→ ذكر فرح النجاشي بوقعة بدر رضي الله عنه | البداية والنهاية – الجزء الثالث وصول خبر مصاب أهل بدر إلى أهاليهم بمكة ابن كثير |
بعث قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فداء أسراهم ← |
قال ابن إسحاق: وكان أول من قدم مكة بمصاب قريش الحيسمان بن عبد الله الخزاعي فقالوا له: ما وراءك؟
قال: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف، وزمعة بن الأسود ونبيه ومنبه، وأبو البختري بن هشام.
فلما جعل يعدد أشراف قريش، قال صفوان ابن أمية: والله لن يعقل هذا، فسلوه عني، فقالوا: ما فعل صفوان بن أمية؟
قال: هو ذاك جالسا في الحجر، قد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا.
قال موسى بن عقبة: ولما وصل الخبر إلى أهل مكة وتحققوه قطعت النساء شعورهم وعقرت خيول كثيرة ورواحل.
وذكر السهيلي عن كتاب (الدلائل) لقاسم بن ثابت أنه قال: لما كانت وقعة بدر سمعت أهل مكة هاتفا من الجن يقول:
أزار الحنيفيون بدرا وقيعةً * سينقضُّ منها ركن كسرى وقيصرا
أبادت رجالا من لؤي وأبرزت * خرائد يضربن الترائب حسرا
فيا ويح من أمسى عدو محمد * لقد جار عن قصد الهدى وتحيرا
قال ابن إسحاق: وحدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، عن عكرمة مولى ابن عباس قال: قال أبو رافع مولى رسول الله ﷺ: كنت غلاما للعباس ابن عبد المطلب، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، فأسلم العباس، وأسلمت أم الفضل، وكان العباس يهاب قومه، ويكره خلافهم، وكان يكتم إسلامه، وكان ذا مال كثير متفرق في قومه.
وكان أبو لهب قد تخلف عن بدر فبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة - وكذلك كانوا صنعوا، لم يتخلف منهم رجل إلا بعث مكانه رجلا - فلما جاءه الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش، كبته الله وأخزاه، ووجدنا في أنفسنا قوة وعزا.
قال: وكنت رجلا ضعيفا وكنت أعمل الأقداح أنحتها في حجرة زمزم، فوالله إني لجالس فيها أنحت أقداحي، وعندي أم الفضل جالسة، وقد سرَّنا ما جاءنا من الخبر.
إذ أقبل أبو لهب يجر رجليه بشر، حتى جلس على طنب الحجرة فكان ظهره إلى ظهري، فبينا هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان - واسمه المغيرة - ابن الحارث بن عبد المطلب قد قدم.
قال: فقال أبو لهب: هلم إلي فعندك لعمري الخبر، قال: فجلس إليه والناس قيام عليه، فقال: يا ابن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس؟
قال: والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاؤا، ويأسروننا كيف شاؤا، وأيم الله مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجالا بيضا على جبل بلق بين السماء والأرض، والله ما تليق شيئا ولا يقوم لها شيء.
قال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة بيدي ثم قلت: تلك والله الملائكة.
قال: فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة، قال: وثاورته فاحتملني وضرب بي الأرض، ثم برك علي يضربني - وكنت رجلا ضعيفا - فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة فأخذته فضربته به ضربة فبلغت في رأسه شجة منكرة.
وقالت: استضعفته إن غاب عنه سيده، فقام موليا ذليلا فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة فقتلته.
زاد يونس عن ابن إسحاق: فلقد تركه ابناه بعد موته ثلاثا ما دفناه حتى أنتن.
وكانت قريش تتقي هذه العدسة كما تتقي الطاعون حتى قال لهم رجل من قريش: ويحكما ألا تستحيان أن أباكما قد أنتن في بيته لا تدفنانه؟
فقالا: إنا نخشى عدوة هذه القرحة.
فقال: انطلقا فأنا أعينكما عليه فوالله ما غسلوه إلا قذفا بالماء عليه من بعيد ما يدنون منه، ثم احتملوه إلى أعلا مكة فأسندوه إلى جدار، ثم رضموا عليه الحجارة.
قال يونس عن ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة أم المؤمنين أنها كانت لا تمرُّ على مكان أبي لهب هذا إلا تسترت بثوبها حتى تجوزه.
قال ابن إسحاق وحدثني يحيى بن عباد قال: ناحت قريش على قتلاهم، ثم قالوا: لا تفعلوا يبلغ محمدا وأصحابه فيشمتوا بكم، ولا تبعثوا في أسراكم حتى تستأنسوا بهم لا يأرب عليكم محمد وأصحابه في الفداء.
قلت: وكان هذا من تمام ما عذب الله به أحياءهم في ذلك الوقت، وهو تركهم النوح على قتلاهم، فإن البكاء على الميت مما يبل فؤاد الحزين.
قال ابن إسحاق: وكان الأسود بن المطلب قد أصيب له ثلاثة من ولده، زمعة، وعقيل، والحارث، وكان يحب أن يبكي على بنيه قال: فبينما هو كذلك إذ سمع نائحة من الليل، فقال لغلام له - وكان قد ذهب بصره -: أنظر هل أحل النحب هل بكت قريش على قتلاها لعلي أبكي على أبي حكيمة - يعني: ولده زمعة - فإن جوفي قد احترق؟
قال: فلما رجع إليه الغلام قال: إنما هي امرأة تبكي على بعير لها أضلته.
قال: فذاك حين يقول الأسود:
أتبكي أن أضل لها بعير * ويمنعها من النوم السهود
فلا تبكي على بكر ولكن * على بدر تقاصرت الجدود
على بدر سراة بني هصيص * ومخزوم ورهط أبي الوليد
وبكى إن بكيت أبا عقيل * وبكى حارثا أسد الأسود
وبكيهم ولا تُسمي جميعا * وما لأبي حكيمة من نديد
ألا قد ساد بعدهم رجال * ولولا يوم بدر لم يسودوا