قال يونس عن ابن إسحاق: فنزل رسول الله ﷺ بخيمة أم معبد واسمها عاتكة بنت خلف بن معبد بن ربيعة بن أصرم فأرادوا القرى.
فقالت: والله ما عندنا طعام ولا لنا منحة ولا لنا شاة إلا حائل، فدعا رسول الله ﷺ ببعض غنمها فمسح ضرعها بيده ودعا الله، وحلب في العس حتى أرغى وقال: «اشربي يا أم معبد».
فقالت: اشرب فأنت أحق به، فرده عليها فشربت ثم، دعا بحائل أخرى ففعل مثل ذلك بها فشربه، ثم دعا بحائل أخرى ففعل بها مثل ذلك فسقى دليله، ثم دعا بحائل أخرى ففعل بها مثل ذلك فسقى عامرا، ثم تروح.
وطلبت قريش رسول الله ﷺ حتى بلغوا أم معبد فسألوا عنه.
فقالوا: أرأيت محمدا من حليته كذا وكذا؟ فوصفوه لها.
فقالت: ما أدري ما تقولون، قدمنا فتى حالب الحائل.
قالت قريش: فذاك الذي نريد.
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن معمر، حدثنا يعقوب بن محمد، حدثنا عبد الرحمن بن عقبة، بن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله، ثنا أبي عن أبيه عن جابر قال: لما خرج رسول الله ﷺ وأبو بكر مهاجرين فدخلا الغار، إذا في الغار جحر فألقمه أبو بكر عقبه حتى أصبح مخافة أن يخرج على رسول الله ﷺ منه شيء.
فأقاما في الغار ثلاث ليال ثم خرجا حتى نزلا بخيمات أم معبد فأرسلت إليه أم معبد أني أرى وجوها حسانا، وإن الحي أقوى على كرامتكم مني، فلما أمسوا عندها بعثت مع ابن لها صغير بشفرة وشاة، فقال رسول الله ﷺ: «أردد الشفرة وهات لنا فرقا» يعني: القدح.
فأرسلت إليه أن لا لبن فيها ولا ولد.
قال: «هات لنا فرقا» فجاءت بفرق فضرب ظهرها فاجترت ودرت فحلب فملأ القدح فشرب وسقى أبا بكر، ثم حلب فبعث فيه إلى أم معبد.
ثم قال البزار: لا نعلمه يروى إلا بهذا الإسناد.
وعبد الرحمن بن عقبة لا نعلم أحدا حدث عنه إلا يعقوب بن محمد وإن كان معروفا في النسب.
وروى الحافظ البيهقي من حديث يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، ثنا عبد الرحمن بن الأصبهاني، سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
قال: خرجت مع رسول الله ﷺ من مكة فانتهينا إلى حي من أحياء العرب، فنظر رسول الله ﷺ إلى بيت منتحيا فقصد إليه، فلما نزلنا لم يكن فيه إلا امرأة فقالت: يا عبد الله! إنما أنا امرأة وليس معي أحد، فعليكما بعظيم الحي إن أردتم القرى، قال: فلم يجبها وذلك عند المساء، فجاء ابن لها بأعنز لها يسوقها، فقالت: يا بني انطلق بهذه العنز والشفرة إلى هذين الرجلين فقل لهما تقول لكما أمي: اذبحا هذه وكلا وأطعمانا.
فلما جاء قال له النبي ﷺ: «انطلق بالشفرة وجئني بالقدح».
قال: إنها قد عزبت وليس بها لبن.
قال: «انطلق».
فجاء بقدح فمسح النبي ﷺ ضرعها، ثم حلب حتى ملأ القدح.
ثم قال: «انطلق به إلى أمك».
فشربت حتى رويت، ثم جاء به فقال: «انطلق بهذه وجئني بأخرى».
ففعل بها كذلك ثم سقى أبا بكر، ثم جاء بأخرى ففعل بها كذلك، ثم شرب النبي ﷺ، فبتنا ليلتنا، ثم انطلقنا، فكانت تسميه المبارك.
وكثرت غنمها حتى جلبت جلبا إلى المدينة، فمر أبو بكر فرأى ابنها فعرفه، فقال: يا أمه هذا الرجل الذي كان مع المبارك.
فقامت إليه فقالت: يا عبد الله من الرجل الذي كان معك؟
قال: أو ما تدرين من هو؟
قالت: لا.
قال: هو نبي الله.
قالت: فأدخلني عليه.
قال: فأدخلها فأطعمها رسول الله ﷺ وأعطاها - زاد ابن عبدان في روايته - قالت: فدلني عليه.
فانطلقت معي وأهدت لرسول الله ﷺ شيئا من أقط ومتاع الأعراب.
قال: فكساها وأعطاها.
قال: ولا أعلمه إلا قال: وأسلمت، إسناد حسن.
وقال البيهقي: هذه القصة شبيهة بقصة أم معبد، والظاهر أنها هي والله أعلم..
وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي.
قالا ثنا أبو العباس الأصم، ثنا الحسن بن مكرم، حدثني أبو أحمد بشر بن محمد السكري، ثنا عبد الملك بن وهب المذحجي، ثنا أبجر بن الصباح عن أبي معبد الخزاعي أن رسول الله ﷺ خرج ليلة هاجر من مكة إلى المدينة هو وأبو بكر وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر ودليلهم عبد الله بن أريقط الليثي، فمروا بخيمتي أم معبد الخزاعية، وكانت أم معبد امرأة برزة جلدة تحتبي وتجلس بفناء الخيمة فتطعم وتسقي، فسألوها هل عندها لحم أو لبن يشترونه منها؟ فلم يجدوا عندها شيء من ذلك.
وقالت: لو كان عندنا شيء ما أعوذكم القرى، وإذا القوم مرملون مسنتون.
فنظر رسول الله ﷺ فإذا شاة في كسر خيمتها، فقال: «ما هذه الشاة يا أم معبد؟».
فقالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم.
قال: «فهل بها من لبن».
قالت: هي أجهد من ذلك.
قال: «تأذنين لي أن أحلبها؟».
قالت: إن كان بها حلب فاحلبها.
فدعا رسول الله ﷺ بالشاة فمسحها وذكر اسم الله، ومسح ضرعها وذكر اسم الله، ودعا بإناء لها يربض الرهط فتفاجت واجترت فحلب فيها تجا حتى ملأه فسقاها وسقى أصحابه فشربوا عللا بعد نهل، حتى إذا رووا شرب آخرهم وقال: «ساقي القوم آخرهم».
ثم حلب فيه ثانيا عودا على بدء فغادره عندها ثم ارتحلوا، قال: فقلما لبث أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافا يتساوكن هزلى لا نِقَي بهن، مخهن قليل فلما رأى اللبن عجب وقال: من أين هذا اللبن يا أم معبد، ولا حلوبة في البيت والشاة عازب؟
فقالت: لا والله إنه مرَّ بنا رجل ملوك كان من حديثه كيت وكيت.
فقال: صفيه لي فوالله إني لأراه صاحب قريش الذي تطلب.
فقالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة حسن الخلق مليح الوجه لم تعبه ثجلة ولم تزر به صعلة قسيم وسيم في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صحل.
أحول أكحل أزج أقرن في عنقه سطع وفي لحيته كثاثة.
إذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلم سما وعلاه البهاء، حلو المنطق، فصل، لا نزر ولا هذر كأن منطقه خرزات نظم ينحدرن، أبهى الناس وأجمله من بعيد، وأحسنه من قريب.
ربعة لا تنساه عين من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرا، وأحسنهم قدا له رفقاء يحفون به إن قال استمعوا لقوله، وإن أمر تبادروا لأمره، محفود محشود، لا عابس ولا معتد، فقال: - يعني: بعلها - هذا والله صاحب قريش الذي تطلب، ولو صادفته لالتمست أن أصحبه، ولأجهدن إن وجدت إلى ذلك سبيلا، قال: وأصبح صوت بمكة عال بين السماء والأرض يسمعونه ولا يرون من يقول وهو يقول:
جزى الله رب الناس خير جزائه * رفيقين حلا خيمتي أم معبد
هما نزلا بالبر وارتحلا به * فأفلح من أمسى رفيق محمد
فيال قصي ما زوى الله عنكم * به من فعال لا تجُارى وسؤدد
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها * فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد
دعاها بشاة حائل فتحلبت * له بصريح ضرة الشاة مربد
فغادره رهنا لديها لحالب * يدر لها في مصدر ثم مورد
قال: وأصبح الناس - يعني: بمكة - وقد فقدوا نبيهم، فأخذوا على خيمتي أم معبد حتى لحقوا برسول الله ﷺ قال: وأجابه حسان بن ثابت:
لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم * وقد سر من يسري إليهم ويغتدي
ترحل عن قوم فزالت عقولهم * وحل على قوم بنور مجدد
هداهم به بعد الضلالة ربهم * وأرشدهم من يتبع الحق يرشد
وهل يستوي ضلال قوم تسفهوا * عمىً وهداة يهتدون بمهتد
نبي يرى ما لا يرى الناس حوله * ويتلو كتاب الله في كل مشهد
وإن قال في يوم مقالة غائب * فتصديقها في اليوم أو في ضحى الغد
ليهن أبا بكر سعادة جده * بصحبته، من يسعد الله يسعد
ويهن بني كعب مكان فتاتهم * ومقعدها للمسلمين بمرصد
قال: - يعني: عبد الملك بن وهب - فبلغني أن أبا معبد أسلم وهاجر إلى النبي ﷺ.
وهكذا روى الحافظ أبو نعيم من طريق عبد الملك بن وهب المذحجي فذكر مثله سواء وزاد في آخره قال عبد الملك: بلغني أن أم معبد هاجرت وأسلمت ولحقت برسول الله ﷺ.
ثم رواه أبو نعيم من طرق، عن بكر بن محرز الكلبي الخزاعي، عن أبيه محرز بن مهدي، عن حرام بن هشام بن حبيش بن خالد، عن أبيه، عن جده حبيش بن خالد صاحب رسول الله ﷺ أن رسول الله ﷺ حين أخرج من مكة منها مهاجرا هو وأبو بكر وعامر بن فهيرة ودليلهما عبد الله بن أريقط الليثي فمروا بخيمة أم معبد وكانت امرأة برزة جلدة تحتبي بفناء القبة وذكر مثل ما تقدم سواء.
قال: وحدثناه - فيما أظن - محمد بن أحمد بن علي بن مخلد، ثنا محمد بن يونس بن موسى - يعني: الكديمي - ثنا عبد العزيز بن يحيى بن عبد العزيز مولى العباس بن عبد المطلب، ثنا محمد بن سليمان بن سليط الأنصاري، حدثني أبي، عن أبيه سليط البدري.
قال: لما خرج رسول الله ﷺ في الهجرة ومعه أبو بكر وعامر بن فهيرة وابن أريقط يدلهم على الطريق، مر بأم معبد الخزاعية وهي لا تعرفه فقال لها: «يا أم معبد هل عندك من لبن؟»
قالت: لا والله إن الغنم لعازبة.
قال: «فما هذه الشاة؟»
قالت: خلفها الجهد عن الغنم.
ثم ذكر تمام الحديث كنحو ما تقدم.
ثم قال البيهقي: يحتمل أن هذه القصص كلها واحدة، ثم ذكر قصة شبيهة بقصة شاة أم معبد الخزاعية فقال: حدثنا أبو عبد الله الحافظ - إملاء - حدثنا أبو بكر أحمد بن إسحاق بن أيوب، أخبرنا محمد بن غالب، ثنا أبو الوليد، ثنا عبد الله بن إياد بن لقيط، ثنا إياد بن لقيط، عن قيس بن النعمان.
قال: لما انطلق النبي ﷺ وأبو بكر مستخفين، مروا بعبد يرعى غنما فاستسقياه اللبن، فقال: ما عندي شاة تحلب، غير أن ههنا عناقا حملت أول الشتاء، وقد أخدجت وما بقي لها من لبن، فقال: «ادع بها»
فدعا بها فاعتقلها النبي ﷺ ومسح ضرعها ودعا حتى أنزلت، وجاء أبو بكر بمجن فحلب فسقى أبا بكر، ثم حلب فسقى الراعي، ثم جلس فشرب.
فقال الراعي: بالله من أنت؟ فوالله ما رأيت مثلك قط.
قال: «أوتراك تكتم علي حتى أخبرك؟»
قال: نعم!
قال: «فإني محمد رسول الله».
فقال: أنت الذي تزعم قريش أنه صابئ؟
قال: «إنهم ليقولون ذلك؟».
قال: فإني أشهد أنك نبي، وأشهد أن ما جئت به حق، وأنه لا يفعل ما فعلت إلا نبي وأنا متبعك.
قال: «إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا فإذا بلغك أني قد ظهرت فأتنا».
ورواه أبو يعلى الموصلي، عن جعفر بن حميد الكوفي، عن عبد الله بن إياد بن لقيط به.
وقد ذكر أبو نعيم ههنا قصة عبد الله بن مسعود فقال: حدثنا عبد الله بن جعفر، ثنا يونس بن حبيب، ثنا أبو داود، ثنا حماد بن سلمة، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله بن مسعود.
قال: كنت غلاما يافعا أرعى غنما لعتبة بن أبي معيط بمكة، فأتى رسول الله ﷺ وأبو بكر - وقد فرَّا من المشركين - فقال: «يا غلام عندك لبن تسقينا؟»
فقلت: إني مؤتمن ولست بساقيكما.
فقالا: «هل عندك من جذعة لم ينز عليها الفحل بعد؟»
قلت: نعم!
فأتيتهما بها، فاعتقلها أبو بكر، وأخذ رسول الله ﷺ الضرع فدعا فحفل الضرع، وجاء أبو بكر بصخرة متقعرة فحلب فيها.
ثم شرب هو وأبو بكر وسقياني، ثم قال للضرع: «أقلص أقلص».
فلما كان بعد أتيت رسول الله ﷺ فقلت: علمني من هذا القول الطيب - يعني: القرآن -
فقال رسول الله ﷺ: «إنك غلام معلم» فأخذت من فيه سبعين سورة ما ينازعني فيها أحد.
فقوله في هذا السياق: وقد فرَّا من المشركين ليس المراد منه وقت الهجرة، إنما ذلك في بعض الأحوال قبل الهجرة.
فإن ابن مسعود ممن أسلم قديما وهاجر إلى الحبشة ورجع إلى مكة كما تقدم، وقصته هذه صحيحة ثابتة في الصحاح وغيرها والله أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن مصعب بن عبد الله - هو الزبيري - حدثني أبي، عن فائد مولى عبادل قال: خرجت مع إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة فأرسل إبراهيم بن عبد الرحمن بن سعد حتى إذا كنا بالعرج أتى ابن سعد - وسعد هو الذي دل رسول الله ﷺ على طريق ركوبه - فقال إبراهيم: أخبرني ما حدَّثك أبوك؟
قال ابن سعد: حدثني أبي أن رسول الله ﷺ أتاهم ومعه أبو بكر - وكانت لأبي بكر عندنا بنت مسترضعة - وكان رسول الله ﷺ أراد الاختصار في الطريق إلى المدينة، فقال لها سعد: هذا الغائر من ركوبه وبه لصان من أسلم يقال لهما: المهانان.
فإن شئت أخذنا عليهما، فقال النبي ﷺ: «خذ بنا عليهما»
قال سعد: فخرجنا حتى إذا أشرفنا إذا أحدهما يقول لصاحبه هذا اليماني.
فدعاهما رسول الله ﷺ فعرض عليهما الإسلام فأسلما، ثم سألهما عن أسمائهما فقالا: نحن المهانان.
فقال: «بل أنتما المكرمان» وأمرهما أن يقدما عليه المدينة فخرجنا حتى إذا أتينا ظاهر قباء فتلقاه بنو عمرو بن عوف فقال رسول الله ﷺ: «أين أبو أمامة أسعد بن زرارة؟»
فقال سعد بن خيثمة: إنه أصاب قبلي يا رسول الله أفلا أخبره ذلك؟
ثم مضى رسول الله ﷺ حتى إذا طلع على النخل فإذا الشرب مملوء، فالتفتَ رسول الله إلى أبي بكر فقال: «يا أبا بكر هذا المنزل رأيتني أنزل إلى حياض كحياض بني مدلج» انفرد به أحمد.