الرئيسيةبحث

إحياء علوم الدين/كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر/الباب الثاني



الباب الثاني
في أركان الأمر بالمعروف وشروطه


اعلم أن الأركان في الحسبة التي هي عبارة شاملة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أربعة: المحتسب، والمحتسب عليه، والمحتسب فيه، ونفس الاحتساب. فهذه أربعة أركان ولكل واحد منها شروط.

الركن الأول

المحتسب

وله شروط، وهو أن يكون مكلفاً مسلماً قادراً فيخرج منه المجنون والصبي والكافر والعاجز، ويدخل فيه آحاد الرعايا وإن لم يكونا مأذونين، ويدخل فيه الفاسق والرقيق والمرأة. فلنذكر وجه اشتراط ما اشترطناه ووجه إطراح ما أطرحناه.

أما الشرط الأول: وهو التكليف: فلا يخفى وجه اشترط فإن غير المكلف لا يلزمه أمر، وما ذكرناه أردنا به شرط الوجوب، فأما إمكان الفعل وجوازه فلا يستدعي إلا العقل، حتى إن الصبي المراهق للبلوغ المميز وإن لم يكن مكلفاً فله إنكار المنكر وله أن يريق الخمر ويكسر الملاهي؛ وإذا فعل ذلك نال به ثواباً ولم يكن لأحد منعه من حيث إنه ليس بمكلف. فإن هذه قربة وهو من أهلها كالصلاة والإمامة وسائر القربات وليس حكمه حكم الولايات حتى يشترط فيه التكليف؛ ولذلك اثبتناه للبعد وآحاد الرعية. نعم في المنع بالفعل وإيطال المنكر نوع ولاية وسلطنة ولكنها تستفاد بمجرد الإيمان كقتل المشرك وإبطال أسبابه وسلب أسلحته. فإن للصبي أن يفعل ذلك حيث لا يستضر به فالمنع من الفسق كالمنع من الكفر.

وأما الشرط الثاني، وهو الإيمان: فلا يخفى وجه اشتراطه لأن هذا نصرة للدين فكيف يكون من أهله من هو جاحد لأصل الدين وعدوله? وأما الشرط الثالث؛ وهو العدالة: فقد اعتبرها قوم وقالوا ليس للفاسق أن يحتسب، وربما استدلوا فيه بالنكير الوارد على من يأمر بما لا يفعله مثل قوله تعالى: "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم" وقوله تعالى "كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلوا" وبما روى عن رسول الله ﷺ: عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإلا فاستحي مني، وربما استدلوا من طريق القياس بأن هداية الغير فرع للاهتداء، وكذلك تقويم الغير فرع للاستقامة، والإصلاح، زكاة عن نصاب الصلاح، فمن ليس بصالح في نفسه فكيف يصلح غيره? ومتى يستقيم الظل والعود أعود? وكل ما ذكروه خيالات وإنما الحق أن للفاسق أن يحتسب وبرهانه هو أن نقول: هل يشترط في الاحتساب أن يكون متعاطياً معصوماً عن المعاصي كلها? فإن شرط ذلك فهو خرق للإجماع ثم حسم لباب الاحتساب إذ لا عصمة للصحابة فضلاً عمن دونهم، والأنبياء عليهم السلام قد اختلف في عصمتهم عن الخطايا. والقرآن العزيز دال على نسبة آدم عليه السلام إلى المعصية وكذا جماعة من الأنبياء. ولهذا قال سعيد بن جبير: إن لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر إلا من لا يكون فيه شيء؛ لم يأمر أحد بشيء، فأعجب مالكاً ذلك من سعيد بن جبير. وإن زعموا أ، ذلك لا يشترط عن الصغائر حتى يجوز للابس الحرير أن يمنع من الزنا وشرب الخمر فتقول: وهل لشارب الخمر أن يغزو الكفار ويحتسب عليهم بالمنع من الكفر؛ فإن قالوا: لا، خرقوا الإجماع إذ جنود المسلمين لم تزل مشتملة على البر والفاجر وشارب الخمر وظالم الأيتام ولم يمنعوا من الغزو لا في عصر رسول الله ﷺ ولا بعده. فإن قالوا: نعم، فنقول: شارب الخمر هل له المنع من القتل أم لا? فإن قالوا: لا، قلنا. فما الفرق بينه وبين لابس الحرير? إذ جاز له المنع من الخمر، والقتل كبيرة بالنسبة إلى الشرب كالشرب بالنسبة إلى لبس الحرير؛ فلا فرق. وإن قالوا: نعم، وفصلوا الأمر فيه بأن كل مقدم على شيء فلا يمنع عن مثله ولا عما دونه وإنما يمنع عما فوقه فهذا تحكم فإنه كما لا يبعد أن يمنع الشارب من الزنا والقتل فمن أين يبعد أن يمنع الزاني من الشرب? بل من أين يبعد أن يشرب ويمنع غلمانه وخدمه من الشرب? ويقول يجب على الانتهاء والنهي فمن أين يلزمني من العصيان بأحدهما أن أعصي الله تعالى بالثاني? وإذا كان النهير واجباً علي فمن أين يسقط وجوبه بإقدامي? إذ يستحيل أن يقال يجب النهي عن شرب الخمر عليه ما لم يشرب فإذا شرب فإذا شرب سقط النهي.

فإن قيل: فيلزم على هذا أ، يقول القائل الواجب على الوضوء والصلاة فأنا أتوضأ وإن لم أصل وأتسحر وإن لم أصم لأن المستحب لي السحور والصوم جميعاً ولكن يقال: أحدهما مرتب على الآخر، فكذلك تقويم الغير مرتب على تقويمه نفسه فليبدأ بنفسه ثم بمن يعول. والجواب أن التسحر يراد للصوم ولولا الصوم لما كان التسحر مستحباً، وما يراد لغيره لا ينفك عن ذلك الغير، وإصلاح الغير لا يراد لإصلاح النفس، ولا إصلاح النفس لإصلاح الغير فالقول بترتب أحدهما على الآخر تحكم.

وأما الوضوء والصلاة فهو لازم فلا جرم أن من توضأ ولم يصل كان مؤدياً أمر الوضوء وكان عقابه أقل من عقاب من ترك الصلاة والوضوء جميعاً فليكن من ترك النهي والانتهاء أكثر عقاباً ممن نهى ولم ينته، كيف والوضوء شرط لا يراد لنفسه? بل للصلاة فلا حكم له دون الصلاة.

وأما الحسبة فليست شرطان في الانتهاء والائتمار فلا مشابهة بينهما.

فإن قيل: فيلزم على هذا أن يقال إذا زنى الرجل بامرأة وهي مكرهة مستورة الوجه فكشفت وجهها باختيارها فأخذ الرجل يحتسب في أثناء الزنا ويقول: أنت مكرهة في الزنا ومخارة في كشف الوجه لغير محرم، وها أنا غير محرم لك فاسترى وجهك، فهذا احتساب شنيع يستنكره قلب كل عاقل ويستشنعه كل طبع سليم? فالجواب أن الحق قد يكون شنيعاً وأن الباطل قد يكون مستحسناً بالطباع والمتبع الدليل دون نفرة الأوهام والخيالات فإنا نقول: قوله لها في تلك الحالة، لا تكشفي وجهك، واجب أو مباح أو حرام? فإن قلتم: إنه واجب فهو الغرض لأن الكشف معصية والنهي عن المعصية حق. وإن قلتم: إنه مباح، فإذن له أن يقول ما هو مباح? فما معنى قولكم ليس للفاسق الحسبة? وإن قلتم: إنه حرام، فنقول، وكان هذا واجباً فمن أين حرم بإقدامه على الزنا? ومن الغريب أن يصير الواجب حرماً بسبب ارتكاب حرام آخر.

وأما نفرة الطباع عنه واستنكارها له فهو لسببين: أحدهما: أنه ترك الأهم واشتغل بما هو مهم. وكما أن الطباع تنفر عن ترك المهم إلى ما لا يعني فتتنفر عن ترك الأهم والاشتغال بالمهم كما تنفر عمن يتحرج عن تناول طعام مغصوب وهو مواظب على الربا، وكما تنفر عمن يتصاون عن الغيبة ويشهد بالزور، لأن الشهادة بالزور أفحش وأشد من الغيبة التي هي إخبار عن كائن يصدق فيه المخبر، وهذا الاستبعاد في النفوس لا يدل على أن ترك الغيبة ليس بواجب، وأنه لو اغتاب أو أكل لقمة من حرام لم تزد بذلك عقوبته، فكذلك ضرره في الآخرة من معصيته أكثر من ضرره من معصية غيره، فاشتغاله عن الأقل بالأكثر مستنكر في الطبع، من حيث إنه ترك الأكثر لا من حيث إنه أتى بالأقل، فمن غصب فرسه ولجام فرسه فاشتغل بطلب اللجام وترك الفرس نفرت عنه الطباع ويرى مسيئاً، إذ قد صدر منه طلب اللجام وهو غير منكر، ولكن المنكر تركه لطلب الفرس بطلب اللجام فاشتد الإنكار عليه لتركه الأهم بما دونه، فكذلك حسبة الفاسق تستبعد من هذا الوجه وهذا لا يدل على أن حسبته من حيث إنها حسبة مستنكرة.

الثاني: أن الحسبة تارة تكون بالنهي بالوعظ وتارة بالقهر، ولا ينجع وعظ من لا يتعظ أولاً ونحن نقول: من علم أن قوله لا يقبل في الحسبة لعلم الناس بفسقه فليس عليه الحسبة بالوعظ؛ إذ لا فائدة في وعظه فالفسق يؤثر في إسقاط فائدة كلامه، ثم إذا سقطت فائدة كلامه سقط وجوب الكلام، فأما إذا كانت الحسبة بالمنع فالمراد منه القهر وتمام القهر أن يكون بالفعل والحجة جميعاً، وإذا كان فاسقاً فإن قهر بالفعل فقد قهر بالحجة إذ يتوجه عليه أن يقال له: فأنت لمن تقدم عليه? فتنفر الطباع عن قهره بالفعل مع كونه مقهوراً بالحجة وذلك لا يخرج الفعل عن كونه حقاً كما أ، يذب الظالم عن آحاد المسلمين ويهمل أباه وهو مظلوم معهم تنفر الطباع عنه ولا يخرج دفعه عن المسلم عن كونه حقاً. فخرج من هذا أن الفاسق ليس عليه الحسبة بالوعظ على من يعرف فسقه لأنه لا يتعظ؛ وإذا لم يكن عليه ذلك، وعلم أنه يفضى إلى تطويل اللسان في عرضه بالإنكار فنقول: ليس له ذلك أيضاً. فرجع الكلام إلى أن أحد نوعي الاحتساب وهو الوعظ قد بطل بالفسق وصارت العدالة مشروطة فيه: وأما الحسبة القهرية فلا يشترط فيها ذلك فلا حرج على الفاسق في إراقة الخمور وكسر الملاهي وغيرها إذا قدر، وهذا غاية الإنصاف والكشف في المسألة وأما الآيات التي استدلوا بها فهو إنكار عليهم من حيث تركهم المعروف لا من حيث أمرهم. ولكن أمرهم دل على قوة علمهم وعقاب العالم أشد لأنه لا عذر له مع قوة علمه وقوله تعالى "لم تقولون ما لا تفعلون" المراد به الوعد الكاذب وقوله عز وجل: "وتنسون أنفسكم" إنكار من حيث إنهم نسوا أنفسهم لا من حيث إنهم أمروا غيرهم ولكن ذكر أمر الغير استدلالاً به على علمهم وتأكيداً للحجة عليهم. وقوله: "يا ابن مريم عظ نفسك.... الحديث" هو في الحسبة بالوعظ. وقد سلمنا أن وعظ الفاسق ساقط الجدوى عند من يعرف فسقه. ثم قوله "فاستحى مني" لا يدل على تحريم وعظ الغير بل معناه استحى مني فلا تترك الأهم وتشتغل بالمهم كما يقال احفظ أباك ثم جارك وإلا فاستحي.

فإن قيل. فليجز للكافر الذمي أن يحتسب على المسلم إذا رآه يزني لأن قوله لا تزن حق في نفسه فمحال أن يكون حراماً عليه، بل ينبغي أن يكون مباحاً أو واجباً. قلنا: الكافر إن منع المسلم بفعله فهو تسلط عليه من حيث إنه نهى عن الزنا ولكن من حيث إنه إظهار دالة الاحتكام على المسلم، وفيه إذلال للمحتكم عليه، والفاسق يستحق الإذلال ولكن لا من الكافر الذي هو أولى بالذل منه. فهذا وجه منعنا إياه من الحسبة وإلا فلسنا نقول إن الكافر يعاقب بسبب قوله: لا تزن، من حيث إنه نهى بل نقول إنه إذا لم يقل لا تزن يعاقب عليه إن رأينا خطاب الكافر بفروع الدين وفيه نظر استوفيناه في الفقهيات ولا يليق بغرضنا الآن.

الشرط الرابع: كونه مأذوناً من جهة الغمام والوالي، فقد شرط قوم هذا الشرط ولم يثبتوا للآحاد من الرعية عصى إذ يجب نهيه أينما رآه وكيفما رآه على العموم، فالتخصيص بشرط التفويض من الإمام تحكم لا أصل له. والعجب أن الروافض زادوا على هذا فقالوا: لا يجوز الأمر بالمعروف ما لم يخرج الإمام المعصوم وهو الإمام الحق عندهم، وهؤلاء أخس رتبة من أن يكلموا بل جوابهم أن يقال لهم: إذا جاءوا إلى القضاء طالبين لحقوقهم في دمائهم وأموالهم، إن نصرتكم أمر بالمعروف وما هذا زمان النهي عن الظلم وطلب الحقوق لأن الإمام الحق بعد لم يخرج.

فإن قيل: في الأمر بالمعروف إثبات سلطنة وولاية واحتكام على المحكوم عليه، ولذلك لم يثبت للكافر على المسلم مع كونه حقاً فينبغي أن لا يثبت لآحاد الرعية إلا بتفويض من الوالي وصاحب الأمر? فنقول: أما الكافر فممنوع لما فيه من السلطنة وعز الاحتكام، والكافر ذليل فلا يستحق أن ينال عز التحكم على المسلم، وأما آحاد المسلمين فيستحقون هذا العز بالدين والمعرفة، وما فيه من عز السلطنة والاحتكام لا يحوج إلى تفويض كعز التعليم والتعريف، إذ لا خلاف في أن تعريف التريم والإيجاب لمن هو جاهر ومقدم على المنكر بجهله لا يحتاج إلى إذن الوالي، وفيه عز الإرشاد وعلى المعرف ذل التجهيل، وذلك يكفي فيه مجرد الدين وكذلك النهي.

وشرح القول في هذا أن الحسبة لها خمس مراتب - كما سيأتي - أولها: التعريف، والثاني: الوعظ بالكلام اللطيف، والثالث: السب والتعنيف، ولست أعني بالسب الفحش بل أن يقول: يا جاهل، يا أحمق ألا تخاف الله، وما يجري هذا المجرى، والرابع: المنع بالقهر بطريق المباشرة ككسر الملاهي، وإراقة الخمر، واختطاف الثوب الحرير من لابسه، واستلاب الثوب المغصوب منه، ورده على صاحبه. والخامس: التخويف والتهديد بالضرب، ومباشرة الضرب له حتى يمتنع عما هو عليه كالمواظب على الغيبة والقذف فإن سلب لسانه غير ممكن ولكن يحمل على اختيار السكوت بالضرب. وهذا قد يحوج إلى استعانة وجمع أعوان من الجانبين ويجر ذلك إلى قتال وسائر المراتب لا يخفى وجه استغنائها عن إذن الإمام إلا المرتبة الخامسة فإن فيها نظراً - سيأتي - أما التعريف والوعظ فكيف يحتاج إلى إذن الإمام? وأما التجهيل والتحميق والنسبة إلى الفسق وقلة الخوف من الله وما يجري مجراه فهو كلام صدق، و والصدق مستحق بل أفضل الدرجات كلمة حق عند إمام جائر، كما ورد في الحديث فإذا جاز الحكم على الإمام على مراغمته فكيف يحتاج إلى إذنه? وكذلك كسر الملاهي وإراقة الخمور فإنه تعاطي ما يعرف كونه حقاً من غير اجتهاد فلم يفتقر إلى الإمام. وأما جمع الأعوان وشهر الأسلحة فذلك قد يجر إلى فتنة عامة ففيه نظر - سيأتي - واستمرار عادات السلف على الحسبة على الولاة قاطع بإجماعهم على الاستغناء عن التفويض، بل كل من أمر بحروف فإن كان الوالي راضياً فذاك، وإن كان ساخطاً له فسخطه له منكر يجب الإنكار عليه فكيف يحتاج إلى إذنه في الإنكار عليه. ويدل على ذلك عادة السلف في الإنكار على الأئمة.

كما روي أن مروان بن الحكم خطب قبل صلاة العيد فقال له رجل: إنما الخطبة بعد الصلاة، فقال له مروان: اترك ذلك يا فلان، فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه. قال لنا رسول الله ﷺ "من رأى منكم منكراً فلينكره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" فلقد كانوا فهموا من هذه العمومات دخول السلاطين تحتها فكيف يحتاج إلى إذنهم? وروي أن المهدي لما قدم مكة لبث بها ما شاء الله فلما أخذ في الطواف نحى الناس عن البيت فوثب عبد الله بن مرزوق فلببه بردائه ثم هزه وقال له: انظر ما تصنع? من جعلك بهذا البيت أحق ممن أتاه من العبد، حتى إذا صار عنده حلت بينه وبينه? وقد قال الله تعالى: "سواء العاكف فيه والباد" من جعل لك هذا? فنظر في وجهه - وكان بعرفه لأنه من مواليهم - فقال: أعبد الله ابن مرزوق? قال: نعم، فأخذ فجئ به إلى بغداد فكره أن يعاقبه عقوبة يشنع بها عليه في العامة، فجعله في اصطبل الدواب ليسوس الدواب وضموا إليه فرساً عضوضاً سيئ الخلق ليعقره الفرس فلين الله تعالى له الفرس، قال: ثم صيروه إلى بيت وأغلق عليه، وأخذ المهدي المفتاح عنده فإذا هو قد خرج بعد ثلاث إلى البستان يأكل البقل، فأوذن به المهدي فقال له: من أخرك? فقال: الذي حبسني، فضج المهدي وصاح وقال: ما تخاف أن أقتلك? فرفع عبد الله إليه رأسه يضحك وهو يقول: لو كنت تملك حياة أو موتاً?! فما زال محبوساً حتى مات المهدي ثم خلوا عنه فرجع إلى مكة. قال: وكان قد جعل على نفسه نذراً إن خلصه الله من أيديهم أن ينحر مائة بدنة فكان يعمل في ذلك حتى نحرها.

وروى عن حبان بن عبد الله قال: تنزه هرون الرشيد بالدوين ومعه رجل من بني هشام وهو سليمان بن أبي جعفر فقال له هرون: قد كانت لك جارية تغني فتحسن فجئنا بها، قال: فجاءت فغنت فلم يحمد غناءها، فقال لها: ما شأنك? فقالت: ليس هذا عودي، فقال للخادم، جئنا بعودها، قال: فجاء بالعود فوافق شيخاً يلقط النوى فقال: الطريق يا شيخ، فرفع الشيخ رأسه فرأى العود فأخذه من الخادم فضرب به الأرض؛ فأخذه الخادم وذهب به إلى صاحب الربع فقال: احتفظ بهذا فإنه طلبة أمير المؤمنين، فقال له صاحب الربع: ليس ببغداد أعبد من هذا فكيف يكون طلبة أميسر المؤمنين? فقال له: اسمع ما أقول لك، ثم دخل على هرون فقال: إني مررت على شيخ يلقط النوى فقلت له: الطريق، فرفع رأسه فرأى العود فأخذه فضرب به الأرض فكسره؛ فاستشاط هرون وغضب واحمرت عيناه فقال له سليمان بن أبي جعفر: ما هذا الغضب يا أمير المؤمنين? ابعث إلى صاحب الربع يضرب عنقه ويرم به في الدجلة، فقال: لا، ولكن نبعث إليه وناظره أولاً؛ فجاء الرسول فقال: أجب أمير المؤمنين، فقال: نعم، قال: اركب، قال: لا، فجاء يمشي حتى وقف على باب القصر، فقيل لهرون: قد جاء الشيخ، فقال للندماء أي شيء ترون? نرفع ما قدامنا من المنكر حتى يدخل هذا الشيخ أو نقوم إلى مجلس آخر ليس فيه منكر? فقالوا له: نقوم إلى مجلس آخر ليس فيه منكر أصلح، فقاموا إلى مجلس ليس فيه منكر ثم أمر بالشيخ فأدخل. - وفي كمه الكيس الذي فيه النوى - فقال له الخادم: أخرج هذا من كمك وادخل على أمير المؤمنين، فقال: من هذا عشائي الليلة، قال نحن نعشيك. قال: لا حاجة لي في عشائكم، فقال هرون للخادم: أي شيء يريد منه? قال في كمه نوى قلت له اطرحه وادخل على أمير المؤمنين فقال: دعه لا يطرحه، قال: فدخل وسلم وجلس، فقال له هرون: يا شيخ ما حملك على ما صنعت? قال: وأي شيء صنعت? وجعل هرون يستحي أن يقول كسرت عودي، فلما أكثر عليه قال: إني سمعت أباك وأجدادك يقرءون هذه الآية على المنبر: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي" وأنا رأيت منكراً فغيرته، فقال: فغيره. فوالله ما قال إلا هذا، فلما خرج أعطى الخليفة رجلاً بدرة وقال: اتبع الشيخ فإن رأيته يقول: قلت لأمير المؤمنين وقال لي؛ فلا تعطه شيئاً؛ وإن رأيته لا يكلم أحداً فأعطه البدرة. فلما خرج من القصر إذا هو بنواة في الأرض قد غاصت فجعل يعالجها ولم يكلم أحداً فقال له: يقول لك أمير المؤمنين خذه هذه البدرة، فقال: قل لأمير المؤمنين يردها من حيث أخذها. ويروى أنه أقبل بعد فراغه من كلامه على النواة التي يعالج قلعها من الأرض وهو يقول: أرى الدنيا لمن هي في يديه هموماً كلما كثرت لـديه

تهين المكرمين لها بصغـر وتكرم كل من هانت عليه

إذا استغنيت عن شيء فدعه وخذ ما أنت محتاج إلـيه

وعن سفيان الثوري رحمه اله قال: حج المهدي سنة ست وستين ومائة فرأيته يرمي جمرة العقبة والناس يخبطون يمينا وشمالاً بالسياط، فوقفت فقلت: يا حسن الوجه حدثنا أيمن عن وائل عن قدامة بن عبد الله الكلابي قال رأيت رسول الله ﷺ يرمي الجمرة يوم النحر على جمل لا ضرب ولا طردو ولا جلد ولا إليك إليك، وها أنت يخبط الناس بين يديك يميناً وشمالاً. فقال الرجل: من هذا? قال: سفيان الثوري. فقال: يا سفيان لو كان المنصور ما احتملك على هذا? فقال: لو أخبرك المنصور لقى لقصرت عما أنت فيه. فقيل له إنه قال لك يا حسن الوجه ولم يقل لك يا أمير المؤمنين فقال: اطلبوه فطلب سفيان فاختفى وقد روى عن المأمون أنه بلغه أن رجلاً محتسباً يمشي في الناس يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر. ولم يكن مأموراً من عنده بذلك فأمر بأن يدل عليه. فلما صار بين يديه قال له: إنني بلغني أنك رأيت نفسك أهلاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير أن نأمرك وكان المأمون جالساً على كرسي ينظر في كتاب أو قصة فأغفله فوقع منه فصار تحت قدمه من حيث لم يشعر به. فقال له المحتسب: ارفع قدمك عن أسماء الله تعالى ثم قل ما شئت؛ فلم يفهم المأمون مراد فقال ماذا تقول? حتى أعاده ثلاثاً فلم يفهم. فقال: إما رفعت أو أذنت لي حتى أرفع. فنظر المأمون تحت قدمه فرأى الكتاب فأخذه وقبله وخجل. ثم عاد وقال: لم تأمر بالمعروف وقد جعل الله ذلك إلينا، - أهل البيت - ونحن الذين قال الله تعالى فيهم: "الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر" فقال: صدقت يا أيمر المؤمنين أنت كما وصفت نفسك من السلطان والتمكن غير أنا أعوانك وأولياؤك فيه. ولا ينكر ذلك إلا من جهل كتاب الله تعالى وسنة رسول الله ﷺ قال الله تعالى: "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف" الآية. وقال رسول الله ﷺ " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً" وقد مكنت في الأرض وهذا كتاب الله وسنة رسوله فإن انقدت لهما شكرت لمن أعانك لحرمتهما. وإن استكبرت عنهما ولم تنقد لما لزمك منهما فإن الذي إليه أمرك وبيده عزك وذلك قد شرط أنه لا يضيع أجر من أحسن عملاً فقل الآن ما شئت؛ فأعجب المأمون بكلامه وسر به وقال: مثلك يجوز له أن يأمر بالمعروف. فامض على ما كنت عليه بأمرنا وعن رأينا. فاستمر الرجل على ذلك. ففي سياق هذه الحكايات بيان الدليل على الاستغناء عن الإذن.

فإن قيل: أفتثبت ولاية الحسبة للولد على الوالد والعبد على المولى والزوجة على الزوج والتلميذ على الأستاذ ولرعية على الوالي مطلقاً. كما يثبت للوالد على الولد والسيد على العبد والزوج على الزوجة والأستاذ على التلميذ والسلطان على الرعية أو بينهما فرق? فاعلم أن الذي نراه: أنه يثبت أصل الولاية ولكن بينهما فرق في التفصيل. ولنفرض ذلك في الولد مع الوالد مع الوالد فنقول: قد رتبنا للحسبة خمس مراتب، وللولد الحسبة بالرتبتين الأوليين وهما?: التعريف ثم الوعظ والنصح باللطف. وليس له الحسبة بالسب والتعنيف والتهديد ولا بمباشرة الضرب وهما الرتبتان الأخيرتان وهل له الحسبة بالتربة الثالثة حيث تؤدي إلى أذى الوالد وسخطه? هذا فيه نظر، وهو بأن يكسر مثلاً عوده ويريق خمره ويحل الخيوط عن ثيابه المنسوجة من الحرير ويرد إلى الملاك ما يجده في بيته من المال الحرام الذي غصبه أو سرقه أو أخذه عن إدرار رزق من ضريبة المسلمين - إذا كان صاحبه معيناً - ويبطل الصور المنقوشة على حيطانه والمنقورة في خشب بيته ويكسر أواني الذهب والفضة؛ فإن فعله في هذا الأمور ليس يتعلق بذات الأب خلاف الضرب والسب، ولكن الوالد يتأذى به ويسخط بسببه، إلا أن فعل الولد حق، وسخط الأب منشؤه به للباطل وللحرام والأظهر في القياس أنه يثبت للولد ذلك بل يلزمه أن يفعل ذلك، ولا يبعد أن ينظر فيه إلى قبح المنكر وإلى مقدار الأذى والسخط. فإن كان المنكر فاحشاً وسخطه عليه قريباً كإراقة خمر من لا يشتد غضبه فذلك ظاهر، وإن كان المنكر قريباً والسخط شديداً كما لو كانت له آنية من بلور أو زجاج على صور حيوان وفي كسرها خسران مال كثير، فهذا مما يشتد فيه الغضب وليس تجري هذه المعصية مجرى الخمر وغيره فهذا كله مجال النظر.

فإن قيل: ومن أين قلتم ليس له الحسبة بالتعنيف والضرب والإرهاق إلى ترك الباطل، والأمر بالمعروف في الكتاب والسنة ورد عاماً من غير تخصيص? وأما النهي عن التأفيف والإيذاء فقد ورد وهو خاص فيما لا يتعلق بارتكاب المنكرات? فنقول: قد ورد في حق الأب على الخصوص ما يوجب الاستثناء من العموم إ لا خلاف في أن الجلاد ليس له أن يقتل أباه في الزنا حداً، ولا له أن يباشر إقامة الحد عليه، بل لا يباشر قتل أبيه الكافر، بل لو قطع يده لم يلزمه قصاص ولم يكن له أن يؤذيه في مقابلته.

وقد ورد في ذلك أخبار وثبت بعضها بالإجماع فإذا لم يجز له إيذاؤه بعقوبة هي حق على جناية سابقة فلا يجوز له إيذاؤه بعقوبة هي منع عن جناية مستقبلة متوقعة بل أولى. وهذا الترتيب أيضاً ينبغي أن يجري في العبد والزوجة مع السيد والزوج فهما قريبان من الولد في لزوم الحق وإن كان ملك اليمين آكد من ملك النكاح. ولكن في الخبر أنه لو جاز السجود لمخلوق لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، وهذا يدل على تأكيد الحق أيضاً. وأما الرعية مع السلطان فالأمر فيها أشد من الولد فليس لها معه إلا التعريف والنصح: فأما الرتبة الثالثة ففيها نظر من حيث إن الهجوم على أخذ الأموال من خزانته وردها إلى الملاك وعلى تحليل الخيوط من ثيابه الحرير وكسر آنية الخمور في بيته يكاد يفضى إلى خرق هيبته وإسقاط حشمته، وذلك محظور ورد النهي عنه كما ورد النهي عن السكوت على المنكر فقد تعارض فيه أيضاً محذوران والأمر فيه موكول إلى اجتهاد منشؤه النظر في تفاحش المنكر ومقدار ما يسقط من حشمته بسبب الهجوم عليه وذلك مما لا يمكن ضبطه. وأما التلميذ والأستاذ فالأمر فيما بينهما أخف لأن المحترم هو الأستاذ المفيد للعلم من حيث الدين ولا حرمة لعالم لا يعمل بعلمه فله أن يعامله بموجب علمه الذي تعلمه منه. وروي أنه سئل الحسن عن الولد كيف يحتسب على والده فقال: يعظه ما لم يغضب فإن غضب سكت عنه.

الشرط الخامس: كونه قادراً؛ ولا يخفى أن العاجز ليس عليه حسبة إلا بقلبه إذ كل من أحب الله يكره معاصيه وينكرها. وقال ابن مسعود رضي الله عنه جاهدوا الكفار بأيديكم فإن لم تستطيعوا إلا أن تكفهروا في وجهوهم فافعلوا.

واعلم أنه لا يقف سقوط الوجوب على العجز الحسي بل يلتحق به ما يخاف عليه مكروهاً يناله فذلك في معنى العجز، وكذلك إذا لم يخف مكروهاً ولكن علم أن إنكاره لا ينفع فليلتفت إلى معنيين؛ أحدهما: عدم إفادة الإنكار امتناعاً، والآخر: خوف مكروه. ويحصل في اعتبار المعنيين أربعة أحوال أحدهما: أن يجتمع المعنيان بأن يعلم أنه لا ينفع كلامه ويضرب إن تكلم فلا تجب علي الحسبة، بل ربما تحرم في بعض المواضع. نعم يلزمه أن لا يحضر مواضع المنكر ويعتزل في بيته حتى لا يشاهد ولا يخرج إلا لحاجة مهمة أو واجب ولا يلزمه مفارقة تلك البلدة والهجرة إلا إذا كان يرهق إلى الفساد أو يحمل على مساعدة السلاطين في الظلم والمنكرات؛ فيلزمه الهجرة إن قدر عليها فإن الإكراه لا يكون عذراً في حق من يقدر على الهرب من الإكراه. الحالة الثانية: أن ينتقى المعنيان جميعاً بأن يعلم أن المنكر يزول بقوله وفعله ولا يقدر له على مكروه فيجب عليه الإنكار وهذه هي القدرة المطلقة. الحالة الثالثة: أن يعلم أنه لا يفيد إنكاره لكنه لا يخاف مكروهاً فلا تجب عليه الحسبة لعدم فائدتها ولكن تستحب لإظهار شعائر الإسلام وتذكير الناس بأمر الدين. الحالة الرابعة: عكس هذه وهو أن يعلم أنه يصاب بمكروه ولكن يبطل المنكر بفعله كما يقدر على أن يرمي زجاجة الفاسق بحجر فيكسرها، ويريق الخمر، أو يضرب العود الذي في يده ضربة مختطفة فيكسره في الحال، ويتعطل عليه هذا المنكر ولكن يعلم أنه يرجع إليه فيضرب رأسه، فهذا ليس بواجب وليس بحرام بل هو مستحب. ويدل عليه الخبر الذي أوردناه في فضل كلمة حق عند إمام جائر ولا شك في أن ذلك مظنة الخوف. ويدل عليه أيضاً ما روي عن أبي سليمان الداراني رحمه الله تعالى أنه قال: سمعت من بعض الخلفاء كلاماً فأردت أن أنكر عليه وعلمت أني أقتل، ولم يمنعني القتل ولكن كان في ملأ من الناس فخشيت أن يعتريني التزين للخلق فأقتل من غير إخلاص في الفعل.

فإن قيل: فما معنى قوله تعالى: "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة"? قلنا: لا خلاف في أن المسلم الواحد له أن يهجم على صف الكفار ويقاتل وإن علم أنه يقتل، وهذا ربما يظن أنه مخالف لموجب الآية وليس كذلك، فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس التهلكة ذلك، بل ترك النفقة في طاعة الله تعالى؛ أي من لم يفعل ذلك فقد أهلك نفسه. وقال البراء بن عازب: التهلكة هو أن يذنب الذنب ثم يقول لا يتاب علي. وقال أبو عبيدة: هو أن يذنب ثم لا يعمل بعده خيراً حتى يهلك. وإذا جار أن يقاتل الكفار حتى يقتل جاز أيضاً له ذلك في الحسبة، ولكن لو علم أنه لا نكاية لهجومه على الكفار كالأعمى يطرح نفسه على الصف أو العاجز فذلك حرام وداخل تحت عموم آية التهلكة. وإنما جاز له الإقدام إذا علم أنه يقاتل إلى أن يقتل أو علم أنه يكسر قلوب الكفار بمشاهدتهم جراءته واعتقادهم في سائر المسلمين قلة المبالاة وحبهم للشهادة في سبيل الله فتنكسر بذلك شوكتهم؛ فكذلك يجوز للمحتسب واعتقادهم في سائر المسلمين قلة المبالاة وحبهم للشهادة في سبيل الله فتنكسر بذلك شوكتهم؛ فكذلك يجوز للمحتسب بل يستحب له أن يعرض نفسه للضرب وللقتل إذا كان لحسبته تأثير في رفع المنكر أو في كسر جاه الفاسق أو في تقوية قلوب أهل الدين، وأما إن رأى فاسقاً متغلباً وعنده سيف وبيده قدح، وعلم أنه لو أنكر عليه لشرب القدح وضرب رقبته فهذا مما لا أرى للحسبة فيه وجهاً وهو عين الهلاك. فإن المطلوب أن يؤثر في الدين أثراً ويفديه بنفسه، فأما تعريض النفس للهلاك من غير أثر فلا وجه له بل ينبغي أن يكون حراماً. وإنما يستحب له الإنكار إذا قدر على إبطال المنكر أو ظهر لفعله فائدة، وذلك بشرط أن يقتصر المكروه عليه. فإن علم أنه يضرب معه غيره من أصحابه أو أقاربه أو رفقائه فلا تجوز له الحسبة بل تحرم لأنه عجز عن دفع المنكر إلا بأن يفضى ذلك إلى منكر آخر، وليس ذلك من القدرة في شيء، بل لو علم أنه لو احتسب لبطل ذلك المنكر ولكن كان ذلك سبباً لمنكر آخر يتعاطاه غير المحتسب عليه فلا يحل له الإفكار الأظهر، لأن المقصود عدم مناكير الشرع مطلقاً لا من زيد أو عمرو، وذلك بأن يكون مثلاً مع الإنسان شراب حلال - نجس بسبب وقوع نجاسة فيه - وعلم أنه لو أراقه لشرب صاحبه الخمر أو تشرب أولاده الخمر لإعوازهم الشراب الحلال فلا معنى لإراقة ذلك. ويحتمل أن يقال إنه يريق ذلك فيكون هو مبطلاً لمنكر. وأما شرب الخمر فهو الملوم فيه والمحتسب غير قادر على منعه من ذلك المنكر، وقد ذهب إلى هذا ذاهبون. وليس ببعيد، فإن هذه مسائل فقهية لا يمكن فيها الحكم فيها إلا بظن، ولا يبعد أن يفرق بني درجات المنكر المغير والمنكر الذي تفضى إليه الحسبة والتغيير، فإنه إذا كان يذبح شاة لغيره ليأكلها وعلم أنه لو منعه من ذلك لذبح إنساناً وأكله فلا معنى لهذه الحسبة. نعم لو كان منعه عن ذبح إنسان أو قطع طرقه يحمله على أخذ ماله فذلك له وجه. فهذه دقائق واقعة في محل الاجتهاد وعلى المحتسب إتباع اجتهاده في ذلك كله ولهذه الدقائق نقول: العامي ينبغي له أن لا يحتسب إلا في الجليلات المعلومة كشرب الخمر والزنا وترك الصلاة فأما ما يعلم كونه معصية بالإضافة إلى ما يطيف به من الأفعال ويفتقر فيه إلى اجتهاد فالعامي إن خاض فيه كان ما يفسده أكثر مما يصلحه، وعن هذا يتأكد ظن من لا يثبت ولاية الحسبة إلا بتعيين الوالي؛ إذ ربما ينتدب لها من ليس أهلاً لها لقصور معرفته أو قصور ديانته فيؤدي ذلك إلى وجوه من الخلل وسيأتي كشف الغطاء عن ذلك إن شاء الله.

فإن قيل: وحيث أطلقتم العلم بأن يصيبه مكروه أو أنه لا تفيد حسبته؛ فلو كان بدل العلم فما حكمه? قلنا: الظن الغالب في هذه الأبواب في معنى العلم وإنما يظهر الفرق عند تعارض الظن والعلم إذ يرجح العلم اليقيني على الظن ويفرق بين العلم والظن في مواضع آخر، وهو أنه يسقط وجوب الحسبة عنه حيث علم قطعاً أنه لا يفيد فإن كان غالب ظنه أنه لا يفيد ولكن يحتمل أن يفيد وهو منع ذلك لا يتوقع مكروهاً فقد اختلفوا في وجوبه، والأظهر وجوبه إذ لا ضرر فيه وجدواه متوقعة، وعموم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تقتضي الوجوب بكل حال ونحن إنما نستثني عنه بطريق التحصيص ما إذا علم أنه لا فائدة فيه، فأما إذا لم يكن يأس فينبغي أن لا يسقط الوجوب.

فإن قيل: فالمكروه الذي تتوقع إصابته إن لم يكن متيقناً ولا معلوماً بغالب الظن ولكن كان مشكوكاً فيه، أو كان غالب ظنه أنه لا يصاب بمكروه ولكن احتمل أن يصاب بمكروه، فهذا الاحتمال هل يسقط الواجب حتى لا يجب إلا عند اليقين بأنه لا يصيبه مكروه أم يجب في كل حال إلا إذا غلب على ظنه أنه يصاب بمكروه? قلنا: إن غلب على الظن أنه يصاب لم يحب، وإن غلب أنه لا يصاب وجب. ومجرد التجويز لا يسقط الوجوب فإن ذلك ممكن في كل حسبة، وإن شك فيه من غير رجحان فهذا محل النظر، فيحتمل أن يقال الأصل الوجوب بحكم العمومات وإنما يسقط بمكروه، والمكروه هو الذي يظن أو يعلم حتى يكون متوقعاً، وهذا هو الأظهر. ويحتمل أن يقال: إنه إنما يجب عليه إذا علم أنه لا ضرر فيه عليه أو ظن أنه لا ضرر عليه والأول أصح نظراً إلى قضية العمومات الموجبة للأمر بالمعروف.

فإن قيل: فالتوقع للمكروه يختلف بالجبن والجراءة فالجبان الضعيف القلب يرى البعيد قريباً حتى كأنه يشاهده ويرتاع منه، والمتهور الشجاع يبعد وقوع المكروه به بحكم ما جبل عليه من حسن الأمل حتى إنه لا يصدق به إلا بعد وقوعه، فعلى ماذا التعويل? قلنا?: التعويل على اعتدال الطبع وسلامة العقل والمزاج، فإن الجبن مرض وهو ضعف في القلب سببه قصور في القوة وتفريط، والتهور إفراط في القوة وخروج عن الاعتدال بالزيادة وكلاهما نقصان، وإنما الكمال في الاعتدال الذي يعبر عنه بالشجاعة. وكل واحد من الجبن والتهور يصر تارة عن نقصان العقر. وتارة عن خلل في المزاج بتفريط أو إفراط، فإن من اعتدل مزاجه في صفة الجبن والجراءة فقد لا يتفطن لمدارك الشر فيكون سبب جراءته جهله، وقد لا يتفطن لمدارك دفع الشر فيكون سبب جبنه جهله، وقد يكون عالماً بحكم التجربة والممارسة بمداخل الشر ودوافعه، ولكن يعمل الشر البعيد في تخذيله وتحليل قوته في الإقدام بسبب ضعف قلبه ما يفعله الشر القريب في حق الشجاع المعتدل الطبع. فلا التفات إلى الطرفين. وعلى الجبان أن يتكلف إزالة الجبن بإزالة علته وعلته جهل أو ضعف، ويزول الجهل بالتجربة، ويزول الضعف بممارسة الفعل المخفوف منه تكلفاً حتى يصير معتاداً، إذ المبتدئ في المناظرة والوعظ مثلاً قد يجبن عنه طبعه لضعفه فإذا مارس واعتاد فارقه الضعف، فإن صار ذلك ضرورياً غير قابل للزوال بحكم استيلاء الضعف على القلب فحكم ذلك الضعيف يتبع حاله فيعذر كما يعذر المريض في التقاعد عن بعض الواجبات، ولذلك قد نقول على رأي: لا يجب ركوب البحر لأجل حجة الإسلام على من يغلب عليه الجبن في ركوب البحر على من لا يعظم خوفه منه فكذلك الأمر في وجوب الحسبة.

فإن قيل: فالمكروه المتوقع ما حده? فإن الإنسان قد يكره كلمة وقد يكره ضربة وقد يكره طول لبان المحتسب عليه في حقه بالغيبة، وما من شخص يؤمر بالمعروف إلا يتوقع منه نوع من الأذى وقد يكون منه أن يسعى به إلى سلطان أو يقدح فيه في مجلس يتضرر بقدحه فيه، فما حج المكروه الذي يسقط الوجوب به? قلنا: هذا أيضاً فيه نظر غامض وصورته منتشرة ومجارية كثيرة، ولكنا نجتهد في ضم نشره وحصر أقسامه.

فنقول: المكروه نقيض المطلوب ومطالب الخلق في الدنيا ترجع إلى أربعة أمور: أما في النفس فالعلم. وأما في البدن فالصحة والسلامة. وأما في المال فالثروة. وأما في القلوب الناس فقيام الجاه؛ فإذاً المطلوب العلم والصحة والثروة والجاه. ومعنى الجاه ملك قلوب الناس، كما أن معنى الثروة ملك الدراهم لآن قلوب الناس وسيلة إلى الأغراض، كما أن ملك الدراهم وسيلة إلى بلوغ الأغراض - وسيأتي تحقيق معنى الجاه وسبب ميل الطبع إليه في ربع المهلكات - وكل واحدة من هذه الأربعة يطلبها الإنسان لنفسه ولأقاربه والمختصين به. ويكره في هذه الأربعة أمران؛ أحدهما: زوال ما هو حاصل موجود. والآخر. امتناع ما هو منتظر مفقود؛ أعني اندفاع ما يتوقع وجوده. فلا ضرر إلا في فوات حاصل وزواله، أو تعويق منتظر، فإن المنتظر عبارة عن الممكن حصوله والممكن حصوله كأنه حاصل وفوات إمكانه كأنه فوات حصوله: فرجع المكروه إلى قسمين؛ أحدهما: خوف امتناع المنتظر وهذا لا ينبغي أن يكون مرخصاً في ترك الأمر بالمعروف أصلاً.

ولنذكر مثاله في المطالب الأربعة؛ أما العلم: فمثاله تركه الحسبة على من يختص بأستاذه خوفاً من أن يقبح حاله عنده فيمتنع من تعليمه. وأما الصحة: فتركه الإنكار على الطبيب الذي يدخل عليه مثلاً وهو لابس حريراً خوفاً من أن يتأخر عنه فتمتنع بسببه صحته المنظرة. وأما المال: فتركه الحسبة على السلطان وأصحابه وعلى من يواسيه من ماله خيفة من أن يقطع إدراره في المستقبل ويترك مواساته. وأما الجاه: فتركه الحسبة على من يتوقع منه نصرة وجاهاً في المستقبل خيفة من أن لا يحصل له الجاه أو خيفة من أن يقبح حاله عند السلطان الذي يتوقع منه ولاية.

وهذا كله لا يسقط وجوب الحسبة لأن هذه زيادات امتنعت، وتسمية امتناع حصول الزيادات ضراً مجاز. وإنما الضرر الحقيقي فوات حاصل ولا يستثنى من هذا شيء إلا ما تدعو إليه الحاجة ويكون في فواته محذور يزيد على محذور السكوت على المنكر، كان إذا كان محتاجاً إلى الطبيب لمرض ناجز والصحة منتظرة من معالجة الطبيب ويعلم أن في تأخره شدة الضنا به وطول المرض وقد يفضى إلى الموت. وأعني بالعلم الظن الذي يجوز بمثله ترك استعمال الماء والعدول إلى التيمم فإذا انتهى إلى هذا الحد لم يبعد أن يرخص في ترك الحسبة. وأما في العلم فمثل أن يكون جاهلاً بمهمات دينه ولم يجد إلا معلماً واحداً ولا قدرة له على الرحلة إلى غيره وعلم أن المحتسب عليه قادر على أن يسد عليه طريق الوصول إليه لكونه العالم مطيعاً له أو مستمعاً لقوله، فإذاً الصبر على الجهل بمهمات الدين محذور والسكوت على المنكر محذور، ولا يبعد أن يرجح أحدهما ويختلف ذلك بتفاحش المنكر وبشدة الحاجة إلى العلم لتعلقه بمهمات الدين. وأما في المال فكمن يعجز عن الكسب والسؤال وليس هو قوى النفس في التوكل ولا منفق عليه سوى شخص واحد ولو احتسب عليه قطع رزقه وافتقر في تحصيله إلى طلب إدرار حرام أو مات جوعاً فهذا أيضاً إذا اشتد الأمر فيه لم يبعد أن يرخص له في السكوت. وأما الجاه فهو أن يؤذيه شرير ولا يجد سبيلاً إلى دفع شره إلا بجاه يكتسبه من سلطان، ولا يقدر على التوصل إليه إلا بواسطة شخص يلبس الحرير أو يشرب الخمر، ولو احتسب عليه لم يكن واسطة ووسيلة له فيمتنع عليه حصول الجاه ويدوم بسببه أذى الشرير. فهذه الأمور كلها إذا ظهرت وقويت لم يبعد استثناؤها ولكن الأمر فيها منوط باجتهاد المنسب حتى يستفتى فيها قلبه، ويزن أحد المحذوين بالآخر، ويرجح بنظر الدين لا بموجب الهوى والطبع، فإن رجح بموجب الدين سمي سكوته مداراة، وإن رجح بموجب الهوى سمى سكوته مكاهنة. وهذا أمر باطن لا يطلع عليه إلا بنظر دقيق ولكن الناقد بصير، فحق على كل متدين فيه أن يراقب قلبه ويعلم أن الله مطلع على باعثه وصارفه أنه الدين أو الهوى، وستجد كل نفس ما عملت من سوء أو خير محضراً عند الله ولو في فلتة خاطر أو فلتة ناظر من غير ظلم وجور فما الله بظلام للعبيد.

وأما القسم الثاني: وهو فوات الحاصل: فهو مكروه ومعتبر في جواز السكوت في الأمور الأربعة إلا العلم، فإن فواته غير مخوف إلا بتقصير منه وإلا فلا يقدر أحد على سلب العلم من غيره وإن قدر على سلب الصحة والسلامة والثروة والمال، وهذا أحد أسباب شرف العلم فإنه يدوم في الدنيا ويدوم ثوابه في الآخرة فلا انقطاع له أبد الآباد. وأما الصحة والسلامة ففواتهما بالضرب فكل من علم أنه يضرب ضرباً مؤلماً يتأذى به في الحسبة لم تلزمه الحسبة وإن كان يستحب له ذلك - كما سبق - وإذا فهم هذا في الإيلام بالضرب فهو في الجرح والقطع والقتل أظهر. وأما الثروة فهو بأن يعلم أنه تنهب داره ويخرب بيته وتسلب ثيابه، فهذا أيضاً يسقط عنه الوجوب ويبقى الاستحباب إذ لا بأس بأن يفدى دينه بدنياه ولكل واحد م الضرب والنهب حد في القلة لا يكترث به كالحبة في المال واللطمة الخفيف ألمها في الضرب وحد في الكثرة يتعين اعتباره ووسط يقع في محل الاشتباه والاجتهاد، وعلى المتدين أن يجتهد في ذلك ويرجح جانب الدين ما أمكن . وأما الجاه ففواته بأن يضرب ضرباً غير مؤلم أو بسبب على ملأ من الناس أو يطرح منديله في رقبته ويدار به درجات فالصواب أن يقسم إلى ما يعبر عنه بسقوط المروءة، كالطواف به في البلد حاسراً حافياً فهذا يرخص له في السكوت لأن المروءة مأمور بحفظها في الشرع، وهذا مؤلم للقلب ألماً يزيد على أمل ضربات متعددة وعلى فوات دريهمات قليلة فهذه درجة. الثانية: ما يعبر عنه بالجاه المحض وعلو الرتبة، فإن الخروج في ثياب فاخرة تجمل، وكذلك الركوب للخيول. فلو علم أنه لو احتسب لكلف المشي في السوق في ثياب لا يعتاد هو مثلها. أو كلف المشي راجلاً وعادته الركوب. فهذا من جملة المزايا. وليست المواظبة على حفظها محمودة. وحفظ المروءة محمود فلا ينبغي أن يسقط وجوب الحسبة بمثل هذا القدر. وفي معنى هذا ما لو خاف أن يتعرض له باللسان إما في حضرته بالتجهيل والتحميق والنسبة إلى الرياء والبهتان. وأما في غيبته بأنواع الغيبة فهذا لا يسقط الوجوب إذ ليس فيه إلا زوال فضلات الجاه التي ليس إليها كبير حاجة. ولو تركت الحسبة بلوم لائم أو باغتياب فاسق أو شتمة وتعنيفه أو سقوط المنزلة عن قلبه وقلب أمثاله لم يكن للحسبة وجوب أصلاً إذ لا تنفك الحسبة عنه إلا إذا كان المنكر هو الغيبة، وعلم أنه لو أنكر لم يسكت عن المغتاب ولكن أضافه إليه وأدخله معه في الغيبة فتحرم هذه الحسبة لأنها سبب زيادة المعصية، وإن علم أنه يترك تلك الغيبة ويقتصر على غيبته فلا تجب لعيه الحسبة لأن غيبته أيضاً معصية في حق المغتاب، ولكن يستحب له ذلك ليفدى عرض المذكور بعرض نفسه على سبيل الإيثار. وقد دلت العمومات على تأكد وجوب الحسبة وعظم الخطر في السكوت عنها ودرجات التجمل وطلب ثناء الخلق فكل ذلك لا خطر له. وأما امتناعه لخوف شيء من هذه المكاره في حق أولاده وأقاربه فهو في حقه دونه لأن تأذيه بأمر نفسه أشد من تأذيه بأمر غيره، ومن وجه الدين هو فوقه لأن له أن يسامح في حقوق نفسه وليس له المسامحة في حق غيره. فإذاً ينبغي أن يمتنع فإنه إن كان ما يفوت من حقوقهم يفوت على طريق المعصية كالضرب والنهب فليس له هذه الحسبة لأنه دفع منكر يفضى إلى منكر، وإن كان يفوت لا بطريق المعصية فهو إيذاء للمسلم أيضاً وليس له هذه الحسبة لأنه دفع منكر يفضى إلى منكر، وإن كان يفوت لا بطريق المعصية فهو إذاء للمسلم أيضاً وليس له ذلك إلا برضاهم. فإذا كان يؤدي ذلك إلى أذى قومه فليتركه وذلك كالزاهد الذي له أقارب أغنياء فإنه لا يخاف على ماله إن احتسب على السلطان ولكنه يقصد أقاربه انتقاماً منه بواسطته، فإذا كان يتعدى الأذى من حسبته إلى أقاربه وجيرانه فليتركها فإن إيذاء المسلمين محذور كما أن السكوت على المنكر محذور. نعم إن كان لا ينالهم أذى في مال أو نفس ولكن ينالهم الأذى بالشتم والسب فهذا فيه نظر، ويختلف الأمر فيه بدرجات المنكرات في تفاحشها ودرجات الكلام المحذور في نكايته في القلب وقدحه في العرض.

فإن قيل: فلو قصد الإنسان قطع طرف في نفسه وكان لا يمتنع عنه إلا بقتال ربما يؤدي إلى قتله فهل يقاتل عليه? فإن قلتم: يقاتل، فهو محال لأنه إهلاك نفس خوفاً من إهلاك طرف وفي إهلاك النفس إهلاك الطرف أيضاً? قلنا: يمنعه عنه ويقاتله إذ ليس غرضنا حفظ نفسه وطرفه بل الغرض حسن سبيل المنكر والمعصية، وقتله في الحسبة ليس بمعصية وقطع طرف نفسه معصية. وذلك كدفع الصائل على مال مسلم بما يأتي على قتله فإنه جائز لا على معنى أنا نفدى درهماً من مال مسلم بروح مسلم فإن ذلك محال ولكن قصده لأخذ مال المسلمين معصية وقتله في الدفع عن المعصية ليس بمعصية وإنما المقصود دفع المعاصي.

فإن قيل: فلو علمنا أنه لو خلا بنفسه لقطع طرف نفسه فينبغي أن نقتله في الحال حسماً لباب المعصية? قلنا: ذلك لا يعلم يقيناً ولا يجوز سفك دمه بتوهم معصية ولكنا إذا رأيناه في حال مباشرة القطع دفعناه، فإن قاتلنا قاتلناه ولم نبال بما يأتي على روحه.

فإذا المعصية لها ثلاثة أحوال: إحداها: أن تكون متصرم فالعقوبة على ما تصرم منها حد أو تعزيز وهو إلى الولاة لا إلى الآحاد. الثانية: أن تكون المعصية راهنة صاحبها مباشر لها كلبسه الحرير وإمساكه العود والخمر، فإبطال هذه المعصية واجب بكل ما يمكن ما لم تؤد إلى معصية أفحش منها أو مثلها، وذلك يثبت للآحاد والرعية. الثالثة: أن يكون المنكر متوقعاً كالذي يسعد بكنس المجلس وتزيينه وجمع الرياحين لشرب الخمر وبعده لم يحضر الخمر؛ فهذا مشكوك فيه إذ ربما يعوق عنه عائق فلا يثبت للآحاد سلطنة على العازم على الشرب إلا بطريق الوعظ والنصح، فأما بالتعنيف والضرب فلا يجوز للآحاد ولا للسلطان إلا إذا كانت تلك المعصية علمت منه بالعادة المستمرة وقد أقدم على السبب المؤدي إليها ولم يبق لحصول المعصية إلا إذا كانت تلك المعصية علمت منه بالعادة المستمرة وقد أقدم على السبب المؤدي إليها ولم يبق لحصول المعصية إلا ما ليس له فيه إلا الانتظار، وذلك كوقوف الأحداث على أبواب حمامات النساء للنظر إليهن عند الدخول والخروج، فإنهم وإن لم يضيقوا الطريق لسعته فتجوز الحسبة عليهم بإقامتهم من الموضع ومنعهم عن الوقوف بالتعنيف والضرب، وكان تحقيق هذا إذا بحث عنه يرجع إلى أن هذا الوقوف في نفسه معصية وإن كان مقصد العاصي وراءه كما أن الخلوة بالأجنبية في نفسها معصية لأنها مظنة وقوع المعصية. وتحصيل مظنة المعصية معصية ونعني بالمظنة ما يتعرض الإنسان لوقوع المعصية غالباً بحيث لا يقدر على الإنكفاف عنها، فإذاً هو على التحقيق حسبة على معصية راهنة لا على معصية منتظرة.

الركن الثاني

للحسبة ما فيه الحسبة

وهو كل منكر موجود في الحال ظاهر للمحتسب بغير تجسس معلوم كونه منكراً بغير اجتهاد فهذه أربعة شروط فلنحث عنها: الأول: كونه منكراً، ونعني به أن يكون محذور الوقوع في الشرع وعدلنا عن لفظ المعصية إلى هذا لان المنكر أعم من المعصية، إذ من رأى صبياً أو مجنوناً يشرب الخمر فعله أن يريق خمره ويمنعه، وكذا إن رأى مجنوناً يزني بمجنونه أو بهيمة فعليه أن يمنعه منه. وليس ذلك لتفاحش صورة الفعل وظهوره بين الناس بل لو صادف هذا المنكر في خلوة لوجب المنع منه، وهذا لا يسمى معصية في حق المجنون إذ معصية لا عاصي بها محال، فلفظ المنكر أدل عليه وأعم من لفظ المعصية وقد أدرجنا في عموم هذا الصغيرة والكبيرة فلا تختص الحسبة بالكبائر، بل كشف العورة في الحمام والخلوة بالأجنبية وإتباع النظر للنسوة الأجنبيات كل ذلك من الصغائر ويجب النهي عنها وفي الفرق بين الصغيرة والكبيرة نظر سيأتي في كتاب التوبة.

الشرط الثاني: أن يكون موجوداً في الحال وهو احتراز أيضاً عن الحسبة على من فرغ من شرب الخمر، فإن ذلك ليس إلى الآحاد وقد انقرض المنكر واحتراز عما سيوجد في ثاني الحال، كمن يعلم بقرينه حال أنه عازم على الشرب في ليلته فلا حسبة عليه إلا بالوعظ، وإن أنكر عزمه عليه لم يجز وعظه أيضاً فإن فيه إساءة ظن بالمسلم وربما صدق في قوله ربما لا يقدم على ما عزم عليه لعائق. وليتنبه للدقيقة التي ذكرناها وهو أن الخلوة بالأجنبية معصية ناجزة وكذا الوقوف على باب حمام النساء وما يجري مجراه.

الشرط الثالث: أن يكون المنكر ظاهراً للمحتسب بغير تجسس. فكل من ستر معصية في داره وأغلق بابه لا يجوز أن يتجسس عليه وقد نهى الله تعالى عنه. وقصة عمر وعبد الرحمن بن عوف فيه مشهورة. - وقد أوردناها في كتاب آداب الصحبة - وكذلك ما روي أن عمر رضي الله عنه تسلق دار رجل فرآه على حالة مكروهة فأنكر عليه فقال: يا أمير المؤمنين إن كنت أنا قد عصيت الله من وجه واحد فأنت قد عصيته من ثلاثة أوجه. فقال وما هي? فقال قد قال تعالى "ولا تجسسوا" وقد تجسست. وقال تعالى " وأتوا البيوت من أبوابها" وقد تسورت من السطح وقال: "لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها" وما سلمت. فتركه عمر وشرط عليه التوبة. ولذلك شاور عمر الصحابة رضي الله عنهم؛ وهو على المنبر وسألهم عن الإمام إذا شاهد بنفسه منكراً فهل له إقامة الحد فيه? فأشار علي رضي الله عنه بأن ذلك منوط بعدلين فلا يكفي فيه واحد. وقد أوردنا هذه الأخبار في بيان حق المسلم من كتاب آداب الصحبة فلا نعيدها.

فإن قلت: فما حد الظهور والاستتار? فاعلم أ، من أغلق باب داره وتستر بحيطانه فلا يجوز الدخول عليه بغير إذنه لتعرف المعصية إلا أن يظهر في الدار ظهوراً يعرفه من هو خارج الدار كأصوات المزامير والأوتار إذا ارتفعت بحيث جاوز ذلك حيطان الدار. فمن سمع ذلك فله دخول الدار وكسر الملاهي وكذا إذا ارتفعت أصوات السكارى بالكلمات المألوفة بينهم بحيث يسمعها أهل الشوارع فهذا إظهار موجب للحسبة. فإذن إنما يدرك مع تخلل الحيطان صوت و رائحة. فإذا فاحت روائح الخمر فإن احتمل ن يكون ذلك من الخمور المحترمة فلا يجوز قصدها بالإراقة. وإن علم بقرينة الحال أنها فاحت لتعاطيهم الشرب فهذا محتمل. والظاهر جواز الحسبة. وقد تستر قارورة الخمر في الكم وتحت الذيل وكذلك الملاهي فإذا رؤى فاسق وتحت ذيله شيء لم يجز أن يكشف عنه ما لم يظهر بعلامة خاصة. فإن فسقه لا يدل على أن الذي معه خمر. إذ الفاسق محتاج أيضاً إلى الخل وغيره. فلا يجوز أن يستدل بإخفائه وأنه لو كان حلالاً لما أخفاه لأن الأغراض تفيد الظن والظن كالعلم في أمثال هذه الأمور. و كذلك العود ريما يعرف بشكله إذا كان الثوب السائر له رقيقاً. فدلالة الشكل كدلالة الرائحة الصوت وما ظهرت دلالته فهو غير مستور بل هو مكشوف وقد أمرنا بأن نستر ما ستر الله وننكر على من أبدى لنا صفحته. والإبداء له درجات فتارة يبدو لنا بحاسة السمع. وتارة بحاسة الشم. وتارة بحاسة البصر. وتارة بحاسة اللمس. ولا يمكن أن يخصص ذلك بحاسة البصر بل المراد العلم. وهذه الحواس أيضاً تفيد العلم. فإذن إنما يجوز أن يكسر ما تحت الثوب إذا علم أنه خمر. وليس له أن يقول: أرني لأعلم ما فيه. هذا تجسس. ومعنى التجسس طلب الأمارات المعرفة فالأمارة المعرفة إن حصلت وأورثت المعرفة جاز العمل بمقتضاها فأما طلب الأمارة المعرفة فلا رخصة فيه أصلاً.

الشرط الرابع ?: أن يكون كونه منكر معلوماً بغير اجتهاد فكل ما هو في محل الاجتهاد فلا حسبة. فليس للحنفي أن ينكر على الشافعي أكله الضب والضبع ومتروك التسمية. ولا للشافعي أن ينكر على الحنفي شربه النبيذ الذي ليس بمسكر وتناوله ميراث ذوي الأرحام وجلوسه في دار أخذها بشفعة الجوار إلى غير ذلك من مجاري الاجتهاد نعم لو رأى الشافعي شافعياً يشرب النبيذ وينكح بلا ولي ويطأ زوجته فهذا في محل النظر والأظهر أن له الحسبة والإنكار إذ لم يذهب أحد من المحصلين إلى أن المجتهد يجوز له أن يعمل بموجب اجتهاد غيره. ولا الذي أدى اجتهاده في التقليد إلى شخص رآه أفضل العلماء أن له أن يأخذ بمذهب غيره فينتقد من المذاهب أطيبها عنده، بل على كل مقلد إتباع مقلده في كل تفصيل، فإذن مخالفته للمقلد متفق على كونه منكراً بين المحصلين وهو عاص بالمخالفة، إلا أنه يلزم من هذا أمر أغمض منه، وهو أنه يجوز للحنفي أن يعترض على الشافعي إذا نكح بغير ولي بأن يقول له: الفعل في نفسه حق ولكن لا في حقك وأنت مبطل بالإقدام عليه مع اعتقادك أن الصواب مذهب الشافعي، ومخالفة ما هو صواب عندك معصية في حقك وإن كانت صواباً عند الله. وكذلك الشافعي يحتسب على الحنفي إذا شاركه في أكل الضب ومتروك التسمية وغيره ويقول له: إما أن تعتقد أن الشافعي أولى بالإتباع ثم تقدم عليه، أو لا تعتقد ذلك فلا تقدم عليه، لأنه على خلاف معتقدك. ثم ينجر هذا إلى أمر آخر من المحسوسات وأن يجامع الأصم مثلاً امرأة على قصد الزنا وعلم المحتسب أن هذه امرأته زوجه أبوه إياها في صغره. ولكنه ليس يدري وعجز عن تعريفه ذلك لصممه أو لكونه غير عارف بلغته، فهو في الإقدام مع اعتقاده أنها أجنبية عاص ومعاقب عليه في الدار الآخرة. فينبغي أن يمنعها عنه مع أنها زوجته وهو بعيد من حيث إنه حلال في علم الله قريب من حيث إنه حرام عليه بحكم غلطه وجهله. ولا شك في أنه لو علق طلاق زوجته على صفة في قلب المحتسب مثلاً من مشيئة أو غضب أو غيره وقد وجدت الصفة في قلبه وعجز عن تعريف الزوجين ذلك، ولكن علم وقوع الطلاق في الباطن فإذا رآه يجامعها فعليه المنع - أعني باللسان - لأن ذلك زنا إلا أن الزاني غير عالم به والمحتسب علام بأنها طلقت منه ثلاثاً، وكونهما غير عاصين لجهلهما بوجود الصفة لا يخرج الفعل عن كونه منكراً ولا يتقاعد ذلك عن زنا المجنون وقد بينا أنه يمنع منه. فإذا كان يمنع مما هو منكر عند الله وإن لم يكن منكراً عند الفاعل لجهله لا يمنع منه، وهذا هو الأظهر والعلم عند الله. فتحصل من هذا أن الحنفي لا يعترض على الشافعي في النكاح بلا ولي، وأن الشافعي يعترض على الشافعي فيه لكون المعترض عليه منكراً باتفاق المحتسب والمحتسب عليه. وهذه مسائل فقهية دقيقة والاحتمالات فيها متعارضة، وإنما أفتينا فيها بحسب ما ترجح عندنا في الحال. ولسنا نقطع بخطأ ترجيح المخالف فيها إن رأى أنه لا يجري الاحتساب إلا في معلوم على القطع، وقد ذهب إليه ذاهبون وقالوا: لا حسبة إلا في مثل الخمر والخنزير وما يقطع بكونه حراماً، ولكن الأشبه عندنا أن الاجتهاد يؤثر في حق المجتهد؛ إذ يبعد غاية البعد أن يجتهد في القبلة ويعترف بظهور القبلة عنده في جهة بالدلالات الظنية ثم يستدبرها، ولا يمنع منه لأجل ظن غيره لأن الإستدبار هو الصواب. ورأى من يرى أنه يجوز لكل مقلد أن يختار من المذاهب ما أراد غير معتد به ولعله لا يصح ذهاب ذاهب إليه أصلاً؛ فهذا مذهب لا يثبت وإن ثبت فلا يعتد به.

فإن قلت: إذا كان لا يعترض على الحنفي في النكاح بلا ولي لأنه يرى أنه حق فينبغي أن لا يعترض على المعتزلي في قوله: إن الله لا يرى? وقوله: وإن الخير من الله والشر ليس من الله? وقوله: كلام الله مخلوق? ولا على الحشوى في قوله: إن الله تعالى جسم وله صورة وإنه مستقر على العرش? بل لا ينبغي أن يعترض على الفلسفي في قوله: الأجساد لا تبعث وإنما تبعث النفوس؛ لأن هؤلاء أيضاً أدى اجتهادهم إلى ما قالوه وهم يظنون أ، ذلك هو الحق. فإن قلت: بطلان مذهب هؤلاء ظاهر فبطلان مذهب من يخالف نص الحديث الصحيح أيضاً ظاهر، وكما ثبت بظواهر النصوص أن الله تعالى يرى والمعتزلي ينكرها بالتأويل فكذلك ثبت بظواهر النصوص مسائل خالف فيها الحنفي كمسألة النكاح بلا ولي ومسألة شفعة الجوار ونظائرهما? فاعلم أن المسائل نقسم إلى ما يتصور أن يقال فيه: كل مجتهد مصيب. وهي أحكام الأفعال في الحل والحرمة وذلك هو الذي لا يتعرض على المجتهدين فيه إذ لم يعلم خطؤهم قطعاً بل ظناً، وإلى ما لا يتصور أن يكون المصيب فيه إلا واحد كمسالة الرؤية والقدر وقدم الكلام ونفي الصورة والجسمية والاستقرار عن الله تعالى، فهذا مما يعلم خطأ المخطئ فيه قطعاً ولا يبقى لخطئه الذي هو جهل محض وجه. فإذن البدع كلها ينبغي أن تحسم أبوابها وتنكر على المبتدعين بدعهم وإن اعتقدوا أنها الحق، كما يرد على اليهود والنصارى كفرهم وإن كانوا يعتقدون أن ذلك حق لأن خطأهم معلوم على القطع بخلاف الخط-أ في مظان الاجتهاد.

فإن قلت: فمهما اعترضت على القدري في قوله: الشر ليس من الله، اعترض عليك القدري أيضاً في قولك: الشر من الله، وكذلك في قولك: إن الله يرى، وفي سائر المسائل. إذ المبتدع محق عند نفسه، والمحق مبتدع عند المبتدع، وكل يعي أنه محق ونكير كونه مبتدعاً. فكيف يتم الاحتساب? فاعلم أنا لأجل هذا التعارض نقول: ينظر إلى البلدة التي فيها أظهرت تلك البدعة؛ فإن كانت البدعة غريبة والناس كلهم على السنة فلهم الحسبة عليه بغير إذن السلطان، وإن انقسم أهل البلد إلى أهل البدعة وأهل السنة وكان في الاعتراض تحريك فتنة بالمقاتلة فليس للآحاد الحسبة في المذاهب إلا بنصب السلطان. فإذا رأى السلطان الرأي الحق ونصره وأذن لواحد أن يزجر المبتدعة عن إظهار البدعة كان له ذلك وليس لغيره. فإن ما يكون بإذن السلطان لا يتقابل، وما يكون من جهة المبتدعة عن إظهار البدعة كان له ذلك وليس لغيره. فإن ما يكون بإذن السلطان لتا يتقابل، وما يكون من جهة الآحاد فيتقابل الأمر فيه. وعلى الجملة فالحسبة في البدعة أهم من الحسبة في كل المنكرات، ولكن ينبغي أن يراعى فيها هذا التفصيل الذي ذكرناه كيلا يتقابل الأمر ولا ينجو إلى تحريك الفتنة. بل لو أذن السلطان مطلقاً في منع كل من يصرح بأن القرآن مخلوق، أو أن الله لا يرى، أو أنه مستقر على العرش مماس له، أو غير ذلك من البدع لتسلط الآحاد على المنع منه ولم يتقابل الأمر فيه وإنما يتقابل عند عدم إذن السلطان فقط.

الركن الثالث

المحتسب عليه

وشرطه أ، يكون بصفة يصير الفعل الممنوع منه في حقه منكراً، وأقل ما يكفي في ذلك أن يكون إنساناً، ولا يشترط كونه مكلفاً، إذ بينا أن الصبي لو شرب الخمر منع منه واحتسب عليه وإن كان قبل البلوغ، ولا يشترط كونه مميزاً إذ بينا أن المجنون لو كان يزني بمجنونة أو يأتي بهيمة منعه منه. نعم من الأفعال ما لا يكون منكراً في حق المجنون كترك الصلاة والصوم وغيره. ولكنا لسنا نلتفت إلى اختلاف التفاصيل فإن ذلك أيضاً مما يختلف فيه المقيم والمسافر والمريض والصحيح. وغرضنا الإشارة إلى الصفة التي بها يتهيأ توجه أصل الإنكار عليه لا ما بها يتهيأ للتفاصيل.

فإن قلت: فاكتف بكونه حيواناً ولا تشترط كونه إنساناً، فإن البهيمة لو كانت تفسد زرعاً لإنسان لكنا تمنعها منه كما تمنع المجنون من الزنا وإتيان البهيمة? فاعلم أن تسمية ذلك حسبة لا وجه لها، إذا الحسبة عبارة عن المنع عن منكر لحق الله، صيانة للمنوع عن مقارفة المنكر ومنع المجنون عن الزنا وإتيان البهيمة لحق الله، وكذا منع الصبي عن شرب الخمر. والإنسان إذا أتلف زرع غيره منع منه لحقين، أحدهما: حق الله تعالى فإن فعله معصية، والثاني: حق المتلف عليه، فهما علتان تنفصل إحداهما عن الأخرى. فلو قطع تطرف غيره بإذنه فقد وجدت المعصية وسقط حق المجيئ عليه بإذنه فتثبت الحسبة والمنع بإحدى العلتين. والبهيمة إذا أتلفت فقد عدمت المعصية ولكن يثبت المنع بإحدى العلتين. ولكن فيه دقيقة وهو أنا لسنا نقصد بإخراج البهيمة منع البهيمة بل حفظ مال المسلم؛ إذ البهيمة لو أكلت ميتة أو شربت من إناء فيه خمر أو ماء مشوب بخمر لم نمنعها منه، بل يجوز إطعام كلاب الصيد الجيف والميتات، ولكن مال المسلم إذا تعرض للضياع وقدرنا على حفظه بغير تعب وجب ذلك علينا حفظاً للمال، بل لو وقعت جرة لإنسان من علو وتحتها قارورة لغيره فتدفع الجرة لحفظ القارورة، لا لمن ع الجرة من السقوط. فإنا لا نقصد منع الجرة وحراستها من أن تصير كاسرة للقارورة، ونمنع المجنون من الزنا وإتيان البهيمة وشر الخمر وكذا الصبي، لا صيانة للبهيمة المأتية أو الخمر المشروب: بل صيانة للمجنون عن شرب الخمر وتنزيهاً له من حيث إنه إنسان محترم. فهذه لطائف دقيقة لا يتفطن لها إلا المحققون فلا ينبغي أن يغفل عنها ثم فيما يجب تنزيه الصبي والمجنون عنه نظر، إذ قد يتردد في منهما من لبس الحرير وغير ذلك. وسنتعرض لما نشير إليه في الباب الثالث.

فإن قلت: فكل من رأى بهائم قد استرسلت في زرع إنسان فهل يجب عليه إخراجها? وكل من رأى مالاً لمسلم أشرف على الضياع هل يجب عليه حفظه? فإن قلتم: إن ذلك واجب فهذا تكليف شطط يؤدي إلى أن يصير الإنسان مسخراً لغيره طول عمره? وإن قلتم، لا يجب فلم يحب الاحتساب على من يغصب مال غيره وليس له سبب سوى مراعاة مال الغير? فنقول: هذا بحث دقيق غامض. والقول الوجيز فيه أن نقول: مهما قدر على حفظه من الضياع من غير أن يناله تعب في بدنه أو خسران في ماله أو نقصان جاهه وجب عليه ذلك، فذلك القدر واجب في حقوق المسلم بل هو أقل درجات الحقوق، والأدلة الموجبة لحقوق المسلمين كثيرة وهذا أقل درجاتها وهو أولى بالإيجاب من رد السلام، فإن الأذى في هذا أكثر من الأذى في ترك رد السلام، بل لا خلاف في أن مال الإنسان إذا كان يضيع بظلم ظالم وكان عند الشهادة لو تكلم بها لرجع الق إليه وجب عليه ذلك وعصى بكتمان الشهادة ففي معنى ترك الشهادة ترك كل دفع لا ضرر على الدافع فيه، فأما إن كان عليه تعب أو ضرر في مال أو جاه لم يلزمه السعي في ذلك ولكن إذا كان لا يتعب بتنبيه صاحب الزرع من نوم أو بإعلامه يلزمه، فإهمال تعريفه وتنبيهه السعي في ذلك ولكن إذا كان لا يتعب بتنبيه صاحب الزرع من نوم أو بإعلامه يلزمه، فإهمال تعريفه وتنبيهه كإهماله تعريف القاضي بالشهادة، وذلك لا رخصة فيه، ولا يمكن أن يراعي فيه الأقل والأكثر حتى يقال إن كان لا يضيع من منفعته في مدة اشتغاله بإخراج البهائم إلا قدر درهم مثلاً وصاحب الزرع يفوته مال كثير فيترجح جانبه لأن الدرهم الذي له هو يستحق حفظه كما يستحق صاحب الألف حفظ الألف ولا سبيل للمصير إلا ذلك، فأما إذا كان فوات المال بطريق هو معصية كالغصب أو قتل عبد مملوك للغير، فهذا يجب المنع منه وإن كان فيه تعب ما، لأن المقصود حق الشرع، والغرض دفع المعصية، وعلى الإنسان أن يتعب نفسه في دفع المعاصي كما عليه أن يتعب نفسه في ترك المعاصي. والمعاصي كلها في تركها تعب وإنما الطاعة كلها ترجع إلى مخالفة النفس وهي غاية التعب. ثم لا يلزمه احتمال كل ضرر بل التفصيل فيه كما ذكرناه من درجات المحذورات التي يخافها المحتسب.

وقد اختلف الفقهاء في مسئلتين تقربان من غرضنا، إحداهما: أن الالتقاط هل هو واجب واللقطة ضائعة? والملتقط مانع من الضياع وساع في الحفظ? والحق فيه عندنا أن يفصل ويقال: إن كانت اللقطة في موضع لو تركها فيه لم تضع بل يلتقطها من يعرفها، أو تترك كما لو كان في مسجد أو رباط يتعين من يدخله وكلهم أمناء فلا يلزمه الالتقاط، وإن كانت في مضيعة، نظر، فإن كان عليه تعب في حفظها كما لو كنت بهيمة وتحتاج إلى علف واصطبل فلا يلزمه ذلك؛ لأنه إنما يجب الالتقاط لحق المالك. وحقه بسبب كونه إنساناً محترماً، والملتقط أيضاً إنسان وله حق في أن لا يتعب لأجل غيره كما لا يتعب غيره لأجله. فإن كانت ذهباً أو ثوباً أو شيئاً لا ضرر عليه فيه إلا مجرد تعب التعريف فهذا ينبغي أن يكون في محل الوجهين. فقائل يقول: التعريف والقيام بشرطه فيه تعب فلا سبيل إلى إلزامه ذلك إلا أن يتبرع فيلتزم طبقاً للثواب. وقائل يقول: إن هذا القدر من التعب مستصغر بالإضافة إلى مراعاة حقوق المسلمين؛ فينزل ها منزلة تعب الشاهد في حضور مجلس الحكم فإنه لا يلزمه السفر إلى بلدة أخرى إلا أن يتبرع به، فإذا كان مجلس القاضي في جواره لزمه الحضور وكان التعب بهذه الخطوات لا يعد تعباً في غرض إقامة الشهادة وأداء الأمانة، وإن كان في الطرف الآخر م البلد وأحوج إلى الحضور في الهاجرة وشدة الحر فهذا قد يقع في محل الاجتهاد والنظر، فإن الضرر الذي ينال الساعي في حفظ حق الغير له طرف في القلة لا يشك في أنه لا يبالي به، وطرف في الكثرة لا يشك في أنه لا يلزم احتماله، ووسط يتجاذبه الطرفان ويكون أبداً في محل الشبهة والنظر، وهي من الشبهات المزمنة التي ليس في مقدور البشر إزالتها؛ إذ لا علة تفرق بين أجزائها المتقاربة، ولكن المتقي ينظر فيها لنفسه ويدع ما يريبه إلى ما لا يريبه، فهذا نهاية الكشف عن هذا الأصل.

الركن الرابع

نفس الاحتساب

وله درجات وآداب: أما الدرجات فأولها التعرف، ثم التعريف، ثم النهي، ثم الوعظ والنصح، ثم السب والتعنيف، ثم التغيير باليد، ثم التهديد بالضرب، ثم إيقاع الضرب وتحقيقه، ثم شهر السلاح، ثم الاستظهار فيه بالأعوان وجمع الجنود.

أما الدرجة الأولى: وهي التعرف؛ ونعني طلب المعرفة بجريان المنكر وذلك منهى عنه - وهو التجسس الذي ذكرناه - فلا ينبغي أن يسترق السمع على دار غيره ليسمع صوت الأوتار، ولا أن يستنشق ليدرك رائحة الخمر، ولا أن يمس ما في ثوبه ليعرف شكل المزمار، ولا أن يستخبر من جيرانه ليخبروه بما يجري في داره. نعم لو أخبره ععدلان ابتداء من غير استخبار بأن فلاناً يشرب الخمر في داره أو بأن في داره خمراً أعده للشرب، فله إذ ذاك أن يدخل داره ولا يلزم الاستئذان، ويكون تخطى ملكه بالدخول للتوصل إلى دفع المنكر ككسر رأسه بالضرب للمنع مهما احتاج إليه. وإن أخبره عدلان أو عدل واحد - وبالجملة كل من تقبل روايته لا شهادته - ففي جواز الهجوم على داره بقولهم، فيه نظر واحتمال، والأولى أن يمتنع لأن له حقاً في أن لا يتخطى داره بغير إذنه، ولا يسقط حق المسلم عما ثبت عليه حقه إلا بشاهدين؛ فهذا أولى ما يجعل مرداً فيه. وقد قيل إنه كان نقش خاتم لقمان: الستر لما عاينت أحسن من إذاعة ما ظننت.

الدرجة الثانية: التعريف، فإن المنكر قد يقدم عليه المقدم بجهله وإذا عرف أنه منكر تركه، كالسوادي يصلي ولا يحسن الركوع والسجود، فيعلم أن ذلك لجهله بأن هذه ليست بصلاة ولو رضي بأن لا يكون مصلياً لترك أصل الصلاة، فيجب تعريفه باللطف من غير عنف: وذلك لأن ضمن التعريف نسبة إلى الجهل والحمق، والتجهيل إيذاء وقلما يرضى الإنسان بأن ينسب إلى الجهل بالأمور لا سيما بالشرع. ولذلك ترى الذي يغلب عليه الغضب كيف يغضب إذا نبه على الخطأ والجهل? وكيف يجتهد في مجاحدة الحق بعد معرفته خيفة من أن تنكشف عورة جهله? والطباع أحرص على ستر عورة الجهل منها على ستر العورة الحقيقية؛ لأن الجهل قبح في صورة النفس وسواد

في وجهه، وصاحبه ملوم عليه، وقبح السوأتين يرجع إلى صورة البدن، والنفس أشرف من البدن وقبحها أشد من قبح البدن. ثم هو غير ملوم عليه لأنه خلقة لم يدخل تحت اختياره حصوله، ولا في اختياره إزالته وتحسينه. والجهل قبح يمكن إزالته وتبديله بحسن العلم، فلذلك يعظم تألم الإنسان بظهور جهله، ويعظم ابتهاجه في نفسه بعلمه ثم لذته عند ظهور جمال علمه لغيره. وإذا كان التعريف كشفاً للعورة مؤذياً للقلب فلا بد وأن يعالج دفع أذاه بلطف الرفق فنقول له: إن الإنسان لا يولد عالماً ولقد كنا أيضاً جاهلين بأمور الصلاة فعلمنا العلماء، ولعل قربتك خالية عن أهل العلم أو عالمها مقصر في شرح الصلاة وإيضاحها، إنما شرط الصلاة الطمأنينة في الركوع والسجود. وهكذا يتلطف به ليحصل التعريف من غير إيذاء؛ فإن إيذاء المسلم حرام محذور كما أن تقريره على المنكر محذور، وليس من العقلاء من يغسل الدم بالدم أو بالبول، ومن اجتنب محذور السكوت على المنكر واستبدل عنه محذور الإيذاء للمسلم مع الاستغناء عنه فقد غسل الدم بالبول علي بالتحقيق. وأما إذا وقفت على خطأ في غير أمر الدين فلا ينبغي أن ترده عليه فإنه يستفيد منك علماً ويصير لك عدواً، إلا إذا علمت أنه يغتنم العلم وذلك عزيز جداً.

الدرجة الثالثة: النهي بالوعظ والنصح والتخويف بالله تعالى؛ وذلك فيمن يقدم على الأمر وهو عالم بكونه منكراً، أو فيمن أصر عليه بعد أن عرف كونه منكراً، كالذي يواظب على الشرب أو على الظلم أو على اغتياب المسلمين أو ما يجري مجراه، فينبغي أن يوعظ ويخوف بالله تعالى وتورد عليه الأخبار الواردة بالوعيد في ذلك وتحكى له سير السلف وعبادة المتقين؛ وكل ذلك بشفقة ولطف من غير عنف وغضب، بل ينظر إليه نظر المترحم عليه ويرى إقدامه على المعصية مصيبة على نفسه إذ المسلمون كنفس واحدة، وههنا آفة عظيمة ينبغي أن يتوقاها فإنها مهلكة، وهي أن العالم يرى - عند التعريف - عز نفسه بالعلم وذل غيره بالجهل؛ فربما يقصد بالتعريف الإدلال وإظهار التمييز بشرف العلم وإذلال صاحبه بالنسبة إلى خسة الجهل. فإن كان الباعث هذا فهذا المنكر أقبح في نفسه من المنكر الذي يعترض عليه? ومثال هذا المحتسب مثال من يخلص غيره من النار بإحراق نفسه وهو غاية في الجهل. وهذه مذلة عظيمة وغائلة هائلة وغرور للشيطان يتدلى بحبله كل إنسان إلا من عرفه الله عيوب نفسه وفتح بصيرته بنور هدايته، فإن في الاحتكام على الغير لذة للنفس عظيمة من وجهين، أحدهما: من جهة دالة العلم، والآخر: من جهة دالة الاحتكام والسلطنة. وذلك يرجع إلى الرياء وطلب الجاه، وهو الشهوة الخفية الداعية إلى الشرك أو باحتساب غيره أحب إليه من امتناعه باحتسابه. فإن كانت الحسبة شاقة عليه ثقيلة على نفسه وهو يود أن يكفى بغيره فليحتسب فإن باعثه هو الدين، وإن كان اتعاظ ذلك العاصي بوعظه وانزجاره بزجره أحب إليه من اتعاظه أولاً على نفسه. وعند هذا يقال له ما قيل لعيسى عليه السلام: يا ابن مريم عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإلا فاستحي مني. وقيل لداود الطائي رحمه الله: أرأيت رجلاً دخل على هؤلاء الأمراء فأمخرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر? فقال أخاف عليه السوط، قال: إنه يقوى عليه، قال: أخاف عليه السيف، قال: إنه يقوى عليه، قال: أخاف عليه الداء الدفين وهو العجب.

الدرجة الرابعة: السب والتعنيف بالقول الغليظ الخشن، وذلك يعدل إليه عند العجز عن المنع باللطف وظهور مبادئ الإصرار والاستهزاء بالوعظ والنصح، وذلك مثل قول إبراهيم عليه السلام "أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون" ولسنا نعني بالسب والفحش بما فقيه نسبة إلى الزنا ومقدماته، ولا الكذب بل أن يخاطبه بما فيه مما لا يعد من جملة الفحش، كقوله: يا فاسق يا أحمق يا جاهل ألا تخاف الله، وكقوله: يا سوادى يا غبي وما يجري هذا المجرى. فإن كل فاسق فهو أحمق وجاهل، ولولا حمقه لما عصى الله تعالى بل كل من ليس بكيس فهو أحمق. والكيس من شهد له رسول الله ﷺ بالكياسة حيث قال: "الكيس من دان نفسه وعمل ملا بعد الموت. والأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله".

ولهذه الرتبة أدبان؛ أحدهما: أن لا يقدم عليها إلا عند الضرورة والعجز عن اللطف. والثاني: أن لا ينطق خطابه بهذه الكلمات الزاجرة ليست تزجره فلا ينبغي أن يطلقه. بل يقتصر على إظهار الغضب والاستحقار له والازدراء بمحله لأجل معصيته. وإن علم أنه لو تكلم ضرب ولو اكفهر وأظهر الكراهة بوجهه لم يضرب لزمه ولم يكفه الإنكار بالقلب، بل يلزمه أن يقطب وجهه ويظهر الإنكار له.

الدرجة الخامسة: التغيير باليد؛ وذلك ككسر الملاهي وإراقة الخمر وخلع الحرير من رأسه وعن بدنه ومنعه من الجلوس عليه ودفعه عن الجلوس على مال الغير وإخراجه من الدار المغصوبة بالجر برجله وإخراجه من المسجد إذا كان جالساً وهو جنب وما يجري مجراه، ويتصور ذلك في بعض المعاصي دون بعض.

فأما معاصي اللسان والقلب فلا يقدر على مباشرة تغييرها، وكذلك كل معصية تقتصر على نفس العاصي وجوارحه الباطنة.

وفي هذه الدرجة أدبان، أحدهما: أن لا يباشر بيده التغيير ما لم يعجز عن تكليف المحتسب عليه ذلك، فإذا أمكنه أن يكلفه المشي في الخروج عن الأرض المغصوبة والمسجد فلا ينبغي أن يدفعه أو يجره، وإذا قدر على أن يكفه إراقة الخمر وكسر الملاهي وحل درور ثوب الحرير فلا ينبغي أن يباشر ذلك بنفسه، فإن في الوقت الوقوف على حد الكسر نوع عسر، فإذا لم يتعاط بنفسه ذلك كفى الاجتهاد فيه وتولاه من لا حجر عليه في فعله.

الثاني: أن يقتصر في طريق التغيير على القدر المحتاج إليه، وهو أن لا يأخذ بلحيته في الإخراج، ولا برجله إذا قدر على جره بيده؛ فإن زيادة الأذى فيه مستغنى عنه، وأن لا يمزق ثوب الحرير بل يحل دروزه فقط، ولا يحرق الملاهي والصليب الذي أظهره النصارى بل يبطل صلاحيتها للفساد بالكسر. وحد الكسر أن يصير إلى حالة تحتاج في استئناف إصلاحه إلى تعب يساوي تعب الاستئناف من الخشب ابتداء، وفي إراقة الخمور يتوقى كسر الأواني إن وجد إليه سبيلاً، فإن لم يقدر عليها إلا بأن يرمي ظروفها بحجر فله ذلك، وسقطت قيمة الظرف وتقومه بسبب الخمر إذ صار حائلاً بينه وبين الوصول إلى إراقة الخمر، ولو ستر الخمر ببدنه لكنا نقصد بدنه بالجرح والضرب لنتوصل إلى إراقة الخمر فإذن لا تزيد حرمة ملكه في الظروف على حرمة نفسه. ولو كان الخمر في قوارير ضيقة الرءوس ولو اشتغل بإراقتها طال الزمان وأدركه الفساق ومنعوه فله كسرها، فهذا عذر. وإن كان لا يحذر ظفر الفساق به ومنعهم ولكن كان يضيع في زمانه وتتعطل عليه أشغاله فله أ، يكسرها فليس عليه أن يضيع منفعة بدنه وغرضه من أشغاله لأجل ظرف الخمر، وحيث كانت الإراقة متيسرة بلا كسر فكسره لزمه الضمان.

فإن قلت: فهلا جاز الكسر لأجل الزجر? وهلا جاز الجر بالرجل في الإخراج عن الأرض المغصوبة ليكون ذلك أبلغ في الزجر? فاعلم أن الزجر إنما يكون عن المستقبل، والعقوبة تكون على الماضي، والدفع على الحاضر الراهن. وليس إلى آحاد الرعية إلا الدفع وهو إعدام المنكر، فما زاد على قدر الإعدام فهو إما عقوبة على جريمة سابقة أو زجر عن لاحق. وذلك إلى الولاة لا إلى الرعية. نعم الوالي له أن يفعل ذلك إذا رأى المصلحة فيه وأقول: له أن يأمر بكسر الظروف التي فيها الخمور زجراً. وقد فعل ذلك في زمن رسول الله ﷺ تأكيداً للزجر ولم يثبت نسخه ولكن كانت الحاجة إلى الزجر والفطام شديدة. فإذا رأى الوالي باجتهاده مثل الحاجة جاز له مثل ذلك. وإذا كان هذا منوطاً بنوع اجتهاد دقيق لم يكن ذلك لآحاد الرعية.

فإن قلت: فليجز للسلطان زجل الناس عن المعاصي بإتلاف أموالهم وتخريب دورهم التي فيها يشربون ويعصون وإحراق أموالهم التي بها يتوصلون إلى المعاصي? فاعلم أن ذلك لو ورد الشرع به لم يكن خارجاً عن سنن المصالح ولكنا لا نبتدع المصالح بل نتبع فيها. وكسر ظروف الخمر قد ثبت عند شدة الحاجة. وتركه بعد ذلك لعدم شدة الحاجة لا يكون نسخاً بل الحكم يزول بزوال العلة ويعود بعودها. وإنما جوزنا ذلك للإمام بحكم الإتباع ومنعنا آحاد الرعية منه لخفاء وجه الاجتهاد فيه. بل نقول لو أريقت الخمور أولاً فلا يجوز كسر الأواني بعدها وإنما جاز كسرها تبعاً للخمر. فإذا خلت عنها فهو إتلاف مال إلا أن تكون ضارية بالخمر لا تصلح إلا لها.

فكان الفعل المنقول عن العصر الأول كان مقروناً بمعنيين؛ أحدهما: شدة الحاجة إلى الزجر، والآخر: تبعية الظروف للخمر التي هي مشغولة بها. وهما معنيان مؤثران لا سبيل إلى حذفهما. ومعنى ثالث: وهو صدوره عن رأي صاحب الأمر لعلمه بشدة الحاجة إلى الزجر وهو أيضاً مؤثر فلا سبيل إلى إلغائه. فهذه تصرفات دقيقة فقهية يحتاج المحتسب لا محالة إلى معرفتها.

الدرجة السادسة: التهديد والتخويف؛ كقوله دع عنك هذا أولاً كسرن رأسك أو لأضربن رقبتك أو لآمرن بك وما أشبهه، وهذا ينبغي أن يقدم على تحقيق الضرب إذا أمكن تقديمه. والأدب في هذه الرتبة أن لا يهدده بوعيد لا يجوز له تحقيقه، كقوله لأنهين دارك أو لأضربن ولدك أو لأسببن زوجتك وما يجري مجراه، بل ذلك إن قاله عن عزم فهو حرام، وإن قاله من غير عزم فهو كذب. نعم إذا تعرض لوعيده بالضرب والاستخفاف فله العزم عليه إلى حد معلوم يقتضيه الحال، وله أن يزيد في الوعيد على ما هو في عزمه الباطن إذا علم أن ذلك يقمعه ويردعه. وليس ذلك من الكذب المحذور بل المبالغة في مثل ذلك معتادة وهو معنى مبالغة الرجل في إصلاحه بين شخصين وتأليفه بين الضرتين، وذلك مما قد رخص فيه للحاجة وهذا في معناه، فإن القصد به إصلاح ذلك الشخص. وإلى هذا المعنى بما لا يفعل، وهذا غير مرضي عندنا فإن الكلام القديم لا يتطرق إليه الخلف وعداً كان أو وعيداً، وإنما يتصور هذا في حق العباد، وهو كذلك إذا لخلف في الوعيد ليس بحرام.

الدرجة السابعة: مباشرة الضرب باليد والرجل وغير ذلك مما ليس فيه شهر سلاح، وذلك جائز للآحاد بشرط الحق إلى الآداء بالحبس، فإن أصر المحبوس وعلم القاضي قدرته على أداء الحق وكونه معانداً فله أن يلزمه الأداء بالضرب على التجريج كما يحتاج إليه. وكذلك المحتسب يراعي التدريج فإن احتاج إلى شهر سلاح و كان يقدر على دفع المنكر بشهر السلاح وبالجرح فله أن يتعاطى ذلك ما لم تثر فتنة. كما لو قبض فاسق مثلاً على امرأة وكان يضرب بمزمار معه وبينه وبين المحتسب نهر حائل أو جدار مانع فيأخذ قوسه ويقول له: خل عنها أو لأرمينك. إن لم تخل عنها فله أن يرمى وينبغي أن لا يقصد المقتل بل الساق والفخذ وما أشبهه ويراعي فيه التدريج. وكذلك يسل سيفه ويقول اترك هذا المنكر أو لأضربنك. فكل ذلك دفع المنكر ودفعه واجب بكل ممكن. ولا فرق في ذلك بين ما يتعلق بخاص حق الله وما يتعلق بالآدميين.

وقالت المعتزلة: ما لا يتعلق بالآدميين فلا حسبة فيه إلا بالكلام أو بالضرب ولكن للإمام لا للآحاد.

الدرجة الثامنة: أن لا يقدر عليه بنفسه ويحتاج فيه إلى أعوان يشهرون السلاح. وربما يستمد الفاسق أيضاً بأعوانه ويؤدي ذلك إلى أن يتقابل الصفان ويتقاتلا. فهذا قد ظهر الختلاف في احتياجه إلى إذن الإمام. فقال قائلون: لا يستقل آحاد الرعية بذلك لأنه يؤدي إلى تحريك الفتن وهيجان الفساد وخراب البلاد.

وقال آخرون: لا يحتاج إلى الإذن - وهو الأقيس - لأنه إذا جاز للآحاد الأمر بالمعروف وأوائل درجاته تجر إلى ثوان والثواني إلى ثوالث. وقد ينتهي لا محالة إلى التضارب. والتضارب يدعو إلى التعاون فلا ينبغي أن يبالي بلوازم الأمر بالمعروف. ومنتهاه تجنيد الجنود في رضا الله ودفع معاصيه. ونحن نجوز للآحاد من الغزاة أن يجتمعوا ويقاتلوا من أرادوا من فرق الكفار قمعاً لأهل الكفر. فكذلك قمع أهل الفساد جائز لأن الكافر لا بأس بقتله والمسلم إن قتل فهو شهيد. فكذلك الفاسق المناضل عن فسقه لا بأس بقتله. والمحتسب المحق إن قتل مظلوماً فهو شهيد. وعلى الجملة فانتهاء الأمر إلى هذا من النوادر في الحسبة. فلا يغير به قانون القياس. بل يقال: كل من قدر على دفع منكر فله أن يدفع ذلك بيده وبسلاحه وبنفسه وبأعوانه. فالمسألة إذن محتملة - كما ذكرناه - فهذه درجات الحسبة فلنذكر آدابها والله الموفق.

باب آداب المحتسب قد ذكرنا تفاصيل الآداب في آحاد الدرجات. ونذكر الآن جملها ومصادرها فنقول جميع آداب المحتسب مصدرها ثلاث صفات في المحتسب: العلم. والورع. وحسن الخلق.

أما العلم: فليعلم مواقع الحسبة وحدودها ومجاريها وموانعها ليقتصر على حد الشرع فيه.

والورع: ليردعه عن مخالفة معلومة فما كل من علم عمل بعلمه. بل ربما يعلم أنه مسرف في الحسبة وزائد على الحد المأذون فيه شرعاً ولكن يحمله عليه غرض من الأغراض. وليكن كلامه ووعظه مقبولاً فإن الفاسق يهزأ به إذا احتسب ويورث ذلك جراءة عليه.

وأما حسن الخلق: فليتمكن به من اللطف والرفق وهو أصل الباب وأسبابه. والعلم والورع لا يكفيان فيه. فإن الغضب إذا هاج لم يكف مجرد العلم والورع في قمعه ما لم يكن في الطبع قبوله بحسن الخلق. وعلى التحقيق فلا يتم الورع إلا مع حسن الخلق والقدرة على ضبط الشهوة والغضب. وبه يصبر المحتسب على ما أصابه في دين الله. وإلا فإذا أصيب عرضه أو ماله أو نفسه بشتم أو ضرب نسي الحسبة وغفل عن دين الله واشتغل بنفسه. بل ربما يقدم عليه ابتداء لطلب الجاه والاسم.

فهذه الصفات الثلاث بها تصير الحسبة من القربات وبها تندفع المنكرات. وإن فقدت لم يندفع المنكر. بل ربما كانت الحسبة أيضاً منكرة لمجاوزة حد الشرع فيها ودل على هذه الآداب قول ﷺ "لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا رفيق فيما يأمر به رفيق فيما ينهى عنه حليم فيما يأمر به حليم فيما ينهى عنه فقيه فيما يأمر به فقيه فيما ينهى عنه" وهذا يدل على أنه لا يشترط أن يكون فقيهاً مطلقاً بل فيما يأمر به فقيه فيما ينهى عنه، وهذا يدل على أنه يدل على أنه لا يشترط أن يكون فقيهاً مطلقاً بل فيما يأمر به وينهي عنه وكذا الحم. قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: إذا كانت ممن يأمر بالمعروف فكن من آخذ الناس به وإلا هلكت وقد قيل: لا تلم المرء على فعله وأنت منسوب إلى مثله

من ذم شيئاً وأتى مثلـه فإنما يزرى على عقله

ولسنا نعني بهذا أن الأمر بالمعروف يصير ممنوعاً بالفسق ولكن يسقط أثره عن القلوب بظهور فسقه للناس. فقد روى عن أنس رضي الله عنه قال: قلنا يا رسول الله لا نأمر بالمعروف حتى نعمل به كله ولا ننهى عن المنكر حتى نجتنبه كله. فقال ﷺ "بل مروا بالمعروف وإن لم تعملوا به كله وانهوا عن المنكر وإن لم تجتنبوه كله" وأوصى بعض السلف بنيه فقال: إن أراد أحدكم أن يأمر بالمعروف فليوطن نفسه على الصبر وليثق بالثواب من الله فمن وثق بالثواب من الله لم يجد مس الأذى، فإذن من آداب الحسبة توطين النفس على الصبر. ولذلك قرن الله تعالى الصبر: بالأمر بالمعروف. فقال حاكياً عن لقمان: "يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك".

ومن الآداب تقليل العلائق حتى لا يكثر خوفه وقطع الطمع عن الخلائق حتى تزول عنه المداهنة فقد روي عن بعض المشايخ أنه كان له سنور وكان يأخذ من قصاب في جواره كل يوم شيئاً من الغدد لسنوره فرأى على القصاب منكراً، فدخل الدار أولاً وأخرج السنور، ثم جاء واحتسب على القصاب فقال له القصاب: لا أعطينك بعد هذا شيئاً لسنورك، فقال: ما احتسبت عليك إلا بعد إخراج السنور وقطع الطمع منك. وهو كما قال فمن لم يقطع الطمع من الخلق لم يقدر على الحسبة ومن طمع في أن تكون قلوب الناس عليه طيبة وألسنتهم بالثناء عليه مطلقة لم تتيسر له الحسبة. قال كعب الأحبار لأبي مسلم الخولاني: كيف منزلتك بين قومك? قال: حسنة، قال: إن التوارة تقول، إن الرجل إذا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ساءت منزلته عند قومه. فقال أبو مسلم: صدقت التوراة وكذب أبو مسلم.

ويدل على وجوب الرفق ما استدل به المأمون إذ وعظه واعظ وعنف له في القول فقال: يا رجل ارفق فقد بعثت الله من هو خير منك إلى من هو شر مني وأمره بالرفق فقال تعالى: "فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى" فليكن اقتداء المحتسب في الرفق بالأنبياء صلوات الله عليهم. فقد روى أبو إمامة: أن غلاماً شاباً أتى النبي ﷺ فقال: يا نبي الله تأذن لي في الزنا? فصاح الناس به، فقال النبي ﷺ "قربوه أدن" فدنا حتى جلس بين يديه فقال النبي عليه الصلاة والسلام "أتحبه لأمك?" فقال: لا جعلني الله فداك، قال: "كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم أتحبه لابنتك?" قال: لا جعلني الله فداك، قال "كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم أتحبه لأختك?" وزاد ابن عوف حتى ذكر العمة والخالة وهو يقول في كل واحد: لا، جعلني الله فداك. وهو ﷺ يقول: "كذلك الناس لا يحبونه" وقالا جميعاً في حديثهما أعني ابن عوف والراوي الآخر فوضع رسول الله ﷺ يده على صدره وقال: "اللهم طهر قلبه واغفر ذنبه وحصن فرجه فلم يكن شيء أبغض إليه منه" يعني من الزنا.

وقيل للفضيل بن عياض رحمه الله: إن سفيان بن عيينة قبل جوائز السلطان فقال الفضيل: ما أخذ منهم إلا دون قه، ثم خلا به وعذله ووبخه فقال سفيان: يا أبا علي إن لم نكن من الصالحين فإنا لنحب الصالحين. وقال حماد ابن سلمة: إن صلة بن أشيم مر عليه رجل قد أسبل إزاره فهم أصحابه أن يأخذوه بشدة فقال: دعوني أنا أكفيكم، فقال: يا ابن أخي إن لي إليك حاجة قال: وما حاجتك يا عم? قال: أحب أن ترفع من إزارك. فقال: نعم وكرامة، فرفع إزاره فقال لأصحابه: لو أخذتموه بشدة لقال: لا ولا كرامة وشتمكم. وقال محمد بن زكريا الغلابي: شهدت عبد الله بن محمد بن عائشة ليلة وقد خرج من المسجد بعد المغرب يريد منزله، وإذا في طريقه غلام من قريش سكران وقد قبض على امرأة فجذبها فاستغاثت فاجتمع الناس عليه يضربونه، فنظر إليه ابن عائشة فعرفه فقال للناس: تنحوا عن ابن أخي، ثم قال: إلي يا ابن أخي؛ فاستحي الغلام فجاء إليه فضمه إلى نفسه، ثم قال له: امض معي، فمضى معه حتى صار إلى منزله فأدخله الدار وقال لبعض غلمانه: بيته عندك فإذا أفاق من سكره فأعلمه بما كان منه ولا تدعه ينصرف حتى تأتيني به فلما أفاق ذكر له ما جرى فاستحيا منه وبكى وهم بالانصراف؛ فقال الغلام: قد أمر أن تأتيه؛ فأدخله عليه فقال له. أما استحييت لنفسك? أما استحييت لشرفك? أما ترى من ولدك? فاتق الله وانزع عما أنت فيه فبكى الغلام منكساً رأسه ثم رفع رأسه وقال: عاهدت الله تعالى عهداً يسألني عنه يوم القيامة أني لا أعود لشرب النبيذ ولا لشيء مما كنت فيه وأنا تائب، فقال: ادن مني، فقبل رأسه وقال أحسنت يا بني فكان عن الغلام بعد ذلك يلزمه ويكتب عنه الحديث: وكان ذلك ببركة رفقه ثم قال: إن الناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويكون معروفهم منكراً فعليكم بالرفق في جميع أموركم تنالون به ما تطلبون. وعن الفتح بن شخرف قال: تعلق رجل بامرأة وتعرض لها وبيده سكين لا يدنو منه أحد إلا عقره، وكان الرجل شديد البدن؛ فبينا الناس كذلك والمرأة تصيح في يده إذ مر بشر بن الحارث فدنا منه وحكم كتفه بكتف الرجل فوقع الرجل على الأرض؛ ومشى بشر فدنوا من الرجل وهو يترشح عرقاً كثيراً ومضت المرأة لحالها فسألوه ما حالك? فقال: ما أدري! ولكن حاكني شيخ وقال لي: إن الله عز وجل ناظر إليك وإلى ما تعمل؛ فضعفت لقوله قدما وهبته هيبة شديدة ولا أدري من ذلك الرجل? فقالوا له: هو بشر بن الحارث، فقال: وا سوأتاه كيف ينظر إلي بعد اليوم? وحم الرجل من يومه وماتت يوم السابع، فكذلك كانت عادة أهل الدين في الحسبة. وقد نقلنا فيها آثاراً وأخباراً في باب البغض في الله والحب في الله من كتاب آداب الصحبة فلا نطول بالإعادة. فهذا تمام النظر في درجات الحسبة وآدابها والله الموفق بكرمه والحمد لله على جميع نعمه.