→ الباب الثاني | إحياء علوم الدين كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - الباب الثالث المؤلف: أبو حامد الغزالي |
الباب الرابع ← |
فنشير إلى جمل منها ليستدل بها على أمثالها إذ لا مطمع في حصرها واستقصائها
فمن ذلك منكرات المساجد
اعلم أن المنكرات تنقسم إلى مكروهة وإلى محظورة، فإذا قلنا: هذا منكر مكروه. فاعلم أ، المنع منه مستحب والسكوت عيه مكروه وليس بحرام، إلا إذا لم يعلم الفاعل أنه مكروه فيجب ذكره له لأن الكراهة حكم في الشرع يجب تبليغه إلى من لا يعرفه. وإذا قلنا منكر محظور، أو قلنا منكر مطلقاً، فنريد به المحظور ويكون السكوت عليه مع القدرة محظوراً.
فمما يشاهد كثيراً في المساجد إساءة الصلاة بترك الطمأنينة في الركوع والسجود وهو منكر مبطل للصلاة بنص الحديث فيجب النهير عنه إلا عند الحنفي الذي يعتقد أن ذلك لا يمنع صحة الصلاة، إذ لا ينفع النهي معه. ومن رأى مسيئاً في صلاته فسكت عليه فهو شريكه. هكذا ورد به الأثر. وفي الخبر ما يدل عليه، إذ ورد في الغيبة أن المستمع شريك القائل وكذلك كل ما يقدح في صحة الصلاة من نجاسة على ثوبه لا يراها، أو انحراف عن القبلة بسبب ظلام أو عمى فكل ذلك تجب الحسبة فيه.
ومنها قراءة القرآن باللحن يجب النهي عنه ويجب تلقين الصحيح. فإن كان المعتكف في المسجد يضيع أكثر أوقاته في أمثال ذلك ويشتغل به عن التطوع والذكر فليشتغل به، فإن هذا أفضل من ذكره وتطوعه، لأن هذا فرض وهي قربة تتعدى فائدتها، فهي أفضل من نافلة تقتصر عليه فائدتها. وإن كان ذلك يمنعه عن الوراقة مثلاً أو عن الكسب الذي هو احتاج إلى الكسب لقوت يومه فهو عذر له فيسقط الوجوب عنه لعجزه والذي يكثر اللحن في القرآن إن كان قادراً على التعلم فليمتنع من القراءة قبل التعلم فإنه عاص به، وإن كان لا يطاوعه اللسان فإن كان أكثر ما يقرؤه لحناً فليتركه وليجتهد في تعلم الفاتحة وتصحيحها، وإن كان الأكثر صحيحاً وليس يقدر على التسوية فلا بأس له أن يقرأ، ولكن ينبغي أن يخفض به الصوت حتى لا يسمع غيره. ولمنعه سراً منه أيضاً وجه ولكن إذا كان ذلك منتهى قدرته وكان له أنس بالقراءة وحرص عليها فلست أرى به بأسا والله أعلم.
ومنها تراسل المؤذنين في الآذان وتطويلهم بمد كلماته وانحرافهم عن صوب القبلة بجميع الصدر في الحيعلتين، أو انفراد كل واحد منهم بأذان ولكن من غير توقف إلى انقطاع أذان الآخر، بحيث يضطرب على الحاضرين جواب الأذان لتداخل الأصوات. فكل ذلك منكرات مكروهة يجب تعريفها. فإن صدرت عن معرفة فيستحب المنع منها والحسبة فيها. وكذلك إذا كان للمسجد مؤذن واحد وهو يؤذن قبل الصبح فينبغي أن يمنع من الأذان بعد الصبح، فذلك مشوش للصوم والصلاة على الناس إلا إذا عرف أنه يؤذن قبل الصبح حتى لا يعول على أذانه في صلاة وترك سحور. أو كان معه مؤذن آخر معروف الصوت يؤذن مع الصبح.
ومن المكروهات أيضاً تكثير الأذان مرة بعد أخرى بعد طلوع الفجر في مسجد واحد في أوقات متعاقبة متقاربة، إما من واحد أو جماعة، فإنه لا فائدة فيه، إذا لم يبق في المسجد نائم ولم يكن الصوت مما يخرج عن المسجد حتى ينبه غيره فكل ذلك من المكروهات المخالفة لسنة الصحابة والسلف.
ومنها أن يكون الخطيب لابساً لثوب أسود يغلب عليه الإبريسم، أو ممسكاً لسيف مذهب فهو فاسق والإنكار عليه واجب، وأما مجرد السواد فليس بمكروه لكنه ليس بمحبوب إذ أحب الثياب إلى الله تعالى البيض. ومن قال إنه مكروه وبدعة أراد به أنه لم يكن معهوداً في العصر الأول، ولكن إذا لم يرد فيه نهي فلا ينبغي أن يسمى بدعة ومكروهاً ولكنه ترك للأحب.
ومنها كلام القصاص والوعاظ الذين يمزجون بكلامهم البدعة. فالقاص إن كان يكذب في أخباره فهو فاسق والإنكار عليه واجب، وكذا الواعظ المبتدع يجب منعه ولا يجوز حضور مجلسه إلا على قصد إظهار الرد عليه؛ إما للكافة إن قدر عليه أو لبعض الحاضرين حواليه فإن لم يقدر فلا يجوز سماع البدع. قال الله تعالى لنبيه: "فاعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره". ومهما كان كلامه مائلاً إلى الإرجاء وتجرئة الناس على المعاصي، وكان الناس يزدادون بكلامه جراءة وبعفو الله وبرحمته وثوقاً يزيد بسببه رجاؤهم على خوفهم منكر، ويجب منعه عنه لأن فساد ذلك عظيم، بل لو رجح خوفهم على رجائهم فذلك أليق وأقرب بطباع الخلق فإنهم إلى الخوف أحوج وإنما العدل تعديل الخوف والرجاء كما قال عمر رضي الله عنه: لو نادى مناد؛ ليدخل الجنة كل الناس إلا رجلاً واحداً، لخفت أن أكون أنا ذلك الرجل. ومهما كان الواعظ شاباً متزيناً للنساء في ثيابه وهيئته كثير الأشعار والإشارات والحركات وقد حضر مجلسه النساء فهذا منكر يجب المنع منه، فإن الفساد فيه أكثر من الصلاح، ويتبين ذلك منه بقرائن أحواله. بل لا ينبغي أن يسلم الوعظ إلا لمن ظاهره الورع وهيئته السكينة والوقار وزيه زي الصالحين، وإلا فلا يزداد الناس به إلا تمادياً في الضلال، ويجب أن يضرب بين الرجال والنساء حائل يمنع من النظر فإن ذلك أيضاً مظنة الفساد، والعادات تشهد لهذه المنكرات، ويجب منع النساء من حضور المساجد للصلوات ومجالس الذكر إذا خيفت الفتنة بهن فقد منعتهن عائشة رضي الله عنها فقيل لها: إن رسول الله ﷺ ما منعهن من الجماعات، فقالت: لو علم رسول الله ﷺ ما أحدثن بعده لمنعهن وأما اجتياز المرأة في المسجد مستترة فلا تمنع منه إلا أن الأولى أن لا تتخذ المسجد مجازاً أصلاً. وقراءة القراء بين يدي الوعاظ مع التمديد والألحان على وجه يغير نظم القرآن، ويجاوز حد التنزيل منكر مكروه شديد الكراهة أنكره جماعة من السلف.
ومنها الحق يوم الجمعة لبيع الأدوية والأطعمة والتعويذات، وكقيام السؤال وقراءتهم القرآن وإنشادهم الأشعار وما يجري مجراه، فهذه الأشياء منها ما هو محرم لكونه تلبيساً وكذباً، كالكذابين من طرقية الأطباء وكأهل الشعبذة والتلبيسات وكذا أرباب التعويذات في الأغلب يتوصلون إلى بيعها بتلبيسات على الصبيان والسوادية فهذا حرام في المسجد وخارج المسجد ويجب المنع منه. بل كل بيع فيه كذب وتلبيس وإخفاء عيب على المشتري فهو حرام.
ومنها ما هو مباح خارج المسجد كالخياطة وبيع الأدوية والكتب والأطعمة، فهذا في المسجد أيضاً لا يحرم إلا بعارض وهو أن يضيق المحل على المصلين ويشوش عليهم صلاتهم، فإن لم يكن شيء من ذلك فليس بحرام والأولى تركه ولكن شرط إباحته أن يجري في أوقات نادرة وأيام معدودة، فإن اتخاذ المسجد دكاناً على الدوام حرم ذلك ومنع منه. فمن المباحات ما يباح بشرط القلة فإن كثر صار صغيرة. كما أن من الذنوب ما يكون صغيرة بشرط عدم الإصرار فإن كان القليل من هذا لو فتح بابه لخيف منه أن ينجر إلى الكثير فليمنع منه، وليكن هذا المنع إلى الوالي أو إلى القيم بمصالح المسجد من قبل الوالي لأنه لا يدرك ذلك بالاجتهاد، وليس للآحاد المنع مما هو مباح في نفسه لخوفه أن ذلك يكثر.
ومنها دخول المجانين والصبيان والسكارى في المسجد، ولا بأس بدخول الصبي المسجد إذا لم يعلب، ولا يحرم عليه اللعب في المسجد ولا السكوت على لعبه إلا إذا اتخذ المسجد ملعباً وصار ذلك معتاداً فيجب المنع منه، فهذا مما يحل قليله دون كثيره، ودليل حل قليله ما روي في الصحيحين "أن رسول الله ﷺ وقف لأجل عائشة رضي الله عنها حتى نظرت إلى الحبشة يزفنون ويلعبون بالدرق والحراب يوم العيد في المسجد"، ولا شك في أن الحبشة لو اتخذوا المسجد ملعباً لمنعوا منه، ولم ير ذلك على الندرة والقلة منكراً حتى نظر إليه، بل أمرهم به رسول الله ﷺ لتبصرهم عائشة تطييباً لقلبها إذ قال دونكم "يا بني أرفدة" كما نقلناه في كتاب السماع. وأما المجانين فلا بأس بدخولهم المسجد إلا أن يخشى تلويثهم له، أو شتمهم أو نطقهم مما هو فحش، أو تعاطيهم لما هو منكر في صورته ككشف العورة وغيره. وأما المجنون الهادئ الساكن الذي قد علم بالعادة سكونه وسكوته فلا يجب إخراجه من المسجد. والسكران في معنى المجنون فإن خيف منه القذف - أعني القيء - أو الإيذاء باللسان وجب إخراجه. وكذا لو كان مضطرب العقل فإنه يخاف ذلك منه، وإن كان قد شرب ولم يسكر والرائحة منه تفوح فهو منكر مكروه شديد الكراهة. وكيف لا ومن أكل الثوم والبصل، فقد نهاه رسول الله ﷺ عن حضور المساجد? ولكن يحمل ذلك على الكراهة والأمر في الخمر أشد.
فإن قال قائل: ينبغي أن يضرب السكران ويخرج من المسجد زجراً قلنا: لا، بل ينبغي القعود في المسجد ويدعى إليه ويؤمر بترك الشرب مهما كان في الحال عاقلاً، فأما ضربه للزجر فليس ذلك إلى الآحاد بل هو إلى الولاة وذلك عند إقراره أو شهادة شاهدين، فأما لمجرد الرائحة فلا. نعم إذا كان يمشي بين الناس متمايلاً بحيث يعرف سكره فيجوز ضربه في المسجد وغير المسجد منعاً له عن إظهار أثر السكر، فإن إظهار أثر الفاحشة فاحشة والمعاصي يجب تركها، وبعد الفعل يجب سترها وستر آثارها، فإن كان مستتراً مخفياً لأثره فلا يجوز أن يتجسس لعيه. والرائحة قد تفوح من غير شرب. بالجلوس في موضع الخمر وبوصوله إلى الفم دون الابتلاع، فلا ينبغي أن يعول عليه.
منكرات الأسواق
من المنكرات المعتادة في الأسواق الكذب في المرابحة، وإخفاء العيب. فمن قال: اشتريت هذه السلعة مثلاً بعشرة وأربح فيها كذا وكان كاذباً فهو فاسق. وعلى من عرف ذلك أن يخبر المشتري بكذبه، فإن سكت مراعاة لقلب البائع كان شريكاً له في الخيانة وعصى بسكوته. وكذا إذا علم به عيباً فيلزمه أن ينبه المشتري عليه وإلا كان راضياً بضياع مال أخيه المسلم وهو حرام وكذا التفاوت في الذراع والمكيال والميزان يجب على كل من عرفه تغييره بنفسه أو رفعه إلى الوالي حتى يغيره.
ومنها ترك الإيجاب والقبول والاكتفاء بالمعاطاة، ولكن ذلك في محل الاجتهاد فلا ينكر إلا على من اعتقد وجوبه. وكذا في الشروط الفاسدة المعتادة بين الناس يجب الإنكار فيها فإنها مفسدة للعقود. وكذا في الربويات كلها وهي غالبة. وكذا سائر التصرفات الفاسدة.
ومنها بيع الملاهي وبيع أشكال الحيوانات المصورة في أيام العيد لأجل الصبيان، فتلك يجب كسرها والمنع من بيعها كالملاهي وكذلك بيع الأواني المتخذة من الذهب والفضة وكذلك بيع ثياب الحرير، وقلانس الذهب والحرير أعني التي لا تصلح إلا للرجال، أو يعلم بعادة البلد أنه لا يلبسه إلا لرجال، فكل ذلك منكر محظور وكذلك من يعتاد بيع الثياب المبتذلة المقصورة التي يلبس على الناس بقصارتها وابتذالها ويزعم أنها جديدة فهذا الفعل حرام والمنع منه واجب، وكذلك تلبيس انخراق الثياب بالرفو وما يؤدي إلى الالتباس، وكذلك جميع أنواع العقود المؤدية إلى التلبيسات وذلك يطول إحصاؤه. فليقس بما ذكرناه ما لم نذكره.
منكرات الشوارع
فمن المنكرات المعتادة فيها: وضع الاسطوانات، وبناء الدكات متصلة بالأبنية المملوكة. وغرس الأشجار، وإخراج الرواشن والأجنحة، ووضع الخشب وأحمال الحبوب والأطعمة على الطريق، فكل ذلك منكر ن كان يؤدي إلى تضييق الطرق واستضرار المارة وإن لم يؤد إلى ضرر أصلاً لسعة الطريق فلا يمنع منه نعم يجوز وضع الحطب وأحمال الأطعمة في الطريق في القدر الذي ينقل إلى البيوت، فإن ذلك يشترك في الحاجة إليه الكافة ولا يمكن المنع منه. وكذلك ربط الدواب على الطريق بحيث يضيق الطريق وينجس المجتازين منكر يجب المنع منه إلا بقدر حاجة النزول والركوب. وهذا لأن الشوارع مشتركة المنفعة وليس لأحد أن يختص بها إلا بقدر الحاجة والمرعى هو الحاجة التي ترد الشوارع لأجلها في العادة دون سائر الحاجات.
ومنها سوق الدواب وعليها الشوك بحيث يمزق ثياب الناس فذلك منكر إن أمكن شدها وضمها بحيث لا تمزق، أو أمكن العدول بها إلى موضع واسع، وإلا فلا منع إذ حاجة أهل البلد تمس إلى ذلك. نعم لا تترك ملقاة على الشوارع إلا بقدر مدة النقل. وكذلك تحميل الدواب من الأحمال ما لا تطيقه منكر يجب منع الملاك منه. وكذلك ذبح القصاب إذا كان يذبح في الطريق حذاء باب الحانوت ويلوث الطريق بالدم فإنه منكر يمنع منه، بل حقه أن يتخذ في دكانه مذبحاً فإن في ذلك تضييقاً بالطريق وإضراراً بالناس بسبب ترشيش النجاسة، وبسبب استقذار الطباع للقاذورات: وكذلك طرح القمامة على جواد الطرق، وتبديد قشور البطيخ. أو رش الماء بحيث يخشى منه التزلق والتعثر كل ذلك من المنكرات وكذلك إرسال الماء من الميازيب المخرجة من الحائط في الطريق الضيقة فإن ذلك ينجس الثياب. أو يضيق الطريق، فلا يمنع منه في الطرق الواسعة إذ العدول عنه ممكن فأما ترك مياه المطر والأوحال والثلوج في الطرق من غير كسح فذلك منكر، ولكن ليس يختص به شخص معين، إلا الثلج الذي يختص بطرحه على الطريق واحد، والماء الذي يجتمع على الطريق من ميزاب معني، فعلى صاحبه على الخصوص كسح الطريق، إن كان من المطر فذلك حسبة عامة فعلى الولاة تكليف الناس القيام بها، وليس للآحاد فيها إلا الوعظ فقط وكذلك إذا كان له كلب عقور على باب داره يؤذي الناس فيجب منعه منه، وإن كان لا يؤذي إلا بتنجيس الطريق وكان يمكن الاحتراز عن نجاسته لم يمنع منه، وإن كان يضيق الطريق ببسطه ذراعيه فيمنع منه، بل يمنع صاحبه من أن ينام على الطريق أو يقعد قعوداً يضيق الطريق، فكلبه أولى بالمنع.
منكرات الحمامات
منها الصورة التي تكون على باب الحمام أو داخل الحمام يجب إزالتها على كل من يدخلها إن قدر، فإن كان الموضع مرتفعاً لا تصل إليه يده فلا يجوز له الدخول إلا لضرورة فليعدل إلى حمام آخر. فإن مشاهدة المنكر غير جائزة ويكفيه أن يشوه وجهها ويبطل به صورتها ولا يمنع من صور الأشجار وسائر النقوش سوى صورة الحيوان.
ومنها كشف العورات والنظر إليها. ومن جملتها كشف الدلاك عن الفخذ وما تحت السرة لتنحية الوسخ بل جملتها إدخال اليد تحت الإزار فإن مس عورة الغير حرام كالنظر إليها.
ومنها الانبطاح على الوجه بين يدي الدلاك لتغميز الأفخاذ والأعجاذ، فهذا مكروه إن كان مع حائل ولكن لا يكون محظوراً إذا لم يخشى من حركة الشهوة. وكذلك كشف العورة للحجام الذمي من الفواحش. فإن المرأة لا يجوز لها أن تكشف بدنها الذمية في الحمام فكيف يجوز لها كشف العورات للرجال? ومنها غمس اليد والأواني النجسة في المياه القليلة، وغسل الإزار والطاس النجس في الحوض وماؤه قليل؛ فإنه منجس للماء إلا على مذهب مالك فلا يجوز الإنكار فيه على المالكية ويجوز على الحنفية والشافعية وإن اجتمع مالكي وشافعي في الحمام فليس للشافعي منع المالكي من ذلك إلا بطريق الالتماس واللطف؛ وهو أن يقول له: إنا نحتاج أ، نغسل اليد أولاً ثم نغمسها في الماء، وأما أنت فمستغن عن إيذائي وتفويت الطهارة علي، وما يجري مجرى هذا، فإن مظان الاجتهاد لا يمكن الحسبة فيها بالقهر.
ومنها أن يكون في مداخل بيوت الحمام ومجاري مياهها حجارة ملساء مزلق يزلق عليها الغافلون فهذا منكر، ويجب قلعه وإزالته وينكر على الحمامي إهماله فعنه يفضى إلى السقطة؛ وقد تؤدي السقطة إلى انكسار عضواً وانخلاعه وكذلك ترك السدر والصابون المزلق على أرض الحمام منكر؛ ومن فعل ذلك وخرج وتركه فزلق به إنسان وانكسر عضو من أعضائه، وكان ذلك في موضع لا يظهر فيه بحيث يتعذر الاحتراز عنه فالضمان متردد بين الذي تركه وبين الحمامي، إذ حققه تنظيف الحمام، والوجه إيجاب الضمان على تاركه في اليوم الأول، وعلى الحمامي في اليوم الثاني إذ عادة تنظيف الحمام كل يوم معتادة، والرجوع في مواقيت إعادة التنظيف إلى العادات، فليعتبر بها. وفي الحمام أمور أخر مكروهة ذكرناها في كتاب الطهارة فلتنظر هناك.
منكرات الضيافة
فمنها فرش الحرير للرجال فهو حرام. وكذلك تبخير البخور في مجمرة فضة أو ذهب، أو الشراب أو استعمال ماء الورد في أواني الفضة أو ما رءوسها من فضة.
ومنها إسدال الستور وعليها الصور.
ومنها سماع الأوتار أو سماع القينات.
ومنها اجتماع النساء على السطوح للنظر إلى الرجال مهما كان في الرجال شباب يخاف الفتنة منهم، فكل ذلك محظور منكر يجب تغييره. ومن عجز عن تغييره لزمه الخروج، ومن لم يجز له الجلوس فلا رخصة له في الجلوس في مشاهدة المنكرات. و أما الصور التي على النمارق والزرابي المفروشة فليس منكراً. وكذلك على الأطباق والقصاع، لا الأواني المتخذة على شكل الصور، فقد تكون رءوس بعض المجامر على شكل طير فذلك حرام يجب كسر مقدار الصورة منه. وفي المكحلة الصغيرة من الفضة خلاف، وقد خرج أحمد بن حنبل عن الضيافة بسببها. ومهما كان الطعام حراماً، أو كان الوضع مغصوباً أو كانت الثياب المفروشة حراماً فهو من أشد المنكرات، فإن كان من فيها من يتعاطى شرب الخمر وحده فلا يجوز الحضور، إذ لا يحل حضور مجالس الشرب وإن كان مع ترك الشرب، ولا يجوز مجالسة الفاسق في حالة مباشرته للفسق، وإنما النظر في مجالسته بعد ذلك، وأنه هل يجب بغضه في الله ومقاطعته كما ذكرناه في باب الحب والبغض في الله? وكذلك إن كان فيهم من يلبس الحرير أو خاتم الذهب فهو فاسق لا يجوز الجلوس معه من غير ضروره. فإن كان الثوب على صبي غير بالغ فهذا في محل النظر. والصحيح أن ذلك منكر ويجب نزعه عنه إن كان مميزاً لعموم قوله عليه السلام، "هذان حرام على ذكور أمتي" وكما يجب منع الصبي من شرب الخمر - لا لكونه مكلفاً، لكن لأنه يأنس به، فإذا بلغ عسر عليه الصبر عنه - فكذلك شهوة التزين بالحرير تغلب عليه إذا اعتاده، فيكون ذلك بذراً للفساد يبذر في صدره، فتنبت منه شجرة من الشهوة راسخة يعسر قلعها بعد البلوغ. أما الصبي الذي لا يميز فيضعف معنى التحريم في حقه ولا يخلو عن احتمال والعلم عند الله فيه والمجنون في معنى الصبي الذي لا يميز، نعم يحل التزين بالذهب والحرير للنساء من غير إساف. ولا أرى رخصة في تثقيب أذن الصبية لأجل تعليق حلق الذهب فيها، فإن هذا جرح مؤلم ومثله موجب للقصاص فلا يجوز إلا لحاجة مهمة كالفصد والحجامة والختان: والتزين بالحلق غير مهم بل في التقريط بتعليقه على الأذن وفي المخانق والأسورة كفاية عنه. فهذا وإن كان معتاداً فهو حرام والمنع منه واجب، والاستئجار عليه غير صحيح، والأجرة المأخوذة عليه حرام؛ إلا أن يثبت من جهة النقل فيه رخصة، ولم يبلغنا إلى الآن فيه رخصة.
ومنها أن يكون في الضيافة مبتدع لا يتكلم ببدعته فيجوز الحضور مع إظهار الكراهة عليه والإعراض عنه كما ذكرناه في باب البغض في الله. وإن كان فيها مضحك بالحكايات وأنواع النوادر فإن كان يضحك بالفحش والكذب لم يجز الحضور وعند الحضور يجب الإنكار عليه، وإن كان ذلك بمزح لا كذب فيه ولا فحش فهو مباح - أعني ما يقل منه - فأما اتخاذه صنعة وعادة ف ليس بمباح. وكل كذب لا يخفى أنه كذب ولا يقصد به التلبيس فليس من جملة المنكرات، كقول الإنسان مثلاً: طلبتك اليوم مائة مرة، وأعدت عليك الكلام ألف مرة؛ وما يجري مجراه مما يعلم أنه ليس يقصد به التحقيق فذلك لا يقدح في العدالة ولا ترد الشهادة به. وسيأتي حد المزا المباح والكذب المباح في كتاب آفات اللسان من ربع المهلكات.
ومنها الإسراف في الطعام والبناء فهو منكر، بل في المال منكران؛ أحدهما: الإضاعة. والآخر: الإسراف.
فالإضاعة: تفويت مال بلا فائدة يعتد بها كإحراق الثوب وتمزيقه، وهدم البناء من غير غرض. والقاء المال في البحر، وفي معناه صرف المال إلى النائحة والمطرب، وفي أنواع الفساد لأنها فوائد محرمة شرعاً فصارت كالمعدومة.
وأما الإسراف: فقد يطلق لإرادة صرف المال إلى النائحة والمطرب والمنكرات، وقد يطلق على الصرف إلى المباحات في جنسها ولكن مع المبالغة.
والمبالغة تختلف بالإضافة إلى الأحوال فنقول: من لم يملك إلا مائة دينار مثلاً ومعه عياله وأولاده ولا معيشة لهم سواه فأنفق الجميع في وليمة فهو مسرف يجب منعه قال تعالى: "ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً" نزل هذا في رجل بالمدينة قسم جميع ماله ولم يبق شيئاً لعياله فطولب بالنفقة فلم يقدر على شيء وقال تعالى: "ولا تبذر تبذيراً إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين" وكذلك قال عز وجل: "والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا" فمن يسرف هذا الإسراف ينكر عليه ويجب على القاضي أن يحجر عليه؛ إلا إذا كان الرجل وحده وكان له قوة في التوكل صادقة؛ فله أن ينفق جميع ماله في أبواب البر. ومن له عيال أو كان عاجزاً عن التوكل فليس له أن يتصدق بجميع ماله. وكذلك لو صرف جميع ماله إلى نقوش حيطانه؛ وتزيين بنيانه فهو أيضاً إسراف محرم، وفعل ذلك له ممن له مال كثير ليس بحرام لأن التزيين من الأغراض الصحيحة، ولم تزل المساجد تزين وتنقش أبوابها وسقوفها مع أن نقش الباب والسقف لا فائدة فيه إلا مجرد الزينة، فكذا الدور، وكذلك القول في التجمل بالثياب والأطعمة فذلك مباح في جنسه، ويصير إسرافاً باعتبار حال الرجل وثروته: وأمثال هذه المنكرات كثيرة لا يمكن حصرها. فقس بهذه المنكرات المجامع ومجالس القضاة ودواوين السلاطين ومدارس الفقهاء ورباطات الصوفية وخانات الأسواق فلا تخلو بقعة عن منكر مكروه أو محذور، واستقصاء جميع المنكرات يستدعي استيعاب جميع تفاصيل الشرع أصولها وفروعها فلنقتصر على هذا القدر منها.
المنكرات العامة
اعلم أن كل قاعد في بيته - أينما كان - فليس خالياً من هذا الزمان عن منكر من حيث التقاعد عن إرشاد الناس وتعليمهم وحملهم على المعروف، فأكثر الناس جاهلون بالشرع في شروط الصلاة في البلاد فكيف في القرى والبوادي? ومنهم الأعراب والأكراد والتركمانية وسائر أصناف الخلق، وواجب أن يكون في مسجد ومحلة من البلد فقيه يعلم الناس دينهم وكذا في كل قرية وواجب على كل فقيه - فرع من فرض عينه وتفرغ لفرض الكفاية - أن يخرج إلى من يجاور بلده من أهل السواد ومن العرب والأكراد وغيرهم ويعلمهم دينهم وفرائض شرعهم، ويستصحب مع نفسه زاداً يأكله ولا يأكل من أطعمتهم فإن أكثرها مغصوب، فإن قام بهذا الأمر واحد سقط الحرج عن الآخرين وإلا عم الحرج الكافة أجمعين.
أما العالم فلتقصيره في الخروج. وأما الجاهل فلتقصيره في ترك التعلم.
وكل عامي عرف شوط الصلاة فعليه أن يعرف غيره وإلا فهو شريك في الإثم. ومعلوم أن الإنسان لا يولد عالماً بالشرع وإنما يجب التبليغ على أهل العلم، فكل من تعلم مسألة واحدة فهو من أهل العلم بها. ولعمري الإثم على الفقهاء أشد لأن قدرتهم فيه أظهر وهو بصناعتهم أليق: لأن المحترفين لو تركوا حرفتهم لبطلت المعايش فهم قد تقلدوا أمراً لا بد منه في صلاح الخلق. وشأن الفقيه وحرفته تبليغ ما بلغه عن رسول الله ﷺ فإن العلماء هم ورثة الأنبياء. وللإنسان أن يقعد في بيته ولا يخرج إلى المسجد لأنه يرى الناس لا يحسنون الصلاة، بل إذا علم ذلك وجب عليه الخروج للتعليم والنهي. وكذا كل من تيقن أن في السوق منكراً يجري على الدوام أو في وقت بعينه وهو قادر على تغييره فلا يجوز له أن يسقط ذلك عن نفسه بالقعود في البيت، بل يلزمه الخروج، فإن كان لا يقدر على تغيير الجميع وهو محترز عن مشاهدته ويقدر على البعض لزمه الخروج، لأن خروجه إذا كان لأجل تغيير ما يقدر عليه فلا يضره مشاهدة ما لا يقدر عليه، وإنما يمنع الحضور لمشاهدة المنكر من غير غرض صحيح فحق على كل مسلم أن يبدأ بنفسه فيصلحها بالمواظبة على الفرائض وترك المحرمات، ثم يعلم ذلك أهل بيته، ثم يتعدى بعد الفراغ منم إلى جيرانه، ثم إلى أهل محلته، ثم إلى أهل بلده ثم إلى أهل السوادى المكتنف ببلده، ثم إلى أهل البوادي من الأكراد والعرب وغيرهم، وهكذا إلى أقصى العالم، فإن قام به الأدنى سقط عن الأبعد وإلا حرج به على كل قادر عليه قريباً كان أو بعيداً، ولا يسقط الحرج ما دام يبقى على وجه الأرض جاهل بفرض من فروض دينه وهو قادر على أن يسعى إليه بنفسه وبغيره فيعلمه فرضه، وهذا اشغل شاغل لمن يهمه أمر دينه يشغله عن تجزئة الأوقات في التفريعات النادرة والتعمق في دقائق العلوم التي هي من فروض الكفايات ولا يتقدم على هذا إلا فرض عين أو فرض كفاية هو أهم منه.