→ إقامة الدليل على إبطال التحليل/12 | إقامة الدليل على إبطال التحليل المؤلف: ابن تيمية |
إقامة الدليل على إبطال التحليل/14 ← |
واعلم أن من لم يحكم دلالات اللفظ ويعلم أن ظهور المعنى من اللفظ تارة يكون بالوضع اللغوي أو العرفي أو الشرعي إما في الألفاظ المفردة وإما في المركبة، وتارة بما اقترن باللفظ المفرد من التركيب الذي يتغير به دلالته في نفسه، وتارة بما اقترن به من القرائن اللفظية التي تجعلها مجازا، وتارة بما يدل عليه حال المتكلم والمخاطب والمتكلم فيه وسياق الكلام الذي يعين أحد محتملات اللفظ أو يبين أن المراد به هو مجازه إلى غير ذلك من الأسباب التي تعطي اللفظ صفة الظهور وإلا فقد يتخبط في هذه المواضع، نعم إذا لم يقترن باللفظ قط شيء من القرائن المتصلة تبين مراد المتكلم، بل علم مراده بدليل آخر لفظي منفصل، فهنا أريد به خلاف الظاهر ففي تسمية المراد خلاف الظاهر كالعام المخصوص بدليل منفصل وإن كان الصارف عقليا ظاهرا ففي تسمية المراد خلاف الظاهر خلاف مشهور في أصول الفقه، وبالجملة فإذا عرف المقصود فقولنا هذا هو الظاهر أليس هو الظاهر خلاف لفظي، فإن كان الحالف ممن في عرف خطابه أن ظاهر هذه الآية مما هو مماثل لصفات المخلوقين فقد حنث، وإن كان في عرف خطابه أن ظاهرها هو ما يليق بالله تعالى لم يحنث وإن لم يعلم عرف أهل ناحيته في هذه اللفظة ولم يكن سبب يستدل به على مراده وتعذر العلم بنيته، فقد جاز أن يكون أراد معنى صحيحا وجاز أن يكون أراد معنى باطلا فلا يحنث بالشك، وهذا كله تفريع على قول من يقول إن من حلف على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه حنث وأما على قول من لم يحنث فالحكم في يمينه ظاهر، واعلم أن عامة من ينكر هذه الصفة وأمثالها إذا بحثت عن الوجه الذي أنكروه وجدتهم قد اعتقدوا أن ظاهر هذه الآية كاستواء المخلوقين أو استواء يستلزم حدوثا أو نقصا، ثم حكوا عن مخالفهم هذا القول ثم تعبوا في إقامة الأدلة على بطلانه، ثم يقولون فيتعين تأويله إما بالاستيلاء أو بالظهور والتجلي أو بالفضل والرجحان الذي هو علو القدر والمكانة، ويبقى المعنى الثالث وهو استواء يليق بجلاله تكون دلالة هذا اللفظ عليه كدلالة لفظ العلم والإرادة والسمع والبصر على معانيها قد دل السمع عليه، بل من أكثر النظر في آثار الرسول - ﷺ - علم بالاضطرار أنه قد ألقي إلى الأمة، أن ربكم الذي تعبدونه فوق كل شيء وعلى كل شيء فوق العرش فوق السموات، وعلم أن عامة السلف كان هذا عندهم مثل ما عندهم أن الله بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير، وأنه لا ينقل عن واحد لفظ يدل لا نصا ولا ظاهرا على خلاف ذلك، ولا قال أحد منهم يوما من الدهر إن ربنا ليس فوق العرش، أو أنه ليس على العرش أو أن استواءه على العرش كاستوائه على البحر، إلى غير ذلك من ترهات الجهمية ولا مثل استواءه باستواء المخلوقين، ولا أثبت له صفة تستلزم حدوثا أو نقصا، والذي يبين لك خطأ من أطلق الظاهر على المعنى الذي يليق بالخلق، أن الألفاظ نوعان: أحدهما ما معناه مفرد كلفظ الأسد والحمار والبحر والكلب فهذا إذا قيل أسد الله وأسد رسوله، أو قيل للبليد حمار أو قيل للعالم أو السخي أو الجواد من الخيل بحر أو قيل للأسد كلب فهذا مجاز ثم إن قرنت به قرينة تبين المراد { كقول النبي ﷺ لفرس، أبي طلحة: إن وجدناه لبحرا }، وقوله: { إن خالدا سيف من سيوف الله سله الله على المشركين }، وقوله لعثمان: { إن الله قمصك قميصا } وقول ابن عباس: الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن استلمه وصافحه فكأنما بايع ربه، أو كما قال، ونحو ذلك فهنا اللفظ فيه تجوز وإن كان قد ظهر من اللفظ مراد صاحبه وهو محمول على هذا الظاهر في استعمال هذا المتكلم لا على الظاهر في الوضع الأول، وكل من سمع هذا القول علم المراد به وسبق ذلك إلى ذهنه بل أحال إرادة المعنى الأول، وهذا يوجب أن يكون نصا لا محتملا، وليس حمل اللفظ على هذا المعنى من التأويل الذي هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح في شيء، وهذا أحد مثارات غلط الغالطين في هذا الباب حيث يتوهم أن المعنى المفهوم من هذا اللفظ مخالف للظاهر وأن اللفظ يؤول، النوع الثاني: من الألفاظ ما في معناه إضافة إما بأن يكون المعنى إضافة محضة كالعلو والسفول وفوق وتحت ونحو ذلك، أو أن يكون معنى ثبوتيا فيه إضافة كالعلم والحب والقدرة والعجز والسمع والبصر، فهذا النوع من الألفاظ لا يمكن أن يوجد له معنى مفرد بحسب بعض موارده لوجهين: أحدهما: أنه لم يستعمل مفردا قط، الثاني: أن ذلك يلزم منه الاشتراك أو المجاز بل يجعل حقيقة في القدر المشترك بين موارده وما نحن فيه من هذا الباب فإن لفظ استوى لم تستعمله العرب في خصوص جلوس الآدمي مثلا على سريره حقيقة حتى يصير في غيره مجازا كما أن لفظ العلم لم تستعمله العرب في خصوص جلوس الآدمي مثلا على سريره حقيقة حتى يصير في غيره مجازا كما أن لفظ العلم لم تستعمله العرب في خصوص العرض القائم بقلب البشر المنقسم إلى ضروري ونظري حقيقة واستعملته في غيره مجازا بل هذا المعنى تارة يستعمل بلا تعدية كما في قوله تعالى: { ولما بلغ أشده واستوى } وتارة يعدى بحرف الغاية كقوله تعالى: { ثم استوى إلى السماء } وتارة يعدى بحرف الاستعلاء، ثم هذا تارة يكون صفة لله وتارة يكون صفة لخلقه، فلا يجب أن يجعل في أحد الموضعين حقيقة وفي الآخر مجازا، ولا يجوز أن يفهم من استواء الله تعالى الخاصية التي تثبت للمخلوق دون الخالق، كما في قوله تعالى { والسماء بنينها بأيد } وقوله تعالى { مما عملت أيدينا } وقوله تعالى { صنع الله الذي أتقن كل شيء }، وقوله تعالى { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر }، { وكتبنا له في الألواح } فهل يستحل مسلم أن يثبت لربه خاصية الآدمي الباني الصانع العامل الكاتب، أم يستحل أن ينفي عنه حقيقة العمل والبناء كما يختص به ويليق بجلاله، أم يستحل أن يقول هذه الألفاظ مصروفة عن ظاهرها، أم الذي يجب أن يقول عمل كل أحد بحسبه فكما أن ذاته ليست مثل ذوات خلقه فعمله وصنعه وبناؤه ليس مثل عملهم وصنعهم وبنائهم، ونحن لم نفهم من قولنا بنى فلان وكتب فلان ما في عمله من المعالجة والتأثير إلا من جهة علمنا بحال الباني لا من جهة مجرد اللفظ، ففرق أصلحك الله بين ما دل مجرد اللفظ الذي هو لفظ الفعل وما يدل عليه بخصوص إضافته إلى الفاعل المعين، وبهذا ينكشف لك كثير مما يشكل على كثير من الناس وترى مواقع اللبس في كثير من هذا الباب، والله يوفقنا وسائر إخواننا المؤمنين لما يحبه ويرضاه من القول والعمل، ويجمع قلوبنا على دينه الذي ارتضاه لنفسه وبعث به رسوله ﷺ
فصل وهذا الذي ذكرناه من أن القرآن كلام الله حروفه ومعانيه، هو المنصوص عن الأئمة والسلف، وهو الموافق للكتاب والسنة، فأما نصوصهم التي فيها بيان أن كلامه ليس مجرد الحروف والأصوات، بل المعنى أيضا من كلامهم فكثير من كلام أحمد وغيره مثل ما ذكر الخلال في كتاب السنة عن الأثرم وإبراهيم بن الحارث العبادي أنه دخل على أبي عبد الله الأثرم وعباس بن عبد العظيم العنبري فابتدأ عباس فقال: يا أبا عبد الله قوم قد حدثوا يقولون لا نقول مخلوق ولا غير مخلوق، هؤلاء أضر من الجهمية على الناس، ويلكم فإن لم تقولوا ليس بمخلوق فقولوا مخلوق، فقال أبو عبد الله: قوم سوء، فقال العباس: ما تقول يا أبا عبد الله فقال الذي أعتقده وأذهب إليه ولا أشك فيه أن القرآن غير مخلوق، ثم قال سبحان الله من يشك في هذا، ثم تكلم أبو عبد الله مستعظما للشك في ذلك فقال: سبحان الله في هذا شك قال الله تعالى: { ألا له الخلق والأمر } ففرق بين الخلق والأمر، قال أبو عبد الله فالقرآن من علم الله ألا تراه يقول علم القرآن والقرآن فيه أسماء الله عز وجل أي شيء يقولون لا يقولون أسماء الله غير مخلوقة، ومن زعم أن أسماء الله مخلوقة فقد كفر، لم يزل الله تعالى قديرا عليما عزيزا حكيما سميعا بصيرا، لسنا نشك أن أسماء الله ليست بمخلوقة، ولسنا نشك أن علم الله ليس مخلوق وهو كلام الله ولم يزل الله متكلما .
الفصل الثاني في كونه متكلما وإثبات قدم كلامه فالدليل حصول الاتفاق على أنه آمرنا مخبر لا يخلو إما أن يكون أمره ونهيه عبارة عن مجرد الألفاظ أو لا يكون كذلك، والأول باطل لأن اللفظة الموضوعة للأمر قد كان من الجائز أن يضع اللفظة التي وضعها لأن إفادة معنى الأمر لإفادة معنى الخبر وبالعكس، فإذن كون اللفظة المعينة أمرا أو نهيا أو خبرا إنما كان لدلالته على ماهية الطلب والزجر والحكم، وهذه الماهيات ليست أمورا وصفية لأنا نعلم بالضرورة أن السواد لا ينقلب بياضا أو غيره وبالعكس، وكذلك ماهية الطلب لا تنقلب ماهية الزجر ولا الزجر منها ماهية الحكم، وإذا ثبت ذلك فنقول لما كان الله تعالى آمرا ناهيا مخبرا وثبت أن ذلك لا يتحقق إلا إذا كان الله موصوفا بطلب وزجر وحكم، فهذه الأمور الثلاثة ظاهرا أنها ليست عبارة عن العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والبقاء بل الذي يشتبه الحال فيه، أما في الطلب والزجر فهي الإرادة والكراهية وأما في الحكم وهو العلم، والأول باطل لما ثبت في خلق الأعمال وإرادة الكائنات أن الله تعالى قد يأمر بما لا يريد وينهى عما يريد، فموجب أن يكون معنى افعل ولا تفعل في حق الله شيئا سوى الإرادة وذلك هو المعنى بالكلام، والثاني باطل لأنه في الشاهد قد يحكم الإنسان بما لا يعلمه ولا يعتقده ولا يظنه فإذن الحكم الذهني في الشاهد مغاير لهذه الأمور، وإذا ثبت ذلك في الشاهد ثبت في الغائب لانعقاد الإجماع على أن ماهية الخبر لا تختلف في الشاهد والغائب قال فثبت أن أمر الله ونهيه وخبره صفات حقيقية قائمة بذاته مغايرة لذاته وعلمه، وأن الألفاظ الواردة في الكتب المنزلة دليل عليها، وإذا ثبت ذلك وجب القطع بقدمها لأن الأمة على قولين في هذه المسألة منهم من نفى كون الله موصوفا بالأمر والنهي والخبر بهذا المعنى، ومنهم من أثبت ذلك وكل من أثبته موصوفا بهذه الصفات زعم أن هذه الصفات قديمة فلو أثبت كونه تعالى موصوفا بهذه الصفات ثم حكمنا بحدوث هذه الصفات كان ذلك قولا ثالثا خارقا للإجماع وهو باطل، ثم أورد على نفسه أسئلة منها مما نعاه تارة في
إثبات هذه المعاني لله وتارة في قدمها وقال ومنها لا يجوز أن يكون المرجع بالحكم الذي هو معنى الخبر إلى كونه عالما بذلك ولئن سلمنا كونه تعالى موصوفا بالأمر والنهي والخبر على الوجه الذي ذكرتموه لكن لم قلتم إن تلك المعاني قديمة بقولكم كل من أثبت هذه المعاني، أثبتها قديمة قلت القول في إثباتها مسألة، والقول في قدمها مسألة أخرى، فلو لزم من ثبوت إحدى المسألتين ثبوت المسألة الأخرى لزم من إثبات كونه تعالى عالما بعلم قديم إثبات كونه تعالى متكلما بكلام قديم، وإذا كان ذلك باطلا فكذا ما ذكرتموه، ثم لئن سلمنا أن هذا النوع من الإجماع يقتضي قدم كلام الله لكنه معارض بنوع آخر من الإجماع وهو أن أحدا من الأمة لم يثبت قدم كلام الله بالطريق الذي ذكرتموه فيكون التمسك بما ذكرتموه خرقا للإجماع، ثم ذكر معارضات المخالف بوجوه عقلية ونقلية تسعة، وقال في الجواب قوله سلمنا أن خبر الله دليل على أن الله حكم بنسبة أمر إلى أمر لكن لم لا يجوز أن يكون ذلك الحكم هو العلم، قلنا هذا باطل لوجهين: أما أولا: فلأن القائل في هذه المسألة قائلان، قائل يقول نثبت لله تعالى خبرا قديما ونثبت كونه مغايرا للعلم، وقائل لا نثبت له خبرا قديما أصلا فلو قلنا إن الله له خبر قديم ثم قلنا إنه هو العلم، كان ذلك خرقا للإجماع، وأما ثانيا: فلأنا بينا في أول الاستدلال أن فائدة الخبر في الشاهد ليست هي الظن والعلم والاعتقاد، وإذا بطل ذلك في الشاهد وجب أن يكون في الغائب، كذلك لانعقاد الإجماع على أن فائدة الخبر لا تختلف في الشاهد والغائب قوله سلمنا ثبوت هذه الألفاظ لله فلم قلتم إنها قديمة، قلنا للإجماع المذكور قوله لو لزم من القول بإثبات هذه الصفة لله إثبات قدمها لأن كل من قال بالأول قال بالثاني لزم من القول بإثبات العلم القديم إثبات الكلام القديم لأن كل من قال بالأول قال بالثاني، قلنا الفرق بين الموضعين مذكور في المحصول في علم الأصول، فإن المعتزلة يساعدوننا على الفرق بين الموضعين فلا يكون قوله إثبات قدم كلام الله بهذه الطريق على خلاف الإجماع، قلنا قد بينا في كتاب المحصول أن إحداث دليل لم يذكره أهل الإجماع لا يكون خرقا للإجماع، وقال في الجواب عن المعارضة، وأما المعارضة الخامسة وما بعدها من الوجوه السمعية فالجواب عنها حرف واحد، وهو أنا لا ننازع في إطلاق لفظ القرآن وكلام الله على هذه الحروف والأصوات وما ذكروه من الأدلة فهو إنما يفيد حدوث القرآن بهذا التفسير وذلك متفق عليه، وإنما نحن بعد ذلك ندعي صفة قائمة بذات الله تعالى وندعي قدمها، وقد بينا أن تلك الصفة يستحيل وصفها بكونها عربية وعجمية ومحكمة ومتشابهة، لأن كل ذلك من صفات الكلام الذي حاولوا إثبات حدوثه فنحن لا ننازعهم في حدوثه، والكلام الذي ندعي قدمه لا يجري فيه ما ذكروه من الأدلة وروى الخلال عن أبي عبيد قال: وقد قال رجل ما خلق الله من سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي أفليس يدلك على أن هذا مخلوق، قال أبو عبيد: إنما قال ما خلق الله من سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي، فأخبر الله أن السماء والأرض أعظم من خلقه، وأخبر أن آية الكرسي التي هي من صفاته أعظم من هذا العظيم المخلوق، وروي عن أحمد بن القاسم قال قال أبو عبد الله هذا الحديث { ما خلق الله من سماء ولا أرض ولا كذا أعظم } فقلت لهم إن الخلق هاهنا وقع على السماء والأرض وهذه الأشياء لا على القرآن لأنه قال: ما خلق الله من سماء ولا أرض، فلم يذكر خلق القرآن هاهنا، وقال البخاري في كتاب خلق الأفعال وقال الحميدي حدثنا سفيان حدثنا حصين عن مسلم بن صبيح عن تستر بن شكل عن عبد الله قال { ما خلق الله من سماء ولا أرض ولا جنة ولا نار أعظم من: { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } }، قال سفيان تفسيره إن كل شيء مخلوق والقرآن ليس بمخلوق وكلامه أعظم من خلقه لأنه إنما يقول للشيء كن فيكون فلا يكون شيء أعظم مما يكون به الخلق، والقرآن كلام الله، وأما تأويلهم أن السلف امتنعوا من لفظ الخلق لدلالته على الافتراء فألفاظ السلف منقولة عنهم بالتواتر عن نحو خمسمائة من السلف كلها تصرح بأنهم أنكروا الخلق الذي تعنيه الجهمية من كونه مصنوعا في بعض الأجسام، كما أنهم سألوا جعفر بن محمد عن القرآن هل هو خالق أو هو مخلوق، فقال: ليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الله، ومثل قول علي رضي الله عنه لما قيل له حكمت مخلوقا فقال ما حكمت مخلوقا وإنما حكمت القرآن، وأمثال ذلك مما يطول ذكره، والمقصود هنا أن السلف اتفقوا على أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وهذا الذي أجمع عليه السلف ليس معناه ما قالته المعتزلة ولا ما قالته الكلابية، وهذا الرازي ادعى الإجماع وإجماع السلف ينافي ما ادعاه من الإجماع، فإن أحدا من السلف لم يقل هذا ولا هذا فضلا عن أن يكون إجماعا، ويكفي أن يكون اعتصامه في هذا الأصل العظيم بدعوى إجماع والإجماع المحقق على خلافه، فلو كان فيه خلاف لم تصح الحجة فكيف إذا كان الإجماع المحقق السلفي على خلافه، الوجه الثالث: إن الرجل قد أقر أنه لا نزاع بينهم وبين المعتزلة من جهة المعنى في خلق الكلام بالمعنى الذي يقوله المعتزلة، وإنما النزاع لفظي حيث إن المعتزلة سمت ذلك
المخلوق كلام الله وهم لم يسموه كلام الله، ومن المعلوم بالاضطرار أن الجهمية من المعتزلة وغيرهم لما ابتدعت القول بأن القرآن مخلوق أو بأن كلام الله مخلوق أنكر ذلك عليهم سلف الأمة وأئمتها وقالوا القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود، فلو كان ما وصفته المعتزلة بأنه مخلوق هو مخلوق عندهم أيضا وإنما خالفوهم في تسمية كلام الله أو في إطلاق اللفظ لم تحصل هذه المخالفة العظيمة والتكفير العظيم بمجرد نزاع لفظي كما قال هو إن الأمر في ذلك يسير وليس هو مما يستحق الإطناب لأنه بحث لغوي وليس هو من الأمور المعقولة المعنوية، فإذا كانت المعتزلة فيما أطلقته لم تنازع إلا في بحث لغوي، لم يجب تكفيرهم وتضليلهم وهجرانهم بذلك كما أنه هو وأصحابه لا يضللونهم في تأويل ذلك وإن نازعوهم في لفظه ومجرد النزاع اللفظي لا يكون كفرا ولا ضلالا في الدين، الوجه الرابع: أنه قد استخف بالبحث في مسمى المتكلم وقال إنه ليس مما يستحق الإطناب لأنه بحث لغوي، وهذا غاية الجهل بأصل هذه المسألة، وذلك أن هذه المسألة هي سمعية كما قد ذكر هو ذلك فإنه إنما أثبت ذلك بالنقل، المتواتر عن الأنبياء عليهم السلام أن الله يتكلم، ولهذا لما قال له المنازع إثبات كونه متكلما أمرا ناهيا مخبرا بالإجماع لا يصح لتنازعهم في معنى الكلام ( أجاب ) بأنا نثبتها بالنقل المتواتر عن الأنبياء عليهم السلام أنهم كانوا يقولون إن الله أمر بكذا ونهى عن كذا وأخبر بكذا وقال كذا وتكلم بكذا، وبأنا نثبتها أيضا بالإجماع كما قرروه، وإذا كان أصل هذه المسألة هو الاستدلال بالنقل المتواتر وبالإجماع على أن الله متكلم آمر ناه كان العلم بمعنى المتكلم الآمر الناهي هل هو الذي قام به الكلام كالأمر والنهي والخبر أو هو من فعله ولو في غيره هو أحد مقدمتي دليل المسألة التي لا تتم إلا به، فإنه إذا جاز أن يكون القائل الآمر الناهي المخبر لم يقم به كلام ولا أمر ولا نهي ولا خبر بطلت حجة أهل الإثبات في المسألة من كل وجه فالإطناب في هذا الأصل هو أهم ما في هذه المسألة بل ليس في المسألة أصل أهم من هذا وبهذا الأصل كفر الأئمة الجهمية لأنهم علموا أن المتكلم هو الذي يقوم به الكلام وأن ذلك معلوم بالضرورة من الشرع والعقل واللغة عند الخاصة والعامة، وليس هذا بحثا لفظيا لغويا كما زعمه بل هو بحث عقلي معنوي شرعي مع كونه أيضا لغويا كما نذكره في الوجه الخامس: وذلك أن كون المتكلم هو الذي يقوم به الكلام أو لا يقوم به الكلام، وكون الحي يكون متكلما بكلام يقوم بغيره هو مثل كونه حيا عالما وقادرا وسميعا وبصيرا ومريدا بصفات تقوم بغيره، وكون الحي العليم القدير لا تقوم به حياة ولا علم ولا قدرة، وهذه كلها بحوث معقولة معنوية لا تخص بلغة بل تشترك فيها الأمم كلهم، وهي أيضا داخلة فيما أخبرت به الرسل عن الله، فإن ثبوت حكم الصفة للمحل الذي تقوم به الصفة أو لغيره أمر معقول يعلم بالعقل، فعلم أنه مقام عقلي وهو مقام له سمعي، ولهذا يبحث معهم في سائر الصفات كالعلم والقدرة بأن الحي لا يكون عليما قديرا إلا بما يقوم به من الحياة والعلم، الوجه السادس: إنه لولا ثبوت هذا المقام لما أمكنه أن يثبت قيام معنى الأمر والنهي والخبر لأنه قرر بالإجماع أن الله آمر وناه ومخبر وأن ذلك ليس هو اللفظ بل هو معنى هو الطلب والزجر والحكم، وهذه المعاني سواء كانت هي الإرادة والعلم أو غير ذلك يقال له لا نسلم أنها قائمة بذات الله إن لم يثبت أن الآمر الناهي المخبر هو من قام به معنى الأمر والنهي والخبر، بل يمكن أن يقال فيها ما يقوله المعتزلة في الإرادة والعلم أما أن يقولوا يقوم بغير محل، أو يقولوا كونه آمرا ومخبرا مثل كونه عالما وذلك حال أو صفة، فإنه إذا جاز أن يكون الآمر والمخبر لم يقم به خبر ولا أمر لم يمكنه ثبوت هذه المعاني قائمة بذات الله، بل يقال له هب أن لها معاني وراء الألفاظ ووراء هذه لكن لم قلت أن الآمر الناهي هو من قام به تلك المعاني دون أن يكون من فعل تلك المعاني، الوجه السابع: إنه عدل عن الطريقة المشهورة لأصحابه في هذا الأصل فإنهم يثبتون أن المتكلم من قام به الكلام، وأن معنى الكلام هو الطلب والزجر والحكم ثم يقولون: ولا يجوز أن يكون ذلك حادثا في غيره لا في ذاته لأن ذاته لا تكون محلا للحوادث وبذلك أثبتوا قدم الكلام فقالوا لو كان محدثا لكان إما أن يحدثه في نفسه فيكون محلا للحوادث وهو محال أو غيره فيكون كلاما لذلك المحل أو لا في محل فيلزم قيام الصفة بنفسها وهو محال وإنما عدل عنها لأنه قد بين أنه لم يقم دليل على أن قيام الحوادث به محال بل ذلك لازم لجميع الطوائف ومن المعلوم أنه إذا جوز قيام الحوادث به بطل قول أصحابه في هذه المسألة وامتنع أن يقال هو قديم لأنه إذا ثبت أن المتكلم هو من قام به الكلام أو أثبت أن الله آمر ناه مخبر بمعنى يقوم به لا بغيره فإذا جاز أن يكون حادثا ويكون صفة لله كما يقوله من يقول إن الله يتكلم إذا شاء ويسكت إذا شاء كما يقوله جماهير أهل الحديث والفقهاء وطوائف من أهل الكلام من المرجئة والشيعة والكرامية وغيرهم لم يجز أن يحكم بقدمه بلا دليل إلا كما يقوله من يقول من أئمة السنة إن الله لم يزل متكلما إذا شاء فيريدون أنه لم يزل متصفا بأنه متكلم إذا شاء وهو لا يقول بذلك فتبين أن الأصل الذي قرره يبطل قول المعتزلة، وقول أصحابه، ولا ينفع حينئذ احتجاجه باجتماع هاتين الطائفتين إذ ليس ذلك إجماع الأمة، الوجه الثامن: إنه لما عارض، الإجماع الذي ادعاه بنوع آخر من الإجماع وهو أن أحدا من الأمة لم يثبت قدم كلام الله بالطريق الذي ذكرتموه فيكون التمسك بما ذكرتموه خرقا للإجماع أجاب بأنا قد بينا في كتاب المحصول أن إحداث دليل لم يذكره أهل الإجماع لا يكون خرقا للإجماع فيقال له هذا إذا كان قد استدل بدليل آخر منضما إلى دليل أهل
الإجماع فإن ذلك لا يستلزم تخطئة أهل الإجماع وأما إذا بطل معتمد أهل الإجماع ودليلهم وذكر دليلا آخر كان هذا تخطئة منه لأهل الإجماع والأمر هنا كذلك لأن الذين قالوا بقدمها إنما قالوا ذلك لامتناع قيام الحوادث به عندهم والذين قالوا بخلقها قالوا ذلك لامتناع قيام الصفات به وعنده كلا الحجتين باطلة وهو احتج بإجماع الطائفتين وقد أقر بأن حجة كل منهما باطلة فلزم إجماعهم على باطل، الوجه التاسع: أنه إذا لم يكن في المسألة دليل قطعي سوى ما ذكره ولم يستدل به أحد قبله لم يكن أحد قد علم الحق في هذه المسألة قبله وذلك حكم على الأمة قبله بعدم علم الحق في هذه المسألة وذلك يستلزم أمرين أحدهما إجماع الأمة على ضلالة في هذا الأصل والثاني عدم صحة احتجاج بإجماعهم الذي احتج به فإنهم إذا قالوا بلا علم ولا دليل لزم هذان المحذوران، الوجه العاشر: أن هذا إجماع مركب كالاستدلال على قدم الكلام بقدم العلم وتفريقه بينهما فرق صوري وقوله للمعتزلة نسلم ذلك ليس كذلك وذلك أن الأمة إذا اختلفت في مسألة على قولين لم يكن لمن بعدهم إحداث قول ثالث والمعتزلة توافق على ذلك وقد اعتقد هو أن هذه المسألة من ذلك وإذا اختلفت في مسألتين على قولين فهل يجوز لمن بعدهم أن يقول بقول طائفة في مسألة وبقول طائفة أخرى في مسألة أخرى بناء على المنع في الأولى على قولين وقيل بالتفصيل وهو أنه اتحد مأخذهما لم يجز الفرق وإلا جاز وقيل إن صرح أهل الإجماع بالتسوية لم يجز الفرق وإلا جاز واذا كان كذلك فهذه المسألة من هذا القسم فإن النزاع في مسألة الكلام في مسائل كل واحدة غير مستلزمة للأخرى، إحداهن: إن الكلام هل هو قائم به أم لا، والثانية: الكلام هل هو الحروف والأصوات أو المعاني أو مجموعهما، والثالثة: إن القائم هل يجب أن يكون لازما له قديما أو يتكلم إذا شاء، والرابعة: إن المعاني هل هي من جنس العلم والإرادة أو جنس آخر، الخامسة: إن المعاني هل هي معنى واحد أو خمس معان أو معان كثيرة وهذا كله فيه نزاع فكيف يعتقد أن هذا هو اختلاف الأمة في مسألة على قولين لم يكن لمن بعدهم إحداث قول ثالث ومما يوضح ذلك أنه أثبت بالدليل أن معنى الكلام الطلب والزجر والحكم ثم احتج بقول الذين قالوا هذا على أن هذه المعاني قديمة لكونهم قالوا بهذا وبهذا وهذا بعينه احتجاج بالإجماع المركب وهو لزوم موافقتهم في مسألة قد قام عليها الدليل لموافقتهم في مسألة لم يقم عليها دليل وأولئك قالوا هو محدث وليس هو هذه المعاني فلم لا يجوز أن يوافق هؤلاء في الحروف وهؤلاء في هذا المعاني وهو في بنائه خاصة مذهب الأشعري على هذا الأصل بمنزلة الرافضة في بنائهم لإمامة علي التي هي خاصة مذهبهم على نظر هذا الأصل ومعلوم أن خاصة مذهب الأشعري وابن كلاب التي تميز بها هو ما ادعاه من أن كلام الله معنى واحد قديم قائم بنفسه إذ ما سوى ذلك من المقالات في الأصول هما مسبوقان إليه إما من أهل الحديث وإما من أهل الكلام كما أن خاصة مذهب الرافضة الإمامية من الاثنا عشرية ونحوهم هو إثبات الإمام المعصوم وادعاء ثبوت إمامة علي بالنص عليه ثم على غيره واحدا بعد واحد وهم وإن كانوا يدعون في ذلك نقلا متواترا بينهم فقد علموا أن جميع الأمة تنكر ذلك وتقول إنها تعلم بالضرورة وبأدلة كثيرة بطلان ما ادعوه من النقل وبطلان كونه صحيحا من جهة الآحاد فضلا عن التواتر، وقد علم متكلمو الإمامية أنه لا يقوم على أحد حجة بما يدعونه من التواتر والإجماع فإن الشيء إذا لم يتواتر عند غيرهم لم يلزمهم اتباعه وإجماعهم الذي يسمونه إجماع الطائفة المحقة لا يصح حتى يثبت أنهم الطائفة المحقة وذلك فرع ثبوت المعصوم وهم يجعلون من أصول دينهم الذي لا يكون الرجل مؤمنا إلا به هو الإقرار بالإمام المعصوم المنتظر ويضم إلى ذلك جمهور متأخريهم الموافقين للمعتزلة التوحيد والعدل الذي ابتدعته المعتزلة فهذه ثلاثة أصول مبتدعة والأصل الرابع هو الإقرار بنبوة محمد ﷺ وهذا هو الذي وافقه فيه المسلمين والغرض هنا بيان أن هذه الحجة نظير حجة الرافضة فإنهم يقولون يجب على الله أن ينصب في كل وقت إماما معصوما لأنه لطف في التكليف واللطف على الله واجب ويحتجون على ذلك بأقيسة يذكرونها، كما ثبت هذا ونحوه أن الكلام معنى مباين للعلم والإرادة بأقيسة يذكرونها فإذا زعموا أنهم أثبتوا ذلك بالقياس العقلي ويقولون إن المعصوم يجب أن يكون معلوما بالنص إذ لا طريق إلى العلم بالعصمة إلا النص ثم يقولون ولا منصوص عليه بعد النبي ﷺ إلا علي لأنه ليس في الأمة من ادعى النص لغيره فلو لم يكن هو منصوصا عليه لزم إجماع الأمة على الباطل إذ القائل قائلان قائل بأنه منصوص عليه وقائل بأنه لا نص عليه ولا على غيره وهذا القول باطل فيما زعموا بما يذكرونه من وجوب النص عقلا فيتعين صحة القول الأول وهو أنه هو المنصوص عليه لأن الأمة إذا اجتمعت في مسألة على قولين كان أحدهما هو الحق ولم يكن الحق في ثالث فهذا نظير حجته، ولهذا لما تكلمنا على بطلان هذه الحجة لما خاطبت الرافضة وكتبت في ذلك ما يظهر به المقصود وأبطلنا ما ذكروه من الدلالة على وجوب معصوم وبينت تناقض هذا الأصل وامتناع توقف التكليف عليه وأنه يفضي إلى تكليف ما لا يطاق وخاطبت بذلك أفضل من رأيته منهم واعترف بصحة ذلك وبالإنصاف في مخاطبته وليس هذا موضع ذلك لكن المقصود والاحتجاج بالإجماع فإنا قلنا لهم لا نسلم أن أحدا من الأمة لم يدع النص على غير علي بل طوائف من أهل السنة يقولون إن خلافة أبي بكر ثبتت بالنص ثم منهم من يقول بنص جلي ومنهم من يقول بنص خفي، وأيضا فالرواندية تدعي النص على العباس، وأيضا فالمدعون للنص على علي مختلفون في أن يقال النص عنه في ولده اختلافا كثيرا فلا يمكن أن يقال إنه لم يدع أحد النص على واحد بعد واحد إلا ما ادعوه في المنتظر بل إخوانهم الشيعة يدعون دعاوى مثل دعاويهم لغير المنتظر فبطل الأصل الذي بنوا عليه إمامة المعصوم الذي يجب على أهل العصر طاعته ولو فرض أن عليا كان هو الإمام فإنه لا يجب علينا طاعة من قد مات بعينه إلا الرسول وإنما المتعلق بنا ما يدعونه من وجوب طاعتنا لهذا الحي المعصوم ولو فرض أنه لم يدع النص غيرهم فهذه الحيلة التي سلكوها في تقرير النص على علي مبنية على كذب افتروه وقياس وضعوه لنفاق ذلك الكذب فإنهم افتروا النص ثم زعموا أن ما ابتدعوه وافتروه عن العباس مع ما ادعوه من الإجماع يقتضي ثبوت هذا الذي افتروه كما أن هؤلاء ابتدعوا مقالة افتروها في كلام الله لم يسبقوا إليها ثم ادعوا أن ما ابتدعوه وافتروه عن القياس مع ما ادعوه من الإجماع يحقق هذه الفرية وعامة أصول أهل البدع والأهواء الخارجين عن الكتاب والسنة تجدها مبنية على ذلك على أنواع من القياس الذي وضعوه وهو مثل ضربوه يعارضون به ما جاءت به الرسل ونوع من الإجماع الذي يدعونه فيركبون من ذلك القياس العقلي ومن هذا الإجماع السمعي أصل دينهم، ولهذا تجد أبا المعالي وهو أحد المتأخرين إنما يعتمد فيما يدعيه من القواطع على نحو ذلك وهكذا أئمة أهل الكلام في الأهواء كأبي الحسن البصري ومشايخهم ونحوهم لا يعتمدون لا على كتاب ولا على سنة ولا على إجماع مقبول في كثير من المواضع بل يفارقون أهل الجماعة ذات الإجماع المعلوم بما يدعونه هم من الإجماع المركب كما يخالفون صرائح المعقول بما يدعونه من المعقول وكما يخالفون الكتاب والسنة اللذين هما أصل الدين ما يضعونه من أصول الدين، الوجه الحادي عشر: إن هذا الإجماع نظير الحجج الإلزامية وقد قرر في أول كتابه أنه من الأدلة الباطلة التي لا تصلح لا للنظر ولا للمناظرة وذلك أن المنازع له يقول له إنما قلت بقدمها لامتناع قيام الحوادث به فأما أن يصح هذا الأصل أو لا يصح فإن صح كان هو الحجة في المسألة ولكن قد ذكرت أنه لا يصح وإن لم يصح بطل مستند قول من يقول بالقدم وصح منع القدم على هذا التقدير وهو أن يقول لا نسلم إذا جاز أن تحله الحوادث وجوب قدم ما يقوم به وهذا منع ظاهر وذلك أنه لا فرق بين إقامة قوله بحجة إلزامية وبين إبطال قول منازعيه بحجة إلزامية، الوجه الثاني عشر: إنه لم يثبت أن معنى الأمر والنهي ليس هو الإرادة والكراهة إلا بما ذكره في مسألة خلق الأفعال وإرادة الكائنات وذلك إنما يدل على الإرادة العامة الشاملة لكل موجود المنتفية عن كل معدوم فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وتلك الإرادة ليست هي الإرادة التي هي مدلول الأمر والنهي فإن هذه الإرادة مستلزمة للمحبة والرضا وقد فرق الله تعالى بين الإرادتين في كتابه فقال في الأولى: { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء }، وقال: { أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم }، وقال: { ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم }، وقال في الثانية: { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر }، وقال: { أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد } وقال تعالى { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون } وقال تعالى: { يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم، والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا }، الوجه الثالث عشر: إنه لما طولب بالفرق بين ماهية الطلب والإرادة ذكر وجهين أحدهما أن القائل قد يقول لغيره إني أريد منك الأمر الفلاني وإن كنت لا آمرك به والثاني هب أنه لم يتخلص لنا في الشاهد الفرق بين طلب الفعل وإرادته لكنا دللنا على أن لفظ افعل إذا وردت في كتاب الله فإنه لا بد وأن تكون دالة على طلب الفعل وبينا أن ذلك الطلب لا يجوز أن يكون نفس تصور الحروف ولا إرادة الفعل فلا بد أن يكون أمرا مغايرا لهما فليس كل ما لا نجد له في الشاهد نظيرا وجب نفيه غالبا ولا تعذر إثبات الإله وهذان الجوابان ضعيفان، أما الأول فقد يقال هو مستلزم للإرادة وقد يقال هو نوع خاص، من الإرادة على وجه الاستعلاء فإذا قيل أريد منك فعل هذا ولا آمرك به أي لا أستعلي عليك فإن المريد قد يكون سائلا خاضعا كإرادة العبد من ربه، وأما الثاني فيقال له إذا أثبت أن معنى الأمر في الشاهد إنما هو من جنس الإرادة كانت هذه حقيقته والحقائق لا تختلف شاهدا ولا غائبا وذلك أن كون هذه الصفة هي هذه أو مستلزمة لهذه أو غيره إنما نعلمه بما نعلمه في الشاهد، الوجه الرابع عشر: إن النهي مستلزم لكراهية المنهي عنه كما أن الأمر مستلزم لمحبة المأمور به والمكروه لا يكون مرادا فلا بد أن تكون الإرادة المنفية عن المكروه الواقع غير الإرادة اللازمة له وهذا أورده عليه في مسألة إرادة الكائنات ولم يجب عنه إلا بأن قال لا نسلم أنها مكروهة بل هي منهي عنها ومعلوم أن هذا الجواب مخالف لإجماع المسلمين بل لما علم بالضرورة من الدين ويخالف ما قرره هو في أصول الفقه وقد قال تعالى: { كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها }، الوجه الخامس عشر: إن طوائف يقولون لهم معنى الخبر لم لا يجوز أن يكون هو العلم لا سيما أن كثيرا من الناس يقولون إن معنى الكلام يؤول إلى الخبر وإذا كان معنى الكلام يؤول إلى الخبر ومعنى الخبر يؤول إلى العلم كان معنى الكلام يؤول إلى العلم لكن قول من يقول إن الكلام يؤول كله إلى الخبر المحض كما يقوله طائفة منهم ابن وطائفة هو قول ضعيف فإنه وإن كان الطلب الذي هو الأمر والنهي يستلزم علما وخبرا لكن ليس هو نفس ذلك بل حقيقة الطلب يجدها الإنسان من نفسه ويعلمها بالإحساس الباطن ويجد الفرق بين ذلك وبين كونه مخبرا محضا مع أن الخبر أيضا قد يستلزم طلبا وإرادة في مواضع كثيرة لكن تلازم الخبر والطلب والعلم والإرادة لا يمنع أن يعلم أن أحدهما ليس هو الآخر فالإنسان يخبر عن الأمور التي لا تتعلق بفعله بالإثبات والنفي خبرا محضا وقد يتعلق بذلك غرض من حب وبغض وما يتبع ذلك لكن معنى قوله السماء فوقنا والأرض تحتنا خبر محض وكذلك معنى قوله محمد رسول الله خبر لكن يتبعه محبة وتعظيم وطاعة وأما معنى قوله اذهب وتعال وأطعمني واسقني ونحو ذلك فهو طلب محض ولكنه مسبوق مستلزم للعلم والشعور بذلك كالأفعال الإرادية كلها فالأمر والنهي كالأفعال الإرادية كل ذلك مستلزم لما يقوم بالنفس من حب وطلب وإرادة وما يتبع ذلك من بغض وكراهة والخبر مستلزم للعلم والعلم يستلزم الحب والبغض والعمل أيضا في عامة الأمور ولهذا يختلط باب الإنشاء بباب الإخبار لتلازم النوعين حيث تلازما ولهذا تستعمل صيغة الخبر في الطلب كثيرا كما تستعمل في الدعاء في باب غفر الله لفلان ويغفر الله له وفي الأمر ومثل: { والمطلقات يتربصن } وذلك أكثر من استعمال صيغة الطلب في الخبر المحض كما قد قيل إن كان من هذا الباب في قوله تعالى { من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا } { وإذا لم تستح فاصنع ما شئت } وذلك لأن المعنيين متلازمان في الأمر العام فإذا استعمل صيغة الخبر في الطلب فإنما استعمل في لازمه وجعل اللازم لقوة الطلب له والإرادة كأنه موجود محقق مخبر عنه فكان هذا طلبا مؤكدا، ولهذا يكثر ذلك في الدعاء الذي يجتهد فيه الداعي وهذا حسن في الكلام أما إذا استعمل صيغة الخبر في الأمر المحض فالأمر فيه الطلب المستلزم للعلم الذي هو بمعنى الخبر فإذا لم يفد إلا معنى الخبر فإنه يكون قد سلب معناه الذي هو الطلب ونقص ذلك ولم يبق فيه شيء من معناه وذلك لأن العلم الذي يستلزم الطلب والإرادة هو تصور المطلوب ليس هو العلم بوقوعه أو عدم وقوعه فإذا استعمل اللفظ في الإخبار عن وقوع المطلوب أو عدم وقوعه كان قد استعمل في شيء ليس من معنى اللفظ ولا من لوازمه ولهذا قال من قال من أهل التحقيق أن استعمال صيغة الأمر في الخبر لم يقع لأنه ليس على ذلك شاهد والقياس يأباه لأنه استعمال للفظ في شيء ليس من لوازم معناه ولا من ملزوماته فهو أجنبي عنه وما ذكره من الآية والحديث فليس المراد به الخبر بل الآية على ظاهرها ومن كان في الضلالة فالله مسئول مدعو بأن يمد له من العذاب مدا وإن كان سبحانه هو المتكلم بطلب نفسه ودعاء نفسه كما في الدعاء الذي يدعو به وهو صلاته ولعنته كما قال { إن الله وملائكته يصلون على النبي } وقوله { هو الذي يصلي عليكم وملائكته } فإن صلاته تتضمن ثناءه ودعاءه سبحانه وتعالى فإن طلب الطالب من نفسه أمر ممكن في حق الخالق والمخلوق كأمر الإنسان لنفسه كما قال { إن النفس لأمارة بالسوء } وقد يقال من ذلك قوله { وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون } وهذا القول قد أورده الرازي سؤالا في مسألة واحدة الكلام كما تقدم لفظه في ذلك وأجاب عنه بما ذكره من قوله ليس هذا بشيء لأن حقيقة الطلب كحقيقة حكم الذهن بنسبة أمر إلى أمر وتلك المغايرة معلومة بالضرورة ولهذا يتطرق التصديق والتكذيب إلى أحدهما دون الآخر وهذا الذي ذكره من الفرق صحيح كما ذكرناه ونحن إنما ذكرناه لتوكيد الوجه الأول وهو المقصود هنا وهو أن يقال إن معنى الخبر هو العلم وبأنه من الاعتقاد ونحو ذلك فإن هذا قاله طوائف بل أكثر الناس بل عامة الناس يقولون ذلك ولا نجد الناس في نفوسهم شيئا غير ذلك يكون معنى الخبر، وكون معنى الخبر هو العلم أو نوع منه أظهر من كون الطلب هو الإرادة أو نوعها منها لأنه هناك أمكنهم دعوى الفرق بأن الله قد أمر بمأمورات وهو لم يرد وجودها كما أمر به من لم يطعه وهذا متفق عليه بين أهل الإثبات وإنما تنازع فيه القدرية، ثم كون الأمر مستلزما لإرادة ليست هي إرادة الوقوع كلام آخر وأما هنا فلم يمكنهم أن يقولوا إن الله أخبر بما لا يعلمه أو بما يعلم ضده بل علمه من لوازم خبره سواء كان هو معنى الخبر أو لازما لمعنى الخبر ولهذا أخبر الله بأن القرآن لما جاءه جاءه العلم فقال { فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم } وقال: { ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم } وهذا مما احتج به الأئمة في تكفير من قال بخلق القرآن وقالوا قولهم يستلزم أن يكون علم الله مخلوقا لأن الله أخبر أن هذا الذي جاءه من العلم ولم يعن علم غيره فلا بد أن يكون عنى أنه من علمه، ومن جعل علم الله مخلوقا قائما بغيره فهو كافر ولا ريب أن كل واحد من أمر الله وخبره يتضمن علمه سبحانه كما تقدم لكن أمره فيه الطلب الذي وقع التنازع فيه هل هو حقيقة غير الإرادة أو هو مستلزم لنوع من الإرادة أو هو نوع منها أو هو الإرادة وهذا ليس العلم وأما الخبر فلا ريب أنه متضمن لعلم الله ولا يمكن أن يتنازع في كون معنى خبر الله يوجد بدون علمه فظهر الأمر في هذا الباب ولهذا لم يكن لهم حجة على ذلك إلا ما ادعاه من إمكان وجود معنى خبر بدون العلم والاعتقاد والظن في حق المخلوق وهو الخبر الكاذب فقدروا أن الإنسان يخبر بخبر هو فيه كاذب وذلك يكون مع علمه بخلاف المخبر كما قدروا أن يأمر آمر امتحانا بما لا يريده ثم ادعوا أن هذا الخبر له حكم ذهني في النفس غير العلم كما أن ذلك الأمر له طلب نفساني في النفس غير الإرادة، وهذه الحجة قد نوزعوا في صحتها نزاعا عظيما ليست هي مثل ما أمكن إثباته في حق الله من وجود آمر لم يرد وقوع مأموره، الوجه السادس عشر: إن هذه الحجة التي ذكروها في معنى الخبر وإنه غير العلم قد أقروا هم أيضا بفسادها فإنه قد تقدم لفظ الرازي في هذه الحجة بقوله وأما شبيه معنى الأمر والنهي، بالإرادة والكراهة ومعنى الخبر بالعلم والأول باطل لما ثبت في خلق الأفعال وإرادة الكائنات أن الله قد يأمر بما لا يريد وينهى عما يريد فوجب أن يكون معنى افعل ولا تفعل في حق الله شيئا سوى الإرادة وذلك هو معنى الكلام والثاني باطل لأنه في الشاهد قد يحكم الإنسان بما لا يعلمه ولا يعتقده ولا يظنه فإذن الحكم الذهني في الشاهد مغاير لهذه الأمور، وإذا ثبت ذلك في الشاهد ثبت في الغائب لانعقاد الإجماع على أن ماهية الخبر لا تختلف في الشاهد والغائب وهذا هو الأصل الذي اعتمد عليه في محصوله أيضا حيث جعل معنى الخبر هو الحكم الذهني الذي انفردوا بإثباته دون سائر العقلاء وأما أبو المعالي ونحوه فلم يذكروا دليلا على إثبات كلام النفس سوى ما دل على ثبوت الطلب الذي ادعوا أنه مغاير للإرادة وذاك إن دل فإنما يدل على أن معنى الأمر غير الإرادة لا يدل على أن معنى الخبر غير العلم لكن استدل على ثبوت التصديق النفساني بأنه مدلول المعجزة ولم يبين أنه غير العلم فيقال لهم أنتم مصرحون بنقيض هذا وهو أنه يمتنع ثبوت الحكم الذهني على خلاف العلم وأنه إن جاز وجوده فليس هو كلاما على التحقيق وإذا انقسم وجوده هذا الحكم الذهني المخالف للعلم أو كونه كلاما على التحقيق امتنع منكم حينئذ إثبات وجوده ودعوى أنه هو الكلام على التحقيق وذلك أنهم يحتجون على وجوب الصدق لله بأن الكلام النفساني يمتنع فيه الكذب لوجوب العلم لله وامتناع الجهل وهذا الدليل قد ذكره جمع أئمتهم حتى الرازي ذكره لكن قال إنما يدل على صدق الكلام النفساني لا على صدق الحروف الدالة عليه وإذا جاز أن يتصف الحي بحكم نفساني لا يعلمه ولا يعتقده ولا يظنه بل يعلم خلافه امتنع حينئذ أن يقال الحكم النفساني مستلزم للعلم أو أنه يمتنع أن يكون بخلاف العلم فيكون كذبا، وهذا الذي قالوه تناقض في عين الشيء ليس تناقضا من جهة اللزوم فإنهم لما أثبتوا أن معنى الخبر ليس هو العلم أثبتوا حكما نفسانيا ينافي العلم فيكون كذبا ويكون مع عدم العلم ولما أثبتوا الصدق قالوا إن معنى الخبر الذي هو الحكم النفساني يمتنع أن يتحقق بدون العلم أو خلافه فيمتنع أن يكون كذبا
الوجه السابع والعشرون: أن يقال لا ريب أنه قد اشتهر عند العامة والخاصة اتفاق السلف، على أن القرآن كلام الله وأنهم أنكروا على من جعله مخلوقا خلقه الله كما خلق سائر المخلوقات من السماء والأرض كما يقوله الجهمية، حتى قال علي بن عاصم لرجل أتدري ما يريدون بقولهم القرآن مخلوق يريدون أن الله تعالى لا يتكلم وما الذين قالوا إن لله ولدا بأكفر من الذين قالوا إن الله لا يتكلم لأن الذين قالوا لله ولد شبهوه بالأحياء والذين قالوا لا يتكلم شبهوه بالجمادات وأنتم فلا ريب أن كلما يقول هؤلاء إنه مخلوق، لا تنازعونهم في أن الكلام الذي يقولون هو مخلوق بل تقولون أنتم أيضا إنه مخلوق، فالذي قال هؤلاء إنه مخلوق إما أن يكون مخلوقا أو لا يكون فإن لم يكن مخلوقا كنتم أنتم وهم ضالين حيث حكمتم جميعا بخلقه وإن كان مخلوقا لم يجز ذم من قال إنه مخلوق ولا عيبه بذلك ولا يقال إنه جعل كلام الله الذي ليس بمخلوق مخلوقا، ولا أنه جعل كلام الله في المخلوق ولا أنه جعل الشجرة هي القائلة إنني أنا الله، ونحو ذلك من الأقوال التي وصف بها السلف مذهب الجهمية كما قال عبد الله بن المبارك من قال إنني أنا الله لا إله إلا أنا مخلوق فهو كافر، ولا ينبغي، لمخلوق أن يقول ذلك، وقال سليمان بن داود الهاشمي: من قال إن القرآن مخلوق فهو كافر وإن كان القرآن مخلوقا كما زعموا فلم صار فرعون أولى بأن يخلد في النار إذ قال أنا ربكم الأعلى ومن يزعم أن هذا مخلوق وقول { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني } فقد ادعى ما ادعى فرعون فلم صار فرعون أولى بأن يخلد في النار، من هذا وكلامهما عنده مخلوق ووافقه أبو عبيد على مثل هذا واستحسنه وغاية ما يعاب به عندكم أنه نفى عن الله معنى آخر يثبتونه له، ذلك المعنى أكثر الناس لا يتصورونه لا المعتزلة ولا غيرهم فضلا عن أن يحكموا عليه بأنه مخلوق وذلك المعنى لا يتصور أن يقوم بالشجرة ولا غيرها، حتى تكون الشجرة هي القائلة له، والسلف لم يعيبوهم بهذا، ولا قالوا لهم ما ذكرتم أنه مخلوق فهو مخلوق، لكن ثم معنى آخر ليس بمخلوق، ولا قالوا هذا الذي قلتم إنه مخلوق هو مخلوق، لكنه ليس هو بكلام الله ولا نحو ذلك فإن كان هذا الذي قالوا هو مخلوق هو مخلوق، كما قالوا ليس هو كلام الله، وإنما كلام الله معنى آخر فلا ريب أن السلف مخطئون ضالون في هذه المسألة، فأحد الأمرين لازم إما تضليلكم المعتزلة أو تضليل السلف، والثاني ممتنع، فتعين الأول يؤيد هذا، الوجه الثامن والعشرون: وهو أن الأمة إذا اختلف في مسألة على قولين لم يكن لمن بعدهم إحداث قول ثالث، فإذا لم يكن في صدر الأمة إلا قول السلف وقول المعتزلة تعين أن يكون الحق في أحد القولين، ومن المعلوم بالشرع والعقل أن قول المعتزلة باطل للوجوه الكثيرة منها أن من تأمل كلام أهل الإجماع وما نقل عن الأنبياء بالتواتر علم بالاضطرار أنهم إذا وصفوا الله بالكلام وصفوه بأنه هو يتكلم لا أن الكلام يكون مخلوقا له كالسماء والأرض وما فيهما كما يقولون كلام الله مثل أسماء الله ويعلم بالاضطرار أن إضافة القول والكلام إلى الله ليس كإضافة الخلق إليه وأن باب قال عند الأنبياء والمؤمنين غير باب خلق، وبطلان قول المعتزلة له موضع غير هذا وإذا كان باطلا، وقولهم أيضا باطل تعين صحة مذهب السلف يؤكد هذا، الوجه التاسع والعشرون: وهو أن السلف والمعتزلة جميعا اتفقوا على أن كلام الله ليس هو مجرد هذا المعنى الذي تثبتونه أنتم بل الذي سمته المعتزلة كلام الله وقالوا إنه مخلوق وافقهم السلف على أنه كلام الله لكن قالوا إنه غير مخلوق وأنتم تقولون إنه ليس بكلام الله فكان قولكم خرقا لإجماع السلف والمعتزلة وذلك خرق لإجماع الأمة جميعها إذا لم يكن في عصر السلف إلا هذان القائلان ولم يكن في ذلك الزمان من يقول القرآن الذي قالت المعتزلة إنه مخلوق، ليس هو كلام الله .
الوجه الثلاثون: إنه لا يحل لكم أن تحكوا عن المعتزلة أنهم قالوا بخلق القرآن أو بخلق كلام الله كما يحكيه عنهم السلف وأئمة الحديث والسنة وكما يقولون هم ذلك وإن حكيتم ذلك عنهم فلا يحل لكم أن تذموهم بذلك كما ذموهم السلف به بل تمدحونهم بذلك كما يمدحون بذلك أنفسهم فلا بد لكم من مخالفة السلف والمعتزلة جميعا أو مخالفة السلف وموافقة المعتزلة، وذلك لأن الذي قالت المعتزلة إنه مخلوق فأنتم تقولون إنه مخلوق أيضا، وذلك واجب عندكم ومن قال عن ذلك إنه ليس بمخلوق فهو ضال عندكم أو كافر، ثم المعتزلة تسميه كلام الله وتقول كلام الله مخلوق، والسلف تسميه كلام الله ويقولون هو غير مخلوق، وأما أنتم فمع قولكم إنه مخلوق هل يطلق عليه كلام الله مجاز وتنفى الحقيقة كما قاله جمهوركم، أو يقال بل يسمى كلام الله على سبيل الاشتراك بينه وبين غيره، كما قاله بعضكم على قولين: فإن قلتم بالأول لزمكم أن لا تكون المعتزلة تعتقد في الحقيقة أن كلام الله مخلوق بحال، إن تلفظوا بذلك بألسنتهم فهم مخطئون في هذا اللفظ وهم بمنزلة من قال إني زنيت بأمي أو قتلت نبيا ولم يكن المزني بها أمه ولا المقتول نبيا فهو مخطئ في هذا الظن فيما يحكيه عن نفسه، لكن هذا القول يظن القائل أنه به مذموم والمعتزلة لا تذم أنفسها بذلك وإن كانت الجماعة تذمهم بذلك فنظير ذلك أن يعتقد بعض الكفار أنه قد قتل إمام المسلمين أو أخذ كتابا فمزقه يظن أنه المصحف أو قتل أقواما يظنهم علماء المسلمين وهو عند نفسه متدين بذلك ولم يكن الأمر كذلك وهكذا هم المعتزلة عندكم فإنهم قالوا في الذي اعتقدوا أنه كلام الله إنه مخلوق فقلتم أنتم لا ريب إنه مخلوق كما لا ريب في قتل أولئك النفر وتمزيق ذلك الكتاب، لكن هذا ليس كلام الله وإن اعتقدتم أنه كلام الله وأن القول بخلقه تعظيم لله كما اعتقد أولئك أن هؤلاء أئمة المسلمين وأن قتلهم عبادة لله وأن هذا المصحف هو القرآن وتمزيقه عبادة لله، وإذا كان كذلك لم يجز أن يقال إن هؤلاء قتلوا أئمة المسلمين ولا مزقوا المصحف، وإن كانوا قصدوا ذلك واعتقدوه، فكذلك لا يجوز على أصلكم أن يقال إن المعتزلة قالت إن كلام الله مخلوق وإن كانوا هم قصدوا ذلك واعتقدوه فإن الذين قالوا إنه مخلوق إن كان مجازا فلم يحكموا على ما هو كلام الله في الحقيقة بأنه مخلوق وإن كان مشتركا فهم إنما قالوا إنه مخلوق بأحد المعنيين دون الآخر، واللفظ المشترك لا يجوز إطلاقه بإرادة أحد المعنيين بل هو عند الإطلاق مجمل، فلا يقال على هذا القول بأنهم قالوا كلام الله مخلوق ولا قالوا إنه غير مخلوق، وهذا كله خلاف إجماع السلف والمعتزلة، ولم يكن قديما عندهم فهو خلاف الإجماع مطلقا، الوجه الحادي والثلاثون: إن هذا النقل عنهم إذا قيل إنه صحيح إما باعتبار وإحدى الحقيقتين أو باعتبار قصدهم فإنهم لا يذمون على القول بخلق ذلك عندكم، بل يحمدون على ذلك إذ أنتم وهم متفقون على ذلك ومن المعلوم بالاضطرار أن السلف الذين أجمع المسلمون على إمامتهم في الدين ذموهم على ذلك، فإذا أنتم ذامون للسلف الذين أجمع المسلمون على إمامتهم في الدين وأنتم عند السلف وأئمة الدين مذمومون، وأنتم بذلك من جنس الرافضة والخوارج ونحوهم ممن يقدح في سلف الأمة وأئمتها وهذا حق، فإن قول هؤلاء من فروع قول الجهمية، وقول الجهمية فيه من التنقص والسب والطعن على السلف والأئمة وعلى السنة ما ليس في قول الخوارج والروافض، فإن الخوارج يعظمون القرآن ويوجبون اتباعه وإن لم يتبعوا السنن المخالفة لظاهر القرآن وهم يقدحون في علي وعثمان ومن تولاهما وإن لم يقدحوا في أبي بكر وعمر، وأما الجهمية فإنها لا توجب بل لا تجوز اتباع القرآن في باب صفات الله كما يصرحون به، كالرازي ونحوه من المعتزلة وغيرهم فضلا عن أن يتبعوا السنن أو إجماع السلف فالجهمية أعظم قدحا في القرآن وفي السنن وفي إجماع الصحابة والتابعين من سائر أهل الأهواء، ولهذا تنازع العلماء من أصحابنا وغيرهم هل هم داخلون في الثنتين والسبعين فرقة لكن كثير من الناس يأخذون ببعض الجهم وأيضا ففيهم من لا يكفر الأمة بخلافه ولا يستحل السيف، وفيهم من قد بعدت عليهم الحجة وجهلوا أصل القول وقول الدعاة إلى الكتاب والسنة وظهور ذلك، فمن هنا كان حال فروع الجهمية قد يكون أخف من حال الخوارج وإلا فقولهم في نفسه أحنث من قول الخوارج بكثير، وإذا كان يونس بن عبيد قد قال عن المعتزلة إن فتنتهم أضر على الأمة من فتنة الأزارقة والمعتزلة جهمية ; علم أن السلف كانوا يعلمون أن الجهمية شر من الخوارج، قال الطبراني في كتب السنة: حدثنا الحسن بن علي المعمري، حدثنا محمد بن بكار العبسي حدثنا عبد العزيز الرقاشي، سمعت يونس بن عبيد يقول فتنة المعتزلة على هذه الأمة أشد من فتنة الأزارقة لأنهم يزعمون أن أصحاب رسول الله ﷺ ضلوا وأنهم لا تجوز شهادتهم بما أحدثوا، ويكذبون بالشفاعة والحوض، وينكرون عذاب القبر، أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم، وفروع الجهمية لا يقبلون شهادة أصحاب رسول الله ﷺ فيما رواه عن رسول الله ﷺ ولا يأتمرون بكتاب الله، وفيهم من هو في بعض المواضع شر من المعتزلة ولكن المعتزلة هم أصلهم في الجملة وفي هؤلاء من لا يرى التكفير والسيف كما تراه المعتزلة والرافضة وهو قول الخوارج، ولهذا كثيرا ما يكون أهل البدع مع القدرة يشبهون الكفار في استحلال قتل المؤمنين وتكفيرهم كما يفعله الخوارج والرافضة والمعتزلة والجهمية وفروعهم لكن فيهم من يقاتل بطائفة ممتنعة كالخوارج والزيدية ومنهم من يسعى في قتل المقدور عليه من مخالفيه إما بسلطانه وإما بحيلته ومع العجز يشبهون المنافقين يستعملون التقية والنفاق كحال المنافقين وذلك لأن البدع مشتقة من الكفر فإن المشركين وأهل الكتاب هم مع القدرة يحاربون المؤمنين ومع العجز ينافقونهم والمؤمن مشروع له مع القدرة أن يقيم دين الله بحسب الإمكان بالمحاربة وغيرها ومع العجز يمسك عما عجز عنه من الانتصار ويصبر على ما يصيبه من البلاء من غير منافقة، بل يشرع له من المداراة ومن التكلم بما يكره عليه ما جعل الله له فرجا ومخرجا ولهذا كان أهل السنة مع أهل البدعة بالعكس إذا قدروا عليهم لا يعتدون عليهم بالتكفير والقتل وغير ذلك، بل يستعملون معهم العدل الذي أمر الله به ورسوله، كما فعل عمر بن عبد العزيز بالحرورية والقدرية، وإذا جاهدوهم فكما جاهد علي رضي الله عنه الحرورية بعد الإعذار إقامة للحجة وعامة ما كانوا يستعملون معهم الهجران والمنع من الأمور التي تظهر بسببها بدعتهم، مثل ترك مخاطبتهم ومجالستهم لأن هذا هو الطريق إلى خمود بدعتهم، وإذا عجزوا عنهم لم ينافقوهم بل يصبرون على الحق الذي بعث الله به نبيه كما كان سلف المؤمنين يفعلون وكما أمرهم الله في كتابه حيث أمرهم بالصبر على الحق وأمرهم أن لا يحملهم شنآن قوم على أن لا يعدلوا .
الوجه الثاني والثلاثون: إن هذا المعنى القائم بالذات الذي زعموا أنه كلام الله وخالفوا في إثباته جميع فرق الإسلام كما يقرون هم على أنفسهم بذلك كما ذكره الرازي وغيرهم من أن إثباتهم لهذا يخالفهم فيه سائر فرق الأمة قد قال أكثرهم هو معنى واحد، وقال بعضهم هو خمسة معان: أمر ونهي وخبر واستخبار ونداء، فالأولون يقولون ذلك لمعنى هو معنى كل أمر، أمر الله به سواء كان أمر تكوين كقوله للمخلوق كن فيكون، أو كان أمر تشريع، كأمره في التوراة والإنجيل والقرآن، وغير ذلك مما جاءت به الرسل، وهو معنى كل نهي نهى الله عنه وكل خبر أخبر الله به، والآخرون يقولون الأمر الواحد هو الأمر بالصلاة والزكاة والحج والصوم، والسبت الذي لليهود هو الأمر المنسوخ وبالناسخ وبالأقوال والأفعال والأصول والفروع وبالعربية وبالعبرانية ة وغير ذلك، وكذلك قولهم في النهي، وكذلك قولهم في الخبر هو معنى واحد هو معنى ما أخبر الله به من صفاته كآية الكرسي وسورة الإخلاص وما أخبر به من قصص الأنبياء والمؤمنين والكفار وصفة الجنة والنار، ومن المعلوم أن مجرد تصور هذا القول يوجب العلم الضروري بفساده كما اتفق على ذلك سائر العقلاء فإن أظهر المعارف للمخلوق أن الأمر ليس هو الخبر وأن الأمر بالسبت ليس هو الأمر بالحج وأن الخبر عن الله ليس هو الخبر عن الشيطان الرجيم، فمن جعل هذه الأمور كلها حقيقة واحدة وجعل الأمر والنهي إنما هي صفات عارضة لتلك الحقيقة العينية لم يجعل ذلك أقساما للكلام الكلي الذي لا يوجد في الخارج كليا، إذ ليس في الخارج كلام هو أمر بالحج وهو بعينه خبر عن جهنم كما ليس في الخارج إنسان هو بعينه فضيل وإن شملهما اسم الحيوان كما شمل ذينك اسم الكلام فمن جعل الحقائق المتنوعة شيئا واحدا فهو يشبه من جعل المكانين مكانا واحدا حتى جعل الجسم الواحد يكون في مكانين، ويقول إنما هما مكان واحد أو لا يجعل الواحد نصف الاثنين، أو يقول الاثنان هما واحد، فإن هذا كله من هذا النمط، وهو رفع التعدد في الأشياء المتعددة وجعلها شيئا واحدا في الوجود الخارجي بالعين لا بالنوع، وهؤلاء ينكرون على من يقول إن الكلام الذي تكلم الله به هو الذي يقرؤه العباد والقرآن الذي يقرؤه زيد هو القرآن الذي يقرؤه عمرو، ويقولون بل هما حقيقتان متباينتان، ومن المعلوم أن هناك قدر مشترك متحد بالعين في الوجود الخارجي وبينهما من الاتحاد الشرعي واتباع أحدهما للآخر ما ليس بين هذه الحقائق البعيدة من الاشتراك إلا في الجنس العام الذي لا وجود له في الخارج عاما فضلا عن أن يكون واحدا بالعين، وما هناك من التعدد فأحدهما تابع للآخر فهما متحدان من وجه متغايران من وجه، ولا ينكرون على أنفسهم اتحاد الحقائق المتنوعة، وهو قول يعلم فساده بالضرورة كل عاقل ولم يوافق على إطلاق القول بذلك أحد، وهناك اتفق الخلائق على أن يشيروا إلى ما يسمعونه من المبلغين ويقولون هذا كلام المبلغ عنه، فهذا المتفق عليه بين العباد الذي تطمئن إليه القلوب وجاءت بإطلاقه النصوص أنكروه، وذاك الذي ابتدعوه فلم يطلقه نص ولا قاله إمام ولا تصوره أحد إلا علم فساده بالبديهة قالوه وجعلوه هو أصل الدين .
الوجه السادس والأربعون: أن يقال لك قياسك الوحدة التي أثبتها للكلام على الوحدة التي أثبتها للمتكلم قياس للشيء على ضده لا على نظيره وذلك أنك جعلت الكلام معنى واحدا وهذا المعنى الواحد هو حقائق مختلفة هو الأمر والنهي والخبر والاستخبار لم تقل أن الأمر والنهي والخبر والاستخبار صفات قائمة بالكلام كالصفات القائمة بالمتكلم ولا يمكنك أن تقول ذلك لأن الصفة لا تقوم بالصفة بل هما جميعا يقومان بالموصوف فلو قلت ذلك لكان الأمر والنهي والخبر صفات مختلفة قائمة بالله وذلك الذي فررت منه ولكن هذا يناسب قول من قال الكلام صفات والرب الواحد لم تقل أنه في نفسه شيئان بل قلت إنه ليس بذي أبعاض ولا أجزاء فكان نظير هذا أن نقول الكلام ليس بذي أبعاض ولا أجزاء وليس هو مع ذلك حقائق مختلفة فليس هو في نفسه أمرا ولا خبرا ولا استخبارا كما تقول مثل ذلك الموصوف ولعل هذا هو الذي لحظه ابن كلاب إذ كان أقدم وأحذق من الأشعري حيث لم يصف الكلام في الأزل بأنه أمر ونهي وخبر واستخبار وجعل ذلك أمورا نسبية تعرض له وهذا أقرب إلى المعقول وطرد أصولهم في قول الأشعري فإن هذا باطل فإما أن يكون الموصوف عندك واحدا بمعنى أن ليس بذي أبعاض وليس هو عندك حقائق مختلفة بل موصوفا بصفات ثم يقول الكلام هو معنى واحد ليس بذي أبعاض وهو حقائق مختلفة أمر ونهي وتقول هو في ذلك مثل الموصوف فهذا من فساد القياس والتلبيس على الناس . الوجه الرابع والستون: إنهم لم يذكروا في الجواب عما أخبر الله به عن نفسه من أن له كلمات ما له حقيقة فإنهم يقولون ليس لله كلام إلا معنى واحد لا يجوز عليه التعدد، والله سبحانه قد أخبر أن له كلمات وأن البحار لو كانت مدادها والأشجار أقلامها لما نفدت تلك الكلمات، وهذا صريح بأن لها من التعداد ما لا يأتي عليه إحصاء العباد، فكيف يقال ليس له كلمتان فصاعدا، وأما قولهم التكثير للتفخيم كقوله { إنا نحن نزلنا الذكر }، فيقال لهم هذا إنما يستعمل في المواضع التي تصرح بأن المعنى بذلك اللفظ هو واحد والله سبحانه قد بين في غير موضع أنه واحد فإذا قال: { إنا نحن نزلنا الذكر }، { إنا فتحنا } وقد علم المخاطبون أنه واحد، علم أن ذلك لم يقتض أن ثم آلهة متعددة لكن قال بعض الناس صيغة الجمع في مثل هذا دلت على كثرة معاني أسمائه وهذا مناسب وأما الكلام فلم يذكر الله قط ولا قال أحد من المسلمين قبل ابن كلاب أن كلام الله ليس إلا معنى واحدا ولا خطر هذا بقلب أحد، فكيف يقال إنه أراد بصيغة الجمع الواحد ولهذا لا يكاد يوجد هذا في صيغة التكلم في حق الله أو صيغة المخاطبة له كما قد قيل في قوله: { رب ارجعون } وأما تمثيلهم ذلك بقوله: { إن إبراهيم كان أمة } أي مثل أمة فليس كذلك بل الأمة كما فسره عبد الله بن مسعود وغيره هو معلم الخير وهو القدوة الذي يؤتم به أي يقتدى به، فأمة من الائتمام كقدوة من الاقتداء، وليس هو مستعارا من الأمة الذين هم جيل، وكذلك قوله: { ونضع الموازين القسط } وإنما هو ميزان واحد ليس كذلك بل الجمع مراد من هذا اللفظ إما لتعدد الآلات التي توزن بها أو لتعدد الأوزان وأما ما ذكروه من كثرته لكثرة المعاني التي دلت عليها العبارات عنه فهذا حق لكن إذا كانت العبارات دلت على معان كثيرة علم أن معاني العبارات لكلام الله كثيرة ليس هو معنى واحدا وهو المطلوب، الوجه الخامس والستون: إن القرآن صرح بإرادة العدد من لفظ الكلمات وبإرادة الواحد من لفظ كلمة كما في قوله تعالى: { ولولا كلمة سبقت من ربك } وقال: { قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا } وقال: { ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله } فبين أنها إذا كتبت بمياه البحر وأقلام الأشجار لا تنفد والنفاد الفراغ فعلم أنه يكتب بعضها ويبقى منها ما لم يكتب، وهذا صريح في أنها من الكثرة إلى أن يكتب منها ما يكتب ويبقى ما يبقى فكيف يكون إنما أراد بلفظ الكلمات كلمة واحدة لا سيما ولفظ الشجر يعم كل ما قام على ساق صلب أو غير صلب كما قال النبي ﷺ: { في الضالة ترد الماء وترعى الشجر حتى يلقاها ربها }، الوجه السادس والستون: إنه قد ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن أبي عروبة وأبان العطار عن قتادة عن معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء عن النبي ﷺ أنه قال: { إن الله جزأ القرآن ثلاثة أجزاء فجعل قل هو الله أحد جزءا من أجزاء القرآن }، فهذه التجزئة إما أن تعود إلى لفظ القرآن وإما أن تعود إلى معناه، والأول باطل لأن حروف { قل هو الله أحد } ليست بقدر حروف ثلث القرآن بل هي أقل من عشر عشر العشر بكثير، فعلم أنه أراد بالتجزئة المعنى، وذلك يقتضي أن معنى حروف القرآن متجزئة وهم قد قالوا إن كلام الله واحد لا يتجزأ ولا يتبعض ولا يتغاير ولا يختلف، ولو قيل إن التجزئة للحروف لكن لا يشترط فيها تماثل قدر الحروف بل يكون بالنظر إلى المعنى لكان ذلك حجة أيضا، فإنه إذا كان التجزئة باعتبار المعنى علم أن المعنى الذي دلت عليه هذه الحروف ليس هو معاني بقية القرآن، وروى الترمذي وغيره عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن امرأة أبي أيوب عن أبي أيوب قال قال رسول الله ﷺ: { أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن، من قرأ { قل هو الله أحد الله الصمد } فقد قرأ ثلث القرآن }، قال الترمذي هذا حديث حسن فقد أخبر أنها ثلث القرآن، فإن قيل: الحديث المتقدم قد رواه مسلم أيضا بلفظ آخر أنه { قال أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن قالوا وكيف نقرأ ثلث القرآن قال: { قل هو الله أحد } تعدل ثلث القرآن }، فقوله تعدل ثلث القرآن يبين أنها في نفسها ليست ثلثه ولكن تعدل ثلثه أي في الثواب، قلنا: لا منافاة بين اللفظين فإنها ثلثه باعتبار المعنى وهي تعدل ثلثه باعتبار الحروف أو هي بلفظها ومعناها ثلثه فتعدل ثلثه لأن ذلك اللفظ صريح في معناه وحيث قال { جزئ القرآن ثلاثة أجزاء فجعل { قل هو الله أحد } جزءا من تلك الأجزاء } فأخبر أن القرآن تجزأ ثلاثة أجزاء وإنما هي جزء من تلك الأجزاء، وهذا لا يصلح أن يراد به مجرد الثواب دون السورة، ولهذا كان النبي ﷺ يجمع بين اللفظين كما في الحديث الذي رواه أبو حازم عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ: { احشدوا فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن فحشد من حشد ثم خرج نبي الله ﷺ فقرأ { قل هو الله أحد } ثم دخل فقال بعضنا لبعض قال رسول الله ﷺ سأقرأ عليكم وإني لأرى هذا خبرا جاءه من السماء ثم خرج نبي الله ﷺ فقال إني قلت سأقرأ عليكم ثلث القرآن ألا وإنها تعدل ثلث القرآن }، قال الترمذي حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، والذي يبين أن قوله تعدل يدخل فيه حروفها ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري عن قتادة بن النعمان { أن رجلا قام في زمن النبي ﷺ يقرأ من السحر قل هو الله أحد لا يزيد عليها فلما أصبح أتى النبي ﷺ فذكر ذلك له وكان الرجل يتقالها فقال النبي: والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن }، وهذا أيضا من حديث أبي سعيد رواه البخاري من حديث أبي سعيد نفسه وكذلك رواه أبو داود والنسائي .
الوجه السادس والثلاثون: أن يقال إما أن تكون أقمت دليلا على كونه قديما واحدا ليس بمتغاير ولا مختلف أو لم تقم فإن لم تقم بطل ذلك وإن أقمت دليلا فلا ريب أنه نظري إذ ليس من الأمور البديهية الضرورية والعلم بأن الواحد الذي ليس فيه تغاير ولا اختلاف لا يكون حقائق مختلفة ولا موصوفا بأوصاف مختلفة أو متضادة هو من العلوم البديهية الضرورية، والضروري لا يعارضه النظري لأن الضروري أصله، فالقدح فيه قدح في أصله وبطلان أصله يوجب بطلانه في نفسه، فعلم أن معارضة الضروري بالنظري يوجب بطلان النظري، وإذا بطل النظري المعارض لهذا الضروري لم يكن ألبتة دليلا صحيحا وهو المطلوب .
الوجه الخامس والسبعون: إنه يقال هب أنه أمكن أن يكون الكلام معنى واحدا كما قلتم إنه يمكن أن يكون العلم واحدا، فما الدليل على أنه ليس لله كلام إلا معنى واحدا وما الدليل على أنه يمتنع أن يكون كلامه إلا معنى واحدا وقد اعترفوا بأنه لا دليل على ذلك كما قال الرازي بعد أن بين أنه إما ممتنع أو متوقف في إمكانه فقال وأما الذي يدل على أن الأمر كذلك فلا يمكن أن يعول فيه على الإجماع للحكاية التي ذكرها أبو إسحاق الإسفراييني ولم نجد لهم نصا ولا يمكن أن يقال فيه دلالة عقلية فبقيت المسألة بلا دليل، الوجه السادس والسبعون: أن الجهمية كثيرا ما يزعمون أن أهل الإثبات يضاهون النصارى، وهذا يقولونه تارة لإثباتهم الصفات وتارة لقولهم إن كلام الله أنزله وهو في القلوب والمصاحف، والجهمية هم المضاهئون للنصارى فيما كفرهم الله به لا أهل الإثبات الذين ثبتهم الله بالقول الثابت، فأما الوجه الأول في إثبات الصفات فليس هذا موضعه وإنما الغرض الوجه الثاني الذي يختص بالكلام فإنهم تارة يقولون إذا قلتم أن كلام الله غير مخلوق فهو نظير قول النصارى أن المسيح كلمة الله وهو غير مخلوق وتارة يقولون إذا قلتم إن كلام الله في الصدور والمصاحف فقد قلتم بقول النصارى الذين يقولون إن الكلمة حلت في المسيح وتدرعته وهذا الوجه الذي يقوله من يزعم أن كلام الله ليس إلا معنى في النفس ومن يزعم أن الله لم ينزل إلى الأرض كلاما له في الحقيقة والغرض هنا الكلام على هؤلاء فيقال لهم: أما أنتم فضاهيتم النصارى في نفس ما هو ضلال مما خالفوه في صريح العقل وكفرهم الله بذلك بخلاف أهل الإثبات وذلك يتبين بما ذمه الله تعالى من مذهب النصارى فإنه سبحانه قال: { وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون } وهذا المعنى وهو جعلهم ولدا لله وتنزيه الله نفسه عن ذلك مذكور في مواضع من القرآن كما ذكر قصة مريم، ثم قال في آخرها: { ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون، ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون }، وقال: { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا، لقد جئتم شيئا إدا، تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا، أن دعوا للرحمن ولدا، وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا، إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا، لقد أحصاهم وعدهم عدا، وكلهم آتيه يوم القيامة فردا }، وقال في موضع آخر: { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا } الآية، فقال تعالى: { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم }، الآيات، وقال تعالى: { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسوله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون } الآية، فقد ذكر كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة في آية ونهى أهل الكتاب عن ذلك في آية أخرى فهذان موضعان ذكر فيهما التثليث عنهم وفي موضعين ذكر كفرهم بقولهم إن الله هو المسيح ابن مريم وأما ذكر الولد عنهم فكثير، واعلم أن من الناس من يزعم أن هذه الأقوال الثلاثة التي ذكرها الله عن النصارى هي قول الأصناف الثلاثة اليعقوبية وهم شرهم وهم السودان من الحبشة، والقبط ثم الملكانية وهم أهل الشمال من الشام والروم ثم النسطورية وهم نشئوا في دولة المسلمين، من زمن المأمون وهم قليل فإن اليعقوبية تزعم أن اللاهوت والناسوت اتحدا وامتزجا كامتزاج الماء واللبن والخمر فهما جوهر واحد وأقنوم واحد وطبيعة واحدة فصار عين الناسوت عين اللاهوت وأن المطلوب هو عين اللاهوت، والملكانية تزعم أنهما صارا جوهرا واحدا له أقنومان وقيل أقنوم واحد له جوهران والنسطورية يقولون هما جوهران أقنومان وإنما اتحدا في المشيئة وهذان قول من يقول بالاتحاد، وأما القول بالحلول فمن المتكلمين كأبي المعالي من يذكر الخلاف في فرقهم الثلاث منهم من يقول بالاتحاد بالمسيح ومنهم من يقول بالحلول فيه فيقول هؤلاء من الطوائف الثلاثة ومنهم من يقول بالحلول وأن اللاهوت حل في الناسوت وقالوا هذا قول الأكثر منهم فهما جوهران وطبيعتان وأقنومان كالجسد والروح وأما من فسر ذلك بظهور اللاهوت في الناسوت فهذا ليس من هؤلاء . وأما كونه يرى أو لا يرى أو يتكلم أو لا يتكلم، فهذا عندهم ليس في الظهور بمنزلة ذاك، فوافقتم الجهمية المعتزلة وغيرهم على ما هو أبعد من العقل والدين مما خالفتموهم فيه، ومعلوم اتفاق سلف الأمة وأئمتها على تضليل الجهمية من المعتزلة وغيرهم، بل قد كفروهم وقالوا فيهم ما لم يقولوه في أحد من أهل الأهواء، أخرجوهم عن الاثنين وسبعين فرقة وقالوا: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية، فكنتم فيما وافقتم فيه الجهمية من المعتزلة وغيرهم وما خالفتموهم فيه كمن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض، ولكن هو إلى الكفر أقرب منه إلى الإيمان، وأوجب ذلك فسادين عظيمين: أحدهما: تسلط المعتزلة ونحوهم عليكم، فإنكم لما وافقتموهم على هذا التعطيل بقي بعد ذلك إثباتكم للرؤية ولكون القرآن غير مخلوق قولا باطلا في العقل عند جمهور العقلاء، وانفردتم من جميع طوائف الأمة بما ابتدعتموه في مسألة الكلام والرؤية، وقويت المعتزلة بذلك عليكم وعلى أهل السنة، وإن كنتم قد رددتم على المعتزلة حتى قيل: إن الأشعري حجرهم في قمع السمسمة فهذا أيضا صحيح بما أبداه من تناقض أصولهم، فإنه كان خبيرا بمذاهبهم، إذ كان من تلامذة أبي علي الجبائي، وقرأ عليه أصول المعتزلة أربعين سنة، ثم لما انتقل إلى طريقة أبي محمد عبد الله بن مسعود بن كلاب وهي أقرب إلى السنة من طريقة المعتزلة فإنه يثبت الصفات والعلو ومباينة الله للمخلوقات، ويجعل العلو يثبت بالعقل، فكان الأشعري لخبرته بأصول المعتزلة أظهر من تناقضها وفسادها ما قمع به المعتزلة، وبما أظهره من تناقض المعتزلة والرافضة والفلاسفة ونحوهم، صار له من الحرمة والقدر ما صار له، فإن الله لا يظلم مثقال ذرة، وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما، لكن الأشعري قصر عن طريقة ابن كلاب، وأنتم خالفتم ابن كلاب والأشعري فنفيتم الصفات الخبرية، ونفيتم العلو وخياركم يجعله من الصفات السمعية، مع أن ابن كلاب كان مبتدعا عند السلف بما قاله في مسألة القرآن ؟ وفي إنكار الصفات الفعلية القائمة بذات الله، ثم إن المعتزلة وإن انقمعوا من هذا الوجه فإنهم طمعوا وقووا من وجه آخر بموافقتكم لهم على أصول النفي والتعطيل، فصار ذلك معزيا لفضلائهم بلزوم مذهبهم، فإن كل من فهم مذهبكم الذي خالفتم فيه المعتزلة على أن ما ذكرتموه قول فاسد أيضا، وإن كان قول المعتزلة فاسدا ونشأ الفساد، الثاني: وهو أن الفضلاء إذا تدبروا حقيقة قولكم الذي أظهرتم فيه خلاف المعتزلة وجدوكم قريبين منهم أو موافقين لهم في المعنى كما في مسألة الرؤية فإنكم تتظاهرون بإثبات الرؤية والرد على المعتزلة ثم تفسرونها بما لا ينازع المعتزلة في بيانه، ولهذا قال من قال من الفضلاء في الأشعري: إن قوله قول المعتزلة ولكنه عدل عن التصريح إلى التمويه، وكذلك قولكم في مسألة القرآن فإنه لما اشتهر عند الخاص والعام أن مذهب السلف والأئمة أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأنهم أنكروا على الجهمية المعتزلة وغيرهم الذين قالوا إنه مخلوق حتى كفروهم، وصبر الأئمة على امتحان الجهمية مدة استيلائهم حتى نصر الله أهل السنة وأطفأ الفتنة فتظاهرتم بالرد على المعتزلة، وموافقة السنة والجماعة، وانتسبتم إلى أئمة السنة في ذلك، وعند التحقيق: فأنتم موافقون للمعتزلة من وجه، ومخالفوهم من وجه، وما اختلفتم فيه أنتم وهم، فأنتم أقرب إلى السنة من وجه، وهم أقرب إلى السنة من وجه، وقولهم أفسد في العقل والدين من وجه، وقولكم أفسد في العقل والدين من وجه، ذلك أن المعتزلة قالوا: إن كلام الله مخلوق منفصل عنه، والمتكلم من فعل الكلام وقالوا: إن الكلام هو الحروف والأصوات، والقرآن الذي نزل به جبريل هو كلام الله وقالوا: الكلام ينقسم إلى أمر ونهي وخبر وهذه أنواع الكلام لا صفاته، والقرآن غير التوراة، والتوراة غير الإنجيل وأن الله سبحانه يتكلم بما شاء، وقلتم أنتم: إن الكلام معنى واحد قديم قائم بذات المتكلم هو الأمر والنهي والخبر وهذه صفات الكلام لا أنواعه، فإن عبر عن ذلك المعنى بالعبرية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا، وإن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، والحروف المؤلفة ليست من الكلام، ولا هي كلام، والكلام الذي نزل به جبريل من الله ليس كلام الله بل حكاية عن كلام الله، كما قاله ابن كلاب، أو عبارة عن كلام الله كما قاله الأشعري، ولا ريب أنكم خير من المعتزلة حيث جعلتم المتكلم من قام به الكلام وإن لم يقم به الكلام لا يكون متكلما به كما أن من لم يقم به العلم والقدرة والحياة لا يكون عالما به، ولا قادرا بها، ولا حيا بها، وأنه لو كان الكلام مخلوقا في جسم من الأجسام لكان ذلك الجسم هو المتكلم به، فكانت الشجرة هي القائلة لموسى { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري } فهذا مذهب سلف الأمة وأئمتها، ومن قال: إن المتكلم من فعل الكلام لزمه أن يكون كل كلام خلقه الله في محل كلاما له فيكون إنطاقه للجلود كلاما له بل يكون إنطاقه لكل ناطق كلاما له، وإلى هذا ذهب الاتحادية من الجهمية الحلولية الذين يقولون إن وجوده عين الموجودات، فيقول قائلهم: وكل كلام في الوجود كلامه، سواء علينا نثره ونظمه، لكن المعتزلة أجود منكم حيث سموا هذا القرآن الذي نزل به جبريل كلام الله، كما يقوله سائر المسلمين، وأنتم جعلتموه كلاما مجازا ; ومن جعله منكم حقيقة وجعل الكلام مشتركا كأبي المعالي وأتباعه انتقضت قاعدته في أن المتكلم بالكلام من قام به، ولم يمكنكم أن تقولوا بقول أهل السنة ; فإن أهل السنة يقولون: الكلام كلام من قاله مبتدئا لا كلام من قاله مبلغا مؤديا ; فالرجل إذا بلغ قول رسول الله ﷺ: { إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى } كان قد بلغ كلام النبي ﷺ بحركاته وأصواته ; وكذلك إذا أنشد شعر شاعر كامرئ القيس أو غيره، فإذا قال: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل كان هذا الشعر شعر امرئ القيس، وإن كان هذا قد قاله بحركاته وأصواته، وهذا أمر مستقر في فطر الناس كلهم، يعلمون أن الكلام كلام من تكلم به مبتدئا آمرا بأمره ومخبرا بخبره ومؤلفا حروفه ومعانيه، وغيره إذا بلغه عنه علم الناس أن هذا كلام للمبلغ عنه لا للمبلغ، وهم يفرقون بين أن يقوله المتكلم به والمبلغ عنه، وبين سماعه من الأول وسماعه من الثاني ; ولهذا كان من المستقر عند المسلمين أن القرآن الذي يسمعونه هو كلام الله كما قال الله تعالى: { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } مع علمهم بأن القارئ يقرؤه بصوته ; كما قال النبي ﷺ: { زينوا القرآن بأصواتكم } ; فالكلام كلام الباري، والصوت صوت القارئ، وإن كان من المعتزلة من يجعل كلام الثاني حكاية لكلام الأول، وينازع المعتزلة في الحكاية: هل هي المحكي كما يقول الجبائي، أو غيره كما يقول ابنه ؟ على قولين، والتحقيق: أن الحاكي لكلام غيره ليس هو المبلغ له، فإن الحاكي له بمنزلة المتمثل به الذي يقوله لنفسه موافقا لقائله الأول، بخلاف المبلغ له الذي يقصد أن يبلغ كلام الغير، وللنية تأثير في مثل هذا، فإن من قال: { الحمد لله رب العالمين } بقصد القراءة لم يكن له ذلك مع الجنابة بخلاف من قالها بقصد ذكر الله، وهذا قد بسطناه في غير هذا الموضع، والمقصود أنكم لم يمكنكم أن تقولوا ما يقوله المسلمون لأن حروف القرآن ونظمه ليس هو عندكم كلام الله، بل ذلك عندكم مخلوق: إما في الهواء وإما في نفس، جبريل وأما في غير ذلك ; فاتفقتم أنتم والمعتزلة على أن حروف القرآن ونظمه مخلوق، لكن قالوا هم: ذلك كلام الله، وقلتم أنتم: ليس كلام الله ; ومن قال منكم إنه كلام الله انقطعت حجته على المعتزلة، فصارت المعتزلة خيرا منكم في هذا الموضع ; وهذه الحروف والنظم الذي يقرؤه الناس هو حكاية تلك الحروف والنظم المخلوق عندكم كما يقوله المعتزلة وهي عبارة عن المعنى القائم بالذات، ولهذا كان ابن كلاب يقول: إن هذا القرآن حكاية عن المعنى القديم، فخالفه الأشعري لأن الحكاية تشبه المحكي، وهذا حروف، وذلك معنى، وقال الأشعري: بل هذا عبارة عن ذلك، لأن العبارة لا تشبه المعبر عنه، وكلا القولين خطأ، فإن القرآن الذي نقرؤه فيه حروف مؤلفة، وفيه معان ; فنحن نتكلم بالحروف بألسنتنا، ونعقل المعاني بقلوبنا، ونسبة المعاني القائمة بقلوبنا إلى المعنى القائم بذات الله كنسبة الحروف التي ننطق بها إلى الحروف المخلوقة عندكم، فإن قلتم: إن هذا حكاية عن كلام الله، لم يصح، لأن كلام الله معنى مجرد عندكم وهذا فيه حروف ومعان، وإن قلتم: إنه عبارة لم يصح لأن العبارة هي اللفظ الذي يعبر به عن المعنى، وهنا حروف ومعان يعبر بها عن المعنى القديم عندكم، وإن قلتم: هذه الحروف وحدها عبارة عن المعنى بقيت المعاني القائمة بقلوبنا، وبقيت الحروف التي عبر بها أولا عن المعنى القائم بالذات التي هذه الحروف المنظومة نظيرها عندكم، لم تدخلوها في كلام الله، فالمعتزلة في قولها بالحكاية أسعد منكم في قولكم بالحكاية وبالعبارة، وأصل هذا الخطإ أن المعتزلة قالوا: إن القرآن، بل كل كلام، هو مجرد الحروف والأصوات ; وقلتم أنتم: بل هو مجرد المعاني، ومن المعلوم عند الأمم أن الكلام اسم للحروف وللمعاني، وللفظ والمعنى جميعا ; كما أن اسم الإنسان اسم للروح والجسد، وإن سمي المعنى وحده حديثا أو كلاما، أو الحروف وحدها حروفا أو كلاما فعند التقييد والقرينة، وهذا مما استطالت المعتزلة عليكم به حيث أخرجتم الحروف المؤلفة عن أن تكون من الكلام، فإن هذا مما أنكره عليكم الخاص والعام: وقد قال النبي ﷺ: { إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به } قال له معاذ: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ قال: { ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم } ؟ وشواهد هذا كثيرة، ثم إنكم جعلتم معاني القرآن معنى واحدا مفردا وهو الأمر بكل ما أمر الله به، والخبر عن كل ما أخبر الله به ; وهذا مما اشتد إنكار العقلاء عليكم فيه، وقالوا إن هذا من السفسطة المخالفة لصرائح المعقول، وأنتم تنكرون على من يقول: إن الله يتكلم بحروف وأصوات قديمة أزلية ومعلوم أن ما قلتموه أبعد عن العقل والشرع من هذا ; وإن كان العقلاء قد أنكروا هذا أيضا، لكن قولكم أشد نكرة ; بل قولكم أبعد من قول النصارى الذين يقولون باسم الأب والابن وروح القدس إله واحد، ثم أعجب من هذا أنكم تقولون: إن عبر عنه بالعربية كان هو القرآن، وبالعبرية كان هو التوراة، وبالسريانية كان هو الإنجيل ; ومن المعلوم بالاضطرار لكل عاقل أن التوراة إذا عربت لم تكن معانيها معاني القرآن، وإن القرآن إذا ترجم بالعبرية لم تكن معانيه معاني التوراة، ثم إن منكم من جعل ذلك المعنى يسمع ; ومنكم من قال لا يسمع، وجعلتم تكليم الله لموسى من جنس الإلهام الذي يلهم غيره حيث قلتم: خلق في نفسه لطيفة أدرك بها الكلام القائم بالذات ; وقد قال تعالى: { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما } ففرق سبحانه بين إيحائه إلى غير موسى، وبين تكليمه لموسى، وقال تعالى: { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء } ففرق بين إيحائه - سبحانه - وبين تكليمه من وراء حجاب
.
والأحاديث متواترة عن رسول الله ﷺ بتخصيص موسى بتكليم الله إياه دون إبراهيم وعيسى ونحوهما ; وعلى قولكم: لا فرق، بل قد زعم من زعم من أئمتكم أن الواحد من غير الأنبياء يسمع كلام الله كما سمعه موسى بن عمران، فمن حصل له إلهام في قلبه جعلتموه قد كلمه الله كما كلم موسى بن عمران، ومعلوم أن المعتزلة لم يصلوا في الإلحاد إلى هذا الحد، بل من قال: إن الله خص موسى بأن خلق كلاما في الهواء سمعه، كان أقل بدعة ممن زعم أنه لم يكلمه إلا بأن أفهمه معنى أراده، بل هذا قريب إلى قول المتفلسفة الذين يقولون: ليس لله كلام إلا ما في النفوس، وأنه كلم موسى من سماء عقله، لكن يفارقونها بإثبات المعنى القديم القائم بذات الله أيضا، فجعلتم ثبوت القرآن في المصاحف مثل ثبوت الله فيها، وقلتم: قوله تعالى: { إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون } بمنزلة قوله تعالى: { الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل }، ومعلوم أن المذكور في التوراة هو اسمه، وأن الله إنما يكتب في المصحف اسمه فأسماؤه بمنزلة كلامه، لا أن ذاته بمنزلة كلامه، والشيء لوجوده أربعة مراتب: وجود في الأعيان، ووجود في الأذهان، ووجود في اللسان، ووجود في البنان، فالأعيان لها المرتبة الأولى، ثم يعلم بالقلوب، ثم يعبر عنه باللفظ ثم يكتب اللفظ ; وأما الكلام فله المرتبة الثالثة، وهو الذي يكتب في المصحف، فأين قول القائل: إن الكلام في الكتاب من قوله إن المتكلم في الكتاب، وبينهما من الفرق أعظم مما بين القدم والفرق ثم إن منكم من احتج بقوله تعالى: { إنه لقول رسول كريم }، وجعل المراد بذلك العبارة، وهذا مع أنه متناقض فهو أفسد من قول المعتزلة، فإنه إن كان أضيف إلى رسول الله ﷺ لأنه أحدث حروفه، فقد أضافه في موضع إلى رسول هو جبريل، وفي موضع إلى رسول هو محمد، قال في موضع: { إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين } وقال في موضع: { إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون }، ومعلوم أن عبارتها إن أحدثها جبريل لم يكن محمد أحدثها، وإن أحدثها محمد لم يكن جبريل أحدثها ; فبطل قولكم وعلم أنه إنما أضافه إلى الرسول لكونه بلغه وأداه لا لأنه أحدثه وابتدأه، ولهذا قال لقول رسول، ولم يقل لقول ملك ولا نبي، فذكر اسم الرسول المشعر بأنه مبلغ عن غيره كما قال تعالى: { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك }، { وكان النبي ﷺ يعرض نفسه على الناس بالموسم، ويقول: ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي، فإن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي }، ومعلوم أن المعتزلة لا تقول إن شيئا من القرآن أحدثه لا جبريل ولا محمد، ولكن يقولون إن تلاوتهما له كتلاوتنا له ; وإن قلتم أضافه إلى أحدهما لكونه تلاه بحركاته وأصواته، فيجب حينئذ أن يقول إن القرآن قول من تكلم به من مسلم وكافر، وطاهر وجنب، حتى إذا قرأه الكافر يكون القرآن قولا له على قولكم ; فقوله بعد هذا: { إنه لقول رسول كريم } كلام لا فائدة فيه، إذ هو على أصلكم قول رسول كريم وقول فاجر لئيم، وكذلك احتج المعتزلة بقوله تعالى: { ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث } وقالوا إن الله أحدثه في الهواء، فاحتج من احتج منكم على أن القرآن المنزل محدث، ولكن زاد على الفلاسفة بأن المحدث له إما جبريل وإما محمد، وإن قلتم: إنه محدث في الهواء صرتم كالمعتزلة ونقضتم استدلالكم بقوله: { إنه لقول رسول كريم }، وقد استدل من استدل من أئمتكم على قولكم بهاتين الآيتين بقوله: ( إنه لقول رسول كريم }، وقوله: { ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث } فإن أراد بذلك أن الله أحدثه بطل استدلاله بقوله: { لقول رسول كريم }، فإن أراد بذلك أن الرسول أحدثه بطل بإضافته إلى الرسول الآخر، وكنتم شرا من المعتزلة الذين قالوا: أحدثه الله، وإن قلتم: أراد بذلك أن من تلاه فقد أحدثه فقد جعلتموه قولا لكل من تكلم به من الناس برهم وفاجرهم، وكان ما يقرؤه المسلمون ويسمعونه كلام الناس عندكم لا كلام الله، ثم إن الله تعالى قال: { وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون قل نزله روح القدس من ربك بالحق }، فأخبر أن جبريل نزله من الله لا من هواء ولا من لوح، وقال: { والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق }، وقال: { تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم }، { حم تنزيل من الرحمن الرحيم }، وأنتم وافقتم المعتزلة بحيث يمتنع أن يكون عندكم منزلا من الله لأنه ليس فوق العالم، ولو كان فوق العالم لم يكن القرآن منزلا منه بل من الهواء، وأيضا فأنتم في مسائل الأسماء والأحكام قابلتم المعتزلة تقابل التضاد حتى رددتم بدعتهم ببدع تكاد أن تكون مثلها، بل هي من وجه منها ومن وجه دونها، فإن المعتزلة جعلوا الإيمان اسما متناولا لجميع الطاعات القول والعمل، ومعلوم أن هذا قول السلف والأئمة، وقالوا: إن الفاسق الملي لا يسمى مؤمنا ولا كافرا، وقالوا: إن الفساق مخلدون في النار لا يخرجون منها بشفاعة ولا غيره، وهم في هذا القول مخالفون للسلف والأئمة، فخلافهم في الحكم للسلف، وأنتم وافقتم الجهمية في الإرجاء والجبر فقلتم: الإيمان مجرد تصديق القلب، وإن لم يتكلم بلسانه، وهذا عند السلف والأئمة شر من قول المعتزلة، ثم إنكم قلتم: إنا لا نعلم هل يدخل أحد منهم النار أو لا يدخلها أحد منهم فوقفتم وشككتم في نفوذ الوعيد في أهل القبلة جملة، ومعلوم أن هذا من أعظم البدع عند السلف والأئمة، فإنهم لا يتنازعون أنه لا بد أن يدخلها من يدخلها من أهل الكبائر فأولئك قالوا: لا بد أن يدخلها كل فاسق، وأنتم قلتم: لا نعلم هل يدخلها فاسق أم لا، فتقابلتم في هذه البدعة، وقولكم أعظم بدعة من قولهم، وأعظم مخالفة للسلف والأئمة، وعلى قولكم: لا نعلم شفاعة النبي ﷺ في أهل النار، لأنه لا يعلم هل يدخلها أم لا، وقولكم إلى إفساد الشريعة أقرب من قول المعتزلة، وكذلك في مسائل القدر فإن المعتزلة أنكروا أن يكون الله خالق أفعال العباد، أو مريدا لجميع الكائنات، بل الإرادة عندهم بمعنى المحبة والرضا، وهو لا يحب ويرضى إلا ما أمر به فلا يريد إلا ما أمر به، وأنتم وافقتموهم على أصلهم الفاسد، وقاسمتموهم بعد ذلك الضلال، فصرتم وهم في هذه المسائل كما قال الإمام أحمد في أهل الأهواء فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب متفقون على مفارقة الكتاب، وقلتم: إن الإرادة بمعنى المحبة والرضا كما قالت المعتزلة، لكن قلتم وهو أراد كل ما يفعله العباد فيجب أن يكون محبا راضيا لكل ما يفعله العباد حتى الكفر والفسوق والعصيان، وتأولتم قوله: { ولا يرضى لعباده الكفر } على المؤمنين من عباده، وعلى قولكم لا يرضى لعباده الإيمان يعني الكافرين منهم، إذ عندكم كل من فعل فعلا فقد رضيه منه، ومن لم يفعله لا يرضاه منه فقد رضي عندكم من إبليس وفرعون ونحوهما كفرهم ولم يرض منهم الإيمان، وكذلك قلتم في قوله: { لا يحب الفساد } أي لا يحبه للمؤمنين، وأما من قال منكم لا يحبه دينا أو لا يرضاه دينا، فهذا أقرب لكنه بمنزلة قولكم لا يريده دينا ولا يشاؤه دينا فيجوز عندكم أن يقال يحب الفساد ويرضاه، أي يحبه فسادا ويرضاه فسادا كما أراده فسادا، وأنكرتم على المعتزلة ما أنكره المسلمون عليهم وهو قولهم: إن الله لا يقدر أن يفعل بالكفار غير ما فعل بهم من اللطف، وأنكرتم على من قال منهم إن خلاف المعلوم غير مقدور، ثم قلتم: إن العبد لا يقدر على غير ما علم منه، وأنه لا استطاعة له إلا إذا كان فاعلا فقط، فأما من لم يفعل فإنه لا استطاعة له أصلا فخالفتم قوله تعالى: { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } ونحو ذلك من النصوص، ولزمكم أن كل من لم يؤمن بالله فإنه لم يكن قادرا على الإيمان، وكل من ترك طاعة الله فإنه لم يكن مستطيعا لها فإن ضم ضام هذا إلى قوله تعالى: { فاتقوا الله ما استطعتم }، وقول النبي ﷺ: { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } تركب من هذين أن كل كافر وفاجر، فإنه قد اتقى الله ما استطاع، وأنه قد أتى فيما أمر به بما استطاع إذ لم يستطع غير ما فعل، وأنتم لا تلتزمون ذلك فهو لازم قولكم إذا لم تجعلوا الاستطاعة نوعين، وقول القدرية الذين يجعلون استطاعة العبد صالحة للنوعين ولا يثبتون الاستطاعة التي هي مناط الأمر والنهي أقرب إلى الكتاب والسنة والشريعة من قولكم أنه لا استطاعة إلا للفاعل وإن لم يفعل فعلا، فلا استطاعة له عليه وكل من تدبر القولين بغير هوى علم أن كلا منهما وإن كان فيه من خلاف السنة ما فيه، فقولكم أكثر خلافا للسنة .
فإن قال قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون، قيل له: قولنا الذي به نقول، وديانتنا التي بها ندين التمسك بكتاب الله وسنة نبيه، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون، وبما كان عليه أحمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون، لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم وكبير مفهم، وعلى جميع أئمة المسلمين، وجملة قولنا: أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء به من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله لا نرد من ذلك شيئا، وأن الله إله واحد فرد صمد لا إله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن الجنة حق والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله مستو على عرشه كما قال: { الرحمن على العرش استوى } وأن له وجها كما قال: { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } وأن له يدين كما قال: { بل يداه مبسوطتان } وقال: { لما خلقت بيدي } وأن له عينين بلا كيف كما قال: { تجري بأعيننا } وأن من زعم أن اسم الله غيره كان ضالا، وأن لله علما كما قال: { أنزله بعلمه } وقال: { وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه } ونثبت له قوة كما قال: { أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة } ونثبت لله السمع والبصر ولا ننفي ذلك كما نفاه المعتزلة والجهمية والخوارج، ونقول: إن كلام الله غير مخلوق وأنه لم يخلق شيئا إلا وقد قال له كن فيكون كما قال: { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } وأنه لا يكون في الأرض شيء من خير وشر إلا ما شاء الله، وأن الأشياء تكون بمشيئة الله، وأن أحدا لا يستطيع أن يفعل شيئا قبل أن يفعله الله، ولا يستغني عن الله ولا نقدر على الخروج من علم الله، وأنه لا خالق إلا الله، وأن أعمال عباد الله مخلوقة لله مقدورة له كما قال: { والله خلقكم وما تعملون } وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئا وهم يخلقون كما قال: { هل من خالق غير الله } وكما قال: { لا يخلقون شيئا وهم يخلقون) وكما قال: { أفمن يخلق كمن لا يخلق } وكما قال: { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } وهذا في كتاب الله كثير، وأن الله وفق المؤمنين لطاعته ولطف بهم ونظر لهم وأصلحهم وهداهم وأضل الكافرين ولم يهدهم ولم يلطف بهم بالإيمان كما زعم أهل الزيغ والطغيان، ولو لطف بهم وأصلحهم كانوا صالحين، ولو هداهم كانوا مهتدين كما قال تبارك وتعالى: { من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون }، وأن الله يقدر أن يصلح الكافرين ويلطف بهم حتى يكونوا مؤمنين، ولكنه أراد أن يكونوا كافرين كما علم وأنه خذلهم وطبع على قلوبهم، وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره، وأنا نؤمن بقضاء الله وقدره، خيره وشره، وحلوه ومره، ونعلم أن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا وما أخطأنا لم يكن ليصيبنا، وأنا لا نملك لأنفسنا نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله، وأنا نلجئ أمورنا إلى الله ونثبت الحاجة والفقر في كل وقت إليه، ونقول: إن القرآن كلام الله غير مخلوق وأن من قال بخلق القرآن كان كافرا، وندين أن الله يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر، ويراه المؤمنون كما جاءت الروايات عن رسول الله، ونقول : إن الكافرين، إذا رآه المؤمنون، عنه محجوبون، كما قال الله تعالى: { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون }، وأن موسى سأل الله الرؤية في الدنيا، وأن الله تجلى للجبل فجعله دكا فعلم بذلك موسى أنه لا يراه أحد في الدنيا، ونرى أن لا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب يرتكبه كالزنا والسرقة، وشرب الخمر، كما دانت بذلك الخوارج، وزعموا بذلك أنهم كافرون، ونقول: إن من عمل كبيرة من الكبائر وما أشبهها مستحلا لها كان كافرا، إذا كان غير معتقد لتحريمها، ونقول: إن الإسلام أوسع من الإيمان، وليس كل إسلام إيمانا وندين بأنه يقلب القلوب، وأن القلوب بين أصبعين من أصابعه وأنه يضع السموات على أصبع والأرضين على أصبع كما جاءت الرواية عن رسول الله، وندين بأن لا ننزل أحدا من الموحدين المتمسكين بالإيمان جنة ولا نارا إلا من شهد له رسول الله بالجنة، ونرجو الجنة للمذنبين ونخاف عليهم أن يكونوا بالنار معذبين، ونقول بأن الله يخرج من النار قوما بعد ما امتحشوا بشفاعة محمد، ونؤمن بعذاب القبر، ونقول: إن الحوض والميزان حق، والصراط حق، والبعث بعد الموت حق، وأن الله يوقف العباد بالموقف ويحاسب المؤمنين، وأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ونسلم الروايات الصحيحة في ذلك عن رسول الله التي رواها الثقات عدل عن عدل حتى تنتهي الرواية عن رسول الله، وندين الله بحب السلف الذين اختارهم الله لصحبة نبيه ونثني عليهم بما أثنى الله عليهم ونتولاهم، ونقول: إن الإمام بعد رسول الله أبو بكر رضي الله تعالى عنه، وأن الله أعز به الدين وأظهره على المرتدين، وقدمه المسلمون للإمامة كما قدمه رسول الله للصلاة ; ثم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ; ثم عثمان بن عفان نضر الله وجهه، قتله قاتلوه ظلما وعدوانا، ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ; فهؤلاء الأئمة بعد رسول الله، وخلافتهم خلافة النبوة، ونشهد للعشرة بالجنة الذين شهد لهم رسول الله، ونتولى أصحاب النبي، ونكف عما شجر بينهم، وندين الله أن الأئمة الأربعة راشدون مهديون فضلا لا يوازنهم في الفضل غيرهم، ونصدق بجميع الروايات التي يثبتها أهل النقل من النزول إلى سماء الدنيا وأن الرب يقول: هل من سائل، هل من مستغفر، وسائر ما نقلوه وأثبتوه خلافا لما قاله أهل الزيغ والتضليل، ونقول فيما اختلفنا فيه على كتاب الله وسنة رسوله وإجماع المسلمين وما كان في معناه، ولا نبتدع في دين الله بدعة لم يأذن الله بها، ولا نقول على الله ما لا نعلم، ونقول: إن الله يجيء يوم القيامة كما قال: { وجاء ربك والملك صفا صفا } وإن الله يقرب من عباده كيف شاء كما قال: { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } وكما قال: { ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى } ومن ديننا نصلي الجمع والأعياد خلف كل بر وغيره، وكذلك سائر الصلوات الجماعات، كما روي عن عبد الله بن عمر أنه كان يصلي خلف الحجاج، وأن المسح على الخفين في السفر والحضر، خلافا لمن أنكر ذلك، ونرى الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح والإقرار بإمامتهم، وتضليل من رأى الخروج عليهم إذا ظهر منهم ترك الاستقامة، وندين بترك الخروج عليهم بالسيف وترك القتال في الفتنة، ونقر بخروج الدجال كما جاءت به الرواية عن رسول الله، ونؤمن بعذاب القبر ومنكر ونكير ومساءلتهم المدفونين في قبورهم، ونصدق بحديث المعراج ونصحح كثيرا من الرؤيا في المنام، ونقول: إن ذلك تفسير، ونرى الصدقة عن موتى المؤمنين والدعاء لهم، ونؤمن أن الله ينفعهم بذلك، ونصدق بأن في الدنيا سحرة وأن السحر موجود في الدنيا، وندين بالصلاة على من مات من أهل القبلة مؤمنهم وفاجرهم وموارثتهم، ونقر أن الجنة والنار مخلوقتان، وأن من مات أو قتل فبأجله مات أو قتل، وأن الأرزاق من قبل الله يرزقها عباده حلالا وحراما، وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه ويخبطه، خلافا لقول المعتزلة والجهمية، كما قال الله تعالى: { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس }، وكما قال: { من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس } ونقول: إن الصالحين يجوز أن يخصهم الله بآيات يظهرها الله عليهم، وقولنا في أطفال المشركين: إن الله يؤجج لهم نارا في الآخرة، ثم يقول اقتحموها كما جاءت الرواية بذلك ; وندين بأن الله يعلم ما العباد عاملون وإلى ما هم صائرون، وما يكون وما لا يكون أن لو كان كيف يكون، وبطاعة الأئمة ونصيحة المسلمين، ونرى مفارقة كل داعية ومجانبة أهل الأهواء، وسنحتج لما ذكرنا من قولنا وما بقي منه وما لم نذكره بابا بابا وشيئا شيئا، ثم قال أبو القاسم بن عساكر رحمه الله: فتأملوا رحمكم الله هذا الاعتقاد ما أوضحه وأبينه، واعترفوا بفضل هذا الإمام العالم الذي شرحه وبينه، وانظروا سهولة لفظه فما أفصحه وأبينه، وكونوا ممن قال الله فيهم: { الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه }، وتبينوا فضل أبي الحسن واعرفوا إنصافه، واسمعوا وصفه لأحمد بالفضل واعترافه لتعلموا أنهما كانا في الاعتقاد متفقين، وفي أصول الدين ومذهب السنة غير مفترقين، ولم تزل الحنابلة ببغداد في قديم الدهر على ممر الأوقات تعتضد بالأشعرية على أصحاب البدع لأنهم المتكلمون من أهل الإثبات، فمن تكلم في الرد على مبتدع فبلسان الأشعرية يتكلم، ومن حقق منهم في الأصول في مسألة فمنهم يتعلم، فلم يزالوا كذلك حتى حدث الاختلاف في زمن أبي نصر القشيري ووزارة النظام ووقع بينهم الانحراف من بعضهم من بعض لانحلال النظام، وعلى الجملة فلم يزل في الحنابلة طائفة تغلو في السنة وتدخل فيما لا يعنيها حبا للحقوق في الفتنة ولا عار على أحمد رحمه الله من صنيعهم وليس يتفق على ذلك رأي جميعهم، ولهذا قال أبو حفص بن شاهين وهو من أقران الدارقطني ما قرأته على عبد الكريم بن الحضر عن أبي محمد الكناني حدثني أبو النجيب الأرموي حدثنا أبو ذر الهروي قال سمعت ابن شاهين يقول: رجلان صالحان بليا بأصحاب سوء جعفر بن محمد وأحمد بن حنبل، وقال ابن عساكر فيما رده على أبي علي الأهوازي فيما وصفه من مثالب الأشعري: وقد ذكر أبو علي الأهوازي أن الحنابلة لم يقبلوا منه تصنيف الإبانة، قال الأهوازي: وللأشعري كتاب في السنة قد جعله أصحابه وقاية لهم من أهل السنة يتولون به العوام من أصحابنا سماه " كتاب الإبانة " صنفه ببغداد لما دخلها، فلم يقبل ذلك منه الحنابلة وهجروه، وسمعت أبا عبد الله الحمراني يقول: لما دخل الأشعري إلى بغداد جاء إلى البربهاري فجعل يقول رددت على الجبائي وعلى أبي هاشم ونقضت عليهم وعلى اليهود والنصارى وعلى المجوس، فقلت وقالوا، وأكثر الكلام في ذلك، فلما سكت قال البربهاري: ما أدري مما قلت قليلا ولا كثيرا، ما نعرف إلا ما قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل، فخرج من عنده وصنف كتاب الإبانة فلم يقبلوه منه، ولم يظهر ببغداد إلى أن خرج منها، قال: وقول الأهوازي أن الحنابلة لم يقبلوا منه ما أظهره من كتاب الإبانة وهجروه، فلو كان الأمر كما قال لنقلوه عن أشياخهم ولم أزل أسمع ممن يوثق به أنه كان صديقا للتميميين سلف أبي محمد رزق الله بن عبد الوهاب بن عبد العزيز بن الحارث، وكانوا له مكرمين وقد أظهر بركة تلك الصحبة على أعقابهم حتى نسب إلى مذهبه أبو الخطاب الكلواذاني من أصحابهم وهذا تلميذ أبي الخطاب أحمد الحربي يخبر بصحة ما ذكرته وينبئ، وكذلك كان بينهم وبين صاحبه أبي عبد الله بن مجاهد وصاحب صاحبه أبي بكر بن الطيب من المواصلة والمواكلة ما يدل على كثرة الاختلاق من الأهوازي والتكذيب، قال: وقد أخبرني الشيخ أبو الفضل بن أبي سعد البزار بن أبي محمد رزق الله بن عبد الوهاب بن عبد العزيز التميمي الحنبلي قال: سألت الشريف أبا علي محمد بن أبي موسى الهاشمي فقال: حضرت دار شيخنا أبي الحسن عبد العزيز بن الحارث التميمي سنة سبعين وثلاثمائة في دعوة عملها لأصحابه حضرها أبو بكر الأبهري شيخ المالكيين وأبو القاسم الداركي شيخ الشافعيين وأبو الحسن طاهر بن الحسين شيخ أصحاب الحديث، وأبو الحسين بن سمعون شيخ الوعاظ والزهاد، وأبو عبد الله بن مجاهد شيخ المتكلمين وصاحبه أبو بكر بن الباقلاني في دار شيخنا أبي الحسن التميمي شيخ الحنابلة، قال أبو علي: لو سقط السقف عليهم لم يبق بالعراق من يفتي في حادثة يشبه واحدا منهم، قال: وحكاية الأهوازي عن البربهاري مما يقع في صحتها التماري وأدل دليل على بطلانها قوله: إنه لم يظهر ببغداد إلى أن خرج منها وهو بعد أن صار إليها لم يفارقها ولا رحل عنها، قلت: لا ريب أن الأشعرية إنما تعلموا الكتاب والسنة من أتباع الإمام أحمد ونحوه بالبصرة وبغداد، فإن الأشعري أخذ السنة بالبصرة عن زكريا بن يحيى الساجي وهو من علماء أهل الحديث المتبعين لأحمد ونحوه، ثم لما قدم بغداد أخذ ممن كان بها، ولهذا يوجد أكثر ألفاظه التي يذكرها عن أهل السنة والحديث إما ألفاظ زكريا عن أحمد في رسائله الجامعة في السنة، وإلا فالأشعري لم يكن له خبرة بمذهب أهل السنة وأصحاب الحديث، وإنما يعري أقوالهم من حيث الجملة لا يعرف تفاصيل أقوالهم وأقوال أئمتهم، وقد تصرف فيما نقله عنهم باجتهاده في مواضع يعرفها البصير، وأما خبرته بمقالات أهل الكلام فكانت خبرة تامة على سبيل التفصيل، ولهذا لما صنف كتابه في مقالات الإسلاميين ذكر مقالات أهل الكلام واختلافهم على التفصيل، وأما أهل الحديث والسنة فلم يذكر عنهم إلا جملة مقالات، مع أن لهم في تفاصيل تلك من الأقوال أكثر مما لأهل الكلام، وذكر الخلاف بين أهل الكلام في الدقيق فلم يذكر النزاع بين أهل الحديث في الدقيق، وبينهم منازعات في أمور دقيقة لطيفة كمسألة اللفظ ونقصان الإيمان وتفضيل عثمان، وبعض أحاديث الصفات ونفي لفظ الجبر وغير ذلك من دقيق القول ولطيفه، وليس المقصود هنا إطلاق مدح شخص أو طائفة، ولا إطلاق ذم ذلك، فإن الصواب الذي عليه أهل السنة والجماعة أنه قد يجتمع في الشخص الواحد والطائفة الواحدة ما يحمد به من الحسنات وما يذم به من السيئات، وما لا يحمد به ولا يذم من المباحث والعفو عنه من الخطإ والنسيان بحيث يستحق الثواب على حسناته ويستحق العقاب على سيئاته بحيث لا يكون محمودا ولا مذموما على المباحات والمعفوات، وهذا مذهب أهل السنة في فساق أهل القبلة ونحوهم، وإنما يخالف هذا الوعيدية من الخوارج والمعتزلة ونحوهم الذين يقولون: من استحق المدح لم يستحق الثواب، حتى يقولون: إن من دخل النار لا يخرج منها بل يخلد فيها، وينكرون شفاعة محمد في أهل الكبائر قبل الدخول وبعده وينكرون خروج أحد من النار وقد تواترت السنن عن النبي بخروج من يخرج من النار حتى يقول الله: { أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان }، وبشفاعة النبي لأهل الكبائر من أمته، ولهذا يكثر في الأمة من أئمة الأمراء وغيرهم من يجتمع فيه الأمران، فبعض الناس يقتصر على ذكر محاسنه ومدحه، غلوا وهوى، وبعضهم يقتصر على ذكر مساويه غلوا وهوى، ودين الله بين الغالي فيه والجافي عنه، وخيار الأمور أوسطها، ولا ريب أن للأشعري في الرد على أهل البدع كلاما حسنا هو من الكلام المقبول الذي يحمد قائله إذا أخلص فيه النية، وله أيضا كلام خالف به بعض السنة هو من الكلام المردود الذي يذم به قائله إذا أصر عليه بعد قيام الحجة، وإن كان الكلام الحسن لم يخلص فيه النية، والكلام السيئ كان صاحبه مجتهدا مخطئا مغفورا له خطؤه لم يكن في واحد منهما مدح ولا ذم، بل يحمد نفس الكلام المقبول الموافق للسنة ويذم الكلام المخالف للسنة، وإنما المقصود أن الأئمة المرجوع إليهم في الدين مخالفون للأشعري في مسألة الكلام، وإن كانوا مع ذلك معظمين له في أمور أخرى وناهين عن لعنه وتكفيره، ومادحين له بما له من المحاسن، وبزيادة أخرى فإن هذه المسألة هي مسألة الكلام من الأمر والنهي والخبر هل له صيغة أو ليس له صيغة ؟ بل ذلك معنى قائم بالنفس، فإذا كانوا مخالفين له في ذلك وقائلين بأن الكلام له الصيغ التي هي الحروف المنظومة المؤلفة قائلين خلافا للأشعري مصرحين بأن قوله في ذلك مخالف لقول الشافعي وأحمد وسائر أئمة الإسلام علم صحة ما ذكرناه، وقولهم: للأمر صيغة موضوعة له في اللغة تدل بمجردها على كونه أمرا وللنهي صيغة موضوعة له في اللغة تدل بمجردها على كونه نهيا، وللخبر صيغة موضوعة له في اللغة تدل بمجردها على كونه خبرا، وللعموم صيغة موضوعة له في، اللغة تدل بمجردها على استغراق الجنس واستيعاب الطبيعة أجود من قول استدرك ذلك عليهم كابن عقيل [ الذي قال ]: إن الأجود أن يقول: الأمر صيغة، قالوا: لأن الأمر والنهي والخبر هو نفس الصيغ التي هي الحروف المنظومة المؤلفة ; وهذا الذي قاله وأنكره هؤلاء خطأ وهو لو صح على قول من يقول إن الكلام مجرد الحروف والأصوات الدالة على المعنى: وليس هذا مذهب الفقهاء وأئمة الإسلام وأهل السنة، وإن كان قد يقوله كثير ممن ينتسب إليهم كما قالته المعتزلة، بل مذهبهم أن الكلام اسم للحروف والمعاني جميعا، والأمر ليس هو اللفظ المجرد ولا المعنى المجرد، بل لفظ الأمر إذا أطلق فإنه ينتظم اللفظ والمعنى جميعا، فلهذا قيل صيغة، كما يقال للإنسان جسم أو للإنسان روح، وكما يقال للكلام معنى وأما ما ذكره أبو القاسم الدمشقي من أن هذه المسألة خالف فيها أبو إسحاق الأشعري فيقال له: هذه المسألة هي أخص بمذهب الأشعري يكون الرجل بها مختصا بكونه أشعريا، ولهذا ذكر العلماء الخلاف فيها معه، وأما سائر المسائل فتلك لا يختص هو بأحد الطرفين بها بل في كل طريق طوائف، فإذا خالفه في خاصة مذهبه لزمه أن لا يكون متبعا له، وأيضا فإنه إذا قال أصحابنا فإنما يعني الشافعية، وإذا ذكر الأشعري فإنه يقول قالت الأشعرية فلا يدخلهم في مسمى أصحابه، ولكن أبو القاسم كان له هدى ولم تكن له معرفة بحقائق الأصول التي يتنازع فيها العلماء ولكن كان ثقة في نقله، عالما بفنه كالتاريخ ونحوه .
- -مسألة: سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن زيارة القدس وقبر الخليل عليه السلام ؟ وما في أكل الخبز والعدس من البركة ونقله من بلد إلى بلد للبركة ؟ وما في ذلك من السنة والبدعة ؟ أجاب: الحمد لله، أما السفر إلى بيت المقدس للصلاة فيه والاعتكاف، أو القراءة، أو الذكر، أو الدعاء فمشروع مستحب باتفاق علماء المسلمين، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد، أنه قال: { لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا }، والمسجد الحرام ومسجد رسول الله ﷺ أفضل منه، وفي الصحيحين عنه أنه قال: { صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام }، وأما السفر إلى مجرد زيارة قبر الخليل، أو غيره من مقابر الأنبياء والصالحين، ومشاهدهم، وآثارهم، فلم يستحبه أحد من أئمة المسلمين، لا الأربعة ولا غيرهم، بل لو نذر ذلك ناذر لم يجب عليه الوفاء بهذا النذر عند الأئمة الأربعة وغيرهم، بخلاف المساجد الثلاثة فإنه إذا نذر السفر إلى المسجد الحرام لحج أو عمرة لزمه ذلك باتفاق الأئمة، وإذا
نذر السفر إلى المسجدين الآخرين لزمه السفر عند أكثرهم، كمالك، وأحمد، والشافعي في أظهر قوليه، لقول النبي ﷺ: { من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه } رواه البخاري، وإنما يجب الوفاء بنذر كل ما كان طاعة مثل من نذر صلاة أو صوما أو اعتكافا أو صدقة لله أو حجا، ولهذا لا يجب بالنذر السفر إلى غير المساجد الثلاثة ; لأنه ليس بطاعة لقول النبي ﷺ: { لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد }، فمنع من السفر إلى مسجد غير المساجد الثلاثة، فغير المساجد أولى بالمنع ; لأن العبادة في المساجد أفضل منها في غير المساجد وغير البيوت بلا ريب ; ولأنه قد ثبت في الصحيح عنه ﷺ أنه قال: { أحب البقاع إلى الله المساجد } مع أن قوله: { لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد }، يتناول المنع من السفر إلى كل بقعة مقصودة، بخلاف السفر للتجارة، وطلب العلم ونحو ذلك، فإن السفر لطلب تلك الحاجة حيث كانت، وكذلك السفر لزيارة الأخ في الله فإنه هو المقصود حيث كان، وقد ذكر بعض المتأخرين من العلماء أنه لا بأس بالسفر إلى المشاهد واحتجوا بأن النبي ﷺ كان يأتي قباء كل سبت راكبا وماشيا } أخرجاه في الصحيحين، ولا حجة لهم فيه ; لأن قباء ليست مشهدا، بل مسجد، وهي منهي عن السفر إليها باتفاق الأئمة ; لأن ذلك ليس بسفر مشروع، بل لو سافر إلى قباء من دويرة أهله لم يجز، ولكن لو سافر إلى المسجد النبوي ثم ذهب منه إلى قباء، فهذا يستحب، كما يستحب زيارة قبور أهل البقيع، وشهداء أحد، وأما أكل الخبز والعدس المصنوع عند قبر الخليل عليه السلام فهذا لم يستحبه أحد من العلماء لا المتقدمين ولا المتأخرين، ولا كان هذا مصنوعا لا في زمن الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، ولا بعد ذلك إلى خمسمائة سنة من البعثة، حتى أخذ النصارى تلك البلاد، ولم تكن القبة التي على قبره مفتوحة، بل كانت مسدودة، ولا كان السلف من الصحابة والتابعين يسافرون إلى قبره ولا قبر غيره، لكن لما أخذ النصارى تلك البلاد فسووا حجرته واتخذوها كنيسة، فلما أخذ المسلمون البلاد بعد ذلك اتخذ ذلك من اتخذه مسجدا، وذلك بدعة منهي عنها لما ثبت في الصحيح عنه ﷺ أنه قال: { لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد }، يحذر ما فعلوا وفي الصحيح عنه أنه قال قبل موته بخمس: { إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك }، ثم وقف بعض الناس وقفا للعدس والخبز، وليس هذا وقفا من الخليل، ولا من أحد من بني إسرائيل، ولا من النبي ﷺ ولا من خلفائه، بل قد روي عن النبي ﷺ أنه أطلق تلك القرية للدارسين ولم يأمرهم أن يطعموا عند مشهد الخليل عليه السلام لا خبزا ولا عدسا ولا غير ذلك، فمن اعتقد أن الأكل من هذا الخبز والعدس مستحب شرعه النبي ﷺ فهو مبتدع ضال، بل من اعتقد أن العدس مطلقا فيه فضيلة فهو جاهل، والحديث الذي يروى: " كلوا العدس فإنه يرق القلب وقد قدس فيه سبعون نبيا "، حديث مكذوب مختلق باتفاق أهل العلم، ولكن العدس هو مما اشتهاه اليهود، وقال الله تعالى لهم: { أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير }، ومن الناس من يتقرب إلى الجن بالعدس، فيطبخون عدسا ويضعونه في المراحيض، أو يرسلونه ويطلبون من الشياطين بعض ما يطلب منهم، كما يفعلون مثل ذلك في الحمام وغير ذلك، وهذا من الإيمان بالجبت والطاغوت، وجماع دين الإسلام أن يعبد الله وحده لا شريك له ويعبده بما شرعه سبحانه وتعالى على لسان نبيه محمد ﷺ من الواجبات والمستحبات والمندوبات، فمن تعبد بعبادة ليست واجبة ولا مستحبة فهو ضال، والله أعلم .
- -مسألة: فيمن يقول إن النصوص لا تفي بعشر معشار الشريعة، هل قوله صواب ؟ وهل أراد النص الذي لا يحتمل التأويل، أو الألفاظ الواردة المحتملة ؟ ومن نفى القياس وأبطله من الظاهرية، هل قوله صواب ؟، وما حجته على ذلك ؟ وما عنى قوله " النص "، الجواب: الحمد لله رب العالمين، هذا القول قاله طائفة من أهل الكلام والرأي كأبي المعالي وغيره، وهو خطأ، بل الصواب الذي عليه جمهور أئمة المسلمين أن النصوص وافية بجمهور أحكام أفعال العباد، ومنهم من يقول إنها وافية بجميع ذلك وإنما أنكر ذلك من أنكره ; لأنه لم يفهم معاني النصوص العامة التي هي أقوال الله ورسوله وشمولها لأحكام أفعال العباد، وذلك أن الله بعث محمدا ﷺ بجوامع الكلم، فيتكلم بالكلمة الجامعة العامة التي هي قضية كلية وقاعدة عامة تتناول أنواعا كثيرة وتلك
الأنواع تتناول أعيانا لا تحصى، فبهذا الوجه تكون النصوص محيطة بأحكام أفعال العباد مثال ذلك: أن الله حرم الخمر، فظن بعض الناس أن لفظ الخمر لا يتناول إلا عصير العنب خاصة، ثم من هؤلاء من لم يحرم إلا ذلك، أو حرم معه بعض الأنبذة المسكرة، كما يقول ذلك من يقوله من فقهاء الكوفة، فإن أبا حنيفة يحرم عصير العنب المشتد الزبد، وهذا الخمر عنده، ويحرم المطبوخ منه ما لم يذهب ثلثاه، فإذا ذهب ثلثاه لم يحرمه، ويحرم النيء من نبيذ التمر، فإن طبخ أدنى طبخ حل عنده، وهذه المسكرات الثلاثة ليست خمرا عنده مع أنها حرام، وما سوى ذلك من الأنبذة فإنما يحرم منه ما يسكر، وأما محمد بن الحسن فوافق الجمهور في تحريم كل مسكر قليله وكثيره، وبه أفتى المحققون من أصحاب أبي حنيفة، وهو اختيار أبي الليث السمرقندي، ومن العلماء من حرم كل مسكر بطريق القياس إما في الاسم وإما في الحكم، وهذه الطريقة سلكها طائفة من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد، يظنون أن تحريم كل مسكر إنما كان بالقياس في الأسماء أو القياس في الحكم، والصواب الذي عليه الأئمة الكبار أن الخمر المذكورة في القرآن تناولت كل مسكر، فصار تحريم كل مسكر بالنص العام والكلمة الجامعة، لا بالقياس وحده، وإن كان القياس دليلا آخر يوافق النص، وثبت أيضا نصوص صحيحة عن النبي ﷺ بتحريم كل مسكر، ففي صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال: { كل مسكر خمر وكل مسكر حرام }، وفي الصحيحين، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي ﷺ أنه قال: { كل شراب أسكر فهو حرام }، وفي الصحيحين، عن أبي موسى، عن النبي ﷺ أنه سئل، فقيل له: عندنا شراب من العسل يقال له البتع، وشراب من الذرة يقال له المزر ؟ قال - وكان قد أوتي جوامع الكلم - فقال: { كل مسكر حرام } إلى أحاديث أخر يطول وصفها، وعلى هذا فتحريم ما يسكر من الأشربة والأطعمة، كالحشيشة المسكرة ثابت بالنص، وكان هذا النص متناولا لشرب الأنواع المسكرة من أي مادة كانت من الحبوب، أو الثمار أو من لبن الخيل أو من غير ذلك، ومن ظن أن النص إنما يتناول خمر العنب قال إنه لم يبين حكم هذه المسكرات التي هي في الأرض أكثر من خمر العنب، بل كان ذلك ثابتا بالقياس، وهؤلاء غلطوا في فهم النص، ومما يبين ذلك أنه قد ثبت بالأحاديث الكثيرة المستفيضة أن الخمر لما حرمت لم يكن بالمدينة من خمر العنب شيء، فإن المدينة لم يكن فيها شجر العنب، وإنما كان عندهم النخل، فكان خمرهم من التمر، ولما حرمت الخمر أراقوا تلك الأشربة التي كانت من التمر، وعلموا أن ذلك الشراب هو خمر محرم، فعلم أن لفظ الخمر لم يكن عندهم مخصوصا بعصير العنب، وسواء كان ذلك في لغتهم فتناول، أو كانوا عرفوا التعميم بلغة الرسول ﷺ فإنه المبين عن الله مراده، فإن الشارع يتصرف في اللغة تصرف أهل العرف، يستعمل اللفظ تارة فيما هو أعم من معناه في اللغة، وتارة فيما هو أخص، وكذلك لفظ الميسر هو عند أكثر العلماء يتناول اللعب بالنرد والشطرنج، ويتناول بيوع الغرر التي نهى عنها النبي ﷺ فإن فيها معنى القمار الذي هو ميسر، إذ القمار معناه أن يؤخذ مال الإنسان وهو على مخاطرة، هل يحصل له عوضه أو لا يحصل، كالذي يشتري العبد الآبق، والبعير الشارد، وحبل الحبلة ونحو ذلك مما قد يحصل له وقد لا يحصل له، وعلى هذا فلفظ الميسر في كتاب الله تعالى يتناول هذا كله، وما ثبت في صحيح مسلم، عن النبي ﷺ أنه { نهى عن بيع الغرر } يتناول كل ما فيه مخاطرة، كبيع الثمار قبل بدو صلاحها، وبيع الأجنة في البطون وغير ذلك، ومن هذا الباب لفظ الربا، فإنه يتناول كل ما نهي عنه من ربا النساء وربا الفضل والقرض الذي يجر منفعة وغير ذلك، فالنص متناول لهذا كله، لكن يحتاج في معرفة دخول الأنواع والأعيان في النص إلى ما يستدل به على ذلك، وهذا الذي يسمى تحقيق المناط، وكذلك قوله تعالى: { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن }، وقوله: { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء }، ونحو ذلك يعم بلفظه كل مطلقة، ويدل على أن كل طلاق فهو رجعي، ولهذا قال أكثر العلماء بذلك، وقالوا: لا يجوز للرجل أن يطلق المرأة ثلاثا، ويدل أيضا على أن الطلاق لا يقع إلا رجعيا، وإن ما كان بائنا فليس من الطلقات الثلاث فلا يكون الخلع من الطلقات الثلاث، كقول ابن عباس والشافعي في قول، وأحمد في المشهور عنه، لكن بينهم نزاع، هل ذلك مشروط بأن يخلو الخلع عن لفظ الطلاق ونيته، أو بالخلو عن لفظه فقط، أو لا يشترط شيء من ذلك ؟ على ثلاثة أقوال، وكذلك قوله تعالى: { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم }، وذلك كفارة أيمانكم هو متناول لكل يمين من أيمان المسلمين، فمن العلماء من قال: كل يمين من أيمان المسلمين ففيها كفارة، كما دل عليه الكتاب والسنة، ومنهم من قال: لا يتناول النص إلا الحلف باسم الله، وغير ذلك لا تنعقد ولا شيء فيها، ومنهم من قال: بل هي أيمان يلزم الحلف بها ما التزمه ولا تدخل في النص، ولا ريب أن النص يدل على القول الأول، فمن قال إن النص لم يبين حكم جميع أيمان المسلمين، كان هذا رأيا منه، لم يكن هذا مدلول النص، وكذلك الكلام في عامة مسائل النزاع بين المسلمين، إذا طلب ما يفصل النزاع من نصوص الكتاب والسنة وجد ذلك، وتبين أن النصوص شاملة لعامة أحكام الأفعال، وكان الإمام أحمد يقول: إنه ما من مسألة يسأل عنها إلا وقد تكلم الصحابة فيها أو في نظيرها، والصحابة كانوا يحتجون في عامة مسائلهم بالنصوص، كما هو مشهور عنهم، وكانوا يجتهدون رأيهم، ويتكلمون بالرأي، ويحتجون بالقياس الصحيح أيضا، والقياس الصحيح نوعان: أحدهما: أن يعلم أنه لا فارق بين الفرع والأصل إلا فرقا غير موثر في الشرع، كما ثبت عن النبي ﷺ في الصحيح، أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن ؟ فقال: { ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم }، وقد أجمع المسلمون على أن هذا الحكم ليس مختصا بتلك الفأرة وذلك السمن، فلهذا قال جماهير العلماء: إن أي نجاسة وقعت في دهن من الأدهان كالفأرة التي تقع في الزيت، وكالهر الذي يقع في السمن، فحكمها حكم تلك الفأرة التي وقعت في السمن، ومن قال من أهل الظاهر: إن هذا الحكم لا يكون إلا في فأرة وقعت في سمن، فقد أخطأ، فإن النبي ﷺ لم يخص الحكم بتلك الصورة، لكن لما استفتي عنها أفتى فيها، والاستفتاء إذا وقع عن قضية معينة أو عن نوع، فأجاب المفتي عن ذلك خصه لكونه سئل عنه، لا لاختصاصه بالحكم، ومثل هذا أنه سئل عن رجل أحرم بالعمرة، وعليه جبة مضمخة بخلوق ؟ فقال: { انزع عنك الجبة واغسل عنك الخلوق واصنع في عمرتك ما كنت تصنع في حجك }، فأجابه عن الجبة، ولو كان عليه قميص أو نحوه كان الحكم كذلك بالإجماع، والنوع الثاني من القياس: أن ينص على حكم لمعنى من المعاني ويكون ذلك المعنى موجودا في غيره، فإذا قام دليل من الأدلة على أن الحكم متعلق بالمعنى المشترك بين الأصل والفرع سوى بينهما، وكان هذا قياسا صحيحا، فهذان النوعان كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يستعملونهما ا، وهما من باب فهم مراد الشارع، فإن الاستدلال بكلام الشارع يتوقف على أن يعرف ثبوت اللفظ عنه، وعلى أن يعرف مراده باللفظ، وإذا عرفنا مراده فإن علمنا أنه حكم للمعنى المشترك لا لمعنى يخص الأصل، أثبتنا الحكم حيث وجد المعنى المشترك، وإن علمنا أنه قصد تخصيص الحكم بمورد النص منعنا القياس، كما أنه علمنا أن الحج خص به الكعبة، وأن الصيام الفرض خص به شهر رمضان، وأن الاستقبال خص به جهة الكعبة، وأن المفروض من الصلوات خص به الخمس، ونحو ذلك فإنه يمتنع هنا أن نقيس على المنصوص غيره، وإذا عين الشارع مكانا أو زمانا للعبادة كتعيين الكعبة وشهر رمضان، أو عين بعض الأقوال والأفعال، كتعيين القراءة في الصلاة والركوع والسجود، بل وتعيين التكبير وأم القرآن، فإلحاق غير المنصوص به يشبه حال أهل اليمن الذين أسقطوا تعين الأشهر الحرم، وقالوا: المقصود أربعة أشهر من السنة، فقال تعالى: { إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله }، وقياس الحلال بالنص على الحرام بالنص، من جنس قياس الذين قالوا: { إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا }، وكذلك قياس المشركين الذين قاسوا الميتة بالمذكى، وقالوا أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله، قال تعالى: { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون }، فهذه الأقيسة الفاسدة وكل قياس دل النص على فساده فهو فاسد، وكل من ألحق منصوصا بمنصوص يخالف حكمه فقياسه فاسد، وكل من سوى بين شيئين أو فرق بين شيئين بغير الأوصاف المعتبرة في حكم الله ورسوله فقياسه فاسد، لكن من القياس ما يعلم صحته، ومنه ما يعلم فساده، ومنه ما لم يتبين أمره، فمن أبطل القياس مطلقا فقوله باطل، ومن استدل بالقياس المخالف للشرع فقوله باطل، ومن استدل بقياس لم يقم الدليل على صحته فقد استدل بما لا يعلم صحته، بمنزلة من استدل برواية رجل مجهول لا يعلم عدالته، فالحجج الأثرية والنظرية تنقسم إلى ما يعلم صحته، وإلى ما يعلم فساده، وإلى ما هو موقوف حتى يقوم الدليل على أحدهما، ولفظ النص يراد به تارة ألفاظ الكتاب والسنة، سواء كان اللفظ دلالته قطعية أو ظاهرة، وهذا هو المراد من قول من قال: النصوص تتناول أحكام أفعال المكلفين، ويراد بالنص ما دلالته قطعية لا تحتمل النقيض، كقوله: { تلك عشرة كاملة } { الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان }، فالكتاب هو النص، والميزان هو العدل، والقياس الصحيح من باب العدل، فإنه تسوية بين المتماثلين وتفريق بين المختلفين، ودلالة القياس الصحيح توافق دلالة النص، فكل قياس خالف دلالة النص فهو قياس فاسد، ولا يوجد نص يخالف قياسا صحيحا، كما لا يوجد معقول صريح يخالف المنقول الصحيح، ومن كان متبحرا في الأدلة الشرعية أمكنه أن يستدل على غالب الأحكام بالمنصوص وبالأقيسة، فثبت أن كل واحد من النص والقياس دل على هذا الحكم، كما ذكرناه من الأمثلة، فإن القياس يدل على تحريم كل مسكر، كما يدل النص على ذلك، فإن الله حرم الخمر ; لأنها توقع بيننا العداوة والبغضاء وتصدنا عن ذكر الله وعن الصلاة، كما دل القرآن على هذا المعنى، وهذا المعنى موجود في جميع الأشربة المسكرة، لا فرق في ذلك بين شراب وشراب، فالفرق بين الأنواع المشتركة من هذا الجنس تفريق بين المتماثلين، وخروج عن موجب القياس الصحيح، كما هو خروج عن موجب النصوص، وهم معترفون بأن قولهم خلاف القياس، لكن يقولون: معنا آثار توافق اتبعناها، ويقولون: إن اسم الخمر لم يتناول كل مسكر، وغلطوا في فهم النص، وإن كانوا مجتهدين مثابين على اجتهادهم، ومعرفة عموم الأسماء الموجودة في النص وخصوصها من معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله، وقد قال تعالى: { الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله }، والكلام في ترجيح نفاة القياس ومثبتيه يطول استقصاؤه، لا تحتمل هذه الورقة بسطه أكثر من هذا، والله أعلم .
- -مسألة: سئل شيخ الإسلام عن جماعة من المسلمين اشتد نكيرهم على من أكل من ذبيحة يهودي أو نصراني مطلقا، ولا يدري ما حالهم، هل دخلوا في دينهم قبل نسخه وتحريفه وقبل مبعث النبي ﷺ أم بعد ذلك، بل يتناكحون، وتقر مناكحتهم عند جميع الناس، وهم أهل ذمة يؤدون الجزية، ولا يعرف من ولاهم من آبائهم، فهل للمنكرين عليهم منعهم من الذبح للمسلمين، أم لهم الأكل من ذبائحهم كسائر بلاد المسلمين ؟ أجاب: رضي الله عنه: ليس لأحد أن ينكر على أحد أكل من ذبيحة اليهود والنصارى في هذا الزمان، ولا يحرم ذبحهم للمسلمين، ومن أنكر ذلك فهو جاهل مخطئ مخالف لإجماع المسلمين، فإن أصل هذه المسألة فيها نزاع مشهور بين علماء المسلمين، ومسائل الاجتهاد لا يسوغ فيها الإنكار إلا ببيان الحجة، وإيضاح المحجة، لا الإنكار المجرد المستند إلى محض التقليد، فإن هذا فعل أهل الجهل والأهواء، كيف والقول بتحريم ذلك في هذا الزمان وقبله قول ضعيف جدا مخالف لما علم من سنة رسول الله ﷺ ولما علم من حال أصحابه والتابعين لهم بإحسان، وذلك لأن المنكر لهذا لا يخرج عن
قولين: إما أن يكون ممن يحرم ذبائح أهل الكتاب مطلقا، كما يقول ذلك من يقوله من الرافضة، وهؤلاء يحرمون نكاح نسائهم وأكل ذبائحهم، وهذا ليس من أقوال أحد من أئمة المسلمين المشهورين بالفتيا، ولا من أقوال أتباعهم، وهو خطأ مخالف للكتاب والسنة والإجماع القديم، فإن الله تعالى قال في كتابه: { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم }، فإن قيل: هذه الآية معارضة بقوله: { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن }، وبقوله تعالى: { ولا تمسكوا بعصم الكوافر }، قيل: الجواب من ثلاثة أوجه، أحدها: أن الشرك المطلق في القرآن لا يدخل فيه أهل الكتاب، وإنما يدخلون في الشرك المقيد، قال الله تعالى: { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين }، فجعل المشركين قسما غير أهل الكتاب، وقال تعالى: { إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا }، فجعلهم قسما غيرهم، فأما دخولهم في المقيد، ففي قوله تعالى: { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون }، فوصفهم بأنهم مشركون، وسبب هذا: أن أصل دينهم الذي أنزل الله به الكتب وأرسل به الرسل ليس فيه شرك، كما قال تعالى: { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون }، وقال تعالى: { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون }، وقال: { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت }، ولكنهم بدلوا وغيروا، فابتدعوا من الشرك ما لم ينزل به الله سلطانا، فصار فيهم شرك باعتبار ما ابتدعوا، لا باعتبار أصل الدين، وقوله تعالى: { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } هو تعريف للكوافر المعروفات اللاتي كن في عصم المسلمين، وأولئك كن مشركات لا كتابيات من أهل مكة ونحوها، الوجه الثاني: إذا قدر أن لفظ المشركات والكوافر يعم الكتابيات، فآية المائدة خاصة، وهي متأخرة نزلت بعد سورة البقرة والممتحنة باتفاق العلماء، كما في الحديث { المائدة من آخر القرآن نزولا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها } والخاص المتأخر يقضي على العام المتقدم باتفاق علماء المسلمين، لكن الجمهور يقولون إنه مفسر له، فتبين أن صورة التخصيص لم ترد باللفظ العام، وطائفة يقولون إن ذلك نسخ بعد أن شرع، الوجه الثالث: إذا فرضنا النصين خاصين، فأحد النصين حرم ذبائحهم ونكاحهم، والآخر أحلهما، فالنص المحلل لهما هنا يجب تقديمه لوجهين: أحدهما: أن سورة المائدة هي المتأخرة باتفاق العلماء، فتكون ناسخة للنص المتقدم، ولا يقال إن هذا نسخ للحكم مرتين ; لأن فعل ذلك قبل التحريم لم يكن بخطاب شرعي حلل ذلك، بل كان لعدم التحريم، بمنزلة شرب الخمر، وأكل الخنزير ونحو ذلك، والتحريم المبتدأ لا يكون نسخا لاستصحاب حكم الفعل، ولهذا لم يكن تحريم النبي ﷺ لكل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير ناسخا لما دل عليه قوله تعالى: { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه } الآية ; من أن الله عز وجل لم يحرم قبل نزول الآية إلا هذه الأصناف الثلاثة، فإن هذه الآية نفت تحريم ما سوى الثلاثة إلى حين نزول هذه الآية، ولم يثبت تحليل ما سوى ذلك، بل كان ما سوى ذلك عفوا لا تحليل فيه ولا تحريم، كفعل الصبي والمجنون، وكما في الحديث المعروف: { الحلال ما حلله الله في كتابه والحرام ما حرمه الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه }، وهذا محفوظ، عن سلمان الفارسي موقوفا عليه، أو مرفوعا إلى النبي ﷺ، ويدل على ذلك أنه قال في سورة المائدة { اليوم أحل لكم الطيبات }، فأخبر أنه أحلها ذلك اليوم، وسورة المائدة مدنية بالإجماع، وسورة الأنعام مكية بالإجماع، فعلم أن تحليل الطيبات كان بالمدينة لا بمكة، وقوله تعالى: { يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات } إلى قوله: { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم }، إلى آخرها، فثبت نكاح الكتابيات، وقبل ذلك كان إما عفوا على الصحيح، وإما محرما ثم نسخ، يدل عليه أن آية المائدة لم ينسخها شيء، الوجه الثاني: أنه قد ثبت حل طعام أهل الكتاب بالكتاب والسنة والإجماع، والكلام في نسائهم كالكلام في ذبائحهم، فإذا ثبت حل أحدهما، ثبت حل الآخر، وحل أطعمتهم ليس له معارض أصلا، ويدل على ذلك أن حذيفة بن اليمان تزوج يهودية، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، فدل على أنهم كانوا مجتمعين على جواز ذلك، فإن قيل: قوله تعالى: { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم }، محمول على الفواكه والحبوب، قيل: هذا خطأ لوجوه: أحدها: أن هذه
مباحة من أهل الكتاب والمشركين والمجوس، فليس في تخصيصها بأهل الكتاب فائدة، الثاني: أن إضافة الطعام إليهم يقتضي أنه صار طعاما بفعلهم، وهذا إنما يستحق في الذبائح التي صارت لحما بذكاتهم، فأما الفواكه فإن الله خلقها مطعومة لم تصر طعاما بفعل آدمي، الثالث: أنه قرن حل الطعام بحل النساء، وأباح طعامنا لهم، كما أباح طعامهم لنا، ومعلوم أن حكم النساء مختص بأهل الكتاب دون المشركين، كما أباح طعامهم لنا، ومعلوم أن حكم النساء مختص بأهل الكتاب دون المشركين، وكذلك حكم الطعام والفاكهة، والحب لا يختص بأهل الكتاب، الرابع: أن لفظ الطعام عام، وتناوله اللحم ونحوه أقوى من تناوله للفاكهة، فيجب إقرار اللفظ على عمومه، لا سيما وقد قرن به قوله تعالى: { وطعامكم حل لهم }، ونحن يجوز لنا أن نطعمهم كل أنواع طعامنا، فكذلك يحل لنا أن نأكل جميع أنواع طعامهم، وأيضا فقد ثبت في الصحاح، بل بالنقل المستفيض أن النبي ﷺ أهدت له اليهودية عام خيبر شاة مشوية، فأكل منها لقمة، ثم قال: { إن هذه تخبرني أن فيها سما }، ولولا أن ذبائحهم حلال لما تناول من تلك الشاة، وثبت في الصحيح أنهم لما غزوا خيبر، أخذ بعض الصحابة جرابا فيه شحم، قال: قلت لا أطعم اليوم من هذا أحدا، فالتفت فإذا رسول الله ﷺ يضحك ولم ينكر عليه، وهذا مما استدل به العلماء على جواز أكل جيش المسلمين من طعام أهل الحرب قبل القسمة، وأيضا { فإن رسول الله ﷺ أجاب دعوة يهودي إلى خبز شعير وإهالة سنخة }، رواه الإمام أحمد، والإهالة من الودك الذي يكون من الذبيحة ومن السمن ونحوه، الذي يكون في أوعيتهم التي يطبخون فيها في العادة، ولو كانت ذبائحهم محرمة لكانت أوانيهم كأواني المجوس ونحوهم، وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه نهى عن الأكل في أوعيتهم حتى رخص أن يغسل، وأيضا فقد استفاض أن أصحاب رسول الله ﷺ لما فتحوا الشام والعراق ومصر كانوا يأكلون من ذبائح أهل الكتاب: اليهود والنصارى، وإنما امتنعوا من ذبائح المجوس، ووقع في جبن المجوس من النزاع ما هو معروف بين المسلمين ; لأن الجبن يحتاج إلى الإنفحة، وفي إنفحة الميتة نزاع معروف بين العلماء، فأبو حنيفة يقول بطهارتها، ومالك والشافعي يقولان بنجاستها، وعن أحمد روايتان، فصل: المأخذ الثاني: الإنكار على من يأكل ذبائح أهل الكتاب هو كون هؤلاء الموجودين لا يعلم أنهم من ذرية من دخل في دينهم قبل النسخ والتبديل، وهو المأخذ الذي دل عليه كلام السائل، وهو المأخذ الذي تنازع فيه علماء المسلمين أهل السنة والجماعة، وهذا مبني على أصل، وهو أن قوله تعالى: { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم }، هل المراد به من هو بعد نزول القرآن متدين بدين أهل الكتاب ؟ أو المراد به من كان آباؤه قد دخلوا في دين أهل الكتاب قبل النسخ والتبديل ؟ على قولين للعلماء: فالقول الأول: هو قول جمهور المسلمين من السلف والخلف، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك، وأحد القولين في مذهب أحمد، بل هو المنصوص عنه صريحا، والثاني: قول الشافعي، وطائفة من أصحاب أحمد، وأصل هذا القول: أن عليا، وابن عباس تنازعا في ذبائح بني تغلب، فقال علي: لا تباح ذبائحهم ولا نساؤهم، فإنهم لم يتمسكوا من النصرانية إلا بشرب الخمر، وروي عنه، تغروهم ; لأنهم لم يقوموا بالشروط التي شرطها عليهم عثمان، فإنه شرط عليهم أن لا وغير ذلك من الشروط، وقال ابن عباس: بل تباح لقوله تعالى: { ومن يتولهم منكم فإنه منهم }، وعامة المسلمين من الصحابة وغيرهم لم يحرموا ذبائحهم، ولا يعرف ذلك إلا عن علي وحده، وقد روي معنى قول ابن عباس عن عمر بن الخطاب، فمن العلماء من رجح قول عمر وابن عباس، وهو قول الجمهور كأبي حنيفة، ومالك، وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وصححها طائفة من أصحابه، بل هي آخر قوليه، بل عامة المسلمين من الصحابة والتابعين وتابعيهم على هذا القول، وقال أبو بكر الأثرم: ما علمت أحدا من أصحاب النبي ﷺ كرهه إلا عليا، وهذا قول جماهير فقهاء الحجاز والعراق، وفقهاء الحديث والرأي، كالحسن، وإبراهيم النخعي، والزهري وغيرهم، وهو الذي نقله عن أحمد أكثر أصحابه، وقال إبراهيم بن الحارث: كان آخر قول أحمد على أنه لا يرى بذبائحهم بأسا، ومن العلماء من رجح قول علي، وهو قول الشافعي، وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وأحمد إنما اختلف اجتهاده في بني تغلب، وهم الذين تنازع فيهم الصحابة، فأما سائر اليهود والنصارى من العرب، مثل تنوخ وبهراء، وغيرهما من اليهود فلا أعرف عن أحمد في حل ذبائحهم نزاعا، ولا عن الصحابة، ولا عن التابعين وغيرهم من السلف، وإنما كان النزاع بينهم في بني تغلب خاصة، ولكن من أصحاب أحمد من جعل فيهم روايتين كبني تغلب، والحل مذهب الجمهور كأبي حنيفة ومالك، وما أعلم لقول الآخر قدوة من السلف، ثم هؤلاء المذكورون من أصحاب أحمد [ قالوا ] بأنه: من كان أحد أبويه غير كتابي، بل مجوسيا لم تحل ذبيحته ومناكحة نسائه، وهذا مذهب الشافعي فيما إذا كان الأب مجوسيا، وأما الأم فله فيها قولان، فإن كان الأبوان مجوسيين حرمت ذبيحته عند الشافعي ومن وافقه من أصحاب أحمد، وحكي ذلك عن مالك، وغالب ظني أن هذا غلط على مالك فإني لم أجده في كتب أصحابه، وهذا تفريع على الرواية المخرجة عن أحمد في سائر اليهود والنصارى من العرب، وهذا مبني على إحدى الروايتين عنه في نصارى بني تغلب، وهو الرواية التي اختارها هؤلاء، فأما إذا جعل الروايتين في بني تغلب دون غيرهم من العرب، أو قيل إن النزاع عام، وفرعنا على القول بحل ذبائح بني تغلب ونسائهم، كما هو قول الأكثرين، فإنه على هذه الرواية لا عبرة بالنسب، بل لو كان الأبوان جميعا مجوسيين أو وثنيين والولد من أهل الكتاب، فحكمه حكم أهل الكتاب على هذا القول بلا ريب، كما صرح بذلك الفقهاء من أصحاب أحمد وأبي حنيفة وغيرهم .
مسألة: وسئل شيخ الإسلام، عما يفعله الناس في يوم عاشوراء من الكحل، والاغتسال، والحناء والمصافحة، وطبخ الحبوب وإظهار السرور، وغير ذلك إلى الشارع: فهل ورد في ذلك عن النبي ﷺ حديث صحيح ؟ أم لا ؟ وإذا لم يرد حديث صحيح في شيء من ذلك فهل يكون فعل ذلك بدعة أم لا ؟ وما تفعله الطائفة الأخرى من المأتم والحزن والعطش، وغير ذلك من الندب والنياحة، وقراءة المصروع، وشق الجيوب، هل لذلك أصل ؟ أم لا ؟ الجواب: الحمد لله رب العالمين، لم يرد في شيء من ذلك حديث صحيح عن النبي ﷺ ولا عن أصحابه، ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين لا الأئمة الأربعة، ولا غيرهم، ولا روى أهل الكتب المعتمدة في ذلك شيئا، لا عن النبي ﷺ ولا الصحابة، ولا التابعين، لا صحيحا ولا ضعيفا، لا في كتب الصحيح، ولا في السنن، ولا المسانيد، ولا يعرف شيء من هذه الأحاديث على عهد القرون الفاضلة، ولكن روى بعض المتأخرين في ذلك أحاديث مثل ما رووا أن من اكتحل يوم عاشوراء لم يرمد من ذلك العام، ومن اغتسل يوم عاشوراء لم يمرض ذلك العام، وأمثال ذلك، ورووا فضائل في صلاة يوم عاشوراء، ورووا أن في يوم عاشوراء توبة آدم، واستواء السفينة على الجودي، ورد يوسف على يعقوب، وإنجاء إبراهيم من النار، وفداء الذبيح بالكبش ونحو ذلك، ورووا في حديث موضوع مكذوب على النبي ﷺ: { أنه من وسع على أهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر السنة }، ورواية هذا كله عن النبي ﷺ كذب، ولكنه معروف من رواية سفيان بن عيينة عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه، قال: { بلغنا أنه من وسع على أهله يوم عاشوراء، وسع الله عليه سائر سنته } وإبراهيم بن محمد بن المنتشر من أهل الكوفة، وأهل الكوفة كان فيه طائفتان، طائفة رافضة يظهرون موالاة أهل البيت، وهم في الباطن إما ملاحدة زنادقة، وإما جهال، وأصحاب هوى، وطائفة ناضبة تبغض عليا، وأصحابه، لما جرى من القتال في الفتنة ما جرى، وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال: { سيكون في ثقيف كذاب ومبير }، فكان الكذاب هو المختار بن أبي عبيد الثقفي، وكان يظهر موالاة أهل البيت، والانتصار لهم، وقتل عبيد الله بن زياد أمير العراق الذي جهز السرية التي قتلت الحسين بن علي رضي الله عنهما ثم إنه أظهر الكذب، وادعى النبوة، وأن جبريل عليه السلام ينزل عليه، حتى قالوا لابن عمر وابن عباس، قالوا لأحدهما: إن المختار بن أبي عبيد يزعم أنه ينزل عليه، فقال صدق، قال الله تعالى: { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم }، وقالوا للآخر: إن المختار يزعم أنه يوحى إليه فقال صدق: { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم }، وأما المبير فهو الحجاج بن يوسف الثقفي، وكان: منحرفا عن علي وأصحابه، فكان هذا من النواصب، والأول من الروافض، وهذا الرافضي كان: أعظم كذبا وافتراء، وإلحادا في الدين، فإنه ادعى النبوة، وذاك كان أعظم عقوبة لمن خرج على سلطانه، وانتقاما لمن اتهمه بمعصية أميره عبد الملك بن مروان، وكان في الكوفة بين هؤلاء وهؤلاء فتن وقتال فلما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما يوم عاشوراء قتلته الطائفة الظالمة الباغية، وأكرم الله الحسين بالشهادة، كما أكرم بها من أكرم من أهل بيته، أكرم بها حمزة وجعفر، وأباه عليا، وغيرهم، وكانت شهادته مما رفع الله بها منزلته، وأعلى درجته، فإنه هو وأخوه الحسن سيدا شباب أهل الجنة، والمنازل العالية لا تنال إلا بالبلاء، كما قال النبي ﷺ { لما سئل: أي الناس أشد بلاء فقال: الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه وإن كان في دينه رقة خفف عنه، ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة }، رواه الترمذي وغيره، فكان الحسن والحسين قد سبق لهما من الله تعالى ما سبق، من المنزلة العالية، ولم يكن قد حصل لهما من البلاء ما حصل لسلفهما الطيب، فإنهما ولدا في عز الإسلام، وتربيا في عز وكرامة، والمسلمون يعظمونهما ويكرمونهما، ومات النبي ﷺ ولم يستكملا من التمييز، فكانت نعمة الله عليهما أن ابتلاهما بما يلحقهما بأهل بيتهما، كما ابتلي من كان أفضل منهما، فإن علي بن أبي طالب أفضل منهما، وقد قتل شهيدا وكان مقتل الحسين مما ثارت به الفتن بين الناس، كما كان مقتل عثمان رضي الله عنه من أعظم الأسباب التي أوجبت الفتن بين الناس، وبسببه تفرقت الأمة إلي اليوم، ولهذا جاء في الحديث { ثلاث من نجا منهن فقد نجا: موتي، وقتل خليفة مصطبر والدجال }، فكان موت النبي ﷺ من أعظم الأسباب التي افتتن بها خلق كثير من الناس، وارتدوا عن الإسلام، فأقام الله تعالى الصديق رضي الله عنه حتى ثبت الله به الإيمان، وأعاد به الأمر إلى ما كان، فأدخل أهل الردة في الباب الذي منه خرجوا، وأقر أهل الإيمان على الدين الذي ولجوا فيه وجعل الله فيه من القوة والجهاد والشدة على أعداء الله، واللين لأولياء الله ما استحق به وبغيره أن يكون خليفة رسول الله ﷺ، ثم استخلف عمر فقهر الكفار من المجوس، وأهل الكتاب، وأعز الإسلام، ومصر الأمصار، وفرض العطاء، ووضع الديوان، ونشر العدل، وأقام السنة، وظهر الإسلام في أيامه ظهورا بان به تصديق قوله تعالى: { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا }، وقوله تعالى: { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا }، وقول النبي ﷺ: { إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله }، فكان عمر رضي الله عنه هو الذي أنفق كنوزهما فعلم أنه أنفقها في سبيل الله، وأنه كان خليفة راشدا مهديا، ثم جعل الأمر شورى في ستة، فاتفق المهاجرون والأنصار على تقديم عثمان بن عفان من غير رغبة بذلها لهم، ولا رهبة أخافهم بها وبايعوه بأجمعهم طائعين غير كارهين، وجرى في آخر أيامه أسباب ظهر بالشر فيها أهل العلم والجهل والعدوان، وما زالوا يسعون في الفتن حتى قتل الخليفة مظلوما شهيدا بغير سبب يبيح قتله، وهو صابر محتسب، لم يقاتل مسلما، فلما قتل رضي الله عنه تفرقت القلوب، وعظمت الكروب، وظهرت الأشرار، وذل الأخيار، وسعى في الفتنة من كان عاجزا عنها، وعجز عن الخير والصلاح من كان يحب إقامته، فبايعوا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو أحق الناس بالخلافة حينئذ، وأفضل من بقي، لكن كانت القلوب متفرقة، ونار الفتنة متوقدة، فلم تتفق الكلمة، ولم تنتظم الجماعة، ولم يتمكن الخليفة وخيار الأمة من كل ما يريدونه من الخير، ودخل في الفرقة والفتنة أقوام، وكان ما كان، إلى أن ظهرت الحرورية المارقة، مع كثرة صلاتهم وصيامهم وقراءتهم، فقاتلوا أمير المؤمنين عليا ومن معه، فقتلهم بأمر الله ورسوله، طاعة لقول النبي ﷺ لما وصفهم بقوله: { يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة }، وقوله: { تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين، يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق } أخرجاه في الصحيحين، فكانت هذه الحرورية هي المارقة، وكان بين المؤمنين فرقة، والقتال بين المؤمنين لا يخرجهم من الإيمان، كما قال تعالى: { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم }، فبين سبحانه وتعالى أنهم مع الاقتتال وبغي بعضهم على بعض مؤمنون إخوة، وأمر بإصلاح بينهم، فإن بغت إحداهما بعد ذلك قوتلت الباغية، ولم يأمر بالاقتتال ابتداء، وأخبر النبي ﷺ أن الطائفة المارقة يقتلها أدنى الطائفتين إلى الحق، فكان علي بن أبي طالب ومن معه هم الذين قاتلوهم، فدل كلام النبي ﷺ على أنهم أدنى إلى الحق من معاوية ومن معه مع إيمان الطائفتين، ثم إن عبد الرحمن بن ملجم من هؤلاء المارقين، قتل أمير المؤمنين عليا فصار إلى كرامة الله ورضوانه شهيدا، وبايع الصحابة للحسن ابنه، فظهرت فضيلته التي أخبر بها رسول الله ﷺ في الحديث الصحيح حيث قال: { إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين } فنزل عن الولاية وأصلح الله به بين الطائفتين، وكان هذا مما مدحه به النبي ﷺ وأثنى عليه، ودل ذلك على أن الإصلاح بينهما مما يحبه الله ورسوله ويحمده الله ورسوله، ثم إنه مات وصار إلى كرامة الله ورضوانه، وقامت طوائف كاتبوا الحسين ووعدوه بالنصر والمعاونة إذا قام بالأمر، ولم يكونوا من أهل ذلك، بل لما أرسل إليهم ابن عمه أخلفوا وعده، ونقضوا عهده، وأعانوا عليه من وعدوه أن يدفعوه عنه، ويقاتلوه معه، وكان أهل الرأي والمحبة للحسين كابن عباس وابن عمر وغيرهما أشاروا عليه بأن لا يذهب إليهم، ولا يقبل منهم، ورأوا أن خروجه إليهم ليس بمصلحة، ولا يترتب عليه ما يسر، وكان الأمر كما قالوا، وكان أمر الله قدرا مقدورا، فلما خرج الحسين - رضي الله عنه - ورأى أن الأمور قد تغيرت، طلب منهم أن يدعوه يرجع، أو يلحق ببعض الثغور، أو يلحق بابن عمه يزيد، فمنعوه هذا وهذا، حتى يستأسر، وقاتلوه فقاتلهم فقتلوه، وطائفة ممن معه، مظلوما شهيدا شهادة أكرمه الله بها وألحقه بأهل بيته الطيبين الطاهرين، وأهان بها من ظلمه واعتدى عليه، وأوجب ذلك شرا بين الناس، فصارت طائفة جاهلة ظالمة: إما ملحدة منافقة، وإما ضالة غاوية، تظهر موالاته، وموالاة أهل بيته تتخذ يوم عاشوراء يوم مأتم وحزن ونياحة، وتظهر فيه شعار الجاهلية من لطم الخدود، وشق الجيوب، والتعزي بعزاء الجاهلية، والذي أمر الله به ورسوله في المصيبة - إذا كانت جديدة - إنما هو الصبر والاحتساب والاسترجاع، كما قال تعالى: { وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون }، وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: { ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية }، وقال: { أنا بريء من الصالقة، والحالقة، والشاقة }، وقال: { النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب }، وفي المسند عن فاطمة بنت الحسين، عن أبيها الحسين عن النبي ﷺ أنه قال: { ما من رجل يصاب بمصيبة، فيذكر مصيبته وإن قدمت، فيحدث لها استرجاعا إلا أعطاه الله من الأجر مثل أجره يوم أصيب بها }، وهذا من كرامة الله للمؤمنين، فإن مصيبة الحسين وغيره إذا ذكرت بعد طول العهد، فينبغي للمؤمن أن يسترجع فيها كما أمر الله ورسوله ليعطى من الأجر مثل أجر المصاب يوم أصيب بها، وإذا كان الله تعالى قد أمر بالصبر والاحتساب عند حدثان العهد بالمصيبة، فكيف مع طول الزمان، فكان ما زينه الشيطان لأهل الضلال والغي من اتخاذ يوم عاشوراء مأتما، وما يصنعون فيه من الندب والنياحة، وإنشاد قصائد الحزن، ورواية الأخبار التي فيها كذب كثير والصدق فيها ليس فيه إلا تجديد الحزن، والتعصب، وإثارة الشحناء والحرب، وإلقاء الفتن بين أهل الإسلام، والتوسل بذلك إلى سب السابقين الأولين، وكثرة الكذب والفتن في الدنيا ولم يعرف طوائف الإسلام أكثر كذبا وفتنا ومعاونة للكفار على أهل الإسلام، من هذه الطائفة الضالة الغاوية، فإنهم شر من الخوارج المارقين، وأولئك قال فيهم النبي ﷺ: { يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان }، وهؤلاء يعاونون اليهود والنصارى والمشركين على أهل بيت النبي ﷺ وأمته المؤمنين كما أعانوا المشركين من الترك والتتار على ما فعلوه ببغداد، وغيرها، بأهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة ولد العباس، وغيرهم من أهل البيت والمؤمنين، من القتل والسبي وخراب الديار، وشر هؤلاء وضررهم على أهل الإسلام، لا يحصيه الرجل الفصيح في الكلام، فعارض هؤلاء قوم إما من النواصب المتعصبين على الحسين وأهل بيته، وإما من الجهال الذين قابلوا الفاسد بالفاسد، والكذب بالكذب، والشر بالشر، والبدعة بالبدعة، فوضعوا الآثار في شعائر الفرح والسرور يوم عاشوراء كالاكتحال والاختضاب، وتوسيع النفقات على العيال، وطبخ الأطعمة الخارجة عن العادة، ونحو ذلك مما يفعل في الأعياد والمواسم، فصار هؤلاء يتخذون يوم عاشوراء موسما كمواسم الأعياد والأفراح، وأولئك يتخذونه مأتما يقيمون فيه الأحزان والأتراح وكلا الطائفتين مخطئة خارجة عن السنة، وإن كان أولئك أسوأ قصدا وأعظم جهلا، وأظهر ظلما، لكن الله أمر بالعدل والإحسان، وقد قال النبي ﷺ: { إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة }، ولم يسن رسول الله ﷺ ولا خلفاؤه الراشدون في يوم عاشوراء شيئا من هذه الأمور، لا شعائر الحزن والترح، ولا شعائر السرور والفرح، { ولكنه ﷺ لما قدم المدينة وجد اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: ما هذا ؟ فقالوا، هذا يوم نجى الله فيه موسى من الغرق فنحن نصومه، فقال: نحن أحق بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه } وكانت قريش أيضا تعظمه في الجاهلية، واليوم الذي أمر الناس بصيامه كان يوما واحدا، فإنه قدم المدينة في شهر ربيع الأول، فلما كان في العام القابل صام يوم عاشوراء وأمر بصيامه ثم فرض شهر رمضان ذلك العام، فنسخ صوم عاشوراء، وقد تنازع العلماء: هل كان صوم ذلك اليوم واجبا ؟ أو مستحبا ؟ على قولين مشهورين أصحهما أنه كان واجبا، ثم إنه بعد ذلك كان يصومه من يصومه استحبابا، ولم يأمر النبي ﷺ العامة بصيامه، بل كان يقول: { هذا يوم عاشوراء، وأنا صائم فيه فمن شاء صام }، وقال: { صوم عاشوراء يكفر سنة، وصوم يوم عرفة يكفر سنتين }، { ولما كان آخر عمره ﷺ وبلغه أن اليهود يتخذونه عيدا، قال: لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع }، ليخالف اليهود، ولا يشابههم في اتخاذه عيدا، وكان من الصحابة والعلماء من لا يصومه، ولا يستحب صومه، بل يكره إفراده بالصوم، كما نقل ذلك عن طائفة من الكوفيين، ومن العلماء من يستحب صومه، والصحيح أنه يستحب لمن صامه أن يصوم معه التاسع ; لأن هذا آخر أمر النبي ﷺ لقوله: { لئن عشت إلى قابل، لأصومن التاسع مع العاشر } كما جاء ذلك مفسرا في بعض طرق الحديث، فهذا الذي سنه رسول الله ﷺ، وأما سائر الأمور: مثل اتخاذ طعام خارج عن العادة، إما حبوب وإما غير حبوب، أو تجديد لباس وتوسيع نفقة، أو اشتراء حوائج العام ذلك اليوم، أو فعل عبادة مختصة، كصلاة مختصة به، أو قصد الذبح، أو ادخار لحوم الأضاحي ليطبخ بها الحبوب، أو الاكتحال والاختضاب، أو الاغتسال أو التصافح، أو التزاور أو زيارة المساجد والمشاهد، ونحو ذلك، فهذا من البدع المنكرة، التي لم يسنها رسول الله ﷺ ولا خلفاؤه الراشدون، ولا استحبها أحد من أئمة المسلمين لا مالك ولا الثوري، ولا الليث بن سعد، ولا أبو حنيفة، ولا الأوزاعي، ولا الشافعي، ولا أحمد بن حنبل، ولا إسحاق بن راهويه، ولا أمثال هؤلاء من أئمة المسلمين، وعلماء المسلمين وإن كان بعض المتأخرين، من أتباع الأئمة قد كانوا يأمرون ببعض ذلك، ويروون في ذلك أحاديث وآثارا، ويقولون: " إن بعض ذلك صحيح، فهم مخطئون غالطون بلا ريب عند أهل المعرفة بحقائق الأمور، وقد قال حرب الكرماني في مسائله: سئل أحمد بن حنبل عن هذا الحديث: { من وسع على أهله يوم عاشوراء } فلم يره شيئا، وأعلى ما عندهم أثر يروى عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه أنه قال: بلغنا { أنه من وسع على أهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته } قال سفيان بن عيينة جربناه منذ ستين عاما فوجدناه صحيحا، وإبراهيم بن محمد كان من أهل الكوفة، ولم يذكر ممن سمع هذا ولا عمن بلغه، فلعل الذي قال هذا من أهل البدع الذين يبغضون عليا وأصحابه ويريدون أن يقابلوا الرافضة بالكذب: مقابلة الفاسد بالفاسد والبدعة بالبدعة، وأما قول ابن عيينة، فإنه لا حجة فيه، فإن الله سبحانه أنعم عليه برزقه، وليس في إنعام الله بذلك ما يدل على أن سبب ذلك كان التوسيع يوم عاشوراء، وقد وسع الله على من هم أفضل الخلق من المهاجرين والأنصار ولم يكونوا يقصدون أن يوسعوا على أهليهم يوم عاشوراء بخصوصه، وهذا كما أن كثيرا من الناس ينذرون نذرا لحاجة يطلبها، فيقضي الله حاجته، فيظن أن النذر كان السبب، وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ: { أنه نهى عن النذر، وقال: إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل }، فمن ظن أن حاجته إنما قضيت بالنذر، فقد كذب على الله ورسوله، والناس مأمورون بطاعة الله ورسوله، واتباع دينه وسبيله، واقتفاء هداه ودليله، وعليهم أن يشكروا الله على ما عظمت به النعمة، حيث بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، وقد قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: { إن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة }، وقد اتفق أهل المعرفة والتحقيق أن الرجل لو طار في الهواء، أو مشى على الماء، لم يتبع إلا أن يكون موافقا لأمر الله ورسوله، ومن رأى من رجل مكاشفة أو تأثيرا فاتبعه في خلاف الكتاب والسنة كان من جنس أتباع الدجال، فإن الدجال يقول للسماء: أمطري فتمطر، ويقول للأرض، أنبتي فتنبت، ويقول للخربة أخرجي كنوزك فتخرج معه كنوز الذهب والفضة، ويقتل رجلا ثم يأمره أن يقوم فيقوم، وهو مع هذا كافر ملعون عدو لله، قال النبي ﷺ: { ما من نبي إلا قد أنذر أمته الدجال: وأنا أنذركموه إنه أعور وإن الله ليس بأعور مكتوب بين عينيه كافر - ك ف ر - يقرؤه كل مؤمن قارئ وغير قارئ، واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت }، وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: { إذا قعد أحدكم في الصلاة فليستعذ بالله من أربع، يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال }، وقال ﷺ: { لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون دجالون كذابون، كلهم يزعم أنه رسول الله }، وقال ﷺ: { يكون بين يدي الساعة كذابون دجالون، يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم }، هؤلاء تنزل عليهم الشياطين وتوحي إليهم، كما قال تعالى: { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون }، ومن أول من ظهر من هؤلاء المختار بن أبي عبيد المتقدم ذكره، ومن لم يفرق بين الأحوال الشيطانية والأحوال الرحمانية: كان بمنزلة من سوى بين محمد رسول الله وبين مسيلمة الكذاب، فإن مسيلمة كان له شيطان ينزل عليه ويوحي إليه، ومن علامات هؤلاء أن الأحوال إذا تنزلت عليهم وقت سماع المكاء والتصدية أزبدوا وأرعدوا - كالمصروع - وتكلموا بكلام لا يفقه معناه، فإن الشياطين تتكلم على ألسنتهم، كما تتكلم على لسان المصروع، والأصل في هذا الباب: أن يعلم الرجل أن أولياء الله هم الذين نعتهم الله في كتابه، حيث قال: { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين آمنوا وكانوا يتقون }، فكل من كان مؤمنا تقيا كان لله وليا، وفي الحديث الصحيح عن النبي ﷺ { أنه قال: يقول الله تعالى: من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه }، ودين الإسلام مبني على أصلين، على أن لا نعبد إلا الله، وأن نعبده بما شرع، لا نعبده بالبدع، قال تعالى: { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا }، فالعمل الصالح ما أحبه الله ورسوله، وهو المشروع المسنون، ولهذا كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول في دعائه، اللهم اجعل عملي كله صالحا واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه شيئا .