→ المطعن الثالث: مطعن النساء | إظهار الحق المؤلف: رحمة الله الهندي |
الخاتمة ← |
(المطعن الرابع) أن محمدا ﷺ كان مذنباً، وكل مذنب لا يصح أن يكون شافعاً للمذنبين الآخرين. أما الصغرى فلما وقع:
في سورة المؤمن: {فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار}.
وفي سورة محمد: {فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات}.
وفي سورة الفتح: {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر}.
وفي الحديث: (فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت). ونحوه مما وقع في الأحاديث الأخرى.
(والجواب) أن الصغرى والكبرى كلتاهما غير صحيحتين، فالنتيجة كاذبة يقيناً، وأنا أمهد لتوضيح بطلانهما أموراً خمسة:
(الأمر الأول) أن الله رب وخالق، والخلق كله مربوب ومخلوق، فكل ما صدر عن حضرة الرب الخالق في حق العبد المربوب المخلوق، من الخطاب والعتاب والاستعلاء فهو في محله ومقتضى المالكية والخالقية. وكذا كل ما يصدر عن العباد، من الأدعية والتضرعات إليه، فهو في موقعه أيضاً، ومقتضى المخلوقية والعبودية والأنبياء عباد الله المخلصون، فهم أحق من غيرهم، والحمل على المعنى الحقيقي في كل موضع، من أمثال هذه المواضع، في كلام الله وفي أدعية الأنبياء وتضرعاتهم خطأ وضلال وشواهده كثيرة في كتب العهدين، سيما الزبور. وأنا أنقل على سبيل الأنموذج بعضاً منها:
[1] في الباب العاشر من إنجيل مرقس، والثامن عشر من إنجيل لوقا هكذا: 17 (وفيما هو خارج إلى الطريق، ركض واحد وجثا له وسأله أيها المعلم الصالح ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية) 18 (فقال له يسوع لماذا تدعوني صالحاً ليس أحد صالحاً إلا واحد وهو الله) انتهى بعبارة مرقس. فأقر عيسى عليه السلام بأني لست صالحاً ولا صالح إلا الله وحده.
[2] في الزبور الثاني والعشرين هكذا: 1 (إلهي إلهي انظر لماذا تركتني تباعد عني خلاصي بكلام جهلي) 2 (إلهي بالنهار أدعوك فلم تستجب لي وبالليل فلم تحفل بي). ولما كان آيات هذا الزبور راجعة إلى عيسى عليه السلام، على زعم أهل التثليث، فكان القائل بها عندهم هو عيسى عليه السلام.
[3] الآية السادسة والأربعون من الباب السابع والعشرين من إنجيل متى هكذا: (ونحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلاً إيلي إيلي لما شبقتني أي إلهي إلهي لماذا تركتني).
[4] في الباب الأول من إنجيل مرقس هكذا: 4 (كان يوحنا يعمد في البرية ويكرز بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا) 5 (وخرج إليه جميع كورة اليهودية وأهل أورشليم واعتمدوا جميعهم منه في نهر الأردن معترفين بخطاياهم) 9 (وفي تلك الأيام جاء يسوع من ناصرة الجليل واعتمد من يوحنا في الأردن).
وكانت هذه المعمودية، معمودية التوبة، بمغفرة الخطايا. كما صرح مرقس في الآية الرابعة والخامسة والآية الثالثة من الباب الثالث من إنجيل لوقا هكذا: (فجاء إلى جميع الكورة المحيطة بالأردن يكرز بمعمودة التوبة لمغفرة الخطايا). وفي الآية الحادية عشر من الباب الثالث من إنجيل متى هكذا: (أنا أعمدكم بماء للتوبة) الخ. وفي الآية الرابعة والعشرين من الباب الثالث عشر من كتاب الأعمال هكذا: (إذ سبق يوحنا فكرز قبل مجيئه بمعمودية التوبة لجميع شعب إسرائيل). والآية الرابعة من الباب التاسع عشر من كتاب الأعمال هكذا: (فقال بولس أن يوحنا عمد بمعمودية التوبة) الخ.
فهذه الآيات كلها، تدل على أن هذه المعمودية، كانت معمودية التوبة لمغفرة الخطايا، فمتى سلم اعتماد عيسى من يحيى عليهما السلام، لزم تسليم اعترافه بالخطايا والتوبة منهما أيضاً، لأن حقيقة هذا الاعتماد ليست غير ذلك.
وفي الباب السادس من إنجيل متى في الصلاة التي علمها عيسى عليه السلام تلاميذه هكذا: (اغفر لنا ذنوبنا كما نحن نغفر أيضاً للمذنبين إلينا ولا تدخلنا في تجربة لكن نجنا من الشرير).
والظاهر أن عيسى عليه السلام، كان يصلي تلك الصلاة التي علمها تلاميذه، ولم يثبت من موضع من مواضع الإنجيل أنه ما كان يصلي هذه الصلاة. وستعرف في الأمر الثاني أنه كان كثير الصلاة، فلزم أن يكون دعاؤه باغفر لنا ذنوبنا مرات كثيرة بلغت الآلاف.
والعصمة من الذنوب، وإن لم تكن من شروط النبوة عند أهل التثليث، لكنهم يدعونها في حق عيسى عليه السلام، باعتبار الناسوت أيضاً. وكان عيسى عليه السلام بهذا الاعتبار أيضاً عندهم، صالحاً ومقبولاً للّه لا متروكاً فهذه الجمل:
[1] لماذا يدعوني صالحاً الخ. [2] إلهي إلهي لماذا تركتني. [3] تباعد عني خلاصي بكلام جهلي. [4] بالنهار أدعوك فلم تستجب لي. [5] ألفاظ التوبة والاعتراف بالخطايا عند الاعتماد. [6] اغفر لنا ذنوبنا. لا تكون محمولة على المعاني الحقيقية الظاهرية عند أهل التثليث، وإلا يلزم أنه لم يكن صالحاً، وكان متروكاً للّه بعيداً عن الخلاص، بسبب كلام الجهل. غير مستجاب الدعاء، خاطئاً مذنباً. فلا بد أن يقال أن هذه التضرعات بمقتضى المخلوقية والمربوبية باعتبار الناسوت.
وفي الزبور الثالث والخمسين هكذا: 3 (الرب من السماء اطلع على بني البشر لينظر هل من يفهم أو يطلب الله) 4 (كلهم قد زاغوا جميعاً والتطخوا وليس من يعمل صلاحاً حتى ولا أحد).
وفي الباب التاسع والخمسين من كتاب أشعيا هكذا: 9 (فلذلك تباعد الحكم عنا ولا يدركنا العدل انتظرنا النور فيها الظلام انتظرنا الشعاع فها سرنا في الظلمة) 12 (من أجل أن آثامنا تكاثرت قدامك وخطايانا أجابتنا لأن فجورنا معنا وآثامنا عرفناها) 13 (أن نخطئ ونكذب على الرب واندبرنا إلى خلف حتى أن لا نسلك وراء إلهنا لنتكلم بالظلم والتعدي حبلنا وتكلمنا من القلب بكلام كاذب).
وفي الباب الرابع والستين من كتاب أشعيا هكذا: 6 (وصرنا جميعنا كالنجس وكخرقة الحائض كل براتنا وسقطنا مثل الورق نحن جميعاً وآثامنا كالريح ذرونا) 7 (ليس من يدعو باسمك ومن يقوم ويمسكك أخفيت وجهك عنا واطرحتنا بيد إثمنا).. ولا شك أن كثيراً من الصلحاء كانوا موجودين في زمان داود عليه السلام، مثل ناثان النبي وغيره، ولو فرضنا أنهم لم يكونوا معصومين على زعم أهل التثليث، فلا ريب أنهم لم يكونوا مصداق الآية الرابعة من الزبور المذكور أيضاً، ووقعت في عبارتي أشعيا عليه السلام، صيغ التكلم مع الغير، وأشعيا وغيره من أنبياء عهده وصلحاء زمانه، وإن لم يكونوا معصومين لكنهم لم يكونوا مصاديق الأوصاف المصرحة، في العبارتين قطعاً أيضاً، فلا تكون عبارة الزبور وهاتان العبارتان محمولات على معانيها الحقيقية الظاهرية، بل لا بد فيها من الرجوع إلى أن تلك التضرعات بمقتضى العبودية. وكذا وقع في الباب التاسع من كتاب دانيال، والباب الثالث والخامس من مراثي أرمياء، والباب الرابع من الرسالة الأولى لبطرس.
(الأمر الثاني) أن أفعال الأنبياء كثيراً ما تكون لتعليم الأمة، لتستن بهم. ولا يكونون محتاجين إلى هذه الأفعال لأجل أنفسهم.
في الباب الرابع من إنجيل متى، أن عيسى عليه السلام صام أربعين نهاراً، أو أربعين ليلة. والآية الخامسة والثلاثون من الباب الأول من إنجيل مرقص هكذا: (وفي الصبح باكراً جداً قام وخرج ومضى إلى موضع خلاء وكان يصلي هناك). والآية السادسة عشر من الباب الخامس من إنجيل لوقا هكذا: (وفي تلك الأيام خرج إلى الجبل ليصلي وقضى الليل كله في الصلاة للّه).
ولما كان اتحاد المسيح بذات الله على زعم أهل التثليث، فلا حاجة له إلى هذه التكاليف الشديدة، فلا بد أن تكون هذه الأفعال لأجل التعليم.
(الأمر الثالث) أن الألفاظ المستعملة في الكتب الشرعية، مثل الصلاة والزكاة والصوم والحج والنكاح والطلاق وغيرها، يجب أن تحمل على معانيها الشرعية ما لم يمنع عنها مانع، ولفظ الذنب في هذا الاصطلاح الشرعي، إذا استعمل في حق ألأنبياء، يكون بمعنى الزلة. وهي عبارة عن أن يقصد معصوم عبادة أو أمراً مباحاً، ويقع بلا قصد وشعور في ذنب لمجاورة العبادة أو الأمر المباح بهذا الذنب، كما أن السالك يكون قصده قطع الطريق، لكنه قد يزل قدمه أو يعثر بسبب طين أو حجر واقع في ذلك الطريق، أو يكون بمعنى ترك الأولى.
(الأمر الرابع) أن وقوع المجاز في كلام الله وكلام الأنبياء كثير، كما عرفت بما لا مزيد عليه، في مقدمة الباب الرابع. وقد عرفت أيضاً في جواب الشبهة الرابعة من الفصل الرابع من الباب الخامس، أن حذف المضاف كثير في كتبهم المقدسة.
(الأمر الخامس) أن الدعاء قد يكون المقصود به محض التعبد كما في قوله تعالى: {ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك} فإن إيتاء ذلك الشيء واجب، ومع ذلك أمرنا بطلبه. كقوله تعالى: {رب احكم بالحق) مع أنا نعلم أنه لا يحكم إلا بالحق.
وإذا عرفت الأمور الخمسة، أقول أن الاستغفار طلب الغفران، والغفران الستر على القبيح، وهذا الستر يتصور على وجهين:
الأول: بالعصمة منه لأن من عصم فقد ستر عليه قبائح الهوى.
والثاني: بالستر بعد الوجود.
فالغفران في الآيتين الأوليين بالوجه الأول، في حق النبي ﷺ. وفي الثانية بالوجه الثاني في حق المؤمنين والمؤمنات.
قال الإمام الهمام الفخر الرازي قدس سره في ذيل تفسير الآية الثانية هكذا:
(وفي هذه الآية لطيفة، وهي أن النبي ﷺ له أحوال ثلاثة: حال مع الله، وحال مع نفسه، وحال مع غيره، فأما مع الله فوحده، وأما مع نفسه فاستغفر لذنبك واطلب العصمة من الله، وأما مع المؤمنين فاستغفر لهم، واطلب الغفران لهم من الله) انتهى كلامه بلفظه.
أو أن المقصود من الأمر بالاستغفار في الآيتين محض التعبد كما في قوله تعالى: {ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك} وكقوله: {رب احكم بالحق} كما عرفت في الأمر الخامس.
أو أن المقصود من هذا الأمر أن يكون الاستغفار مسنوناً في أمته، فاستغفاره ﷺ كان لتعليم الأمة.. في الجلالين ذيل تفسير الآية الثانية هكذا: (قيل له ذلك مع عصمته ليستن به أمته) انتهى.
أو أن المضاف في الآيتين محذوف. والتقدير في الآية الأولى: (فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنب أمتك) الآية. وفي الثانية: (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنب أهل بيتك ولذنب المؤمنين والمؤمنات الذين ليسوا من أهل بيتك، فلا بعد في ذكر المؤمنين والمؤمنات). وقد عرفت في الأمر الرابع، أن حذف المضاف كثير شائع في كتبهم، أو أن المراد بالذنب في الآيتين الزلة أو ترك الأفضل. وسمعت من الأحباء، أن بعض من بلغ سن الخرافة من علماء بروتستنت، اعترض على هذا التوجيه في بعض تأليفه الجديد وقال: فرضنا أنه ما ظهر من محمد ﷺ ذنب من الذنوب غير ترك الأولى، فترك الأولى أيضاً ذنب على ما يحكم به كلام الله أعني التوراة والإنجيل فيكون محمد ﷺ مذنباً.
قال يعقوب في الآية السابعة عشر من الباب الرابع من رسالته هكذا: (فمن يعرف أن يعمل حسناً ولا يعمل فذلك خطيئة له) انتهى.
أقول: هذا منشؤه خرافة السن، لأنه لا شك أن ترك شرب الخمر حسن، حتى مدح الله يحيى عليه السلام على هذا، وقال الأنبياء في حقها ما قالوا، وكذا لا شك أن عدم الإذن لفاحشة مباحة بغي في غسل الرجلين ومسحهما بشعر رأسها بمحضر ملأ من الناس حسن. وكذا ترك المخالفة الشديدة بالنساء الأجنبيات الشواب، والجولان معهن في القرى الشرقية حسن، سيما إذا كان الرجل المخالط شاباً عزباً. وما فعل هذه الأمور الحسنة عيسى عليه السلام، حتى أن المخالفين طعنوا عليه كما عرفت في جواب المطعن الثالث، فيلزم على رأيه أن يكون إلهه أيضاً مذنباً. على أن هذا المعترض زاد لفظ التوراة لأجل تغليط العوام، ولا يوجد هذا الحكم في التوراة، وهو ما أورد سنداً لهذا، إلا من رسالة يعقوب التي ليست إلهامية، على تحقيق العلماء الأعلام من فرقة بروستنت، سيما على تحقيق إمامه ومقتداه لوطر، كما عرفت في الفصل الرابع من الباب الأول. فكلام يعقوب على هؤلاء العلماء ليس بحجة فاعتراضه واه بلا شبهة.
وأما الآية الثالثة فالمضاف محذوف، أو المراد بالذنب ترك الأفضل، أو المراد بالغفران العصمة.
وقال الإمام السبكي وابن عطية: إن المقصود من هذه الآية، ليس إثبات صدور ذنب وغفرانه، بل المقصود منها تعظيم رسول الله ﷺ وإكرامه فقط. لأن الله أظهر تعظيمه وإحسانه في أول هذه السورة، فبشر أولاً بالفتح المبين، ثم جعل غاية هذا الفتح الغفران وإتمام النعمة وهداية الصراط المستقيم وإعطاء النصر العزيز. فلو فرض صدور ذنب ما يكون مخلاً لبلاغة الكلام، فمقتضاها التكريم والتعظيم. كما أن السيد إذا رضي عن خادمه يقول تارة لإكرامه وإظهار رضاه: عفوت عنك خطيئاتك المتقدمة والمتأخرة، ولا أؤاخذك عليها وإن لم يصدر عن هذا الخادم خطيئات.
وأما الدعاء المذكور في الحديث، فتوجيهه أن رسول الله ﷺ، لما كان أرفع الخلق عند الله درجة وأتمهم به معرفة، وكان حاله عند خلوص قلبه عن ملاحظة غير ربه، إقباله بكليته عليه أرفع حاليه، بالنسبة إلى غير ذلك كان يرى شغله بما سواه، وإن كان ضرورياً نقصاً وانحطاطاً من رفيع كماله، فكان يستغفر الله من ذلك طلباً للمقام الأعلى، فكان هذا الشغل الضروري أيضاً عنده، بمنزلة الذنب الذي لا بد أن يستغفر عنه بالنسبة إلى أعلى حاله، أو كان صدور مثل هذا الدعاء بمقتضى العبودية. كما أن عيسى عليه السلام أيضاً بمقتضى العبودية، نفى الصلاح عن نفسه، واعترف بالخطايا عند الاعتماد، ودعا مراراً باغفر لنا ذنوبنا، وتفوه بهذه الجمل: 1 (إلهي إلهي لماذا تركتني) 2 (وتباعد عني خلاصي بكلام جهلي) 3 (إلهي بالنهار أدعوك فلم تستجب لي) أو كان هذا الدعاء لأجل التعبد المحض كما عرفت في الأمر الخامس 4 أو كان لأجل تعليم الأمة 5 وأن الذنب المذكور فيها بمعنى الزلة، وترك الأولى، كما عرفت في الأمر الثالث، وعلى كل تقدير لا يرد شيء، وهذه التوجيهات الخمسة تجري كلها أو بعضها في الأحاديث، التي تكون مثل الحديث المذكور. وإذا لم يثبت من الآيات والأحاديث المذكورة التي استدل بها المعترض، كون محمد ﷺ مذنباً، ثبت كذب الصغرى.
وأما كذب الكبرى، فلأن كليتها ممنوعة، لأنها إما أن يثبتها المعترض بعندية أهل التثليث، أو بالبرهان النقلي.
فإذا كان الأول فعنديتهم هذه لا تتم علينا، كما لا تتم أكثر عندياتهم على ما عرفت في الفصل الثاني من الباب الخامس.
وإن كان الثاني فعليهم بيان ذلك البرهان، وعلينا النظر في مقدماته، وأنى لهم ذلك ولا استبعاد في أن يغفر الله ذنوب واحد بلا واسطة، ثم يقبل شفاعته في حق الآخرين، على أن قبح الذنب عقلاً ما لم يغفر، فإذا غفر لا يبقى قبحه لوجه ما، وقد يوجد التصريح في الآية الثالثة التي نقلوها بزعمهم الفاسد، لإثبات الذنب بأن قال: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر}. فإن صارت ذنوب محمد ﷺ متقدمة كانت أو متأخرة مغفورة، في هذه الدار الدنيا، فما بقي شيء مانع في أن يكون شفيعاً للآخرين في الدار الأخرى.
وإن كان الثالث فغلط يقيناً، ألا ترى أن بني إسرائيل لما عبدوا العجل، أراد الله أن يهلك الكل، فشفع موسى عليه السلام لهم، فقبل الله شفاعته، وما أهلك. كما هو مصرح به في الباب الثاني والثلاثين من سفر الخروج، ثم قال الرب لموسى: اذهب أنت وبنو إسرائيل إلى أرض كنعان وأنا لا أذهب معكم، فشفع موسى فقبل الله شفاعته، وقال: أنا أذهب معك. كما هو مصرح به في الباب الثالث والثلاثين من سفر الخروج. ثم لما عصوا أراد الله مرة أخرى أن يهلكهم، فشفع موسى وهارون عليهما السلام فقبل الله شفاعتهما. ثم لما عصوا مرة أخرى أرسل الله عليهم حيات تلدغهم، فجاؤوا إلى موسى مستشفعين، فشفع لهم فقبل الله شفاعته، كما هو مصرح به في الباب السادس عشر والباب الحادي والعشرين من سفر العدل. فلا استحالة عقلاً ولا نقلاً في كون محمد ﷺ شفيع المذنبين، اللهم ابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، وارزقنا شفاعته يوم القيامة. وليكن هذا آخر الباب.