→ فصل تشريف المدينة بهجرته عليه السلام | البداية والنهاية – الجزء الثالث وقائع السنة الأولى من الهجرة ابن كثير |
فصل تأسيس مسجد قباء ← |
اتفق الصحابة رضي الله عنهم في سنة ست عشرة - وقيل: سنة سبع عشرة، أو ثماني عشرة - في الدولة العمرية على جعل ابتداء التاريخ الإسلامي من سنة الهجرة، وذلك أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه رفع إليه صك - أي: حجة - لرجل على آخر، وفيه: إنه يحل عليه في شعبان.
فقال عمر: أي شعبان؟ أشعبان هذه السنة التي نحن فيها أو السنة الماضية، أو الآتية؟
ثم جمع الصحابة فاستشارهم في وضع تاريخ يتعرفون به حلول الديون وغير ذلك.
فقال قائل: أرخوا كتاريخ الفرس فكره ذلك وكانت الفرس يؤرخون بملكوهم واحدا بعد واحد.
وقال قائل: أرخوا بتاريخ الروم. وكانوا يؤرخون بملك اسكندر بن فلبس المقدوني فكره ذلك.
وقال آخرون: أرخوا بمولد رسول الله ﷺ، وقال آخرون: بل بمبعثه، وقال آخرون: بل بهجرته.
وقال آخرون: بل بوفاته عليه السلام.
فمال عمر رضي الله عنه إلى التاريخ بالهجرة لظهوره واشتهاره واتفقوا معه على ذلك.
وقال البخاري في (صحيحه): التاريخ ومتى أرخوا التاريخ.
حدثنا عبد الله بن مسلم، ثنا عبد العزيز، عن أبيه، عن سهل بن سعد قال: ما عدوا من مبعث النبي ﷺ ولا من وفاته، ما عدوا إلا من مقدمه المدينة.
وقال الواقدي: حدثنا ابن أبي الزناد، عن أبيه قال: استشار عمر في التاريخ فأجمعوا على الهجرة.
وقال أبو داود الطيالسي، عن قرة بن خالد السدوسي، عن محمد بن سيرين قال: قام رجل إلى عمر فقال: أرخوا.
فقال: ما أرخوا؟
فقال: شيء تفعله الأعاجم يكتبون في شهر كذا من سنة كذا.
فقال عمر: حسن فأرخوا.
فقالوا: من أي السنين نبدأ؟
فقالوا: من مبعثه، وقالوا: من وفاته.
ثم أجمعوا على الهجرة.
ثم قالوا: وأي الشهور نبدأ؟
قالوا: رمضان.
ثم قالوا: المحرم، فهو مصرف الناس من حجهم وهو شهر حرام فاجتمعوا على المحرم.
وقال ابن جرير: حدثنا قتيبة، ثنا نوح بن قيس الطائي، عن عثمان بن محصن: أن ابن عباس كان يقول في قوله تعالى: { وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ } [الفجر:1-2] : هو المحرم فجر السنة.
وروى عن عبيد بن عمير قال: إن المحرم شهر الله وهو رأس السنة يكسي البيت، ويؤرخ به الناس، ويضرب فيه الورق.
وقال أحمد: حدثنا روح بن عبادة، ثنا زكريا بن إسحاق، عن عمرو بن دينار قال: إن أول من ورخ الكتب يعلى بن أمية باليمن، وأن رسول الله ﷺ قدم المدينة في ربيع الأول وأن الناس أرخوا لأول السنة.
وروى محمد بن إسحاق، عن الزهري، وعن محمد بن صالح، عن الشعبي أنهما قالا: أرخ بنو إسماعيل من نار إبراهيم، ثم أرخوا من بنيان إبراهيم وإسماعيل البيت، ثم أرخوا من موت كعب بن لؤي، ثم أرخوا من الفيل، ثم أرخ عمر بن الخطاب من الهجرة وذلك سنة سبع عشرة - أو ثماني عشرة - وقد ذكرنا هذا الفصل محررا بأسانيده وطرقه في السيرة العمرية ولله الحمد.
والمقصود: أنهم جعلوا ابتداء التاريخ الإسلامي من سنة الهجرة، وجعلوا أولها من المحرم فيما اشتهر عنهم وهذا هو قول جمهور الأئمة.
وحكى السهيلي وغيره عن الإمام مالك أنه قال: أول السنة الإسلامية ربيع الأول لأنه الشهر الذي هاجر فيه رسول الله ﷺ.
وقد استدل السهيلي على ذلك في موضع آخر بقوله تعالى: { لمسجد أسس على التقوى من أول يوم } أي: من أول يوم حلول النبي ﷺ المدينة، وهو أول يوم من التاريخ كما اتفق الصحابة على أول سني التاريخ عام الهجرة.
ولا شك أن هذا الذي قاله الإمام مالك رحمه الله مناسب، ولكن العمل على خلافه، وذلك لأن أول شهور العرب المحرم فجعلوا السنة الأولى سنة الهجرة، وجعلوا أولها المحرم كما هو المعروف لئلا يختلط النظام والله أعلم.
فنقول وبالله المستعان: استهلت سنة الهجرة المباركة ورسول الله ﷺ مقيم بمكة، وقد بايع الأنصار بيعة العقبة الثانية كما قدمنا في أوسط أيام التشريق وهي ليلة الثاني عشر من ذي الحجة قبل سنة الهجرة.
ثم رجع الأنصار وأذن رسول الله ﷺ للمسلمين في الهجرة إلى المدينة فهاجر من هاجر من أصحابه إلى المدينة حتى لم يبق بمكة من يمكنه الخروج إلا رسول الله ﷺ، وحبس أبو بكر نفسه على رسول الله ﷺ ليصحبه في الطريق كما قدمنا ثم خرجا على الوجه الذي تقدم بسطه.
وتأخر علي بن أبي طالب بعد النبي ﷺ بأمره ليؤدي ما كان عنده عليه السلام من الودائع، ثم لحقهم بقباء فقدم رسول الله ﷺ يوم الاثنين قريبا من الزوال وقد اشتد الضحاء.
قال الواقدي وغيره: وذلك لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول.
وحكاه ابن إسحاق إلا أنه لم يعرج عليه ورجَّح أنه لثنتي عشرة ليلة خلت منه، وهذا هو المشهور الذي عليه الجمهور.
وقد كانت مدة إقامته عليه السلام بمكة بعد البعثة ثلاث عشرة سنة في أصح الأقوال، وهو رواية حماد بن سلمة عن أبي جمرة الضبعي عن ابن عباس.
قال: بعث رسول الله ﷺ لأربعين سنة، وأقام بمكة ثلاث عشرة سنة.
وهكذا روى ابن جرير، عن محمد بن معمر، عن روح بن عبادة، عن زكريا بن إسحاق، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس أنه قال: مكث رسول الله ﷺ بمكة ثلاث عشرة.
وتقدم أن ابن عباس كتب أبيات صرمة بن أبي أنس بن قيس:
ثوى في قريش بضع عشرة حجة * يذكر لو يلقى صديقا مواتيا
وقال الواقدي: عن إبراهيم بن إسماعيل، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس: أنه استشهد بقول صرمة.
ثوى في قريش بضع عشرة حجة * يذكر لو يلقى صديقا مواتيا
وهكذا رواه ابن جرير، عن الحارث، عن محمد بن سعد، عن الواقدي خمس عشرة حجة، وهو قول غريب جدا.
وأغرب منه ما قال ابن جرير: حدثت عن روح بن عبادة، ثنا سعيد، عن قتادة قال: نزل القرآن على رسول الله ﷺ ثماني سنين بمكة، وعشرا بالمدينة.
وكان الحسن يقول: عشرا بمكة، وعشرا بالمدينة، وهذا القول الآخر الذي ذهب إليه الحسن البصري من أنه أقام بمكة عشر سنين ذهب إليه أنس بن مالك وعائشة وسعيد بن المسيب وعمرو بن دينار فيما رواه ابن جرير عنهم.
وهو رواية عن ابن عباس رواها أحمد بن حنبل، عن يحيى بن سعيد، عن هشام، عن عكرمة، عن ابن عباس.
قال: أنزل على النبي ﷺ وهو ابن ثلاث وأربعين، فمكث بمكة عشرا.
وقد قدمنا عن الشعبي أنه قال: قرن إسرافيل برسول الله ﷺ ثلاث سنين يلقي إليه الكلمة والشيء، وفي رواية: يسمع حسه ولا يرى شخصه، ثم كان بعد ذلك جبريل.
وقد حكى الواقدي عن بعض مشايخه: أنه أنكر قول الشعبي هذا، وحاول ابن جرير أن يجمع بين قول من قال إنه عليه السلام أقام بمكة عشرا، وقول من قال ثلاث عشرة بهذا الذي ذكره الشعبي والله أعلم.