعي الشمل

وأنكر أقوام فزاغت قلوبهم * فزادهم ذو العرش خبلا على خبل

وأمكن منهم يوم بدر رسوله * وقوما غضابا فعلهم أحسن الفعل

بأيديهم بيض خفاف عصوا بها * وقد حادثوها بالجلاء وبالصقل

فكم تركوا من ناشئ ذي حميةٍ * صريعا ومن ذي نجدة منهم كهل

تبيت عيون النائحات عليهم * تجود بأسبال الرشاش وبالوبل

نوائح تنعي عتبة الغي وابنه * وشيبة تنعاه وتنعي أبا جهل

وذا الرجل تنعى وابن جدعان فيهم * مسلبة حرى مبينة الثكل

ثوى منهم في بئر بدر عصابةً * ذوو نجدات في الحروب وفي المحل

دعا الغي منهم من دعا فأجابه * وللغي أسباب مرمقة الوصل

فأضحوا لدى دار الجحيم بمعزلٍ * عن الشغب والعدوان في أسفل السفل

وقد ذكر ابن إسحاق نقيضها من الحارث أيضا تركناها قصدا.

وقال كعب بن مالك:

عجبت لأمر الله والله قادر * على ما أراد ليس لله قاهر

قضى يوم بدر أن نلاقي معشرا * بغوا وسبيل البغي بالناس جائر

وقد حشدوا واستنفروا من يليهم * من الناس حتى جمعهم متكاثر

وسارت إلينا لا تحاول غيرنا * بأجمعها كعب جميعا وعامر

وفينا رسول الله والأوس حوله * له معقل منهم عزيز وناصر

وجمع بني النجار تحت لوائه * يمشون في الماذي والنقع ثائر

فلما لقيناهم وكل مجاهد * لأصحابه مستبسل النفس صابر

شهدنا بأن الله لا رب غيره * وأن رسول الله بالحق ظاهر

وقد عريت بيض خفاف كأنها * مقاييس يزهيها لعينيك شاهر

بهن أبدنا جمعهم فتبددوا * وكان يلاقي الحين من هو فاجر

فكبّ أبو جهل صريعا لوجهه * وعتبة قد غادرته وهو عاثر

وشيبة والتيمي غادرت في الوغى * وما منهم إلا بذي العرش كافر

فأمسوا وقود النار في مستقرها * وكل كفور في جهنم صائر

تلظى عليهم وهي قد شب حميها * بزبر الحديد والحجارة ساجر

وكان رسول الله قد قال أقبلوا * فولوا وقالوا: إنما أنت ساحر

لأمر أراد الله أن يهلكوا به * وليس لأمر حمه الله زاجر

وقال كعب في يوم بدر:

ألا هل أتى غسان في نأي دارها * وأخبر شيء بالأمور عليمها

بأن قد رمتنا عن قسي عداوة * معد معا جهالها وحليمها

لأنا عبدنا الله لم نرجو غيره * رجاء الجنان إذ أتانا زعيمها

نبي له في قومه إرث عزة * وأعراق صدق هذبتها أرومها

فساروا وسرنا فالتقينا كأننا * أسود لقاء لا يرجى كليمها

ضربناهم حتى هوى في مكرنا * لمنخر سوء من لؤي عظيمها

فولوا ودسناهم ببيض صوارم * سواء علينا حلفها وصميمها

وقال كعب أيضا:

لعمر أبيكما يا ابني لؤي * على زهو لديكم وانتخاء

لما حامت فوارسكم ببدر * ولا صبروا به عند اللقاء

وردناه ونور الله يجلو * دجى الظلماء عنا والغطاء

رسول الله يقدمنا بأمر * من أمر الله أحكم بالقضاء

فما ظفرت فوارسكم ببدرٍ * وما رجعوا إليكم بالسواء

فلا تعجلّ أبا سفيان وارقب * جياد الخيل تطلع من كداء

بنصر الله روح القدس فيها * وميكال فياطيب الملاء

وقال حسان بن ثابت:

قال ابن هشام: ويقال هي لعبد الله بن الحارث السهمي

مستشعري حلق الماذي يقدمهم * جلد النحيزة ماض غير رعديد

أعني رسول إله الخلق فضله * على البرية بالتقوى وبالجود

وقد زعمتم بأن تحموا ذماركم * وماء بدر زعمتم غير مورود

مستعصمين بحبل غير منجذم * مستحكم من حبال الله ممدود

فينا الرسول وفينا الحق نتبعه * حتى الممات ونصر غير محدود

واف وماض شهاب يستضاء به * بدر أنار على كل الأماجيد

وقال حسان بن ثابت أيضا:

ألا ليت شعري هل أتى أهل مكة * إبادتنا الكفار في ساعة العسر

قتلنا سراة القوم عند مجالنا * فلم يرجعوا إلا بقاصمة الظهر

قتلنا أبا جهل وعتبة قبله * وشيبة يكبو لليدين وللنحر

قتلنا سويدا ثم عتبة بعده * وطعمة أيضا عند ثائرة القتر

فكم قد قتلنا من كريم مسودا * له حسب في قومه نابه الذكر

تركناهموا للعاويات ينبنهم * ويصلون نارا بعد حامية القعر

لعمرك ما حامت فوارس مالك * وأشياعهم يوم التقينا على بدر

وقال عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب في يوم بدر، في قطع رجله في مبارزته هو وحمزة وعلى مع عتبة وشيبة والوليد بن عتبة وأنكرها ابن هشام:

ستبلغ عنا أهل مكة وقعة * يهب لها من كان عن ذاك نائيا

بعتبة إذ ولى وشيبة بعده * وما كان فيها بكر عتبة راضيا

فإن تقطعوا رجلي فإني مسلم * أرتجي بها عيشا من الله دانيا

مع الحور أمثال التماثيل أخلصت * من الجنة العليا لمن كان عاليا

وبعت بها عيشا تعرفت صفوه * وعاجلته حتى فقدت الأدانيا

فأكرمني الرحمن من فضل منه * بثوب من الإسلام غطى المساويا

وما كان مكروها إليَّ قتالهم * غداة دعا الأكفاء من كان داعيا

ولم يبغي إذ سألوا النبي سواءنا * ثلاثتنا حتى حصرنا المناديا

لقيناهم كالأسد تخطر بالقنا * نقاتل في الرحمن من كان عاصيا

فما برحت أقدامنا من مقامنا * ثلاثتنا حتى أزيروا المنائيا

وقال ابن إسحاق:

وقال حسان بن ثابت أيضا يذم الحارث بن هشام على فراره يوم بدر وتركه قومه لا يقاتل دونهم:

تبلت فؤادك في المنام خريدة * تشفي الضجيع ببارد بسام

كالمسك تخلطه بماء سحابة * أو عاتق كدم الذبيح مدام

نفج الحقيبة يوصها متنضد * بلهاء غير وشيكة الأقسام

بنيت على قطن أجم كأنه * فضلا إذا قعدت مداك رخام

وتكاد تكسل أن تجيء فراشها * في جسم خرعبة وحسن قوام

أما النهار فلا أفتر أذكرها * والليل توزعني بها أحلامي

أقسمت أنساها وأترك ذكرها * حتى تغيب في الضريح عظامي

بل من لعاذلة تلوم سفاهة * ولقد عصيت على الهوى لوامي

بكرت إلي بسحرة بعد الكرى * وتقارب من حادث الأيام

زعمت بأن المرء يكرب عمره * عدمٌ لمعتكر من الإصرام

إن كنت كاذبة الذي حدثتني * فنجوت منجى الحارث بن هشام

ترك الأحبة أن يقاتل دونهم * ونجا برأس طمرة ولجام

يذر العناجيج الجياد بقفرة * من الذمول بمحصد ورجام

ملأت به الفرجين فأرمدت به * وثوى أحبته بشر مقام

وبنو أبيه ورهطه في معرك * نصر الآله به ذوي الإسلام

طحنتهم والله ينفذ أمره * حرب يشب سعيرها بضرام

لولا الآله وجريها لتركنه * جزر السباع ودسنه بحوام

من بين مأسور يشد وثاقه * صقر إذا لاقى الأسنة حام

ومجدل لا يستجيب لدعوة * حتى تزول شوامخ الأعلام

بالعار والذل المبين إذ رأى * بيض السيوف تسوق كل همام

بيدي أغر إذا انتمى لم يخزه * نسب القصار سميدع مقدام

بيض إذا لاقت حديدا صممت * كالبرق تحت ظلال كل غمام

قال ابن هشام: تركنا في آخرها ثلاث أبيات أقذع فيها.

قال ابن هشام: فأجابه الحارث بن هشام أخو أبي جهل عمرو بن هشام فقال:

القوم أعلم ما تركت قتالهم * حتى رموا فرسي بأشقر مزبد

وعرفت أني أن أقاتل واحدا * أقتل ولا ينكى عدوي مشهدي

فصددت عنهم والأحبة فيهم * طمعا لهم بعقاب يوم مفسد

وقال حسان أيضا:

يا حار قد عولت غير معول * عند الهياج وساعة الإحساب

إذ تمتطي سرح اليدين نجيبة * مرطى الجراء طويلة الأقراب

والقوم خلفك قد تركت قتالهم * ترجو النجاة وليس حين ذهاب

ألا عطفت على ابن أمك إذ ثوى * قعص الأسنة ضائع الأسلاب

عجل المليك له فأهلك جمعه * بشنار مخزية وسوء عذاب

وقال حسان أيضا:

لقد علمت قريش يوم بدر * غداة الأسر والقتل الشديد

بأنا حين تشتجر العوالي * حماة الحرب يوم أبي الوليد

قتلنا ابني ربيعة يوم سارا * إلينا في مضاعفة الحديد

وفر بها حكيم يوم جالت * بنو النجار تخطر كالأسود

وولت عند ذاك جموع فهر * وأسلمها الحويرث من بعيد

لقد لاقيتموا ذلا وقتلا * جهيزا نافذا تحت الوريد

وكل القوم قد ولوا جميعا * ولم يلووا على الحسب التليد

وقالت هند بنت أثاثة بن عباد بن المطلب ترثي عبيدة بن الحارث ابن المطلب:

لقد ضمن الصفراء مجدا وسؤددا * وحلما أصيلا وافر اللب والعقل

عبيدة فابكيه لأضياف غربة * وأرملة تهوي لأشعث كالجذل

وبكيه للأقوام في كل شتوة * إذا احمرَّ آفاق السماء من المحل

وبكيه للأيتام والريح زفرف * وتشبيب قدر طالما أزبدت تغلي

فإن تصبح النيران قد مات ضوؤها * فقد كان يذكيهن بالحطب الجزل

لطارق ليل أو لملتمس القرى * ومستنبح أضحى لديه على رسل

وقال الأموي في (مغازيه): حدثني سعيد بن قطن قال: قالت عاتكة بنت عبد المطلب في رؤياها التي رأت وتذكر بدرا:

ألما تكن رؤياي حقا ويأتكم * بتأويلها فل من القوم هارب

رأى فأتاكم باليقين الذي رأى * بعينيه ما تفري السيوف القواضب

فقلتم ولم أكذب عليكم وإنما * يكذبني بالصدق من هو كاذب

وما جاء إلا رهبة الموت هاربا * حكيم وقد أعيت عليه المذاهب

أقامت سيوف الهند دون رءوسكم * وخطية فيها الشبا والتغالب

كأن حريق النار لمع ظباتها * إذا ما تعاطتها الليوث المشاغب

ألا بأبي يوم اللقاء محمدا * إذا عض من عون الحروب الغوارب

مرى بالسيوف المرهفات نفوسكم * كفاحا كما تمري السحاب الجنائب

فكم بردت أسيافه من مليكة * وزعزع وردَّ بعد ذلك صالب

فما بال قتلى في القليب ومثلهم * لدى ابن أخي أسرى له ما يضارب

فكانوا نساء أم أتى لنفوسهم * من الله حين ساق والحين حالب

فكيف رأى عند اللقاء محمدا * بنو عمه والحرب فيها التجارب

ألم يغشكم ضربا يحار لوقعه الـ * ـجبان وتبدو بالنهار الكواكب

حلفت لئن عادوا لنصطلينهم * بحارا تردى تجر فيها المقانب

كأن ضياء الشمس لمع ظباتها * لها من شعاع النور قرن وحاجب

وقالت عاتكة أيضا فيما نقله الأموي:

هلا صبرتم للنبي محمد * ببدر ومن يغشى الوغى حق صابر

ولم ترجعوا عن المرهفات كأنها * حريق بأيدي المؤمنين بواتر

ولم تصبروا للبيض حتى أخذتموا * قليلا بأيدي المؤمنين المشاعر

ووليتموا نفرا وما البطل الذي * يقاتل من وقع السلاح بنافر

أتاكم بما جاء النبيون قبله * وما ابن أخي البر الصدوق بشاعر

سيكفي الذي ضيعتموا من نبيكم * وينصره الحيان: عمرو وعامر

وقال طالب بن أبي طالب يمدح رسول الله ﷺ ويرثي أصحاب القليب من قريش الذين قتلوا يومئذٍ من قومه وهو بعد على دين قومه إذ ذاك:

ألا إن عيني أنفذت دمعها سكبا * تبكي على كعب وما إن ترى كعبا

ألا إن كعبا في الحروب تخاذلوا * وأرداهموا إذا الدهر واجترحوا ذنبا

وعامر تبكي للملمات غدوةً * فيا ليت شعري هل أرى لهم قربا

فيا أخوينا عبد شمس ونوفل * فدا لكما لا تبعثوا بيننا حربا

ولا تصبحوا من بعد ودٍّ وإلفة * أحاديث فيها كلكم يشتكي النكبا

ألم تعلموا ما كان في حرب داحس * وحرب أبي يكسوم إذ ملئوا الشعبا

فلولا دفاع الله لا شيء غيره * لأصبحتموا لا تمنعون لكم سربا

فما إن جنينا في قريش عظيمة * سوى أن حمينا خير من وطيء التربا

أخا ثقة في النائبات مرزَّءا * كريما ثناه لا بخيلا ولا ذربا

يطيف به العافون يغشون بابه * يؤمون نهرا لا نزورا ولا صربا

فوالله لا تنفك نفسي حزينة * تململ حتى تصدقوا الخزرج الضربا

فصل رثاء المشركين قتلاهم يوم بدر

وقد ذكر ابن إسحاق أشعارا من جهة المشركين قوية الصنعة يرثون بها قتلاهم يوم بدر فمن ذلك قول ضرار بن الخطاب بن مرداس أخب بني محارب بن فهر وقد أسلم بعد ذلك، والسهيلي في روضه يتكلم على أشعار من أسلم منهم بعد ذلك:

عجبت لفخر الأوس والحين دائر * عليهم غدا والدهر فيه بصائر

وفخر بني النجار إن كان معشر * أصيبوا ببدر كلهم ثمَّ صائر

فأن تك قتلى غودرت من رجالنا * فإنا رجالا بعدهم سنغادر

وتردى بنا الجرد العناجيج وسطكم * بني الأوس حتى يشفي النفس ثائر

ووسط بني النجار سوف نكرها * لها بالقنا والدارعين زوافر

فنترك صرعى تعصب الطير حولهم * وليس لهم إلا الأماني ناصر

وتبكيهم من أرض يثرب نسوةٌ * لهن بها ليل عن النوم ساهر

وذلك أنا لا تزال سيوفنا * بهن دم ممن يحاربن ماثر

فإن تظفروا في يوم بدر فإنما * بأحمد أمسى جدكم وهو ظاهر

وبالنفر الأخيار هم أولياؤه * يحامون في اللأواء والموت حاضر

يعد أبو بكر وحمزة فيهم * ويدعى علي وسط من أنت ذاكر

أولئك لا من نتجت من ديارها * بنو الأوس والنجار حين تفاخر

ولكن أبوهم من لؤي بن غالب * إذا عدت الأنساب كعب وعامر

هم الطاعنون السيل في كل معرك * غداة الهياج الأطيبون الأكابر

فأجابه كعب بن مالك بقصيدته التي أسلفناها وهي قوله:

عجبت لأمر الله والله قادر * على ما أراد ليس لله قاهر

قال ابن إسحاق: وقال أبو بكر: واسمه شداد بن الأسود بن شعوب.

قلت: وقد ذكر البخاري أنه خلف على امرأة أبي بكر الصديق حين طلقها الصديق وذلك حرم الله المشركات على المسلمين واسمها أم بكر:

تحيي بالسلامة أم بكرٍ * وهل لي بعد قومي من سلام

فماذا بالقليب قليب بدرٍ * من القينات والشرب الكرام

وماذا بالقليب قليب بدرٍ * من الشيزى تكلل بالسنام

وكم لك بالطوي طوي بدرٍ * من الحومات والنعم المسام

وكم لك بالطوى طوى بدرٍ * من الغايات والدسع العظام

وأصحاب الكريم أبي علي * أخي الكأس الكريمة والندام

وانك لو رأيت أبا عقيلٍ * وأصحاب الثنية من نعام

إذا لظللت من وجد عليهم * كأم السقب جائلة المرام

يخبرنا الرسول لسوف نحيا * وكيف حياة أصداء وهام

قلت: وقد أورد البخاري بعضها في (صحيحه) ليعرف به حال قائلها.

قال ابن إسحاق: وقال أمية بن أبي الصلت يرثي من قتل من قريش يوم بدر:

ألا بكيت على الكرا * م بني الكرام أولي الممادح

كبكاء الحمام على فرو * ع الأيك في الغصن الجوانح

يبكين حرا مستكيـ * ـنات يرحن مع الروائح

أمثالهن الباكيا * ت المعولات من النوائح

من يبكهم يبكي على * حزن ويصدق كل مادح

ماذا ببدر والعقنـ * ـقل من مرازبة جحاجح

فمدافع البرقين فالـ * ـحنان من طرف الأواشح

شمط وشبان بها * ليل مغاوير وحاوح

ألا ترون لما أرى * ولقد أبان لكل لامح

أن قد تغير بطن مكـ * ـة فهي موحشة الأباطح

من كل بطريق لبطـ * ـريق نقي الود واضح

دعموص أبواب الملو * ك وجائب للخرق فاتح

ومن السراطمة الخلا * جمة الملاوثة المناجح

القائلين الفاعلـ * ـين الآمرين بكل صالح

المطعمين الشحم فو * ق الخبز شحما كالأنافح

نقل الجفان مع الجفا * ن إلى جفانٍ كالمناضح

ليست بأصفار لمن * يعفو ولا رح رحارح

للضيف ثم الضيف بعد * الضيف والبسط السلاطح

وهب المئين من المئـ * ـين إلى المئين من اللواقح

سوق المؤبل للمؤبــ * ـل صادرات عن بلادح

لكرامهم فوق الكرا * م مزية وزن الرواجح

كمثاقل الأرطال بالـ * ـقسطاس بالأيدي الموائح

خذلتهموا فئة وهم * يحمون عورات الفضائح

الضاربين التقدميـ * ـَّـة بالمنهدة الصفائح

ولقد عناني صوتهم * من بين مستسق وصائح

لله در بني عــ * ـلي أيمٍ منهم وناكح

إن لم يغيروا غارة * شعواء تحجر كل نابح

بالمقربات المبعدا * ت الطامحات مع الطوامح

مردا على جرد إلى * أسد مكالبة كوالح

ويلاق قرن قرنه * مشي المصافح للمصافح

بزهاء ألفٍ ثم ألــ * ـفٍ بين ذي بدن ورامح

قال ابن هشام: تركنا منها بيتين نال فيهما من أصحاب رسول الله ﷺ.

قلت: هذا شعر المخذول المعكوس المنكوس الذي حمله كثرة جهله وقلة عقله على أن مدح المشركين وذم المؤمنين واستوحش بمكة من أبي جهل بن هشام وأضرابه من الكفرة اللئام والجهلة الطغام ولم يستوحش بها من عبد الله ورسوله وحبيبه وخليله فخر البشر ومن وجهه أنور من القمر ذي العلم الأكمل والعقل الأشمل ومن صاحبه الصديق المبادر إلى التصديق والسابق إلى الخيرات وفعل المكرمات وبذل الألوف والمئات في طاعة رب الأرض والسموات.

وكذلك بقية أصحابه الغر الكرام الذين هاجروا من دار الكفر والجهل إلى دار العلم والإسلام رضي الله عن جميعهم ما اختلط الضياء والظلام، وما تعاقبت الليالي والأيام.

وقد تركنا أشعارا كثيرة أوردها ابن إسحاق رحمه الله خوف الإطالة وخشية الملالة وفيما أوردنا كفاية ولله الحمد والمنة.

وقد قال الأموي في (مغازيه): سمعت أبي حدثنا سليمان بن أرقم، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ عفا عن شعر الجاهلية.

قال سليمان فذكر ذلك الزهري فقال: عفا عنه إلا قصيدتين؛ كلمة أمية التى ذكر فيها أهل بدر، وكلمة الأعشى التي يذكر فيها الأخوص، وهذا حديث غريب وسليمان بن أرقم هذا متروك والله أعلم.

غزوة بني سليم في سنة ثنتين من الهجرة

قال ابن إسحاق: وكان فراغ رسول الله ﷺ من بدر في عقب شهر رمضان - أو في شوال - ولما قدم المدينة لم يقم بها إلا سبع ليال حتى غزا بنفسه يريد بني سليم، قال ابن هشام: واستعمل على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري - أو ابن أم مكتوم الأعمى -.

قال ابن إسحاق: فبلغ ماء من مياههم يقال له: الكدر فأقام عليه ثلاث ليال ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا فأقام بها بقية شوال وذا القعدة، وأفدى في إقامته تلك جل الأسارى من قريش.

قال السهيلي: والقرقرة الأرض الملساء، والكدر طير في ألوانها كدرة.

فصل في غزوة السويق

قال ابن إسحاق: وكان أبو سفيان كما حدثني محمد بن جعفر بن الزبير ويزيد بن رومان ومن لا أتهم عن عبد الله بن كعب بن مالك - وكان من أعلم الأنصار - حين رجع إلى مكة.

ورجع فل قريش من بدر نذر أن لا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدا، فخرج في مائتي راكب من قريش لتبر يمينه فسلك النجدية حتى نزل بصدر قناة إلى جبل يقال له: نيب من المدينة على بريد أو نحوه.

ثم خرج من الليل حتى أتى بني النضير تحت الليل فأتى حيي بن أخطب فضرب عليه بابه، فأبى أن يفتح له وخافه، فانصرف عنه إلى سلام بن مشكم، وكان سيد بني النضير في زمانه ذلك وصاحب كنزهم، فاستأذن عليه فأذن له فقراه وسقاه وبطن له من خبر الناس.

ثم خرج في عقب ليلته حتى أتى أصحابه فبعث رجالا من قريش فأتوا ناحية منها يقال لها: العريض، فحرقوا في أصوار من نخل بها، ووجدوا رجلا من الأنصار وحليفا له في حرث لهما فقتلوهما وانصرفوا راجعين، فنذر بهم الناس فخرج رسول الله ﷺ في طلبهم.

قال ابن هشام: واستعمل على المدينة أبا لبابة بشير بن عبد المنذر.

قال ابن إسحاق: فبلغ قرقرة الكندر ثم انصرف راجعا وقد فاته أبو سفيان وأصحابه، ووجد أصحاب رسول الله ﷺ أزوادا كثيرة قد ألقاها المشركون يتخففون منها وعامتها سويق، فسميت غزوة السويق.

قال المسلمون: يا رسول الله أنطمع أن تكون هذه لنا غزوة؟

قال: «نعم».

قال ابن إسحاق: وقال أبو سفيان فيما كان من أمره هذا ويمدح سلام بن مشكم اليهودي:

وإني تخيرت المدينة واحدا * لحلف فلم أندم ولم أتلوم

سقاني فرواني كميتا مدامة * على عجل مني سلام بن مشكم

ولما تولى الجيش قلت ولم أكن * لافرحه: أبشر بعز ومغنم

تأمل فإن القوم سر وإنهم * صريح لؤي لاشماطيط جرهم

وما كان إلا بعض ليلة راكب * أتى ساعيا من غير خلة معدم

فصل في دخول علي بن أبي طالب على زوجته فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم

وذلك في سنة ثنتين بعد وقعة بدر لما رواه البخاري ومسلم من طريق الزهري، عن علي بن الحسين، عن أبيه الحسين بن علي، عن علي بن أبي طالب.

قال: كانت لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر، وكان النبي ﷺ أعطاني شارفا مما أفاء الله من الخمس يومئذٍ فلما أردت ابتني فاطمة بنت النبى ﷺ واعدت رجلا صواغا من بني قينقاع أن يرتحل معي فنأتي بأذخر فأردت أن أبيعه من الصواغين فأستعين به في وليمة عرسي، فبينا أنا أجمع لشارفي من الأقتاب والغرائر والحبال وشارفاي مناختان إلى جنب حجرة رجل من الأنصار حتى جمعت ما جمعت، فإذا أنا بشارفي قد أجبت أسنمتهما وبقرت خواصرهما وأخذ من أكبادهما، فلم أملك عيني حين رأت المنظر فقلت: من فعل هذا؟

قالوا: فعله حمزة بن عبد المطلب وهو في هذا البيت وهو في شرب من الأنصار وعنده قينته وأصحابه، فقالت في غنائها:

ألا يا حمز للشرف النواء *

فوثب حمزة إلى السيف فأجب أسنمتهما وبقر خواصرهما وأخذ من أكبادهما.

قال علي: فانطلقت حتى أدخل على النبي ﷺ وعنده زيد بن حارثة فعرف النبي ﷺ الذي لقيت فقال: «مالك؟».

فقلت يا رسول الله: ما رأيت كاليوم عدا حمزة على ناقتي فأجب أسنمتهما وبقر خواصرهما وها هو ذا في البيت معه شرب.

فدعا النبي ﷺ بردائه فارتداه، ثم انطلق يمشي واتبعته أنا وزيد بن حارثة حتى جاء البيت الذي فيه حمزة فاستأذن عليه فأذن له فطفق النبي ﷺ يلوم حمزة فيما فعل فإذا حمزة ثمل محمرة عيناه فنظر حمزة إلى النبي ﷺ، ثم صعد النظر فنظر إلى ركبتيه، ثم صعد النظر فنظر إلى وجهه.

ثم قال حمزة: وهل أنتم إلا عبيدا لأبي فعرف النبي ﷺ أنه ثمل فنكص رسول الله ﷺ على عقبيه القهقرى فخرج وخرجنا معه.

هذا لفظ البخاري في كتاب (المغازي).

وقد رواه في أماكن أخر من (صحيحه) بألفاظ كثيرة وفي هذا دليل على ما قدمنا من أن غنائم بدر قد خمست لا كما زعمه أبو عبيد القاسم ابن سلام في كتاب (الأموال) من أن الخمس إنما نزل بعد قسمتها وقد خالفه في ذلك جماعة منهم: البخاري وابن جرير وبينا غلطه في ذلك في التفسير وفيما تقدم والله أعلم.

وكان هذا الصنع من حمزة وأصحابه رضي الله عنهم قبل أن تحرم الخمر بل قد قتل حمزة يوم أحد كما سيأتي وذلك قبل تحريم الخمر والله أعلم.

وقد يستدل بهذا الحديث من يرى أن عبادة السكران مسلوبة لا تأثير لها لا في طلاق ولا إقرار ولا غير ذلك كما ذهب إليه من ذهب من العلماء كما هو مقرر في كتاب (الأحكام).

وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن أبيه، عن رجل سمع عليا يقول: أردت أن أخطب إلى رسول الله ﷺ ابنته فقلت: مالي من شيء ثم ذكرت عائدته وصلته فخطبتها إليه فقال: «هل لك من شيء؟».

قلت: لا.

قال: «فأين درعك الخطيمة التي أعطيتك يوم كذا وكذا؟».

قال: هي عندي.

قال: «فأعطنيها».

قال: فأعطيتها إياه.

هكذا رواه أحمد في (مسنده) وفيه رجل مبهم.

وقد قال أبو داود: حدثنا إسحاق بن إسماعيل الطالقاني، ثنا عبدة، ثنا سعيد، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما تزوج علي فاطمة رضي الله عنهما قال له رسول الله ﷺ: «أعطها شيئا».

قال: ما عندي شيء.

قال: «أين درعك الخطيمة؟».

ورواه النسائي عن هارون بن إسحاق، عن عبدة بن سليمان، عن سعيد بن أبي عروبة، عن أيوب السختياني به.

وقال أبو داود حدثنا كثير بن عبيد الحمصي، ثنا أبو حيوة، عن شهيب بن أبي حمزة، حدثني غيلان بن أنس من أهل حمص، حدثني محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن رجل من أصحاب النبي ﷺ أن عليا لما تزوج فاطمة بنت رسول الله ﷺ أراد أن يدخل بها فمنعه رسول الله ﷺ حتى يعطيها شيئا فقال: يا رسول الله ليس لي شيء.

فقال له النبي ﷺ: «أعطها درعك».

فأعطاها درعه ثم دخل بها.

وقال البيهقي في (الدلائل): أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم، ثنا أحمد بن عبد الجبار، ثنا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، حدثني عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن علي.

قال: خطبت فاطمة إلى رسول الله ﷺ، فقالت مولاة لي: هل علمت أن فاطمة قد خطبت إلى رسول الله ﷺ.

قلت: لا.

قالت: فقد خطبت فما يمنعك أن تأتي رسول الله ﷺ فيزوجك.

فقلت: وعندي شيء أتزوج به؟

فقالت: إنك إن جئت رسول الله ﷺ زوجك.

قال: فوالله ما زالت ترجيني حتى دخلت على رسول الله ﷺ، فلما أن قعدت بين يديه أفحمت فوالله ما استطعت أن أتكلم جلالة وهيبة.

فقال رسول الله ﷺ: «ما جاء بك ألك حاجة؟».

فسكتّ، فقال: «لعلك جئت تخطب فاطمة؟».

فقلت: نعم!

فقال: «هل عندك من شيء تستحلها به؟».

فقلت: لا والله يا رسول الله!

فقال: «ما فعلت درع سلحتكها».

فوالذي نفس علي بيده أنها لخطيمة ما قيمتها أربعة دراهم، فقلت: عندي.

فقال: «قد زوجتكها فابعث إليها بها فاستحلها بها»، فإن كانت لصداق فاطمة بنت رسول الله ﷺ.

قال ابن إسحاق: فولدت فاطمة لعلي حسنا وحسينا ومحسنا - مات صغيرا - وأم كلثوم وزينب.

ثم روى البيهقي: من طريق عطاء بن السائب، عن أبيه، عن علي قال: جهز رسول الله ﷺ فاطمة في خميل وقربة ووسادة أدم حشوها أذخر.

ونقل البيهقي من كتاب (المعرفة) لأبي عبد الله بن منده أن عليا تزوج فاطمة بعد سنة من الهجرة وابتنى بها بعد ذلك بسنة أخرى.

قلت: فعلى هذا يكون دخوله بها في أوائل السنة الثالثة من الهجرة فظاهر سياق حديث الشارفين يقتضي أن ذلك عقب وقعة بدر بيسير فيكون ذلك كما ذكرناه في أواخر السنة الثانية والله أعلم.

فصل جمل من الحوادث سنة ثنتين من الهجرة

تقدم ما ذكرناه من تزويجه عليه السلام بعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها.

وذكرنا ما سلف من الغزوات المشهورة وقد تضمن ذلك وفيات أعيان من المشاهير من المؤمنين والمشركين، فكان ممن توفي فيها من الشهداء يوم بدر، ومنهم أربعة عشر ما بين مهاجري وأنصاري تقدم تسميتهم، والرؤساء من مشركي قريش وقد كانوا سبعين رجلا على المشهور.

وتوفي بعد الوقعة بيسير أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب لعنه الله كما تقدم.

ولما جاءت البشارة إلى المؤمنين من أهل المدينة مع زيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة بما أحل الله بالمشركين وبما فتح على المؤمنين وجدوا رقية بنت رسول الله ﷺ قد توفيت وساووا عليها التراب.

وكان زوجها عثمان بن عفان قد أقام عندها يمرضها بأمر النبي ﷺ له بذلك.

ولهذا ضرب له بسهمه في مغانم بدر وأجره عند الله يوم القيامة، ثم زوجه بأختها الأخرى أم كلثوم بنت رسول الله ﷺ ولهذا كان يقال لعثمان بن عفان: ذو النورين، ويقال: إنه لم يغلق أحد على ابنتي نبي واحدة بعد الأخرى غيره رضي الله عنه وأرضاه.

وفيها: حولت القبلة كما تقدم وزيد في صلاة الحضر على ما سلف.

وفيها: فرض الصيام صيام رمضان كما تقدم.

وفيها: فرضت الزكاة ذات النصب، وفرضت زكاة الفطر.

وفيها: خضع المشركون من أهل المدينة واليهود الذين هم بها من بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة، ويهود بني حارثة، وصانعوا المسلمين وأظهر الإسلام طائفة كثيرة من المشركين واليهود وهم في الباطن منافقون منهم من هو على ما كان عليه، ومنهم من أنحل بالكلية فبقي مذبذبا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء كما وصفهم الله في كتابه.

قال ابن جرير: وفيها: كتب رسول الله ﷺ المعاقل وكانت معلقة بسيفه.

قال ابن جرير: وقيل أن الحسن بن علي ولد فيها، قال: وأما الواقدي فإنه زعم أن ابن أبي سبرة حدثه عن إسحاق بن عبد الله عن أبي جعفر أن علي بن أبي طالب بنى بفاطمة في ذي الحجة منها.

قال: فإن كانت هذه الرواية صحيحة فالقول الأول باطل.

)تمَّ الجزء الثالث من كتاب البداية والنهاية ويليه الجزء الرابع وأوله سنة ثلاث من الهجرة.(

هامش

  1. [سورة العلق: 1-5]
  2. [سورة المدثر: 1-5]
  3. [سورة القصص: 86]
  4. [سورة العلق: 1-5]
  5. [البقرة: 185]
  6. [سورة المزمل: 5]
  7. [آل عمران: 50]
  8. [الأحقاف: 30]
  9. [سورة العلق: 1-5]
  10. [سورة العلق: 1-5]
  11. [القلم: 1-2]
  12. [المدثر: 1-5]
  13. [الضحى: 1-2]
  14. [الجن: 8-10]
  15. [الشعراء: 210- 212]
  16. [الجن: 2]
  17. [الجن: 1]
  18. [القيامة: 16-19]
  19. [طه: 114]
  20. [الشعراء: 214-220]
  21. [الزخرف: 44]
  22. [القصص: 88]
  23. [الحجر: 92-93]
  24. [المسد: 1]
  25. [الشعراء: 214-215]
  26. [المائدة: 67]
  27. [المؤمنين: 28]
  28. [الأنعام: 109- 111]
  29. [يونس: 96-97]
  30. [الإسراء: 59]
  31. [الإسراء: 90- 93]
  32. [الإسراء: 59]
  33. [الإسراء: 85]
  34. [النحل: 106]
  35. [مريم: 77-80]
  36. [المدثر: 11-13]
  37. [النحل: 90]
  38. [المدثر: 11-13]
  39. [الحجر: 91-93]
  40. [الأنبياء: 5]
  41. [الإسراء: 48]
  42. [فصلت: 2-13]
  43. [الفرقان: 41-42]
  44. [الإسراء: 110]
  45. [مريم: 77]
  46. [الأنعام: 108]
  47. [الفرقان: 5]
  48. [الجاثية: 7]
  49. [الأنبياء: 98 - 100]
  50. [الأنبياء: 101-102]
  51. [الأنبياء: 26-29]
  52. [الزخرف: 57-58]
  53. [نون: 10]
  54. [الزخرف: 31]
  55. [الفرقان: 27-28]
  56. [يس: 78-79]
  57. [الدخان: 43-44]
  58. [الحج: 52]
  59. [البقرة: 238]
  60. [الأنعام: 52-54]
  61. [النحل: 103]
  62. [الحجر: 94]
  63. [البقرة: 278]
  64. [الدخان: 15]
  65. [الدخان: 16]
  66. [المؤمنون: 76]
  67. [الروم: 1-6]
  68. [الإسراء: 60]
  69. [الإسراء: 1]
  70. [الإسراء: 60]
  71. [النساء: 101]
  72. [القمر: 1-3]
  73. [القمر: 1]
  74. [القمر: 1]
  75. [القمر: 1-2]
  76. [ص: 1-2]
  77. [ص: 1-7]
  78. [التوبة: 113]
  79. [القصص: 56]
  80. [القصص: 56]
  81. [الأنعام: 25-26]
  82. [النجم: 32]
  83. [النساء: 49]
  84. [الأحقاف: 29]
  85. [الأنعام: 151]
  86. [النحل: 90]
  87. [الأحزاب: 45]
  88. [النساء:22]
  89. [الحج:39-40]
  90. [النساء:58]
  91. [الزمر: 53-55]
  92. [الأعلى: 1]
  93. [الإسراء: 80]
  94. [يس: 1-9]
  95. [الأنفال:30]
  96. [الطور:30]
  97. [الأنفال: 30]
  98. [التوبة: 40]
  99. [الأنفال: 30]
  100. [التوبة:100]
  101. [الحشر:9]
  102. [الفجر:1-2]
  103. [التوبة:108]
  104. [البقرة:97]
  105. [الحشر:9]
  106. [النساء: 33]
  107. [النساء: 101]
  108. [التوبة:74]
  109. [آل عمران:86]
  110. [التوبة:61]
  111. [الأحزاب:13]
  112. [البقرة: 217]
  113. [البقرة: 218]
  114. [البقرة: 144]
  115. [البقرة: 143]
  116. [البقرة: 144]
  117. [البقرة:183-185]
  118. [آل عمران: 123]
  119. [الأنفال: 5-8]
  120. [الأنفال:47-48]
  121. [الحشر:16]
  122. [الإسراء:81]
  123. [الأنفال: 5]
  124. [الأنفال: 5]
  125. [الأنفال: 42]
  126. [الأنفال: 11]
  127. [الأنفال: 12]
  128. [الأنفال: 13]
  129. [الأنفال: 43]
  130. [الأنفال: 44]
  131. [آل عمران: 13]
  132. [الحج: 19]
  133. [الأنفال: 9-10]
  134. [القمر: 45-46]
  135. [الأنفال: 45]
  136. [الأنفال: 12]
  137. [الأنفال: 12]
  138. [الأنفال: 11]
  139. [الأنفال: 19]
  140. [الأنفال: 7]
  141. [الأنفال: 48]
  142. [الأنفال: 17]
  143. [فاطر: 22]
  144. [النمل: 80]
  145. [فاطر: 22]
  146. [إبراهيم: 28]
  147. [إبراهيم: 28]
  148. [محمد: 4]
  149. [التوبة: 14-15]
  150. [النساء: 79]
  151. [الأنفال: 68]
  152. [الأنفال: 67]
  153. [إبراهيم: 36]
  154. [المائدة: 118]
  155. [نوح: 26]
  156. [يونس: 88]
  157. [الأنفال:]
  158. [الأنفال: 67]
  159. [الأنفال: 69]
  160. [الأنفال: 69]
  161. [الأنفال: 70]
  162. [الأنفال: 71]
  163. [الأنفال: 1]
البداية والنهاية - الجزء الثالث
باب كيفية بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم | عمره صلى الله عليه وسلم وقت بعثته وتاريخها | فصل حزن النبي صلى الله عليه وسلم عندما فترعنه الوحي | فصل في منع الجان ومردة الشياطين من استراق السمع حين أنزل القرآن | فصل في كيفية إتيان الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم | فصل ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه | فصل تتابع الوحي إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام | فصل أول من أسلم من متقدمي الإسلام والصحابة وغيرهم | إسلام حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم | ذكر إسلام أبي ذر رضي الله عنه | ذكر إسلام ضماد | باب الأمر بابلاغ الرسالة | قصة الأراشي | فصل أشد ما صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم | فصل تأليب الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه | فصل في مبالغتهم في الأذية لآحاد المسلمين المستضعفين | فصل اعتراض المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم | فصل تعذيب قريش للمسلمين لاتباعهم النبي عليه الصلاة والسلام | باب مجادلة النبي صلى الله عليه وسلم الكفار وإقامة الحجة الدامغة عليهم | باب هجرة أصحاب رسول الله من مكة إلى أرض الحبشة | فصل كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي | فصل ذكر مخالفة قبائل قريش بني هاشم وعبد المطلب في نصر رسول الله | المستهزئون بالنبي صلى الله عليه وسلم وما ظهر فيهم | عزم الصديق على الهجرة إلى الحبشة | فصل تعليق على القصص | فصل ذكر عداوة قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتنفير أحياء العرب والقادمين إلى مكة | قصة أعشى بن قيس | قصة مصارعة ركانة وكيف أراه صلى الله عليه وسلم الشجرة التي دعاها فأقبلت | فصل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على قريش حين استعصت عليه | فصل قصة فارس والروم | فصل الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس | فصل نزول فرضية الصلاة صبيحة الإسراء | فصل في انشقاق القمر في زمان النبي صلى الله عليه وسلم | فصل في وفاة أبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم | فصل موت خديجة بنت خويلد | فصل في تزويجه صلى الله عليه وسلم بعد خديجة رضي الله عنها بعائشة بنت الصديق وسودة بنت زمعة رضي الله عنهما | فصل اجتراء قريش على رسول الله بعد وفاة عمه أبي طالب | فصل في ذهابه صلى الله عليه وسلم إلى أهل الطائف يدعوهم إلى دين الله | فصل سماع الجن لقراءة رسول الله عليه الصلاة والسلام | فصل في عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه الكريمة على أحياء العرب | فصل قدوم وفد الأنصار لمبايعة رسول الله عليه الصلاة والسلام | حديث سويد بن صامت الأنصاري | إسلام إياس بن معاذ | باب بدء إسلام الأنصار رضي الله عنهم | قصة بيعة العقبة الثانية | فصل إظهار الأنصار إسلامهم بعد بيعة العقبة الثانية | فصل يتضمن أسماء من شهد بيعة العقبة الثانية ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان | باب الهجرة من مكة إلى المدينة | فصل في سبب هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه الكريمة | باب هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه الكريمة من مكة إلى المدينة ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه | قصة أم معبد الخزاعية | فصل في دخوله عليه السلام المدينة وأين استقر منزله بها | فصل تشريف المدينة بهجرته عليه السلام | وقائع السنة الأولى من الهجرة | فصل تأسيس مسجد قباء | فصل في إسلام عبد الله بن سلام | فصل خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ | ذكر خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ | فصل في بناء مسجده الشريف ومقامه بدار أبي أيوب | تنبيه على فضل هذا المسجد الشريف | فصل بناء الحجرات لرسول الله حول مسجده الشريف | فصل فيما أصاب المهاجرين من حمى المدينة | فصل في عقده عليه السلام الألفة بين المهاجرين والأنصار بالكتاب | دستور المدينة | فصل في مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار | فصل في موت أبي أمامة أسعد بن زرارة | فصل في ميلاد عبد الله بن الزبير في شوال سنة الهجرة | فصل بناؤه صلى الله عليه وسلم بعائشة | فصل الزيادة في صلاة الحضر في السنة الأولى من الهجرة | فصل في الأذان ومشروعيته | فصل في سرية حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه | فصل في سرية عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب | فصل في سرية سعد بن أبي وقاص إلى الخرار | فصل ميلاد عبد الله بن الزبير وهو أول مولود ولد في الإسلام | من توفي في السنة الأولى من الصحابة | ذكر ما وقع في السنة الثانية من الهجرة | كتاب المغازي | فصل كفر بعض المنافقين من الأوس والخزرج بعد إسلامهم | فصل في إسلام بعض أحبار يهود نفاقا | أول المغازي وهي غزوة الأبواء أو غزوة ودان | سرية عبيدة بن الحارث | فصل في سرية حمزة بن عبد المطلب | غزوة بواط من ناحية رضوى | غزوة العشيرة | غزوة بدر الأولى | باب سرية عبد الله بن جحش | فصل في تحويل القبلة في سنة ثنتين من الهجرة قبل وقعة بدر | فصل في فريضة شهر رمضان سنة ثنتين قبل وقعة بدر | غزوة بدر العظمى يوم الفرقان يوم التقى الجمعان | مقتل أبي البختري بن هشام | فصل في مقتل أمية بن خلف | مقتل أبي جهل لعنه الله | ردُّه عليه السلام عين قتادة | فصل قصة أخرى شبيهة بها | طرح رؤوس الكفر في بئر يوم بدر | فصل اختلاف الصحابة في الأسارى على قولين | فصل عدد القتلى والأسرى من المشركين يوم بدر سبعون | فصل اختلاف الصحابة يوم بدر في المغانم لمن تكون | فصل رجوع النبي عليه السلام من بدر إلى المدينة | مقتل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط لعنهما الله | ذكر فرح النجاشي بوقعة بدر رضي الله عنه | وصول خبر مصاب أهل بدر إلى أهاليهم بمكة | بعث قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فداء أسراهم | فصل نزول سورة الأنفال في بدر | فصل تسمية من شهد بدرا من المسلمين | أسماء أهل بدر مرتبة على حروف المعجم وأوله حرف الألف | حرف الباء | حرف التاء | حرف الثاء | حرف الجيم | حرف الحاء | حرف الخاء | حرف الذال | حرف الراء | حرف الزاي | حرف السين | حرف الشين | حرف الصاد | حرف الضاد | حرف الطاء | حرف الظاء | حرف العين | حرف الغين | حرف الفاء | حرف القاف | حرف الكاف | حرف الميم | حرف النون | حرف الهاء | حرف الواو | حرف الياء | باب الكنى | فصل عدد الذين شهدوا بدرا ثلثمائة وأربعة عشر رجلا | فصل في فضل من شهد بدرا من المسلمين | قدوم زينب بنت الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة | ما قيل من الأشعار في بدر العظمى | فصل رثاء المشركين قتلاهم يوم بدر | غزوة بني سليم في سنة ثنتين من الهجرة | فصل في غزوة السويق | فصل في دخول علي بن أبي طالب على زوجته فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم | فصل جمل من الحوادث سنة ثنتين من الهجرة