الرئيسيةبحث

إقامة الدليل على إبطال التحليل/4


الوجه الثالث عشر: أن قولهم ينفي التحيز لفظ مجمل، فإن التحيز المعروف في اللغة، هو أن يكون الشيء بحيث يحوزه ويحيط به موجود غيره، كما قال تعالى: { ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله } فإن التحيز مأخوذ من حازه يحوزه، فهذا المعنى هو أحد المعنيين اللذين ذكرناهما بقولنا: إن أراد أنه لا تحيط به المخلوقات ولا يكون في جوف الموجودات، فهذا مذكور مصرح به في كلامي، فأي فائدة في تحديده، وأما التحيز الذي يعنيه المتكلمون فأعم من هذا فإنهم يقولون العالم كله متحيز، وإن لم يكن في شيء آخر موجود، إذ كل موجود سوى الله فإنه من العالم وقد يفرقون بين الحيز والمكان، فيقولون الحيز: تقدير المكان، وكل قائم بنفسه مباين لغيره بالجهة فإنه متحيز عندهم وإن لم يكن في شيء موجود، ولهذا يقول بعضهم: التحيز من لوازم الجسم، ويقول بعضهم: هو من لوازم القيام بالنفس كالتميز والمباينة، وعلى هذا التفسير فالحيز إما وجودي، وإما عدمي، فإن كان عدميا فالقول فيه كالقول في معنى الجهة العدمية، وإن كان وجوديا فإما أن يراد به ما ليس خارجا ، أو ما هو خارجا عنه فالأول مثل حدود المتحيز وجوانبه فلا يكون الحيز شيئا خارجا على المتحيز على هذا التفسير، وإما أن يعنى به شيء موجود منفصل عن المتحيز خارج عنه، فهذا هو التفسير الأول وليس غير الله إلا العالم، فمن قال إنه في حيز موجود منفصل عنه، فقد قال إنه في العالم أو بعضه وهذا مما قد صرحنا بنفيه، وإذا كان كذلك فلا بد من تفصيل المقال ليزول هذا الإبهام والإجمال، الوجه الرابع عشر: وأما قولهم: ولا يقول: إن كلام الله حرف وصوت قائم به، بل هو معنى قائم بذاته، فقد قلت في الجواب المختصر البديهي ليس في كلامي هذا أيضا ولا قلته قط، بل قول القائل: إن القرآن حرف وصوت قائم به بدعة، وقوله: إنه معنى قائم به بدعة، لم يقل أحد من السلف لا هذا ولا هذا، وأنا ليس في كلامي شيء من البدع، بل في كلامي ما أجمع عليه السلف، أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وذلك أني قد أجبت في مسألة القرآن والحرف والصوت، وما وقع في ذلك من النزاع والاضطراب في جواب الفتيا الدمشقية وفصلت القول فيها وفي مسألة العرش وبينته، وكذلك في جواب الفتيا المصرية، قد بينته وفصلته في هذا وفي هذا، وأزلت ما وقع فيه أكثر الناس من الاختلاف والشقاق الذي خرجوا به عن السنة والجماعة، إلى البدعة والافتراق، وبسطت ذلك بسطا متوسطا في جواب الاستفتاء الذي ورد به قاضي جيلان لما وقع بينهم من الفتنة في كلام الآدميين، وأظهروا من البدعة والغلو في الإثبات، ونفي الخلق عن كثير من المخلوقات ما هو من أعظم الجهالات والضلالات، وقد كتبت جملا من الكلام في ذلك في جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية، وفي فتاوى أخر ومواضع أخر، قال مسألة القرآن وقع فيها بين السلف والخلف من الاضطراب والنزاع ما لم يقع نظيره في مسألة العلو والارتفاع، إذ لم يكن على عهد السلف من يبوح بإنكار ذلك ونفيه كما كان على عهدهم ممن أباح بإظهار القول بخلق القرآن، ولا اجترأت الجهمية إذ ذاك على دعاء الناس إلى نفي علو الله على عرشه، بل ولا أظهرت ذلك كما اجترءوا على دعاء الناس إلى القول بخلق القرآن، وامتحانهم على ذلك، وعقوبة من لم يجبهم بالحبس، والضرب، والقتل وقطع الرزق، والعزل عن الولايات، ومنع قبول الشهادة، وترك افتدائهم من أسر العدو، إلى غير ذلك من العقوبات التي إنما تصلح لمن خرج عن الإسلام وبدلوا بذلك الدين نحو تبديل كثير من المرتدين، فأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، فجاهدوا في الله حق جهاده، متبعين سبيل الصديق وإخوانه الذين جاهدوا المرتدين بعد موت رسول الله ﷺ حتى وسم المسلمون بالإمامة وبأنه الصديق الثاني من كان أحق بهذا التحقيق عند فتور الواني فإن أولئك الجهمية جعلوا المؤمنين كفارا مرتدين، وجعلوا ما هو من الكفر والتكذيب للرسول إيمانا وعلما، ولبسوا على الأئمة والأمة الحق بالباطل، وكانت فتنتهم في الدين أعظم ضررا من فتنة الخوارج المارقين، فإن أولئك وإن كفروا المؤمنين واستحلوا دماءهم وأموالهم، ولم تكن فتنتهم الجحود لكلام رب العالمين وأسمائه وصفاته وما هو عليه في حقيقة ذاته، بل كانت فيما دون ذلك من الخروج عن السنة المشروعة، وإن كان أهل المقالات قد نقلوا أن قول الخوارج في التوحيد هو قول الجهمية المعتزلة، فهذا سر للجهمية لكن يشبه - والله أعلم - أن يكون ذلك قد قاله من بقايا الخوارج من كان موجودا حين حدوث مقالة جهم في أوائل المائة الثانية فأما قبل ذلك فلم يكن حدث في الإسلام قول جهم في نفي الصفات، والقول بخلق القرآن، وإنكار أن يكون الله على العرش ونحو ذلك، فلا يصح إضافة هذا القول إلى أحد من المسلمين قبل المائة الثانية، لا من الخوارج، ولا من غيرهم، فإنه لم يكن في الإسلام إذ ذاك من يتكلم بشيء من هذه السلوب الجهمية، ولا نقل أحد عن الخوارج المعروفين إذ ذاك ولا عن غيرهم شيئا من هذه المقالات الجهمية ومن أعظم أسباب بدع المتكلمين من الجهمية وغيرهم، قصورهم في مناظرة الكفار والمشركين، فإنهم يناظرونهم ويحاجونهم بغير الحق والعدل، لينصروا الإسلام زعموا بذلك، فيسقط عليهم أولئك لما فيهم من الجهل والظلم ويحاجونهم بممانعات ومعارضات ; فيحتاجون حينئذ إلى جحد طائفة من الحق الذي جاء به الرسول والظلم والعدوان لإخوانهم المؤمنين بما استظهر عليهم أولئك المشركون فصار قولهم مشتملا على إيمان وكفر وهدى وضلال، ورشد وغي، وجمع بين النقيضين وصاروا مخالفين للكفار والمؤمنين كالذي يقاتلون الكفار والمؤمنين ومثلهم في ذلك مثل من فرط في طاعة الله وطاعة رسوله من ملوك النواحي والأطراف، حتى يسلط عليهم العدو تحقيقا لقوله: { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا }، يقاتلون العدو قتالا مشتملا على معصية الله من الغدر والمثلة والغلول والعدوان، حتى احتاجوا في مقاتلة ذلك العدو إلى العدوان على إخوانهم المؤمنين، والاستيلاء على نفوسهم وأموالهم وبلادهم، وصاروا يقاتلون إخوانهم المؤمنين بنوع مما كانوا يقاتلون به المشركين وربما رأوا قتال المسلمين آكد وبهذا وصف النبي ﷺ - الخوارج حيث قال: { يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان } وهذا موجود في سيرة كثير من ملوك الأعاجم وغيرهم، وكثير من أهل البدع وأهل الفجور فحال أهل الأيدي والقتال، يشبه حال أهل الألسنة والجدال، وهكذا ذكر العلماء مبدأ حال جهم، فقال الإمام أحمد فيما أخرجه في الرد على الزنادقة والجهمية قال أحمد: وكذلك الجهم وشيعته دعوا الناس إلى المتشابه من القرآن والحديث، فضلوا وأضلوا بكلامهم بشرا كثيرا فكان مما بلغنا من أمر الجهم عدو الله: أنه كان من أهل خراسان من أهل الترمذ، وكان صاحب خصومات وكلام وكان أكثر كلامه في الله تبارك وتعالى فلقي ناسا من المشركين يقال لهم السمنية، فعرفوا الجهم فقالوا له: نكلمك فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا، وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك، فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا له ألست تزعم أن لك إلها ؟ قال الجهم: نعم فقالوا له: فهل رأيت إلهك ؟ قال لا فقالوا له هل سمعت كلامه قال لا قالوا فشممت له رائحة ؟ قال: لا قالوا: فوجدت له حسا ؟ قال: لا قالوا: فوجدت له مجسا ؟ قال: لا قالوا فما يدريك أنه إله ؟ قال فتحير الجهم فلم يدر من يعبد أربعين يوما، ثم إنه استدرك حجة من جنس حجة الزنادقة من النصارى، وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح التي في عيسى هي من روح الله من ذات الله وإذا أراد الله أن يحدث أمرا دخل في بعض خلقه فتكلم على لسان بعض خلقه فيأمر بما شاء وينهى عن ما شاء وهو روح غائب عن الأبصار، فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة فقال للسمني ألست تزعم أن فيك روحا ؟ فقال: نعم قال فهل رأيت روحك ؟ قال لا، قال: فسمعت كلامه قال لا: قال فوجدت له حسا ؟ قال لا، قال: فكذلك الله لا يرى له وجه، ولا يسمع له صوت، ولا يشم له رائحة وهو غائب عن الأبصار، ولا يكون في مكان دون مكان قال ووجد ثلاث آيات في القرآن من المتشابه قوله { ليس كمثله شيء } . { وهو الله في السموات وفي الأرض }، { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار }، فبنى أصل كلامه كله على هؤلاء الآيات، وتأول القرآن على غير تأويله، وكذب بأحاديث رسول الله ﷺ - وعزم أن من وصف من الله شيئا مما وصف الله به نفسه في كتابه أو حدث عنه رسوله كان كافرا، وكان من المشبهة، وأضل بشرا كثيرا، وتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة، وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة، ووضع دين الجهمية، وهكذا وصف العلماء حال جهم كما قال أبو عبد الله محمد بن سلام البيكندي شيخ البخاري في كتاب السنة والجماعة من تأليفه، ما جاء في بدو الجهمية والسمنية وكيف كان شأنهم وكفرهم بآيات الله عن حفص بن عبد الرحمن البجلي قال: حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن أيوب بن أبي تميمة قال: ما أعلم أحدا من أهل الصلاح أكذب على كتاب الله من السمنية، قال: وهو عندنا كما قال لا أعلم أن أحدا أجهل ولا أحق قولا منهم، لا يتعلقون من كتاب الله بشيء ولا يحتجون إنما هو حب وبغض، ومن أحب دخل الجنة ومن أبغض دخل النار، وصارت طائفة جهمية لم تكن على عهد رسول الله ﷺ - ولا على عهد الصحابة، وإنما هو رأي محدث ويرون أن أول من تكلم جهم بن صفوان، وكان جهم فيما بلغنا لا يعرف بفقه ولا ورع ولا صلاح، أعطي لسانا منكرا، فكان يجادل ويقول برأيه، يجادل السمنية وهم شبه المجوس يعتقدون الأصنام، فكلمهم فأخرجوه حتى ترك الصلاة أربعين يوما لا يعرف ربه وكلامهم يدعو إلى الزندقة، وكلامهم وضعناه لغير واحد من أهل اللغة والبصر، فمالوا آخر أمرهم إلى الزندقة، والرجل إذا رسخ في كلامهم ترك الصلاة واتبع الشهوات وكان أبو الجوزاء صاحب جهم، وكان أقوى في أمرهم من جهم فيما بلغنا، وكان يسكن الغاريات، وأخبرنا أناس من أهلها من صالحيهم أنه ترك الصلاة وشرب الخمر، واتبع الشهوات، وأفسد عالما من الناس فنعوذ بالله من الضلالة بعد الهدى، ما أعلم ممن تكلم في الإسلام قوما أخبث من كلامهم، القرآن كله نقض على كلامهم، وبلغنا أن منهم من يقول إن ما يفسد علينا كلامنا القرآن ويكسره، لا يرون أن في السماء ساكنا، وذكر طوفا من كلامهم ثم قال: قال علي سمعت عبد الله يقول: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية وقال في شعر له: ولا أقول بقول الجهم إن له قولا يضارع قول الشرك أحيانا ثم قال حدثنا عبيد الله - يعني ابن واصل - حدثنا عبد الله بن محمد شيخ من أهل بغداد - حدثنا ابن صالح قال: لقيت جهما فقلت: نطق الله ؟ قال: لا، قلت: فهو ينطق ؟ قال: لا قلت: فمن يقول يوم القيامة: { لمن الملك اليوم } ومن يرد عليه: { لله الواحد القهار }، قال: إنهم زادوا في القرآن ونقصوا منه، وروى أبو داود والخلال وغيرهما عن ابن شوذب: ترك جهم الصلاة أربعين يوما وكان فيمن خرج مع الحارث بن سريج، وعن مروان بن معاوية الفزاري وذكر جهما فقال: قبح الله جهما حدثني ابن عم لي أنه شك في الله أربعين صباحا، وذكر البخاري في كتاب خلق الأفعال عن يحيى بن أيوب، قال: كنا يوما عند مروان بن معاوية الفزاري فسأله رجل عن حديث الرؤية فلم يحدثه به، قال: إن لم تحدثني به فأنت جهمي، فقال مروان: أتقول لي جهمي وجهم مكث أربعين ليلة لا يعرف ربه، قال البخاري وقال ضمرة بن شوذب: ترك جهم الصلاة أربعين يوما على وجه الشك، فخاصمه بعض السمنية فشك، فأقام أربعين يوما لا يصلي، قال ضمرة: وقد رآه ابن شوذب، قال البخاري وقال عبد العزيز بن أبي سلمة: كلام جهم صفة بلا معنى، وبناء بلا أساس، ولم يعد قط من أهل العلم، وروى أبو داود الخلال عن إبراهيم بن طهمان قال: ما ذكرته ولا ذكر عندي إلا دعوت الله عليه ; ما أعظم ما أورث أهل القبلة من منطقه هذا العظيم يعني جهما، وعن يحيى بن شبل قال: كنت جالسا مع مقاتل بن سليمان وعبد الله بن كثير، إذ جاء شاب فقال: ما تقولون في قوله: { كل شيء هالك إلا وجهه }، فقال مقاتل هذا جهمي، ثم قال: ويحك إن جهما والله ما حج هذا البيت قط ولا جالس العلماء، إنما كان رجلا أعطي لسانا، هذا وقد ذكر البخاري قال: وقال ابن مقاتل: سمعت ابن المبارك يقول: من قال إني أنا الله لا إله إلا أنا مخلوق فهو كافر ولا ينبغي لمخلوق أن يقول ذلك قال: وقال أيضا: ولا أقول بقول الجهم إن له قولا يضارع قول الشرك أحيانا ولا أقول تخلى من بريته رب العباد وولى الأمر شيطانا ما قال فرعون هذا في تجبره فرعون موسى ولا فرعون هامانا قال البخاري وقال ابن المبارك: لا تقول كما قالت الجهمية، إنه في الأرض ههنا بل على العرش استوى، وقيل له: كيف نعرف ربنا، قال: فوق سماواته على عرشه، وقال الرجل منهم أبطنك خال منه ؟ فبهت الآخر، وقال: من قال لا إله إلا هو مخلوق فهو كافر، وإنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية، قال البخاري: وقال سعيد بن عامر: الجهمية شر قولا من اليهود والنصارى قد اجتمعت اليهود والنصارى وأهل الأديان على أن الله تعالى على العرش، وقالوا هم ليس على العرش، وروى البخاري عن وكيع بن الجراح، أنه قال: لا تستخفوا بقولهم القرآن مخلوق، فإنه من شر قولهم إنما يذهبون إلى التعطيل، فهذا الذي ذكره الإمام أحمد من مبدإ حال جهم إمام هؤلاء المتكلمين النفاة يبين ما ذكرته فإنه لما ناظر من ناظره من المشركين السمنية من الهند، وجحدوا الإله لكون الجهم لم يدركه بشيء من حواسه، لا ببصره، ولا بسمعه، ولا بشمه ولا بذوقه ولا بحسه، كان مضمون هذا الكلام أن كل ما لا يحسه الإنسان بحواسه الخمس فإنه ينكره ولا يقربه، فأجابهم الجهم أنه قد يكون في الموجود ما لا يمكن إحساسه بشيء من هذه الحواس، وهي الروح التي في العبد، وزعم أنها لا تختص بشيء من الأمكنة، وهذا الذي قاله هو قول الصابئة الفلاسفة المشائين، وقد قال البخاري: قال قتيبة يعني ابن سعيد: بلغني أن جهما كان يأخذ هذا الكلام من الجعد بن درهم، وقال البخاري: حدثنا قتيبة، حدثنا القاسم بن محمد، حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حبيب بن أبي حبيب، عن أبيه، عن جده، قال: شهدت خالد بن عبد الله القشيري بواسط يوم أضحى، قال: ارجعوا فضحوا تقبل الله منكم فإني مضح بالجعد بن درهم، زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما سبحانه وتعالى عما يقول الجعد علوا كبيرا، ثم نزل فذبحه، وهذا الجعد قد ذكروا أنه كان من أهل حران وهو معلم مروان بن محمد، ولهذا يقال له الجعدي، وكان حران إذ ذاك دار الصابئة الفلاسفة الباقين على ملة سلفهم أعداء إبراهيم الخليل، فإن إبراهيم الخليل كان منهم ودعاهم إلى الحنفية وكان من قصة ما ذكره الله في كتابه، والحجة التي ذكرها مشركو الهند باطلة والجواب الذي أجاب به مبتدعة الصابئين ومن اتبعهم من مبتدعة هذه الأمة باطل وذلك أن قول القائل ما لا يحس به العبد لا يقر به أو ينكره أو أن يريد به أن كل أحد من العباد لا يقر إلا بما أحسه هو بشيء من حواسه الخمس أو يريد به أنه لا يقر العبد إلا بما أحس به العباد في الجملة، أو بما يمكن الإحساس به في الجملة فإن كان أرادوا الأول، وهو الذي حكاه عنهم طائفة من أهل المقالات، حيث ذكروا عن السمنية أنهم ينكرون من العلوم ما سوى الحسيات فينكرون المتواترات والمجربات والضروريات العقلية وغير ذلك إلا أن هذه الحكاية لا تصح على إطلاقها عن جمع من العقلاء في مدينة أو قرية، وما ذكره من مناظرة الجهم لهم يدل على إقرارهم بغير ذلك وذلك أن حياة بني آدم وعيشهم في الدنيا لا يتم إلا بمعاونة بعضهم لبعض في الأقوال أخبارها وغير أخبارها وفي الأعمال أيضا فالرجل منهم لا بد أن يقر أنه مولود، وأن له أبا وطئ أمه، وأما ولدته وهو لم يحس بشيء من ذلك من حواسه الخمس، بل أخبر بذلك ووجد في قلبه ميلا إلى ما أخبر به، وكذلك علمه بسائر أقاربه من الأعمام والأخوال والأجداد وغير ذلك، وليس في بني آدم أمة تنكر الإقرار بهذا وكذلك لا ينكر أحد من بني آدم أنه ولد صغيرا وأنه ربي بالتغذية والحضانة ونحو ذلك حتى كبر وهو إذا كبر لم يذكر إحساسه بذلك قبل تمييزه، بل لا ينكر طائفة من بني آدم أمورهم الباطنة مثل جوع أحدهم وشبعه ولذته وألمه ورضاه وغضبه وحبه وبغضه وغير ذلك مما لم يشعر به بحواسه الخمس الظاهرة بل يعلمون أن غيرهم من بني آدم يصيبهم ذلك، وذلك ما لم يشعروا به بالحواس الخمس الظاهرة وكذلك ليس في بني آدم من لا يقر بما كان في غير مدينتهم من المدائن والسير والمتاجر وغير ذلك مما هم متفقون على الإقرار به وهم مضطرون إلى ذلك وكذا لا ينكرون أن الدور التي سكنوها قد بناها البناءون، والطبيخ الذي يأكلونه طبخه الطباخون والثياب المنسوجة التي يلبسونها نسجها النساجون، وإن كان ما يقرون به من ذلك لم يحسه أحدهم بشيء من حواسه الخمس وهذا باب واسع فمن قال إن أمة من الأمم تنكر هذه الأمور، فقد قال الباطل . قال وسمعت عبد الله بن أحمد قال ذكر أبو بكر الأعين قال سئل أحمد بن حنبل عن تفسير قوله، القرآن كلام الله منه خرج وإليه يعود فقال أحمد منه خرج هو المتكلم به وإليه يعود قال الخلال أخبرني حرب بن إسماعيل الكرماني حدثنا أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم يعني ابن راهويه، عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال أدركت الناس منذ سبعين سنة أدركت أصحاب النبي ﷺ فمن دونهم يقولون الله خالق وما سواه مخلوق إلا القرآن فإنه كلام الله منه خرج وإليه يعود قال الخلال حدثني عبد الله بن أحمد، حدثني محمد بن إسحاق الصغاني، حدثني أبو حاتم الطويل، قال قال وكيع: من قال إن كلام الله ليس منه فقد كفر، ومن قال إن شيئا منه مخلوق فقد كفر -، وروى أبو القاسم اللالكائي قال ذكر أحمد بن فرح الضرير، وحدثني علي بن الحسين الهاشمي حدثنا عمي قال سمعت وكيع بن الجراح يقول من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن شيئا من الله مخلوق فقلت يا أبا سفيان من أين قلت هذا ؟ قال: لأن الله يقول { ولكن حق القول مني } ولا يكون شيء من الله مخلوقا، قال اللالكائي وكذلك فسره أحمد بن حنبل ونعيم بن حماد والحسن بن الصباح البزار، وعبد العزيز بن يحيى الكناني فهذا لفظ وكيع بن الجراح الذي سماه زرقان وهو لفظ سائر الأئمة الذين حرف محمد بن شجاع قولهم فإن قولهم كلام الله من الله يريدون به شيئين: أحدهما: أنه صفة من صفاته والصفة مما تدخل في مسمى اسمه وهذا كما قال الإمام أحمد فالعلم من الله وله وعلم الله منه وكقوله وقول غيره من الأئمة ما وصف الله من نفسه وسمى من نفسه ولا ريب أن هذا يقال في سائر الصفات كالقدرة والحياة والسمع والبصر وغير ذلك فإن هذه الصفات كلها من الله أي مما تدخل في مسمى اسمه، والثاني: يريدون بقولهم كلام الله منه أي خرج منه وتكلم به كقوله تعالى: { كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا } وذلك كقوله: { ولكن حق القول مني }، وقوله: { تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم } وهذا اللفظ والمعنى مما استفاضت به الآثار كما قد تقدم رواية عن ابن عباس أنه كان في جنازة فلما وضع الميت في اللحد قام رجل وقال اللهم رب القرآن اغفر له فوثب إليه ابن عباس فقال مه القرآن منه، وفي الرواية الأخرى فقال ابن عباس: القرآن كلام الله وليس بمربوب منه خرج وإليه يعود، وقد رواه الطبراني في كتاب السنة أيضا حدثنا أحمد بن القاسم بن مساور الجوهري حدثنا عاصم بن علي حدثنا أبي عن عمران بن حدير عن عكرمة قال كان ابن عباس في جنازة فلما وضع الميت في لحده قام رجل فقال: اللهم رب القرآن أوسع عليه مدخله اللهم رب القرآن اغفر له فالتفت إليه ابن عباس فقال: مه القرآن كلام الله وليس بمربوب منه خرج وإليه يعود وقال الخلال حدثني المروذي في الكتاب الذي عرضه على أحمد بن حنبل، قال وقد أخبرني شيخ أنه سمع ابن عيينة يقول القرآن خرج من الله قال وحدثنا أبو عبد الله يعني أحمد بن حنبل، حدثنا ابن مهدي، عن معاوية بن صالح عن العلاء بن الحارث عن زيد بن أرطاة عن جبير بن نفير قال: قال رسول الله: " إنكم لن ترجعوا إلى الله بشيء أفضل مما خرج منه " يعني القرآن قال وحدثنا عباس الوراق وغيره عن أبي النضر هاشم بن القاسم حدثنا بكر بن حنيس عن ليث بن أبي سليم عن زيد بن أرطاة عن أبي أمامة قال قال رسول الله: { ما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه } يعني القرآن الحديث، قلت: والأول المرسل أثبت من هذا، وقد رواهما الترمذي فقال: حدثنا أحمد بن منيع، حدثنا أبو النضر، حدثنا بكر بن خنيس، عن ليث بن أبي سليم، عن زيد بن أرطاة، عن أبي أمامة قال: قال النبي ﷺ { ما أذن الله لعبد في شيء أفضل من ركعتين يصليهما، وإن البر ليذر على رأس العبد ما دام في صلاته، وما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه }، قال أبو النضر يعني القرآن، قال الترمذي هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وبكر بن خنيس قد تكلم فيه ابن المبارك وتركه في آخر أمره وقد روي هذا الحديث عن زيد بن أرطاة عن جبير بن نفير، عن النبي ﷺ - مرسلا، حدثنا بذلك إسحاق بن منصور، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية عن العلاء بن الحارث عن زيد بن أرطاة عن جبير بن نفير قال قال النبي ﷺ: { إنكم لن ترجعوا إلى الله بأفضل مما خرج منه يعني القرآن }، وروى أبو القاسم اللالكائي حديث عمرو بن دينار المتقدم وذكره من طريق محمد بن جرير الطبري حدثنا محمد بن أبي منصور الأيلي، حدثنا الحكم بن محمد أبو مروان الأيلي، حدثنا ابن أبي عيينة سمعت عمرو بن دينار يقول: أدركت مشايخنا والناس منذ سبعين سنة يقولون القرآن كلام الله منه بدأ وإليه يعود، قال اللالكائي روى عبد العزيز بن منيب المروذي عن ابن عيينة بهذا اللفظ، قال ورواه عبد الرحمن بن أبي حاتم عن محمد بن عمار بن حريث، حدثنا أبو مروان الطبري بمكة وكان فاضلا حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار سمعت شيختنا منذ سبعين سنة يقولون القرآن كلام الله غير مخلوق، قال محمد بن عمار وأن شيخته أصحاب رسول الله ﷺ ابن عباس وجابر، وذكر جماعة، قال ورواه محمد بن مقاتل المروذي سمعت أبا وهب وكان من ساكني مكة وكان رجل صدق عن ابن عيينة بهذا اللفظ، وكذلك رواه يزيد بن وهب عن سفيان ومحمد بن عبد الله بن مسرة عن سفيان بهذا اللفظ، قلت: وكذلك رواه البخاري عن الحكم بهذا اللفظ لكنه اقتصر به على سفيان، فقال حدثني الحكم بن محمد الطبري كتبت عنه بمكة، حدثنا سفيان بن عيينة قال: أدركت شيختنا منذ سبعين سنة منهم عمرو بن دينار يقولون القرآن كلام الله وليس بمخلوق ولم يروه اللالكائي هكذا عن غير البخاري وإسحاق بن راهويه قد أثبت اللفظين جميعا عن ابن عيينة عن عمرو مكتمل الإسناد والمتن وإنما سمى والله أعلم زرقان وكيعا لأنه كان من أعلم الأئمة بكفر الجهمية وباطن قولهم وكان من أعظمهم ذما لهم وتنفيرا عنهم، فبلغ الجهمية من ذمه لهم ما لم يبلغهم من ذم غيره إذ هم من أجهل الناس بالآثار النبوية وكلام السلف والأئمة كما يشهد بذلك كتبهم، ومحمد بن شجاع هذا مجروح متهم في روايته وترجمته في كتب الجرح والتعديل ترجمة معروفة وتجريح حكام الجرح والتعديل له مشهور، قال البخاري في كتاب خلق الأفعال، حدثني أبو جعفر محمد بن عبد الله، حدثني محمد بن قدامة اللال الأنصاري قال سمعت وكيعا يقول لا تستخفوا بقولهم القرآن مخلوق فإنه شر قولهم إنما يذهبون إلى التعطيل، قال البخاري وقال وكيع الرافضة شر من القدرية والحرورية شر منهما والجهمية شر هذه الأصناف قال الله تعالى: { وكلم الله موسى تكليما } ويقولون لم يكلم ويقولون الإيمان بالقلب، قال البخاري: وقال وكيع احذروا هؤلاء المرجئة وهؤلاء الجهمية والجهمية كفار والمريسي جهمي وعلمتم كيف كفروا قالوا تكفيك المعرفة وهذا كفر، والمرجئة يقولون الإيمان قول بلا فعل وهذا بدعة، فمن قال القرآن مخلوق فهو كافر بما أنزل على محمد ﷺ يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه، قال: وقال وكيع على المريسي لعنه الله يهودي هو أو نصراني، فقال له رجل كان أبوه أو جده يهوديا أو نصرانيا قال وكيع وعلى أصحابه لعنة الله القرآن كلام الله، وضرب وكيع إحدى يديه على الأخرى فقال هو ببغداد يقال له المريسي يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه .

قال البخاري: وسئل عبد الله بن إدريس عن الصلاة خلف أهل البدع فقال لم يزل في الناس إذا كان فيهم مرضى أو عدل فصل خلفه، فقلت: فالجهمية قال لا، هذه من المقاتل هؤلاء لا يصلى خلفهم ولا يناكحون وعليهم التوبة، وسئل حفص بن غياث فقال فيهم ما قال ابن إدريس قيل فالجهمية قال لا أعرفهم قيل له: قوم يقولون القرآن مخلوق، قال: لا جزاك الله خيرا أوردت على قلبي شيئا لم يسمع به قط، قلت فإنهم يقولونه، قال: هؤلاء لا يناكحون ولا تجوز شهادتهم، وسئل ابن عيينة، فقال نحو ذلك، قال: فأتيت وكيعا فوجدته من أعلمهم بهم فقال: يكفرون من وجه كذا ويكفرون من وجه كذا حتى أكفرهم كذا وكذا وجها، قلت: وهكذا رأيت الجاحظ قد شنع على حماد بن سلمة، ومعاذ بن معاذ قاضي البصرة بما لم يشنع به على غيرهما لأن حمادا كان معتنيا بجمع أحاديث الصفات وإظهارها، ومعاذ لما تولى القضاء رد شهادة الجهمية والقدرية فلم يقبل شهادة المعتزلة، ورفعوا عليه إلى الرشيد فلما اجتمع به حمده على ذلك وعظمه فلأجل معاداتهم لمثل هؤلاء الذين هم أئمة في السنة يشنعون عليهم بما إذا حقق لم يوجد مقتضيا لذم .

وأما ما حكاه الأشعري عن محمد بن شجاع أن فرقة قالت إن القرآن هو الخالق، وفرقة قالت هو بعضه، فقد ذكر الخلال في كتاب السنة ترجمة محمد بن شجاع وسبب أمر أحمد أهل السنة بهجره، فروى الخلال من مسائل أبي الحارث قال: قلت لأبي عبد الله قال لي ابن الثلاج سمعت رجلا يقول القرآن هو الله، فقال لي عمه إنا بتنا عند أحمد بن نصر وكان ابن الثلاج معنا وكان عباس الأعور فتلا ابن عباس هذه الآية: { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله } قال: إلى كتاب الله فهو يتأول عليه هذا قلت له إنا قلنا لابن الثلاج يقول إن لله علما قال أنا لا أقول إن لله علما، فقال أبو عبد الله استغفر الله، وقلت له إني سمعته يقول كلام الله غير الله، فقال دعه يقول ما شاء كما يقول لي قال ابن الثلاج وشكاني، قلت: فقد تبين بهذا أصل حكايته وهو أن ذكر أن الرد إلى الله هو الرد إلى القرآن فنقل عنه أن القرآن هو الله، ولعله كان من مقصود ذاك أن يستدل على أن القرآن صفة الله وأن الرد إليه، هو الرد إلى الله نفسه لأنه هو كلامه القائم به كما أن الرد إلى الرسول هو الرد إلى كلامه الذي قام به، وأنه لو كان القرآن إنما هو قائم ببعض الأجسام المخلوقة، لكان الرد إليه ردا إلى ذلك الجسم المخلوق لا إلى الله تعالى، فنقل عنه أنه جعل القرآن هو الخالق وهذا ابن الثلاج كان من أصحاب بشر المريسي فأظهر التوبة من ذلك، وأظهر الوقف في لفظ المخلوق دون لفظ المحدث كما حكاه الأشعري عنه ومقصوده مقصود من يقول هو مخلوق، وعرف الأئمة حقيقة حاله فلم يقبل الإمام أحمد وسائر أهل السنة هذه التوبة لأنها توبة غير صحيحة، حتى كان يعادي أهل السنة ويكذب عليهم حتى كذب على الإمام أحمد غير مرة، وقد ذكر قصته أبو عبد الله الحسين بن عبد الله الخرقي خليفة المروذي والد أبي القاسم صاحب المختصر في الفقه في قصص الذين أمر أحمد بهجرانهم، ومسألته للمروذي عنهم واحدا واحدا وأخبار المروذي له بما كان عنده في ذلك ونقل الخلال أخباره في كتاب السنة ما يوضح الأمر، فقال أخبرني الحسين بن عبد الله قال سألت أبا بكر المروذي عن قصة ابن الثلاج، فقال: قال لي أبو عبد الله جاءني هارون الحمال فقال إن ابن الثلاج تاب عن صحبة المريسي فأجيء به إليك قال، قلت لا ما أريد أن يراه أحد على بابي، قال أحب أن أجيء به بين المغرب والعشاء، فلم يزل يطلب إلي قال قلت هو ذا يقول أجب فأي شيء أقول لك، قال: فجاء به فقلت له اذهب حتى تصح توبتك وأظهرها ثم رجع قال فبلغنا أنه أظهر الوقف، قال أبو بكر المروذي فمضيت ومعي نفسان من أصحابنا، فقلت له: قد بلغني عنك شيء ولم أصدق به، قال: وما هو ؟ قلت: نقف في القرآن، فقال: أنا أقول كلام الله فجعل يحتج بيحيى بن آدم وغيره أنهم وقفوا، فقلت له: هذا من الكتاب الذي أوصى لكم به عبيد بن نعيم، فقال: لا تذكر الناس، فقلت له: أليس أجمع المسلمون جميعا أنه من حلف بمخلوق أنه لا كفارة عليه ؟ قال: نعم، قلت فمن حلف بالقرآن أليس قد أوجبوا عليه كفارة لأنه حلف بغير مخلوق ؟ فقال: هذا متاع أصحاب الكلام، ثم قال إنما أقول كلام الله كما أقول أسماء الله فإنه من الله، ثم قال وأي شيء قام به أحمد بن حنبل، ثم قال علموكم الكلام وأومأ إلى ناحية الكرخ يريد أبا ثور وغيره، فقمنا من عنده فما كلمناه حتى مات، وروى الخلال من وجهين عن زياد بن أيوب قال قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله، وعلماء الواقفة جهمية ؟ قال: نعم مثل ابن الثلاج وأصحابه الذين يجادلون، قلت: ولو فرض أن بعض أهل الإثبات أطلق القول بأن القرآن أو غيره من الصفات بعضه فهذا إما أن ينكر لأن يقال الصفة القائمة بالموصوف كالعلم والكلام لا يقال هي بعضه أو لأن الرب تبارك وتعالى لا يقال: إن له بعضا كما للأجسام بعض، فإن كان الإنكار لأجل الأول فأهل الكلام متنازعون في صفات الجسم، هل يقال إنها بعض الجسم أو يقال هي غيره أو لا يقال هي غيره فذكر الأشعري عن ضرار بن عمرو أنه قال الألوان والطعوم والروائح والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والرقة أبعاض الأجسام وأنها متجاورة، قال وحكي عنه مثل ذلك في الاستطاعة والحياة، وزعم أن الحركات والسكون وسائر الأفعال التي تكون من الأجسام أعراض لا أجسام، وحكي عنه في التأليف أنه كان يثبته بعض الجسم فأما غيره ممن كان ينافي قوله في الأجسام فإنه كان يثبت التأليف والاجتماع والافتراق، والاستطاعة غير الأجسام وقطع عنه الأشعري في موضع أنه كان يزعم أن الاستطاعة قبل الفعل ومع الفعل وأنها بعض المستطيع، وأن الإنسان أعراض مجتمعة، وكذلك الجسم أعراض مجتمعة من لون وطعم ورائحة وحرارة وبرودة ومحبة وغير ذلك وأن الأعراض قد يجوز أن تنقلب أجساما، ووافقه على ذلك حفص الفرد وغيره وأن الإنسان قد يفعل الطول والعرض والعمق وأن ذلك أبعاض الجسم، قال: وقال الأصم وهو عبد الرحمن بن كيسان الأصم أستاذ إبراهيم بن إسماعيل بن علية الذي كان يناظر قال الأشعري فقال الأصم لا أثبت إلا الجسم الطويل العريض العميق ولم يثبت حركة غير الجسم ولا يثبت سكونا غيره ولا قياما غيره ولا قعودا غيره ولا اجتماعا غيره ولا حركة ولا سكونا ولا لونا ولا صوتا ولا طعما غيره ولا رائحة، قال الأشعري فأما بعض أهل النظر ممن يزعم أن الأصم قد علم الحركات والسكون والألوان ضرورة وإن لم يعلم أنها غير الجسم فإنه يحكي عنه أنه كان لا يثبت الحركة والسكون وسائر الأفعال وغير الجسم، ولا يحكي عنه أنه كان لا يثبت حركة ولا سكونا ولا قياما ولا قعودا ولا اجتماعا ولا افتراقا على وجه من الوجوه وكذلك يقول في سائر الأعراض، قلت: هذا القول الثاني أنها ثابتة لكن ليست غير الجسم هو الذي قد يقوله بعض العقلاء، فأما نفي وجودها فهو سفسطة من جنس نفي الجسم، وهذا القول هو قول غير هذا مثل هشام بن الحكم وغيره، قال الأشعري وقال هشام بن الحكم الحركات وسائر الأفعال من القيام والقعود والإرادة والكراهة والطاعة والمعصية وسائر ما يثبت المثبتون أعراضا أنها صفات الأجسام لا هي الأجسام ولا غيرها إنها ليست بأجسام فيقع عليها التغاير، قال وقد حكي هذا عن بعض المتقدمين، وأنه كان يقول كما حكينا عن هشام وأنه لم يكن يثبت أعراضا غير الأجسام وحكي عن هشام أنه كان لا يزعم أن صفات الإنسان أشياء لأن الأشياء هي الأجسام عنده، وكان يزعم أنها معان وليست بأشياء، قلت: وهشام يقول ذلك أيضا في صفات الله أنها ليست هو ولا غيره وطرد القول في جميع الصفات ودفع بذلك ما كانت المعتزلة تورده على الصفاتية من التناقض، قال: وقال قائلون منهم أبو الهذيل وهشام وبشر بن المعتمر، وجعفر بن حرب، والإسكافي وغيرهم، الحركات والسكون والقيام والقعود والاجتماع والافتراق والطول والعرض والألوان والطعوم والروائح والأصوات والكلام والسكوت والطاعة والمعصية والكفر والإيمان وسائر أفعال الإنسان والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة واللين والخشونة أعراض غير الأجسام قال: وحكى زرقان عن جهم بن صفوان أنه كان يزعم أن الحركة جسم ومحال أن تكون غير الجسم لأن غير الجسم هو الله تعالى ولا يكون شيء يشبهه، قال وكان إبراهيم النظام فيما حكي عنه يزعم أن الطول هو الطويل وأن العرض هو العريض وكان يثبت الألوان والطعوم والروائح والأصوات والآلام والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة أجساما لطافا ويزعم أن حيز اللون هو حيز الطعم والرائحة وأن الأجسام اللطاف قد تحل في حيز واحد وكان لا يثبت عرضا إلا الحركة فقط، قال: وكان عباد بن سليمان يثبت الأعراض غير الأجسام فإذا قيل له تقول الحركة غير المتحرك والأسود غير السواد امتنع من ذلك، وقال: قولي في الجسم متحرك إخبار عن جسم وحركة فلا يجوز أن أقول الحركة غير المتحرك قال: وقال قائلون من أصحاب الطبائع، أن الأجسام كلها من أربعة طبائع حرارة وبرودة ورطوبة ويبوسة وأن الطبائع الأربعة أجسام ولم يثبتوا شيئا إلا هذه الطبائع الأربعة وأنكروا الحركات، وزعموا أن الألوان والطعوم والروائح هي الطبائع الأربع، وقال قائلون منهم أن الأجسام من أربعة طبائع وأثبتوا الحركات ولم يثبتوا عرضا غيرها ويثبتون الألوان والروائح من هذه الطبائع، وقال قائلون: الأجسام من أربعة طبائع، روح سائحة فيها وأنهم لا يعقلون جسما إلا هذه الخمسة الأشياء وأثبتوا الحركات أعراضا، قال: وقال قائلون بإبطال الأعراض والحركات والسكون وأثبتوا السواد وهو الشيء الأسود لا غيره، وكذلك البياض وسائر الألوان، وكذلك الحلاوة والحموضة وسائر الطعوم، وكذلك قولهم في الروائح والحرارة أنها الشيء الحار، وكذلك قولهم في الرطوبة والبرودة واليبوسة، وكذلك قولهم في الحياة أنها هي الحي وهؤلاء منهم من يثبت حركة الجسم وفعله غيره، ومنهم من لا يثبت عرضا غير الجسم على وجه من الوجوه، قلت: هذا القول في صفات المخلوقين يضاهي قول شيخ المعتزلة أبي الهذيل في صفات الله قال الأشعري: قال شيخهم أبو الهذيل العلاف، أن علم الباري تعالى هو هو، وكذلك قدرته وسمعه وبصره وحكمته، وكذلك كان قوله في سائر صفات ذاته وكان يزعم إذا زعم أن الباري عالم فقد أثبت علما هو الله ونفى عن الله جهلا ودل على معلوم كان أو يكون، وإذا قال إن الباري قادر فقد أثبت قدرة هي الله تعالى ونفى عن الله عجزا ودل على مقدور كان أو يكون، وكذلك كان قوله في سائر صفات الذات على هذا التثبيت وكان إذا قيل له حدثنا عن علم الله الذي هو الله أتزعم أنه قدرته أبى ذلك، وإذا قيل له فهو غير قدرته أنكر ذلك وهذا نظير ما أنكره من قول مخالفيه أن علم الله لا يقال هو الله ولا يقال غيره، وكان إذا قيل له فقل إن الله علم ناقض ولم يقل إنه علم الله هو الله، قال وكان يسأل فيمن يزعم أن طول الشيء هو هو: وكذلك عرضه فيقول إن طوله هو عرضه، قال وهذا راجع عليه في قوله إن علم الله هو الله وإن قدرته هي هو لأنه إذا كان علمه هو هو وقدرته هي هو فواجب أن يكون علمه هو قدرته والإلزام التناقض، قال: وهذا أخذه أبو الهذيل عن أرسطاطاليس وذلك أن أرسطاطاليس قال في بعض كتبه إن الباري علم كله قدرة كله حياة كله سمع كله بصر كله فحسن اللفظ عند نفسه وقال علمه هو هو، قلت: هو قول أرسطو وأصحابه أن العقل والعاقل والمعقول شيء واحد وكذلك العناية، قلت: فهذه نقول أهل الكلام بعضهم عن بعض أنهم يجعلون الصفة هي الموصوف الخالق والمخلوق فهو لا يناسب قولهم إن الكلام هو المتكلم، وأما أهل السنة والإثبات فقد ظهر كذب النقل عنهم، وأما إطلاق القول بأن الصفة بعض الموصوف أو أنها ليست غيره فقد قال ذلك طوائف من أئمة أهل الكلام وفرسانهم، وإذا حقق الأمر في كثير من هذه المنازعات لم يجد العاقل السليم العقل ما يخالف ضرورة العقل لغير غرض، بل كثير من المنازعات يكون لفظيا أو اعتباريا فمن قال إن الأعراض بعض الجسم أو أنها ليست غيره، ومن قال إنها غيره يعود النزاع بين محققيهم إلى لفظ واعتبار واختلاف اصطلاح في مسمى بعض وغيره كما قد أوضحنا ذلك في بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية ويسمى أيضا تخليص التلبيس من كتاب التأسيس الذي وضعه أبو عبد الله الرازي في نفي الصفات الخبرية، وبين ذلك على أن ثبوتها يستلزم افتقار الرب تعالى إلى غيره وتركيبه من الأبعاض، وبينا ما في ذلك من الألفاظ المشتركة الجملة فهذا إن كان أحد أطلق لفظ البعض على الذات وغيره من الصفات وقال إنه بعض الله وأنكر ذلك عليه لأن الصفة ليست غير الموصوف مطلقا وإن كان الإنكار لأنه لا يقال في صفات الله لفظ البعض، فهذا اللفظ قد نطق به أئمة الصحابة والتابعين وتابعيهم ذاكرين وآثرين، قال أبو القاسم الطبراني في كتاب السنة: حدثنا حفص بن عمرو حدثنا عمرو بن عثمان الكلابي حدثنا موسى بن أعين عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس قال: إذا أراد الله أن يخوف عباده أبدى عن بعضه للأرض فعند ذلك تزلزلت وإذا أراد الله أن يدمدم على قوم تجلى لها عز وجل . طائفة قالت كلام الله ليس إلا مجرد معنى قائم بالنفس وحروف القرآن ليست من كلام الله ولا تكلم الله بها ولا يتكلم الله بحرف ولا صوت، و " الم " و " طس " و " ن " وغير ذلك ليست من كلام الله الذي تكلم هو به، ولكن خلقها ثم منهم من قال خلقها في الهواء ومنهم من قال خلقها مكتوبة في اللوح المحفوظ ومنهم من قال جبريل هو الذي أحدثها وصنفها بأقدار الله له على ذلك، ومنهم من زعم أن محمدا هو الذي أحدثها وصنفها بأقدار الله له على ذلك، وهؤلاء وافقوا الجهمية في نفيهم عن الله من الكلام ما نفته الجهمية، وفي أنهم جعلوا هذا مخلوقا كما جعلته الجهمية مخلوقا، لكن فارقوهم في أنهم أثبتوا معنى القرآن غير مخلوق، وقالوا إن كلام الله اسم لما يقوم به ويتصف به، لا لما يخلقه في غيره، وأطلقوا القول بأن القرآن غير مخلوق، وإن كانوا لا يريدون جميع المعنى الذي أراده السلف والأئمة والعامة بل بعضه، كما أن الجهمية تطلق القول بأن القول كلام الله ولا يعنون به المعنى الذي يعنيه السلف والأئمة والعامة ولكن هؤلاء منعوا أن تكون هذه الحروف من كلام الله والجهمية المحضة سموها كلام الله، لكن قالوا هي مع ذلك مخلوقة، وأولئك لا يجعلون ما يسمونه كلام الله مخلوقا، ومنهم من يقول يسمى كلام الله أيضا على سبيل الاشتراك، وأكثرهم يقولون نسميها بذلك مجازا، وأيضا فجعلت هذه الطائفة معنى واحدا قائما بذات الرب هو أمر ونهي وخبر واستخبار وهو معنى التوراة والإنجيل والقرآن، وكل ما تكلم الله به وهو معنى آية الكرسي وآية الدين وجمهور عقلاء بني آدم يقولون إن فساد هذا معلوم بضرورة العقل وفطرة بني آدم وهؤلاء عندهم أن الملائكة تعبر عن المعنى القائم بذات الله وأن الله نفسه لا يعبر بنفسه عن نفسه وذلك يشبه من بعض الوجوه الأخرى الأخرس الذي يقوم بنفسه معان فيعبر غيره عنه بعبارته وهم في ذلك مشاركون للجهمية الذين جعلوا غير الله يعبر عنه من غير أن يكون الله يتكلم لكن هؤلاء يقولون قام بنفسه معنى فتجعله كالأخرس والجهمية تجعله بمنزلة الصنم الذي لا يقوم به معنى ولا لفظ . الكلام في الوقف واللفظ من قال باللفظ أو بالوقف فهو مبتدع عندهم لا يقال اللفظ بالقرآن مخلوق ولا يقال غير مخلوق ويقولون إن الله يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر يراه المؤمنون ولا يراه الكافرون لأنهم عن الله محجوبون قال الله تعالى: { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } وإن موسى عليه السلام سأل الله الرؤية في الدنيا وإن الله تجلى للجبل فجعله دكا فأعلمهم بذلك لأنه لا يراه في الدنيا بل يراه في الآخرة ولا يكفرون أحدا من أهل القبلة بذنب يرتكبه كنحو الزنا والسرقة وما أشبه ذلك من الكبائر وهم بما معهم من الإيمان مؤمنون وإن ارتكبوا الكبائر، والإيمان عندهم هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالقدر خيره وشره وحلوه ومره وما أخطأهم لم يكن ليصيبهم وما أصابهم لم يكن ليخطئهم والإسلام أن يشهد أن لا إله إلا الله على ما جاء في الحديث والإسلام عندهم غير الإيمان ويقرون بأن الله مقلب القلوب يقرون بشفاعة رسول الله ﷺ وأنها لأهل الكبائر من أمته وبعذاب القبر وأن الحشر حق والصراط حق والبعث بعد الموت حق والمحاسبة من الله للعباد حق والوقوف بين يدي الله حق ويقرون بأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ولا يقولون مخلوق ولا غير مخلوق ويقولون أسماء الله هي الله ولا يشهدون على أحد من أهل الكبائر بالنار ولا يحكمون بالجنة لأحد من الموحدين حتى يكون الله ينزلهم حيث شاء ويقولون أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم ويؤمنون بأن الله تعالى إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم ويؤمنون بأن الله تعالى يخرج قوما من الموحدين من النار على ما جاءت به الروايات عن رسول الله ﷺ وينكرون الجدل والمراء في الدين والخصومة في القدر والمناظرة فيما يتناظر فيه أهل الجدل ويتنازعون فيه من دينهم بالتسليم للروايات الصحيحة ولما جاءت به الآثار التي رواها الثقات عدلا عن عدل حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله ﷺ، ولا يقولون كيف ولا لم لأن ذلك بدعة ويقولون إن الله لم يأمر بالشر بل نهى عنه وأمر بالخير ولم يرض بالشر وإن كان مريدا له ويعرفون حق السلف الذين اختارهم الله لصحبة نبيه ويأخذون بفضائلهم ويمسكون عما شجر بينهم صغيرهم وكبيرهم ويقدمون أبا بكر ثم عمر ثم عثمان ثم عليا رضي الله تعالى عنهم ويقرون أنهم الخلفاء الراشدون المهديون أفضل الناس كلهم بعد النبي ﷺ ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله ﷺ وأن الله ينزل إلى سماء الدنيا فيقول هل من مستغفر كما جاء الحديث عن رسول الله ﷺ ويأخذون بالكتاب والسنة، كما قال الله: { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } ويرون اتباع من سلف من أئمة الدين وأن لا يبتدعوا في دينهم ما لم يأذن به الله ويقرون أن الله تعالى يجيء يوم القيامة كما قال { وجاء ربك والملك صفا صفا } وأن الله يقرب من خلقه كيف شاء كما قال: { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد }، ويرون العيد والجمعة والجماعة خلف كل إمام بر وفاجر ويثبتون المسح على الخفين سنة ويرونه في الحضر والسفر ويثبتون فرض الجهاد للمشركين منذ بعث نبيه ﷺ إلى آخر عصابة تقاتل الدجال وبعد ذلك، ويرون الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح وأن لا يخرجوا عليهم بالسيف وأن لا يقاتلوا في الفتنة ويصدقوا بخروج الدجال وأن عيسى ابن مريم يقتله ويؤمنون بمنكر ونكير والمعراج والرؤيا في المنام وأن الدعاء لموتى المسلمين والصدقة عنهم بعد موتهم تصل إليهم ويصدقون بأن في الدنيا سحرة وأن الساحر كافر كما قال الله وأن السحر كائن موجود في الدنيا ويرون الصلاة على كل من مات من أهل القبلة مؤمنهم وفاجرهم ومواراتهم ويقرون بأن الجنة والنار مخلوقتان وأن من مات مات بأجله وكذلك من قتل قتل بأجله وأن الأرزاق من قبل الله تعالى يرزقها عباده حلالا كانت أو حراما وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه ويخبطه وأن الصالحين قد يجوز أن يخصهم الله تعالى بآيات تظهر عليهم وأن السنة لا تنسخ القرآن وأن الأطفال أمرهم إلى الله تعالى إن شاء عذبهم وإن شاء فعل بهم ما أراد عالم ما العباد عاملون وكتب أن ذلك يكون وأن الأمور بيد الله تعالى، ويرون الصبر على حكم الله والأخذ بما أمر الله تعالى به والانتهاء عما نهى الله عنه وإخلاص العمل والنصيحة للمسلمين ويدينون بعبادة الله تعالى في العابدين والنصيحة لجماعة المسلمين، واجتناب الكبائر والزنا وقول الزور والمعصية والفخر والكبر والازدراء على الناس والعجب ويرون مجانبة كل داع إلى بدعة، والتشاغل بقراءة القرآن، وكتابة الآثار، والنظر في الفقه مع التواضع والاستكانة وحسن الخلق وبذل المعروف وكف الأذى وترك الغيبة والنميمة والسعاية ونفقة المأكل والمشرب، وقال فهذه جملة ما يأمرون به ويستعملونه ويرونه وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب وما توفيقنا إلا بالله وهو حسبنا وبه نستعين وعليه نتوكل وإليه المصير .

قال: فأما أصحاب عبد الله بن سعيد فإنهم يقولون بأكثر مما ذكرناه عن أهل السنة ويثبتون أن الباري لم يزل حيا عالما قادرا سميعا بصيرا عزيزا عظيما جليلا كبيرا كريما مريدا متكلما جوادا ويثبتون العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والعظمة والجلال والكبرياء والإرادة والكلام صفات لله تعالى وقال ويقولون أسماء الله تعالى وصفاته لا يقال هي غيره ولا يقال إن علمه غيره، كما قالت الجهمية ولا يقال إن علمه هو هو كما قال بعض المعتزلة وكذلك قولهم في سائر الصفات فذكر الأشعري أن أصحاب ابن كلاب يقولون بأكثر قول أهل الحديث وأن لهم زيادة أخرى وذلك دليل على أنهم ينقصون عن أقوالهم فأما قول ابن كلاب في القرآن فلم يذكره الأشعري إلا عنه وحده وجعل له ترجمة فقال: وهذا قول عبد الله بن كلاب، قال عبد الله بن كلاب إن الله لم يزل متكلما وإن كلام الله صفة له قائمة به وإنه قديم بكلامه وإن كلامه قائم به كما إن العلم قائم به والقدرة قائمة به وهو قديم بعلمه وقدرته وإن الكلام ليس بحرف ولا صوت ولا ينقسم ولا يتجزأ ولا يتبعض ولا يتغاير وإنه معنى واحد بالله تعالى وإن الرسم هو الحروف المتغايرة وهو قراءة القارئ وإنه خطأ أن يقال كلام الله هو هو أو بعضه أو غيره وإن العبارات عن كلام الله تختلف وتتغاير وكلام الله ليس بمختلف ولا متغاير كما إن ذكرنا لله يختلف ويتغاير والمذكور لا يختلف ولا يتغاير وإنما سمي كلام الله عربيا لأن الرسم الذي هو العبارة عنه وهو قراءته عربي فسمي عربيا لعلة وكذلك سمي عبرانيا وكذلك سمي أمرا لعلة وسمي نهيا لعلة وخبر العلة ولم يزل الله متكلما قبل أن يسمى كلامه أمرا وقبل وجود العلة التي بها سمي كلامه أمرا وكذلك القول في تسميته نهيا وخبرا وأنكر أن يكون الباري لم يزل مخبرا وكذلك لم يزل ناهيا، فهذه حكاية الأشعري عن ابن كلاب أنه يقول إن الله لم يزل متكلما وإن كلامه صفة له قائم به كعلمه وقدرته وكذلك سائر الصفات التي يثبتها لله تعالى هي عنده قديمة قائمة بالله غير متعلقة بمشيئته وقدرته، وأما الجهمية المحضة من المعتزلة وغيرهم فعندهم لا يقوم به شيء من هذه الصفات ولا غيرها بل كل ما يضاف إليه فإنما يعود معناه إلى أمر مخلوق منفصل عنه كما قالوه في الكلام، ولما قال أولئك لهؤلاء إن الحروف لا تكون إلا متعاقبة ولا بد لها من مخارج وكلاهما يمنع قدمها قال لهم هؤلاء هذا بعينه وارد في المعنى فإن المعاني مطابقة للحروف في الترتيب وهي مفتقرة إلى محل كافتقار الحروف فما قيل في أحدهما قيل في الآخر، ولما زعم أولئك أن الكلام كله هو معنى واحد قال هؤلاء إن جاز أن يعقل أن المعاني المتنوعة تعود إلى حرف واحد جاز أن يعقل أن الحروف المتنوعة تعود إلى حرف واحد وقالوا لهم أيضا الترتيب نوعان ترتيب ذاتي وترتيب وجودي فالأول كترتيب العلم على الحياة والمعلول على العلة التامة وهؤلاء الذين فسروا قولهم بأنه غير مخلوق بأنه لا يتعلق بمشيئته وقدرته سواء قالوا إنه معنى أو هو حروف أو هو معنى وحرف، يقولون إن المخلوق هو المحدث وهو ما يحدثه الله تعالى منفصلا عنه وإنه ما ثم إلا قديم أو مخلوق وما كان قديما فإنه لازم لذات الله تعالى لا يتعلق بمشيئته وقدرته ولا يكون فعلا له وما كان محدثا فهو المخلوق المنفصل عن الله تعالى وهو المتعلق بمشيئته وقدرته ولا يقوم عندهم بذات الله فعل ولا كلام ولا إرادة ولا غير ذلك مما يتعلق بمشيئته وقدرته ويقولون لا تحل الحوادث بذاته ولا يجوز عليه الحركة ولا فعل حادث ولا غير ذلك وهؤلاء يتأولون كل ما ورد في الكتاب والسنة مما يخالف ذلك وهو كثير جدا كقوله { ثم استوى على العرش } ثم استولى إلى السماء، وكما وصف به نفسه من المجيء والإتيان والنزول وغضبه يوم القيامة ورضاه على أهل الجنة وتكليمه لموسى ولعباده يوم القيامة وتكلمه بالوحي إذا تكلم به فسمعته الملائكة، وهؤلاء جميعا يحتجون على قدم القرآن بحجتهم المشهورة التي هي أصل المذهب التي احتج بها الأشعري وأصحابه والقاضي أبو يعلى وابن عقيل وأبو الحسن بن الزاغوني وغيرهم وهي التي تقدم ذكرها في بيان أصل الطائفة الأولى عن أبي المعالي لأنه اعتقد أنه صاغها على وجه يدفع بها بعض الأسئلة وقد ذكرنا ذلك ونبين أنه بناها على امتناع حلول الحوادث به ونحن نذكر هاهنا كما ذكرها هؤلاء فإن هذا مشهور في كلامهم كلهم وقد اعترف أصحاب الأشعري أن هذه الطريقة هي عمدته وعمدة غيره من أئمتهم كالقاضي أبي بكر وأبي إسحاق وابن فورك وأبي منصور على قدم الكلام قال لو كان كلام الباري حادثا لم يخل من أن يقوم بذات الباري تعالى فيكون محلا للحوادث بمثابة الجواهر أو يحدث لا في محل وذلك محال لأنه يؤدي إلى إبطال التفرقة بين ما يقوم بنفسه وبين ما لا يقوم بنفسه على أن نفس المحل نفى اختصاصه إذ ليس اختصاصه به سبحانه أولى من اختصاصه بغيره وإن حدث في محل آخر وقام به كان كلاما لذلك المحل وكان المحل به متكلما آمرا ناهيا لأن كل قائم بمحل اختص به اختصاصا يجب أن يضاف إليه عند العبارة بأخص أوصافه يشتق له أو للجملة التي المحل منها وصف منه إما من أخص وصفه أو أعم أوصافه أو من معناه أو يصح إضافته إليه بأخص وصفه فإذا لم يكن ذلك بطل أن يخلق كلامه في محل وإذا بطلت هذه الأقسام بطل كونه حادثا، وقال طائفة منهم القاضيان أبو علي بن وأبو يعلى وابن عقيل وأبو الحسن الزاغوني وهذا لفظه ولكن نقول لم يزل الله قادرا عالما مالكا لا متى ولا كيف وقد سمى الله رجلا كافرا اسمه الوليد بن المغيرة المخزومي فقال { ذرني ومن خلقت وحيدا } وقد كان الله سماه وحيدا له عينان وأذنان ولسان وشفتان ويدان ورجلان وجوارح كثيرة فقد سماه وحيدا بجميع صفاته فكذلك الله وله المثل الأعلى هو بجميع صفاته إله واحد، وقال أبو الحسن الأشعري في كتاب المقالات وهذا ذكر اختلاف الناس في الأسماء والصفات الحمد لله بصرنا خطأ المخطئين وعمى العمين وحيرة المتحيرين الذين نفوا صفات رب العالمين وقالوا إن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه لا صفات له وإنه لا علم له ولا قدرة ولا حياة له ولا سمع له ولا بصر له ولا عز له ولا جلال له ولا عظمة له ولا كبرياء له وكذلك قالوا في سائر صفات الله التي يوصف بها نفسه قال وهذا قول أخذوه عن إخوانهم من المتفلسفة الذين يزعمون أن للعالم صانعا لم يزل ليس بعالم ولا قادر ولا حي ولا سميع ولا بصير ولا قدير وعبروا عنه بأن قالوا عين لم يزل لم يزيدوا على ذلك غير أن هؤلاء الذين وصفنا قولهم من المعتزلة في الصفات لم يستطيعوا أن يظهروا من ذلك ما كانت الفلاسفة تظهره فأظهروا معناه بنفيهم أن يكون للباري علم وقدرة وحياة وسمع وبصر ولولا الخوف لأظهروا ما كانت الفلاسفة تظهره من ذلك ولأفصحوا به غير أن خوف السيف يمنعهم من ذلك، وقد أفصح بذلك رجل يعرف بابن الإيادي كان ينتحل قولهم فزعم أن الباري تعالى عالم قادر سميع بصير في المجاز لا في الحقيقة ومنهم رجل يعرف بعباد بن سليمان يزعم أنه لا يقال إن الباري عالم قادر سميع بصير حكيم جليل في حقيقة القياس قال لأني لو قلت إنه عالم في حقيقة القياس لكان لا عالم إلا هو وكان يقول القديم لم يزل في حقيقة القياس لأن القياس ينعكس لأن القديم لم يزل ومن لم يزل فقديم فلو كان الباري عالما في حقيقة القياس لكان لا عالم إلا هو قال وقد اختلفوا فيما بينهم اختلافا تشتت فيه أهواؤهم واضطربت فيه أقاويلهم ثم ساق اختلافهم، وكذلك قال: في الإبانة فصل وزعمت الجهمية أن الله لا علم له ولا قدرة ولا حياة ولا سمع ولا بصر له وأرادوا أن ينفوا أن الله عالم قادر حي سميع بصير فمنعهم خوف السيف من إظهارهم نفي ذلك فأتوا بمعناه لأنهم إذا قالوا لا علم لله ولا قدرة له فقد قالوا إنه ليس بعالم ; ولا قادر ووجب ذلك عليهم وهذا إنما أخذوه عن أهل الزندقة والتعطيل لأن الزنادقة قال كثير منهم إن الله ليس بعالم ولا قادر ولا حي ولا سميع ولا بصير فلم تقدر المعتزلة أن تفصح بذلك فأتت بمعناه وقالت إن الله عالم قادر حي سميع بصير من طريق التسمية من غير أن يثبتوا له حقيقة العلم والقدرة والسمع، ومقصودنا التنبيه على أنه من المستقر في المعقول والمسموع ما تقدم ذكرنا له مع أن الحي العالم القادر المتكلم المريد لا بد أن تقوم به الحياة والعلم والقدرة والكلام والإرادة وإن ما قام به ذلك استحق أن يوصف بأنه حي عالم قادر متكلم مريد فهذه أربعة أمور ثبوت حكم الصفة لمحلها وانتفاؤه عن غير محلها وثبوت الاسم المشتق من اسمها لمحلها وانتفاء الاسم عن غير محلها والجهمية من المعتزلة وغيرهم خالفوا ذلك من ثلاثة أوجه: أحدها: زعمهم أن الله حي عليم قدير من غير أن تقوم به حياة ولا علم ولا قدرة فأثبتوا الأسماء والأحكام مع نفي الصفات، الثاني: أبعد من ذلك من وجه أنهم قالوا هو متكلم بكلام يقوم بغيره وليس الجسم الذي قام به الكلام متكلما به فأثبتوا الاسم والحكم بدون الصفة ونفوا الاسم والحكم عن موضع الصفة لكنهم لم يجعلوا متكلما إلا من له كلام وجعلوا هناك عالما قادرا من لا علم له ولا قدرة، الثالث: أبعد من ذلك من وجه آخر وهو ما قالوه في الإرادة تارة ينفونها وتارة يقولون هو مريد بإرادة لا في محل فأثبتوا الاسم والحكم بدون الصفة وجعلوا الصفة تقوم بغير محل وكل هذه الأمور الثلاثة مما يعلم ببداية العقل وبما فطر الله عليه العباد بالعلوم الضرورية أن ذلك باطل وهو من النفاق لكنهم احتجوا في ذلك بحجة ألزمها لهم الكلابية والأشعرية ومن وافقهم وهو الصفات الفعلية مثل كونه خالقا رازقا عادلا محييا مميتا وتسمى صفة التكوين وتسمى الخالق وتسمى صفة الفعل وتسمى التأثير فقالوا هو خالق فاعل مكون عادل من غير أن يقوم به خلق ولا تكوين ولا فعل ولا تأثير ولا عدل فكذلك المتكلم والمريد وقالوا إن الخلق هو نفس المخلوق واتبعهم على ذلك الكلابية والأشعرية فصار للأولين عليهم حجة بذلك وإنما قرن هؤلاء بين الأمرين لأنهم قالوا إن قلنا إن التكوين قديم لزم قدم المكونات والمخلوقات كلها وهذا معلوم الفساد بالحس وإن قلنا إنه محدث لزم قيام الحوادث به، وأما الفقهاء وأهل الحديث والصوفية وطوائف من أهل الكلام من الرادين على المعتزلة من المرجئة والشيعة والكرامية وغيرهم فيطردون ما ذكر من الأدلة ويقولون لا يكون فاعلا إلا بفعل يقوم بذاته وتكوين يقوم بذاته والخلق الذي يقوم بذاته غير الخلق الذي هو المخلوق وهذا هو ذكره الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد ومالك في كتبهم كما ذكره فقهاء الحنفية كالطحاوي وأبي منصور الماتريدي وغيرهم وكما ذكره البغوي في شرح السنة وكما ذكره أصحاب أحمد كأبي إسحاق وأبي بكر عبد العزيز والقاضي وغيرهم لكن القاضي ذكر في الخلق هل هو المخلوق أو غيره قولين ولكن استقر قوله على أن الخلق غير المخلوق وإن خالفهم ابن عقيل وكما ذكره أبو بكر محمد بن إسحاق الكلاباذي في كتاب اعتقاد الصوفية وكما ذكر أئمة الحديث والسنة قال البخاري في آخر الصحيح في كتاب الرد على الجهمية والزنادقة باب ما جاء في تخليق السماوات والأرض ونحوها من الخلائق وهو فعل الرب وأمره فالرب بصفاته وفعله وأمره وكلامه هو الخالق المكون غير مخلوق وما كان بفعله وأمره وتخليقه وتكوينه فهو مفعول مخلوق مكون ولا ريب أن هذا القول الذي عليه أهل السنة والجماعة هو الحق .

فإن ما ذكر من الحجة أن العالم القادر المتكلم المريد لا يكون إلا بأن يقوم به العلم والقدرة والكلام والإرادة هو بعينه يقال في الخالق والفاعل فإنه من المعلوم ببداية العقول وضرورتها أن الصانع الفاعل لا يكون صانعا فاعلا إلا أن يقوم به ما يكون به فاعلا صانعا ولا يسمى الفاعل فاعلا كالضارب والقاتل والمحسن والمطعم وغير ذلك إلا إذا قام به الفعل الذي يستحق به الاسم ولكن الجهمية نفت هذا كله وفروخهم وافقتهم في البعض دون البعض وأما أهل الإثبات فباقون على الفطرة كما وردت به الشريعة وكما جاء به الكتاب والسنة فإن الله وصف نفسه في غير موضع بأفعاله كما وصف نفسه بالعلم والقدرة والكلام ومن ذلك المجيء والإتيان والنزول والاستواء ونحو ذلك من أفعاله ولكن هنا أخبر بأفعاله وهناك ذكر أسماءه المتضمنة للأفعال ولم يفرق السلف والأئمة بين أسماء الأفعال وأسماء الكلام كما في صحيح البخاري عن سعيد بن جبير أن رجلا سأل ابن عباس قال إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي فذكر مسائله ومنها قال وقوله: { وكان الله غفورا رحيما } { وكان الله عزيزا حكيما } { وكان الله سميعا بصيرا } فكأنه كان ثم مضى . فقال ابن عباس: وقوله { وكان الله غفورا رحيما } سمى نفسه ذلك وذلك قوله أي لم أزل كذلك هذا لفظ البخاري بتمامه واختصر الحديث ورواه البرقاني من طريق شيخ البخاري بتمامه فقال ابن عباس فأما قوله { وكان الله غفورا رحيما } و { إن الله عزيز حكيم } { وكان الله سميعا بصيرا } فإن الله جعل نفسه ذلك وسمى نفسه ذلك ولم ينحله أحد غيره وكان الله أي لم يزل كذلك هذا لفظ الحميدي صاحب الجمع ورواه البيهقي عن البرقاني من حديث محمد إبراهيم البوشنجي عن يوسف بن عدي شيخ البخاري قال إن الله سمى نفسه ذلك ولم ينحله غيره فذلك قوله وكان الله أي لم يزل كذلك ورواه البيهقي من رواية ابن يعقوب بن سفيان عن يوسف ولفظ السائل فكأنه كان ثم مضى ولفظ ابن عباس فإن الله سمى نفسه ذلك ولم يجعله غيره فذلك قوله وكان الله أي لم يزل يقال جعلت زيدا عالما إذ جعلته في نفسك وجعلته عالما إذا جعلته في نفسي أي اعتقدته عالما كما قال تعالى { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا } أي اعتقدوهم { وقد جعلتم الله عليكم كفيلا } أي في نفوسكم بما عقدتموه من اليمين، فقوله جعل نفسه ذلك وسمى نفسه ذلك يخرج على الثاني أي هو الذي حكم بذلك وأخبر بثبوته له وسمى به نفسه لم ينحله ذلك أحد غيره، وقوله: وكان أي لم يزل كذلك والمعنى أنه أخبر أن هذا أمر لم يزل عليه وهو الذي حكم به لنفسه وسمى به نفسه لم يكن الخلق هم الذين حكموا بذلك له وسموه بذلك فأراد بذلك أنه لو كان ذلك مستفادا من نحلة الخلق له لكان محدثا له بحدوث الخلق فأما إذا كان هو الذي سمى نفسه وجعل نفسه كذلك فهو سبحانه لم يزل ولا يزال كذلك فلهذا أخبر بأنه كان كذلك ولهذا اتبع أئمة السنة ذلك كقول أحمد في رواية حنبل لم يزل الله عالما متكلما غفورا وقال في الرد على الجهمية لم يزل الله عالما قادرا مالكا لا متى ولا كيف ولهذا احتج الإمام أحمد وغيره على أن كلام الله غير مخلوق بأن النبي ﷺ استعاذ بكلمات الله في غير حديث فقال: { أعوذ بكلمات الله التامة }، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس قال { كان النبي يعوذ الحسن والحسين أعيذكما بكلمات الله التامة } وذكر الحديث وفي صحيح مسلم عن خولة بنت حكيم أن النبي ﷺ قال: { لو أن أحدكم إذا نزل منزلا قال أعوذ بكلمات الله التامات } وذكر الحديث وفي صحيح مسلم أيضا عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: { من قال حين يمسي أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق }، وذكر الحديث وذلك في أحاديث أخر قال أحمد وغيره ولا يجوز أن يقال أعيذك بالسماء أو بالجبال أو بالأنبياء أو بالملائكة أو بالعرش أو بالأرض أو بشيء مما خلق الله ولا يعوذ إلا بالله أو بكلماته وقد ذكر الاحتجاج بهذا البيهقي في كتاب الأسماء والصفات لكن نقل احتجاج أحمد على غير وجهه وعورض بمعارضة فلم يجب عنها ثم قال البيهقي ولا يصح أن يستعيذ من مخلوق بمخلوق فدل على أنه استعاذ بصفة من صفات ذاته وهي غير مخلوقة كما أمره الله أنه يستعيذ بذاته وذاته غير مخلوقة ثم قال وبلغني عن أحمد بن حنبل أنه كان يستدل بذلك على أن القرآن غير مخلوق قال وذلك أنه ما من مخلوق إلا وفيه نقص، قلت: احتجاج أحمد هو من الوجه الذي تقدم كما حكينا لفظ المروذي في كتابه الذي عرضه على أحمد والمقصود هنا ثم الكلام على قول الطائفة الثانية الذين قالوا إن القرآن هو الحروف والأصوات دون المعاني ثم إن قولهم هذا متناقض في نفسه فإن الحروف والأصوات التي سمعها موسى عبرية والتي ذكرها الله عنه في القرآن عربية فلو لم يكن الكلام إلا مجرد الحروف والأصوات لم يكن بين الكلام الذي سمعه موسى والذي ذكره الله أنه سمعه قدر مشترك أصله بل كان يكون الإخبار بأنه سمع هذه الأصوات التي لم يسمعها كذب وكذلك سائر من حكى الله في القرآن أنه قال من الأمم المتقدمة الذين تكلموا بغير العربية فإنما تكلموا بلغتهم وقد حكى الله ذلك باللغة التي أنزل بها القرآن وهي العربية وكلام الله صدق فلو كان قولهم مجرد الحروف والأصوات والحروف والأصوات التي قالوها ليست مثل هذه لم تكن الحكاية عنهم مطلقا بل كلامهم كان حروفا ومعاني فحكى الله عنهم ذلك بلغة أخرى والحروف تابعة للمعاني والمعاني هي المقصود الأعظم، كما يترجم كلام سائر المتكلمين وهؤلاء المثبتة الذين وافقوا أهل السنة والجماعة على أن القرآن كلام الله غير مخلوق ووافقوا المعتزلة على أن الكلام ليس هو إلا مجرد الحروف والأصوات يقولون إن كلام الله القائم به ليس هو إلا مجرد الحروف والأصوات وهذا هو الذي بينته أيضا في جواب المحنة وبينت أن هذا لم يقله أحد من السلف ولا قالوا أيضا إنه معنى قائم بذاته بل كلاهما بدعة وأن ليس في كلامي شيء من البدع ثم منهم من يقول هو مع ذلك قديم غير حادث لموافقتهم الطائفة الأولى على أن معنى قول السلف إن القرآن كلام الله غير مخلوق، إنه صفة قديمة قائمة بذاته لا يتعلق بمشيئته واختياره قط ومنهم من لا يقول ذلك بل يقول هو وإن كان مجرد الحروف والأصوات وهو قائم به فإنه يتعلق بمشيئته واختياره وإنه إذا شاء تكلم بذلك وإذا شاء سكت وإن كان لم يزل كذلك، وظن الموافقون للسلف على أن القرآن كلام الله غير مخلوق من القائلين بأن الكلام ليس إلا معنى في النفس وكثير من القائلين بأنه ليس إلا الحروف والأصوات أن معنى قول السلف القرآن كلام الله غير مخلوق أنه صفة قديمة قائمة بذاته لا يتعلق بمشيئته واختياره وإرادته وقدرته، وهذا اعتقدوه في جميع الأمور المضافة إلى الله أنها إما أن تكون مخلوقة منفصلة عن الله تعالى وإما أن تكون قديمة غير متعلقة بمشيئته وقدرته وإرادته ومنعوا أن يقال إنه يتكلم إذا شاء أو إنه لم يزل متكلما إذا شاء أو إنه قادر على الكلام أو التكلم أو إنه يستطيع أن يتكلم بشيء أو إنه إن شاء تكلم وإن شاء سكت أو إنه يقدر على الكلام والسكوت كما يمتنع أن يقال إنه يحيا إذا شاء أو إنه يقدر على أن يحيا وعلى أن لا يحيا إن الحياة صفة لازمة لذاته يمتنع أن يكون إلا حيا قيوما سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا فاعتقد هؤلاء في الكلام والإرادة والمحبة والبغض والرضاء والسخط والإتيان والمجيء والاستواء على العرش والفرح والضحك مثل الحياة، وأول من أظهر هذا القول من الموافقين لأهل السنة في الأصول الكبار هو عبد الله بن سعيد بن كلاب وهذا مقتضى ما ذكره الأشعري في المقالات فإنه لم يذكر ذلك عن أحد قبله بل ذكر عن بعض المرجئة أنه يقول بقوله وذكر عن بعض الزيدية ما يحتمل أن يكون موافقا لبعض قوله وذكر أبو الحسن في كتاب المقالات قول أهل الحديث والسنة فقال هل هذه حكاية قول جملة أصحاب الحديث وأهل السنة، جملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله ﷺ لا يريدون من ذلك شيئا والله تعالى إله واحد فرد صمد لا إله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وأن محمدا عبده ورسوله وأن الجنة حق وأن النار حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأن الله على عرشه كما قال { الرحمن على العرش استوى } وأن له يدين بلا كيف كما قال { خلقت بيدي } وكما قال { بل يداه مبسوطتان } وأن له عينين بلا كيف كما قال { تجري بأعيننا } وأن له وجها كما قال { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } وأن أسماء الله لا يقال إنها غير الله كما قالت المعتزلة والخوارج وأقروا أن لله علما كما قال: { أنزله بعلمه } وكما قال: { وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه } وأثبتوا السمع والبصر ولم ينفوا ذلك عن الله كما نفته المعتزلة وأثبتوا لله القوة كما قال: { أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة } وقالوا إنه لا يكون في الأرض من خير ولا شر إلا ما شاء الله وأن الأشياء تكون بمشيئة الله تعالى كما قال تعالى: { وما تشاءون إلا أن يشاء الله }، ولما قال المسلمون ما شاء الله كان وما لم يشأ لا يكون وقالوا إن أحدا لا يستطيع أن يفعل شيئا قبل أن يفعله أو يكون أحد يقدر أن يخرج عن علم الله أو أن يفعل شيئا علم الله أنه لا يفعله وأقروا أنه لا خالق إلا الله وأن أعمال العباد يخلقها الله تعالى وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئا وأن الله وفق المؤمنين لطاعته وخذل الكافرين ولطف بالمؤمنين وأصلحهم وهداهم ولم يلطف بالكافرين ولا أصلحهم ولا هداهم ولو أصلحهم لكانوا صالحين ولو هداهم لكانوا مهتدين وأن الله يقدر أن يصلح الكافرين ويلطف بهم حتى يكونوا مؤمنين ولكنه أراد أن يكونوا كافرين، كما علم وأخذلهم ولم يصلحهم وطبع على قلوبهم وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره ويؤمنون بقضاء الله وقدره خيره وشره حلوه ومره ويؤمنون أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله كما قال ويلجئون أمرهم إلى الله ويثبتون الحاجة إلى الله في كل وقت والفقر إلى الله في كل حال ويقولون إن القرآن كلام الله غير مخلوق .

قال والطريق الثاني المعقول وفيه أدلة نذكر منها الجلي من معتمداتها فمن ذلك تقول لو كان كلام الله مخلوقا لم يخل أن يكون مخلوقا في محل أو لا في محل فإن كان في محل فلا يخلو أن يكون محله ذات الباري سبحانه أو ذاتا غير ذاته مخلوقة ومحال أن يكون خلقه الله في ذاته لأن ذلك يوجب كون ذاته تعالى محلا للحوادث وهذا محال اتفقت الأئمة قاطبة على إحالته ومحال أن يكون في محل هو ذات غير ذاته تعالى لأن ذلك يوجب أن يكون كلاما لتلك الذات ولا يكون كلاما لله تعالى ولأنه لو جاز أن يكون كلاما لله تعالى يقال له كلامه وصفته لجاز أن يقال مثل ذلك في سائر الصفات مثل الكون واللون والحركة والسكون والإرادة إلى غير ذلك من الصفات وهذا مما اتفقنا على بطلانه، ومحال أن يكون خلقه لا في محل من جهة أن الكلام صفة والصفات لا بد لها من محل تقوم به ولو جاز أن يقال كلام الله لا في محل لجاز أن يقال إرادة وحركة وشهوة وفعل ولون لا في محل وهذا مما يعلم إحالته قطعا وإذا بطلت هذه الأقسام ثبت أنه غير مخلوق ثم قال قالوا قد وصف الباري بأشياء حدثت في غيره ألا نرى أنا نصفه بأنه محسن بإحسان أحدثه في حق عباده ونصفه بأنه كاتب لوجود كتابه أحدثها في اللوح المحفوظ فما كان يمتنع أن يكون ههنا مثله قلنا الإحسان صفة قائمة بنفس المحسن وليس توقف وصفه بهذه الصفة على وجود الإحسان منه وإذا ظهر إحسانه على خلقه كان ذلك أثر وصفه بالإحسان لأن ما فعله هو صفته وجرى ذلك مجرى وصفه بأنه صانع فإنه يوصف بذلك لأنه عالم بحقيقة المصنوع لا أن الصفة هي المصنوع وكذلك القول في وصفه بأنه كاتب لأن الكتابة تجري مجرى الصنعة في أنها نوع من أنواع العلوم بكيفيات المنفعل في إيجاد فعله وذلك أمر غير المصنوع وهذا بين واضح، قلت هذا الالتزام بالمحسن والكاتب والعادل والخالق ونحو ذلك هو إلزام مشهور المعتزلة على قول أهل الإثبات، باطنه أن المتكلم لا بد أن يقوم به الكلام فألزموهم أسماء الأفعال وهذا السؤال هو الذي ضعضع هذه الحجة عند أبي المعالي الجويني والرازي وغيرهم لما ألزمهم المعتزلة بذلك ولهذا عدل عنها أبو المعالي إلى أن قال قد حصل الاتفاق على أنه سبحانه متكلم بكلامه وأنه لا بد من ضرب من الاختصاص في إضافة الكلام إليه ثم الاختصاص: إما اختصاص قيام، وإما أن يكون اختصاص فعل بفاعل، والثاني باطل لأنه لا فرق بين خلق الأجسام وأنواع الأعراض وبين خلق الكلام في أنه لا يرجع إلى القديم سبحانه صفة حقيقة من جميع ما خلقه قلت فهو في هذا لم يلتزم أن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل لئلا ترد عليه المعارضات لكن قال يزول الاختصاص وهذا الذي ذكره في الحقيقة يستلزم لذلك وملزوم له فإن الكلام له اختصاص، فإن لم يكن بفاعله كان بمحله والمعارضات واردة لا محالة وأجاب غيره عن اسم العادل والمحسن ونحوهما بأن قالوا العادل من تمام الأسماء عندنا لأنه فاعل العدل وإنما يشترط قيام العدل بالعادل منا لا من حيث كان فاعلا للعدل، بل لخصوص وصف ذلك الفعل فإن العدل قد يكون حركة أو سكونا أو نحوهما، فمن ذلك الوجه يجب قيامه به وكل معنى له ضد فشرط قيامه بالموصوف به والذي يسمى عدلا فينا من الأفعال فله ضد وهو الجور، فمن ذلك يجب قيامه بالفاعل منا قلت هذه فروق لا حقيقة لها عند التأمل فإن قيام الكلام بالمتكلم كقيام الفعل بالفاعل سواء لا فرق بينهما لا في المشاهد ولا في اللغة والاشتقاق ولا في القياس العقلي ولهذا عدل الرازي عن تقرير الطريقة المشهورة من أن المتكلم من قام به الكلام إذا كانت تحتاج إلى هذه المقدمة وإلى نفي جواز كونه محلا للحوادث وأثبت ذلك بطريقة في غاية الضعف وهي الإجماع الجدلي المركب والمعتزلة طردوا هذا الأصل الفاسد لهم في مسائل الصفات والقدر فجعلوه موصوفا بمفعولاته القائمة بغيره حتى قالوا من فعل الظلم فهو ظالم ومن فعل السفه فهو سفيه ومن فعل الكذب فهو كاذب ونحو ذلك وكل هذا باطل بل الموصوف بهذه الأسماء من قامت به هذه الأفعال لا من جهلها فعلا لغيره أو قائمة بغيره، والأشعرية عجزوا عن مناظرتهم في هذا المقام في مسألة القرآن ومسائل القدر بكونهم سلموا له أن الرب لا تقوم به صفة فعلية فلا يقوم به عدل ولا إحسان ولا تأثير أصلا فلزمهم أن يقولوا هو موصوف بمفعولاته فلا يجب أن يكون القرآن قائما به ويكون مسمى بأسماء القبائح التي خلقها لكن أبو محمد بن كلاب يقول لم يزل كريما جوادا فهذا قد يجيب عن صفة الإحسان وحدها بذلك وأما سائر أهل الإثبات من أهل الحديث والفقه والتصوف والكلام من المرجئة والشيعة والكرامية وغيرهم فيقولون إن الرب تقوم به الأفعال فيتصف به طردا لما ذكر في الكلام وأن الفاعل من قام به الفعل فالعادل والمحسن من قام به العدل والإحسان كما أشرنا إلى هذا فيما تقدم وبهذا أجاب القاضي وابن الحسن وابن الزاغوني وغيرهم فجواب هؤلاء المعتزلة جيد لكن تنازع هؤلاء هل ما يقوم به يمتنع تعلقه بمشيئته وقدرته ؟ فالقاضي وابن الزاغوني وغيرهم مشوا على أصلهم في امتناع قيام الحوادث به ولكن تفسيرهم للصانع والكاتب بالعالم ليس بمستقيم على هذا الأصل فإنه إذا جاز أن تفسر الأفعال بالعلم قيل مثل ذلك في الجميع فبطل الأصل بل الكتابة والصنعة فعل يقوم به وإن استلزم العلم وهل يجب أن يكون قديما لا يتعلق بمشيئته وقدرته أو يجوز أن يكون من ذلك ما يتعلق بمشيئته وقدرته على القولين في الكلام والأفعال وقد ظن من ذكر من هؤلاء كأبي علي وأبي الحسن بن الزاغوني أن الأمة قاطبة اتفقت على أنه لا تقوم به الحوادث وجعلوا ذلك الأصل الذي اعتمدوه وهذا مبلغهم من العلم وهذا الإجماع نظير غيره من الإجماعات الباطلة المدعاة في الكلام ونحوه وما أكثرها فمن تدبرها وجد عامة المقالات الفاسدة يبنونها على مقدمات لا تثبت إلا بإجماع مدعى أو قياس وكلاهما عند التحقيق يكون باطلا، ومن العجب أن بعض متكلمة أهل الحديث من أصحاب أحمد وغيرهم يدعون مثل هذا الإجماع مع النصوص الكثيرة عن أصحابهم بنقيض ذلك بل عن إمامهم وغيره من الأئمة حتى في لفظ الحركة والانتقال بينهم في ذلك نزاع مشهور وقد أثبت ذلك طوائف مثل ابن حامد وغيره وقد ذكر إجماع أهل السنة على ذلك حرب الكرماني وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهما من علماء السنة المشهورين فليتدبر العاقل ما وقع في هذه الأصول من الاضطراب وليحمد الله على الهداية وليقل { ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم } . ولكن نعرف أن هذه الحجة تبين فساد قول الجهمية من المعتزلة وغيرهم الذين يقولون خلق الله كلامه في محل فما ذكروه يبين فساد هذا القول الذي اتفقت سلف الأمة وأئمتها على ضلالة قائله بل ذلك عند من يعرف ما جاء به الرسول معلوم الفساد بالإضرار من دين الإسلام ولكن هذا يسلم ويطرد لمن جعل الأفعال قائمة به وجعل صفة التكوين قائمة به، ولهذا انتقضت على الأشعرية دون الجمهور ويبين أن كلام الله قائم به وهذا حق وأما كونه لا يتكلم إذا شاء ولا يقدر أن يتكلم بما شاء فهذا لا يصح إلا بما ابتدعته الجهمية من قولهم لا يتحرك ولا تحل به الحوادث وبذلك نفوا أن يكون استوى على العرش بعد أن لم يكن مستويا وأن يجيء يوم القيامة وغير ذلك مما وصف به نفسه في الكتاب والسنة وأما قول هؤلاء لو خلقه في نفسه لكانت ذاته محلا للحوادث فالذين يقولون إنه يتكلم إذا شاء لا يقولون إنه يخلق في نفسه شيئا إذ الخلق هو فعل أيضا قائم به عندهم بمشيئته فلا يكون للخلق خلق آخر وإلا لزم الدور والتسلسل ولهذا لم يقل أحد ممن قال بذلك إن كلامه مخلوق بل كل من قال إن كلامه مخلوق فإنما مراده أنه يخلقه منفصلا عنه والسلف علموا أن هذا مرادهم فجعلوا يبينون فساد ذلك كقول مالك وأحمد وغيرهما كلام الله من الله ولا يكون من الله شيء مخلوق وقولهم كلام الله من الله ليس ببائن عنه وقول أحمد لمن سأله أليس كلامك منك قال بلى فكلام الله من الله ومثل هذا كثير في كلامهم فلو أن المحتج قال اتفق المسلمون على أنه لا يخلق في ذاته شيئا لكان هذا كلاما صحيحا فإن أحدا لم يطلق عليه أنه يخلق في نفسه شيئا فيما أعلم بخلاف اللفظ الذي ادعاه فإن النزاع فيه من أشهر الأمور والذين أثبتوا ذلك أكثر من الذين نفوه من أهل الحديث وأهل الكلام جميعا، ولكن اتفاق الأمة فيما أعلم أنه لا يخلق في نفسه شيئا يبطل مذهب المعتزلة ولا يدل على أنه قديم لا يتعلق بمشيئته وقدرته ولعل هذه حجة عبد العزيز الكناني ولهذا النزاع العظيم بين الذين يقولون هو مخلوق أو محدث بمعنى أنه أحدثه في غيره والذين يقولون هو قديم لا يتعلق بمشيئته وقدرته إذا تدبره اللبيب وجد أن كل طائفة إنما تقيم الحجج على إبطال قول خصمها لا على صحة قولها أما الذين ينفون الخلق عنهم فأدلتهم عامتها مبنية على أنه لا بد من قيام الكلام به وأنه يمتنع أن يكون متكلما بكلام لا يقوم إلا بغيره وهذا أصل صحيح وهو من أصول السلف الذي بينوا به فساد قول الجهمية وأما الذين قالوا مخلوق فليس لهم حجة إلا ما يتضمن أنه متعلق بمشيئته وقدرته وأن ذلك يمنع كونه قديما وذلك كقوله { إنا أرسلنا نوحا } { وأوحينا إلى إبراهيم } و { أهلكنا القرون } لا يكون إلا بعد وجود المخبر عنه وإلا كان كذبا لأنه إخبار عن الماضي، وكذلك إخباره عن أقوال الأمم المتقدمة ومخاطبة بعضهم بعضا بقوله قالوا وقالوا كذلك فهذا لا يكون إلا بعد وجود المخبر عنه وقولهم إنه موصوف بأنه مجعول عربيا وإنه أحكمت آياته ثم فصلت وهذا إخبار بفعل منه تعلق به وذلك يوجب تعلقه بمشيئته وقدرته وقد نص أحمد على أن الجعل فعل من الله غير الخلق كما تقدم ذكر لفظه وقد حققوا ذلك بأن الله ذكر أنه جعله عربيا على وجه الامتنان علينا به والامتنان إنما يكون بفعله المتعلق بمشيئته وقدرته لا بالأمور اللازمة لذاته ومن خالف ذلك أجابوا بجواب ضعيف كقول ابن الزاغوني جعلناه أي أظهرناه وأنزلناه فيقال لهم يكفي في ذلك أن يقال أنزلناه قرآنا عربيا فإنه عندكم لا يقدر على أن ينزله ويظهره غير عربي ولا يمكن ذلك فإذا كان ذلك ممتنعا لذاته كيف يمتن بترك فعله وإنما الممكن أن ينزله أو لا ينزله أما أن ينزله عربيا وغير عربي فهذا ممتنع عندهم، وقد قال تعالى: { ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته } فعلم أن جعله عجميا كان ممكنا وعندهم ذلك غير ممكن وهذا أيضا حجة على من جعل العبارة مخلوقة منفصلة عن الله لأنه جعل القرآن نفسه عربيا وعجميا وعندهم لا يكون ذلك إلا في العبارة المخلوقة لا في نفس القرآن الذي هو غير مخلوق وعندهم المعنى الذي عبارته عربية هو الذي عبارته سريانية وعبرانية فإن جاز أن يقال هو عربي لكون عبارته كذلك كان كلام الله هو عربي عجمي سرياني عبراني لأن الموصوف بذلك عندهم شيء واحد .

وكتاب الله يدل على أن كلامه يقدر أن يجعله عربيا وأن يجعله عجميا وهو متكلم به ليس مخلوقا منفصلا عنه وأما أئمة أهل الحديث والفقهاء والصوفية وطوائف أهل الكلام الذين خالفوا المعتزلة قديما من المرجئة والشيعة ثم الكرامية وغيرهم فيخالفون في ذلك ويجعلون هذه الأفعال القائمة بذاته متعلقة بمشيئته وقدرته وأصحاب الإمام أحمد قد تنازعوا في ذلك كما تنازع غيرهم وذكر أبو بكر عبد العزيز عنهم في المقنع قولين، وحكى الحارث المحاسبي القولين عن أهل السنة ولكن المنصوص الصريح عن الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة يوافق هذا القول كما ذكرناه من كلامه في الرد على الجهمية فإن بأولا لما قال إن الله لم يتكلم ولا يتكلم فنفى المستقبل كما نفى الماضي قال أحمد فكيف يصنعون بحديث عدي بن حاتم قال: قال رسول الله ﷺ { ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان } ثم قال أحمد والخوارج إذا شهدت على الكافرين فقالوا لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء أتراها نطقت بجوف وشفتين وفم ولسان ولكن الله أنطقها كما شاء فكذلك تكلم الله كيف شاء من غير أن نقول جوف ولا فم ولا شفتان ولا لسان فذكر أن الله يتكلم كيف يشاء، ومن يقول بالأول يقول إن تكلمه لا يتعلق بالمشيئة إذ لا يتعلق بالمشيئة عندهم إلا المحدث الذي هو مخلوق منفصل ثم قال أحمد { وحديث الزهري قال لما سمع موسى كلام ربه قال يا رب هذا الكلام الذي سمعته هو كلامك قال نعم يا موسى هو كلامي وإنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان ولي قوة الألسن كلها وأنا أقوى من ذلك وإنما كلمتك على قدر ما تطيق بذلك ولو كلمتك بأكثر من ذلك لمت قال فلما رجع موسى إلى قومه قالوا صف لنا كلام ربك فقال سبحان الله وهل أستطيع أن أصفه لكم قالوا فشبه قال أسمعتم الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها } فكأنه مثله فقوله إنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان أي لغة ولي قوة الألسن كلها أي اللغات كلها وأنا أقوى من ذلك فيه بيان أن الكلام يكون بقوة الله وقدرته وأنه يقدر أن يتكلم بكلام أقوى من كلام وهذا صريح في قول هؤلاء كما هو صريح في أنه كلمه بصوت وكان يمكنه أن يتكلم بأقوى من ذلك الصوت وبدون ذلك الصوت وكذلك قول أحمد وقلنا للجهمية من القائل يوم القيامة يا عيسى وقلنا فمن القائل { فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين } فإنه دليل على أنه سألهم عن تكليمه في المستقبل حيث أنكروا أن يكون منه تكليم في المستقبل ثم لما قالوا إنما يكون شيئا فيعبر عن الله قال قلنا قد أعظمتم على الله الفرية حين زعمتم أن الله لا يتكلم فشبهتموه بالأصنام التي تعبد من دون الله لأن الأصنام لا تكلم ولا تحرك ولا تزول من مكان، فقد حكى عنهم منكرا عليهم نفيهم عن الله تعالى أن يتكلم أو يتحرك أو يزول من مكان إلى مكان ثم إنه قال فلما ظهرت عليه الحجة قال إن الله قد يتكلم ولكن كلامه مخلوق فقلنا كذلك بنو آدم كلامهم مخلوق فقد شبهتم الله تبارك وتعالى بخلقه حين زعمتم أن كلامه مخلوق ففي مذهبكم أن الله تعالى قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق التكلم وكذلك بنو آدم كانوا لا يتكلمون حتى خلق لهم كلاما فقد جمعتم بين كفر وتشبيه فتعالى الله جل ثناؤه عن هذه الصفة بل نقول إن الله جل ثناؤه لم يزل متكلما إذا شاء ولا نقول إنه كان ولا يتكلم حتى خلق ولا نقول إنه قد كان لا يعلم حتى خلق فعلم ولا نقول إن الله قد كان ولا قدرة حتى خلق لنفسه قدرة فهذا من كلامه يبين أن أولئك الذين قالوا كلامه مخلوق أرادوا أنه لم يكن متكلما حتى خلق الكلام إذ هذا معنى قولهم قد يتكلم ولكن كلامه مخلوق إذ المخلوق هو القائم ببعض الأجسام فعندهم تكلمه مثل بعض الأعيان المخلوقة ولهذا يمتنع عندهم أن يكون قبل ذلك متكلما، فرد أحمد هذا بأن هذا تشبيه بالإنسان الذي كان عاجزا عن التكلم لصغره حتى خلق الله له كلاما فمن مر عليه وقت وهو غير موصوف فيه بأنه متكلم إذا شاء مقتدر على الكلام كان ناقصا ففي ذلك كفر بجحد كمال الرب وصفته وتشبيهه له بالإنسان العاجز ولهذا قال بل نقول لم يزل متكلما إذا شاء فجمع بين الأمرين بين كونه لم يزل متكلما وبين كون ذلك متعلقا بمشيئته وأنه لا يجوز نفي التكلم عنه إلا أن يخلق التكلم كما لا يجوز نفي العلم والقدرة والنور وهذا هو الكمال في الكلام أن يتكلم المتكلم إذا شاء فأما العاجز عن الكلام فهو ناقص قبيح وأما الذي يلزمه الكلام ولا يتعلق بمشيئته واختياره فإنه يكون أيضا عاجزا ناقصا كالذي يصوت بغير اختياره كالأصوات الدائمة التي تلزم الجمادات بغير اختيارها مثل النواعير، ولما أقام الحجة بتكليم الله تعالى موسى وأنه تكلم ويتكلم وأن ذلك ممكن من غير حاجة إلى جوف وفم وشفتين ولسان إذا كان من المخلوقات ويتكلم وينطقها الله تعالى بدون حاجة إلى ذلك فالخالق سبحانه أولى بالغناء من المخلوق إذ كل ما ثبت للمخلوق من صفة كمال كالغناء فالله تعالى أولى به فالله أحق بالاستغناء عن ما استغنت عنه المخلوقات في كلامها، ذكر أن الجهمي لما خنقته الحجج قال إن الله كلم موسى إلا أن كلامه غيره قلنا غيره مخلوق، قال نعم قلنا هذا مثل قولكم الأول إلا أنكم تدفعون الشنعة عن أنفسكم بما تظهرون فأحمد رحمه الله تعالى لم ينكر عليه إطلاق الغير على القرآن حتى استفسره ما أراد به إذ لفظ الغير مجمل يراد به الذي يفارق الآخر، وهو قولهم إنه مخلوق، ويراد به ما لا يكون هو إياه، وهذا يبين أن إطلاق القول على الصفة بأنها هي الموصوف أو غيره، كلام مجمل يقبل بوجه ويرد بوجه، فمتى أريد بالغير المباينة للرب كان المعنى فاسدا وإنما ذكر هذا لأن أهل البدع، كما وصفهم به يتمسكون بالمتشابه من الكلام ولفظ الغير من المتشابه فإذا قال هو غيره فقيل له نعم، لأنه ليس هو إياه، قال وما كان غير الله فهو مخلوق وغير في هذا الموضع الثاني إنما يصح إذا أريد بها ما كان بائنا عن الله تعالى فهو مخلوق فيستعمل لفظ الغير في إحدى المقدمتين بمعنى وفي المقدمة الأخرى بمعنى آخر لما فيها من الإجمال والاشتراك فلهذا استفسره الإمام أحمد فلما فسر مراده قال فهذا هو القول الأول متى قلت هو مخلوق فقد قلت بأنه خلق شيئا فعبر عنه وأنه لا تكلم ولا يتكلم ثم احتج عليهم بما دل عليه القرآن من تكلمه في الآخرة وخطابه للرسل فلما أقروا بنفي التكلم عنه أزلا وأبدا ولم يفسروا ذلك إلا بخلق الكلام في غيره قال قد أعظمتم الفرية على الله حين زعمتم أن الله تعالى لا يتكلم فشبهتموه بالأصنام التي تعبد من دون الله لأن الأصنام لا تكلم ولا تحرك ولا تزول من مكان إلى مكان، وهذه الحجة من باب قياس الأولى وهي من جنس الأمثال التي ضربها الله في كتابه فإن الله تعالى عاب الأصنام بأنها لا ترجع قولا وأنها لا تملك ضرا ولا نفعا وهذا من المعلوم ببداية العقول أن كون الشيء لا يقدر على التكلم صفة نقص وأن المتكلم أكمل من العاجز عن الكلام وكلما تنزه المخلوق عنه من صفة نقص فالله تعالى أحق بتنزيهه عنه وكلما ثبت لشيء من صفة كمال فالله تعالى أحق باتصافه بذلك فالله أحق بتنزيهه عن كونه لا يتكلم من الأحياء الآدميين وأحق بالكلام منهم وهو سبحانه منزه عن مماثلة الناقصين المعدوم والموات وأما قول أحمد فلما ظهرت عليه الحجة قال إنه قد يتكلم ولكن كلامه مخلوق فقلنا وكذلك بنو آدم كلامهم مخلوق فقد شبهتم الله تعالى بخلقه حين زعمتم أن كلامه مخلوق ففي مذهبكم أن الله قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق التكلم وكذلك بنو آدم لا يتكلمون حتى خلق لهم كلاما فقد جمعتم بين كفر وتشبيه فتعالى الله جل ثناؤه عن هذه الصفة بل نقول إن الله جل ثناؤه لم يزل متكلما إذا شاء ولا نقول إنه قد كان ولا يتكلم حتى خلق ولا نقول إنه قد كان لا يعلم حتى خلق فعلم ولا نقول إنه قد كان ولا قدرة حتى خلق لنفسه قدرة ولا نقول إنه قد كان ولا نور له حتى خلق لنفسه نورا ولا نقول إنه قد كان ولا عظمة حتى خلق لنفسه عظمة، فهذا يدل على أن هذا القول أراد به بأولا أنه قد يتكلم بعد أن لم يكن متكلما بكلام مخلوق يخلقه لنفسه في ذاته أو يخلقه قائما بنفسه ليكون هذا القول غير الأول الذي قال إنه يخلق شيئا فيعبر عن الله وقال إنكم شبهتموه بالأصنام التي لا تتكلم ولا تتحرك ولا تزول من مكان إلى مكان ثم انتقل الجهمي عن ذلك القول إلى هذا القول وقال أحمد في الجواب فقلنا وكذلك بنو آدم كلامهم مخلوق فقد شبهتم الله تعالى بخلقه حين زعمتم أن كلامه مخلوق ففي مذهبكم أن الله قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق التكلم وكذلك بنو آدم لا يتكلمون حتى خلق لهم كلاما فقد جمعتم بين كفر وتشبيه إلى آخر كلامه ففي هذا كله دليل على أنه أنكر عليهم كونه كان لا يتكلم حتى خلق لنفسه كلاما في نفسه فصار حينئذ متكلما بعد أن لم يكن متكلما وبين أن ذلك يستلزم أنه كان ناقصا فصار كاملا لأن عدم التكلم صفة نقص وهذا هو الكفر فإن وصف الله بالنقص كفر وفيه تشبيه له بمن كان ناقصا عاجزا عن الكلام حتى خلق له الكلام، ولهذا قال: بل نقول إنه لم يزل متكلما إذا شاء فبين أن كونه موصوفا بالتكلم إذا شاء أمر لم يزل لا يجوز أن يكون ذلك محدثا لأنه يستلزم كماله بعد نقصه وفيه تشبيه له بالآدميين كما أن منع تكلمه بالكلية تشبيه له بالجمادات من الأصنام التي تعبد من دون الله تعالى وغيره ثم إنه بين أن ثبوت هذه الصفة له فيما لم يزل كثبوت العلم والقدرة والنور والعظمة لم يزل موصوفا بها لا يقال إنه كان بدون هذه الصفات حتى أحدثها لأن ذلك يستلزم أنه كان ناقصا فكمل بعد نقصه سبحانه وتعالى عن ذلك، ولهذا كان كلام أحمد وغيره من الأئمة مع الجهمية في هذه المسألة فيه بيان الفصل بين كلام الله تعالى وقوله وبين خلقه وأن هذا ليس هذا ويذكرون هذا الفرق في المواضع التي أخبر الله ورسوله بأنه تكلم بالوحي وأنه إذا تكلم بالوحي كان هذا من أعظم الحجج لهم فإن من يقول القرآن مخلوق يقول إن الله خلقه منفصلا عنه كسائر المخلوقات وليس يعود إليه من خلقه حكم من الأحكام أصلا بل ذلك بمنزلة خلق السماء والأرض وكلام الذراع المسموم ونطق الأيدي والأرجل وغير ذلك مما خلقه الله تعالى من الموصوفات والأفعال والصفات ومما يعلم بالاضطرار أن ما كان كذلك فلا بد أن يصفه الله تعالى بالخلق كما وصف غيره من المخلوقات ولا يجوز أيضا أن يضاف إلى الله تعالى إضافة اختصاص يتميز بها عن غيره من المخلوقات إذ لا اختصاص له أصلا فلا يكون كلاما لله تعالى ولا قولا أصلا والقرآن كله يثبت له صفة الاختصاص بالقول والكلام ولم يثبت قط له الصفة المشتركة بينه وبين سائر المخلوقات من صفة الخلق فالقرآن دل على الفرق بين القول والمقول وبين المخلوق والمفعول، قال الإمام أحمد وقد ذكر الله تعالى كلامه في غير موضع من القرآن فسماه كلاما ولم يسمه خلقا قال: { فتلقى آدم من ربه كلمات }، وقال: { وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله } وقال: { ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه } وقال: { اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي } وقال: { وكلم الله موسى تكليما } وقال: { فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته } فأخبر الله عز وجل أن النبي ﷺ كان يؤمن بالله وبكلام الله وقال: { يريدون أن يبدلوا كلام الله }، وقال: { قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي }، وقال: { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } ولم يقل حتى يسمع خلق الله فهذا المنصوص بلسان عربي مبين لا يحتاج إلى تفسير هو بين والحمد لله، قلت وقد تضمن هذا أن الله إذا سماه كلاما في مواضع كثيرة ولم يسمه خلقا ومن المعلوم المستقر في الفطر أن الكلام هو ما تكلم به المتكلم لا يكون منفصلا ولهذا قال فهذا المنصوص بلسان عربي مبين لا يحتاج إلى تفسير هو بين يعني أن بيان الله مما ذكره من كلامه وأن كلامه هو بين لكل أحد ليس من الخفي ولا من المتشابه الذي يحتاج إلى تفسير الجهمي الذي يجعله مخلوقا منفصلا عنه كسائر المخلوقات، حرف هذا الكلم عن مواضعه وألحد في آيات الله تحريفا وإلحادا يعلمه كل ذي فطرة سليمة ولهذا تجد ذوي الفطر السليمة إذا ذكر لهم هذا المذهب يقولون هذا يقول إن القرآن ليس كلام الله حتى إنهم يقولون ذلك عمن يقول حروف القرآن مخلوقة هذا يقول القرآن ليس كلام الله لا يقولون مخلوق ولا غير مخلوق لما استقر في فطرهم أن ما يكون مخلوقا منفصلا عن الله لا يكون كلام الله فمن قال إن الله لم يتكلم بحروف القرآن بل جعله خالقا لها في جسم من الأجسام فهو عندهم يقول إن القرآن ليس بكلام الله سواء جعل تلك الحروف هي القرآن أو ادعى أن ثم معنى قديما هو كلام الله دون سائر الحروف فإن المستقر في فطر الناس الذي تلقته الأمة خلفا عن سلف عن نبيها أن القرآن جميعه كلام الله وكلهم فهم هذا المعنى المنصوص بلسان عربي مبين كما ذكر أحمد أنه تكلم به لا أنه خلقه في بعض المخلوقات، ثم ذكر أحمد ما أمر الله به من القول وما نهى عنه من القول وأنه لم يذكر في المأمور به قولوا عن القرآن إنه مخلوق ولا في المنهي عنه لا تقولوا إنه كلامي قال أحمد وقد سألت الجهمية أليس إنما قال الله جل ثناؤه: { قولوا آمنا بالله } { وقولوا للناس حسنا } { وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم } { وقولوا قولا سديدا } { فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } وقال: { وقل الحق من ربكم } وقال: { وقل سلام } ولم نسمع الله يقول قولوا إن كلامي خلق وقال: { ولا تقولوا ثلاثة انتهوا } وقال: { ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات } { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا }، وقال: { فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما } وقال: { ولا تقف ما ليس لك به علم } { ولا تدع مع الله إلها آخر } وقال: { ولا تقتلوا أولادكم من إملاق } { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك } { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق }، { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } { ولا تمش في الأرض مرحا } ومثله في القرآن كثير، فهذا ما نهى الله عنه ولم يقل لنا لا تقولوا إن القرآن كلامي، قلت: وهذه حجة قوية وذلك أن القرآن لو كان كما يزعمه الجهمي مخلوقا منفصلا كالسماء والأرض وكلام الذارع والأيدي والأرجل لكان معرفة ذلك واجبا لا سيما وعند الجهمية من المعتزلة وغيرهم أن معرفة ذلك من أصول الإيمان الذي لا يتم إلا به وقد يقولون إن معرفة ذلك واجبة قبل معرفة الرسالة وأن معرفة الرسالة لا تتم إلا بتنزيه الله عن كلام يقوم به لأن الكلام لا يقوم إلا بجسم متحيز ونفي ذلك عندهم واجب قبل الإقرار بالرسول فإن الجسم يستلزم أن يكون محدثا مخلوقا يجوز عليه الحاجة وذلك يمنع ما بنوا عليه العلم بصدق الرسول وقد صرحوا بذلك في كتبهم فإذا كان الأمر كذلك كان بيان ذلك من الواجبات فإذا لم يأمر الله به قط مع حاجة المكلفين إليه ومع أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز علم أنه ليس مأمورا به ولا واجبا وذلك يبطل قولهم وأيضا فلم ينه العباد عن أن يسموه كلامه مع العلم بأن هذه التسمية ظاهرة في أنه هو المتكلم به ليس هو الذي خلقه في جسم غيره والجهمي وإن زعم أن الكلام يقال لمن فعله بغيره كما مثله من تكلم الجني على لسان المصروع فهو لا ينازع في أن غالب الناس لا يفهمون من الكلام إلا ما يقوم بالمتكلم بل لا يعرفون كلاما منفصلا عن متكلمه قط وأمر الجني فيه من الإشكال والنزاع بل بطلان قول المستدل به مما يمنع أن يكون ذلك ظاهرا لعموم الناس، وإذا كان كذلك وكان الواجب على قول الجهمي ما نهى الناس عن أن يقولوا القرآن كلام الله حتى لا يقولوا بالباطل وأما البيان بأن قولهم كلام الله أن الله خلق ذلك الكلام في جسم غيره كما ذكره الجهمية من أنه خلق شيئا فعبر عنه فلما لم يؤمروا بهذا ولم ينهوا عن ذلك مع الحاجة إلى هذا الأمر والنهي على زعم الجهمي علم أن قوله المستلزم لازم للأمر والنهي الذي لم يقع من الشارع باطل ولهذا كان أحمد يقول لهم فيما يقوله في المناظرة الخطابية كيف أقول ما لم يقل أي هذا القول لم يقله أحد قبلنا ولو كان من الدين لكان قوله فعدم قول أولئك له يدل على أنه ليس من الدين وكذلك احتجاج أبي عبد الرحمن الأدرمي وهو الشيخ الأدنى الذي قدمه ابن أبي داود على الواثق فناظره أمامه كما حكاه ابنه المهتدي وقطعه الأدنى في المناظرة والقصة مشهورة وقال لابن أبي داود يا أحمد أرأيت مقالتك هذه التي تدعو الناس إليها هل هي داخلة في عقد الدين لا يتم الدين إلا بها وهل علمها رسول الله وهل أمر بها وهل وسعه ووسع خلفاءه السكوت عنها فكانت هذه الحجج كلها تبين أن هذا القول لو كان من الدين لوجب بيانه وعدم ذلك مع قيام المقتضى له دليل على أنه ليس من الدين وإذا لم يكن من الدين كان باطلا لأن الدين لا بد فيه من أحد الأمرين إما أن يكون الله تعالى تكلم بالقرآن وبسائر كلامه وإما أن يكون خلقه في غيره لا يحتمل الأمر وجها ثالثا فإذا بطل أن يكون خلقه في غيره من الدين تعين أن يكون القول الآخر من الدين وهو أنه هو المتكلم به فمنه بدأ ومنه يعود ومنه حق القول ومن لدنه نزل ولو كان مخلوقا في جسم غيره لكان بمثابة ما يخلقه في الأيدي والأرجل والذراع والصخر وغير ذلك من الأجسام فإنه وإن كان منه أي من خلقه فليس من لدنه ولا هو قولا منه ولا بدأ منه، قال الإمام أحمد وقد سمت الملائكة كلام الله كلاما ولم تسمه خلقا في قوله تعالى { حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق }، وذلك أن الملائكة لم يسمعوا صوت الوحي بين عيسى ومحمد ﷺ وبينها ستمائة سنة فلما أوحى الله جل ثناؤه إلى محمد ﷺ سمع الملائكة صوت الوحي كوقع الحديد على الصفاء وظنوا أنه أمر من أمر الساعة ففزعوا وخروا لوجوههم سجدا فذلك قوله عز وجل { حتى إذا فزع عن قلوبهم } يقول حتى إذا تجلى الفزع عن قلوبهم رفع الملائكة رءوسهم فسأل بعضهم بعضا فقالوا ماذا قال ربكم ولم يقولوا ماذا خلق ربكم فهذا بيان لمن أراد الله هداه، قلت: احتج أحمد بما سمعته الملائكة من الوحي إذا تكلم الله به كما قد جاءت بذلك الآثار المتعددة وسمعوا صوت الوحي فقالوا ماذا قال ربكم ولم يقولوا ماذا خلق ربكم فبين أن تكلم الله بالوحي الذي سمعوا صوته هو قوله ليس هو خلقه ومثل هذه العبارة ذكر البخاري الإمام صاحب الصحيح إما تلقيا له عن أحمد أو غيره أو موافقة اتفاقية وقد ذكر ذلك في كتاب الصحيح وفي كتاب خلق الأفعال فقال في الصحيح في آخره في كتاب الرد على الجهمية باب قول الله { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير }، ولم يقل ماذا خلق لكم وقال { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه }، قال وقال مسروق عن ابن مسعود إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات شيئا فإذا فزع عن قلوبهم وسكن الصوت عرفوا أنه الحق من ربكم ونادوا ماذا قال ربكم قالوا الحق، قال: ويذكر عن جابر بن عبد الله عن عبد الله بن أنس سمعت النبي ﷺ { يقول يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان } ثم قال حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان عن عمرو عن عكرمة عن أبي هريرة يبلغ به النبي ﷺ قال { إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان } قال وقال غيره صفوان ينفذهم ذلك فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا للذي قال الحق وهو العلي الكبير فالواجب على المسلم أن يلزم سنة رسول الله ﷺ وسنة خلفائه الراشدين والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وما تنازعت فيه الأمة وتفرقت فيه إن أمكنه أن يفصل النزاع بالعلم والعدل وإلا استمسك بالجمل الثابتة بالنص والإجماع وأعرض عن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا فإن مواضع التفرق والاختلاف عامتها تصدر عن اتباع الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى، وقد بسطت القول في جنس هذه المسائل ببيان ما كان عليه سلف الأمة الذي اتفق عليه العقل والسمع وبيان ما يدخل في هذا الباب من الاشتراك والاشتباه والغلط في مواضع متعددة ولكن نذكر منها جملة مختصرة بحسب حال السائل بعد الجواب بالجمل الثابتة بالنص والإجماع ومنعهم من الخوض في التفصيل الذي يوقع بينهم الفرقة والاختلاف فإن الفرقة والاختلاف من أعظم ما نهى الله عنه ورسوله والتفصيل المختصر أن نقول: من اعتقد أن المداد الذي في المصحف وأصوات العباد قديمة أزلية فهو ضال مخطئ مخالف للكتاب والسنة وإجماع الأولين وسائر علماء الإسلام ولم يقل أحد قط من علماء المسلمين أن ذلك قديم

لا من أصحاب الإمام أحمد ولا من غيرهم ومن نقل قدم ذلك عن أحد من علماء أصحاب الإمام أحمد فهو مخطئ في النقل أو متعمد للكذب بل المنصوص عن الإمام أحمد وعامة أصحابه تبديع من قال لفظي بالقرآن غير مخلوق كما جهموا من قال اللفظ بالقرآن مخلوق، وقد صنف أبو بكر المروذي أخص أصحاب الإمام أحمد به في ذلك رسالة كبيرة مبسوطة ونقلها عنه أبو بكر الخلال في كتاب السنة الذي جمع فيه كلام الإمام أحمد وغيره من أئمة المسلمين في أبواب الاعتقاد وكان بعض أهل الحديث إذ ذاك أطلق القول بأن لفظي بالقرآن غير مخلوق معارضة لمن قال لفظي بالقرآن مخلوق فبلغ ذلك الإمام أحمد فأنكر ذلك إنكارا شديدا وبدع من قاله وأخبر أن أحدا من العلماء لم يقل ذلك فكيف بمن يزعم أن صوت العبد قديم، وأقبح من ذلك من يحكي عن بعض العلماء أن المداد الذي في المصحف قديم وجميع أئمة أصحاب الإمام وغيرهم أنكروا ذلك وما علمت أن عالما يقول ذلك إلا ما يبلغنا عن بعض الجهال وقد ميز الله في كتابه بين الكلام والمداد فقال تعالى: { قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا } فهذا خطأ من هذا الجانب وكذلك من زعم أن القرآن محفوظ في الصدور كما أن الله معلوم بالقلوب وأنه متلو بالألسن كما أن الله مذكور بالألسن وأنه مكتوب في المصحف كما أن الله مكتوب وجعل ثبوت القرآن في الصدور والألسنة والمصاحف مثل ثبوت ذات الله تعالى في هذه المواضع فهذا أيضا مخطئ في ذلك فإن الفرق بين ثبوت الأعيان في المصحف وبين ثبوت الكلام فيها بين واضح فإن الموجودات لها أربع مراتب: مرتبة في الأعيان ومرتبة في الأذهان ومرتبة في اللسان ومرتبة في البنان فالعلم يطابق العين واللفظ يطابق العلم والخط يطابق اللفظ، فإذا قيل إن العين في الكتاب كما في قوله { وكل شيء فعلوه في الزبر } فقد علم أن الذي في الزبر إنما هو الخط المطابق للعلم فبين الأعيان وبين المصحف مرتبتان وهي اللفظ والخط وأما الكلام نفسه فليس بينه وبين الصحيفة مرتبة بل نفس الكلام يجعل في الكتاب وإن كان بين الحرف الملفوظ والحرف المكتوب فرق من وجه آخر إلا إذا أريد أن الذي في المصحف هو ذكره والخبر عنه مثل قوله تعالى { وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك } إلى قوله: { وإنه لفي زبر الأولين أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل } فالذي في زبر الأولين ليس هو نفس القرآن المنزل على محمد ﷺ فإن هذا القرآن لم ينزل على أحد قبله ﷺ ولكن في زبر الأولين ذكر القرآن وخبره كما فيها ذكر محمد ﷺ وخبره كما أن أفعال العباد في الزبر كما قال تعالى: { وكل شيء فعلوه في الزبر } فيجب الفرق بين كون هذه الأشياء في الزبر وبين كون الكلام نفسه في الزبر كما قال تعالى: { إنه لقرءان كريم في كتاب مكنون } وقال تعالى: { يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة } فمن قال إن المداد قديم فقد أخطأ، ومن قال ليس في المصحف كلام الله وإنما فيه المداد الذي هو عبارة عن كلام الله فقد أخطأ بل القرآن في المصحف كما أن سائر الكلام في الورق كما عليه الأمة مجمعة وكما هو في فطر المسلمين فإن كل مرتبة لها حكم يخصها وليس وجود الكلام في الكتاب كوجود الصفة بالموصوف مثل وجود العلم والحياة في محلهما حتى يقال إن صفة الله حلت بغيره أو فارقته ولا وجوده فيه كالدليل المحض مثل وجود العالم الدال على الباري تعالى حتى يقال ليس فيه إلا ما هو علامة على كلام الله عز وجل بل هو قسم آخر، ومن لم يعط كل مرتبة مما يستعمل فيها أداة الظرف حقها فيفرق بين وجود الجسم في الحيز وفي المكان ووجود العرض للجسم ووجود الصورة بالمرآة ويفرق بين رؤية الشيء بالعين يقظة وبين رؤيته بالقلب يقظة ومناما ونحو ذلك وإلا اضطربت عليه الأمور وكذلك سؤال السائل عما في المصحف هل هو حادث أو قديم سؤال مجمل فإن لفظ القديم أولا ليس مأثورا عن السلف وإنما الذي اتفقوا عليه أن القرآن كلام الله غير مخلوق وهو كلام الله حيث تلي وحيث كتب وهو قرآن واحد وكلام واحد وإن تنوعت الصور التي يتلى فيها ويكتب من أصوات العباد ومدادهم الكلام كلام من قاله مبتدئا لا كلام من بلغه مؤديا فإذا سمعنا محدثا يحدث بقول النبي ﷺ { إنما الأعمال بالنيات } قلنا هذا كلام رسول الله ﷺ لفظه ومعناه مع علمنا أن الصوت صوت المبلغ لا صوت رسول الله ﷺ وهكذا كل من بلغ كلام غيره من نظم ونثر، ونحن إذا قلنا هذا كلام الله لما نسمعه من القارئ ونرى في المصحف فالإشارة إلى الكلام من حيث هو هو مع قطع النظر عما اقترن به البلاغ من صوت المبلغ ومداد الكاتب فمن قال صوت القارئ ومداد الكاتب كلام الله الذي ليس بمخلوق فقد أخطأ وهذا الفرق الذي بينه الإمام أحمد لمن سأله، وقد قرأ { قل هو الله أحد } فقال هذا كلام الله غير مخلوق فقال نعم فنقل السائل عنه أنه قال لفظي بالقرآن غير مخلوق فدعا به وزبره زبرا شديدا وطلب عقوبته وتعزيره وقال أنا قلت لك لفظي بالقرآن غير مخلوق فقال لا ولكن قلت لي لما قرأت { قل هو الله أحد } هذا كلام الله غير مخلوق قال فلم تنقل عني ما لم أقله ؟ فبين الإمام أحمد أن القائل إذا قال لما سمعه من المبلغين المؤدين هذا كلام الله فالإشارة إلى حقيقته التي تكلم الله بها وإن كنا إنما سمعناها ببلاغ المبلغ وحركته وصوته فإذا أشار إلى شيء من صفات المخلوق لفظه أو صوته أو فعله وقال هذا غير مخلوق فقد ضل وأخطأ فالواجب أن يقال القرآن كلام الله غير مخلوق فالقرآن في المصاحف كما أن سائر الكلام في المصحف ولا يقال إن شيئا من المداد والورق غير مخلوق بل كل ورق ومداد في العالم فهو مخلوق ويقال أيضا القرآن الذي في المصحف كلام الله غير مخلوق والقرآن الذي يقرؤه المسلمون كلام الله غير مخلوق .

ويتبين هذا بالجواب عن المسألة الثانية وهو قوله إن كلام الله هل هو حرف وصوت أم لا فإن إطلاق الجواب في هذه المسألة نفيا وإثباتا خطأ وهي من البدع المولدة الحادثة بعد المائة الثالثة، لما قال قوم من متكلمة الصفاتية إن كلام الله الذي أنزله على أنبيائه كالتوراة والإنجيل والقرآن والذي لم ينزله والكلمات التي كون بها الكائنات والكلمات المشتملة على أمره وخبره ليس إلا مجرد معنى واحد هو صفة واحدة، قامت بالله إن عبر عنها بالعبرانية كانت التوراة وإن عبر عنها بالعربية كان القرآن وإن الأمر والنهي والخبر صفات لها لا أقسام لها وأن حروف القرآن مخلوقة خلقها الله ولم يتكلم بها وليست من كلامه إذ كلامه لا يكون بحرف وصوت، عارضهم آخرون من المثبتة فقالوا: بل القرآن هو الحروف والأصوات وتوهم قوم أنهم يعنون بالحروف المداد، وبالأصوات أصوات العباد وهذا لم يقله عالم، والصواب الذي عليه سلف الأمة كالإمام أحمد والبخاري صاحب الصحيح في كتاب خلق أفعال العباد وغيره وسائر الأئمة قبلهم وبعدهم اتباع النصوص الثابتة ؟ وإجماع سلف الأمة، وهو أن القرآن جميعه كلام الله حروفه ومعانيه ليس شيء من ذلك كلاما لغيره ولكن أنزله على رسله وليس القرآن اسما لمجرد المعنى ولا لمجرد الحرف بل لمجموعهما، وكذلك سائر الكلام ليس هو الحروف فقط ولا المعاني فقط، كما أن الإنسان المتكلم الناطق ليس هو مجرد الروح ولا مجرد الجسد بل مجموعهما، وأن الله تعالى متكلم بصوت كما جاءت به الأحاديث الصحاح، وليس ذلك كأصوات العباد لا صوت القارئ ولا غيره، وأن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فكما لا يشبه علمه وقدرته وحياته علم المخلوق وقدرته وحياته فكذلك لا يشبه كلامه كلام المخلوق ولا معانيه تشبه معانيه ولا حروفه تشبه حروفه ولا صوت الرب يشبه صوت العبد فمن شبه الله بخلقه فقد ألحد في أسمائه وآياته، ومن جحد ما وصف به نفسه فقد ألحد في أسمائه وآياته، وقد كتبت في الجواب المبسوط المستوفي مراتب مذاهب أهل الأرض في ذلك، وأن المتفلسفة تزعم أن كلام الله ليس له وجود إلا في نفوس الأنبياء تفاض عليهم المعاني من العقل الفعال فيصير في نفوسهم حروفا، كما أن ملائكة الله عندهم ما يحدث في نفوس الأنبياء من الصور النورانية، وهذا من جنس قول فيلسوف قريش الوليد بن المغيرة: ( إن هذا إلا قول البشر )، فحقيقة قولهم إن القرآن تصنيف الرسول الكريم لكنه كلام شريف صادر عن نفس صافية، وهؤلاء هم الصابئة فتقربت منهم الجهمية فقالوا: إن الله لم يتكلم ولا يتكلم ولا قام به كلام وإنما كلامه ما يخلقه في الهواء أو غيره، فأخذ ببعض ذلك قوم من متكلمة الصفاتية فقالوا: بل نصفه وهو المعنى كلام الله ونصفه وهو الحروف ليس كلام الله بل هو خلق من خلقه وقد تنازع الصفاتية القائلون بأن القرآن غير مخلوق هل يقال إنه قديم لم يزل ولم يتعلق بمشيئته، أم يقال يتكلم إذا شاء ويسكت إذا شاء على قولين مشهورين في ذلك ذكرهما الحارث المحاسبي عن أهل السنة وذكرهما أبو بكر عبد العزيز عن أهل السنة من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم، وكذلك النزاع بين أهل الحديث الصوفية وفرق الفقهاء من المالكية والشافعية والحنفية والحنبلية بل وبين فرق المتكلمين والفلاسفة في جنس هذا الباب وليس هذا موضعا لبسط ذلك هذا لفظ الجواب في الفتيا المصرية، قلت: وأما سؤال السائل عن قوله عز وجل: { الرحمن على العرش استوى } فهو حق كما أخبر الله به وأهل السنة متفقون على ما قاله ربيعة بن أبي عبد الرحمن ومالك بن أنس وغيرهما من الأئمة إن الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عن الكيف بدعة، فمن زعم أن الله مفتقر إلى عرش يقله أو أنه محصور في سماء تظله، أو أنه محصور في شيء من مخلوقاته، أو أنه يحيط به جهة من جهات مصنوعاته فهو مخطئ ضال، ومن قال إنه ليس على العرش رب ولا فوق السموات خالق بل ما هنالك إلا العدم المحض والنفي الصرف فهو معطل جاحد لرب العالمين مضاه لفرعون الذي قال { يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا } بل أهل السنة والحديث وسلف الأمة متفقون على أنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه ليس في ذاته شيء من مخلوقاته ولا في مخلوقاته شيء من ذاته وعلى ذلك نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمة السنة بل على ذلك جميع المؤمنين من الأولين والآخرين وأهل السنة، وسلف الأمة متفقون على أن من تأول استوى بمعنى استولى أو بمعنى آخر ينفي أن يكون الله فوق سمواته فهو جهمي ضال، قلت: وأما سؤاله عن إجراء القرآن على ظاهره فإنه إذا آمن بما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله من غير تحريف ولا تكييف فقد اتبع سبيل المؤمنين، ولفظ الظاهر في عرف المستأخرين قد صار فيه اشتراك فإن أراد بإجرائه على الظاهر الذي هو من خصائص المخلوقين حتى يشبه الله بخلقه فهذا ضلال، بل يجب القطع بأن الله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء يعني أن موعود الله في الجنة من الذهب والحرير والخمر واللبن تخالف حقائقه حقائق هذه الأمور الموجودة في الدنيا فالله تعالى أبعد عن مشابهة مخلوقاته بما لا يدركه العباد ليس حقيقته كحقيقة شيء منها وأما إن أراد بإجرائه على الظاهر الذي هو الظاهر في عرف سلف الأمة بحيث لا يحرف الكلم عن مواضعه ولا يلحد في أسماء الله تعالى ولا يفسر القرآن والحديث بما يخالف تفسير سلف الأمة وأهل السنة، بل يجري ذلك على ما اقتضته النصوص وتطابق عليه دلائل الكتاب والسنة، وأجمع عليه سلف الأمة، فهذا مصيب في ذلك وهو الحق وهذا جملة لا يسع هذا الموضع تفصيلها، وقلت في جواب الفتيا الدمشقية وقد سئلت فيها عن رجل حلف بالطلاق الثلاث أن القرآن حرف وصوت، وأن (الرحمن على العرش استوى } على ما يفيده الظاهر ويفهمه الناس من ظاهره، هل يحنث هذا أم لا، فقلت في الجواب إن كان مقصود هذا الحالف أن أصوات العباد بالقرآن والمداد الذي يكتب به حروف القرآن قديمة أزلية، فقد حنث في يمينه، وما علمت أحدا من الناس يقول ذلك، وإن كان قد يكره تجريد الكلام في المداد الذي في المصحف وفي صوت العبد لئلا يتذرع بذلك إلى القول بخلق القرآن، ومن الناس من تكلم في صوت العبد وإن كنا نعلم أن الذي نقرؤه هو كلام الله حقيقة لا كلام غيره، وأن الذي بين اللوحين هو كلام الله حقيقة، ولكن ما علمت أحدا حكم على مجموع المداد المكتوب به وصوت العبد بالقرآن بأنه قديم، ولكن الذين في قلوبهم زيغ من أهل الأهواء لا يفهمون من كلام الله وكلام رسوله وكلام السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان في باب صفات الله تعالى إلا المعاني التي تليق بالخلق لا بالخالق، ثم يريدون تحريف الكلم عن مواضعه في كلام الله وكلام رسوله إذا وجدوا ذلك فيهما، وإن وجدوه في كلام التابعين للسلف افتروا الكذب عليهم ونقلوا عنهم بحسب الفهم الباطل الذي فهموه، أو زادوا عليهم في الألفاظ أو غيروها قدرا ووصفا،

كما نسمع من ألسنتهم ونرى في كتبهم، ثم بعض من يحسن الظن بهؤلاء النقلة قد يحكي هذا المذهب عمن حكوه عنهم ويذم ويحنث مع من لا وجود له وذمه واقع على موصوف غير موجود، نظير ما وصف الله تعالى عن رسوله - ﷺ حيث قال: { ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش يشتمون مذمما وأنا محمد ﷺ }، وهذا نظير ما تحكي الرافضة عن أهل السنة من أهل الحديث والفقه والعبادة والمعرفة أنهم ناصبة وتحكي القدرية عنهم: أنهم مجبرة، وتحكي الجهمية عنهم أنهم مشبهة وتحكي من خالف الحديث ونابذ أهله عنهم: أنهم نابتة وحشوية وغثا وغثر، إلى غير ذلك من الأسماء المكذوبة، ومن تأمل كتب المتكلمين الذين يخالفون هذا القول وجدهم لا يبحثون في الغالب أو في الجميع إلا مع هذا القول الذي ما علمنا لقائله وجودا وإن كان مقصود الحالف أن القرآن الذي أنزله الله تعالى على محمد - ﷺ هو هذه المائة والأربع عشرة سورة حروفها ومعانيها، وأن القرآن ليس هو الحروف دون المعاني ولا المعاني دون الحروف، بل هو مجموع الحروف والمعاني، وأن تلاوتنا للحروف وتصورنا للمعاني لا يخرج المعاني، والحروف عن أن تكون موجودة قبل وجودنا، فهذا مذهب المسلمين ولا حنث عليه، وكذلك إن كان مقصوده أن هذا القرآن الذي يقرؤه المسلمون ويكتبونه في مصاحفهم هو كلام الله سبحانه حقيقة لا مجازا وأنه لا يجوز نفي كونه كلام الله إذ الكلام يضاف حقيقة لمن قاله متصفا به مبتدأ وإن كان قد قاله غيره مبلغا مؤديا وهو كلام لمن اتصف به مبتدأ لا لمن بلغه مرويا فإنا باضطرار نعلم من دين رسول الله ﷺ - ودين سلف الأمة أن قائلا لو قال إن هذه الحروف حروف القرآن ما هي من القرآن وإنما القرآن اسم لمجرد المعاني لأنكروا ذلك عليه غاية الإنكار، وكان عندهم بمنزلة من يقول إن جسد رسول الله ﷺ - ما هو داخل في اسم رسول الله ﷺ وإنما هو اسم للروح دون الجسد، أو يقول إن الصلاة ليست اسما لحركات القلب والبدن وإنما هي اسم لأعمال القلب فقط، ولذلك ذكر الشهرستاني، وهو من أخبر الناس بالملل والنحل والمقالات في نهاية الأقدام، أن القول بحدوث حروف القرآن قول محدث، وأن مذهب سلف الأمة نفي الخلق عنها، وهو من أعيان الطائفة القائلة بحدوثها ولا يحسب اللبيب أن في العقل وفي السمع ما يخالف ذلك، بل من تبحر في المعقولات ووقف على أسرارها علم قطعا أن ليس في العقل الصريح الذي لا يكذب قط ما يخالف مذهب السلف وأهل الحديث، بل يخالف ما قد يتوهمه المنازعون لهم بظلمة قلوبهم وأهواء نفوسهم أو ما قد يفترونه عليهم لعدم التقوى وقلة الدين، ولو فرض على سبيل التقدير أن العقل الصريح الذي لا يكذب يناقض بعض الأخبار للزم أحد الأمرين إما تكذيب الناقل أو تأويل المنقول، لكن ولله الحمد هذا لم يقع ولا ينبغي أن يقع قط فإن حفظ الله تعالى لما أنزله من الكتاب والحكمة يأبى ذلك، نعم يوجد مثل هذا في أحاديث وضعتها الزنادقة ليشينوا بها أهل الحديث كحديث عرق الخيل والجمل الأورق وغير ذلك مما يعلم العلماء بالحديث أنه كذب، ومما يوضح هذا ما قد استفاض عن علماء الإسلام مثل الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه والحميدي وغيرهم من إنكارهم على من زعم أن لفظ القرآن مخلوق، والآثار بذلك مشهورة في كتاب ابن أبي حاتم وكتاب اللالكائي تلميذ أبي حامد الإسفراييني وكتاب الطبراني وكتاب شيخ الإسلام وغيرهم ممن يطول ذكره وليس هذا موضع التقرير بالأدلة والأسئلة والأجوبة وكذلك إن كان مقصود الحالف بذكر الصوت التصديق بالآثار عن النبي ﷺ وصحابته وتابعيهم التي وافقت القرآن وتلقاها السلف بالقبول مثل ما أخرج البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله ﷺ: { يقول الله يا آدم فيقول لبيك وسعديك فينادي بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار }، وما استشهد به البخاري أيضا في هذا الباب من: { أن الله ينادي عباده يوم القيامة بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب } ومثل: { إن الله إذا تكلم بالوحي القرآن أو غيره سمع أهل السموات صوته }، وفي قول ابن عباس سمعوا صوت الجبار وأن الله كلم موسى بصوت إلى غير ذلك من الآثار التي قالها إما ذاكرا وإما آثرا مثل عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وأبي هريرة وعبد الله بن أنس وجابر بن عبد الله ومسروق أحد أعيان كبار التابعين وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أحد الفقهاء السبعة، وعكرمة مولى ابن عباس، والزهري وابن المبارك وأحمد بن حنبل ومن لا يحصى كثرة ولا ينقل عن أحد من علماء الإسلام قبل المائة الثانية أنه أنكر ذلك ولا قال خلافه، بل كانت الآثار مشهورة بينهم متداولة في كل عصر ومصر، بل أنكر ذلك شخص في زمن الإمام أحمد وهو أول الأزمنة التي نبغت فيها البدع بإنكار ذلك على الخصوص، وإلا فقبله قد نبغ من أنكر ذلك وغيره، فهجر أهل الإسلام من أنكر ذلك وصار بين المسلمين كالجمل الأجرب، فإن أراد الحالف ما هو المنقول عن السلف نقلا صحيحا فلا حنث عليه، قلت: وأما حلفه أن الرحمن على العرش استوى، على ما يفيده الظاهر ويفهمه الناس، من ظاهره فلفظة الظاهر قد صارت مشتركة فإن الظاهر في الفطر السليمة واللسان العربي والدين القيم ولسان السلف غير الظاهر في عرف كثير من المتأخرين، فإن أراد الحالف بالظاهر شيئا من المعاني التي هي من خصائص المحدثين، أو ما يقتضي نوع نقص بأن يتوهم أن الاستواء مثل استواء الأجسام على الأجسام، أو كاستواء الأرواح إن كانت عنده لا تدخل في أمم الأجسام فقد حنث في ذلك وكذب، وما أعلم أحدا يقول ذلك إلا ما يروى عن مثل داود الجواربي البصري ومقاتل بن سليمان الخراساني وهشام بن الحكم الرافضي ونحوهم إن صح النقل عنهم، فإنه يجب القطع بأن الله تعالى ليس كمثله شيء لا في نفسه ولا في صفاته ولا في أفعاله وأن مباينته للمخلوقين وتنزهه عن مشاركتهم أكبر وأعظم مما يعرفه العارفون من خليقته ويصفه الواصفون، وأن كل صفة تستلزم حدوثه أو نقصا غير الحدوث فيجب نفيها عنه، ومن حكى عن أحد من أهل السنة، أنه قاس صفاته بصفات خلقه فهو إما كاذب أو مخطئ، وإن أراد الحالف بالظاهر ما هو الظاهر في فطر المسلمين قبل ظهور الأهواء وتشتت الآراء، وهو الظاهر الذي يليق بجلاله سبحانه وتعالى كما أن هذا هو الظاهر في سائر ما يطلق عليه سبحانه من أسمائه وصفاته، كالحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة والمحبة والغضب والرضى، و { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } و { ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا } إلى غير ذلك، فإن ظاهر هذه الألفاظ إذا أطلقت علينا أن تكون أعراضا وأجساما لأن ذواتنا كذلك وليس ظاهرها إذا أطلقت على الله سبحانه وتعالى إلا ما يليق بجلاله ويناسب نفسه، فكما أن لفظ ذات ووجود وحقيقة يطلق على الله وعلى عباده وهو على ظاهره في الإطلاقين مع القطع بأنه ليس ظاهره في حق الله تعالى مساويا لظاهره في حقنا ولا مشاركا له فيما يوجب نقصا وحدوثا سواء جعلت هذه الألفاظ متواطئة أو مشتركة أو مشككة، كذلك قوله: { أنزله بعلمه } و { إن الله هو الرزاق ذو القوة } { لما خلقت بيدي } { الرحمن على العرش استوى } الباب في الجميع واحد، وكان قدماء الجهمية ينكرون جميع الصفات التي هي فينا أعراض كالعلم والقدرة وأجسام كالوجه واليد، وحدثاؤهم أقروا بكثير من الصفات كالعلم والقدرة وأنكروا بعضها والصفات التي هي فينا أجسام هي فينا أعراض، ومنهم من أقر ببعض الصفات التي هي فينا أجسام كاليد وأما السلفية فعلى ما حكاه الخطابي وأبو بكر الخطيب وغيرهما قالوا: مذهب السلف إجراء آيات الصفات وأحاديث الصفات على ظاهرها مع نفي الكيفية والتشبيه عنها فلا نقول إن معنى اليد القدرة ولا إن معنى السمع العلم وذلك أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات يحتذى فيه حذوه ويتبع فيه مثاله فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات كيفية، فقد أخبرك الخطابي والخطيب وهما إمامان من أصحاب الشافعي - رضي الله عنه - متفق على علمهما بالنقل وعلم الخطابي بالمعاني أن مذهب السلف إجراؤها على ظاهرها مع نفي الكيفية والتشبيه عنها، والله تعالى يعلم أني قد بالغت في البحث عن مذاهب السلف فما علمت أحدا منهم خالف ذلك، ومن قال من المتأخرين إن مذهب السلف أن الظاهر غير مراد، فيجب لمن أحسن به الظن أن يعرف أن معنى قوله الظاهر الذي يليق بالمخلوق لا بالخالق ولا شك أن هذا غير مراد، ومن قال إنه مراد فهو بعد قيام الحجة عليه كافر، فهنا بحثان لفظي ومعنوي أما المعنوي فالأقسام ثلاثة في قوله { الرحمن على العرش استوى } ونحوه أن يقال استواء كاستواء مخلوق أو يفسر باستواء يستلزم حدوثا أو نقصا فهذا هو الذي يحكى عن الضلال المشبهة والمجسمة وهو باطل قطعا بالقرآن وبالعقل وإما أن يقال ما ثم استواء حقيقي أصلا ولا على العرش إله ولا فوق السموات رب فهذا هو مذهب الجهمية الضالة المعطلة وهو باطل قطعا بما علم بالاضطرار من دين الإسلام لمن أمعن النظر في العلوم النبوية وبما فطر الله عليه خليقته من الإقرار بأنه فوق خلقه كإقرارهم بأنه ربهم، قال ابن قتيبة: ما زالت الأمم عربها وعجمها في جاهليتها وإسلامها معترفة بأن الله في السماء، أي على السماء أو يقال بل استوى سبحانه على العرش على الوجه الذي يليق بجلاله ويناسب كبرياءه وأنه فوق سمواته وأنه على عرشه بائن من خلقه مع أنه سبحانه هو حامل للعرش ولحملة العرش، وأن الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، كما قالت أم سلمة وربيعة بن أبي عبد الرحمن ومالك بن أنس، فهذا مذهب المسلمين وهو الظاهر من لفظ استوى عند عامة المسلمين الباقين على الفطرة السالمة التي لم تنحرف إلى تعطيل ولا إلى تمثيل، وهذا هو الذي أراده يزيد بن هارون الواسطي المتفق على إمامته وجلالته وفضله، وهو من أتباع التابعين حيث قال: من زعم أن الرحمن على العرش استوى خلاف ما يقر في نفوس العامة فهو جهمي، فإن الذي أقره الله تعالى في فطر عباده وجبلهم عليه أن ربهم فوق سمواته كما أنشد عبد الله بن رواحة رضي الله عنه النبي ﷺ فأقره النبي ﷺ: شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمينا وقد قال عبد الله بن المبارك الذي أجمعت فرق الأمة على إمامته وجلالته حتى قيل إنه أمير المؤمنين في كل شيء، وقيل ما أخرجت خراسان مثل ابن المبارك وقد أخذ عن عامة علماء وقته مثل الثوري ومالك وأبي حنيفة والأوزاعي وطبقتهم حين قيل له بماذا تعرف ربنا، قال: بأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة الملقب إمام الأئمة وهو ممن يفرح أصحاب الشافعي بما ينصره من مذهبه، ويكاد يقال ليس فيهم أعلم بذلك منه، من لم يقل إن الله فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه وجب أن يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه وألقي على مزبلة لئلا يتأذى بنتن ريحه أهل الملة ولا أهل الذمة، وكان ماله فيئا، وقال مالك بن أنس الإمام فيما رواه عنه عبد الله بن نافع وهو مشهور عنه: الله في السماء وعلمه في كل مكان لا يخلو من علمه مكان، وقال الإمام أحمد بن حنبل مثل ما قال مالك وما قال ابن المبارك، والآثار عن النبي ﷺ وأصحابه وسائر علماء الأمة بذلك متوافرة عند من تتبعها، قد جمع العلماء فيها مصنفات صغارا وكبارا، ومن تتبع الآثار علم أيضا قطعا أنه لا يمكن أن ينقل عن أحد منهم حرف واحد يناقض ذلك، بل كلهم مجمعون على كلمة واحدة وعقيدة واحدة يصدق بعضهم بعضا، وإن كان بعضهم أعلم من بعض كما أنهم متفقون على الإقرار بنبوة محمد ﷺ وإن كان فيهم من هو أعلم بخصائص النبوة ومزاياها وحقوقها وموجباتها وحقيقتها وصفاتها ثم ليس أحد منهم قال يوما من الدهر ظاهر هذا غير مراد، ولا قال هذه الآية أو هذا الحديث مصروف عن ظاهره، مع أنهم قد قالوا مثل ذلك في آيات الأحكام المصروفة عن عمومها وظهورها، وتكلموا فيما يستشكل مما قد يتوهم أنه متناقض، وهذا مشهور لمن تأمله وهذه الصفات أطلقوها بسلامة وطهارة وصفاء لم يشربوه بكدر ولا غش، ولو لم يكن هذا هو الظاهر عند المسلمين لكان رسول الله ﷺ - ثم سلف الأمة قالوا للأمة الظاهر الذي تفهمونه غير مراد، أو لكان أحد من المسلمين استشكل هذه الآية وغيرها، فإن كان بعض المتأخرين قد زاغ قلبه حتى صار يظهر له من الآية معنى فاسد مما يقتضي حدوثا أو نقصا، فلا شك أن الظاهر لهذا الواقع غير مراد، وإذا رأينا رجلا يفهم من الآية هذا الظاهر الفاسد قررنا عنده أولا أن هذا المعنى ليس مفهوما من ظاهر الآية، ثم قررنا عنده ثانيا أنه في نفسه معنى فاسد حتى لو فرض أنه ظاهر الآية، وإن كان هذا فرض ما لا حقيقة له لوجب صرف الآية عن ظاهرها كسائر الظواهر التي عارضها ما أوجب أن المراد بها غير الظاهر . الأصل التاسع في كونه تعالى متكلما وفيه أربعة فصول: الفصل الأول في البحث عن محل النزاع أجمع المسلمون على أن الله تعالى متكلم لكن المعتزلة زعموا أن المعنى بكونه متكلما أنه خلق هذه الحروف والأصوات في جسم، ونحن نزعم أن كلام الله تعالى صفة حقيقية مغايرة لهذه الحروف والأصوات، وأن ذاته تعالى موصوفة بتلك الصفة، واعلم أن التحقيق أنه لا نزاع بيننا وبينهم في كونه متكلما بالمعنى الذي ذكروه، لأن النزاع بيننا وبينهم إما في المعنى وإما في اللفظ، أما في المعنى فإما أن يقع في الصحة أو في الوقوع، أما النزاع في الصحة، فذلك غير ممكن لأنا توافقنا جميعا على أنه تعالى يصح منه إيجاد الحروف والأصوات، أما في الوقوع فذلك عندنا غير ممكن، لأنه تعالى موجد لجميع أفعال العباد، ومنها هذه الحروف والأصوات، فكيف يمكننا إنكار كونه موجدا لها على مذهبهم وهم يثبتون ذلك بالسمع، ومعلوم أن الجزم بوقوع الجائزات التي لا تكون محسوسة لا يستفاد إلا من السمع، فإذا كان المعنى بكونه متكلما عندهم أنه خلق هذه الحروف والأصوات ولم يثبتوا له من كونه تعالى خالقا صفة أو حالة وحكما أزيد من كونه خالقا لها، فقد تعين أنه يمكن منازعتهم في ذلك، ثبت أنه لا نزاع بيننا وبينهم من جهة المعنى في كونه متكلما بالتفسير الذي قالوه، وأما النزاع من جهة اللفظ فهو أن يقال لا نسلم أن لفظة المتكلم في اللغة موضوعة لموجد الكلام، والناس قد أطنبوا من الجانبين في هذا المقام وليس ذلك مما يستحق الإطناب لأنه بحث لغوي وينبغي أن يرجع فيه إلى الأدباء وليس هذا من المباحث العقلية في شيء، وأقوى ما تمسك به أصحابنا في هذه المسألة اللفظية أمور أربعة: أولها: إن أهل اللغة متى سمعوا من إنسان كلاما سموه متكلما، مع أنهم لا يعلمون كونه فاعلا لذلك الكلام ولو كان المتكلم هو الفاعل للكلام لما أطلقوا اسم المتكلم عليه إلا بعد العلم بكونه فاعلا، وثانيها: إن الاستقرار لما دل على أن الأسود هو الموصوف بالسواد، وكذلك الأبيض والعالم والقادر وجب أن يكون المتكلم في اللغة هو من قام به الكلام، وثالثها: إن الله تعالى خلق الكلام في السماء والأرض حين قال: { ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين } ثم إنه أضاف ذلك القول إليهما، وأيضا فلو كان ذلك كلام الله تعالى لزم أن يكون الله تعالى متكلما بقوله: { أتينا طائعين } وذلك باطل وخطأ، ورابعها: إنه تعالى خلق الكلام في الذراع التي أكلها النبي ﷺ قالت لا تأكل مني فإني مسمومة، وذلك باطل وأقوى ما تمسك به المعتزلة أن العرب يقولون: تكلم الجني على لسان المصروع فأضافوا الكلام القائم بالمصروع إلى الجني لاعتقادهم كون الجني فاعلا له فلولا اعتقادهم أن المتكلم هو الفاعل للكلام وإلا لما صح ذلك، والجواب عنه يحتمل أن يكون ذلك مجازا وإن كان حقيقة فربما كان مرادهم أن ذلك الكلام هو كلام الجني حال كونه قريبا من لسان المصروع فهذا القدر كاف في البحث اللغوي الخالي عن الفوائد العقلية فهذا هو البحث عن كونه تعالى متكلما على مذهب المعتزلة، فأما على مذهبنا فنحن نثبت لله تعالى كلاما مغايرا لهذه الحروف والأصوات وندعي قدم ذلك الكلام وللمعتزلة فيه ثلاث مقامات: الأول: مطالبتهم إيانا بإفادة تصور ماهية هذا الكلام، الثاني: المطالبة بإقامة الدلالة على اتصافه تعالى بها، الثالث: المطالبة بإقامة الدلالة على كونه قديما فثبت أن الخلاف بيننا وبينهم ليس في كيفية الصفة فقط، بل في وجه تصور ماهيتها أولا ثم في إثبات قدمها وهذا القدر لا بد من معرفته لكل من أراد أن يكون كلامه في هذه المسألة ملخصا، ونحن بعون الله تعالى نذكر دلالة وافية بالأمور الثلاثة ثم قال في الأصل العاشر الذي هو في الكلام على بقية الصفات في القسم الثالث منه، الفصل الثالث: في بيان أن كلام الله واحد المشهور اتفاق الأصحاب على ذلك وقد نقل أبو القاسم الإسفراييني منا عن بعض قدماء أصحابنا أنهم أثبتوا لله خمس كلمات، الأمر والنهي والخبر والاستخبار والنداء، قال واعلم أن هذه المسألة إما أن يتكلم فيها مع القول بنفي الحال أو مع القول بإثباته، فإن كان الأول ضعفت المسألة جدا، لأن وجود كل شيء عين حقيقته فإذا كانت حقيقة الطلب مخالفة لحقيقة الخبر كان وجود الطلب مخالفا لوجود الخبر أيضا إذ لو اتحدا في الوجود مع اختلافهما في الحقيقة كان الوجود غير الحقيقة، وذلك يقتضي إثبات الأحوال لا يقال لا نسلم أن يكون الكلام خبرا وطلبا حقائق مختلفة، بل حقيقة الكلام هو الخبر ألا ترى أن من طلب من غيره فعلا أو تركا فقد أخبر ذلك الغير بأنه لو لم يفعله لعاقبه أو بأنه يجب على العاقل الإحلال ومن استفهم فقد أخبر أنه يطلب منه الإفهام وإذا صار الكلام كله خبرا زال الإشكال، لأنا نقول ليس هذا شيء لأنه حقيقة الطلب مغايرة لحقيقة حكم الذهن بنسبة أمر إلى أمر وتلك المغايرة معلومة بالضرورة ولهذا يتطرق التصديق والتكذيب إلى أحدهما دون الآخر قال وإن تكلمنا على القول بالحال فيجب أن ينظر في أن الحقائق الكثيرة هل يجوز أن تتصف بوجود واحد أم لا، فإن قلنا بجواز ذلك فحينئذ يجوز أن تكون الصفة الواحدة حقائق مختلفة وإلا بطل القول بذلك، وأنا إلى الآن لم يتضح لي فيه دليل لا نفيا ولا إثباتا والذي يقال في امتناعه أنا لو قدرنا شيئا واحدا له يكون له حقيقتان فإذا طرأ عليهما ما يضاد إحدى الحقيقتين لزم أن نقدم تلك الصفة من أحد الوجهين ولا نقدم من الوجه الآخر، قال وهذا ليس بشيء لأنا حكينا عن المعتزلة استدلالهم بمثل هذا الكلام على أن صفات الأجناس لا تقع بالفاعل، ثم زيفنا ذلك من وجوه عديدة وتلك الوجوه بأسرها عائدة هاهنا فهذا هو الكلام على من استدل على امتناع أن يكون الكلام الواحد أمرا ونهيا وخبرا واستخبارا معا، وأما الذي يدل على أن الأمر كذلك فلا يمكن أن نعول فيه على الإجماع من الحكاية التي ذكرها أبو إسحاق الإسفراييني ولم نجد لهم نصا ولا يمكن أن يقال فيه دلالة عقلية فبقيت المسألة بلا دليل وإنما قال لا يمكن التعويل فيها على الإجماع، لأن الذي اعتمد عليه في أن علم الله واحد ما نقله عن القاضي أبي بكر أنه عول فيها على الإجماع، فقال القائل قائلان، قائل يقول: الله عالم بالعلم قادر بالقدرة، وقائل يقول: الله ليس بعالم بالعلم ولا قادرا بالقدرة وكل من قال بالقول الأول قال إنه عالم بعلم واحد قادر بقدرة واحدة فلو قلنا إنه عالم بعلمين أو أكثر كان ذلك قولا ثالثا خارقا للإجماع وهو باطل، وقد ذكر عن أبي سهل الصعلوكي أنه قال إنه عالم بعلوم غير متناهية لكن قال هو مسبوق بهذا الإجماع، قلت وهذا الكلام فيه أمور يتبين بها من الهدى لمن يهديه الله ما ينتفع به، أحدها: إنه لم يعتمد في كون كلام الله قديما على حجة عقلية ولا على كتاب ولا سنة ولا كلام أحد من السلف والأئمة، بل ادعى فيها الإجماع قال لأن الأمة في هذه المسألة على قولين منهم من نفى كون الله موصوفا بالأمر والنهي والخبر بهذا المعنى، ومنهم من أثبت ذلك، وكل من أثبته موصوفا بهذه الصفات زعم أن هذه الصفات قديمة، فلو أثبتنا كونه موصوفا بهذه الصفات ثم حكمنا بحدوث هذه الصفات، كان ذلك قولا ثالثا خارقا للإجماع يقال له ليس كل من أثبت اتصافه وأنه يقوم به معنى الأمر والنهي والخبر يقول بقدمه، بل كثير من هؤلاء لا يقول بقدمه فمن أهل الكلام كالشيعة والكرامية وغيرهم وأما من أهل الحديث والفقهاء فطوائف كثيرة وهذا مشهور في الكتب الحديثية والكلامية وليس له أن يقول هؤلاء يقولون إنه يقوم به حروف ليست قديمة لكن لا يقولون إنه يقوم به معان ليست قديمة لأن أقوالهم المنقولة تنطق بالأمرين جميعا، الوجه الثاني: إن أحدا من السلف والأئمة لم يقل إن القرآن قديم وأنه لا يتعلق بمشيئة وقدرته، ولكن اتفقوا على أن القرآن كلام الله غير مخلوق والمخلوق عندهم ما خلقه الله من الأعيان والصفات القائمة بها، والذين قالوا هو مخلوق قالوا إنه خلقه في جسم كما نقله عنهم فقال السلف: إن ذلك يستلزم أن لا يكون الله متكلما وأن الكلام كلام ذلك الجسم المخلوق، فتكون الشجرة هي القائلة لموسى { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني } ولهذا صرحوا بخطإ من يقول إن ذلك مخلوق لأن عندهم أنه من المعلوم بالفطرة شرعا وعقلا ولغة أن المتكلم بهذا هو الذي يقوم به، وربما قد يقولون إنه لم يكن متكلما حتى خلق الكلام فصار متكلما بعد أن كان عاجزا عن الكلام، فتوهم هؤلاء أن السلف عنوا بقولهم القرآن كلام الله غير مخلوق أنه معنى واحد قديم كتوهم من توهم من المعتزلة والرافضة أنهم عنوا به أنه غير مفتر مكذوب كما ذكره هو في هذه المسألة، فقال الحجة الرابعة لهم من السمعيات ما روى أبو الحسين البصري في الغرر عن النبي ﷺ أنه قال: { ما خلق الله من سماء ولا أرض ولا سهل ولا جبل أعظم من آية الكرسي }، وروى عنه عليه السلام أنه كان يقول في دعائه: { يا رب طه ويس ويا رب القرآن العظيم } قال ولا يقال هذا معارض بمبالغة السلف من الامتناع عن القول بخلق القرآن لأنا نقول بحمل ذلك على الامتناع من إطلاق هذا اللفظ لأن لفظ الخلق قد يستعمل في الافتراء ضرورة التوفيق بين الروايات، قلت: وجواب هذه الحجة سهل فإنه لا خلاف بين أهل العلم بالحديث أن هذين الحديثين كذب على رسول الله ﷺ وأهل الحديث يعلمون أن ذلك مفترى عليه بالضرورة، كما يعلمون ذلك في أشياء كثيرة من الموضوعات عليه، ويكفي أن نقل ذلك عن رسول الله ﷺ لا يوجد في شيء من كتب الحديث ولا في شيء من كتب المسلمين أصلا بإسناد معروف، بل الذي رووه في كتب أهل الحديث بالإسناد المعروف عن ابن عباس أنه أنكر على من قال ذلك فروي من غير وجه عن عمران بن بشهر عن عكرمة قال صليت مع ابن عباس على رجل فلما دفن قام رجل فقال يا رب القرآن اغفر له فوثب إليه ابن عباس فقال مه إن القرآن منه وفي رواية القرآن كلام الله ليس بمربوب منه خرج وإليه يعود فهذا الأثر المأثور عن ابن عباس هو ضد ما رووه، وأما ما رووه فلا يؤثر لا عن النبي ﷺ ولا عن أحد من الصحابة ولا التابعين أصلا وكذلك الحديث الآخر وهو قوله { ما خلق الله من سماء ولا أرض } فإن هذا لا يؤثر عن النبي أصلا ولكن يؤثر عن ابن مسعود نفسه وقد ثبت عن ابن مسعود بنقل العدول أنه قال من حلف بالقرآن فعليه بكل آية يمين ومن كفر بحرف منه فقد كفر به أجمع، وقد اتفق المسلمون على أن الكفارة لا تجب بما يخلقه في الأجسام، فعلم أن القرآن كان عند ابن مسعود صفة لله لا مخلوقا له وأن معنى ذلك الأثر أنه ليس في الموجودات المخلوقة ما هو أفضل من آية الكرسي لأنها هي مخلوقة كما يقال الله أكبر من كل شيء وإن كان ذلك الكبير مخلوقا والله تعالى ليس بمخلوق، وبذلك فسر الأئمة قول ابن مسعود، ذكر الخلال في كتاب السنة عن سفيان بن عيينة أنه ذكر هذا الحديث الذي يروى { ما خلق الله من سماء ولا أرض ولا جبل أعظم من آية الكرسي } قال ابن عيينة هو هكذا { ما خلق الله من شيء إلا وآية الكرسي أعظم مما خلق).

الوجه الثالث والعشرون: أن يقال لا ريب أن النفس الذي هو القلب يوصف بالنطق والقول كما يوصف بذلك اللسان وإن كان القول والنطق عند الإطلاق يتناول مجموع الأمرين ولهذا كان من جعل النطق والقول هو لما في اللسان فقط بمنزلة من جعله لما في القلب فقط ومن جعل اللفظ مشتركا بينهما فقد جمع البعيدين بل أثبت النقيضين فإنه يجعل اللفظ الشامل لهما مانعا من كل منهما فإنه إذا قال أريد به هذا وحده أو هذا وحده مع أن اللفظ أريد به كلاهما كان نافيا لكل منهما في حال إثبات اللفظ له وإنما اللفظ المطلق من القول والنطق والكلام ونحو ذلك يتناولهما جميعا كما أن لفظ الإنسان يتناول الروح والبدن جميعا وإن كان أحدهما قد يسمى بالاسم مفردا ومن لم يسلك هذا المسلك وإلا انهالت عليه الحجج لما نفاه من الحق فإن دلالة الأدلة الشرعية واللغوية والعرفية على شمول الاسم لهما وعلى تسمية أحدهما به أكثر من أن تحصر لكن هذا النطق والكلام الذي هو معنى الخبر القائم بالنفس هل هو شيء مخالف للعلم يمكن أن يكون ضدا له أو هو هو أو هو مستلزم له فدعوى إمكان مضادته للعلم مما يحس الإنسان بنفسه خلافه ودعوى مغايرته للعلم أيضا فإن الإنسان لا يحس من نفسه بنسبتين جازمتين كل منهما بتناول المفردين إحداهما علم والأخرى غير علم ولهذا لم يتنازع في ذلك لا المسلمون ولا من قبلهم من الأمم حتى أهل المنطق الذين يثبتون نطق النفس ويسمونها النفس الناطقة هم عند التحقيق يردون ذلك إلى العلم والتمييز ولهذا لما أراد حاذق الأشعرية المستأخرين أبو الحسن الآمدي أن يحد العلم بعد أن تعقب حدود الناس بالإبطال ورد قول من زعم أنه غني عن الحد أو أنه يعرف بالتقسيم والتمثيل قال هو صفة جازمة قائمة بالنفس يوجب لمن قام به تمييزا ومعلوم أنه إن كان في النفس معنى للخبر غير العلم فهذا الحد منطبق عليه ولهذا لما قسم الأولون والآخرون العلم إلى تصور وتصديق وجعلوا التصور هو العلم بالمفردات الذي هو مجرد تصورها والتصديق العلم بالمركبات الخبرية من النفي والإثبات فسموا العلم بذلك تصديقا وجعلوا نفس العلم هو نفس التصديق ولو كان في النفس تصديق لتلك القضايا الخبرية ليس هو العلم لوجب الفرق بين العلم بها وتصديقها ولا ريب أن هذا العلم والتصديق قد يعتقده الإنسان فيعقله ويضبطه ويلتزم موجبه وقد لا يعتقده ولا يعقله ولا يضبطه ولا يلتزم موجبه فالأول هو المؤمن والثاني هو الكافر، إذا كان ذلك فيما جاءت به الرسل عن الله فليس كل من علم شيئا عقله واعتقده أي ضبطه وأمسكه والتزم موجبه كما أنه ليس كل من اعتقد شيئا كان عالما به فلفظ العقد والاعتقاد شبيه بلفظ العقل والاعتقال ومعنى كل منهما يجامع العلم تارة ويفارقه أخرى فمن هنا قد يتوهم أن في النفس خبرا غير العلم ولفظ العقد والعقل لما كان جاريا على من يمسك العلم فيعيه ويحفظه تارة ويعمل بموجبه كان مشعرا بأنه يوصف بذلك تارة وبضده تارة وهو الخروج عن العلم وعن موجبه وقد يستعمل اللفظ فيمن يمسك بما ليس بعلم، ومن هذين الوجهين امتنع أن يوصف الله بالاعتقاد فإنه سبحانه عالم لا يجوز أن يفارقه علمه ولا يعتقد ما ليس بعلم فوصفه به يدل على جواز وصفه بضد العلم، ولفظ الفقه ولفظ الفهم كلاهما يستلزم علما مسبوقا بعدمه وهذا في حق الله ممتنع .

الوجه السابع والثلاثون: أن يقال المانع من ذلك إما قدمه أو شيء آخر وأنت لم تذكر شيئا آخر والقدم لا دليل لك عليه كما سبق بإيمانه من أنهم لم يقيموا حجة على كونه قديما كالعلم من كل وجه، الوجه الثامن والثلاثون: أنه هب أنه قديم فكونه قديما لا يوجب أن يكون صفة واحدة فإنك تقول إن صفات الرب من العلم والقدرة والسمع والبصر والحياة وغير ذلك قديمة، ولم يكن قدمها موجبا لأن تكون هذه الصفة هي هذه الصفة فمن أين أوجب قدم الأمر أن يكون هو غير النهي، وأن يكون النهي عين الخبر وهلا قلت في أنواع الكلام ما قلته في الصفات كما قاله بعض أصحابك، الوجه التاسع والثلاثون: أن المحققين من أصحابك يعلمون أنه لا دليل على نفي سوى ما علموه من الصفات فإنه لم يقم على النفي دليل شرعي ولا عقلي فالنفي بلا دليل قول بلا علم، وعدم العلم ليس علما بالعدم وعدم الدليل عندنا لا يوجب انتفاء المطلوب الذي يطلب العلم به والدليل عليه، وهذا من أظهر البديهات، وإذا كان كذلك فمن أين لك أن الكلام لا يكون صفات كثيرة ولم أوجبت أن يكون واحدا أو معدودا بعدد معين، فإن ما ذكرت من قدمه لا يمنع تعدده إذ الصفات عندك متعددة وقديمة، والمعلوم أن القديم هو إله واحد، أما أنه ليس له صفة قديمة فهذا باطل بالضرورة لامتناع وجود موجود لا صفة له كما هو مقدر في غير هذا الموضع وهم يسلمون ذلك وإن لم يسلموا بطل قولهم في مسألة الكلام بالكلية، الوجه الأربعون: إن قولك يعقل ذلك بالدليل الموجب لقدمه المانع من كونه متغايرا مختلفا يقال لك الدليل على قدمه لا يوجب كونه معنى واحدا كما تقدم وإذا لم يوجب كونه معنى واحدا لم يوجب أن يكون الأمر هو النهي وهو الخبر وهو الاستخبار وقولك بعد هذا بالدليل المانع من كونه متغايرا مختلفا يقال لك إذا لم تقم الدليل على أن هذا هو هذا بل علم أن هذا ليس هو هذا فيقال فيه ما يقال في السمع والبصر وإن اشتركا في مسمى الإدراك فليس أحدهما هو الآخر ثم هل يقال أحدهما غير الآخر أو يخالف له أو يقال ليس بغير له ولا مخالف له أو لا يقال لا هذا ولا هذا أو يقال هذا باعتبار وهذا باعتبار وهذا باعتبار هذه منازعات لفظية بين الناس وكل قول يختاره فريق والمنازعات في الألفاظ التي لم ترد بها الشريعة لا حاجة بنا إليها بل المقصود المعنى نعم إذا كان اللفظ شرعيا كنا مأمورين بحفظ حده كما قال تعالى: { الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله } وإذا كان الأمر كذلك علم أن قولك بالدليل الموجب لقدمه المانع من كونه متغايرا مختلفا دعوى مجردة لا حقيقة لها، الوجه الحادي والأربعون: إن قولك على خلاف كلام المحدثين يقال لك كونه على خلاف كلام المحدثين لا يسوغ ما يعلم بالعقل امتناعه كاجتماع النقيضين وكون الواحد الذي لا تغاير فيه ولا اختلاف حقائق مختلفة معلوم الفساد ببديهة العقل وكون صفة الله على خلاف صفة المخلوقين لا يسوغ هذا الممتنع .

الوجه الثاني والأربعون: إن قولك على خلاف كلام المحدثين إن عنيت به أن حقيقة كلام الله ليست كحقيقة كلام المخلوقين كما أنه هو كذلك وسائر صفاته كذلك فهذا حق لكن لا يفيدك فإن كونه كذلك لا يوجب أن يثبت ما يعلم بالعقل انتفاؤه فإن ما يعلم بالعقل انتفاؤه لا يثبت شاهدا ولا غائبا وكون الواحد الذي لا تغاير فيه ولا اختلاف هو حقائق مختلفة معلوم الفساد بالعقل فلا يثبت لله ولا لغيره وإن عنيت بقولك على خلاف كلام المحدثين شيئا غير ذلك وهو أن كونه معنى قائما بالنفس أو كونه ليس بحرف ولا صوت هو مخالف في ذلك لكلام المحدثين فليس الأمر عندك كذلك فإن القديم والمحدث يشتركان في هذا الوصف عندك وإن عنيت أنه واحد وكلام المخلوقين ليس بواحد فيقال هذا هو محل النزاع فما الدليل على أنه مخالف لكلام المحدثين من هذا الوجه يقرر ذلك .

الوجه الثالث والأربعون وهو أن الكلام والعلم والقدرة وسائر الصفات يجمع هؤلاء وغيرهم بينها وبين الصفات المخلوقة من وجه ويفرقون بينها من وجه كما يجمع بين الوجود القديم الواجب القائم بنفسه الخالق وبين الوجود الممكن المخلوق من وجه ويفرق بينهما من وجه ولهذا يجمعون بين الشاهد والغائب بالحد والدليل والعلة والشرط فيقولون حد العالم من قام به العلم والحقائق لا تختلف شاهدا ولا غائبا والعلم والقدرة مشروطان بالحياة في الشاهد والغائب والأحكام دليل على العلم في الشاهد والغائب ويقول من يثبت الأحوال منهم العلم موجب لكون العالم عالما وذلك لا يختلف في الشاهد والغائب وإذا كان الأمر كذلك فمخالفة كلامه لكلام المخلوقين من وجه لا يقتضي أن يكون واحدا إن لم يتبين أن تلك المخالفة موجبة لوحدته وأنت لم تذكر ذلك ولا سبيل إليه أكثر مما ذكرت إنك قسته على المتكلم فقلت يجب أن يكون واحدا لأن المتكلم واحد وسنتكلم على ذلك .

الوجه الرابع والأربعون: إنك اعتمدت في كون الكلام معنى واحدا قديما على قياسه على المتكلم فلما قيل لك كيف يعقل كلام واحد يجمع أوصافا مختلفة حتى يكون أمرا ونهيا، خبرا واستخبارا، وعدا ووعيدا قلت يعقل ذلك بالدليل الموجب لقدمه المانع من كونه متغايرا مختلفا على خلاف كلام المحدثين كما يعقل متكلم هو شيء واحد ليس بذي أبعاض ولا أجزاء ولا آلات وإن كان لا يعقل متكلم هو شيء واحد لا ينقسم ولا يتجزأ في المحدثات فقولك كما يعقل متكلم هو شيء واحد وإن كان لا يعقل متكلم هو شيء واحد في المحدثات أي كما يعقل هذا في الموصوف فليعقل في صفته ذلك فيقال لك لا يخلو إما أن يكون الدليل الحق قد دل على هذه الوحدة التي أثبتها للمتكلم أو لم يدل عليها فإن لم يدل عليها كنت قائسا لدعوى على دعوى بلا حجة وكانت المطالبة لك واحدة فصارت اثنتين وإن دل عليها فيقال لك وحدة الموصوف علمت بذلك الدليل الدال عليها فمن أين يجب إذا علم أن الموصوف واحد أن يكون كلامه معنى واحدا، مع أن هذا الموصوف الواحد موصوف عندك وعند عامة المثبتة بصفات متعددة، فلم يلزم من وحدته في نفسه وحدة صفته فلم لزم من وحدته وحدة كلامه بلا حجة، الوجه الخامس والأربعون: إن ما ذكرته في هذا الجواب إما أن تذكره لإثبات كون الكلام معنى واحدا أو لإمكان أن المعنى الواحد يكون حقائق مختلفة قياسا على الموصوف فإن كان لإثبات الأول فليس ذلك بحجة أصلا إذ مجرد كون الموصوف واحدا لا يفيد أن تكون صفته معنى واحدا وهذا معلوم بالضرورة والاتفاق وهو يسلم ذلك وأيضا فإن هذه الحقيقة لا تفيد إمكان ذلك كما سنبينه فإن من لا يفيد ثبوت ذلك ووجوده أولى وأحرى وإن كان ذكره لبيان إمكان ذلك فيقال لك ليس كلما أمكن في الموصوف أمكن في الصفة ولا كلما يمتنع في الصفة يمتنع في الموصوف وهذا معلوم فإن لم يبين أنه يلزم من كون الموصوف واحدا بهذه الوحدة التي أثبتها أن تكون صفته يمكن فيها ما أثبته لم يكن ما ذكرته كلاما مفيدا ولا قولا سديدا .

الوجه السابع والأربعون: أن يقال كون الشيء الواحد ليس بذي أبعاض إما أن يكون معقولا أو لا يكون فإن لم يكن معقولا بطل كلامك وإن كان معقولا لزم أن يعقل صفة ليست بذات أبعاض فإن ما لا يتبعض يقوم به ما لا يتبعض وإما أن يعقل شيء واحد هو بعينه حقائق مختلفة لأنه عقل شيء واحد لا يتبعض فهذا لا يلزم وغاية ما يقوله أن يقول الأمر والنهي والخبر إما أن تكون أقسام الكلام وأبعاضه أو لا تكون فإذا لم تكن أقسامه وأبعاضه صح مذهبنا ونحن غرضنا أن نثبت أنها ليست أقسامه وأبعاضه لأن الموصوف ليس بمتبعض ولا منقسم فيكون صفة ليست متبعضة ولا منقسمة فيقال له لم تقم حجة على أنها ليست أبعاضه وأقسامه وغاية ما ذكرت إنما يفيد إنه إذا كان الموصوف غير متبعض عقل في صفته أنها غير متبعضة ولم يتبين أن هذا يفيد مطلوبك وهو لا يفيده لأنه لم يثبت أنه واحد، وليس تبعض الكلام كتبعض الموصوف كما سنبينه إن شاء الله ثم إن تبعض الصفة إنما يراد به تعددها وهذا ممكن عندك فهذه ثلاثة أوجه نبهنا عليها وهي مبسوطة في سائر الوجوه .