فصل
وقد أخرج الشيطان للتحليل حيلة أخرى وهي أن يزوجها الرجل المطلق من عبده بنية أن يبيعه منها أو يهبه لها فإذا وطئها العبد باعها ذلك العبد أو بعضه أو وهبها ذلك والمرأة إذا مكلت زوجها أوشقصا منه انفسخ والنكاح والمخادعون يؤثرون هذه الحيلة لشيئين:
أحدهما: إن الفرقة هنا تكون بيد الزوج المطلق أو الزوجة فلا يتمكن الزوج من الإمتناع من الفرقة بخلاف الصورة الأولى فإنه قد يمتنع من الطلاق فيمكنه ذلك على القول بصحة النكاح
الثاني: زعموا أنه أستر لهما من إدخال أجنبي على المرأة فإن إيطاء عبده ليس كإيطاء من يساميه في الحرية ثم ذهب بعد الشذوذ إلى أن وطء الصغير الذي لا يجامع مثله يحلها فإذا انضم إلى ذلك أنه يجبره على النكاح صار بيد المطلق العقد والفسخ من غير ما يعارضه وإن كان كبيرا فمنهم من يجبره على النكاح فيصير بيد السيد العقد والفسخ أيضا وجعل بعض أصحابنا في هذه الصورة أعني فيما إذا زوجها من عبده الكبير احتمالا لأن الزوج لم ينو التحليل وإنما نواه غيره والعبرة في التحليل بنية الزوج لا بنية غيره
وهذه الصورة أبلغ في المخادعة لله تبارك وتعالى والإستهزاء بآيات الله والتلاعب بحدود الله فإنه هناك كان المحلل هو الذي بيده الفرقة لا بيد غيره وهنا جعلت الفرقة بيد المطلق والمرأة لا سيما إن كانت الزوجة تحت حجر الزوج بأن يكون وصيا لها فيرى أن يهبها العبد ويقبله هو أو يبيعها إياه إن كان ممن يستحل أن يبيع الوصي لليتيم فإن من فتح باب المخادعة لم يقف عند حد يتعدى ما أمكنه من حدود الله وينتهك ما استطاع من محارم الله فإنه في مثل هذه الصورة يبقى المطلق مستقلا بفسخ النكاح ثم إنه من المعلوم أن العبد لا يمكنه النكاح الصحيح إلا بإذن سيده فإذا أذن السيد له في النكاح ومن نية هذا السيد أن يفسخ نكاحه كان الزوج أيضا مخدوعا ممكورا به حيث أذن له في نكاح باشره وليس القصد به نكاحا وإنما القصد به سفاح فهناك إنما وقعت المخادعة في حق الله فقط وهنا وقعت المخادعة في حق الله وحق آدمي وهذا هو الزوج واللعنة التي وجبت هناك على المحلل والمحلل له يصير كلتاهما هنا على المطلق وهو المحلل له وعلى الزوجة فيقتسمان لعنة المحلل وينفرد المطلق بلعنة المحلل له أو تشركه المرأة فيها
ومن أسرار الحديث أنه يعم هذا لفظا كما يعمه معنى فإن العطف قد يكون للتغاير في الصفات كما يكون للتغاير في الذوات فيقال لهذا لعن الله المحلل والمحلل له وإن كانا وصفين لشيء واحد فلهذا قلنا هذا أغلط في التحريم حيث اجتمع عليه لعنتان فإن كان هذا العبد قد واطأهم أخذ بنصيبه من اللعنة من غير أن ينقص من نصيب السيد شيئا لأن عقد التحليل إنما تم برضاه ورضى السيد كما لو كان المحلل عبدا لغير المطلق فإنه إذا حلل بإذن السيد حقت اللعنة عليهما ويزيده قبحا أن الزوج هنا عبد ليس بكفء ونكاحه إما منقوص أو باطل على ما فيه من الاختلاف ومن يصححه فمنهم من يشترط رضى جميع الأولياء
ثم اعلم أن التحليل بالعبد قد يكون من غير المطلق بل من صديق له يزوجها بعبده ويواطئها على أن يملكها إياه فإن لم يعلم الزوج المطلق بذلك فهو كما لو اعتقد الزوج التحليل هناك وعلمت به المرأة دون المطلق وإن علم فهو كما لو علم هناك وكما ذكرناه من الأدلة على التحليل فهي حاصلة هنا فإن قول النبي ﷺ [ لعن الله المحلل ] وإن كان الغالب إنما يقصد به الزوج فالسيد هنا بمنزلته واللفظ يشمله وإن كان النبي ﷺ لم يقصده بلفظ المحلل فلا ريب أنه في معناه وأولى ونظير هذا أن يزوجها رجل بعبده الصغير أو ابنه الصغير أو المجنون بقصد أن يطلق عليهما عند من يقول إن له أن يطلق على عبده وابنه الصغيرين أو المجنونين أو بنية أن يخلعها منه بأن يواطئها أو يواطىء غيرها على الخلع فإن جواز الخلع لولي الصبي والمجنون أقوى من جواز الطلاق ونظير هذا أن يعقد ولي الصبي المجنون له عقود حيل من بيع أو إجارة أو قرض
فإن الحيل التي يحتالها الولي لليتيم في ماله بمنزلة ما يحتاله المرء في مال نفسه وقريب منه إذا أذن السيد لعبده في معاملات من الحيل فإنه بمنزلة أو يعامل السيد نفسه تلك المعاملة حيث حصل غرضه بفعل عبده كحصوله بفعل نفسه والاحتمال الذي جعل في مذهبنا غير محتمل أصلا فإن قوله المعتبر في التحليل بنية الزوج كلام غير سديد فمن الذي سلم ذلك أم ما الذي دل على ذلك بل المعتبر نية من يملك فرقة بقول أو فعل فإن التحليل دائر مع ذلك وإذا كان الزوج الذي يقصد التحليل ملعونا فالذي يقصد أن يحلل بالزوج ويفسخ نكاحه أولى أن يكون ملعونا فإنه يخادع الله ورسوله وعبده المؤمن وهو نظير الرجل يقدم إلى العطشاء الماء فإذا شرب منه قطرة انتزعه من فيه ولو أن السيد أنكح عبده نكاحا يقصد به أن يفرق بينهما بعد يوم من غير تحليل لكان خادعا له ماكرا به ملعونا فكيف إذا قصد مع ذلك التحليل
واعلم أن التحليل هنا لا يتم إلا بأن يتواطأ السيد المطلق أو غيره مع المرأة على أن يملكها الزوج أو يعلم أن حال المرأة تقتضي أنه إذا عرض عليها ملك الزوج ليفسخ النكاح ملكته فإنا قد ذكرنا أن العرف في الشروط كاللفظ فأما لو لم يكن للمرأة رغبة في العود إلى المطلق ولا هي ممن يغلب على الظن ملكها للعبد إذا عرض عليها فهنا نية السيد وحده نية من لا فرقة بيده
ثم العبد إذا لم يعلم بما تواطأ عليها الزوجان يكون كالمرأة إذا لم تعلم بنية الزوج التحليل لا إثم عليه فإن علم ووافق فهو آثم وعلى التقديرين فنكاحه باطل لأن إذن السيد شرط في صحة النكاح وإلسيد إنما أذن في نكاح تحليل لا في نكاح صحيح فيكون النكاح الذي أجازه الشرع وقصده العبد لم يأذن فيه السيد والذي أذن فيه السيد لم يجزه الشرع ثم إن أخبر العبد فيما بعد بما تواطأ عليه الزوجان وغلب على ظنه أن الأمر كذلك لم يحل له المقام على هذا النكاح لكن لا يقبل قول السيد وحده في إبطال نكاحه وسائر الفروع التي ذكرناها في نية الزوج بالنسبة إلى المرأة تجيء في نية الزوجين بالنسبة إلى العبد والله أعلم
فصل
فإما إن نوى التحليل من لا فرقة بيده مثل أن ينوي الفرقة الزوج المطلق ثلاثا أو تنويها المرأة فقط أعني إذا نوت أن الزوج يطلقها فقد قال حرب الكرماني: سأل أحمد عن التحليل إذا هم أحد الثلاثة بالتحليل فقال أحمد: كان الحسن وإبراهيم والتابعون يشددون في ذلك وقال أحمد الحديث عن النبي ﷺ أنه قال: [ أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة ] يقول أحمد أنها كانت همت بالمحلل ونية المرأة ليس بشيء
إنما قال النبي ﷺ: [ لعن الله المحلل والمحلل له ] وليس نية المرأة بشيء فقد نص الإمام أحمد رضي الله عنه على أن نية المرأة لا تؤثر وكذلك قال أصحابه وكذلك قال مالك لا يجوز أن يتزوجها ليحلها علمت هي أو زوجها الأول أو لم يعلما وإن اعتقدت المرأة على التحليل وسألته لما دخل الطلاق أو خالعته بمال جاز
قال مالك: لا يضر الزوج ما نوت الزوجة لأن الطلاق بيده دونها قال أصحابه المعنى المؤتر في إفساد النكاح مختص به الزوج الثاني سواء فيه واطأهما أو أحدهما أو تفرد بذلك ونوى الإحلال والطلاق أخذ عليه أجرا أم لم يأخذ فإذا لم يواطىء الزوج الثاني ولا نوى فهو نكاح رغبة ويحلها وان كان الزوج الأول والمرأة قد تواطأ على ذلك أو دسا إليه أن يتزوجها أو بذلا له مالا كل ذلك غير مؤثر سواء علم بالطلاق الأول أم لا
وقال الحسن والنخعي وغيرهما: إذا هم أحد الثلاثة فهو نكاح محلل ويروى ذلك عن ابن المسيب ولفظ إبراهيم النخعي إذا كانت نية أحد الثلاثة الزوج الأول أو الزوج الثاني أو المرأة أنه محلل فنكاح هذا الأخير باطل ولا تحل للأول ووجه هذا أن المرأة إذا نكحت الرجل وليست هي راغبة فيه فليست هي ناكحة كما تقدم بل هي مستهزئة بآيات الله متلاعبة بحدود الله وهي خادعة للرجل ماكرة به وهي إن لم تملك الإنفراد بالفرقة فإنها تنوي التسبب فيه على وجه تحصل به غالبا بأن تنوي الإختلاع منه وإظهار الزهد فيه وكراهته وبغضه وذلك مما يبعثه على خلعها أو طلاقها وبقتضيه في الغالب ثم إن انضم إلى ذلك أن تنوي النشوز عنه وفعل ما يكره لها وترك ما ينبغي لها فهذا أمر محرم وهو موجب للفرقة في العادة فأشبه ما لو نوت ما يوجب الفرقة شرعا وان لم تنو فعل محرم ولا ترك واجب فهي ليست مريدة له ومثل هذه في مظنة أن لا تقيم حدود الله معه ولايلتئم مقصود النكاح بينهما فيقضي إلى الفرقة غالبا وأيضا فإن النكاح عقد يوجب المودة بين الزوجين والرحمة كما ذكره الله سبحانه في كتابه ومقصوده السكن والازدواج ومتى كانت المرأة من حين العقد تكره المقام معه وتود فرقته لم يكن النكاح معقودا على وجه يحصل به مقصوده
وأيضا فإن الله سبحانه قال فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله فلم يبح إلا نكاحا يظن فيه أن يقيم حدود الله ومثل هذه المرأة لا تظن أن تقيم حدود الله لأن كراهيتها له تمنع هذا الظن ولأن المرأة تستوفي منافع الزوج بالنكاح كما يستوفي الرجل منافعها وإذا كانت إنما تزوجت لتفارقه وتعود إلى الأول لا لتقيم معه لم تكن قاصدة للنكاح ولا مريدة له فلا يصلح هذا النكاح على قاعدة إبطال الحيل وأما نية المطلق ثلاثا فيشبه والله أعلم أن يكون هؤلاء التابعون إنما قالوا أنه يكون النكاح بها تحليلا إذا كان هو الذي يسعى في النكاح فأراد بذلك أن تختلع المرأة بعد ذلك من زوجها فإن هذا حرام لما أنه خدع رجلا مسلما وهو قد سعى في عقد يريد إفساده على صاحبه أو يشبه ما لو كان قد زوجها من عبده يريد أن يملكها إياه وهي لم تشعر بذلك ثم يحتمل أنهم أرادوا أن النكاح باطل في حق الأول بمعنى أنها لا تحل أن تعود إلى الأول بمثل هذا النكاح لأنه قصد تعجيل ما أجله الله فيعاقب بنقيض قصده وقد يشبه هذا ما لو تسبب رجل في الفرقة بين رجل وامرأته ليطلقها إما بأن يخيبها عليه حتى تبغضه وتختلع منه أو يشينها عنده ببهتان أو غيره حتى يطلقها أو أن يقتله ونحو ذلك
فيقال: إن الفرقة واقعة ولا تحل لذلك المفرق بينهما كما لو طلقها في مرض موته أو فعل الوارث بامرأة موروثة ما يفسخ نكاحه وليس له زوجة غيرها فإن ذلك لا يسقط حقها من الميراث ولا يبيح للورثة أخذه وهذا كما يقوله في إحدى الروايتين أن الرجل إذا استام على سوم أخيه أو ابتاع على بيع أخيه أو خطب على خطبة أخيه أن عقده باطل فإذا كان صاحب هذا القول يبطل عقد من زاحم غيره قبل أن يعقد فلان يبطل عقد من تسبب في فسخ عقد الأول أولى
وكذلك الزوج المطلق ثلاثا متى نوى التحليل أو سعى فيه لم تحل له المرأة بذلك وهذا قالوا إذا كانت نية أحد الثلاثة أنه محلل فنكاح هذا الأخير باطل ولا تحل للأول وهذا إنما يقال فيمن له فعل في النكاح الثاني أما إذا لم يوجد من المطلق الأول فعلا أصلا وقد تناكح الزوجان نكاح رغبة من كل منهما والأول يجب أن يطلقها هذا فطلقها أو مات عنها فهذا أقصى ما يقال أنه متمن محب وليس بناو فإن نية المرء إنما تتعلق بفعله وما تعلق بفعل غيره فهو أمنية
وأيضا فإن المطلق الأول كان يحرم عليها التصريح والتعريض بخطبتهما في عدتها منه وذلك بعد عدتها منه أشد وأشد فيكونون قد حرموها على الأول لأنه خطبها أو تشوق إليها في وقت لا يحل له ذلك وهذا يوجبه قول من حكينا قوله في أول المسألة إذا لم يعلم الزوجان حلت والله أعلم
ووجه ما ذهب إليه وأحمد ما استدل به أبو عبد الله أحمد رحمة الله عليه من أن النبي ﷺ [ لعن المحلل والمحلل له ] فلو كان التحليل يحصل بنية الزوج تارة وبنية الزوجة أخرى للعنها النبي ﷺ أيضا وكان ذلك أبلغ من لعنه أكل الربا وموكله فلما لم يذكرها في اللعنة علم أن التحليل الذي يكون بالنية إنما يلعن فيه الزوج فقط ولا يجوز أن يقال لفظ المحلل يعم الرجل والمرأة فإنها حللت نفسها بهذا النكاح لأنه قد قال ألا أنبئكم بالتيس المستعار وقال هو المحلل وهذه صفة الرجل خاصة ثم لو عمهما اللفظ فإنما ذاك على سبيل التغليب لا جتماع المذكر والمؤنث فلا بد أن يكون تحليل الرجل موجودا حتى تدخل معه المرأة بطريق التبع أما إذا نوت هي وهو لم ينو شيء فليس هو بمحلل أصلا فلا يجوز أن تدخل المرأة وحدها في لفظ المذكر إلا أن يقال قد اجتمعا في إرادة المتكلم لهما وإن لم يجتمعا في عين هذا النكاح فإن من قصد الإخبار عن المذكر والمؤنث مجتمعين ومفترقين أتى بلفظ المذكر أيضا فهذا يمنع الإستدلال من هذا الوجه وأيضا فالمحلل هو الذي ما تصير به المرأة حلالا في الظاهر وهي ليست حلالا في الحقيقة وهذا صفة من يمكنه رفع العقد والمرأة وحدها ليست كذلك واستدل الإمام أبو عبد الله أحمد رضي الله عنه أيضا بحديث تميمة بنت وهب امرأة رفاعة القرظي في الصحيحين من حديث الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنه قال جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى النبي ﷺ فقالت: [ إن رفاعة طلقني فأبت طلاقي وفي رواية ثلاث تطليقات وأني تزوجت عبدالرحمن بن الزبير وإنما معه مثل هدبة الثوب وفي رواية وما معه إلا مثل هذه الهدبة أشارت لهدبة أخذتها من جلبابها فتبسم رسول الله ﷺ وقال: تريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك ] وأبو بكر جالس عنده وخالد بن سعيد بن العاص بالباب ينتظر أن يؤذن له فقال: يا أبا بكر ألا تزجر هذه عما تجهر به عند رسول الله ﷺ وما يزيد رسول الله ﷺ التبسم
فوجه الدلالة أن النبي ﷺ بين أنها مع إرادتها أن ترجع إلى الزوج الأول لا يحل له حتى يجامعها فعلم أنه إذا جامعها حلت للأول ولو كانت إرادتها تحليلا مفسدا للنكاح أو محرما للعود إلى الأول لم تحل له سواء جامعها أو لم يجامعها فإن قيل لعلها إنما أرادت الرجوع إلى الأول بعد حل عقدة النكاح وذلك لا يؤثر في فساد العقد كما لو تزوجها مرتغبا ثم بدا له أن يطلقها لتراجع الأول كما أراد سعيد بن الربيع أن يطلق امرأته ليتزوجها عبد الرحمن بن عوف يقوي ذلك أنها ذكرت إنما معه مثل هدبة الثوب تريد به أنه لا يتمكن من جماعها فأحبت طلاقه لذلك ثم أرادت الرجوع إلى الأول ثم الأصل عدم الإرادة وقت العقد فلا بد له من دليل قلنا الجواب من أوجه:
أحدها: إن النبي ﷺ لما جوز لها مراجعة الأول إذا جامعها الثاني بعد أن يتبين له رغبتها قي الأول ولم يفعل بين أن تكون هذه الإرادة حدثت بعد العقد أو كانت موجودة قبله دل على أن الحل يعم الصورتين فإن ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال بمنزلة العموم في المقال حتى لو كان احتمال تجدد الإرادة هوالراجح لكان الإطلاق يعم القسمين إذا كان الإحتمال الآخر ظاهرا والأمر هنا كذلك فإن المرأة التي ألفت زوجا ثم طلقها قد يبقى في نفسها منه في كثير من الأحوال والنساء في الغالب يبغضن الطلاق ويحببن العود إلى الأول أكثر مما يحببن معاشرة غيره
الجواب الثاني: إن هذه المرأة كانت راغبة في زوجها الأول بخصوصه ولم يكن لها رغبة في غيره من الأزواج ففي حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: طلق رجل امرأته فتزوجت زوجا غيره فطلقها وكان معه مثل هدبة الثوب فلم تصل معه إلى أي شيء تريده فلم يلبث أن طلقها فأتت النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله إن زوجي طلقني وإني تزوجت زوجا غيره فدخل بي فلم يكن معه إلا مثل الهدبة فلم يقربني إلا هنة واحدة لم تصل منه إلى شيء فأحل لزوجي الأول؟ فقال رسول الله: [ لاتحلين لزوجك الأول حتى يذوق الآخر عسيلتك وتذوقي عسيلته ] متفق عليه
وكذلك في حديث القاسم عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجها رجل ثم طلقها فسئل رسول الله ﷺ عن ذلك فقال: [ لا حتى يذوق الآخرمن عسيلتها ما ذاق الأول ] وروى مالك عن المسور بن رفاعة القرظي عن الزبير بن عبد الرحمن بن الزبير أن رفاعة بن شمول طلق امرأته تميمة بنت وهب في عهد رسول الله ﷺ ثلاثا فنكحها عبد الرحمن بن الزبير فأعرض عنها فلم يستطع أن يغشاها ففارقها فأراد رفاعة أن ينكحها وهو زوجها الأول الذي كان طلقها فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فنهاه عن تزويجها وقال: [ لا يحل لك حتى تذوق العسيلة ]
ذكر عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة الحديث وزاد فقعدت ثم جاءته فأخبرته أن قد مسها فمنعها أن ترجع إلى زوجهاالأول وقال: [ اللهم إن كان إنما بها أن يجعلها لرفاعة فلا يتم لها نكاحه مرة أخرى ] ثم أتت أبا بكر وعمر رضي الله عنهما في خلافتهما فمنعاها فهذا يبين أنها استفتت النبي ﷺ بعد أن طلقها رفاعة لا طلبا لفرقته بل طلبا لمراجعة الأول وأخبرت بصفة إفضائه ليفتيها النبي ﷺ هل حلت للأول أم لا فلما أفتاها أنها لا تحل إلا بعد الوطء قعدت ثم أخبرته أنه كان قد مسها فعلم النبي ﷺ أنها كاذبة وإنما حملها على الكذب أنها لما أخبرت أولا بحقيقة الأمر لم تحل فأخبرت أنها قد مسها فمنعها النبي ﷺ من الرجوع إلى الأول لأنها أخبرت أولا بأنه لم يواقعها ثم أخبرت بخلافه فلم يقبل رجوعها عن الإقرار وقال: [ اللهم إن كان ما بها إلا أن تجعلها لرفاعة فلا يتم لها نكاحه مرة أخرى ] دعاء عليها عقوبة على كذبها بنقيض قصدها لئلا يتسرع الناس في الكذب الذي يستحلون به الحرام ثم إنها أتت في خلافة الشيخين وهذا كله أبين دليل على أنها إنما كانت رغبتها في رفاعة لا في غيره وإلا ففي الأزواج كثرة فهذا الإلحاح في نكاحه وتأيمها عليه عسى أن تمكن من نكاحه ومراجعة ولاة الأمر فيه دون غيره والدخول في التزوير مع أن النكاح بغيره ممكن لا يكون إلا عن محبته منها له دون غيره وهذه الإرادة والرغبة لم تتحد بإعراض عبد الرحمن عنها فإن إعراض عبد الرحمن عنها أكثر ما يوجب إرادتها للنكاح ممن كان أما من هذا الرجل بعينه فإنما ذاك لسبب يختص به وهذا لم يحدث بعد النكاح بسبب يقتضيه فعلم أنه كان متقدما لأن الأصل عدم ما يحدث ثم هذه المحبة منها له إنما سببها معرفتها به حال النكاح وإلا فبعد الطلاق ليس هناك ما يوجب المحبة نعم قد يهيج الشوق عند المنع منه لكن ذلك مستند إلى محبة متقدمة ولا يقال تزوجت بغيره لعلها تسلوا فلما لم يعفها هاج الحب لأنه لو كان كذلك لتزوجت بآخر وآخر لعله يعفها وتسلا به فلما لم تتزوج إلا بعبد الرحمن علم أنها كانت مريدة لأن يحللها للأول عسى أن ترجع إليه ولم تتزوج بغيره خشية أن يمسكها بالكلية ولا يكون فيه سبب تطلب به فراقه
الوجه الثالث: إنه قد روي أنها استفتت النبي ﷺ أيضا قبل الطلاق فروى البخاري عن عكرمة عن مولى ابن عباس أن رفاعة طلق امرأته فتزوجها عبد الرحمن بن الزبير فأتت عائشة وعليها خمار أخضر فشكت إليها خضرة بجلدها فلما جاء رسول الله ﷺ والنساء ينصر بعضهن بعضا قالت عائشة: ما رأيت ما تلقى المؤمنات كجلدها أشد خضرة من ثوبها قال وسمع أنها قد أتت رسول الله ﷺ فجاء ومعه ابنان من غيرها فقالت: والله ما لي إليه من ذنب إلا أن ما به ليس بأغنى عني من هذه هدبة من ثوبها فقال: كذبت والله يا رسول الله إني لأنفضها نفض الأديم ولكنها ناشز تريد رفاعة فقال رسول الله ﷺ: [ فإن كان ذلك لم تحلين له ولم تصلحين له حتى يذوق عسيلتك قال وأبصر معه ابنين له فقال أبنوك هؤلاء قال نعم قال: هذا الذي تزعمين فوالته لهم أشبه به من الغراب بالغراب ] قال أبو بكر البرقاني: هكذا رواه البخاري مرسلا عن بندار وكذلك رواه حماد بن زيد ووهب عن أيوب مرسلا وقد أسنده سويد بن سعيد عن عبد الوهاب الثقفي فقال فيه عن ابن عباس أن رفاعة طلق امرأته فتزوجها عبد الرحمن بن الزبير وذكر الحديث وقد رواه الإمام أحمد في المسند بإسناد جيد عن عبد الله بن العباس
قال: جاءت القميصا أو الرميصا إلى رسول الله ﷺ تشكوا زوجها وتزعم أنه لا يصل إليها فما كان إلا يسيرا حتى جاء زوجها فزعم أنها كاذبة ولكنها تريد أن ترجع إلى زوجها الأول فقال رسول الله ﷺ: [ ليس لك ذلك حتى يذوق عسيلتك رجل غيره ] ففي حديث ابن عباس وأخيه أنها شكت زوجها قبل أن يطلقها وزعمت أنه لم يصل اليها وطلبت فرقته لذلك فكذبها وأخبر أنه إنما بها مراجعة الأول وأنها ناشز غير مطيعة فقال رسول الله ﷺ: [ فإن كان كذلك لم تحلين للأول حتى يذوق عسيلتك ] يريد والله أعلم أني قادر على وطئها وجماعها وأن أنفضها نفض الأديم لكنها ناشز لا تمكنني فإنها تريد رفاعة فلذلك قال رسول الله ﷺ: [ لا تحلين له حتى تذوقي عسيلته ] فطلقها ولم تذق العسيلة أو أنها لما ادعت عدم الوطء كانت معترفة بأنها لم تحل للأول فلم تجعل حلالا بدعوى الزوج أنه وطئها إذا كانت هي معترفة بما يوجب التحريم لكن حديث مالك عن ولد عبد الرحمن يدل على أنه كان معرضا عنها
وحديث ابن عباس يقتضي دعواه أما التمكين من وطئها أو فعل الوطء فعلى حديث ابن عباس يكون قد جاءت النبي ﷺ قبل الطلاق ثم جاءته بعده وعبد الرحمن اما إنه كان معترضا عنها كما أخبرت أو كانت ناشزا عنه كما أخبر وبكل حال فهذا يدل على الرغبة التامة في مراجعة الأول فإنها تكون قد جاءت إلى النبي ﷺ قبل الطلاق وبعده مرتين أو أكثر ثم جاءت الخليفتين ومن يصدر عنها مثل هذه الأحوال يغلب على الظن حرصها على مراجعتها حين العقد
فأقل ما قد كان ينبغي لوكان مؤثرا أن يقال لها إن كنت وقت العقد كنت مريدة له لم يجز أن ترجعي إليه بحال فلما لم يفصل النبي ﷺ مع ظهور هذا القرار علم أن الحكم لا يختلف وأيضا فإنها وإن كانت تحب مراجعة الأول فالمرء لا يلام على الحب والبغض وإنما عليها أن تتقي الله سبحانه في زوجها وتحسن معاشرته وتبذل حقه غير مستبرمة ولا كارهة فإذا نوت هذا وقت العقد فقد نوت ما يجب عليها فإذا نوت فعل ما لا يحل مما لا يوجب طلاقها فسيأتي ذكر هذا وأما اختلاع المرأة وانتزاعها من بعلها فقد نهى عنه النبي ﷺ ونحن وإن قلنا نية المرأة أو المطلق لا تؤثر: فلا يحل لواحد منها أن يفعل ما حرمه الشارع من إفساد حال المرأة على زوجها ونحو ذلك وليس لها أن تتزوج به إلا إذا كانت تظن أن تقيم حدود الله سبحانه معه وتعتقد أنه إن شاء أمسك وإن شاء طلق وأنه إذا لم يطلق أطاعته ولم تنشز عنه والكلام في هذا الموضع يظهر بيان حال المرأة في النية وهي مراتب:
الأولى: أن تنوي أن هذا الزوج الثاني إن طلقها أو مات عنها أو فارقها بغير ذلك تزوجت بالأول أو ينوي المطلق ذلك أيضا فينوي أن هذا الثاني إن طلقها أو فارقها بغير ذلك تزوجها فهذا قصد محض لما أباحه الله لم يقترن بهذا القصد فعل منها في الفرقة وإنما نوت أن تفعل ما أباحه الله إذا أباحه الته فقد قصدت فعلا لها معلقا على وجود الفرقة وصار هذا مثل أن ينوي الرجل أن فلانا إن طلق امرأته أو مات عنها تزوجها أو تنوي المرأة التي لم تطلق أنها إن فارقها هذا الزوج تزوجت بفلان أو يبيع الرجل سلعته لحاجته إليها وينوي أن المشتري إن باعها فيما بعد اشتراها منه إن قدر على ثمنها أو ينوي أنه إن أعتق الجارية المبيعة تزوج بها فهذه الصور كلها لم تتعلق بهذا العقد ولا بفسخه فلم تؤثر فيه وانما تعلقت بفعل لها أن رفع العقد أو قصد صاحبه رفعه فلهذا لم يشترط أن يكون نكاح المرأة نكاح رغبة فإنها إذا ملكت نفسها للزوج فسواء عليه كانت راغبة أوغير راغبة إذا لم تسبب في الفرقة فإنه ليس بيدها فرقة لكن لها في هذا العقد مع نية مراجعة الأول ثلاث أحوال:
أحدها: أن تكون محبتها للمقام مع الزوج الثاني أكثر من محبتها للمقام مع الأول لكن ترى أن الأول أحب إليها من غيره بعد هذا فهذا لا شبهة فيه
الثاني: أن تكون محبتها لنكاح الزوجين على السواء أو لا يكون لها محبة لنكاح واحد منهما لكن ترى أنهما أصلح لها من غيرهما فإذا فارقها أحدهمحا آثرت الآخر فهذا أيضا ظاهر
الثالث: أن تكون محبتها للأول أكثر من الثاني فهي في هذه الحال بمنزلة المطلق الذي يحب عودها إليه وهذه الصورة التي كرهها بعض التابعين وهي حال امرأة رفاعة القرظي ولذلك رخص أحمد وغيره فيها لما تقدم وهذه المرأة والمطق لا يلامان على هذه المحبة كما لا يلام الزوج على محبة إحدى امرأتيه أكثر من الأخرى إذا عدل بينهما فيما يملكه ثم إن كرهت هذه المحبة من نفسها لكونها متطلعة إلى غير زوجها وكذلك المطلق إن كره من نفسه تطلعه إلى زوجة الغير كانت هذه الكراهة عملا صالحا يثاب عليه وإن لم تكره هذه المحبة ولم ترض بها لم يترتب عليها ثواب ولا عقاب وإن رضي هذه المحبة بحيث يتمنى بقلبه مع طبعه حصول موجبها ويود أن يحصل بين الزوجين فرقة ليتزوج المرأة وتتمنى المرأة أن لو طلقها هذا الزوج أو فارقها لتعود إلى الأول وعقلها موافق لطبعها على هذه الأمنية فهذا مكروه وهو من المرأة أشد لأن ذلك يستلزم تمني الطلاق الذي هو بغيض إلى الله وقد تتضمن تمني ضرر الزوج وهو مظنة أن المرأة لا تقيم حدود الله مع من تبغض المقام معه لكنها لو أحبت أن يقذف الله في قلب الزوج الزهد فيها بحيث يفارقها بلا ضرر عليه فهذا أخف وهذا كله إذا لم يقترن به فعل منها في الفرقة لم تؤثر في صحة العقد الأول ولا الثاني
المرتبة الثانية: إن تسبب إلى أن يفارقها من غير معصية غير الإختلاع ولا خديعة توجب فراقها مثل أن تسأله أن يطلقها أو أن يخلعها وتبذل له مالا على الفرقة أو تظهر له محبتها للأول أو بغضها المقام معه حتى يفارقها فهذا ينبني على الإنتزاع الإختلاع من الرجل فنقول إذا كانت المرأة تخاف أن لا تقيم حدود الله جاز لها الإختلاغ وإلا نهيت عنه نهي تحريم أو تنزيه فإن كانت لم تنو هذا الفعل إلا بعد العقد فهي كسائر المختلعات يصح الخلع ويباح أن تتزوج بغيره هذا إذا كان مقصودها مجرد فرقته وهنا مقصودها التزوج بغيره فتصير بمنزلة المرأة التي تختلع من زوجها لتتزوج بغيره وهذا أغلظ من غيره كما سيأتي وإن كانت حين العقد تنوي أن تتسبب إلى الفرقة بهذه الطرق فهذه أسوأ حالا من التي حدث لها إرادة الإختلاع لتتزوج بغيره مع استقامة الحال فإذا كان النبي ﷺ قد قال: [ المختلعات والمنتزعات هن المنافقات ] فالتي تختلع لتتزوج بغيره لا لكراهته أشد وأشد ومن كانت من حين العقد تريد أن تختلع وتنتزع لتتزوج بغيره فهي أولى بالذم والعقوبة لأن هذه غارة للرجل مدلسة عليه ولو علم أنها تريد أن تتسبب في فرقته لم يتزوجها فكيف إذا عالم أن غرضها أن تتزوج بغيره بخلاف التي حدث لها الإنتزاع فإنها لم تخدعه ولم تغره وهذا نوع من الخلابة بل هوأقبح الخلابة ولا تحل الخلابة لمسلم
وهذه الصورة لا يجب إدخالها في كلام أحمد رضي الله عنه فإنه إنما رخص في مطلق نية المرأة ونية المرأة المطلقة إنما تتعلق بأن تتزوج الأول وذلك لا يستلزم أن تنوي اختلاعا من الثاني لتتزوج الأول فإن هذا نية فعل محرم في نفسه لو حدث وغايته أن يقال هو نية مكروهة تسوية بينه وبين الإختلاع المطلق على إحدى الروايتين فأما إذا قارن العقد فتحريمه ظاهر لأن ذلك يمنع رغبتها في النكاح وقصدها له والزوجة أحد المتعاقدين فإذا قصدت بالعقد أن تسعى في فسخه لم يكن العقد مقصودا بخلاف من قصدت أن العقد إذا انفسخ تزوجت الأول وتحريم هذا أشد من تحريم نية الرجل من وجه وذلك التحريم أشد من وجه آخر فإن المحلل إذا نوى الطلاق فقد نوى شيئا يملكه والمرأة تعلم انه يملك ذلك وهذه المرأة نوت الإختلاع والإنتزاع لتعود إلى غيره وكراهة الإختلاع أشد من كراهة طلاق الرجل ابتداء والإختلاع لتتزوج غيره أشد من مطلق الإختلاع وإرادة الرجل الطلاق لا يوقعه في محرم فإنه يملك ذلك فيفعله وإرادة ا لمرأة الإختلاع قد يوقعها في محرم فإنها إذا لم تختلع ربما تعدت حدود الله
ونية التحليل ليس فيها من خديعة المرأة ما في نية المرأة من خديعة الرجل وإنما حرمت تلك النية لحق الله سبحانه فإن الله حرم استباحة البضع إلا بملك بنكاح أو ملك يمين والعقد الذي يقصد رفعه ليس بعقد نكاح وهذا حال المرأة إذا تزوجت بمن تريد أن يطلقها كحالها إذا تزوجت بمن بدا له طلاقها فيما بعد من حيث إنه في كلا الموضعين قطع النكاح عليها وهذا جائز له وليس تعلق حقها بعينه كتعلق حقه بعينها فإن له أن يتزوج غيرها ولا حرم عليه إذا كانت محبته لتلك واستمتاعه بها أكثر إذا عدل بينهما في القسم والمرأة إذا تزوجت قاصدة للتسبب في الفرقة فهذا التحريم لحق الزوج لما في ذلك من الخلابة والخديعة له وإلا فهو يملكها بهذا العقد ويملك أن لا يطلقها بحال ومن هذا الوجه صارت نية التحليل أشد فإن تلك النية تمنع كون العقد ثابتا من الطرفين وهنا العقد ثابت من جهة الزوج بأنه نكح نكاح رغبة ومن جهة المرأة فإنها لا تملك الفرقة فصار الذي يملك الفرقة لم يقصدها والذي قصدها لم يملكها
لكن لما كان من نية المرأة التسبب إلى الفرقة صار هذا بمنزلة العقد الذي حرم على أحد المتعاقدين لإضراره بالآخر مثل بيع المصراة وبيع المدلس من المعيب وغيره وهذا النوع صحيح لمجيء السنة بتصحيح بيع المصراة ولم نعلم مخالفا في أن أحد الزوجين إذا كان معيبا بعيب مشترك كالجنون والجذام والبرص أو مختص كالجب والعنة أو الرتق والفتق ولم يعلم الآخر أن النكاح صحيح مع أن تدليس هذا العيب عليه حرام وإن كان أحد الزوجين هو المدلس حتى قلنا على الصحيح أنه يرجع بالمهر على من غره فإن كان الغرور من الزوجة سقط المهر مع أن العقد حرام على المدلس بلا تردد ولكن التدليس هناك وقع في المعقود عليه وهنا وقع في نفس العقد والخلل في العقد قد يؤثر في فساده ما لا يؤثر في بعض حله فأما المطلق الأول إذا طلب منه أن يطلقها أويخلعها أودس إليه من يفعل ذلك فهذا بمنزلة ما لو حدث إرادة ذلك للمرأة بعد العقد فإن المطلق ليس له سبب في العقد الثاني
وقد نص أحمد على أن ذلك لا يحل فنقل ههنا عنه في رجل قال للرجل طلق امرأتك حتى أتزوجها ولك ألف درهم فأخذ منه الألف ثم قال لامرأته أنت طالق فقال سبحان الله رجل يقول لرجل طلق امرأتك حتى أتزوجها لا يحل هذا فقد نص على أنه لو اختلعها ليتزوجها لم يحل له وإن كان يجوز أن يختلعها ليتخلص من النكاح لكن إذا سمى في عقد الخلع أنه يريد التزوج بها فهو أقبح من أن يقصد ذلك بقلبه والصورة الأولى هي التي دل عليها كلام أحمد فالمرأة إذا اختلعت لأن تتزوج أشد فإن الأذى بطلب المرأة ذلك أكثر من الأذى بطلب الأجنبي فإذا كان هذا الفعل حراما لو حدث القصد فكيف إذا كان مقصودا من حين العقد وفعل بعده فظهر أنه لا يجوز اختلاعها رغبة في نكاح غيره ولا العقد بهذه النية ولا يحل أمرها بذلك ولا تعليمها إياه ولكن لو فعلته لم يقدح في صحة العقد فيما ذكره بعض أصحابنا لما تقدم فلو رجعت عن هذه النية جاز لها المقام معه فإن اختلعت منه ففارقها وقعت الفرقة
وأما العقد الثاني فنقل عن بعض أصحابنا أنه صحيح ولأصحابنا في صحة نكاح الرجل إذا خطب على خطبة أخيه وبيعه إذا ابتاع على بيع أخيه قولان والكلام في هذه المسألة يحتاج إلى معرفة تلك فنقول قد صح عن النبي ﷺ من غير وجه النهي عن أن يستام الرجل على سوم أخيه أو يخطب على خطبة أخيه وعن أن يبيع على بيع أخيه أو تنكح المرأة بطلاق أختها فروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ: [ نهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه أو يبيع على بيع أخيه ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفي ما في صحفتها أو إنائها فإنما رزقها على الله ] وفي رواية أن النبي ﷺ: [ نهى عن التلقي وعن أن يبيع حاضر لباد وأن تشترط المرأة طلاق أختها وأن يستام الرجل على سوم أخيه ونهى عن النجش والتصرية وفي رواية أن النبي ﷺ قال: ] لا يخطب الرجل على خطبة أخيه ولا يسوم على سومه [ متفق عليه وفي رواية لأحمد: ] لا يبتاع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه وعن عقبة بن عامر أن رسول الله ﷺ قال: [ المؤمن أخو المؤمن فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه ولا يخطب على خطبته حتى يذره ] رواه مسلم وأحمد وفي لفظ: [ لا يحل لمؤمن أن يبيع على بيع أخيه حتى يذره ] وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله ﷺ قال: [ لا يبع أحدكم على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه إلا أن يأذن ] متفق عليه وهذا نهي تحريم في ظاهر المذهب المنصوص وهو قول الجماعة لأنه قد جاء مصرحا لا يحل لمؤمن كما تقدم ومن أصحابنا من حمله على أنه نهي تأديب لا تحريم وهو باطل فإذا ثبت أنه حرام فهل العقد الثاني صحيح أو فاسد ذكر القاضي في غير موضع وجماعة مع المسألة على روايتين ومن أصحابنا من يحكيها على وجهين:
أحدهما: إنه باطل وهو الذي ذكره أبو بكر في الخلاف ورواه عن أحمد في مسائل محمد بن الحكم في البيع على بيع أخيه وهو الذي ذكره ابن أبي موسى أيضا
والثانية: إنه صحيح قال أحمد في رواية علي بن سعيد لا يخطب الرجل على خطبة أخيه ولا يستام على سوم أخيه هذا للمسلمين قيل له فإن خطب على خطبة أخيه فتزوجها يفرق بينهما؟ قال: لا وهذا اختيار أبي حفص لكن بناه على أن النهي تأديب وهو اختيار القاضي وابن عقيل وغيرهما وقد خرج القاضي جواب أحمد في مسألة البيع إلى مسألة الخطبة فجعلهما على روايتين كما تقدم عنه ويتوجه إقرار النصين مكانهما كما سنذكره والقول بصحة العقد مذهب أبي حنيفة والشافعي والقول بفساده محكي عن مالك وغيره وحكي عنه الصحة ودليل هذا النهي عنه فإنه يقتضي الفساد على قاعدة الفقهاء المقررة في موضعها كسائر عقود الأنكحة والبياعات أو للأولين طرق:
أحدها: حمل النهي على التأديب كما ذهب إليه أبو حفص وأومأ إليه ابن عقيل إذا كثر ما فيه أن للخاطب رغبة في المرأة وهذا لا يحرمها على غيره كما لو علم أن له رغبة ولم يتم ولم يخطب وهذا القول مخالف لنص الرسول
الطريق الثانية: إن هذا التحريم لم يقارن النكاح الثاني والبيع الثاني وإنما هو متقدم عليهما لأن المحرم إنما هو منع للأول من النكاح والبيع وهذا متقدم على بيع الثاني ونكاحه والتحريم المقتضي للفساد وهو ما قارن العقد كعقود الربا وبيع الحاضر للبادي والبيع وقت النداء ألا ترى أنها لو قالت لا: أتزوجك حتى أراك مجردا لم يقدح ذلك في صحة العقد وكذلك لوذهب على الجمعة على دابة مغصوبة وهذه طريقة القاضي وغيره ولهذا فرقوا بين هذا وبين البيع وقت النداء قالوا ولو خطبها في العدة وتزوجها بعد العدة صح لأن المحرم متقدم على العقد
الطريقة الثالثة: إن التحريم هنا حق لآدمي فلم يقدح في صحة العقد كبيع المصراة بخلاف التحريم لحق الله تعالى كبيوع الغرر والربا والمعنى لحق الآدمي المعين الذي لو رضي بالعقد لصح كالخاطب الأول هنا فإنه لو أذن للثاني جاز فإن التحريم إذا كان لآدمي معين أمكن أن يزول برضاه ولو فيما بعد فلم يكن التحريم في نفس العقد ولهذا جوز في مواضع التصرف في حق الغير موقوفا على إجازته كالوصية وإذا كان بحق الله صار بمنزلة الميتة والدم لا سبيل إلى حلها بحال فيكون التحريم في العقد وهذه طريقة القاضي في الفرق بين بيعه على بيع أخيه وبين بيع الحاضر للبادي والبيع وقت النداء أيضا
الطريقة الرابعة: إن التحريم هنا ليس لمعنى في العاقد ولا في المعقود عليه كما في بيع المحرمات أو بيع الصيد للمحرم وبيع المسلم للكافر وإنما هو لمعنى خارج عنهما وهو الضرر الذي لحق الخاطب والمستام أولا وهذه طريقة من يفرق بين أن يكون النهي لمعنى في المنهى عنه أولمعنى في غيره فيصحح الصلاة في الدار المغصوبة بناء على هذا ومن ينصر الأول يقول لا نسلم أن التحريم ليس مقارنا للعقد فإن النبي ﷺ نهى أن يبيع الرجل على بيع أخيه وعن أن يبتاع أيضا وهذا نهي عن نفس العقد ونهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه منبهآ بذلك على النهي عن عقد النكاح فإنه هوالمقصود الأكبر بالنهي كما أنه لما نهى عن قربان مال اليتيم كان ذلك تنبيها على النهي عن أخذه فإن النهي عن مقدمات الفعل أبلغ من النهي عن عينه وهذا بخلاف النهي عن التصريح بخطبة المعتدة فإنه إذا تزوجها بعد العدة لم يكن حينئذ قد حرم عليه العقد ولا الخطبة وكذلك في رؤيته متجردا قبل النكاح أو المشي إلى الجمعة على حمار مغصوب فإن تلك المحرمات انتقضت أسبابها وهذا سبب التحريم تعلق حق الغير بهذه المرأة وهو موجود فإن عودها إليه ممكن
ثم لو سلمنا أن المحرم متقدم فلم قيل أن الفرق مؤثر فإن الأدلة الدالة على كون العقود المحرمة فاسدة لا تفرق والفعل المحرم يتضمن مفسدة فتصحيحه يقتضي إيقاع تلك المفسدة وهذا غير جائز ومعصية الله فساد لا صلاح فيها فإن الله سبحانه لا ينهى عن الصلاح وهذا العقد هنا مستلزم لوجود المفسدة وهو إضرار الأول بخلاف صلاة الجمعة فإنها في نفسها غير مستلزمة لركوب ولا مشي ونقول أيضا لا فرق بين ما حرم لحق الله تعالى أو لحق عباده إذا الأدلة لا تفرق ونقول التفريق بين ما حرم الله لنفسه أو لغيره غير مسلم وبتقدير تسليمه فالنهي هنا لمعنى في المعقود عليه وهو تعلق حق الأول بالعين المعقود عليها فإن الشارع جعل تقدم خطبته وبيعه حقا له مانعا من مزاحمة الثاني له من سبق إلى مباح فجاء آخر يزاحمه وصار هذا لحق المرتهن وغيره وإذا كان سبب النهي تعلق حق للأول بهذه العين فإذا أزيل على الوجه المحرم لم يؤثر هذا في الحل المزيل فإنه كالقاتل لموروثه فإنه لما أزال تعلق حق الموروث بالمال بفعله المحرم لم يؤثر هذا الزوال في الحل له ولهذا لا يبارك لأحد في شيء قطع حق غيره عنه بفعل محرم ثم اقتطعه لنفسه
وقد تقدم في أقسام الحيل تبيهه على هذا النوع ومن فرق بين أن يخطب على خطبة أخيه ويستام على سومه وبين أن يبيع على بيعه أو يبتاع على بيعه فإن الخاطب والمستام لم يثبت لهما حق وإنما ثبت لهما رغبة ووعد بخلاف الذي قد باع أو ابتاع فإن حقه قد ثبت على السلعة أو الثمن فإذا تسبب الثاني في فسخ هذا العقد كان قد زال حقه الذي انعقد وهذا يؤثر ما لا يؤثر الأول فإن تصرف الإنسان متى استلزم إبطال حق غيره بطل كرجوع الأب فيما وهبه لولده وتعلق به حق مشتر أو نحوذلك وكذلك رجوع البائع في المبيع إذا أفلس المشتري وتعلق به حق ذي جناية أو مرتهن أو نحو ذلك بخلاف تعلق رغبة الغرماء بالسلعة فإنها لا تمنع رجوع البائع وفي رجوع الواهب خلاف معروف ثم اعلم أن بيع الإنسان على بيع أخيه أن يقول لمن اشترى من رجل شيئا أن أبيعك مثل هذه السلعة بدون هذا الثمن وأبيعك خيرا منها بمثل هذا الثمن فيفسخ المشتري بيع الأول ويبتاع منه وكذلك ابتياعه على ابتياع أخيه أن يقول لمن باع رجلا شيئا أنا أشتريه منك بأكثر من هذا الثمن وقد اشترط طائفة من متأخري أصحابنا أن يقول ذلك في مدة الخيار خيار المجلس أو الشرط ليتمكن الآخر من الفسخ وإلا فبعد لزوم العقد لا يؤثر هذا القول شيئا وكذلك ذكره القاضي في موضع من الجامع وفي كلام الشافعي رضي الله عنه ما يدل عليه
وأما قدماء أصحابنا فاطلقوا البيع على بيع أخيه ولم يقيدوه بهذا الخيار وكذلك ذكر القاضي في موضع آخر وأبو الخطاب فسخ البيع الثاني من غير تقييد بهذا الخيار وكلام أحمد أيضا مطلق لم يقيده بهذه الصورة وهذا أجود لوجهين
أحدهما: أن المشتري قد يمكن الفسخ بأسباب غير خيار المجلس والشرط مثل خيار العيب والتدليس والخلف في الصفة والغبن وغير ذلك ثم لا يريد الفسخ فإذا جاء البائع على بيع أخيه ورغبته في أن يفسخ ويعقد معه كان هذا بمنزلة أن يأتيه في زمن خيار المجلس الثاني: أن العقد الأول وإن لم يمكن أحدهما فسخه فإنه قد يجيء إليه فيقول له قايل هذا البيع وأنا أبيعك؟ فيحمله على استقالة الأول والإلحاح عليه في المقايلة فيجيبه عن غير طيب نفس كما هو الواقع كثيرا إن لم يخدعه خديعة توجب فسخ البيع وهذا قد يكون أشد تحريما لما فيه من مسألة الغني ما لا حاجة له به ومخالفة قوله: [ دعوا الناس يرزق ألله بعضهم من بعض ] وغير ذلك وقد يقيل المستقال غير راض فلا يبارك للمستقيل كالذين كانوا يسألون النبي ﷺ أشياء فيعطيهم إياها فيخرج بها أحدهم يتأبطها نارا وقد بين ذلك في غير حديث فيكون المعطي مثابا والسائل معاقبا وهذا بيع حقيقة على بيع أخيه وهو واقع فلا معنى لإخراجه من الحديث وإذا كان النبي ﷺ من جملة ما نهى عنه في هذا الحديث أن تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفي ما في صفحتها فمسألة البائع للمشتري أن يقيله البيع ليبيعها البائع لغيره كذلك وقول الرجل البائع استقل المشتري هذا البيع لتبيعه لهذا كما يقال للمرأة سلي هذا الخاطب أن يطلق تلك ليتزوجك إذا تقرر هذا فتقول إذا كان النبي ﷺ قد حرم أن يخطب الرجل على خطبة أخيه وأن يستام على سومه لما فيه من المزاحمة المخرجة له عما قد وعد به؟ فكيف بمن نكح على نكاح أخيه بأن يقول للمرأة طلقي هذا الرجل وأنا أتزوجك؟ أو أزوجك فلانا إن أمكنها أن تفسخ النكاح بأن يكون الرجل قد جعل أمرها بيدها أو علق طلاقها بأمر يمكنها فعله فهذه بمنزلة البائع في مدة الخيار وإلا فاختلاعها منه بمنزلة استقالة المشتري وهذا أعظم من حيث أنها قد تسيء عشرته إساءة تحمله على طلاقها بخلاف البيع فإن حقوق العقد لا تنقضي بالتقابض منهما فكل من قال إن ابتياع الإنسان على بيع أخيه باطل قال هنا إن نكاح الثاني باطل بطريق الأولى ومن قال بالصحة هناك فقد يقول هنا بالبطلان لأن الزوج خدع حين العقد وتسبب في إزالة نكاحه وزوال النكاح أشد ضررا من الإقالة في بيع أو فسخه ولو أن الرجل طلب من الرجل أن يبيعه سلعة لجاز ولو طلب أن يخلع امرأته ليتزوجها لكان من القبيح المنكر وقد نص أحمد على أنه لا يجوز واعلم أنه إذا قيل لا يصح البيع الثاني ولا نكاح الثاني لم يقدح ذلك في فسخ العقد الأول ولكن تعود السلعة إلى صاحبها والمرأة إلى يد نفسها ويعاقب الثاني بأن يبطل عقده مناقضة لقصده وهذا نظير منع القاتل الميراث ونظير توريث المبتوتة في المرض فإن ملك النكاح والمال زال حقيقة عن الميت والمطلق ولم يؤثر ذلك في انتقال المال إلى القاتل ومنع ميراث المطلقة وهو نظير المسائل التي ذكرناها في أثناء أقسام الحيل مثل أن يقتل الرجل رجلا ليتزوج امرأته وبينا وجه تحريمها على هذا القاتل مع حلها لغيره وكذلك ذبيحة الغاصب والسارق كذلك هنا يحرم شراء العين بعد الفسخ على هذا المتسبب في ذلك مع حله لغيره وقد يضر هذا بالذي فسخ البيع لكن هذا جزاء فعله فإنه وإن جاز له الفسخ ابتداء لكن ما كان له أن يعين هذا على ما طلبه فإن الإعانة على الحرام حرام فإذا كان هذا فيمن يجوز له الإستقالة فكيف المرأة المنهية عن الإنتزاع والاختلاع ومما هو كالبيع بطريق الأولى إجارته على إجارة أخيه مثل أن يكون الرجل مستقلا في داره حانوت أو مزدرع وأهله قد ركنوا إلى أن يؤجروه السنة الثانية فيجيء الرجل فيستأجر على إجارته فإن ضرره بذلك أشد من ضرر البيع غالبا وأقبح منه أن يكون متوليا ولاية أو منزلا في مكان يأوي إليه أو يرتزق منه فيطلب آخر مكانه والله أعلم
المرتبة الثالثة: إن تتسبب إلى فرفته مثل أن تبالغ في استيفاء الحقوق منه والإمتناع من الإحسان إليه لست أعني أنها تترك واجبا تعتقد وجوبه أو تفعل محرما تعتقد تحريمه لكن غير ذلك مثل أن تطالبه بالصداق جميعه ليفسخ أو يحبس أو لتمتنع منه أو تبذل له في خصومتها وذلك يشق عليها مثل أن تطالبه بفرض النفقة أو إفرادها بمسكن يليق بها وخادم ونحو ذلك من الحقوق التي عليه أو تمنع من إعانته في المنزل بطبخ أو فرش أو لبس أو غسل ونحوذلك كل ذلك ليفارقها فإن قيل فهذه الأمور منها ما قد يختلف في وجوبه فإذا قيل بوجوبه فتقديره إلى اجتهاد الحاكم وهو أمر يدخله الزيادة والنقصان ولا يكاد ينقل غالبا من عاشرت زوجها بمثل هذا عن معصية الله ونحن نتكلم على تقديرخلوه من المعصية
فنقول: إذا فعلت المباح لغرض مباح فلا بأس به أما إذا قصدت به ضررا غير مستحق فإنه لا يحل مثل من يقصد حرمان ورثته بالإسراف في النفقة في مرضه فإذا كانت المرأة لا تريد استيفاء الصداق ولا فرض النفقة وهي طيبة النفس بالخدمة المعتادة وإنما تجشم ذلك لتضيق على الزوج ليطلقها فإلجاؤه إلى الطلاق غير جائز لأنه إلجاء إلى فعل ما لا يجب عليه ولا يستحب له وهو يضره وهي آثمة بهذا الفعل إذا كان ممسكا لها بالمعروف وإنما الذي تستحقه بالشرع المطالبة لأحد أمرين إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان أما إذا قصدت التسريح فقط وإنما تطالبه بموجبات العقد لتضطره بعسرها عليه إلى التسريح فهذه ليست طالبة أحد الأمرين وإنما هي طالبة واحدا بعينه وهي لا تملك ذلك شرعا فهذه المرتبة تلحق بالتي بعدها كما قدمنا نظائر ذلك في أقسام الحيل لكن هذا الفعل إنما حرم بالقصد وهذا أمر لا يمكن الحكم عليه ظاهرا بخلاف الذي بعده ولا فرق بين أن يكون التحريم لجنس الفعل أو لقصد يقترن بالفعل ولا يقال فقد يباح لها الإختلاع إذا كانت تخاف أن لا تقيم حدود الله معه
فكذلك يباح لها الاستقصاء في الحقوق حتى تفارق لأنا نقول الإختلاع يتضمن تعويضه عن الطلاق برد الصداق إليه أو رد ما يرضى به وهو شبيه بالإقالة في البيع وهذه تلجئه إلى الطلاق من غير عوض فليست بمنزلة المختلعة وإذا كانت لا تستحق أن يطلقها بغيرعوض وفي ذلك عليه ضرر فإذا قصدت إيقاع هذا الضرر به بفعل هو مباح أوخلا عن هذا القصد دخلت في قوله ﷺ: [ من ضار ضار الله به ومن شق شق الله عليه ] وهوحديث حسن وهذا ليس مختصا بحقوق النكاح بل هو عام في كل من قصد إضرارغيره بشيء هومباح في نفسه
بقي أن يقال: فهي لا تقصد إضراره وإنما تقصد نفع نفسها بالخلاص منه فيقال الشارع لم يجعل هذه المنفعة بيدها ولوكان انتفاعها بالاخص حقا لها لملكها الشارع ذلك وحيث احتاجت إليه أمرها أن تفتدي منه كإفتداء العبد والأسير ألا ترى أن العبد لا يحل له أن يقصد مضارة سيده ليعتقه إذا لم يكن السيد متسببا إليه ثم إن كانت نوت هذا حين العقد فقد دخلت على ما تضاره به مع غناها عنه فإنه ليس لها أن تتوصل إلى بعض أغراضها التي لا تجب لها بما فيه ضرر على غيرها فكيف إذا قصدت أن تحل لنفسها ما حرم الله عليها بإضرار الغير فهذا الضرب قريب مما ذكر بعده وإن كان بينهما فرق
المرتبة الرابعة: أن تتسبب إلى فرقته بمعصية مثل أن تنشز عليه أوتسيء العشره بإظهار الكراهة في بذل حقوقه أو غير ذلك مما يتضمن ترك واجب أو فعل محرم مثل طول اللسان ونحوه فإن هذا لا ريب أنه من أعظم المحرمات وكل ما دل على تحريم النشوز وعلى وجوب حقوق الرجل فإنه يدل على تحريم هذا وهذا حرام من ثلاثة أوجه من جهة أنه في نفسه محرم؟ ومن جهة أنها تقصد به أن تزيل ملكه عنها بفعل هو فيه مكره إذا طلق أو خلع مفاديا من شرها والاحتيال على إبطال الحقوق الثابتة حرام بالاتفاق وإنما اختلف في إبطال ما انعقد سببه ولم يجب كحق الشفعة وإن كان الصواب أنه لا يحل الاحتيال على إبطال حق مسلم بحال ومن جهة أن مقصودها أن تتزوج غيره لا مجرد التخلص منه وقريب من هذا أن تظهر معصية تنفره عنها ليطلقها مثل أن تريه أنها تبرج للرجال الأجانب ويكونوا في الباطن ذوي محارمها فيحمله ذلك على أن يطلقها فإن هذا الفعل حرام في نفسه إذ لا يحل للمرأة أن تري زوجها أنها فاجرة كما لا يحل لها أن تفجر فإن هذا أشد إيذاء له من نشوزها عنه فهذا أشد تحريما وأظهر إبطالا للعقد الثاني من خطبة الرجل على خطبة أخيه
وهذا نظير أن يخبب الرجل على امرأته ليتزوجها فإن السعي في التفريق بين الزوجين من أعظم المحرمات؟ بل هو فعل هاروت وماروت وفعل الشيطان المحظي عند إبليس كما جاء به الحديث الصحيح ولا ريب أنه لا يحل له تزوجها ثم بطلان عقد الثاني هنا من بطلانه في المسألة الأولى وأقوى من بطلان بيعه على بيع أخيه وشرائه على شرائه
فإن فسخ العقد الأول هنا حصل بفعل مباح في الأول لوتجرد عن قصد مزاحمة المسلم وهنا فيه قصد المزاحمة وإن الفعل في نفسه محرم ومع هذا فقد صحح بعض أصحابنا العقد الثاني وإنما صار في صحة مثل هذا خلاف لأن التحريم لحق آدمي ولأن المحرم متقدم على العقد الثاني والاعتقاد أن التحريم هنا لا لمعنى في العقد الثاني ولكن لشيء خارج عنه؟ وقد تقدم التنبيه على هذا؟ لكن إن تزوجت بنية أن تفعل هذا بأن تنوي أنها تخلع منه فإن لم تطلق وإلا نشزت عنه وأن تحتال عليه لتطلق فهذا العقد الأول أيضا حرام وإذا كان من تزوج بصداق ينوي أن لا يؤديه زانيا أو من أدان دينا ينوي أن لا يقضيه سارقا فمن تزوجت تنوي أن لا تقيم حقوق الزوج أولى أن تكون عاصية فإنها مع أنها قصدت أن لا تفى بموجب العقد قد قصدت أن تفارقه لتتزوج غيره فصارت قاصدة لعدم هذا العقد ولوجود غيره بفعل محرم وتحريم هذا لا ريب فيه وقد قال الله تعالى: { فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله } وهذه تنوي أن لا تقيم حدود الله فهي أبلغ من التي لا تظن إقامة حدود الله وهذا مثل أن يبيع لم سلعة وبنيته أن لايسلمها إلى المشتري أو يؤجر دارا بنية أن يمنع المستأجر من سكناها بل هو أبلغ من ذلك لأنها تقصد بمنع الحقوق حمله على الفرقة فتقصد منع حقوق العقد وإزالة الملك ومثل هذا العقد يطلق أصحابنا وغيرهم صحته لأن العاقد الآخر لم يفعل محرما ففي الحكم ببطلان العقد ضرر عليه والإبطال إنما كان لحقه فلا يزال عنه ضرر قليل بضرر كثير وليس العقد حراما من الطرفين حتى يحكم بفساده ومتى حكم بالصحة من أحد الطرفين حكم بحل ما يأخذه صاحبه ذلك السوء فيحكم بوجوب عوضه عليه وإلا كان آكلا له بالباطل ومتى قيل بوجوب العوض عليه فإنما يجب للآخر الخادع فصار كأنه قصد أخذ مال الغير بغير عوض فأوجب الله عليه العوض الأول بغير اختياره ولزم من هذا استحقاقه لذلك المال بغير اختيار
فصحة العقد توجب الاستحقاق من الطرفين وحد الإنتقاع مشروط ببذل العوض فإن منعت المرأة ما يجب عليها لم يكن لها حق على الزوج ومن أصحابنا من يقول بفساد مثل هذا العقد حتى قالوا مثل ذلك في النجش وتلقى الركبان والمتوجه أن يقال: يحرم عليه الانتفاع بما حصل له في هذا العقد مع حل الانتفاع للآخر كما تقول في الرجل يحول بين الرجل وبين ماله فعليه بدله ينتفع به مالك المال حلالا مع أن الحايل لا يحل له الانتفاع بما في يديه من المال الذي حال بين مالكه وبينه فكان العقد صحيحا بالنسبة إلى أحدهما فاسدا بالنسبة إلى الآخر ومعنى التصحيح ما حصل العوض المقصود به وهذا مما يمكن تنويعه وقريب من هذا أن تخدعه بأن تستحلفه يمينا بالطلاق ثم تحثه فيها بأن تقول أقاربي يريدون أن أذهب إليهم وأنا أكره ذلك فأحلف على أن لا أخرج إليهم بالطلاق الثلاث فيحلف ثم تذهب إليهم ونحوذلك فهذا أيضا لا ريب في تحريمه فإن هذه عصته بأن فعلت ما نهاها عنه من الخروج ونحوه وخدعته بأن احتالت على أن طلق ومثل هذه الحيلة حرام بالاتفاق وهذه مثل ما قبلها
المرتبة الخامسة: أن تفعل هي ما يوجب فرقتها مثل أن ترتد أو ترضع امرأة صغيرة حتى تصير من أمهات النساء أو تباشر أباه أو ابنه وقد قدمنا أن مثل هذه المرتدة لا ينبغي أن ينفسخ نكاحها فأما الإرضاع والمباشرة فينفسخ بهما النكاح فهذا أيضا تحريمه مقطوع به وهذا قد أزيل نكاحه بغير فعل منه كما صرف الخاطب بغير فعل منه ثم إزالة النكاح الذي قد حصل ليس مثل منع المنتظر فإذا كانت قد قصدت هذا حين العقد فقد تعددت المحرمات وفساد العقد الثاني هذا أظهر من فساد عقد الخاطب الثاني بكثير وفساد العقد الأول هنا محتمل
فإن هذه بمنزلة المحلل حيث نوت أن تفعل ما يوجب الفرقة كما نوى الرجل الفرقة ولا فرق بين نية الفرقة ونية سبب الفرقة فإن نية المرأة والمطلق بيع الزوج العبد لها لما كان سببا للفرقة كان بمنزلة نية الزوج وحده الفرقة لكن يقال أنها قد لا تتمكن من الإرضاع والمباشرة كتمكن الزوج من الطلاق وتمكن المتطلق من بيع العبد
وأيضا فإن المنوي هنا فعل محرم في نفسه فقد لا يفعله بخلاف ما كان مباح الأصل وأيضا فإن المرأة لم يجعل الشرع إليها هذا الفسخ مباشرة ولا سببا فنيتها أن تفعله مثل مخادعة أحد المتعاقدين للآخر وذلك لا يقدح في صحة العقد بالنسبة إلى الزوج بخلاف نية الزوج للفسخ فإن الشارع ملكه إياه فإذا نواه خرج العقد عن أن يكون مقصودا وكذلك إذا نواه السيد والزوجة فإنهما يملكان الفرقة شرعا بنقل الملك في الزوج فإذا قصد ذلك خرج العقد عن أن يكون مقصودا ممن يملك رفعه شرعا لا سيما والسيد بمنزلة الزوج في النكاح والسيد والعبد في النكاح بمنزلة الزوج الحر فهو يملك العقد بمواطأة المرأة فنيته للفسخ كنية الزوج إذ النكاح لايصح إلا بإذن الزوج ولم يوجد للزوج إذن رغبة والمرأة لا تحتاج إلى رغبتها إذا رضيت بالعقد كما تقدم لأنها إذا ملكت استوى الحال في رغبتها وعدم رغبتها
وبالجملة فهذه قصدت الفسخ بفعل محرم فالواجب أن تلحق بالتي قبلها إذ لا فرق بين أن يكون الفعل المحرم يوجب الفسخ مباشرة أو بطريق التسبب المفضي إليه غالبا أو السبب المغلب بالمباشرة
المرتبة السادسة: أن تقصد وقت العقد الفرقة بسبب تملكه بغير رضى الزوج ومثل أن تتزوج بفقير تنوي طلب فرقته بعد الدخول بها فإنها تملك ذلك في إحدى الروايتين عن أحمد وغيره فإنها إذا رضيت بمعسر ثم سخطته ففي ثبوت الفسخ قولان معروفان فهذه إلى المحلل أقرب من التي قبلها إذ السبب هنا مملوك لها شرعا كطلاق المحلل وبيع الزوج العبد بخلاف ما لو قالت لم أعلم أنه معسر أو لم أعلم أنه ناقص عني ليس بكفء أولم أعلم أنه معيب فإن هذا يثبت لها الفسخ لكن إذا نوت ذلك فقد نوت الكذب فتصير من جنس التي قبلها إذا نوت الإرضاع أو المباشرة وهذا أقوى من حيث إن هذا الكذب ممكن فإنه من الأقوال ليس من الأفعال وإنما يفارق المحلل في جواز التوبة
ومسألة المعسر محتمل فيها تجرد اليسار فليس المنوي هنا مقطوعا بإمكانه كنية الطلاق والبيع وهذا القدر ليس بمؤثر فإنه قد لا يمكن أن يبيعها العبد أيضا بأن يحدث له عتق أو يموت المطلق أويرجع السيد عن هذه النية
ومسألة التزويج بمعسر ونحوه شبيهة بمسألة العبد فإن الفرقة قد نواها من يملكها ومتى نواها من يملكها فلا فرق بين أن يكون هو الزوج أو السيد أو الزوجة وحدها أو الزوجة وأجنبي كما لو كانت المطلقة أمة فاتفقت هي وسيدها أن يزوجها بعبد ثم يعتقها فإنهما قد اتفقا على فرقة لا يملكها الزوج مثل مسألة بيعها الزوج العبد وسائر المسائل التي قصدت الفرقة بسبب محرم مثل دعوى عدم العلم بالعسرة أو النقص أو العيب أيضا قريبة من هذا ومتى تزوجت على هذا الوجه وفارقت فهي كالرجل المحلل وأسوأ فلا يحل لكن لو أقامت عند الزوج فهل يحتاج إلى استئناف عقد كافي الرجل المحلل ولو علم الرجل أن هذا كان من نيتها وهي مقيمة عليه فهل يسعه المقام معها هذا فيه نظر فإن المرأة في النكاح مملوكة والزوج هو المالك وإن كان كل من الزوجين عاقدا ومعقودا عليه لكن الغالب على الزوج أنه مالك والغالب على المرأة أنها مملوكة
ونية الإنسان قد لا تؤثر في إبطال ملك غيره كما يؤثر في إبطال ملكه وإن كان متمكنا من ذلك بطريق محرم فالرجل إذا نوى التحليل فقد قصد ما ينافي الملك فلم يثبت الملك له فانتفت سائر الأحكام تبعا وإذا نوت المرأة أن تأتي بالفرقة فقد نوى هو للملك وهي قد ملكته نفسها في الظاهر والملك يحصل له إذا قصده حقيقة مع وجود السبب ظاهرا لكن نيتها تؤثر في جانبها خاصة فلا يحصل لها بهذا النكاح حلها للأول حيث لم تقصد أن تنكح وإنما قصدت أن تنكح والقرآن قد علق الحل بأن تنكح زوجا غيره
وقد تقدم أن قوله: حتى تنكح زوجا غيره يقتضي أن يكون هناك نكاح حقيقة من جهتها لزوج هو زوج حقيقة فإذا كان محللا لم يكن زوجا بل تيسا مستعارا وإذا كانت قد نوت أن تفعل ما يرفع النكاح لم تكن ناكحة حقيقة وهذه المسائل المتعلقة بهذا النوع من الأحكام دقيقة المسلك وتحريرها يستمد من تحقيق اقتضاء النهي والفساد وإمكان فساد العقد من وجه دون وجه ويكون الكلام في هذا لا يخص مسألة التحليل لم يحسن بسط القول فيه وهذه المراتب التي ذكرناها في نية المرأة لا بد من ملاحظتها
ولا تحسبن أن كلام أحمد وغيره من الأئمة أن نية المرأة ليست بشيء يعم ما إذا نوت أن تفارق بطريق تملكه فإنهم عللوا ذلك بأنها لا تملك الفرقة وهذه العلة منتفية في هذه الصورة ثم إنهم قالوا أن نية المرأة ليست بشيء فأما إذا نوت وعملت ما نوت فلم ينفوا تأثير العمل مع النية على أن النية المطلقة إنما تتعلق بما يملكه الناوي فعلم أنهم أرادوا بالنية أن تتزوج بالأول ولا ريب أنها إذا نوت أن تتزوج بالأول لم يؤثر ذلك شيئا كما تقرر فإن هذه النية لا تتعلق بنكاح الثاني ولم يكن اللفظ يقتضي ذلك فإن العرف قد دل على أن نية المرأة عند الإطلاق هي نية مراجعة الأول إذا أمكنت فأما إذا نوت فعلا محرما أو خديعة أو مكرا وفعلت ذلك فهذا نوع آخر وبهذا التقسيم يظهرحقيقة الحال في هذا الباب
ويظهر الجواب عما ذكرناه من جانب من اعتبر نية المرأة مطلقا والمسألة تحتمل أكثر من هذا ولكن هذا الذي تيسر الآن وهو آخر ما يسره الله تعالى في مسألة التحليل وهي كانت المقصودة أولا بالكلام ثم لما كان الكلام فيها مبنيا على قاعدة الحيل والتمس بعض الأصحاب مزيد بيان فيها ذكرنا فيها ما يسره الله تعالى على سبيل الإختصار بحسب ما يحتمله هذا الموضع وإلا فالحيل يحتاج استيفاء الكلام فيها إلى أن يفرد كل مسألة بنظر خاص ويذكر حكم الحيلة فيها وطرق إبطالها إذا وقعت
وهذا يحتمل عدة أسفار والله سبحانه وتعالى يجعل ذلك خالصا لوجهه وموافقا لمحبته ومرضاته آمين والحمدلله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين وحسبنا الله ونعم الوكيل