الرئيسيةبحث

إقامة الدليل على إبطال التحليل/14


- سئل: في قراءة المؤتم خلف الإمام: جائزة أم لا ؟ وإذا قرأ خلف الإمام: هل عليه إثم في ذلك، أم لا ؟ الجواب: القراءة خلف الإمام في الصلاة لا تبطل عند الأئمة - رضوان الله عليهم - لكن تنازع العلماء أيهما أفضل في حق المأموم ؟ فمذهب مالك والشافعي وأحمد: أن الأفضل له أن يقرأ في حال سكوت الإمام: كصلاة الظهر، والعصر، والأخيرتين من المغرب والعشاء، وكذلك يقرأ في صلاة الجهر إذا لم يسمع قراءته، ومذهب أبي حنيفة: أن الأفضل أن لا يقرأ خلفه بحال، والسلف - رضوان الله عليهم من الصحابة والتابعين - منهم من كان يقرأ، ومنهم من كان لا يقرأ خلف الإمام، وأما إذا سمع المأموم قراءة الإمام فجمهور العلماء على أنه يستمع ولا يقرأ بحال، وهذا مذهب أبي حنيفة، ومالك وأحمد، وغيرهم، ومذهب الشافعي أنه يقرأ حال الجهر بالفاتحة خاصة، ومذهب طائفة كالأوزاعي وغيره من الشاميين يقرؤها استحبابا، وهو اختيار جدنا، والذي عليه جمهور العلماء هو الفرق بين حال الجهر وحال المخافتة، فيقرأ في حال السر، ولا يقرأ في حال الجهر، وهذا أعدل الأقوال ; لأن الله تعالى، قال: { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون } فإذا قرأ الإمام فليستمع، وإذا سكت فليقرأ فإن القراءة خير من السكوت الذي لا استماع معه، ومن قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات، كما قال النبي ﷺ فلا يفوت هذا الأجر بلا فائدة بل يكون إما مستمعا، وإما قارئا، والله سبحانه وتعالى أعلم .

- مسألة: في مسجد يقرأ فيه القرآن والتلقين بكرة وعشية، ثم على باب المسجد شهود يكثرون الكلام ويقع التشويش على القراء، فهل يجوز ذلك أم لا ؟ الجواب: الحمد لله، ليس لأحد أن يؤذي أهل المسجد أهل الصلاة أو القراءة أو الذكر أو الدعاء ونحو ذلك مما بنيت المساجد له، فليس لأحد أن يفعل في المسجد ولا على بابه قريبا منه ما يشوش على هؤلاء، بل قد { خرج النبي ﷺ على أصحابه وهم يصلون ويجهرون بالقراءة فقال: يا أيها الناس كلكم يناجي ربه فلا يجهر بعضكم على بعض في القراءة } "، فإذا كان قد نهى المصلي أن يجهر على المصلي فكيف بغيره ؟ ومن فعل ما يشوش به على أهل المسجد أو فعل ما يفضي إلى ذلك منع من ذلك، والله أعلم .

- مسألة: عن رجل دعا دعاء ملحونا، فقال له رجل: ما يقبل الله دعاء ملحونا، وأما من دعا الله مخلصا له الدين بدعاء جائز سمعه الله وأجاب دعاه، سواء كان معربا أو ملحونا، والكلام المذكور لا أصل له، بل ينبغي للداعي إذا لم يكن عادته الإعراب أن لا يتكلف الإعراب، قال بعض السلف: إذا جاء الإعراب ذهب الخشوع، وهذا كما يكره تكلف السجع في الدعاء فإذا وقع بغير تكلف فلا بأس به، فإن أصل الدعاء من القلب، واللسان تابع للقلب، ومن جعل همته في الدعاء تقويم لسانه أضعف توجه قلبه، ولهذا يدعو المضطر بقلبه دعاء يفتح عليه، لا يحضره قبل ذلك، وهذا أمر يجده كل مؤمن في قلبه، والدعاء يجوز بالعربية وبغير العربية، والله سبحانه يعلم قصد الداعي ومراده، وإن لم يقوم لسانه فإنه يعلم ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تنوع الحاجات .

فصل: وأما قول من قال: إن الله ينظر إلى الفقراء في ثلاثة مواطن: عند الأكل، والمناصفة، والسماع، فهذا القول روي نحوه عن بعض الشيوخ قال: إن الله ينظر إليهم عند الأكل فإنهم يأكلون بإيثار، وعند المجاراة في العلم لأنهم يقصون المناصحة، وعند السماع لأنهم يسمعون لله، أو كلاما يشبه هذا، والأصل الجامع في هذا: أن من عمل عملا يحبه الله ورسوله وهو ما كان لله بإذن الله فإن الله يحبه وينظر إليه فيه نظر محبة، والعمل الصالح هو الخالص الصواب، فالخالص ما كان لله، والصواب ما كان بأمر الله، ولا ريب أن كل واحد من المواكلة والمخاطبة والاستماع منها ما يحبه الله، ومنها ما يشتمل على خير، وشر، وحق، وباطل، ومصلحة، ومفسدة، وحكم كل واحد بحسبه، فصل: وما يفعله بعض الناس من تحري الصلاة والدعاء عند ما يقال إنه قبر نبي، أو قبر أحد من الصحابة والقرابة، أو ما يقرب من ذلك، أو إلصاق بدنه، أو شيء من بدنه بالقبر، أو بما يجاور القبر من عود وغيره، كمن يتحرى الصلاة والدعاء في قبلي شرقي جامع دمشق عند الموضع الذي يقال أنه قبر هود والذي عليه العلماء أنه قبر معاوية بن أبي سفيان أو عند المثال الخشب الذي يقال تحته رأس يحيى بن زكريا ونحو ذلك: فهو مخطئ مبتدع، مخالف للسنة، فإن الصلاة والدعاء بهذه الأمكنة ليس له مزية عند أحد من سلف الأمة وأئمتها، ولا كانوا يفعلون ذلك، بل كانوا ينهون عن مثل ذلك، كما نهاهم النبي ﷺ عن أسباب ذلك ودواعيه، وإن لم يقصدوا دعاء القبر، والدعاء به، فكيف إذا قصدوا ذلك .

فصل: وأما قوله: هل للدعاء خصوصية قبول أو سرعة إجابة بوقت معين، أو مكان معين عند قبر نبي أو ولي، فلا ريب أن الدعاء في بعض الأوقات والأحوال أجوب منه في بعض، فالدعاء في جوف الليل أجوب الأوقات، كما ثبت في الصحيحين: عن النبي ﷺ أنه قال: { ينزل ربنا إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير - وفي رواية: نصف الليل - فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له، حتى يطلع الفجر } "، وفي حديث آخر: { أقرب ما يكون الرب من عبده في جوف الليل الأخير } " والدعاء مستحب عند نزول المطر، وعند التحام الحرب، وعند الأذان، والإقامة، وفي أدبار الصلوات، وفي حال السجود، ودعوة الصائم، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم، وأمثال ذلك، فهذا كله مما جاءت به الأحاديث المعروفة في الصحاح والسنن، والدعاء بالمشاعر: كعرفة، ومزدلفة، ومنى، والملتزم، ونحو ذلك من مشاعر مكة، والدعاء بالمساجد مطلقا، وكلما فضل المسجد كالمساجد الثلاثة كانت الصلاة والدعاء أفضل، وأما الدعاء لأجل كون المكان فيه قبر نبي، أو ولي، فلم يقل أحد من سلف الأمة وأئمتها إن الدعاء فيه أفضل من غيره ولكن هذا مما ابتدعه بعض أهل القبلة مضاهاة للنصارى وغيرهم من المشركين، فأصله من دين المشركين، لا من دين عباد الله المخلصين، كاتخاذ القبور مساجد، فإن هذا لم يستحبه أحد من سلف الأمة وأئمتها، ولكن ابتدعه بعض أهل القبلة مضاهاة لمن لعنهم رسول الله ﷺ من اليهود والنصارى، فصل: وأما قول السائل هل يجوز أن يستغيث إلى الله في الدعاء بنبي مرسل، أو ملك مقرب، أو بكلامه تعالى، أو بالكعبة، أو بالدعاء المشهور باحتياط قاف، أو بدعاء أم داود، أو الخضر، ويجوز أن يقسم على الله في السؤال بحق فلان بحرمة فلان بجاه المقربين بأقرب الخلق، أو يقسم بأعمالهم وأفعالهم، فيقال هذا السؤال فيه فصول متعددة، فأما الأدعية التي جاءت بها السنة ففيها سؤال الله بأسمائه، وصفاته، والاستعاذة بكلامه كما في الأدعية التي في السنن، مثل قوله: { اللهم إني أسألك بأن لك الحمد أنت الله، بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم } "، ومثل قوله: { اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد } " . ومثل الدعاء الذي في المسند { اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك } "، وأما الأدعية التي يدعو بها بعض العامة ويكتبها باعة الحروز من الطرقية التي فيها: أسألك باحتياط قاف، وهو يوف المخاف، والطور، والعرش، والكرسي، وزمزم، والمقام، والبلد الحرام، وأمثال هذه الأدعية فلا يؤثر منها شيء لا عن النبي ﷺ ولا عن أصحابه، ولا عن أئمة المسلمين، وليس لأحد أن يقسم بهذه بحال، بل قد ثبت عن النبي ﷺ: أنه قال: { من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت } "، وقال: { من حلف بغير الله فقد أشرك } " فليس لأحد أن يقسم بالمخلوقات ألبتة، وقد قال النبي ﷺ: { إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره } "، كما قال أنس بن النضر: أتكسر ثنية الربيع لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنية الربيع، وكما قال البراء بن مالك: أقسمت عليك أي رب إلا فعلت كذا وكذا، وكلاهما كان ممن يبر الله قسمه، والعبد يسأل ربه بالأسباب التي تقتضي مطلوبه وهي الأعمال الصالحة التي وعد الثواب عليها، ودعا عباده المؤمنين الذين وعد إجابتهم كما كان الصحابة يتوسلون إلى الله تعالى بنبيه ثم بعمه وغير عمه من صالحيهم يتوسلون بدعائه وشفاعته، كما في الصحيح: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استسقى بالعباس فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون فتوسلوا بعد موته بالعباس كما كانوا يتوسلون به، وهو توسلهم بدعائه وشفاعته، ومن ذلك ما رواه أهل السنن، وصححه الترمذي: أن رجلا قال للنبي ﷺ: ادع الله أن يرد علي بصري، فأمره أن يتوضأ ويصلي ركعتين ويقول: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد يا رسول الله إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها، اللهم فشفعه في، فهذا طلب من النبي ﷺ وأمره أن يسأل الله أن يقبل شفاعة النبي له في توجيهه بنبيه إلى الله هو كتوسل غيره من الصحابة به إلى الله، فإن هذا التوجه والتوسل هو توجه وتوسل بدعائه وشفاعته .

-وسئل شيخ الإسلام رحمه الله، عن أهل مدينة رأى بعضهم هلال ذي الحجة، ولم يثبت عند حاكم المدينة: فهل لهم أن يصوموا اليوم الذي في الظاهر التاسع، وإن كان في الباطن العاشر ؟ فأجاب: نعم، يصومون التاسع في الظاهر المعروف عند الجماعة، وإن كان في نفس الأمر يكون عاشرا، ولو قدر ثبوت تلك الرؤية، فإن في السنن: عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: { صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون } "، أخرجه أبو داود، وابن ماجه، والترمذي وصححه، وعن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: قال رسول الله ﷺ: { الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحي الناس } " رواه الترمذي، وعلى هذا العمل عند أئمة المسلمين كلهم، فإن الناس لو وقفوا بعرفة في اليوم العاشر خطأ أجزأهم الوقوف بالاتفاق، وكان ذلك اليوم يوم عرفة في حقهم، ولو وقفوا الثامن خطأ ففي الإجزاء نزاع، والأظهر صحة الوقوف أيضا، وهو أحد القولين في مذهب مالك، ومذهب أحمد وغيره، قالت عائشة - رضي الله عنها - " إنما عرفة اليوم الذي يعرفه الناس " وأصل ذلك أن الله سبحانه وتعالى علق الحكم بالهلال والشهر، فقال تعالى: { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج } والهلال اسم لما يستهل به: أي يعلن به، ويجهر به فإذا طلع في السماء ولم يعرفه الناس ويستهلوا لم يكن هلالا، وكذا الشهر مأخوذ من الشهرة، فإن لم يشتهر بين الناس لم يكن الشهر قد دخل، وإنما يغلط كثير من الناس في مثل هذه المسألة ؟ لظنهم أنه إذا طلع في السماء كان تلك الليلة أول الشهر، سواء ظهر ذلك للناس واستهلوا به أو لا، وليس كذلك: بل ظهوره للناس واستهلالهم به لا بد منه: ولهذا قال النبي ﷺ: { صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون } "، أي: هذا اليوم الذي تعلمون أنه وقت الصوم، والفطر، والأضحى، فإذا لم تعلموه لم يترتب عليه حكم، وصوم اليوم الذي يشك فيه: هل هو تاسع ذي الحجة ؟ أو عاشر ذي الحجة ؟ جائز بلا نزاع بين العلماء ; لأن الأصل عدم العاشر، كما أنهم لو شكوا ليلة الثلاثين من رمضان ; هل طلع الهلال ؟ أم لم يطلع ؟ فإنهم يصومون ذلك اليوم المشكوك فيه باتفاق الأئمة، وإنما يوم الشك الذي رويت فيه الكراهة الشك في أول رمضان ; لأن الأصل بقاء شعبان، وإنما الذي يشتبه في هذا الباب مسألتان: إحداهما: لو رأى هلال شوال وحده، أو أخبره به جماعة يعلم صدقهم: هل يفطر ؟ أم لا ؟ والثانية: لو رأى هلال ذي الحجة، أو أخبره به جماعة يعلم صدقهم، هل يكون في حقه يوم عرفة، ويوم النحر هو التاسع، والعاشر بحسب هذه الرؤية التي لم تشتهر عند الناس ؟ أو هو التاسع والعاشر الذي اشتهر عند الناس ؟، فأما المسألة الأولى: فالمنفرد برؤية هلال شوال، لا يفطر علانية، باتفاق العلماء، إلا أن يكون له عذر يبيح الفطر كمرض وسفر، وهل يفطر سرا على قولين للعلماء أصحهما لا يفطر سرا، وهو مذهب مالك، وأحمد في المشهور في مذهبهما، وفيهما قول أنه يفطر سرا كالمشهور في مذهب أبي حنيفة، والشافعي، وقد روى أن رجلين في زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رأيا هلال شوال، فأفطر أحدهما، ولم يفطر الآخر، فلما بلغ ذلك عمر قال: للذي أفطر لولا صاحبك لأوجعتك ضربا، والسبب في ذلك أن الفطر يوم يفطر الناس، وهو يوم العيد، والذي صامه المنفرد برؤية الهلال ليس هو يوم العيد الذي نهى النبي ﷺ عن صومه، فإنه نهى عن صوم يوم الفطر، ويوم النحر، وقال: { أما أحدهما فيوم فطركم من صومكم، وأما الآخر فيوم تأكلون فيه من نسككم } "، فالذي نهى عن صومه هو اليوم الذي يفطره المسلمون، وينسك فيه المسلمون، وهذا يظهر بالمسألة الثانية، فإنه لو انفرد برؤية ذي الحجة لم يكن له أن يقف قبل الناس في اليوم الذي هو في الظاهر الثامن، وإن كان بحسب رؤيته هو التاسع، وهذا لأن في انفراد الرجل في الوقوف، والذبح، من مخالفة الجماعة ما في إظهاره للفطر، وأما صوم يوم التاسع في حق من رأى الهلال، أو أخبره ثقتان أنهما رأيا الهلال، وهو العاشر بحسب ذلك، ولم يثبت ذلك عند العامة، وهو العاشر بحسب الرؤية الخفية، فهذا يخرج على ما تقدم، فمن أمره بالصوم يوم الثلاثين الذي هو بحسب الرؤية الخفية من شوال، ولم يأمره بالفطر سرا، سوغ له صوم هذا اليوم، واستحبه ; لأن هذا هو يوم عرفة، كما أن ذلك من رمضان، وهذا هو الصحيح الذي دلت عليه السنة والاعتبار، ومن أمره بالفطر سرا لرؤيته، نهاه عن صوم هذا اليوم عند هذا القائل، كهلال شوال الذي انفرد برؤيته، فإن قيل: قد يكون الإمام الذي فوض إليه إثبات الهلال مقصرا، لرده شهادة العدول، إما لتقصيره في البحث عن عدالتهم، وإما رد شهادتهم لعداوة بينه وبينهم، أو غير ذلك من الأسباب، التي ليست بشرعية، أو لاعتماده على قول المنجم الذي زعم أنه لا يرى، قيل: ما يثبت من الحكم لا يختلف الحال فيه بين الذي يؤتم به في رؤية الهلال، مجتهدا مصيبا كان أو مخطئا، أو مفرطا، فإنه إذا لم يظهر الهلال ويشتهر بحيث يتحرى الناس فيه، وقد ثبت في الصحيح أن { النبي ﷺ قال: في الأئمة: يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم } "، فخطؤه وتفريطه عليه، لا على المسلمين الذين لم يفرطوا، ولم يخطئوا، ولا ريب أنه ثبت بالسنة الصحيحة واتفاق الصحابة أنه لا يجوز الاعتماد على حساب النجوم، كما ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: { إنا أمة أمية لا نكتب، ولا نحسب، صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته } "، والمعتمد على الحساب في الهلال، كما أنه ضال في الشريعة، مبتدع في الدين، فهو مخطئ في العقل وعلم الحساب، فإن العلماء بالهيئة يعرفون أن الرؤية لا تنضبط بأمر حسابي، وإنما غاية الحساب منهم إذا عدل أن يعرف كم بين الهلال والشمس من درجة وقت الغروب مثلا ; لكن الرؤية ليست مضبوطة بدرجات محدودة، فإنها تختلف باختلاف حدة النظر وكلاله، وارتفاع المكان الذي يتراءى فيه الهلال، وانخفاضه، وباختلاف صفاء الجو وكدره، وقد يراه بعض الناس لثماني درجات، وآخر لا يراه لثنتي عشرة درجة ; ولهذا تنازع أهل الحساب في قوس الرؤية تنازعا مضطربا، وأئمتهم: كبطليموس، لم يتكلموا في ذلك بحرف، لأن ذلك لا يقوم عليه دليل حسابي، وإنما يتكلم فيه بعض متأخريهم، مثل كوشياز الديلمي، وأمثاله، لما رأوا الشريعة علقت الأحكام بالهلال، فرأوا الحساب طريقا تنضبط فيه الرؤية، وليست طريقة مستقيمة، ولا معتدلة، بل خطأها كثير، وقد جرب، وهم يختلفون كثيرا: هل يرى ؟ أم لا يرى ؟ وسبب ذلك: أنهم ضبطوا بالحساب ما لا يعلم بالحساب، فأخطئوا طريق الصواب، وقد بسطت الكلام على ذلك في غير هذا الموضع، وبينت أن ما جاء به الشرع الصحيح هو الذي يوافقه العقل الصريح، كما تكلمت على حد اليوم أيضا، وبينت أنه لا ينضبط بالحساب، لأن اليوم يظهر بسبب الأبخرة المتصاعدة، فمن أراد أن يأخذ حصة العشاء من حصة الفجر، إنما يصح كلامه لو كان الموجب لظهور النور وخفائه محاذاة الأفق التي تعلم بالحساب، فأما إذا كان للأبخرة في ذلك تأثير، والبخار يكون في الشتاء والأرض الرطبة أكثر مما يكون في الصيف والأرض اليابسة، وكان ذلك لا ينضبط بالحساب، فسدت طريقة القياس الحسابي، ولهذا توجد حصة الفجر في زمان الشتاء أطول منها في زمان الصيف، والآخذ بمجرد القياس الحسابي يشكل عليه ذلك، لأن حصة الفجر عنده تتبع النهار، وهذا أيضا مبسوط في موضعه، والله سبحانه أعلم، وصلى الله على محمد .

- وسئل رحمه الله تعالى، عن المسافر في رمضان، ومن يصوم، ينكر عليه، وينسب إلى الجهل، ويقال له الفطر أفضل، وما هو مسافة القصر: وهل إذا أنشأ السفر من يومه يفطر ؟ ؟ وهل يفطر السفار من المكارية والتجار والجمال والملاح وراكب البحر ؟ وما الفرق بين سفر الطاعة، وسفر المعصية ؟ فأجاب: الحمد لله: الفطر للمسافر جائز باتفاق المسلمين، سواء كان سفر حج، أو جهاد، أو تجارة، أو نحو ذلك من الأسفار التي لا يكرهها الله ورسوله، وتنازعوا في سفر المعصية كالذي يسافر ليقطع الطريق ونحو ذلك، على قولين مشهورين كما تنازعوا في قصر الصلاة، فأما السفر الذي تقصر فيه الصلاة فإنه يجوز فيه الفطر مع القضاء باتفاق الأئمة، ويجوز الفطر للمسافر باتفاق الأمة، سواء كان قادرا على الصيام، أو عاجزا، وسواء شق عليه الصوم، أو لم يشق، بحيث لو كان مسافرا في الظل والماء ومعه من يخدمه جاز له الفطر والقصر، ومن قال: إن الفطر لا يجوز إلا لمن عجز عن الصيام فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وكذلك من أنكر على المفطر، فإنه يستتاب من ذلك، ومن قال: إن المفطر عليه إثم، فإنه يستتاب من ذلك، فإن هذه الأحوال خلاف كتاب الله، وخلاف سنة رسول الله ﷺ وخلاف إجماع الأمة، وهكذا السنة للمسافر أنه يصلي الرباعية ركعتين، والقصر أفضل له من التربيع، عند الأئمة الأربعة: كمذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد والشافعي، في أصح قوليه، ولم تتنازع الأمة في جواز الفطر للمسافر ; بل تنازعوا في جواز الصيام للمسافر، فذهب طائفة من السلف والخلف إلى أن الصائم في السفر كالمفطر في الحضر، وأنه إذا صام لم يجزه بل عليه أن يقضي ويروى هذا عن عبد الرحمن بن عوف، وأبي هريرة، وغيرهما من السلف وهو مذهب أهل الظاهر، وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: { ليس من البر الصوم في السفر } "، لكن مذهب الأئمة الأربعة أنه يجوز للمسافر أن يصوم، وأن يفطر، كما في الصحيحين { عن أنس قال: كنا نسافر مع النبي ﷺ في رمضان فمنا الصائم، ومنا المفطر، فلا يعيب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم } "، وقد قال الله تعالى: { ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر، يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر }، وفي المسند عن النبي ﷺ أنه قال: { إن الله يحب أن يؤخذ برخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته } "، وفي الصحيح أن رجلا قال للنبي ﷺ: إني رجل أكثر الصوم، أفأصوم في السفر ؟ فقال: { إن أفطرت فحسن، وإن صمت فلا بأس } "، وفي حديث آخر: { خياركم الذين في السفر يقصرون ويفطرون } "، وأما مقدار السفر الذي يقصر فيه، ويفطر: فمذهب مالك والشافعي وأحمد أنه مسيرة يومين قاصدين بسير الإبل والأقدام، وهو ستة عشر فرسخا، كما بين مكة وعسفان، ومكة وجدة، وقال أبو حنيفة: مسيرة ثلاثة أيام، وقال طائفة من السلف والخلف: بل يقصر ويفطر في أقل من يومين، وهذا قول قوي، فإنه قد ثبت أن { النبي ﷺ يصلي بعرفة، ومزدلفة، ومنى، يقصر الصلاة، وخلفه أهل مكة وغيرهم يصلون بصلاته }، لم يأمر أحدا منهم بإتمام الصلاة، وإذا سافر في أثناء يوم، فهل يجوز له الفطر ؟ على قولين مشهورين للعلماء، هما روايتان عن أحمد، أظهرهما: أنه يجوز ذلك، كما ثبت في السنن أن من الصحابة من كان يفطر إذا خرج من يومه، ويذكر أن ذلك سنة النبي ﷺ، وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ { أنه نوى الصوم في السفر، ثم إنه دعا بماء فأفطر، والناس ينظرون إليه }، وأما اليوم الثاني: فيفطر فيه بلا ريب، وإن كان مقدار سفره يومين في مذهب جمهور الأئمة والأمة، وأما إذا قدم المسافر في أثناء يوم، ففي وجوب الإمساك عليه نزاع مشهور بين العلماء ; لكن عليه القضاء سواء أمسك أو لم يمسك، ويفطر من عادته السفر إذا كان له بلد يأوي إليه، كالتاجر الجلاب الذي يجلب الطعام، وغيره من السلع، وكالمكاري الذي يكري دوابه من الجلاب وغيرهم، وكالبريد الذي يسافر في مصالح المسلمين، ونحوهم، وكذلك الملاح الذي له مكان في البر يسكنه، فأما من كان معه في السفينة امرأته، وجميع مصالحه، ولا يزال مسافرا فهذا لا يقصر، ولا يفطر، وأهل البادية: كأعراب العرب، والأكراد، والترك، وغيرهم الذين يشتون في مكان، ويصيفون في مكان، إذا كانوا في حال ظعنهم من المشتى إلى المصيف، ومن المصيف إلى المشتى: فإنهم يقصرون، وأما إذا نزلوا بمشتاهم، ومصيفهم، لم يفطروا، ولم يقصروا، وإن كانوا يتتبعون المراعي، والله أعلم .

- وسئل رحمه الله تعالى، عن إمام جماعة بمسجد مذهبه حنفي ذكر لجماعته أن عنده كتابا فيه أن الصيام في شهر رمضان إذا لم ينو بالصيام قبل عشاء الآخرة، أو بعدها أو وقت السحور، وإلا فما له في صيامه أجر: فهل هذا صحيح ؟ أم لا ؟ فأجاب: الحمد لله، على كل مسلم يعتقد أن الصوم واجب عليه، وهو يريد أن يصوم شهر رمضان النية، فإذا كان يعلم أن غدا من رمضان فلا بد أن ينوي الصوم، فإن النية محلها القلب، وكل من علم ما يريد فلا بد أن ينويه، والتكلم بالنية ليس واجبا بإجماع المسلمين، فعامة المسلمين إنما يصومون بالنية، وصومهم صحيح بلا نزاع بين العلماء والله أعلم . - وسئل رحمه الله تعالى عمن يكون مسافرا في رمضان، ولم يصبه جوع، ولا عطش، ولا تعب: فما الأفضل له، الصيام ؟ أم الإفطار ؟ فأجاب: أما المسافر فيفطر باتفاق المسلمين وإن لم يكن عليه مشقة، والفطر له أفضل، وإن صام جاز عند أكثر العلماء، ومنهم من يقول لا يجزئه .

كتاب الصيام - مسألة: سئل شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، عن صوم يوم الغيم هل هو واجب أم لا ؟ وهل هو يوم شك منهي عنه أم لا ؟ فأجاب: وأما صوم يوم الغيم إذا حال دون رؤية الهلال غيم أو قتر، فللعلماء فيه عدة أقوال وهي في مذهب أحمد وغيره، أحدها: إن صومه منهي عنه، ثم هل هو نهي تحريم ؟ أو تنزيه ؟ على قولين، وهذا هو المشهور في مذهب مالك، والشافعي، وأحمد في إحدى الروايات عنه، واختار ذلك طائفة من أصحابه: كأبي الخطاب وابن عقيل، وأبي القاسم بن منده الأصفهاني، وغيرهم، والقول الثاني: أن صيامه واجب كاختيار القاضي، والخرقي، وغيرهما من أصحاب أحمد، وهذا يقال إنه أشهر الروايات عن أحمد، لكن الثابت عن أحمد لمن عرف نصوصه، وألفاظه، أنه كان يستحب صيام يوم الغيم إتباعا لعبد الله بن عمر، وغيره من الصحابة، ولم يكن عبد الله بن عمر يوجبه على الناس، بل كان يفعله احتياطا، وكان الصحابة فيهم من يصومه احتياطا، ونقل ذلك عن عمر، وعلي، ومعاوية وأبي هريرة، وابن عمر، وعائشة، وأسماء، وغيرهم، ومنهم من كان لا يصومه مثل كثير من الصحابة، ومنهم من كان ينهى عنه، كعمار بن ياسر، وغيره، فأحمد رضي الله عنه كان يصومه احتياطا، وأما إيجاب صومه فلا أصل له في كلام أحمد، ولا كلام أحد من أصحابه: لكن كثير من أصحابه اعتقدوا أن مذهبه إيجاب صومه، ونصروا ذلك القول، والقول الثالث: إنه يجوز صومه، ويجوز فطره، وهذا مذهب أبي حنيفة، وغيره، وهو مذهب أحمد المنصوص الصريح عنه، وهو مذهب كثير من الصحابة والتابعين أو أكثرهم، وهذا كما أن الإمساك عند الحائل عن رؤية الفجر جائز، فإن شاء أمسك، وإن شاء أكل حتى يتيقن طلوع الفجر، وكذلك إذا شك هل أحدث ؟ أم لا ؟ إن شاء توضأ، وإن شاء لم يتوضأ، وكذلك إذا شك هل حال حول الزكاة ؟ أو لم يحل ؟ وإذا شك هل الزكاة الواجبة عليه مائة ؟ أو مائة وعشرون ؟ فأدى الزيادة، وأصول الشريعة كلها مستقرة على أن الاحتياط ليس بواجب، ولا محرم، ثم إذا صامه بنية مطلقة، أو بنية معلقة، بأن ينوي إن كان من شهر رمضان كان عن رمضان، وإلا فلا، فإن ذلك يجزيه في مذهب أبي حنيفة، وأحمد في أصح الروايتين عنه، وهي التي نقلها المروزي وغيره، وهذا اختيار الخرقي في شرحه للمختصر، واختيار أبي البركات وغيرهما، والقول الثاني: إنه لا يجزيه إلا بنية أنه من رمضان، كإحدى الروايتين عن أحمد، اختارها القاضي، وجماعة من أصحابه، وأصل هذه المسألة أن تعيين النية لشهر رمضان: هل هو واجب ؟ فيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد: أحدها: أنه لا يجزيه، إلا أن ينوي رمضان، فإن صام بنية مطلقة، أو معلقة، أو بنية النفل أو النذر، لم يجزئه ذلك كالمشهور من مذهب الشافعي، وأحمد في إحدى الروايات، والثاني: يجزئه مطلقا كمذهب أبي حنيفة، والثالث: أنه يجزئه بنية مطلقة، لا بنية تعيين، غير رمضان، وهذه الرواية الثالثة عن أحمد، وهي اختيار الخرقي، وأبي البركات، وتحقيق هذه المسألة: أن النية تتبع العلم، فإن علم أن غدا من رمضان فلا بد من التعيين في هذه الصورة، فإن نوى نفلا أو صوما مطلقا لم يجزه: لأن الله أمره أن يقصد أداء الواجب عليه، وهو شهر رمضان الذي علم وجوبه، فإذا لم يفعل الواجب لم تبرأ ذمته، وأما إذا كان لا يعلم أن غدا من شهر رمضان، فهنا لا يجب عليه التعيين، ومن أوجب التعيين مع عدم العلم فقد أوجب الجمع بين الضدين، فإذا قيل إنه يجوز صومه وصام في هذه الصورة بنية مطلقة، أو معلقة أجزأه، وأما إذا قصد صوم ذلك تطوعا، ثم تبين أنه كان من شهر رمضان، فالأشبه أنه يجزئه أيضا، كمن كان لرجل عنده وديعة، ولم يعلم ذلك، فأعطاه ذلك على طريق التبرع، ثم تبين أنه حقه، فإنه لا يحتاج إلى إعطائه ثانيا، بل ذلك الذي وصل إليك هو حق كان لك عندي، والله يعلم حقائق الأمور، والرواية التي تروى عن أحمد أن الناس فيه تبع للإمام في نيته، على أن الصوم والفطر بحسب ما يعلمه الناس، كما في السنن عن النبي ﷺ أنه قال: { صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون }، وقد تنازع الناس في " الهلال ": هل هو اسم لما يطلع في السماء وإن لم يره أحد ؟ أو لا يسمى هلالا حتى يستهل به الناس ويعلموه ؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره، وعلى هذا ينبني النزاع فيما إذا كانت السماء مطبقة بالغيم، أو في يوم الغيم مطلقا، هل هو يوم شك ؟ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره: أحدها: أنه ليس بشك، بل الشك إذا أمكنت رؤيته، وهذا قول كثير من أصحاب الشافعي، وغيرهم، والثاني: أنه شك لإمكان طلوعه، والثالث: أنه من رمضان حكما، فلا يكون يوم شك، وهو اختيار طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم، وقد تنازع الفقهاء في المنفرد برؤية هلال الصوم والفطر، هل يصوم ويفطر وحده ؟ أو لا يصوم ولا يفطر إلا مع الناس ؟ أو يصوم وحده ويفطر مع الناس ؟ على ثلاثة أقوال، معروفة في مذهب أحمد وغيره . وأما نكاح التحليل، فقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: { لعن الله المحلل والمحلل له }، ولا تجبر المرأة على نكاح التحليل باتفاق العلماء، والله أعلم .

- وسئل شيخ الإسلام، ما يقول سيدنا في صائم رمضان، هل يفتقر كل يوم إلى نية ؟ أم لا ؟ فأجاب: كل من علم أن غدا من رمضان، وهو يريد صومه، فقد نوى صومه، سواء تلفظ بالنية، أو لم يتلفظ، وهذا فعل عامة المسلمين، كلهم ينوي الصيام .

- سئل: عن بكاء الأم والإخوة على الميت: هل فيه بأس على الميت ؟ أجاب: أما دمع العين، وحزن القلب، فلا إثم فيه ; لكن الندب والنياحة منهي عنه، وأي صدقة تصدق بها عن الميت نفعه ذلك .

- مسألة: عن حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: { لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن قالوا: يا رسول الله كيف إذنها ؟ قال: أن تسكت }، متفق عليه، وعن ابن عباس رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ، قال: { الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها } وفي رواية: { البكر يستأذنها أبوها في نفسها وصمتها إقرارها }، رواه مسلم في صحيحه، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: { سألت رسول الله ﷺ عن الجارية ينكحها أهلها أتستأمر أم لا ؟ فقال لها رسول الله ﷺ: نعم تستأمر، قالت عائشة: فقلت له: فإنها تستحي، فقال رسول الله ﷺ: فذلك إذنها إذا هي سكتت }، وعن خنساء ابنة خذام، أن { أباها زوجها وهي بنت، فكرهت ذلك، فأتت رسول الله ﷺ فرد نكاحه } رواه البخاري ؟ قال شيخ الإسلام رحمه الله: فالمرأة لا ينبغي لأحد أن يزوجها، إلا بإذنها كما أمر النبي ﷺ فإن كرهت ذلك لم تجبر على النكاح، إلا الصغيرة البكر، فإن أباها يزوجها ولا إذن لها، وأما البالغ الثيب فلا يجوز تزويجها بغير إذنها لا للأب ولا لغيره بإجماع المسلمين، وكذلك البكر البالغ ليس لغير الأب والجد تزويجها بدون إذنها بإجماع المسلمين، فأما الأب والجد فينبغي لهما استئذانها، واختلف العلماء في استئذانها، هل هو واجب أو مستحب ؟ والصحيح أنه واجب، ويجب على ولي المرأة أن يتقي الله فيمن يزوجها به، وينظر في الزوج هل هو كفؤ أو غير كفؤ ؟ فإنه إنما يزوجها لمصلحتها لا لمصلحته، وليس له أن يزوجها بزوج ناقص لغرض له، مثل أن يتزوج مولية ذلك الزوج بدلها، فيكون من جنس الشغار الذي نهى عنه النبي ﷺ، أو يزوجها بأقوام يخالفهم على أغراض له فاسدة، أو يزوجها لرجل لمال يبذله له، وقد خطبها من هو أصلح لها من ذلك الزوج، فيقدم الخاطب الذي برطله على الخاطب الكفء الذي لم يبرطله، وأصل ذلك أن تصرف الولي في بضع وليته كتصرفه في مالها، فكما لا يتصرف في مالها إلا بما هو أصلح، كذلك لا يتصرف في بعضها إلا بما هو أصلح لها، إلا أن الأب له من التبسط في مال ولده ما ليس لغيره، كما قال النبي ﷺ: { أنت ومالك لأبيك } بخلاف غير الأب .

- مسألة: في رجل تزوج امرأة على أنها بكر، فبانت ثيبا فهل له فسخ النكاح ويرجع على من غره أم لا ؟، الجواب: له فسخ النكاح، وله أن يطالب بأرش الصداق، وهو تفاوت ما بين مهر البكر والثيب فينقص بنسبته من المسمى، وإذا فسخ قبل الدخول سقط عنه المهر، والله أعلم .

- مسألة: في رجل له عبد وقد حبس نصفه، قصد الزواج، فهل له أن يتزوج أم لا ؟، الجواب: نعم له التزوج على أصل من يجبر السيد على تزويجه، كمذهب أحمد والشافعي على أحد قوليه، فإن تزويجه كالإنفاق عليه إذا كان محتاجا إلى ذلك، وقد قال تعالى: { وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم }، فأمر بتزويج العبيد والإماء، كما أمر بتزويج الأيامى، وتزويج الأمة إذا طلبت النكاح من كفؤ واجب باتفاق العلماء، والذي يأذن له في النكاح مالك نصفه، أو وكيله، وناظر النصيب المحبس .

- مسألة: في رجل تزوج بالغة من جدها أبي أبيها وما رشدها ولا معه وصية من أبيها، فلما دنت وفاة جدها أوصى على البنت رجلا أجنبيا، فهل للجد المذكور على الزوجة ولاية بعد أن أصابها الزوج ؟ وهل له أن يوصي عليها ؟ الجواب: أما إذا كانت رشيدة فلا ولاية عليها لا للجد ولا غيره، باتفاق الأئمة، وإن كانت ممن يستحق الحجر عليها ففيه للعلماء قولان: أحدهما: أن الجد له ولاية وهذا مذهب أبي حنيفة، والثاني: لا ولاية له، وهو مذهب مالك وأحمد في المشهور عنه، وإذا تزوجت الجارية ومضت عليها سنة، وأولدها أمكن أن تكون رشيدة باتفاق العلماء . - مسألة: في رجل تحت حجر والده، وقد تزوج بغير إذن والده، وشهد المعروفون أن والده مات وهو حي، فهل يصح العقد أم لا ؟ وهل يجب على الولد إذا تزوج بغير إذن والده حق أم لا ؟ الجواب: إن كان سفيها محجورا عليه لا يصح نكاحه بدون إذن أبيه، ويفرق بينهما، وإذا فرق بينهما قبل الدخول فلا شيء عليه، وإن كان رشيدا صح نكاحه، وإن لم يأذن له أبوه، وإذا تنازع الزوجان هل نكح وهو رشد أو وهو سفيه ؟ فالقول قول مدعي صحة النكاح .

مسألة: في الرافضي، ومن يقول: لا تلزمه الصلوات الخمس، هل يصح نكاحه من الرجال والنساء ؟ فإن تاب من الرفض، ولزم الصلاة حينا، ثم عاد لما كان عليه، هل يقر على ما كان عليه من النكاح ؟ الجواب: لا يجوز لأحد أن ينكح موليته رافضيا، ولا يترك الصلاة، ومتى زوجوه على أنه صلى فصلى الخمس، ثم ظهر أنه رافضي لا يصلي، أو عاد إلى الرفض وترك الصلاة، فإنهم يفسخون النكاح .

- مسألة: في رجل متزوج بخالة إنسان، وله بنت فتزوج بها، فجمع بين خالته وابنته، فهل يصح ؟ الجواب: لا يجوز أن يتزوج خالة رجل وبنته بأن يجمع بينهما، فإن { النبي ﷺ: نهى أن يجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها } "، وهذا متفق عليه بين الأئمة الأربعة، وهم متفقون على أن هذا الحديث يتناول خالة الأب، وخالة الأم، والجدة، ويتناول عمة كل من الأبوين أيضا، فليس له أن يجمع بين المرأة وخالة أبيها، ولا خالة أمها عند الأئمة الأربعة .

- مسألة: في رجل زوج ابنته لرجل، وأراد الزوج السفر إلى بلاده، فقال له وكيل الأب في قبول النكاح: لا تسافر، إما أن تعطي الحال من الصداق، وتنتقل بالزوجة، أو ترضي الأب، فسافر ولم يجب إلى ذلك، وهو غائب عن الزوجة المذكورة مدة سنة، ولم يصل منه نفقة، فهل لوالد الزوجة أن يطلب فسخ النكاح ؟ الجواب: نعم إذا عرضت المرأة عليه، فبذل له تسليمها وهي ممن يوطأ مثلها، وجب عليه النفقة بذلك، فإذا تعذرت النفقة من جهته كان للزوجة المطالبة بالفسخ وإذا كانت محجورا عليها على وجهين .

- مسألة: في رجل أملك على بنت، وله مدة سنين ينفق عليها، ودفع لهم وعزم على الدخول، فوجد والدها قد زوجها غيره ؟ الجواب: قد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: { المسلم أخو المسلم، لا يحل للمسلم أن يخطب على خطبة أخيه، ولا يستام على سوم أخيه، ولا يبيع على بيع أخيه }، فالرجل إذا خطب امرأة وركن إليه من إليه نكاحها، كالأب المجبر، فإنه لا يحل لغيره أن يخطبها، فكيف إذا كانوا قد ركنوا إليه وأشهدوا بالإملاك المتقدم للعقد، وقبضوا منه الهدايا، وطالت المدة، فإن هؤلاء فعلوا محرما يستحقون العقوبة عليه بلا ريب، لكن العقد الثاني هل يقع صحيحا أو باطلا ؟ فيه قولان للعلماء، أحدهما: وهو أحد القولين في مذهب مالك، وأحمد، أن عقد الثاني باطل فينزع منه ويرد إلى الأول، والثاني: أن النكاح صحيح، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، فيعاقب من فعل المحرم، ويرد إلى الأول جميع ما أخذ منه، والقول الأول أشبه بما في الكتاب والسنة .

- مسألة: في امرأة اعتاضت عن صداقها بعد موت الزوج، فباعت العوض وقبضت الثمن، ثم أقرت أنها قبضت الصداق من غير ثمن الملك، فهل يبطل حق المشتري أو يرجع عليها بالذي اعترفت أنها قبضته من غير الملك ؟ الجواب: لا يبطل حق بمجرد ذلك، وللورثة أن يطلبوا منها ثمن الملك الذي اعتاضت به، إذا أقرت بأن قبض صداقها قبل ذلك، وكان قد أفتى طائفة بأنه يرجع عليها بالذي اعترفت بقبضه من التركة، وليس بشيء ; لأن هذا الإقرار تضمن أنها استوفت صداقها، وأنها بعد هذا الاستيفاء له أحدثت ملكا آخر، فإنما فوتت عليهم العقار لا على المشتري .

وأما نكاح السر الذي يتواصون بكتمانه ولا يشهدون عليه أحدا، فهو باطل عند عامة العلماء، وهو من جنس السفاح، قال الله تعالى: { وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين } { ولا متخذي أخدان } ( )، وهذه المسائل مبسوطة في موضعها، وإنما المقصود هنا التنبيه على الفرق بين الأقوال الثابتة بالكتاب والسنة، وما فيها من العدل والحكمة والرحمة ; وبين الأقوال المرجوحة، وأن ما بعث الله به نبيه محمدا ﷺ من الكتاب والحكمة يجمع مصالح العباد في المعاش والمعاد على أكمل وجه ; فإنه ﷺ خاتم النبيين، ولا نبي بعده، وقد جمع الله في شريعته ما فرقه في شرائع من قبله من الكمال ; إذ ليس بعده نبي، فكمل به الأمر، كما كمل به الدين، فكتابه أفضل الكتب، وشرعه أفضل الشرائع، ومنهاجه أفضل المناهج، وأمته خير الأمم، وقد عصمها الله على لسانه فلا تجتمع على ضلالة ; ولكن يكون عند بعضها من العلم والفهم ما ليس عند بعض، والعلماء ورثة الأنبياء، وقد قال تعالى: { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما } فهذان نبيان كريمان حكما في قصة فخص الله أحدهما بالفهم ; ولم يعب الآخر ; بل أثنى عليهما جميعا بالحكم والعلم، وهكذا حكم العلماء المجتهدين ورثة الأنبياء، وخلفاء الرسل العاملين بالكتاب، وهذه القضية التي قضى فيها داود وسليمان لعلماء المسلمين فيها وما يشبهها أيضا قولان، منهم من يقضي بقضاء داود، ومنهم من يقضي بقضاء سليمان، وهذا هو الصواب، وكثير من العلماء أو أكثرهم لا يقول به ; بل قد لا يعرفه، وقد بسطنا هذا في غير هذا الجواب، والله أعلم بالصواب . ولهذا جوز أكثر العلماء الخلع في الحيض ; لأنه على قول فقهاء الحديث ليس بطلاق ; بل فرقة بائنة، وهو في أحد قوليهم تستبرأ بحيضة لا عدة عليها، وهذه إحدى الروايتين عند أحمد ; ولأنها تملك نفسها بالاختلاع فلهما فائدة في تعجيل الإبانة لرفع الشر الذي بينهما ; بخلاف الطلاق الرجعي فإنه لا فائدة في تعجيله قبل وقته ; بل ذلك شر بلا خير، وقد قيل: إنه طلاق في وقت لا يرغب فيها، وقد لا يكون محتاجا إليه، بخلاف الطلاق وقت الرغبة فإنه لا يكون إلا عن حاجة، { وقول النبي ﷺ لابن عمر: مره فليراجعها } مما تنازع العلماء فيه في مراد النبي ﷺ: ففهم منه طائفة من العلماء، أن الطلاق قد لزمه، فأمره أن يرتجعها ; ثم يطلقها في الطهر إن شاء، وتنازع هؤلاء: هل الارتجاع واجب أو مستحب ؟ وهل له أن يرتجعها في الطهر الأول أو الثاني ؟ وفي حكمة هذا النهي ; أقوال: ذكرناها وذكرنا مأخذها في غير هذا الموضع، وفهم طائفة أخرى: أن الطلاق لم يقع، ولكنه لما فارقها ببدنه كما جرت العادة من الرجل إذا طلق امرأته اعتزلها ببدنه واعتزلته ببدنها ; { فقال لعمر: مره فليراجعها }، ولم يقل: فليرتجعها، " والمراجعة " مفاعلة من الجانبين: أي ترجع إليه ببدنها فيجتمعان كما كانا ; لأن الطلاق لم يلزمه، فإذا جاء الوقت الذي أباح الله فيه الطلاق طلقها حينئذ إن شاء، قال هؤلاء: ولو كان الطلاق قد لزم لم يكن في الأمر بالرجعة ليطلقها طلقة ثانية فائدة ; بل فيه مضرة عليهما ; فإن له أن يطلقها بعد الرجعة بالنص والإجماع، وحينئذ يكون في الطلاق مع الأول تكثير الطلاق ; وتطويل العدة، وتعذيب الزوجين جميعا ; فإن النبي ﷺ لم يوجب عليه أن يطأها قبل الطلاق ; بل إذا وطئها لم يحل له أن يطلقها حتى يتبين حملها ; أو تطهر الطهر الثاني، وقد يكون زاهدا فيها يكره أن يطأها فتعلق منه ; فكيف يجب عليه وطؤها ؟، ولهذا لم يوجب الوطء أحد من الأئمة الأربعة وأمثالهم من أئمة المسلمين ; ولكن أخر الطلاق إلى الطهر الثاني، ولولا أنه طلقها أولا لكان له أن يطلقها في الطهر الأول ; لأنه لو أبيح له الطلاق في الطهر الأول لم يكن في إمساكها فائدة مقصودة بالنكاح إذا كان لا يمسكها إلا لأجل الطلاق ; فإنه لو أراد أن يطلقها في الطهر الأول لم يحصل إلا زيادة ضرر عليهما، والشارع لا يأمر بذلك، فإذا كان ممتنعا من طلاقها في الطهر الأول ليكون متمكنا من الوطء الذي لا يعقبه طلاق: فإن لم يطأها، أو وطئها أو حاضت بعد ذلك: فله أن يطلقها ; ولأنه إذا امتنع من وطئها في ذلك الطهر ثم طلقها في الطهر الثاني: دل على أنه محتاج إلى طلاقها ; لأنه لا رغبة له فيها إذ لو كانت له فيها رغبة لجامعها في الطهر الأول، قالوا: لأنه لم يأمر ابن عمر بالإشهاد على الرجعة كما أمر الله ورسوله، ولو كان الطلاق قد وقع وهو يرتجعها لأمر بالإشهاد ; ولأن الله تعالى لما ذكر الطلاق في غير آية لم يأمر أحدا بالرجعة عقيب الطلاق ; بل قال: { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف }، فخير الزوج إذا قارب انقضاء العدة بين أن يمسكها بمعروف - وهو الرجعة - وبين أن يسيبها فيخلي سبيلها إذا انقضت العدة ; ولا يحبسها بعد انقضاء العدة كما كانت محبوسة عليه في العدة، قال الله تعالى: { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة }، وأيضا فلو كان الطلاق المحرم قد لزم لكان حصل الفساد الذي كرهه الله ورسوله، وذلك الفساد لا يرتفع برجعة يباح له الطلاق بعدها، والأمر برجعة لا فائدة فيها مما تنزه عنه الله ورسوله ; فإنه إن كان راغبا في المرأة فله أن يرتجعها، وإن كان راغبا عنها فليس له أن يرتجعها، فليس في أمره برجعتها مع لزوم الطلاق له مصلحة شرعية ; بل زيادة مفسدة: ويجب تنزيه الرسول ﷺ عن الأمر بما يستلزم زيادة الفساد، والله ورسوله إنما نهى عن الطلاق البدعي لمنع الفساد، فكيف يأمر بما يستلزم زيادة الفساد ؟، وقول الطائفة الثانية أشبه بالأصول والنصوص، فإن هذا القول متناقض ; إذ الأصل الذي عليه السلف والفقهاء: أن العبادات والعقود المحرمة إذا فعلت على الوجه المحرم لم تكن لازمة صحيحة، وهذا وإن كان نازع فيه طائفة من أهل الكلام فالصواب مع السلف وأئمة الفقهاء ; لأن الصحابة والتابعين لهم بإحسان كانوا يستدلون على فساد العبادات والعقوبة بتحريم الشارع لها، وهذا متواتر عنهم، وأيضا فإن لم يكن ذلك دليلا على فسادها لم يكن عن الشارع ما يبين الصحيح من الفاسد، فإن الذين قالوا: النهي لا يقتضي الفساد، قالوا: نعلم صحة العبادات والعقود وفسادها بجعل الشارع هذا شرطا أو مانعا ونحو ذلك، وقوله هذا صحيح، وليس بصحيح، من خطاب الوضع والإخبار، ومعلوم أنه ليس في كلام الله ورسوله، وهذه العبارات مثل قوله: الطهارة شرط في الصلاة والكفر مانع من صحة الصلاة، وهذا العقد، وهذه العبادة لا تصح ونحو ذلك ; بل إنما في كلامه الأمر والنهي، والتحليل والتحريم، وفي نفي القبول والصلاح، كقوله: { لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول }، وقوله: " هذا لا يصلح "، وفي كلامه: " إن الله يكره كذا " وفي كلامه: الوعد، ونحو ذلك من العبارات فلم نستفد الصحة والفساد إلا بما ذكره، وهو لا يلزم أن يكون الشارع بين ذلك، وهذا مما يعلم فساده قطعا، وأيضا فالشارع يحرم الشيء لما فيه من المفسدة الخالصة، أو الراجحة، ومقصوده بالتحريم المنع من ذلك الفساد، وجعله معدوما، فلو كان مع التحريم يترتب عليه من الأحكام ما يترتب على الحلال فيجعله لازما نافذا كالحلال لكان ذلك إلزاما منه بالفساد الذي قصد عدمه، فيلزم أن يكون ذلك الفساد قد أراد عدمه مع أنه ألزم الناس به، وهذا تناقض ينزه عنه الشارع ﷺ، وقد قال بعض هؤلاء: إنه إنما حرم الطلاق الثلاث لئلا يندم المطلق ; دل على لزوم الندم له إذا فعله، وهذا يقتضي صحته، فيقال له: هذا يتضمن أن كلما نهى الله عنه يكون صحيحا، كالجمع بين المرأة وعمتها ; لئلا يفضي إلى قطيعة الرحم، فيقال: إن كان ما قاله هذا صحيحا هنا دليل على صحة العقد ; إذ لو كان فاسدا لم تحصل القطيعة، وهذا جهل ; وذلك أن الشارع بين حكمته في منعه مما نهى عنه، وأنه لو أباحه للزم الفساد، فقوله تعالى: { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا }، وقوله عليه السلام: { لا تنكح المرأة على عمتها ولا خالتها ; فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم }، ونحو ذلك: يبين أن الفعل لو أبيح لحصل به الفساد، فحرم منعا من هذا الفساد، ثم الفساد ينشأ من إباحته ومن فعله، وإذا اعتقد الفاعل أنه مباح، أو أنه صحيح فإما مع اعتقاد أنه محرم باطل والتزام أمر الله ورسوله فلا تحصل المفسدة وإنما تحصل المفسدة من مخالفة أمر الله ورسوله، والمفاسد فيها فتنة وعذاب، قال الله تعالى: { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم }، وقول القائل: لو كان الطلاق غير لازم لم يحصل الفساد، فيقال: هذا هو مقصود الشارع ﷺ فنهى عنه، وحكم ببطلانه، ليزول الفساد، ولولا ذلك لفعله الناس واعتقدوا صحته فيلزم الفساد، وهذا نظير قول من يقول: النهي عن الشيء يدل على أنه مقصود، وأنه شرعي، وأنه يسمى بيعا، ونكاحا، وصوما، كما يقولون في نهيه عن نكاح الشغار، ولعنه المحلل والمحلل له، ونهيه عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، ونهيه عن صوم يوم العيدين، ونحو ذلك، فيقال: أما تصوره حسا فلا ريب فيه، وهذا كنهيه عن نكاح الأمهات والبنات، وعن بيع الخمر والميتة ولحم الخنزير والأصنام، كما في الصحيحين عن جابر { أن النبي ﷺ قال: إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة، فإنه يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس، فقال: لا هو حرام ثم قال: قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها } فتسميته لهذا نكاحا وبيعا لم يمنع أن يكون فاسدا باطلا ; بل دل على إمكانه حسا، وقول القائل: إنه شرعي: إن أراد أنه يسمى بما أسماه به الشارع ; فهذا صحيح، وإن أراد أن الله أذن فيه: فهذا خلاف النص، والإجماع، وإن أراد أنه رتب عليه حكمه، وجعله يحصل المقصود، ويلزم الناس حكمه ; كما في المباح فهذا باطل بالإجماع في أكثر الصور التي هي من موارد النزاع، ولا يمكنه أن يدعي ذلك في صورة مجمع عليها ; فإن أكثر ما يحتج به هؤلاء بنهيه ﷺ عن الطلاق في الحيض ونحو ذلك مما هو من موارد النزاع ; فليس معهم صورة قد ثبت فيها مقصودهم ; لا بنص، ولا إجماع، وكذلك " المحلل " الملعون، لعنه لأنه قصد التحليل للأول بعقده ; لا لأنه أحلها في نفس الأمر فإنه لو تزوجها بنكاح رغبة لكان قد أحلها بالإجماع ; وهذا غير ملعون بالإجماع فعلم أن اللعنة لمن قصد التحليل، وعلم أن الملعون لم يحللها في نفس الأمر ودلت اللعنة على تحريم فعله، والمنازع يقول فعله مباح، فتبين أنه لا حجة معهم: بل الصواب مع السلف وأئمة الفقهاء، ومن خرج عن هذا الأصل من العلماء المشهورين في بعض المواضع فإن لم يكن له جواب صحيح وإلا فقد تناقض، كما تناقض في مواضع غير هذه، والأصول التي لا تناقض فيها ما أثبت بنص أو إجماع، وما سوى ذلك فالتناقض موجود فيه، وليس هو حجة على أحد، والقياس الصحيح الذي لا يتناقض هو موافق للنص والإجماع ; بل ولا بد أن يكون النص قد دل على الحكم ; كما قد بسط في موضع آخر، وهذا معنى العصمة ; فإن كلام المعصوم لا يتناقض، ولا نزاع بين المسلمين أن الرسول ﷺ معصوم فيما بلغه عن الله تعالى، فهو معصوم فيما شرعه للأمة بإجماع المسلمين، وكذلك الأمة أيضا معصومة أن تجتمع على ضلالة ; بخلاف ما سوى ذلك، ولهذا كان مذهب أئمة الدين أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ﷺ فإنه الذي فرض الله على جميع الخلائق الإيمان به وطاعته، وتحليل ما حلله وتحريم ما حرمه، وهو الذي فرق الله به بين المؤمن والكافر، وأهل الجنة وأهل النار، والهدى والضلال، والغي والرشاد، فالمؤمنون أهل الجنة وأهل الهدى والرشاد ; هم متبعون، والكفار أهل النار، وأهل الغي، والضلال هم الذين لم يتبعوه، ومن آمن به باطنا، وظاهرا، واجتهد في متابعته: فهو من المؤمنين السعداء وإن كان قد أخطأ وغلط في بعض ما جاء به، فلم يبلغه أو لم يفهمه، قال الله تعالى عن المؤمنين: { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا }، وقد ثبت في الصحيح، عن النبي ﷺ: " قد فعلت "، وفي السنن عنه ﷺ أنه قال: { العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم ; فمن أخذ به أخذ بحظ وافر }، وقد قال تعالى: { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين، ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما }، فقد خص أحد النبيين الكريمين بالتفهم مع ثنائه على كل منهما بأنه أوتي علما وحكما، فهكذا إذا خص الله أحد العالمين بعلم أمر وفهمه لم يوجب ذلك ذم من لم يحصل له ذلك من العلماء، بل كل من اتقى الله ما استطاع فهو من أولياء الله المتقين ; وإن كان قد خفي عليه من الدين ما فهمه غيره، وقد قال واثلة بن الأسقع - وبعضهم يرفعه إلى النبي ﷺ: { من طلب علما فأدركه فله أجران، ومن طلب علما فلم يدركه فله أجر }، وهذا يوافق ما في الصحيح عن عمرو بن العاص، وعن أبي هريرة: عن النبي ﷺ: { إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر } ( )، وهذه الأصول لبسطها موضع آخر، وإنما المقصود هنا التنبيه على هذا ; لأن الطلاق المحرم مما يقول فيه كثير من الناس: إنه لازم، والسلف أئمة الفقهاء والجمهور يسلمون: أن النهي يقتضي الفساد، ولا يذكرون في الاعتذار عن هذه الصورة فرقا صحيحا، وهذا مما تسلط به عليهم من نازعوهم في أن النهي يقتضي الفساد، واحتج بما سلموه له من الصور ; وهذه حجة جدلية لا تفيد العلم بصحة قوله ; وإنما تفيد أن منازعيه أخطئوا: إما في صورة النقض وإما في محل النزاع، وخطؤهم في إحداهما لا يوجب أن يكون الخطأ في محل النزاع ; بل هذا الأصل أصل عظيم عليه مدار كثير من الأحكام الشرعية، فلا يمكن نقضه بقول بعض العلماء الذين ليس معهم نص ولا إجماع ; بل الأصول والنصوص لا توافق ; بل تناقض قولهم، ومن تدبر الكتاب والسنة تبين له أن الله لم يشرع الطلاق المحرم جملة قط، وأما الطلاق البائن فإنه شرعه قبل الدخول، وبعد انقضاء العدة، وطائفة من العلماء يقول لمن لم يجعل الثلاث المجموعة إلا واحدة: أنتم خالفتم عمر ; وقد استقر الأمر على التزام ذلك في زمن عمر، وبعضهم يجعل ذلك إجماعا، فيقول لهم: أنتم خالفتم عمر في الأمر المشهور عنه الذي اتفق عليه الصحابة، بل وفي الأمر الذي معه فيه الكتاب والسنة، فإن منكم من يجوز التحليل، وقد ثبت عن عمر أنه قال: " لا أوتي بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما "، وقد اتفق الصحابة على النهي عنه، مثل: عثمان، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وغيره ; ولا يعرف عن أحد من الصحابة أنه أعاد المرأة إلى زوجها بنكاح تحليل، وعمر وسائر الصحابة معهم الكتاب والسنة: { كلعن النبي ﷺ المحلل والمحلل له } وقد خالفهم من خالفهم في ذلك اجتهادا، والله يرضى عن جميع علماء المسلمين، وأيضا فقد ثبت، عن عمر، أنه كان يقول في الخلية والبرية ونحو ذلك: " إنها طلقة رجعية "، وأكثرهم يخالفون عمر في ذلك، وقد ثبت عن عمر: إنه خير المفقود إذا رجع فوجد امرأته قد تزوجت غيره بين امرأته وبين المهر، وهذا أيضا معروف عن غيره من الصحابة: كعثمان، وعلي، وذكره أحمد عن ثمانية من الصحابة، وقال: إلى أي شيء يذهب الذي يخالف هؤلاء ؟، ومع هذا فأكثرهم يخالفون عمر وسائر الصحابة في ذلك، ومنهم من ينقض حكم من حكم به، وعمر والصحابة جعلوا الأرض المفتوحة عنوة ; كأرض الشام، ومصر، والعراق، وخراسان، والمغرب، فيئا للمسلمين ; ولم يقسم عمر ولا عثمان أرضا فتحها عنوة، ولم يستطب عمر أنفس جميع الغانمين في هذه الأرضين ; وإن ظن بعض العلماء أنهم استطابوا أنفسهم في السواد، بل طلب منهم بلال والزبير وغيرهما قسمة أرض العنوة فلم يجبهم، ومع هذا فطائفة منهم يخالف عمر والصحابة في مثل هذا الأمر العظيم الذي استقر الأمر عليه من زمنهم ; بل ينقض حكم من حكم بحكمهم أيضا، فأبو بكر وعمر وعثمان وعلي لم يخمسوا قط مال فيء ولا خمسه رسول الله ﷺ ولا جعلوا خمس الغنيمة خمسة أقسام متساوية، ومع هذا: فكثير منهم يخالف ذلك، ونظائر هذا متعددة، والأصل الذي اتفق عليه علماء المسلمين: إنما تنازعوا فيه وجب رده إلى الله والرسول، كما قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا }، ولا يجوز لأحد أن يظن بالصحابة أنهم بعد رسول الله ﷺ أجمعوا على خلاف شريعته ; بل هذا من أقوال أهل الإلحاد ; ولا يجوز دعوى نسخ ما شرعه الرسول بإجماع أحد بعده، كما يظن طائفة من الغالطين ; بل كلما أجمع المسلمون عليه فلا يكون إلا موافقا لما جاء به الرسول ; لا مخالفا له ; بل كل نص منسوخ بإجماع الأمة فمع الأمة النص الناسخ له ; تحفظ الأمة النص الناسخ كما تحفظ النص المنسوخ، وحفظ الناسخ أهم عندها وأوجب عليها من حفظ المنسوخ، ويمنع أن يكون عمر والصحابة معه أجمعوا على خلاف نص الرسول ﷺ ; ولكن قد يجتهد الواحد وينازعه غيره، وهذا موجود في مسائل كثيرة، هذا منها، كما بسط في موضع غير هذا، ولهذا لما رأى عمر رضي الله عنه: أن المبتوتة لها السكنى والنفقة فظن أن القرآن يدل عليه نازعه أكثر الصحابة، فمنهم من قال: لها السكنى فقط، ومنهم من قال: لا نفقة لها ولا سكنى، وكان من هؤلاء ابن عباس وجابر وفاطمة بنت قيس، وهي التي روت عن النبي ﷺ أنه قال: { ليس لك نفقة ولا سكنى }، فلما احتجوا عليها بحجة عمر، وهي قوله تعالى: { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة }، قالت هي وغيرها من الصحابة - كابن عباس وجابر وغيرهما: هذا في الرجعية لقوله تعالى: { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } فأي أمر يحدث بعد الثلاث ؟، وفقهاء الحديث كأحمد بن حنبل في ظاهر مذهبه

وغيره من فقهاء الحديث مع فاطمة بنت قيس، وكذلك أيضا في: " الطلاق "، لما قال تعالى: { لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا }، قال غير واحد من الصحابة والتابعين والعلماء: هذا يدل على أن الطلاق الذي ذكره الله هو الطلاق الرجعي ; فإنه لو شرع إيقاع الثلاث عليه لكان المطلق يندم إذا فعل ذلك، ولا سبيل إلى رجعتها: فيحصل له ضرر بذلك، والله أمر العباد بما ينفعهم، ونهاهم عما يضرهم ; ولهذا قال تعالى أيضا بعد ذلك: { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف }، وهذا إنما يكون في الطلاق الرجعي ; لا يكون في الثلاث، ولا في البائن، وقال تعالى: { وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله }، فأمر بالإشهاد على الرجعة ; والإشهاد عليها مأمور به باتفاق الأمة، قيل: أمر إيجاب، وقيل: أمر استحباب، وقد ظن بعض الناس: أن الإشهاد هو الطلاق، وظن أن الطلاق الذي لا يشهد عليه لا يقع، وهذا خلاف الإجماع، وخلاف الكتاب والسنة، ولم يقل أحد من العلماء المشهورين به ; فإن الطلاق أذن فيه أولا، ولم يأمر فيه بالإشهاد، وإنما أمر بالإشهاد حين قال: { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف ). والمراد هنا بالمفارقة: تخلية سبيلها إذا قضت العدة، وهذا ليس بطلاق ولا برجعة ولا نكاح، والإشهاد في هذا باتفاق المسلمين، فعلم أن الإشهاد إنما هو على الرجعة، ومن حكمة ذلك: أنه قد يطلقها ويرتجعها، فيزين له الشيطان كتمان ذلك حتى يطلقها بعد ذلك طلاقا محرما ولا يدري أحد، فتكون معه حراما، فأمر الله أن يشهد على الرجعة ليظهر أنه قد وقعت به طلقة، كما أمر النبي ﷺ من وجد اللقطة أن يشهد عليها ; لئلا يزين الشيطان كتمان اللقطة ; وهذا بخلاف الطلاق، فإنه إذا طلقها ولم يراجعها بل خلى سبيلها فإنه يظهر للناس أنها ليست امرأته ; بل هي مطلقة ; بخلاف ما إذا بقيت زوجة عنده فإنه لا يدري الناس أطلقها أم لم يطلقها .

- مسألة: في رجل جرى منه كلام في زوجته وهي حامل، فقال: إن جاءت زوجتي ببنت فهي طالق، ثم إنه قبل الولادة جرى بينهم كلام فنزل عن طلقة، ثم أنها بعد ذلك وضعت بنتا، فهل يقع على الزوج الطلاق أم لا ؟ الجواب: إن كان قد أبانها بالطلقة بأن تكون الطلقة بعوض، أو ودعها حتى تنقضي عدتها فهذا فيه قولان مشهوران للعلماء، وفيها قولان للشافعي أحدهما يقع وهو رواية مخرجة في مذهب أحمد، وإن كان لم يبنها بل راجع في العدة فإن النكاح باق فإن وجدت الصفة المعلق بها وقع الطلاق .

- مسألة: في رجل حلف من زوجته بالطلاق أنه ما يطؤها لستة شهور، ولم يكن بقي لها غير طلقة ونيته أن لا يطأها حتى تنقضي المدة، فإذا انقضت المدة ماذا يفعل ؟ الجواب: إذا انقضت المدة فله وطؤها ولا شيء عليه إذا لم تطالبه بالوطء عند انقضاء أربعة أشهر ; هذا مذهب مالك وأحمد والشافعي والجمهور وهو يسمى موليا .

- مسألة: في رجل نوى أن يطلق زوجته إذا حاضت ولم يتلفظ بطلاق ; فلما أن حاضت علم أنها طلقت بمجرد النية فقال للشهود: آن طلقة زوجتي، قالوا: متى طلقتها ؟ قال: أول أمس ; بناء على ظنه، فلما مضى حيضتان غير الحيضة التي ظن أنها طلقت فيها زوجها الشهود برجل آخر، ثم مكثت عنده وطلقها، ثم وفت عدتها، ثم أراد الزوج الأول ردها: فهل هي حلال له بالنكاح الأول أم يجب عقد جديد ؟ الجواب: الحمد لله، أما إذا نوى أنه سيطلقها إذا حاضت فهذا لا يقع به طلاق باتفاق العلماء ; بل لا بد أن يطلقها بعد ذلك، فإذا لم يطلقها بعد ذلك لم يقع طلاق، وإذا اعتقد أن تلك النية طلاق فأقر أنه طلقها بتلك النية لم يقع بهذا الإقرار في الباطن ; ولكن يؤخذ به في الحكم، وإذا لم يقع به شيء فهي باقية على زوجيته في الباطن، والله أعلم .

- مسألة: في رجل طلق زوجته طلقة واحدة قبل الدخول بها في مرضه الذي مات فيه، فهل يكون ذلك طلاق الفار، ويعامل بنقيض قصده، وترثه الزوجة، وتستكمل جميع صداقها عليه، أم لا ترث، وتأخذ نصف الصداق والحالة هذه ؟ الجواب: الحمد لله رب العالمين، هذه المسألة مبنية على مسألة المطلق بعد الدخول في مرض الموت، والذي عليه جمهور السلف والخلف توريثها، كما قضى بذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه لامرأة عبد الرحمن بن عوف تماضر بنت الأصبغ، وقد كان طلقها في مرضه، وهذا مذهب مالك وأحمد وأبي حنيفة والشافعي في القديم، ثم على هذا هل ترث بعد انقضاء العدة، والمطلقة قبل الدخول على قولين العلماء، أصحهما أنها ترث أيضا، وهو مذهب مالك وأحمد في المشهور عنه، وقول الشافعي، لأنه قد روى أن عثمان ورثها بعد انقضاء العدة، ولأن هذه إنما ورثت لتعلق حقها بالتركة لما مرض مرض الموت، وصار محجورا عليه في حقها وحق سائر الورثة، بحيث لا يملك التبرع لوارث، ولا يملكه لغير وارث بزيادة على الثلث، كما لا يملك ذلك بعد الموت، فلما كان تصرفه في مرض موته بالنسبة إلى الورثة كتصرفه بعد الموت، لا يملك قطع إرثها، فكذلك لا يملك بعد مرضه، وهذا هو طلاق الفار المشهور بهذا الاسم عند العلماء، وهو القول الصحيح الذي أفتى به .

- مسألة: في رجل له زوجة طلبت منه الطلاق، وطلقها وقال: ما بقيت أعود إليها أبدا فوجده صاحبه، فقال: ما أصدق على هذا إلا إن قلت كلما تزوجت هذه كانت طالقا على مذهب مالك، ولم يرى الأحكام الشرعية، فهل أن يردها ؟ الجواب: الحمد لله، أما إن قصد كلما تزوجتها برجعة أو عقد جديد وهو ظاهر كلامه فمتى ارتجعها قبل انقضاء العدة طلقت ثانية، ثم إن ارتجعها طلقت ثالثة، وإن تركها حتى تنقضي عدتها بانت منه، فإذا تزوجها بعد ذلك فمن قال إن تعليق الطلاق بالنكاح يقع في مثل هذا كأبي حنيفة ومالك وأحمد في رواية قال: إن هذه إذا تزوجها يقع بها الطلاق، وأما من لم يقل بذلك كالشافعي وأحمد في المشهور عنه فهذه لما علق طلاقها كانت رجعية، والرجعية كالزوجة في مثل هذا لكن تخلل البينونة، هل يقع حكم ؟ الصفة ظاهر مذهب أحمد أنه لا ينقطع، وقد نص على الفرق في تعليق الطلاق على النكاح بين أن يكون في عدة أو لا يكون، فعلى مذهبه يقع الطلاق بها إذا

تزوجها، وهو أحد قولي الشافعي، وعلى قوله الآخر الذي يقول فيه إن البينونة تقطع حكم الصفة، وهو رواية عن أحمد، فإن قوله: إذا تزوجها، كقوله: إذا دخلت الدار، وإذا بانت أحلت هذه اليمين فيجوز له أن يتزوجها ولا يقع به طلاق، وهو الذي يرجحه كثير من أصحاب الشافعي، وأما قوله على مذهب مالك، فإنه التزام منه لمذهب بعينه، وذلك لا يلزم بل له أن يقلد مذهب الشافعي، وإن كان بائنا بعوض والتعليق بعد هذا في العدة وغيره تعليق بأجنبية فلا يقع به شيء إذا تزوجها في مذهب الشافعي . - مسألة: في رجل له زوجة، فحلف أبوها أنه ما يخليها معه وضربها وقال لها أبوها: إبريه، فأبرأته، وطلقها طلقة، ثم ادعت أنها لم تبره إلا خوفا من أبيها، فهل تقع على الزوجة الطلقة أم لا ؟ الجواب: الحمد لله إن كانت أبرأته مكرهة بغير حق لم يصح الإبراء ولم يقع الطلاق المعلق به، وإن كانت تحت حجر الأب وقد رأى الأب أن ذلك جائز في مصلحة لها فإن ذلك أحد قولي العلماء كما في مذهب مالك وقول في مذهب أحمد .

- مسألة: في رجل حنق من زوجته، فقال: أنت طالق ثلاثا، قالت له زوجته: قل الساعة، قال الساعة، ونوى الاستثناء الجواب: إذا كان اعتقاده أنه إذا قال الطلاق يلزمني إن شاء الله أنه لا يقع به الطلاق، ومقصوده تخويفا بهذا الكلام لا إيقاع الطلاق لم يقع الطلاق، فإن كان قد قال في هذه الساعة إن شاء الله، فإن مذهب أبي حنيفة والشافعي أن الطلاق المعلق بالمشيئة لا يقع، ومذهب مالك وأحمد يقع، كما روى عن ابن عباس، لكن هذا إن كان مقصوده واعتقاده أنه لا يقع صار الكلام عنده كلاما لا يقع به طلاق، فلم يقصد التكلم بالطلاق، واذا قصد المتكلم بكلام لا يعتقد أنه يقع به الطلاق مثل ما لو تكلم العجمي بلفظ وهو لا يفهم معناه، وطلاق الهازل وقع لأن قصد المتكلم الطلاق وإن لم يقصد إيقاعه، وهذا لم يقصد لا هذا ولا هذا، وهو يشبه ما لو رأى امرأة فقال أنت طالق يظنها أجنبية فبانت امرأته، فإنه لا يقع به طلاق على الصحيح، والله أعلم .

- مسألة: في رجل تزوج بامرأة وجاءه منها ولد، وأوصاه الشهود أو غيرهم أنه إذا دخل على زوجته أن يقول لها: إذا طلقتك فأنت طالق قبل طلاقك ثلاثا، فهل يجوز ذلك العقد أم لا ؟ الجواب: الحمد لله النكاح صحيح لا يحتاج إلى استئناف، والتسريج الذي لا يتكلم به لا يفسد النكاح باتفاق العلماء، لكنه إن طلقها بعد ذلك وقع به الطلاق عند جماهير أهل العلم من أصحاب مالك وأحمد وأبي حنيفة وكثير من أصحاب الشافعي أو أكثرهم .

- مسألة: في رجل أكره على الطلاق ؟ الجواب: إذا أكره بغير حق على الطلاق لم يقع به عند جماهير العلماء: كمالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم، وهو المأثور عن أصحاب رسول الله ﷺ: كعمر بن الخطاب، وغيره، وإذا كان حين الطلاق قد أحاط به أقوام يعرفون بأنهم يعادونه، أو يضربونه، ولا يمكنه إذ ذاك أن يدفعهم عن نفسه، وادعى أنهم أكرهوه على الطلاق: قبل قوله، فإن كان الشهود بالطلاق يشهدون بذلك، وادعى الإكراه: قبل قوله وفي تحليفه نزاع .

- مسألة: في رجل زوج بامرأتين إحداهما مسلمة والأخرى كتابية، ثم قال: إحداكن طالق، ومات قبل البيان فلمن تكون التركة من بعده ؟ وأيهما تعتد عدة الطلاق ؟ الجواب: هذه المسألة فيها تفصيل ونزاع بين العلماء فمنهم من فرق بين أن يطلق معينة وينساها أو يجهل عينها، وبين أن يطلق مبهمة ويموت قبل تمييزها بتعيينه أو يعرفه: ثم منهم من يقول: يقع الطلاق بالجميع كقول مالك، ومنهم من يقول: لا يقع إلا بواحدة، كقول الثلاثة، وإذا قدر تعينها ولم تعين، فهل تقسم التركة بين المطلقة وغيرها، كما يقوله أبو حنيفة، أو يوقف الأمر حتى يصطلحا، كما يقول الشافعي، أو يقرع بين المطلقة وغيرها، كما يقوله أحمد وغيره من فقهاء الحديث، على ثلاثة أقوال والقرعة بعد الموت هي قرعة على المال، فلهذا قال بها من لم يرد القرعة في المطلقات، والصحيح في هذه المسألة سواء كانت المطلقة مبهمة أو مجهولة أن يقرع بين الزوجتين، فإذا خرجت القرعة على المسلمة لم ترث هي ولا الذمية شيئا، أما هي فلأنها مطلقة، وأما الذمية فإن الكافر لا يرث المسلم، وإن خرجت القرعة على الذمية ورثت المسلمة ميراث زوجة كاملة، هذا إذا كان الطلاق طلاقا محرما للميراث مثل أن يبينها في صحته، فأما إن كان الطلاق رجعيا في الصحة، والمرض، ومات قبل انقضاء العدة فهذه زوجته ترث وعليها عدة الوفاة باتفاق الأئمة، وتنقضي بذلك عدتها عند جمهورهم كمالك والشافعي وأبي حنيفة وهو قول أحمد في إحدى الروايتين والمشهور عنه: أنها تعتد أطول الأجلين من مدة الوفاة والطلاق، وإن كان الطلاق بائنا في مرض الموت فإن جمهور العلماء على أن البائنة في مرض الموت ترث، إذا كان طلقها طلاقا فيه يقصد حرمانها الميراث، هذا قول مالك وهو يرثها وإن انقضت عدتها وتزوجت، وهو مذهب أبي حنيفة وهو يرثها ما دامت في العدة وهو المشهور عنه ما لم تتزوج، وللشافعي ثلاثة أقوال كذلك لكن قوله الجديد أنها لا ترث، وأما إذا لم يتهم بقصد حرمانها فالأكثرون على أنها لا ترث، فعلى هذا لا ترث هذه المرأة لأن مثل هذا الطلاق الذي لم يعين فيه لا يظهر فيه قصد الحرمان، ومن ورثها مطلقا كأحمد في إحدى الروايتين فالحكم عنده كذلك، وإذا ورثت المبتوتة فقيل تعتد أبعد الأجلين وهو ظاهر مذهب أحمد، وقول أبي حنيفة ومحمد،

وقيل: تعتد عدة الطلاق فقط، وهو قول مالك والشافعي المشهور عنه، ورواية عن أحمد وقول للشافعي، وأما صورة أنها لم تتبين المطلقة فإحداهما، وجبت عليها عدة الوفاة، والأخرى عدة الطلاق، وكل منهما وجبت عليه إحدى العدتين اشتبه الواجب بغيره، فلهذا كان الأظهر هنا وجوب العدتين على كل منهما، لأن الذمة لا تبرأ من أداء الواجب إلا بذلك . - مسألة: في رجل قال كل شيء أملكه علي حرام، فهل تحرم امرأته وأمته عليه أم لا ؟ الجواب: أما غير الزوجة فعليه كفارة يمين، وأما الزوجة فللعلماء فيها نزاع: هل تطلق ؟ أو توجب عليه كفارة ظهار ؟ فمذهب مالك هو طلاق ومذهب أبي حنيفة والشافعي في أظهر قوليه عليه كفارة يمين، ومذهب أحمد عليه كفارة ظهار، إلا أن ينوي غير ذلك ففيه نزاع والصحيح أنه لا يقع به طلاق .

- مسألة: في رجل تخاصم مع زوجته فأراد أن يقول: هي طالق طلقة واحدة فسبق لسانه فقال ثلاثة، ولم يكن ذلك نيته فما الحكم ؟ الجواب: الحمد لله إذا سبق لسانه بالثلات من غير قصد وإنما قصد واحدة لم يقع به إلا واحدة، بل لو أراد أن يقول طاهر فسبق لسانه بطالق لم يقع به الطلاق فيما بينه وبين الله، والله أعلم .

- مسألة: في رجل تخاصم هو وامرأته، وانجرح منها ; فقال: الطلاق يلزمني منك ثلاثا: إن قلت طلقني طلقتك، فسكتت، ثم قالت لأمها: أي شيء يقول ؟ قالت أمها: يقول كذا، قولي له: طلقني، ثم قالت المرأة: طلقني، فهل يقع طلاق بواحدة ; أو بثلاث ؟ أو لا يقع ؟ الجواب: الحمد لله: إذا لم ينو بقوله: إذا قلت طلقني طلقتك، أنه طلقها في المجلس ; بل يطلقها عند الشهود، وأما إذا لم ينو شيئا لم يحنث إذا افترقا من غير طلاق ; لكن يطلقها بعد ذلك الطلاق الذي قصد بيمينه، وأما إذا لم يقصد أن يطلقها ثلاثا، ولا اثنتين أجزأ أن يطلقها طلقة واحدة، هذا إن كان مقصوده إجابة سؤالها مطلقا، وأما إذا قصد إجابة سؤالها إذا كانت طالبة للطلاق، فإذا رجعت، وقالت: لا أريد الطلاق: لم يكن عليه شيء إذا لم يطلقها، والله أعلم .

- مسألة: فيمن طلق امرأته ثلاثا، وأفتاه مفت بأنه لم يقع الطلاق، فقلده الزوج ووطئ زوجته بعد ذلك، وأتت منه بولد: فقيل: إنه ولد زنا ؟ الجواب: من قال ذلك فهو في غاية الجهل والضلالة، والمشاقة لله ورسوله فإن المسلمين متفقون على أن كل نكاح اعتقد الزوج أنه نكاح سائغ إذا وطئ فيه فإنه يلحقه فيه ولده ويتوارثان باتفاق المسلمين، وإن كان ذلك النكاح باطلا في نفس الأمر باتفاق المسلمين، سواء كان الناكح كافرا أو مسلما، واليهودي إذا تزوج بنت أخيه كان ولده منه يلحقه نسبه ويرثه باتفاق المسلمين وإن كان ذلك النكاح باطلا باتفاق المسلمين، ومن استحله كان كافرا تجب استتابته، وكذلك المسلم الجاهل لو تزوج امرأة في عدتها كما يفعل جهال الأعراب ووطئها يعتقدها زوجة كان ولده منها يلحقه نسبه ويرثه باتفاق المسلمين، ومثل هذا كثير، فإن " ثبوت النسب " لا يفتقر إلى صحة النكاح في نفس الأمر ; بل الولد للفراش، كما قال النبي ﷺ: { الولد للفراش وللعاهر الحجر } فمن طلق امرأته ثلاثا ووطئها يعتقد أنه لم يقع به الطلاق: إما لجهله، وإما لفتوى مفت مخطئ قلده الزوج، وإما لغير ذلك، فإنه يلحقه النسب، ويتوارثان بالاتفاق ; بل ولا تحسب العدة إلا من حين ترك وطأها ; فإنه كان يطؤها يعتقد أنها زوجته، فهي فراش له فلا تعتد منه حتى تترك الفراش، ومن نكح امرأة " نكاحا فاسدا، متفقا على فساده، أو مختلفا في فساده أو ملكها ملكا متفقا على فساده، أو مختلفا في فساده، أو وطئها يعتقدها زوجته الحرة، أو أمته المملوكة: فإن ولده منها يلحقه نسبه، ويتوارثان باتفاق المسلمين، والولد أيضا يكون حرا ; وإن كان الموطوءة مملوكة للغير في نفس الأمر ووطئت بدون إذن سيدها ; لكن لما كان الواطئ مغرورا بها زوج بها وقيل: هي حرة، أو بيعت فاشتراها يعتقدها ملكا للبائع ; فإنما وطئ من يعتقدها زوجته الحرة، أو أمته المملوكة: فولده منها حر ; لاعتقاده، وإن كان اعتقاده مخطئا، وبهذا قضى الخلفاء الراشدون، واتفق عليه أئمة المسلمين، فهؤلاء الذين وطئوا وجاءهم أولاد لو كانوا قد وطئوا في نكاح فاسد متفق على فساده، وكان الطلاق وقع بهم باتفاق المسلمين، وهم وطئوا يعتقدون أن النكاح باق ; لإفتاء من أفتاهم، أو لغير ذلك: كان نسب الأولاد بهم لاحقا، ولم يكونوا أولاد زنا ; بل يتوارثون باتفاق المسلمين، هذا في المجمع على فساده فكيف في المختلف في فساده ؟ وإن كان القول الذي وطئ به قولا ضعيفا: كمن وطئ في نكاح المتعة أو نكاح المرأة نفسها بلا ولي ولا شهود ; فإن هذا إذا وطئ فيه يعتقده نكاحا لحقه فيه النسب، فكيف بنكاح مختلف فيه، وقد ظهرت حجة القول بصحته بالكتاب والسنة والقياس، وظهر ضعف القول الذي يناقضه، وعجز أهله عن نصرته بعد البحث التام ; لانتفاء الحجة الشرعية ؟، فمن قال: إن هذا النكاح أو مثله يكون فيه الولد ولد زنا [ لا ] يتوارثان هو وأبوه الواطئ: مخالف لإجماع المسلمين، منسلخ من رتبة الدين، فإن كان جاهلا عرف وبين له أن رسول الله ﷺ وخلفاءه الراشدين وسائر أئمة الدين ألحقوا أولاد أهل الجاهلية بآبائهم وإن كانت محرمة بالإجماع، ولم يشترطوا في لحوق النسب أن يكون النكاح جائزا في شرع المسلمين، فإن أصر على مشاقة الرسول من أصر على مشاقة الرسول من بعد ما تبين له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، فقد ظهر أن من أنكر الفتيا بأنه لا يقع الطلاق داعي الإجماع على وقوعه، أو قال إن الولد ولد زنا هو المخالف لإجماع المسلمين، مخالف لكتاب الله وسنة رسول رب العالمين، وأن المفتي بذلك أو القاضي بذلك لا يسوغ له بإجماع المسلمين وليس لأحد المنع من الفتيا بقوله ولا القضاء بذلك ولا الحكم بالمنع من ذلك باتفاق المسلمين، والأحكام باطلة بإجماع المسلمين والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

- مسألة: في رجل مسك وضرب، وسحبوه وغصبوه على طلاق زوجته، فطلقها طلقة واحدة، وراحت وهي حاملة منه ؟ الجواب: الحمد لله، هذا الطلاق لا يقع، وأما نكاحها وهي حامل من الزوج الأول فهو نكاح باطل بإجماع المسلمين: ولو كان الطلاق قد وقع، فكيف إذا لم يكن قد وقع ؟، ويعزر من أكرهه على الطلاق، ومن تولى هذا النكاح المحرم الباطل، ويجب التفريق بينهما حتى تقضي العدة من الأول بالوضع، والعدة من الثاني فيها خلاف، إن كان يعلم أن النكاح محرم، فالصحيح أنه لا بد من ذلك، وأما إن كان يعتقد صحة النكاح فلا بد أن تعتد من وطء الثاني .

مسألة: في رجل قال لزوجته وهو ساكن بها في منزل سكنها: إن قعدت عندكم فأنت طالق ; وإن سكنت عندكم فأنت طالق ; ثم قال أيضا: أنت علي حرام ; ثم انتقل بنفسه ومتاعه دون زوجته إلى مكان آخر ; وعادت زوجته إلى مكانها الأول ; فإذا عاد وقعد عند زوجته يقع عليه طلقة واحدة ؟ أم طلقتان ؟ وهل السكن هو القعود ؟ أو بينهما عموم وخصوص ؟ وإذا لم ينو بالحرام الطلاق: هل يقع عليه كما لو نوى ؟ وهل إذا كان مذهب تزول به هذه الصورة مخالفا لمذهبه هل يجوز له التقليد أم لا ؟ الجواب: الحمد لله، أما قوله: إن قعدت عندكم وإن سكنت عندكم فإن كان نية الحالف بالقعود إذا انتقض سبب تلك الحال ; بمنزلة من دعي إلى غداء فحلف أنه لا يتغدى ; فإن سبب اليمين أنه أراد بذلك الغداء المعين، ولهذا كان الصحيح أنه لا يحنث بغداء غير ذلك: وهكذا إذا كان قد زار هو وامرأته قوما فرأى من الأحوال ما كره أن تقيم تلك المرأة عندهم فحلف أنه لا يقيم، ولا يسكن، وقصد على تلك الحال، أو كان سبب اليمين يدل على ذلك، وأما إن كان قد نوى العموم بحيث قصد أنه لا يقعد عندهم ولا يساكنهم بحال فإنه لا يحنث بالقعود، وإن أطلق اليمين ففيه نزاع مشهور بين العلماء، وحيث يحنث بالقعود فإنه إذا كان القعود الذي قصده هو السكنى لم يحنث بأكثر من طلقة ; إلا أن يقصد أكثر من ذلك ; كما لو كرر اليمين بالله على فعل واحد لم يلزمه إلا كفارة واحدة على الصحيح، وإن كان القعود داخلا في ضمن السكنى - كما هو ظاهر اللفظ المطلق - فهذه المسألة تداخل الصفات، كما لو قال: إن أكلت تفاحة واحدة: فقد قيل: تقع طلقتان ; لوجود الصفتين، وقيل: لا يقع إلا طلقة واحدة أيضا، وهو أقوى، فإن المفهوم من هذا الكلام أنك طالق سواء أكلت تفاحة كاملة أو نصفها، وكذلك إذا قال: إن قعدت، فالقعود " لفظ مشترك " يراد به السكنى مشتملا على القعود، ويكون أولا حلف أنه لا يقعد، ثم حلف على ما هو أعم من ذلك وهو السكنى فإذا سكن كان الأول بعض الثاني، فلا يقع أكثر من طلقة إذا قيل بوقوع الطلاق عليه على أقوى القولين، وأما قوله: " أنت علي حرام " فإن حلف أن لا يفعل شيئا ففعله: فعليه كفارة يمين، وإن لم يحلف ; بل حرمها تحريما: فهذا عليه كفارة ظهار، ولا يقع به طلاق في الصورتين، وهذا قول جمهور أهل العلم من أصحاب رسول الله ﷺ وأئمة المسلمين : يقولون: إن الحرام لا يقع به طلاق إذا لم ينوه، كما روي ذلك عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وغيرهم، وإن كان من متأخري أتباع بعض الأئمة من زعم أن هذا اللفظ قد صار بحكم العرف صريحا في الطلاق: فهذا ليس من قول هؤلاء الأئمة المتبوعين، وقد كانوا في أول الإسلام يرون لفظ " الظهار " صريحا في الطلاق وهو قوله: أنت علي كظهر أمي، حتى تظاهر أوس بن الصامت من امرأته المجادلة، التي ثبت حكمها فيما أنزل الله { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله }، وأفتاها النبي أولا بالطلاق، حتى نسخ الله ذلك، وجعل الظهار موجبا للكفارة، ولو نوى به الطلاق، والحرام نظير الظهار، لأن ذلك تشبيه لها بالمحرمة، وهذا نطق بالتحريم، وكلاهما منكر من القول وزور، فقد دل كتاب الله على أن تحريم الحلال يمين بقوله: { لم تحرم ما أحل الله لك } إلى قوله: { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم }، مع أن هذا ليس موضع بسط ذلك، وأما تقليد المستفتي للمفتي فالذي عليه الأئمة الأربعة وسائر أئمة العلم أنه ليس على أحد ولا شرع له التزام قول شخص معين في كل ما يوجبه ويحرمه ويبيحه ; إلا رسول الله لكن منهم من يقول: على المستفتي أن يقلد الأعلم الأروع ممن يمكنه استفتاؤه، ومنهم من يقول: بل يخير بين المفتين ; [ و ] إذا كان له نوع تمييز، فقد قيل: يتبع أي القولين أرجح عنده بحسب تمييزه، فإن هذا أولى من التخيير المطلق، وقيل: لا يجتهد إلا إذا صار من أهل الاجتهاد، والأول أشبه، فإذا ترجح عند المستفتي أحد القولين: إما لرجحان دليله بحسب تمييزه، وإما لكون قائله أعلم وأورع ; فله ذلك وإن خالف قوله المذهب . - مسألة: في رجل متزوج وله أولاد، ووالدته تكره الزوجة وتشير عليه بطلاقها هل يجوز له طلاقها ؟ الجواب: لا يحل له أن يطلقها لقول أمه، بل عليه أن يبر أمه وليس تطليق امرأته من برها والله أعلم .

- مسألة: في رجل متزوج لامرأتين فاختارت إحداهن الطلاق فحلف بالطلاق من الاثنتين أنه يطلقها، ولا يوكل عنه في طلاقها، ثم حدث عرس لها فنكحت عليه، فحلف بالطلاق لا تروحي فقالت نزلني طلقة، فإن نزلها طلقة يقع عليه الطلاق الثلاث ؟ الجواب: الحمد لله رب العالمين، متى طلقها الطلاق الذي حلف أنه لا يفعله وقع به الطلاق الذي حلف عليه، وحنث أيضا في الطلاق الذي حلف به والله أعلم .

- مسألة: في رجل تخاصم مع زوجته وهي معه بطلقة واحدة، فقالت له: طلقني، فقال: إن أبرأتيني فأنت طالق، فقالت: أبرأك الله مما يدعي النساء على الرجال، فقال لها: أنت طالق، وظن أنه يبرأ من الحقوق، وهو شافعي المذهب ؟ الجواب: نعم هو بريء مما تدعي النساء على الرجال إذا كانت رشيدة .

- مسألة: في رجل قال لصهره: إن جئت لي بكتابي وأبرأتني منه فبنتك طالق ثلاثا ; فجاء له بكتاب غير كتابه ; فقطعه الزوج ولم يعلم هل هو كتابه أم لا ؟ فقال أبو الزوجة: اشهدوا عليه أن بنتي تحت حجري، واشهدوا علي أني أبرأته من كتابها، ولم يبين ما في الكتاب، ثم إنه مكث ساعة وجاء أبو الزوجة بحضور الشهود ; وقال له: أي شيء قلت يا زوج ؟ فقال الزوج: اشهدوا علي أن بنت هذا طالق ثلاثا، ثم إن الزوج ادعى أن هذا الطلاق الصريح بناء على أن الإبراء الأول صحيح: فهل يقع ؟ أم لا ؟ الجواب: قوله الأول معلق على الإبراء، فإن لم يبره لم يقع الطلاق، وأما قوله الثاني فهو إقرار منه ; بناء على أن الأول قد وقع، فإن كان الأول لم يقع فإنه لم يقع بالثاني شيء .

- مسألة: في رجل قال لامرأته: هذا ابن زوجك لا يدخل لي بيتا ; فإنه ابني ربيته ; فلما اشتكاه لأبيه قال للزوج: إن أبرأتك امرأتك تطلقها ؟ قال: نعم، فأتى بها، فقال لها الزوج: إن أبرأتني من كتابك، ومن الحجة التي لك علي: فأنت طالق ؟ قالت: نعم، وانفصلا، وطلع الزوج إلى بيت جيرانه، فقال: هي طالق ثلاثا، ونزل إلى الشهود فسألوه كم طلقت ؟ قال: ثلاثا على ما صدر منه: فهل يقع عليه الطلاق الثلاث ؟، الجواب: الحمد لله، إذا كان إبراؤها على ما دل عليه سياق الكلام ليس مطلقا بل بشرط أن يطلقها بانت منه، ولم يقع بها بعد هذا طلاق، والشرط المتقدم على العقد كالشرط المقارن، والشرط العرفي كاللفظي، وقول هذا الذي من جهتها له: إن جاءت زوجتك وأبرأتك تطلقها ؟ وقوله اشتراط عليه أنه يطلقها إذا أبرأته، ومجيئه بها بعد ذلك، وقوله: أنت إن أبرأتيني قالت: نعم، متنزل على ذلك، وهو أنه إذا أبرأته يطلقها: بحيث لو قالت: أبرأته وامتنع لم يصح الإبراء ; فإن هذا إيجاب وقبول في العرف، لما تقدم من الشروط ودلالة الحال ; والتقدير: أبرأتك بشرط أن تطلقني .

- مسألة: في رجل تزوج امرأة وأقامت في صحبته خمسة عشر يوما، ثم طلقها الطلاق البائن، وتزوجت بعده بزوج آخر بعد إخبارها بانقضاء العدة من الأول ; ثم طلقها الزوج الثاني بعد مدة ست سنين، وجاءت بابنة، وادعت أنها من الزوج الأول: فهل يصح دعواها، ويلزم الزوج الأول، ولم يثبت أنها ولدت البنت، وهذا الزوج والمرأة مقيمان ببلد واحد، وليس لها مانع من دعوى النساء، ولا طالبته بنفقة ولا فرض ؟ الجواب: الحمد لله، لا يلحق هذا الولد الذي هو البنت بمجرد دعواها والحالة هذه باتفاق الأئمة ; بل لو ادعت أنها ولدته في حال يلحق به نسبه إذا ولدته وكانت مطلقة وأنكر هو أن تكون ولدته لم تقبل في دعوى الولادة بلا نزاع، حتى تقيم بذلك بينة، ويكفي امرأة واحدة: عند أبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه، وعند مالك وأحمد في الرواية الأخرى لا بد من امرأتين، وأما الشافعي فيحتاج عنده إلى أربع نسوة، ويكفي يمينه أنه لا يعلم أنها ولدته، وأما إن كانت الزوجية قائمة ففيها قولان في مذهب أحمد: أحدهما: لا يقبل قولها، كمذهب الشافعي، والثاني: يقبل، كمذهب مالك، وأما إذا انقضت عدتها ومضى لها أكثر الحمل، ثم ادعت وجود حمل من الزوج الأول المطلق: فهذه لا يقبل قولها بلا نزاع، بل لو أخبرت بانقضاء عدتها ثم أتت بولد لستة أشهر فصاعدا ولدون مدة الحمل: فهل يلحقه ؟ على قولين مشهورين لأهل العلم، ومذهب أبي حنيفة وأحمد أنه يلحق، وهذا اختيار ابن سريج من أصحاب الشافعي ; لكن المشهور من مذهب الشافعي ومالك أنه لا يلحقه، وهذا النزاع إذا لم تتزوج، فأما إذا تزوجت بعد إخبارها بانقضاء عدتها، ثم أتت بولد لأكثر من ستة أشهر ; فإن هذا لا يلحق نسبه بالأول قولا واحدا، فإذا عرفت مذهب الأئمة في هذين الأصلين فكيف يلحقه نسبه بدعواها بعد ست سنين، ولو قالت ولدته ذلك الزمن قبل أن يطلقني لم يقبل قولها أيضا ; بل القول قوله مع يمينه أنها لم تلدها على فراشه، ولو قالت هي: وضعت هذا الحمل قبل أن أتزوج بالثاني، وأنكر الزوج الأول ذلك: فالقول قوله أيضا أنها لم تضعها قبل تزوجها بالثاني ; لا سيما مع تأخر دعواها إلى أن تزوجت الثاني ; فإن هذا مما يدل على كذبها في دعواها ; لا سيما على أصل مالك في تأخر الدعوى الممكنة بغير عذر في هذه المسائل ونحوها .

- مسألة: في امرأة مبغضة لزوجها طلبت الانخلاع منه، وقالت له: إن لم تفارقني وإلا قتلت نفسي ; فأكرهه الولي على الفرقة، وتزوجت غيره، وقد طلبها الأول، وقال: إنه فارقها مكرها، وهي لا تريد إلا الثاني ؟ الجواب: إن كان الزوج الأول أكره على الفرقة بحق: مثل أن يكون مقصرا في واجباتها، أو مضرا لها بغير حق من قول أو فعل كانت الفرقة صحيحة، والنكاح الثاني صحيحا، وهي زوجة الثاني، وإن كان أكره بالضرب أو الحبس وهو محسن لعشرتها حتى فارقها لم تقع الفرقة ; بل إذا أبغضته وهو محسن إليها فإنه يطلب منه الفرقة من غير أن يلزم بذلك، فإن فعل وإلا أمرت المرأة بالصبر عليه إذا لم يكن ما يبيح الفسخ .

- مسألة: في رجل تزوج امرأة من مدة إحدى عشرة سنة، وأحسنت العشرة معه، وفي هذا الزمان تأبى العشرة معه، وتناشزه: فما يجب عليها ؟ الجواب: لا يحل لها أن تنشز عليه ولا تمنع نفسها، فقد قال النبي ﷺ: { ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى تصبح }، فإذا أصرت على النشوز فله أن يضربها، وإذا كانت المرأة لا تقوم بما يجب للرجل عليها فليس عليه أن يطلقها ويعطيها الصداق ; بل هي التي تفتدي نفسها منه، فتبذل صداقها ليفارقها، كما { أمر النبي ﷺ لامرأة ثابت بن قيس بن شماس أن يعطي صداقها فيفارقها }، وإذا كان معسرا بالصداق لم تجز مطالبته بإجماع المسلمين .

- مسألة: في رجل خاصم زوجته وضربها، فقالت له: طلقني، فقال: أنت علي حرام، فهل تحرم عليه أم لا ؟ وما يجب عليه إذا منعته من نفسها إذا طلبها ؟، الجواب: الحمد لله، لا يحل لها النشوز عنه ولا تمنع نفسها منه، بل إذا امتنعت منه وأصرت على ذلك فله أن يضربها ضربا غير مبرح، ولا تستحق نفقة ولا قسما، وأما قوله: أنت علي حرام، ففيه قولان للعلماء: قيل: عليه كفارة الظهار إذا أمكنته من نفسها، وقيل: لا شيء عليه ولا خلاف بين العلماء، أنه يجب عليها أن تمكنه، والله أعلم .

- مسألة: في رجل له امرأة كساها كسوة مثمنة: مثل مصاغ، وحلي وقلائد، وما أشبه ذلك خارجا عن كسوة القيمة، وطلبت منه المخالعة، وعليه مال كثير مستحق لها عليه، وطلب حليه منها ليستعين به على حقها أو على غير حقها، فأنكرته، ويعلم أنها تحلف وتأخذ الذي ذكره عندها، والثمن يلزمه ; ولم يكن له بينة عليها ؟ الجواب: إن كان قد أعطاها ذلك الزائد عن الواجب على وجه التمليك لها فقد ملكته، وليس له إذا طلقها هو ابتداء أن يطالبها بذلك ; لكن إن كانت الكارهة لصحبته، وأرادت الاختلاع منه: فلتعطه ما أعطاها من ذلك ومن الصداق الذي ساقه إليها، والباقي في ذمته ; ليخلعها، كما مضت { سنة رسول الله ﷺ في امرأة ثابت بن قيس بن شماس، حيث أمرها برد ما أعطاها }، وإن كان قد أعطاها لتتجمل به، كما يركبها دابته، ويحذيها غلامه، ونحو ذلك ; لا على وجه التمليك للعين: فهو باق على ملكه، فله أن يرجع فيه متى شاء ; سواء طلقها أو لم يطلقها، وإن تنازعا هل أعطاها على وجه التمليك ؟ أو على وجه الإباحة ؟ ولم يكن هناك عرف يقضى به: فالقول قوله مع يمينه أنه لم يملكها ذلك، وإن تنازعا هل أعطاها شيئا أو لم يعطها، ولم يكن حجة يقضى له بها ; لا شاهد واحد، ولا إقرار، ولا غير ذلك: فالقول قولها مع يمينها أنه لم يعطها .

- مسألة: ما هو الخلع الذي جاء به الكتاب والسنة ؟ الجواب: الخلع الذي جاء به الكتاب والسنة: أن تكون المرأة كارهة للزوج تريد فراقه فتعطيه الصداق أو بعضه فداء نفسها، كما يفتدي الأسير، وأما إذا كان كل منهما مريدا لصاحبه، فهذا الخلع محدث في الإسلام .

- مسألة: في رجل قالت له زوجته: طلقني وأنا أبرأتك من جميع حقوقي عليك ; وآخذ البنت بكفايتها، يكون لها عليك مائة درهم، كل يوم سدس درهم، وشهد العدول بذلك فطلقها على ذلك بحكم الإبراء أو الكفالة: فهل لها أن تطالبه بفرض البنت بعد ذلك ؟ أم لا ؟ الجواب: إذا خالعها على أن تبرئه من حقوقها، وتأخذ الولد بكفالته، ولا تطالبه بنفقة، صح ذلك عند جماهير العلماء: كمالك، وأحمد في المشهور من مذهبه وغيرهما ; فإنه عند الجمهور يصح الخلع بالمعدوم الذي ينتظر وجوده كما تحمل أمتها وشجرها، وأما نفقة حملها ورضاع ولدها، ونفقته، فقد انعقد سبب وجوده وجوازه ; وكذلك إذا قالت له: طلقني وأنا أبرأتك من حقوقي وأنا آخذ الولد بكفالته، وأنا أبرأتك من نفقته، ونحو ذلك مما يدل على المقصود، وإذا خالع بينهما على ذلك من يرى صحة مثل هذا الخلع - كالحاكم المالكي - لم يجز لغيره أن ينقضه، وإن رآه فاسدا، ولا يجوز له أن يفرض له عليه بعد هذا نفقة للولد ; فإن فعل الحاكم الأول كذلك حكم في أصح قولي العلماء، والحاكم متى عقد عقدا ساغ فيه الاجتهاد ; أو فسخ فسخا جاز فيه الاجتهاد: لم يكن لغيره نقضه .

مسألة: في رجل له زوجة، وهي ناشز تمنعه نفسها: فهل تسقط نفقتها وكسوتها وما يجب عليها ؟ الجواب: الحمد لله، تسقط نفقتها وكسوتها إذا لم تمكنه من نفسها، وله أن يضربها إذا أصرت على النشوز، ولا يحل لها أن تمنع من ذلك إذا طالبها به ; بل هي عاصية لله ورسوله، وفي الصحيح: { إذا طلب الرجل المرأة إلى فراشه فأبت عليه كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى تصبح } . - مسألة: في رجل له امرأة، وقد نشزت عنه في بيت أبيها من مدة ثمانية شهور، ولم ينتفع بها ؟ الجواب: إذا نشزت عنه فلا نفقة لها، وله أن يضربها إذا نشزت ; أو آذته، أو اعتدت عليه .

- مسألة: في قوله تعالى: { واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن }، وفي قوله تعالى: { وإذا قيل انشزوا فانشزوا } إلى قوله تعالى: { والله بما تعملون خبير }، يبين لنا شيخنا هذا النشوز من ذاك ؟ الجواب: الحمد لله رب العالمين، " النشوز " في قوله تعالى: { تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع } هو: أن تنشز عن زوجها فتنفر عنه بحيث لا تطيعه إذا دعاها للفراش، أو تخرج من منزله بغير إذنه، ونحو ذلك مما فيه امتناع عما يجب عليها من طاعته، وأما " النشوز " في قوله تعالى: { إذا قيل انشزوا فانشزوا } فهو النهوض والقيام والارتفاع، وأصل هذه المادة هو الارتفاع والغلظ، ومنه النشز من الأرض ; وهو المكان المرتفع الغليظ، ومنه قوله تعالى: { وانظر إلى العظام كيف ننشزها } أي نرفع بعضها إلى بعض، ومن قرأ ننشرها أراد نحييها، فسمى المرأة العاصية ناشزا لما فيها من الغلظ والارتفاع عن طاعة زوجها، وسمي النهوض نشوزا لأن القاعد يرتفع من الأرض، والله أعلم .

- مسألة: في رجل تزوج امرأة وكتب كتابها، ودفع لها الحال بكماله، وبقي القسط من ذلك، ولم تستحق عليه شيء، وطلبها للدخول فامتنعت ولها خالة تمنعها، فهل تجبر على الدخول ويلزم خالتها المذكورة تسليمها إليه ؟ الجواب: ليس لها أن تمتنع من تسليم نفسها، والحال هذه، باتفاق الأئمة، ولا لخالتها ولا غير خالتها أن يمنعها، بل تعزر الخالة على منعها من فعل ما أوجب الله عليه، وتجبر المرأة على تسليم نفسها للزوج .

مسألة: في رجل شافعي المذهب بانت منه زوجته بالطلاق الثلاث، ثم تزوجت بعده وبانت من الزوج الثاني، ثم أرادت صلح زوجها الأول، لأن لها منه أولادا، فقال لها: إنني لست قادرا على النفقة وعاجز عن الكسوة فأبت ذلك، فقال لها: كلما حللت لي حرمت علي، فهل تحرم عليه ؟ وهل يجوز ذلك ؟ الجواب: الحمد لله، لا تحرم عليه بذلك، لكن فيها قولان: أحدهما: أن له أن يتزوجها ولا شيء عليه، والثاني: عليه كفارة، إما كفارة ظهار في قول وإما كفارة يمين في قول آخر، وكذلك مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما، إن له أن يتزوجها ولا يقع به طلاق، لكن في التكفير نزاع، وإنما يقول بوقوع الطلاق بمثل هذه من يجوز تعليق الطلاق على النكاح كأبي حنيفة ومالك، بشرط أن يرى الحرام طلاقا، كقول مالك، وإذا نواه كقول أبي حنيفة، وأما الشافعي وأحمد فعندهما لو قال: كلما تزوجتك فأنت طالق لم يقع به الطلاق، فكيف في الحرام ؟ لكن أحمد يجوز عليه في المشهور عنه تصحيح الظهار قبل الملك بخلاف الشافعي، والله أعلم .

-مسألة: في رجل قالت له زوجته: أنت علي حرام مثل أبي وأمي، وقال لها: أنت علي حرام مثل أمي وأختي: فهل يجب عليه طلاق ؟ الجواب: لا طلاق بذلك ; ولكن إن استمر على النكاح فعلى كل منهما كفارة ظهار قبل أن يجتمعا، وهي عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ; فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا .

- مسألة: في رجل حنق من زوجته فقال: إن بقيت أنكحك أنكح أمي تحت ستور الكعبة، هل يجوز أن يصالحها ؟ الجواب: الحمد لله، إذا نكحها فعليه كفارة الظهار: عتق رقبة مؤمنة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا، ولا يمسها حتى يكفر .

- مسألة: في رجلين قال أحدهما لصاحبه: يا أخي، لا تفعل هذه الأمور بين يدي امرأتك، قبيح عليك، فقال: ما هي إلا مثل أمي، فقال: لأي شيء قلت ؟ سمعت أنها تحرم بهذا اللفظ، ثم كرر على نفسه، وقال: إي والله هي عندي مثل أمي: هل تحرم على الزوج بهذا اللفظ ؟ الجواب: الحمد لله رب العالمين، إن أراد بقوله: إنها مثل أمي أنها تستر علي ولا تهتكني ولا تلومني، كما تفعل الأم مع ولدها، فإنه يؤدب على هذا القول، ولا تحرم عليه امرأته ; فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع رجلا يقول لامرأته: يا أختي، فأدبه - وإن كان جاهلا لم يؤدب على ذلك، وإن استحق العقوبة على ما فعله من المنكر - وقال أختك هي ؟، فلا ينبغي أن يجعل الإنسان امرأته كأمه، وإن أراد بها عندي مثل أمي، أي في الامتناع عن وطئها، والاستمتاع بها، ونحو ذلك مما يحرم من الأم، فهي مثل أمي التي ليست محلا للاستمتاع بها: فهذا مظاهر يجب عليه ما يجب على المظاهر، فلا يحل له أن يطأها حتى يكفر كفارة الظهار فيعتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا، وإذا فعل ذلك حل له ذلك باتفاق المسلمين ; إلا أن ينوي أنها محرمة علي كأمي: فهذا يكون مظاهرا في مذهب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وحكي في مذهب مالك نزاع في ذلك: هل يقع به الثلاث ؟ أم لا ؟ والصواب المقطوع به أنه لا يقع به طلاق، ولا يحل له الوطء حتى يكفر باتفاقهم، ولا يقع به الطلاق بذلك، والله أعلم .

-مسألة: في رجل قال في غيظه لزوجته: أنت علي حرام مثل أمي، الجواب: هذا مظاهر من امرأته، داخل في قوله: { الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور، والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا }، فهذا إذا أراد إمساك زوجته ووطأها فإنه لا يقربها حتى يكفر هذه الكفارة التي ذكرها الله .

-مسألة: في رجل قال لامرأته بائن عنه إن رددتك تكوني مثل أمي وأختي: هل يجوز أن يردها ؟ وما الذي يجب عليه ؟ الجواب: في أحد قولي العلماء عليه كفارة ظهار، وإذا ردها في الآخر لا شيء، والأول أحوط .

- مسألة: في رجل تزوج، وأراد الدخول الليلة الفلانية ; وإلا كانت عندي مثل أمي وأختي، ولم تتهيأ له ذلك الوقت الذي طلبها فيه: فهل يقع طلاق ؟ الجواب: لا يقع عليه طلاق في المذاهب الأربعة، لكن يكون مظاهرا فإذا أراد الدخول فإنه يكفر قبل ذلك الكفارة التي ذكرها الله في " سورة المجادلة " فيعتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ; فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا .

-مسألة: في امرأة فسخ الحاكم نكاحها عقب الولادة، لما ثبت عنده من تضررها بانقطاع نفقة زوجها، وعدم تصرفه الشرعي عليها المدة التي يسوغ فيها فسخ النكاح لمثلها، وبعد ثلاثة شهور من فسخ النكاح رغب فيها من يتزوجها: فهل يجوز أن تعتد بالشهور ; إذ أكثر النساء لا يحضن مع الرضاعة أو يستمر بها الضرر إلى حيث ينقضي الرضاع ويعود إليها حيضها، أم لا ؟ الجواب: الحمد لله، بل تبقى في العدة حتى تحيض ثلاث حيض، وإن تأخر ذلك إلى انقضاء مدة الرضاع، وهذا باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم، وبذلك قضى عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب بين المهاجرين والأنصار، ولم يخالفهما أحد، فإن أحبت المرأة أن تسترضع لابنها من يرضعه لتحيض، أو تشرب ما تحيض به، فلها ذلك، والله أعلم .

- مسألة: في امرأة شابت لم تبلغ سن الإياس، وكانت عادتها أن تحيض، فشربت دواء، فانقطع عنها الدم واستمر انقطاعه ; ثم طلقها زوجها وهي على هذه الحالة: فهل تكون عدتها من حين الطلاق بالشهور، أو تتربص حتى تبلغ سن الآيسات ؟ الجواب: الحمد لله رب العالمين، إن كانت تعلم أن الدم يأتي فيما بعد فعدتها ثلاثة أشهر، وإن كان يمكن أن يعود الدم ويمكن أن لا يعود فإنها تتربص بعد سنة ثم تتزوج، كما قضى به عمر بن الخطاب في المرأة يرتفع حيضها لا تدري ما رفعه، فإنها تتربص سنة، وهذا مذهب الجمهور: كمالك، والشافعي، ومن قال: إنها تدخل في سن الآيسات: فهذا قول ضعيف جدا ; مع ما فيه من الضرر الذي لا تأتي الشريعة بمثله، أو تمنع من النكاح وقت حاجتها إليه ويؤذن لها فيه حين لا تحتاج إليه -مسألة: في رجل ادعت عليه مطلقته بعد ست سنين ببنت، وبعد أن تزوجت بزوج آخر، فألزمه بعض الحكام باليمين، فقال الرجل: أحلف أن هذه ما هي بنتي ؟ فقال الحاكم: ما تحلف إلا أنها ما هي بنتها، فامتنع أن يحلف، إلا أنها ما هي بنتي، وكان معه إنسان فقال للحاكم: هذا ما يحل له أن يحلف أنها ما هي بنت هذه المرأة، فضربه الحاكم بالدرة، وأحرق به فخاف الرجل فكتب عليه فرض البنت، فهل يصح هذا الفرض ؟، الجواب: الحمد لله، عليه اليمين أنها لم تلدها في العدة، أو أنها لم تلدها على فراشه أو أنها لم تلدها في بيته، بحيث أمكن لحوق النسب به، فأما إذا تزوجت بغيره، وأمكن أنها ولدتها من الثاني، فليس عليه اليمين أنها لم تلدها وإذا حلفت أنها لم تلدها قبل نكاح الثاني آخرا، وإذا أكره على الإقرار لم يصح إقراره .

- مسألة: في رجل طلق زوجته ثلاثا ولهما ولدان وهي مقيمة عند الزوج في بيته مدة سنتين ويبصرها وتبصره، فهل يحل لها الأكل الذي تأكل من عنده أم لا وهل له عليها حكم ؟ الجواب: المطلقة ثلاثا هي أجنبية من الرجل بمنزلة سائر الأجنبيات، فليس للرجل أن يخلو بها كما ليس له أن يخلو بالأجنبية، وليس له أن ينظر إليها إلى ما لا ينظر إليه من الأجنبية وليس له عليها حكم أصلا، ولا يجوز له أن يواطئها على أن تزوج غيره ثم تطلقه وترجع إليه، ولا يجوز أن يعطيها ما تنفقه في ذلك، فإنها لو تزوجت رجلا غيره بالنكاح المعروف الذي جرت به عادة المسلمين ثم مات زوجها أو طلقها ثلاثا لم يجز لهذا الأول أن يخطبها في العدة صريحا باتفاق المسلمين، كما قال تعالى: { ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا }، ونهاه أن يعزم عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله أي حتى تقضي العدة فإذا كان قد نهاه عن هذه المواعدة والعزم في العدة، فكيف إذا كانت في عصمة زوجها، فكيف إذا كان الرجل لم يتزوجها بعد تواعد على أن تتزوجه ثم تطلقه ويتزوج بها المواعد، فهذا حرام باتفاق المسلمين، سواء قيل: إنه يصح نكاح المحلل أو قيل: لا، فلم يتنازعوا في أن التصريح بخطبة معتدة من غيره أو متزوجة بغيره أو بخطبة مطلقة ثلاثا أنه لا يجوز، ومن فعل ذلك يستحق العقوبة في الدنيا والآخرة باتفاق الأئمة .

-مسألة: في امرأة طلقها زوجها في الثامن والعشرين من ربيع الأول، وأن دم الحيض جاءها مرة، ثم تزوجت بعد ذلك في الثالث والعشرين من جمادى الآخر من السنة، وادعت أنها حاضت ثلاث حيض، ولم تكن حاضت إلا مرة، فلما علم الزوج الثاني طلقها طلقة واحدة ثانيا في العاشر من شعبان من السنة، ثم أرادت أن تزوج بالمطلق الثاني، وادعت أنها آيسة: فهل يقبل قولها وهل يجوز تزويجها ؟ الجواب: الإياس لا يثبت بقول المرأة ; لكن هذه إذا قالت إنه ارتفع لا تدري ما رفعه فإنها تؤجل سنة، فإن لم تحض فيها زوجت، وإذا طعنت في سن الإياس فلا تحتاج إلى تأجيل، وإن علم أن حيضها ارتفع بمرض أو رضاع كانت في عدة حتى يزول العارض، فهذه المرأة كان عليها " عدتان ": عدة للأول، وعدة من وطء الثاني، ونكاحه، فاسد لا يحتاج إلى طلاق، فإذا لم تحض إلا مرة واستمر انقطاع الدم فإنها تعتد العدتين بالشهور ستة أشهر بعد فراق الثاني إذا كانت آيسة، وإذا كانت مستريبة كان سنة وثلاثة أشهر، وهذا على قول من يقول: إن العدتين لا تتداخلان: كمالك، والشافعي، وأحمد، وعند أبي حنيفة تتداخل العدتان من رجلين ; لكن عنده الإياس حد بالسن، وهذا الذي ذكرناه هو أحسن قولي الفقهاء وأسهلهما، وبه قضى عمر وغيره، وأما على القول الآخر فهذه المستريبة تبقى في عدة حتى تطعن في سن الإياس، فتبقى على قولهم تمام خمسين أو ستين سنة لا تتزوج، ولكن في هذا عسر وحرج في الدين، وتضييع مصالح المسلمين .

مسألة: في رجل تزوج ببنت بكر، ثم طلقها ثلاثا ولم يصبها فهل يجوز أن يعقد عليها، عقدا ثانيا أم لا ؟ الجواب: طلاق البكر ثلاثا كطلاق المدخول بها ثلاثا عند أكثر الأئمة . - مسألة: في مريض طلب من رجل أن يطببه وينفق عليه ففعل، فهل للمنفق أن يطالب المريض بالنفقة ؟ الجواب: إن كان ينفق طالبا للعوض لفظا أو عرفا فله المطالبة بالعوض والله أعلم .

والشروط الفاسدة قد تبطل لكونها قد تنافي مقصود الشارع مثل اشتراط الولاء لغير المعتق، فإن هذا لا ينافي مقتضى العقد ولا مقصوده، فإن مقصوده الملك والعتق قد يكون مقصودا للعقد فإن اشتراء العبد لعتقه يقصد كثيرا، فثبوت الولاء لا ينافي مقصوده العقد، وإنما ينافي كتاب الله وشرطه، كما بينه النبي ﷺ بقوله: { كتاب الله أحق وشرط الله أوثق } فإذا كان الشرط منافيا لمقصود العقد كان العقد لغوا، وإذا كان منافيا لمقصود الشارع كان مخالفا لله ورسوله، فأما إذا لم يشتمل على واحد منهما إذا لم يكن لغوا ولا اشتمل على ما حرمه الله ورسوله فلا وجه لتحريمه، بل الواجب حله ; لأنه عمل مقصود للناس يحتاجون إليه، إذ لولا حاجتهم إليه لما فعلوه، فإن الإقدام على الفعل مظنة الحاجة إليه ولم يثبت تحريمه فيباح لما في الكتاب والسنة مما يرفع الحرج، وأيضا فإن العقود والشروط لا تخلو إما أن يقال لا تحل ولا تصح إن لم يدل على حلها دليل شرعي خاص من نص أو إجماع أو قياس عند الجمهور كما ذكرناه من القول الأول، أو يقال لا يحل ولا يصح حتى يدل على حلها دليل سمعي، وإن كان عاما، أو يقال تصح، ولا تحرم إلا أن يحرمها الشارع بدليل خاص أو عام، والقول الأول باطل ; لأن الكتاب والسنة دلا على صحة العقود والقبوض التي وقعت في حال الكفر، وأمر الله بالوفاء بها إذا لم يكن فيها بعد الإسلام شيء محرم، فقال سبحانه في آية الربا: { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين }، فأمرهم بترك ما بقي لهم من الربا في الذمم، ولم يأمرهم برد ما قبضوه بعقد الربا، بل مفهوم الآية الذي اتفق العمل عليه يوجب أنه غير منهي عنه، وكذلك النبي ﷺ أسقط عام حجة الوداع الربا الذي في الذمم، ولم يأمرهم برد المقبوض، وقال النبي ﷺ: { أيما قسم في الجاهلية فهو على ما قسم، وأيما قسم أدركه الإسلام فهو قسم الإسلام }، وأقر الناس على أنكحتهم التي عقدوها في الجاهلية، ولم يستفصل أحدا، هل عقد به في عدة أو غير عدة ؟ بولي أو بغير ولي ؟ بشهود أو بغير شهود ؟، ولم يأمر أحدا بتجديد نكاح ولا بفراق امرأة إلا أن يكون السبب المحرم موجودا حين الإسلام، كما أمر غيلان بن سلمة الثقفي الذي أسلم وتحته عشر نسوة أن يمسك أربعا ويفارق سائرهن، كما أمر فيروز الديلمي الذي أسلم وتحته أختان أن يختار إحداهما ويفارق الأخرى، وكما أمر الصحابة من أسلم من المجوس أن يفارقوا ذات المحارم، ولهذا اتفق المسلمون على أن العقود التي عقدها الكفار يحكم بصحتها بعد الإسلام إذ لم تكن محرمة على المسلمين، وإن كان الكفار لم يعقدوها بإذن شرعي، ولو كانت العقود عندهم كالعبادات لا تصح إلا بشرع لحكموا بفسادها أو بفساد ما لم يكن أهله مستمسكون فيه بشرع، فإن قيل: فقد اتفق فقهاء الحديث وأهل الحجاز على أنها إذا عقدت على وجه محرم في الإسلام، ثم أسلموا بعد زواله مضت ولم يؤمروا باستئنافها ; لأن الإسلام يجب ما قبله، وليس ما عقدوه بغير شرع بدون ما عقدوه مع تحريم الشرع، وكلاهما عندكم سواء، قلنا: ليس كذلك بل ما عقدوه مع التحريم إنما يحكم بصحته إذا اتصل به القبض، وأما إذا أسلموا قبل التقابض فسخ، بخلاف ما عقدوه بغير شرع فإنه لا يفسخ لا قبل القبض ولا بعده، ولم أر الفقهاء من أصحابنا وغيرهم اشترطوا في النكاح القبض، بل سووا بين الإسلام قبل الدخول وبعده ; لأن نفس عقد النكاح يوجب أحكاما بنفسه، وإن لم يتصل به القبض من المصاهرة ونحوها، كما أن نفس الوطء يوجب أحكاما وإن كان بغير نكاح، فلما كان كل واحد من العقود والوطء مقصودا في نفسه وإن لم يقترن بالآخر أقرهم الشارع على ذلك، بخلاف الأموال، فإن المقصود بعقودها هو التقابض، ولم يحصل مقصودها فأبطلها الشارع لعدم حصول المقصود، فتبين بذلك أن مقصود العباد من المعاملات لا يبطله الشارع إلا مع التحريم لا أنه لا يصححه إلا بتحليل، وأيضا فإن المسلمين إذا تعاقدوا بينهم عقودا ولم يكونوا يعلمون لا تحريمها ولا تحليلها فإن الفقهاء جميعهم فيما أعلمه يصحونها إذا لم يعتقدوا تحريمها وإن كان العاقد لم يكن حينئذ يعلم تحليلها، لا باجتهاد ولا بتقليد ولا بقول أحد لا يصح العقد إلا الذي يعتقد أن الشارع أحله، فلو كان إذن الشارع الخاص شرطا في صحة العقود لم يصح عقد إلا بعد ثبوت إذنه، كما لو حكم الحاكم بغير اجتهاد فإنه آثم، وإن كان قد صادف الحق، وأما إن قيل: لا بد من دليل شرعي يدل على حلها سواء كان عاما أو خاصا ففيه جوابان: أحدهما: المنع كما تقدم، والثاني: أن يقول قد دلت الأدلة الشرعية العامة على حل العقود والشروط جملة إلا ما استثناه الشارع .

وما عارضوا به سنتكلم عليه إن شاء الله، فلم يبق إلا القول الثالث وهو المقصود وأما قوله: { من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق وشرط الله أوثق }، فالشرط يراد به المصدر تارة والمفعول أخرى، وكذلك الوعد والخلف، ومنه قولهم درهم ضرب الأمير، والمراد به هنا والله أعلم المشروط لا نفس التكلم، ولهذا قال: " وإن كان مائة شرط " أي وإن كان مائة مشروط، وليس المراد تعديد التكلم بالشرط، وإنما المراد تعديد المشروط، والدليل على ذلك قوله: { كتاب الله أحق وشرط الله أوثق }، أي: كتاب الله أحق من هذا الشرط وشرط الله أوثق منه، وهذا إنما يكون إذا خالف ذلك الشرط كتاب الله وشرطه بأن يكون المشروط مما حرم الله تعالى .

وكذلك فقهاء الحديث، وأهل الحجاز متفقون على أنه إذا باع شجرا قد بدا ثمره كالنخل المنورة فثمره للبائع مستحق الإبقاء إلى كمال صلاحه، فيكون البائع قد استثنى منفعة الشجر إلى كمال الصلاح، وكذلك بيع العين المؤجرة كالدار والعبد عامتهم يجوزه ويملكه المشتري دون المنفعة التي للمستأجر، وكذلك فقهاء الحديث كأحمد وغيره يجوزون استثناء بعض منفعة العقد، كما في صور الوفاق، كاستثناء بعض أجزائه معينا ومشاعا، وكذلك يجوز استثناء بعض أجزائه معينا إذا كانت العادة جارية بفصله كبيع الشاة، واستثناء شيء منها سوى قطعها من الرأس والجلد والأكارع، وكذلك الإجارة فإن العقد المطلق يقتضي نوعا من الانتفاع في الإجارات المقدرة بالزمان، كما لو استأجر أرضا للزرع أو حانوتا للتجارة فيه أو صناعة أو أجير الخياطة أو بناء ونحو ذلك، فإنه لو زاد على موجب العقد المطلق أو نقص منه، فإنه يجوز بغير خلاف علمه في النكاح فإن العقد المطلق يقتضي ملكه الاستمتاع المطلق الذي يقتضيه العرف حيث ثبت، ومتى ثبت فيملكه لكن حيث ثبت إذا لم يكن فيه ضرر إلا ما استثني من الاستمتاع المحرم أو كان فيه ضرر، فإن العرف لا يقتضيه ويقتضي ملكا للمهر الذي هو مهر المثل، وملكها الاستمتاع في الجملة، فإنه لو كان مجبوبا أو عنينا ثبت لها الفسخ عند السلف والفقهاء المشاهير ولو آلى منها ثبت لها فراقه إذا لم يف بالكتاب والإجماع، وإن كان من الفقهاء من لا يوجب عليه الوطء ويبر قسمه الابتدائي، بل يكتفي بالبعث الطبيعي، فمذهب أبي حنيفة والشافعي، ورواية عن أحمد فإن الصحيح من وجوه كثيرة أنه يجب عليه الوطء، والفسخ كما دل عليه الكتاب والسنة وآثار الصحابة والاعتبار، وهل يتقدر الوطء الواجب بمرة في كل أربعة أشهر اعتبارا بالإيلاء، أو يجب أن يطأها بالمعروف كما ينفق عليها بالمعروف، فيه خلاف في مذهب أحمد وغيره، والصحيح الذي يدل عليه أكثر نصوص أحمد، وعليه أكثر السلف أن ما يوجبه العقد لكل واحد من الزوجين على الآخر، كالنفقة والاستمتاع، والمثبت للمرأة، وكالاستمتاع للزوج ليس بمقدر بل المرجع في ذلك إلى العرف كما دل عليه الكتاب، في مثل قوله تعالى: { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف }، في مثل قوله ﷺ لهند: { خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف }، فإذا تنازع الزوجان فيه فرض الحاكم ذلك باجتهاده، كما فرضت الصحابة مقدار الوطء للزوج بمرات متعددة، ومن قدر من أصحاب أحمد الوطء المستحق، فهو كتقدير الشافعي النفقة، إذ كلاهما مما تحتاجه المرأة ويوجبه العقد، وتقدير ذلك ضعيف عند عامة الفقهاء، بعيد عن معاني الكتاب والسنة والاعتبار، والشافعي رضي الله عنه إنما قدره طردا للقاعدة التي ذكرناها عنه من نفيه للجهالة في جميع العقود، قياسا على المنع من بيع الغرر، فجعل النفقة المستحقة بعقد النكاح مقدرة طردا كذلك، وقد تقدم التنبيه على هذا الأصل وكذلك يوجب العقد المطلق سلامة الزوج من الجب والعنة عند الفقهاء، وكذلك عند الجمهور سلامتها من موانع الوطء كالرتق وسلامتها من الجنون والجذام والبرص، وكذلك سلامتها من العيوب التي تمنع كماله كخروج النجاسات منه ; ونحو ذلك في إحدى الوجهين في مذهب أحمد وغيره دون الجمال ونحو ذلك، وموجبه كفاءة الرجل أيضا دون ما زاد على ذلك، ثم لو شرط أحد الزوجين على الآخر صفة مقصودة كالمال والجمال والبكارة ونحو ذلك صح ذلك، وملك بالشرط الفسخ عند فوته في أصح روايتي أحمد ; وأصح وجهي أصحاب الشافعي ; وظاهر مذهب مالك ; والرواية الأخرى لا يملك الفسخ إلا في شرط الحرية والدين ; وفي شرط النسب على هذه الرواية وجهان ; وسواء كان المشترط هو المرأة في الرجل أو الرجل في المرأة، بل اشتراط المرأة في الرجل أوكد باتفاق الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم ; وما ذكره بعض أصحاب أحمد بخلاف ذلك لا أصل له، وكذلك لو اشترط بعض الصفة المستحقة بمطلق العقد مثل أن يشترط الزوج أنه مجبوب أو عنين ; أو المرأة أنها رتقاء أو مجبوبة صح هذا الشرط باتفاق الفقهاء، فقد اتفقوا على صحة شرط النقص عن موجب العقد، واختلفوا في شرط الزيادة عليه في هذا الموضوع كما ذكرته لك، فإن مذهب أبي حنيفة أنه لا يثبت للرجل خيار عيب ولا شرط في النكاح، وأما المهر فإنه لو زاد على مهر المثل أو نقص فيه جاز بالاتفاق ; وكذلك يجوز أكثر أو كثير منهم وفقهاء الحديث ومالك في إحدى الروايتين، أن تنقص ملك الزوج، فتشترط عليه أن لا ينقلها من ولدها ومن دارها، وأن يزيدها على ما تملكه بالمطلق، فيزيد عليها نفسه، فلا يتزوج عليها، ولا يتسرى، وعند طائفة من السلف وأبي حنيفة والشافعي ومالك في الرواية الأخرى، لا يصح هذا الشرط لكنه عند أبي حنيفة والشافعي أثر في تسمية المهر والقياس المستقيم في هذا الكتاب الذي عليه أصول أحمد وغيره من فقهاء الحديث، أن اشتراط زيادة على مطلق العقد واشتراط النقص جائز ما لم يمنع منه الشرع، فإذا كانت الزيادة في العين والمنفعة المعقود عليها والنقص من ذلك على ما ذكرته، فالزيادة في الملك المستحق بالعقد، والنقص منه كذلك، فإن اشترط على المشتري أن يعتق العبد، أو يقف العين على البائع، أو غيره، أو يقضي بالعين دينا عليه لمعين أو غير معين، أو أن يصل به رحمه أو نحو ذلك، هو اشتراط تصرف مقصود، ومثله التبرع والمفروض والتطوع، وأما التفريق بين العتق وغيره بما في العتق من الفضل الذي تشوفه الشارع فضعيف، فإن بعض أنواع التبرعات أفضل منه، فإن صلة ذي الرحم المحتاج أفضل من العتق كما نص عليه أحمد، فإن ميمونة زوج النبي أعتقت جارية لها، فقال النبي ﷺ: { لو تركتيها لأخوالك لكان خيرا لك }، ولهذا لو كان للميت أقارب لا يرثون كانت الوصية لهم أولى من الوصية بالعتق، وما أعلم في ذلك خلافا وإنما أعلم الاختلاف في وجوب الوصية فإن فيه عن أحمد روايتين: ( إحداهما ): تجب، كقول طائفة من السلف والخلف، ( والثانية ): لا تجب كقول الفقهاء الثلاثة وغيرهم، ولو وصى لغيرهم دونهم فهل ترد تلك الوصية على أقاربه دون الموصى له، أو يعطى ثلثها للموصى له وثلثاها لأقاربه كما يقسم التركة الورثة والموصى له، على روايتين عن أحمد وإن كان المشهور عند أكثر الصحابة هو القول بنفوذ الوصية، فإذا كان بعض التبرعات أفضل من العتق لم يصح تعليله باختصاصه بمزيد الفضيلة، وأيضا فقد يكون المشروط على المشتري فعلا كما لو كان عليه دين لله من زكاة، أو كفارة، أو نذر، أو دين لآدمي، فاشترط عليه تأديته وكان بنيته من ذلك المبيع، أو اشتراط المشتري على البائع وعاء الدين الذي عليه من الثمن ونحو ذلك، فهذا أوكد من اشتراط العتق وأما السراية، فإنما كان لتعميد الحرية، وقد شرع مثل ذلك في الأموال، وهو حق الشفعة، فإنها شرعت لتعميد الملك للمشتري، لما في الشركة من الضرر له، ونحن نقول شرع ذلك في جميع المشاركات ليمكن الشريك من المقاسمة، وإن أمكن قسمة العين وإلا قسمنا ثمنها إذا طلب أحدهما ذلك، فيكمل العتق نوع من ذلك، إذ الشركة تزول بالقسم تارة، وبالتكميل أخرى، وأصل ذلك أن الملك هو القدرة الشرعية على التصرف في الرقبة بمنزلة القدرة الحسية، فيمكن أن تثبت القدرة على تصرف دون تصرف شرعا، كما يثبت ذلك حسا، ولهذا جاء الملك في الشرع أنواعا، فالملك التام يملك فيه التصرف في الرقبة بالبيع والهبة ويورث عنه، وفي منافعه بالإعارة والإجارة والانتفاع وغير ذلك، ثم قد يملك الأمة المجوسية أو المحرمات عليه بالرضاع، فلا يملك منهن الاستمتاع ويملك المعاوضة عليه بالتزويج بأن يزوج المجوسية بمجوسي مثلا، وقد يملك أم الولد ولا يملك بيعها ولا هبتها ولا يورث عنه عند جماهير المسلمين، ويملك وطأها واستخدامها باتفاقهم، وكذلك يملك المعاوضة على ذلك بالتزويج والإجارة عند أكثرهم، كأبي حنيفة والشافعي وأحمد، ويملك المرهون ويجب عليه مؤنته ولا يملك من التصرف ما يزيل حق المرتهن لا بيعا ولا هبة، وفي العتق خلاف مشهور والعبد المنذور عتقه والهواء والمال الذي قد نذر للصدقة بعينه، ونحو ذلك مما استحق صرفه إلى القربة قد اختلف فيه الفقهاء من أصحابنا وغيرهم، هل يزال ملكه عنه بذلك أم لا، وكلا القولين خارج عن قياس الملك المطلق، فمن قال لم يزل ملكه عنه كما قد يقوله أكثر أصحابنا، فهو ملك لا يملك صرفه إلا إلى الجهة المعينة بالإعتاق أو النسك أو الصدقة، وهو نظير العبد المشترى بشرط العتق أو الصدقة أو الصلة أو البدنة المشتراة بشرط الإهداء إلى الحرم، ومن قال زال ملكه عنه فإنه يقول هو الذي يملك عتقه وإهداءه والصدقة به، وهو أيضا خلاف قياس زوال الملك في غير هذا الموضوع، كذلك اختلاف الفقهاء في الوقف على معين هل يصير وقفه ملكا لله أوينتقل إلى الموقوف عليه، أو يكون باقيا على ملك الواقف، على ثلاثة أقوال، في مذهب أحمد وغيره، وعلى كل تقدير فالملك الموصوف نوع مخالف لغيره في البيع والهبة، وكذلك ملك الموهوب له حيث يجوز للواهب الرجوع كالأب إذا وهب لابنه عند فقهاء، كالشافعي وأحمد نوع مخالف لغيره، حيث يسلط غير المالك على انتزاعه منه وفسخ عقده ونظيره سائر الأملاك في عقد يجوز لأحد العاقدين فسخه، كالمبيع بشرط عند من يقول انتقل إلى المشتري كالشافعي وأحمد في أحد قوليهما، وكالبيع إذا أفلس المشتري بالثمن عند فقهاء الحديث وأهل الحجاز، وكالمبيع الذي ظهر فيه عيب أو فوات صفة عند جميع المسلمين، فها هنا في المعاوضة والتبرع يملك العاقد انتزاعه، وملك الأب لا يملك انتزاعه وجنس الملك يجمعهما، وكذلك ملك الابن في مذهب أحمد وغيره من فقهاء الحديث الذين اتبعوا فيه معنى الكتاب وصريح السنة في طوائف من السلف، وهو مباح للأب مملوك للابن بحيث يكون للأب كالمباحات التي تملك بالاستيلاء، وملك الابن ثابت عليه بحيث يتصرف فيه تصرفا مطلقا، فإذا كان الملك يتنوع أنواعا وفيه من الإطلاق، والتقيد ما وصفته وما لم أصفه، لم يمتنع أن يكون ثبوت ذلك مفوضا إلى الإنسان يثبت منه ما رأى فيه مصلحة، ويمتنع من إثبات ما لا مصلحة فيه، والشارع لا يحظر على الإنسان إلا ما فيه فساد راجح أو محض، فإذا لم يكن فيه فساد أو كان فساده مغمرا بالمصلحة لم يخطره أبدا .

القاعدة الرابعة الشرط المتقدم على العقد الشرط المتقدم على العقد بمنزلة المقارن له في ظاهر مذهب فقهاء الحديث أحمد وغيره، ومذهب أهل المدينة وغيره، وهو قول في مذهب الشافعي نص عليه في صداق السر والعلانية، ونقلوه إلى شرط التحليل المتقدم وغيره، وإن كان المشهور من مذهبه، ومذهب أبي حنيفة أن المتقدم لا يؤثر بل يكون، كالوعد المطلق عندهم يستحيل الوفاء به، وهو قول في مذهب أحمد قد يختاره في بعض المواضع طائفة من أصحابه، كاختيار بعضهم أن التحليل المشروط قبل العقد لا يؤثر إلا أن يفوته الزوج وقت العقد، وكقول طائفة كثيرة منهم بما نقلوه عن أحمد من أن الشرط المتقدم على العقد في الصداق لا يؤثر، وإنما تؤثر التسمية في العقد، ومن أصحاب أحمد طائفة، كالقاضي أبي يعلى، يفرقون بين الشرط المتقدم الرافع لمقصود العقد أو المغير له، فإن كان رافعا، كالمواطأة على كون العقد تلجئته، أو تحليلا أبطله، وإن كان مغيرا كاشتراط كون المهر أقل من المسمى لم يؤثر فيه، لكن المشهور في نصوص أحمد وأصوله، وما عليه قدماء أصحابه، كقول أهل المدينة أن الشرط المتقدم كالشرط المقارن، فإذا اتفقا على شيء وعقد العقد بعد ذلك فهو مصروف إلى المعروف بينهما مما اتفقا عليه، كما تنصرف الدراهم والدنانير في العقود إلى المعروف بينهما، وكما أن جميع العقود إنما تنصرف إلى ما يتعارفه المتعاقدان . المقدمة الثانية: إن هذه الأيمان يحلف بها تارة بصيغة القسم، وتارة بصيغة الجزاء لا يتصور أن تخرج اليمين عن هاتين الصيغتين، فالأول: كقوله: والله لا أفعل كذا، أو الطلاق يلزمني أن أفعل كذا، أو علي الحرام لا أفعل كذا، أو علي الحج لا أفعل، والثاني: كقوله: إن فعلت كذا فأنا يهودي، أو نصراني أو بريء من الإسلام، أو إن فعلت كذا فامرأتي طالق، أو إن فعلت كذا فامرأتي حرام أو فهي علي كظهر أمي، أو إن فعلت كذا فعلي الحج أو فمالي صدقة، ولهذا عقد الفقهاء لمسائل الأيمان بابين: أحدهما: بأن يعلق الطلاق بالشرط فيذكرون فيه الحلف بصيغة الجزاء كان ومتى وإذا وما أشبه ذلك، وإن دخل فيه صيغة القسم ضمنا وتبعا، والباب الثاني باب جامع الأيمان مما يشترك فيه الحلف بالله والطلاق والعتاق وغير ذلك، فيذكرون فيه الحلف بصيغة القسم وإن دخلت صيغة الجزاء ضمنا، ومسائل أحد البابين مختلطة بمسائل الباب الآخر لاتفاقهما في المعنى كثيرا وغالبا، وكذلك طائفة من الفقهاء كأبي الخطاب وغيره لما ذكروا في كتاب الطلاق " باب تعليق الطلاق بالشروط أردفوه بباب جامع الأيمان، وطائفة أخرى كالخرقي والقاضي أبي يعلى، وغيرهما إنما ذكروا باب جامع الأيمان في كتاب الأيمان ; لأنه أمس، ونظير هذا باب حد القذف منهم من يذكره عند باب اللعان لاتصال أحدهما بالآخر، ومنهم من يؤخره إلى كتاب الحدود ; لأنه به أخص . والقول بأن من أكل في شهر رمضان معتقدا أنه ليل فبان نهارا لا قضاء عليه، كما هو الصحيح عن عمر بن الخطاب، وإليه ذهب بعض التابعين وبعض الفقهاء .

قاعدة في الوقف الذي يشترى بعوضه ما يقوم مقامه وذلك مثل الوقف الذي أتلفه متلف فإنه يؤخذ منه عوضه يشترى به ما يقوم مقامه، فإن الوقف مضمون بالإتلاف باتفاق العلماء، ومضمون باليد، فلو غصبه غاصب تلف تحت يده العادية، فإن عليه ضمانه باتفاق العلماء، لكن قد تنازع بعضهم في بعض الأشياء هل تضمن بالغصب كالعقار، وفي بعضها هل يصح وقفه كالمنقول، ولكن لم يتنازعوا أنه مضمون بالإتلاف باليد كالأموال بخلاف أم الولد فإنهم وإن اتفقوا على أنها مضمونة بالإتلاف، فقد تنازعوا هل تضمن باليد أو لا، فأكثرهم يقول هي مضمونة باليد كمالك والشافعي وأحمد، وأما أبو حنيفة فيقول لا يضمن باليد، وضمان اليد هو ضمان العقد لضمان البائع تسليم المبيع وسلامته من العيب، وأنه بيع بحق وضمان دركه عليه بموجب العقد وإن لم يشترطه بلفظه، من أصول الاشتراء ببدل الوقف إذا تعطل نفع الوقف فإنه يباع ويشترى بثمنه ما يقوم مقامه في مذهب أحمد وغيره، وهل يجوز مع كونه فعلا أن يبدل بخير منه فيه قولان في مذهبه، والجواز مذهب أبي ثور وغيره، والمقصود أنه حيث جاز البدل هل يشترط أن يكون في الدرب أو البلد الذي فيه الوقف الأول أم يجوز أن يكون بغيره إذا كان ذلك أصلح لأهل الوقف، مثل أن يكونوا مقيمين ببلد غير بلد الوقف وإذا اشترى فيه البدل كان أنفع لهم لكثرة الربع ويسر التناول، فيقول: ما علمت أحدا اشترط أن يكون البدل في بلد الوقف الأول، بل النصوص عند أحمد وأصوله وعموم كلامه وكلام أصحابه وإطلاقه يقتضي أن يفعل في ذلك ما هو مصلحة أهل الوقف، فإن أصله في هذا الباب مراعاة مصلحة الوقف، بل أصله في عامة العقود اعتبار مصلحة الناس، فإن الله أمر بالصلاح ونهى عن الفساد وبعث رسله بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، وقال موسى لأخيه هارون: { اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين }، وقال شعيب: { إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت }، وقال تعالى: { فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون }، وقال تعالى: { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون }، وقد جوز أحمد بن حنبل إبدال مسجد بمسجد آخر للمصلحة، كما جوز تغييره للمصلحة، واحتج بأن عمر بن الخطاب أبدل مسجد الكوفة القديم بمسجد آخر، وصار المسجد الأول سوقا للمارين، وجوز أحمد إذا خرب المكان أن ينقل المسجد إلى قرية أخرى، بل ويجوز في أظهر الروايتين عنه أن يباع ذلك المسجد ويعمر بثمنه مسجد آخر في قرية أخرى إذا لم يحتج إليه في القرية الأولى، فاعتبر المصلحة بجنس المسجد وإن كان في قرية غير القرية الأولى إذا كان جنس المساجد مشتركة بين المسلمين، والوقف على قوم بعينهم أحق بجواز نقله إلى مدينتهم من المسجد، فإن الوقف على معينين حق لهم لا يشركهم فيه غيرهم، وغاية ما فيه أن يكون بعد انقضائهم لجهة عامة كالفقراء والمساكين فيكون كالمسجد، فإذا كان الوقف ببلدهم أصلح لهم كان اشتراء البدل ببلدهم هو الذي ينبغي فعله لمتولي ذلك وصار هذا كالفرس الحبيس الذي يباع ويشترى بقيمته ما يقوم مقامه إذا كان محبوسا على ناس ببعض الثغور ثم انتقلوا إلى ثغر آخر، فشراء البدل بالثغر الذي هو فيه مضمون أولى من شرائه بثغر آخر، وإن كان الفرس حبيسا على جميع المسلمين فهو بمنزلة الوقف على جهة عامة كالمساجد، والوقف على المساكين، ومما يبين هذا أن الوقف لو كان منقولا كالنور والسلاح وكتب العلم، وهو وقف على ذرية رجل يعينهم جاز أن يكون مقر الوقف حيث كانوا، بل كان هذا هو المتعين بخلاف ما لو أوقف على أهل بلد بعينه، لكن إذا صار له عوض هل يشترى به ما يقوم مقامه كان العوض منقولا، وكان أن يشترى بهذا العوض في بلد مقامهم أولى من أن يشترى به في مكان العقار الأول إذا كان ذلك أصلح لهم، إذ ليس في تخصيص مكان العقار الأول مقصود شرعي ولا مصلحة لأهل الوقف وما يأمر به الشارع، ولا مصلحة فيه للإنسان فليس بواجب ولا مستحب، فعلم أن تعيين المكان الأول ليس بواجب ولا مستحب لمن يشتري بالعوض ما يقوم مقامه، بل العدول عن ذلك جائز، وقد يكون مستحبا وقد يكون واجبا إذا تعينت المصلحة فيه والله أعلم .

والقول بأن المتمتع يكفيه سعي واحد بين الصفا والمروة، كما في حق القارن والمفرد، وهو قول ابن عباس، ورواية عن الإمام أحمد بن حنبل رواها عنه ابنه عبد الله، وكثير من أصحاب الإمام أحمد لا يعرفونها .

والقول بجواز عقد الرداء في الإحرام، وجواز طواف الحائض ولا شيء عليها إذا لم يمكنها أن تطوف طاهرا .

-مسألة: عن قناة سبيل، لها فائض، ينزل على قناة الوسخ، وقريب منها قناة طاهرة قليلة الماء: فهل يجوز أن يساق ذلك الفائض إلى المطهرة، وهل يثاب فاعل ذلك ؟ وهل يجوز منعه ؟ الجواب: نعم، يجوز ذلك بإذن ولي الأمر، ولا يجوز منع ذلك إذا لم يكن فيه مصلحة شرعية، ويثاب الساعي في ذلك، والله أعلم .

-مسألة: في ناظرين، هل لهما أن يقتسما المنظور عليه بحيث ينظر كل منهما في نصفه فقط ؟، الجواب: لا يتصرفان إلا جميعا في جميع المنظور فيه، فإن أحدهما لو انفرد بالتصرف لم يجز، فكيف إذا وزع المفرد، فإن الشرع شرع جمع المتفرق بالقسمة، والشفعة فكيف يفرق المجتمع ؟، .

-مسألة: في مساجد وجوامع لهم أوقاف، وفيها قوام وأئمة، ومؤذنون، فهل لقاضي المكان أن يصرف منه إلى نفسه ؟ الجواب: بل الواجب صرف هذه الأموال في مصارفها الشرعية، فيصرف من الجوامع والمساجد إلى الأئمة والمؤذنين والقوام ما يستحقه أمثالهم، وكذلك يصرف في فرش المساجد وتنويرها كفايتها بالمعروف، وما فضل عن ذلك إما أن يصرف في مصالح مساجد أخر، ويصرف في المصالح، كأرزاق القضاة في أحد قولي العلماء، وأما صرفها للقضاة ومنع مصالح المساجد فلا يجوز، والله أعلم . -مسألة: في وقف لمصالح الحرم وعمارته، ثم بعد ذلك يصرف في وجوه البر والصدقات، وعلى الفقراء والمساكين المقيمين بالحرم فهل يجوز أن يصرف من ذلك على القوام والفراشين القائمين بالوظائف ؟ الجواب: نعم القائمون بالوظائف مما يحتاج إليه المسجد: من تنظيف، وحفظ، وفرش، وتنويره، وفتح الأبواب ; وإغلاقها، ونحو ذلك: هم من مصالحه: يستحقون من الوقف على مصالحه .

-مسألة: في وقف على جماعة، وأن بعض الشركة قد دفع في الفاكهة مبلغا، وأن بعض الشركة امتنع من التضمين والضمان، وطلب أن يأخذ ممن يشتريه قدر حصته من الثمرة، فهل يحكم عليه الحاكم بالبيع مع الشركة أم لا ؟ الجواب: إذا لم تمكن قسمة ذلك قبل البيع بلا ضرر فعليه أن يبيع مع شركائه ويقاسمهم الثمن .

-مسألة: في واقف وقف وقفا على ولديه: عمر، وعبد الله، بينهما بالسوية نصفين: أيام حياتهما، أبدا ما عاشا، دائما ما بقيا، ثم على أولادهما من بعدهما، وأولاد أولادهما، ونسلهما، وعقبهما، أبدا، ما تناسلوا، بطنا بعد بطن، فتوفي عبد الله المذكور وخلف أولادا فرفع عمر ولد عبد الله إلى حاكم يرى الحكم بالترتيب، وسأله رفع يد ولد عبد الله عن الوقف، وتسليمه إليه، فرفع يد ولد عبد الله، وسلمه إلى عمر بحكم أنه من البطن الأول فهل يكون ذلك الحكم جاريا في جميع البطون أم لا ؟ ثم إن عمر توفي وخلف أولادا، فوضعوا أيديهم على الوقف بغير حكم حاكم، فطلب ولد عبد الله من حاكم يرى الحكم بالتشريك بينهم في الوقف تشريكهم ; لأن الواقف جمع بين الأولاد والنسل والعقب في الاستحقاق بعد عبد الله وعمر بالواو الذي يقتضي التشريك ; دون الترتيب، وأن قوله: بطنا بعد بطن لا يقتضي الترتيب فهل الحكم لهم بالمشاركة صحيح أم لا ؟ وهل حكم الأول لعمر متقدم على ولد عبد الله مناقضا للحكم بالتشريك بين أولاد عمر وأولاد عبد الله ؟ وهل لحاكم ثالث أن يبطل هذا الحكم والتنفيذ ؟ الجواب: مجرد الحكم لأحد الأخوين الأولين بجميع الوقف بعد موت أخيه المتوفى لا يكون جاريا في جميع البطون، ولا يكون حكما لأولاده بما حكم له به، فإن قوله: ثم على أولادهما، هل هو لترتيب المجموع على المجموع، أو لترتيب الأفراد على الأفراد، بحيث ينتقل نصيب كل ميت إلى ولده ؟ فيه قولان للفقهاء، وكذلك قوله: وأولادهما من بعدهما بطنا بعد بطن، هل هو للترتيب أو للتشريك ؟ فيه قولان، فإذا حكم الحاكم باستحقاق عمر الجميع بعد موت عبد الله كان هذا لاعتقاده لترتيب المجموع إلى المجموع، فإذا مات عمر فقد يرى ذلك الحاكم الترتيب في الطبقة الأولى، فقط كما قد يشعر به ظاهر اللفظ، وقد يكون يرى أن الترتيب في جميع البطون ; لكن ترتيب الجميع على الجميع، ويشترك كل طبقة من الطبقتين في الوقف دون من هو أسفل منها، وقد يرى غيره وأنه بعد ذلك لترتيب الأفراد على الأفراد ; فإذا حكم حاكم ثان فيما لم يحكم فيه الأول بما لا يناقض حكمه لم يكن نقضا لحكمه، فلا ينقض هذا الثاني إلا بمخالفة نص أو إجماع، والله أعلم .

-مسألة: فيمن عمن وقف وقفا مستغلا، ثم مات، فظهر عليه دين: فهل يباع الوقف في دينه، الجواب: إذا أمكن وفاء الدين من ريع الوقف لم يجز بيعه، وإن لم يمكن وفاء الدين إلا ببيع شيء من الوقف - وهو في مرض الموت - بيع باتفاق العلماء، وإن كان الوقف في الصحة: فهل يباع لوفاء الدين ؟ فيه خلاف بين العلماء في مذهب أحمد، وغيره، ومنعه قول قوي .

-مسألة: في رجل قال في مرضه: إذا مت فداري وقف على المسجد الفلاني، فتعافى، ثم حدث عليه ديون: فهل يصح هذا الوقف ويلزم، أم لا ؟، يجوز أن يبيعها في الدين الذي عليه ; وإن كان التعليق صحيحا كما هو أحد قولي العلماء، وليس هذا بأبلغ من التدبير، وقد ثبت عن { النبي ﷺ أنه باع المدبر في الدين }، والله أعلم .

-مسألة: في وقف على أربعة أنفس: عمرو، وياقوتة، وجهمة، وعائشة: يجري عليهم للذكر مثل حظ الأنثيين، فمن توفي منهم عن ولد، أو ولد ولد، أو عن نسل وعقب، وإن سفل: عاد ما كان جاريا عليه من ذلك على ولده، ثم على ولد ولده، ثم على نسله وعقبه، ثم من بعده وإن سفل، بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، ومن توفي منهم عن غير ولد ولا ولد ولد ولا نسل ولا عقب عاد نصيبه وقفا على إخوته الباقين، ثم على أنسالهم وأعقابهم، بينهم، للذكر مثل حظ الأنثيين، على الشرط والترتيب المقدم ذكرهما، فإذا لم يبق لهؤلاء الإخوة الموقوف عليهم نسل ولا عقب، أو توفوا بأجمعهم ولم يعقبوا ولا واحد منهم عاد ذلك وقفا على الأسارى، ثم على الفقراء، ثم توفي عمر عن فاطمة، وتوفيت فاطمة عن عيناشى ابنة إسماعيل بن أبي يعلى، ثم توفيت عيناشى عن غير نسل ولا عقب، ولم يبق من ذرية هؤلاء الأربعة إلا بنت إسماعيل بن أبي يعلى، وكلاهما من ذرية جهمة، فهاتان الجهتان اللتان تليهما عيناشى بعد موت أبيها هل ينتقل إلى أختها رقية ؟ أو إليها، أو إلى ابنة عمها صفية ؟، الجواب: هذا النصيب الذي كان لعيناشى من أمها ينتقل إلى ابنتي العم المذكورتين، ولا يجوز أن تخص به أختها لأبيها ; لأن الواقف ذكر: أن من توفي من هؤلاء الإخوة الموقوف عليهم عن غير ولد ولا ولد ولد ولا نسل ولا عقب عاد نصيبه وقفا على إخوته، ثم على أنسالهم وأعقابهم، على الشرط والترتيب المقدم ذكرهما، وهذه العبارة تعم من انقطع نسله أولا وآخرا، فكل من انقطع نسله من هؤلاء الإخوة كان نصيبه لإخوته، ثم لأولادهم ; لأن الواقف لو لم يرد هذا لكان قد سكت عن بيان حكم من أعقب أولا ثم انقطع عقبه ولم يبين مصرف نصيبه، وذلك غير جائز ; لأنه إنما نقل الوقف إلى الأسرى والفقراء إذا لم يبق له ولا لموقوف عليهم نسل ولا عقب، فمتى أعقبوا - ولو واحدا منهم - لم ينتقل إلى الأسرى شيء، ولا إلى الفقراء، وذلك يوجب أن ينتقل نصيب من انقطع نسله منهم إلى الإخوة الباقين، وهو المطلوب، وأيضا فإنه قسم حال المتوفى من الأربعة الموقوف عليهم إلى حالين ; إما أن يكون له ولد، أو نسل، وعقب، أو لا يكون، فإن كان له انتقل نصيبه إلى الولد، ثم إلى ولد الولد، ثم إلى النسل والعقب ; وإن لم يكن انتقل إلى الإخوة، ثم إلى أولادهم، فينبغي أن يعم هذا القسم ما لم يدخل في القسم الأول ليعم البيان جميع الأحوال ; لأنه هو الظاهر من حال المتكلم ; ولأنه لو لم يكن كذلك لزم الإهمال والإلغاء وإبطال الوقف على قول، ودلالة الحال تنفي هذا الاحتمال، وإذا عم ما لم يدخل في القسم الأول دخل فيه من لا ولد له ومن لا ولد لولده ومن لا عقب له، وإذا كان كذلك فأي هؤلاء الأربعة لم يكن له عقب كان نصيبه لإخوته ثم لعقبه، وأيضا فإن الواقف قد صرح بأن من مات منهم عن غير عقب انتقل نصيبه إلى إخوته، ثم إلى أولادهم، وهذا المقصود لا يختلف بين أن لا يخلف ولدا أو يخلف ولدا ثم يخلف ولده ولدا ; فإن العاقل لا يقصد الفرق بين هاتين الحالتين ; لأن التفريق بين المتماثلين قد علم بمطرد العادة أن العاقل لا يقصده، فيجب أن لا يحمل كلامه عليه ; بل يحمل كلامه على ما دل عليه دلالة الحال والعرف المطرد إذا لم يكن في اللفظ ما هو أولى منه، وإذا كان انقطاع النسل أولا وآخرا سواء بالنسبة إلى الانتقال إلى الإخوة وجب حمل الكلام عليه، واعلم أن من أمعن النظر علم قطعا أن الواقف إنما قصد هذا بدلالة الحال واللفظ سائغ له، وليس في الكلام وجه ممكن هو أولى منه، فيجب الحمل عليه قطعا، وأيضا فإن الوقف يراد للتأييد، فيجب بيان حال المتوفى في جميع الطبقات، فيكون قوله: ومن توفي منهم عن غير ولد ولا ولد ولد، ولا نسل ولا عقب، في قوة قوله: ومن كان منهم ميتا ولا عقب له ; لأن عدم نسله بعد موته بمنزلة كونهم معدومين حال موته، فلا فرق في قوله هذا وقوله: ومن مات منهم ولا ولد له، وقوله: ومن مات منهم ولم يكن له ولد، وهذه العبارة وإن كان قد لا يفهم منها إلا عدم الذرية حين الموت في بعض الأوقات ; لكن اللفظ سائغ ; لعدم الذرية مطلقا ; بحيث لو كان المتكلم قال: قد أردت هذا لم يكن خارجا عن حد الإفهام، وإذا كان اللفظ سائغا له، ولم يتناول صورة الحادثة إلا هذا اللفظ: وجب إدراجها تحته ; لأن الأمر إذا دار بين صورة يحكم فيها بما يصلح له لفظ الواقف ودلالة حاله وعرف الناس كان الأول هو الواجب بلا تردد، إذا تقرر هذا: فعم جد عيناشى هو الآن متوفى عن غير ولد ولا ولد ولد ولا نسل ولا عقب فيكون نصيبه لإخوته الثلاثة على أنسالهم وأعقابهم، والحال التي انقطع فيها نسله لم يكن من ذريته إلا هاتان المرأتان، فيجب أن تستويا في نصيب عيناشى .

وهكذا القول في كل واحد انقطع نسله ; فإن نصيبه ينتقل إلى ذرية إخوته إلا أن يبقى أحد من ذرية أبيهم الذي انتقل إليه الوقف منه، أو من ذرية أمه التي انتقل إليه الوقف منها: فيكون باقي الذرية هم المستحقين لنصيب أمهم أو أبيهم ; لدخولهم في قوله: فمن توفي منهم عن ولد أو ولد ولد، واعلم أن الكلام إن لم يحمل على هذا كان نصيب هذا وقفا منقطع الانتهاء ; لأنه قال: فمن توفي منهم عن ولد كان نصيبه لولده، ثم لولد ولده، ثم لنسله وعقبه، ولم يبين بعد انقراض النسل إلى من يصير ; لكن بين في آخر الشرط أنه لا ينتقل إلى الأسرى والفقراء حتى تنقرض ذرية الأربعة، فيكون مفهوم هذا الكلام صرفه إلى الذرية، وهاتان من الذرية، وهما سواء في الدرجة، ولم يبق غيرهما: فيجب أن يشتركا فيه وليس بعد هذين الاحتمالين إلا أن يكون قوله: ومن توفي منهم عائدا إلى الأربعة وذريتهم، فيقال حينئذ: عيناشى قد توفيت عن أخت من أبيها، وابنة عم، فيكون نصيبها لأختها، وهذا الحمل باطل قطعا، لا ينفذ حكم حاكم إن حكم بموجبه ; لأن الضمير أولا في قوله: فمن توفي منهم، عائد إلى الأربعة، فالضمير في قوله: ومن توفي منهم عائد ثانيا إلى هؤلاء الأربعة ; لأن الرجل إذا قال: هؤلاء الأربعة من فعل منهم كذا فافعل به كذا وكذا، ومن فعل منهم كذا فافعل لولده كذا، علم بالاضطرار أن الضمير الثاني هو الضمير الأول، ولأنه قال: ومن توفي منهم عن غير ولد عاد نصيبه إلى إخوته الباقين، وهذا لا يقال إلا فيمن له إخوة تبقى بعد موته، وإنا نعلم هذا في هؤلاء الأربعة ; ; لأن الواحد من ذريتهم قد لا يكون له إخوة باقون فلو أريد ذلك المعنى لقيل: على إخوته إن كان له إخوة، أو قيل: ومن مات منهم عن إخوة، كما قيل في الولد: ومن مات منهم عن ولد وهذا ظاهر لا خفاء به، وأيضا فلو فرض أن من مات من أهل الوقف عن إخوة كان نصيبه لإخوته فإنما ذلك في الإخوة الذين شركوه في نصيب أبيه وأمه ; لا في الإخوة الذين هم أجانب عن النصيب الذي خلفه - على ما هو مقرر في موضعه من كتب الفقه على المذاهب المشهورة - وهذا النصيب إنما تلقته عيناشى من أمها، وأختها رقية أجنبية من أمها ; لأنها أختها من أبيها فقط، فنسبة أختها لأبيها وابنة عمها إلى نصيب الأم سواء، وهذا بين لمن تأمله، والله أعلم .

-وسئل رحمه الله: عن رجل له جارية، وله ولد فزنى بالجارية، وهي تزني مع غيره، فجاءت بولد ونسبته إلى ولده، فاستلحقه، ورضي السيد، فهل يرث إذا مات مستلحقه ؟ أم لا ؟ فأجاب: إن كان الولد استلحقه في حياته، وقال: هذا ابني، لحقه النسب، وكان من أولاده، إذا لم يكن له أب يعرف غيره، وكذلك إن علم أن الجارية كانت ملكا للابن، فإن { الولد للفراش ; وللعاهر الحجر } .

-وسئل رحمه الله: عن رجل توفي، وخلف مستولدة له، ثم بعد ذلك توفيت المستولدة، وخلفت ولدا ذكرا، وبنتين، فهل للبنات ولاء مع الذكر ؟ وهل يرثن منه شيئا ؟ فأجاب: هذا فيه روايتان عن أحمد: إحداهما: وهو قول أبي حنيفة، ومالك، والشافعي: أن الولاء يختص بالذكور، والثانية: أن الولاء مشترك بين البنين، والبنات، للذكر مثل حظ الأنثيين، والله أعلم .

-وسئل رحمه الله: عن رجل توفي وخلف أخا له ; وأختين شقيقين ; وبنتين، وزوجة وخلف موجودا، وكان الأخ المذكور غائبا، فما تكون القسمة ؟ فأجاب: للزوجة الثمن وللبنتين الثلثان ; وللإخوة خمسة قراريط بين الأخ والأخت أثلاثا، فتحصل للزوجة ثلاثة قراريط، ولكل بنت ثمانية قراريط ; وللأخ ثلاثة قراريط وثلث، وللأخت قيراط وثلثا قيراط .

-مسألة: عن قول الشيخ أبي محمد عبد الله بن أبي زيد في آخر عقيدته: وأن خير القرون القرن الذي رأوا رسول الله ﷺ وآمنوا به، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، وأفضل الصحابة الخلفاء الراشدون المهديون أبو بكر وعمر، وعثمان، وعلي، فما الدليل على تفضيل أبي بكر على عمر، وتفضيل عمر على عثمان، وعثمان على علي، فإذا تبين ذلك فهل تجب عقوبة من يفضل المفضول على الفاضل أم لا، بينوا لنا ذلك بيانا مبسوطا مأجورين إن شاء الله تعالى، الجواب: الحمد لله رب العالمين، وأما تفضيل أبي بكر، ثم عمر على عثمان وعلي فهذا متفق عليه بين أئمة المسلمين المشهورين بالإمامة في العلم والدين من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وهو مذهب مالك، وأهل المدينة، والليث بن سعد، وأهل مصر، والأوزاعي، وأهل الشام، وسفيان الثوري، وأبي حنيفة، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وأمثالهم من أهل العراق وهو مذهب الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وغير هؤلاء من أئمة الإسلام الذين لهم لسان صدق في الأمة، وحكى مالك إجماع أهل المدينة على ذلك فقال: ما أدركت أحدا ممن اقتدي به يشك في تقديم أبي بكر وعمر، وهذا مستفيض عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وفي صحيح البخاري: عن محمد بن الحنفية أنه قال لأبيه علي بن أبي طالب: يا أبت من خير الناس بعد رسول الله ﷺ ؟ قال: يا بني أوما تعرف ؟ قلت: لا قال: أبو بكر، قلت: ثم من ؟ قال عمر، ويروى هذا عن علي بن أبي طالب من نحو ثمانين وجها، وأنه كان يقوله على منبر الكوفة، بل قال: لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري، فمن فضله على أبي بكر وعمر جلد بمقتضى قوله رضي الله عنه ثمانين سوطا، وكان سفيان يقول من فضل عليا على أبي بكر فقد أزرى بالمهاجرين، وما أرى أنه يصعد له إلى الله عمل وهو مقيم على ذلك، وفي الترمذي وغيره روي هذا التفضيل عن النبي ﷺ وأنه قال: { يا علي هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين }، وقد استفاض في الصحيحين وغيرهما عن النبي ﷺ من غير وجه من حديث أبي سعيد، وابن عباس، وجندب بن عبد الله بن الزبير، وغيرهم { أن النبي ﷺ قال: لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن صاحبكم خليل الله يعني بنفسه }، وفي الصحيح: { أنه قال على المنبر: إن أمن الناس علي في صحبته وذات يده أبو بكر، ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن صاحبكم خليل الله ألا لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر }، وهذا صريح في أنه لم يكن عنده من أهل الأرض من يستحق المخالة لو كانت ممكنة من المخلوقين إلا أبا بكر، فعلم أنه لم يكن عنده أفضل منه ولا أحب إليه منه، وكذلك في الصحيح { أنه قال عمرو بن العاص: أي الناس أحب إليك ؟ قال عائشة قال: فمن الرجال ؟ قال: أبوها }، وكذلك في الصحيح: أنه قال { لعائشة ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه الناس من بعدي ثم قال يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر }، وفي الصحيح عنه { أن امرأة قالت يا رسول الله أرأيت إن جئت فلم أجدك، كأنها تعني الموت، قال فأتي أبا بكر }، وفي السنن عنه: { أنه قال اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر }، وفي الصحيح عنه { أنه كان في سفر فقال إن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا }، وفي السنن عنه: قال { رأيت كأني وضعت في كفة والأمة في كفة فرجحت بالأمة ثم وضع أبو بكر في كفة والأمة في كفة فرجح أبو بكر، ثم وضع عمر في كفة والأمة في كفة فرجح عمر }، وفي الصحيح أنه: { كان بين أبي بكر وعمر كلام، فطلب أبو بكر من عمر أن يستغفر له فلم يفعل، فجاء أبو بكر إلى النبي ﷺ فذكر ذلك فقال اجلس يا أبا بكر يغفر الله لك وندم عمر فجاء إلى منزل أبي بكر فلم يجده، فجاء إلى النبي فغضب النبي ﷺ وقال: يا أيها الناس إني جئت إليكم فقلت إني رسول الله، فقلتم كذبت، وقال أبو بكر صدقت، فهل أنتم تاركو لي صاحبي فهل أنتم تاركو لي صاحبي فهل أنتم تاركو لي صاحبي } فما أوذي بعدها، فقد تواتر في الصحيح والسنن: { أن النبي ﷺ لما مرض قال: مروا أبا بكر فليصل بالناس مرتين أو ثلاثا حتى قال: إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر أن يصلي بالناس }، فهذا التخصيص والتكرير والتوكيد في تقديمه في الإمامة على سائر الصحابة مع حضور عمر وعثمان وعلي وغيرهم مما بين للأمة تقدمه عنده على غيره، وفي الصحيح: أن جنازة عمر لما وضعت جاء علي بن أبي طالب يتخلل الصفوف ثم قال: لأرجو أن يجعلك الله مع صاحبيك فإني كثيرا ما كنت أسمع النبي ﷺ يقول: " دخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر، وذهبت أنا وأبو بكر وعمر " -: فهذا يبين ملازمتهما للنبي ﷺ في مدخله ومخرجه وذهابه، ولذلك قال مالك للرشيد لما قال له: يا أبا عبد الله أخبرني عن منزلة أبي بكر وعمر من النبي ﷺ فقال يا أمير المؤمنين منزلتهما منه في حياته كمنزلتهما منه بعد وفاته، فقال شفيتني يا مالك وهذا يبين أنه كان لهما من اختصاصهما بصحبته ومؤازرتهما له على أمره ومباطنتهما مما يعلمه بالاضطرار كل من كان عالما بأحوال النبي ﷺ وأقواله وأفعاله وسيرته مع أصحابه، ولهذا لم يتنازع في هذا أحد من أهل العلم بسيرته وسنته وأخلاقه وإنما ينفي هذا أو يقف فيه من لا يكون عالما بحقيقة أمور النبي ﷺ وإن كان له نصيب من كلام أو فقه أو حساب أو غير ذلك، أو من يكون قد سمع أحاديث مكذوبة تناقض هذه الأمور المعلومة بالاضطرار عند الخاصة من أهل العلم، فتوقف في الأمر أو رجح غير أبي بكر، وهذا كسائر الأمور المعلومة بالاضطرار عند أهل العلم بسنة رسول الله ﷺ وإن كان غيرهم يشك فيها أو ينفيها كالأحاديث المتواترة عندهم في شفاعته وحوضه، وخروج أهل الكبائر من النار، والأحاديث المتواترة عندهم في الصفات والقدر والعلو والرؤية وغير ذلك من الأصول التي اتفق عليها أهل العلم بسنته لما تواترت عندهم عنه، وإن كان غيرهم لا يعلم ذلك، كما تواترت عند الخاصة من أهل العلم عنه الحكم بالشفعة وتحليف المدعى عليه ورجم الزاني المحصن، واعتبار النصاب في السرقة، وأمثال ذلك من الأحكام التي ينازعهم فيها بعض أهل البدع، ولهذا كان أئمة الإسلام متفقين على تبديع من خالف في مثل هذه الأصول بخلاف من نازع في مسائل الاجتهاد التي لم تبلغ هذا المبلغ في تواتر السنن عنه، كالتنازع بينهم في الحكم بشاهد ويمين، وفي القسامة والقرعة، وغير ذلك من الأمور التي لم تبلغ هذا المبلغ، وأما عثمان وعلي، فهذه دون تلك، فإن هذه كان قد حصل فيها نزاع، فإن سفيان الثوري وطائف من أهل الكوفة رجحوا عليا على عثمان، ثم رجع عن ذلك سفيان وغيره، وبعض أهل المدينة توقف في عثمان وعلي، وهي إحدى الروايتين عن مالك، لكن الرواية الأخرى عنه تقديم عثمان على علي كما هو مذهب سائر الأئمة كالشافعي وأبي حنيفة وأصحابه وأحمد بن حنبل وأصحابه، وغير هؤلاء من أئمة الإسلام حتى إن هؤلاء تنازعوا فيمن يقدم عليا على عثمان هل يعد من أهل البدعة، على قولين هما روايتان عن أحمد، وقد قال أيوب السختياني، وأحمد بن حنبل، والدارقطني: من قدم عليا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، وأيوب هذا إمام أهل السنة، وإمام أهل البصرة، روى عنه مالك في الموطإ، وكان لا يروي عن أهل العراق، وروي أنه سئل عن الرواية عنه فقال ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب أفضل منه، وذكره أبو حنيفة فقال: لقد رأيته مقعدا في مسجد رسول الله ﷺ ما ذكرته إلا اقشعر جسمي، والحجة لهذا ما أخرجاه في الصحيحين وغيرهما: عن { ابن عمر أنه قال: كنا نفاضل على عهد رسول الله ﷺ كنا نقول أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان } وفي بعض الطرق: يبلغ ذلك النبي ﷺ فلا ينكره، وأيضا فقد ثبت بالنقل الصحيح في صحيح البخاري، وغير البخاري، أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لما جعل الخلافة شورى في ستة أنفس: عثمان ، وعلي وطلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف، ولم يدخل معهم سعيد بن زيد، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وكان من بني عدي قبيلة عمر، وقال عن ابنه عبد الله: يحضركم عبد الله وليس له في الأمر شيء، ووصى أن يصلي صهيب بعد موته حتى يتفقوا على واحد، فلما توفي عمر واجتمعوا عند المنبر قال طلحة: وما كان من هذا الأمر فهو لعثمان وقال الزبير: ما كان لي من هذا الأمر فهو لعلي، وقال سعد: ما كان لي من هذا الأمر فهو لعبد الرحمن بن عوف، فخرج ثلاثة وبقي ثلاثة، فاجتمعوا فقال عبد الرحمن: أنا أخرج، وروي أنه قال: عليه عهد الله وميثاقه أن يولي أفضلهما ثم قام عبد الرحمن بن عوف ثلاثة أيام بلياليها يشاور المهاجرين، والأنصار، والتابعين لهم بإحسان، ويشاور أمهات المؤمنين، ويشاور أمراء الأمصار، فإنهم كانوا في المدينة حجوا مع عمر، وشهدوا موته، حتى قال عبد الرحمن: إن لي ثلاثا ما اغتمضت بنوم، فلما كان اليوم الثالث قال لعثمان: عليك عهد الله وميثاقه إن وليتك لتعدلن، ولئن وليت عليا لتسمعن ولتطيعن، قال: نعم، وقال لعلي: عليك عهد الله وميثاقه إن وليتك لتعدلن ولئن وليت عثمان لتسمعن ولتطيعن، قال: نعم، فقال: إني رأيت الناس لا يعدلون بعثمان، فبايعه علي وعبد الرحمن وسائر المسلمين بيعة رضى واختيار من غير رغبة أعطاهم إياها ولا رهبة خوفهم بها، وهذا إجماع منهم على تقديم عثمان على علي، فلهذا قال أيوب، وأحمد بن حنبل، والدارقطني: من قدم عليا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، فإنه لو لم يكن هو أحق بالتقديم وقد قدموه كانوا جاهلين بفضله، وإما ظالمين بتقديم المفضول من غير ترجيح ديني، ومن نسبهم إلى الجهل والظلم فقد أزرى بهم، ولو زعم زاعم أنهم قدموا عثمان لضغن كان في نفس بعضهم على علي وأن أهل الضغن كانوا ذوي شوكة ونحو ذلك مما يقوله أهل الأهواء، فقد نسبهم إلى العجز عن القيام بالحق، وظهور أهل الباطل منهم على أهل الحق هذا وهم في أعز ما كانوا وأقوى ما كانوا، فإنه حين مات عمر كان الإسلام من القوة والعز والظهور والاجتماع والائتلاف فيما لم يصيروا في مثله قط، وكان عمر أعز أهل الإيمان وأذل أهل الكفر والنفاق إلى حد بلغ في القوة والظهور مبلغا لا يخفى على من له أدنى معرفة بالأمور، فمن جعلهم في مثل هذه الحال جاهلين أو ظالمين أو عاجزين عن الحق فقد أزرى بهم وجعل خير أمة أخرجت للناس على خلاف ما شهد الله به لهم، وهذا هو أصل مذهب الرافضة، فإن الذي ابتدع الرفض كان يهوديا أظهر الإسلام نفاقا ودس إلى الجهاد دسائس يقدح بها في أصل الإيمان، ولهذا كان الرفض أعظم أبواب النفاق والزندقة، فإنه يكون الرجل واقفا ثم يصير مفضلا ثم يصير سبابا ثم يصير غاليا ثم يصير جاحدا معطلا، ولهذا انضمت إلى الرافضة أئمة الزنادقة من الإسماعيلية، والنصيرية، وأنواعهم من القرامطة، والباطنية، والدرزية، وأمثالهم من طوائف الزندقة، والنفاق، فإن القدح في خير القرون الذين صحبوا الرسول قدح في الرسول ﷺ كما قال مالك وغيره من أئمة العلم: هؤلاء طعنوا في أصحاب رسول الله ﷺ إنما طعنوا في أصحابه ليقول القائل رجل سوء كان له أصحاب سوء، ولو كان رجلا صالحا لكان أصحابه صالحين، وأيضا فهؤلاء الذين نقلوا القرآن والإسلام وشرائع النبي ﷺ وهم الذين نقلوا فضائل علي وغيره، فالقدح فيهم يوجب أن لا يوثق بما نقلوه من الدين، وحينئذ فلا تثبت فضيلة لا لعلي ولا لغيره، والرافضة جهال ليس لهم عقل ولا نقل ولا دين ولا دنيا منصورة، فإنه لو طلب منهم الناصبي الذي يبغض عليا ويعتقد فسقه أو كفره كالخوارج وغيرهم أن يثبتوا إيمان علي وفضله لم يقدروا على ذلك، بل تغلبهم الخوارج فإن فضائل علي إنما نقلها الصحابة الذين تقدح فيهم الرافضة، فلا يتيقن له فضيلة معلومة على أصلهم، فإذا طعنوا في بعض الخلفاء بما يفترونه عليهم من أنهم طلبوا الرياسة وقاتلوا على ذلك، كان طعن الخوارج في علي بمثل ذلك وأضعافه أقرب من دعوى ذلك على من أطيع بلا قتال، ولكن الرافضة جهال متبعون الزنادقة، القرآن قد أثنى على الصحابة في غير موضع كقوله تعالى: { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه }، وقوله تعالى: { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى }، وقال تعالى: { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج

شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار }، وقال تعالى: { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا }، وقد ثبت في صحيح مسلم: عن النبي ﷺ أنه قال { لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة }، وفي الصحيحين عن أبي سعيد { أن النبي ﷺ قال: لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه }، وقد ثبت عنه في الصحيح من غير وجه: أنه قال: { خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم }، وهذه الأحاديث مستفيضة بل متواترة في فضائل الصحابة والثناء عليهم وتفضيل قرنهم على من بعدهم من القرون، فالقدح فيهم قدح في القرآن والسنة، ولهذا تكلم الناس في تكفير الرافضة بما قد بسطناه في غير هذا الموضع والله سبحانه وتعالى أعلم .