إحياء علوم الدين المؤلف: أبو حامد الغزالي |
كتاب العلم ← |
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمد الله أولاً، حمداً كثيراً متوالياً؛ وإنك ان يتضاءل دون حق جلاله حمد الحامدين.
وأصلي واسلم على رسله ثانياً صلاة تستغرق مع سيد البشر سائر المرسلين.
وأستخيره تعالى ثالثاً فيما انبعث عزمي من تحرير كتاب في إحياء علوم الدين.
وأنتدب لقطع تعجبك رابعاً أيها العاذل المتغالي في العذل من بين زمرة الجاحدين، المسرف في التقريع والإنكار من بين طبقات المنكرين الغافلين؛ فلقد حل عن لساني عقدة الصمت وطوقني عهدة الكلام وقلادة النطق: ما أنت مثابر عليه من العمى عن جلية الحق، مع اللجاج في نصرة الباطل وتحسين الجهل، والتشغيب على من آثر النزوع قليلاً عن مراسم الخلق ومال ميلاً يسيراً عن ملازمة الرسم إلى العمل بمقتضى العلم طمعاً في نيل ما تعبده الله تعالى به من تزكية النفس وإصلاح القلب، وتداركاً لبعض ما فرط من إضاعة العمر يائساً عن تمام حاجتك في الحيرة وانحيازاً عن غمار من قال فيهم صاحب الشرع صلوات الله عليه وسلامه "أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله سبحانه بعلمه" ولعمري إنه لا سبب لإصرارك على التكبر إلا الداء الذي عم الجم الغفير بل شمل الجماهير من القصور عن ملاحظة ذروة هذا الأمر والجهل بأن الأمر جد والخطب جد والآخرة مقبلة والدنيا مدبرة والأجل قريب والسفر بعيد والزاد طفيف والخطر عظيم والطريق سد، وما سوى الخالص لوجه الله من العلم والعمل عند الناقد البصير رد وسلوك طريق الآخرة مع كثرة الغوائل من غير دليل ولا رفيق متعب ومكد: فأدله الطريق هم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، وقد شغر منهم الزمان ولم يبق إلا المترسمون وقد استحوذ على أكثرهم الشيطان واستغواهم الطغيان، وأصبح كل واحد بعاجل حظه مشغوفاً، فصار يرى المعروف منكراً والمنكر معروفاً حتى ظل علم الدين مندرساً، ومنار الهدى في أقطار الأرض منطمساً، ولقد خيلوا إلى الخلق أن لا علم إلا فتوى حكومة تستعين به القضاة على فصل الخصام عند تهاوش الطغام، أو جدل يتدرع به طالب المباهاة إلى الغلبة والإفحام أو سجع مزخرف يتوسل به الواعظ إلى استدراج العوام، إذ لم يروا ما سوى هذه الثلاثة مصيدة للحرام وشبكة للحطام.
فأما علم طريق الآخرة وما درج عليه السلف الصالح مما سماه الله سبحانه في كتابه: فقهاً وحكمة وعلماً وضياء ونوراً وهداية ورشداً، فقد أصبح من بين الخلق مطوياً وصار نسياً منسياً.
ولما كان هذا ثلماً في الدين ملماً وخطباً مدلهماً، رأيت الاشتغال بتحرير هذا الكتاب مهماً، إحياء لعلوم الدين، وكشفاً عن مناهج الأئمة المتقدمين، وإيضاحاً لمباهي العلوم النافعة عند النبيين والسلف الصالحين.
وقد أسسته على أربعة أرباع وهي: ربع العبادات، وربع العادات، وربع المهلكات، وربع المنجيات.
وصدرت الجملة بكتاب العلم لأنه غاية المهم لأكشف أولاً عن العلم الذي تعبد الله على لسان رسوله ﷺ الأعيان بطلبه، إذ قال رسول الله ﷺ "طلب العلم فريضة على كل مسلم" وأميز فيه العلم النافع من الضار، إذ قال ﷺ "نعوذ بالله من علم لا ينفع" وأحقق ميل أهل العصر عن شاكلة الصواب، وانخداعهم بلامع السراب، واقتناعهم من العلوم بالقشر عن اللباب.
ويشتمل ربع العبادات على عشرة كتب: كتاب العلم، وكتاب قواعد العقائد، وكتاب أسرار الطهارة، وكتاب أسرار الصلاة، وكتاب أسرار الزكاة، وكتاب أسرار الصيام، وكتاب أسرار الحج، وكتاب آداب تلاوة القرآن، وكتاب الأذكار والدعوات، وكتاب ترتيب الأوراد في الأوقات.
وأما ربع العادات فيشتمل على عشرة كتب: كتاب آداب الأكل، وكتاب آداب النكاح، وكتاب أحكام الكسب، وكتاب الحلال والحرام، وكتاب آداب الصحبة والمعاشرة مع أصناف الخلق، وكتاب العزلة، وكتاب آداب السفر، وكتاب السماع والوجد، وكتاب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وكتاب آداب المعيشة وأخلاق النبوة.
وأما ربع المهلكات فيشتمل على عشرة كتب: كتاب شرح عجائب القلب، وكتاب رياضة النفس، وكتاب آفات الشهوتين: شهوة البطن وشهوة الفرج، وكتاب آفات اللسان، وكتاب آفات الغضب والحقد والحسد، وكتاب ذم الدنيا، وكتاب ذم المال والبخل، وكتاب ذم الجاه والرياء، وكتاب ذم الكبر والعجب، وكتاب ذم الغرور.
وأما ربع المنجيات فيشتمل على عشرة كتب: كتاب التوبة، وكتاب الصبر والشكر، وكتاب الخوف والرجاء، وكتاب الفقر والزهد، وكتاب التوحيد والتوكل، وكتاب المحبة والشوق والأنس والرضا، وكتاب النية والصدق والإخلاص، وكتاب المراقبة والمحاسبة، وكتاب التفكر، وكتاب ذكر الموت.
فأما ربع العبادات فأذكر فيه من خفايا آدابها ودقائق سننها وأسرار معانيها ما يضطر العالم العامل إليه، بل لا يكون من علماء الآخرة من لا يطلع عليه، وأكثر ذلك مما أهمل في فن الفقهيات.
وأما ربع العادات فأذكر فيه أسرار المعاملات الجارية بين الخلق وأغوارها ودقائق سننها وخفايا الورع في مجاريها وهي مما لا يستغني عنها متدين.
وأما ربع المهلكات فأذكر فيه كل خلق مذموم ورد القرآن بإماطته وتزكية النفس عنه وتطيهر القلب منه، وأذكر من كل واحد من تلك الأخلاق حده وحقيقته، ثم أذكر سببه الذي منه يتولد، ثم الآفات التي عليها تترتب ثم العلامات التي بها تتعرف، ثم طرق المعالجة التي بها منها يتخلص، كل ذلك مقروناً بشواهد الآيات والأخبار والآثار.
وأما ربع المنجيات فأذكر فيه كل خلق محمود وخصلة مرغوب فيها من خصال المقربين والصديقين التي بها يتقرب العبد من رب العالمين وأذكر في كل خصلة حدها وحقيقتها وسببها الذي به تجتلب وثمرتها التي منها تستفاد وعلامتها التي بها تتعرف وفضيلتها التي لأجلها فيها يرغب مع ما ورد فيها من شواهد الشرع والعقل؛ ولقد صنف الناس في بعض هذه المعاني كتباً، ولكن يتميز هذا الكتاب عنها بخمسة أمور الأول حل ما عقدوه وكشف ما أجملوه الثاني ترتيب ما بددوه ونظم ما فرقوه الثالث إيجاز ما طولوه وضبط ما قرروه الرابع حذف ما كرروه وإثبات ما حرروه الخامس تحقيق أمور غامضة اعتاصت على الأفهام لم يتعرض لها في الكتب أصلاً إذ الكل وإن تواردوا على منهج واحد فلا مستنكر أن يتفرد كل واحد من السالكين بالتنبيه لأمر يخصه ويغفل عنه رفقاؤه، أو لا يغفل عن التنبيه ولكن يسهو عن إيراده في الكتب، أو لا يسهو ولك يصرفه عن كشف الغطاء عنه صارف؛ فهذه خواص هذا الكتاب مع كونه حاوياً لمجامع هذه العلوم.
وإنما حملني على تأسيس هذا الكتاب على أربعة أرباع أمران: أحدهما - وهو الباعث الأصلي - أن هذا الترتيب في التحقيق والتفهيم كالضرورة لأن العلم الذي يتوجه به إلى الآخرة ينقسم إلى علم المعاملة وعلم المكاشفة، وأعني بعلم المكاشفة ما يطلب منه كشف المعلوم فقط، وأعني بعلم المعاملة ما يطلب منه مع الكشف العمل به والمقصود من هذا الكتاب علم المعاملة فقط دون علم المكاشفة التي لا رخصة في إيداعها الكتب وإن كانت هي غاية مقصد الطالبين ومطمع نظر الصديقين، وعلم المعاملة طريق إليه ولكن لم يتكلم الأنبياء صلوات الله عليهم مع الخلق إلا في علم الطريق والإرشاد إليه. وأما علم المكاشفة فلم يتكلموا فيه إلا بالرمز والإيماء على سبيل التمثيل والإجمال، علماً منهم بقصور أفهام الخلق عن الاحتمال - والعلماء ورثة الأنبياء - فما لهم سبيل إلى العدول عن نهج التأسي والاقتداء ثم إن علم المعاملة ينقسم إلى علم ظاهر، أعني العلم بأعمال الجوارح - وإلى علم باطن - أعني العلم بأعمال القلوب والجاري على الجوارح إما عادة وإما عبادة، والوارد على القلوب التي هي بحكم الاحتجاب عن الحواس من عالم الملكوت إما محمود وإما مذموم فبالواجب انقسم هذا العلم إلى شطرين ظاهر وباطن والشطر الظاهر المتعلق بالجوارح انقسم إلى عادة وعبادة، والشطر اباطن المتعلق بأحوال القلب وأخلاق النفس انقسم إلى مذموم ومحمود، فكان المجموع أربعة أقسام ولا يشذ نظر في علم المعاملة عن هذه الأقسام. الباعث الثاني. أني رأيت الرغبة من طلبة العلم صادقة في الفقه الذي صلح عند من لا يخاف الله سبحانه وتعالى المتدرع به إلى المباهاة والاستظهار بجاهه ومنزلته في المنافسات وهو مرتب على أربعة أرباع والمتزيي بزي المحبوب محبوب فلم أبعد أن يكون تصوير الكتاب بصورة الفقه تلطفاً في استدراج القلوب ولهذا تلطف بعض من رام استمالة قلوب الرؤساء إلى الطب فوضعه على هيئة تقويم النجوم موضوعاً في الجداول والرقوم وسماه تقويم الصحة ليكون أنسهم بذلك الجنس جاذباً لهم إلى المطالعة والتلطف في اجتذاب القلوب ولهذا تلطف بعض من رام استمالة قلوب الرؤساء إلى الطب فوضعه على هيئة تقويم النجوم موضوعاً في الجداول والرقوم وسماه تقويم الصحة ليكون أنسهم بذلك الجنس جاذباً لهم إلى المطالعة والتلطف في اجتذاب القلوب إلى العلم الذي يفيد حياة الأبد أهم من التلطف في اجتذابها إلى الطب الذي لا يفيد إلا صحة الجسد، فثمرة هذا العلم طب القلوب والأرواح المتوصل به إلى حياة تدوم أبد الآباد، فأين منه الطب الذي يعالج به الأجساد وهي معرضة بالضرورة للفساد في أقرب الآماد? فنسأل الله سبحانه التوفيق للرشاد والسداد، إنه كريم جواد.