الرئيسيةبحث

معالم السنن/الجزء الثاني/8

43/64م ومن باب الصلاة بجمع

649- قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه أن رسول الله ﷺ صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعا.

قلت هذا سنة النبي ﷺ في الجمع بين هاتين الصلاتين بالمزدلفة في وقت الآخرة منهما كما سن الجمع بين الظهر والعصر بعرفة في وقت الأولى منهما ومعناه الرخصة والترفيه دون العزيمة إلا أن المستحب متابعة السنة والتمسك بها.

واختلفوا فيمن فرق بين هاتين الصلاتين فصلى كل واحدة منهما في وقتها أو صلاهما قبل أن ينزل المزدلفة، فقال أكثر الفقهاء إن ذلك يجزئه على الكراهة لفعله. وقال أصحاب الرأي إن صلاهما قبل أن يأتي جمعا كان عليه الإعادة وحكي نحو من هذا عن سفيان الثوري غير أنهم قالوا إن فرق بين الظهر والعصر أجزأه على الكراهة لفعله ولم يروا عليه الإعادة.


650- قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن موسى بن عقبة عن كريب مولى ابن عباس عن أسامة بن زيد أنه سمعه يقول دفع رسول الله ﷺ من عرفة حتى إذا كان بالشعب نزل فبال وتوضأ ولم يسبغ الوضوء فقلت له الصلاة فقال الصلاة أمامك فركب فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزل ثم أقيمت العشاء فصلاها ولم يصل بينهما شيئا.

قلت قوله الصلاة أمامك يحتج به أصحاب الرأي فيما ذهبوا إليه من إيجاب الإعادة على من صلاها قبل أن يأتي المزدلفة، ومعناه عند من ذهب إلى خلاف مذهبهم الترخيص والترفيه دون العزيمة والإيجاب.


651- قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا حماد بن خالد عن ابن أبي ذئب عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال وجمع بينهما بإقامة.


652- قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا شبابة عن ابن أبي ذئب في هذا الحديث وقال بإقامة لكل صلاة ولم يناد في الأولى ولم يسبح على أثر واحدة منهما.


653- قال وحدثنا ابن كثير أخبرنا سفيان، عن أبي إسحاق عن عبد الله بن مالك عن ابن عمر رضي الله عنهما قال صليتهما مع رسول الله ﷺ بإقامة واحدة.

قلت اختلف الفقهاء في ذلك فقال الشافعي لا يؤذن ويصليهما بإقامتين وذلك أن الأذان إنما سن لصلاة الوقت. وصلاة المغرب لم تصل في وقتها فلا يؤذن لها كما لا يؤذن للعصر بعرفة وكذلك قال إسحاق.

وقال أصحاب الرأي يؤذن للأولى ويقام لها ثم يقام للأخرى بلا أذان، وقد روي هذا في حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله في قصة الحج أنه فعلها بأذان واقامتين.

وقال مالك يؤذن لكل صلاة ويقام لها فيصليان بأذانين واقامتين.

وقال سفيان الثوري يجمعان بإقامة واحدة على حديث ابن عمر من رواية أبي إسحاق، وقال أحمد أيها فعلت أجزاك.


44/65م ومن باب يتعجل من جمع

654- قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثيرأخبرنا سفيان حدثني سلمة بن كهيل عن الحسن العرني عن ابن عباس قال قدمنا رسول الله ﷺ ليلة المزدلفة أغيلمة بني عبدالمطلب على جمرات وجعل يلطخ أفخاذنا ويقول أُبيني لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس.

اللطخ الضرب الخفيف باليد يقال لطخه بيده لطخا. وهذا رخصة رخصها رسول الله ﷺ لضعفة أهله لئلا تصيبهم الحطمة وليس ذلك لغيرهم من الأقوياء وعلى الناس عامة أن يبيتوا بالمزدلفة وأن يقفوا بها حتى يدفعوا مع الإمام قبل أن تطلع الشمس من الغد. وفيه بيان أن الجمرة لا ترمى إلا بعد طلوع الشمس. وهذا في رمي الجمرة يوم النحر، فأما في سائر الأيام فإنه لا يرميها حتى تزول الشمس.


655- قال أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله أخبرنا ابن أبي فديك عن الضحاك بن عثمان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت أرسل النبي ﷺ بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت وكان ذلك اليوم الذي يكون رسول الله ﷺ، يَعني عندها.

قلت واختلفوا في رمي الجمرة قبل الفجر فأجازه الشافعي ما دام بعد نصف الليل الأول واحتج بحديث أم سلمة. وقال غيره إنما هذا رخصة خاصة لها فلا يجوز أن يرمي قبل الفجر.

وقال أصحاب الرأي ومالك وأحمد بن حنبل يجوز أن يرمي بعد الفجر قبل طلوع الشمس ولا يجوز قبل ذلك.

قلت والأفضل أن لا يرمي إلا بعد طلوع الشمس كما جاء في حديث ابن عباس.


45/66م ومن باب يوم الحج الأكبر

656- قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا إسماعيل حدثنا أيوب عن محمد، عن أبي بكرة أن النبي ﷺ خطب في حجته فقال إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان.

قوله إن الزمان قد استدار كهيئته معنى هذا الكلام أن العرب في الجاهلية كانت قد بدلت أشهر الحرم وقدمت وأخرت أوقاتها من أجل النسيء الذي كانوا يفعلونه وهو ما ذكر الله سبحانه في كتابه فقال {إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما} [1] الآية. ومعنى النسيء تأخير رجب إلى شعبان والمحرم إلى صفر وأصله مأخوذ من نسأت الشيء إذا أخرته ومنه النسيئة في البيع، وكان من جملة ما يعتقدونه من الدين تعظيم هذه الأشهر الحرم فكانوا يتحرجون فيها عن القتال وعن سفك الدماء ويأمن بعضهم بعضا إلى أن تنصرم هذه الأشهر ويخرجوا إلى أشهر الحل فكان أكثرهم يتمسكون بذلك ولا يستحلون القتال فيها، وكان قبائل منهم يستبيحونها فإذا قاتلوا في شهر حرام حرموا مكانه شهرا آخر من أشهر الحل ويقولون نسأنا الشهر واستمر ذلك بهم حتى اختلط ذلك عليهم وخرج حسابه من أيديهم فكانوا ربما يحجون في بعض السنين في شهر ويحجون من قابل في شهرغيره إلى أن كان العام الذي حج فيه رسول الله ﷺ فصادف حجهم شهر الحج المشروع وهو ذو الحجة فوقف بعرفة اليوم التاسع منه ثم خطبهم فأعلمهم أن أشهر النسيء قد تناسخت باستدارة الزمان وعاد الأمر إلى الأصل الذي وضع الله حساب الأشهر عليه يوم خلق السموات والأرض وأمرهم بالمحافظة عليه لئلا تتغير أو تتبدل فيما يستأنف من الأيام فهذا تفسيره ومعناه.


وقوله رجب مضر إنما أضاف الشهر إلى مضر لأنها كانت تشدد في تحريم رجب وتحافظ على ذلك أشد من محافظة سائر القبائل من العرب فأضيف الشهر إليهم لهذا المعنى.

وأما قوله الذي بين جمادى وشعبان فقد يحتمل أن يكون ذلك على معنى توكيد البيان كما قال في أسنان الصدقة فإن لم تكن ابنة مخاض فابن لبون ذكر ومعلوم أن ابن اللبون لا يكون إلا ذكرا ويحتمل أن يكون إنما قال ذلك من أجل أنهم قد كانوا نسؤوا رجبا وحولوه عن موضعه وسموا به بعض الشهور الأخرفنحملوه اسمه فبين لهم أن رجبا هو الشهر الذي بين جمادى وشعبان لا ما كانوا يسمونه على حساب النسيء.


46/68م ومن باب من لم يدرك عرفة

657- قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن إسماعيل حدثنا عامر أخبرني عروة بن مُضرِّس الطائي قال أتيت النبي ﷺ بالموقف، يَعني بجَمْع فقلت جئت يا رسول الله من جبلي طيء أكللت مطيتي وأتعبت نفسي والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه فهل لى من حج قال رسول الله ﷺ من أدرك معنا هذه الصلاة وأتى عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه.

قلت في هذا الحديث من الفقه أن من وقف بعرفات وقفة ما بين الزوال من يوم عرفة إلى أن يطلع الفجر من يوم النحر فقد أدرك الحج.

وقال أصحاب مالك النهار تبع الليل في الوقوف فمن لم يقف بعرفة حتى تغرب الشمس فقد فاته الحج وعليه حج من قابل، وروى عن الحسن أنه قال عليه هدي من الإبل وحجه تام.

وقال أكثر الفقهاء من صدر من عرفة قبل غروب الشمس فعليه دم وحجه تام وكذلك قال عطاء وسفيان الثوري وأصحاب الرأي وهو قول الشافعي وأحمد.

وقال مالك والشافعي فيمن دفع من عرفة قبل غروب الشمس ثم رجع إليها قبل طلوع الفجر فلا شيء عليه.

وقال أصحاب الرأي إذا رجع بعد غروب الشمس ووقف لم يسقط عنه الدم، وظاهر قوله من أدرك معنا هذه الصلاة شرط لا يصح الحج إلا بشهوده جمعا وقد قال به غير واحد من أعيان أهل العلم، قال علقمة والشعبي والنخعي إذا فاته جمع ولم يقف به فقد فاته الحج ويجعل إحرامه عمرة وممن تابعهم على ذلك ابو عبد الرحمن الشافعي وإليه ذهب محمد بن إسحاق بن خزيمة وأحسب محمد بن جرير الطبري أيضا واحتجوا أو من احتج منهم بقوله سبحانه {فاذكروا الله عند المشعر الحرام} [2] وهذا نص والأمر على الوجوب فتركه لا يجوز بوجه.

وقال أكثر الفقهاء إن فاته المبيت بالمزدلفة والوقوف بها أجزأه وعليه دم.

وقوله فقد تم حجه يريد به معظم الحج وهو الوقوف بعوفه لأنه هو الذي يخاف عليه الفوات، فأما طواف الزيارة فلا يخسى فواته وهذا كقوله الحح عرفة أي معظم الحج هو الوقوف بعرفة.

وقوله وقضى تفثه فإن التفث زعم الزجاج أن أهل اللغة لا يعرفونه إلا من التفسير قال وهو الأخذ من الشارب وتقليم الظفر والخروج من الاحرام إلى الإحلال وقال ابن الأعرابي في قوله ثم ليقضوا تفثهم أي قضاء حوائجهم من الحلق والتنظف.


47/74م ومن باب يبيت بمكة ليالي منى

658- قال أبو داود: حدثنا أبو بكر بن خلاد حدثنا يحيى عن ابن جريج أخبرني جرير أو ابن جرير الشك من يحيى أنه سمع عبد الرحمن بن فروخ يسأل ابن عمر قال إننا نتبايع بأموال الناس فيأتي أحدنا بمكبة فيبيت على المال فقال أما رسول الله ﷺ فقد بات بمنى وظل.

قلت واختلف أهل العلم في المبيت بمكة ليالي منى لحاجة من حفظ مال ونحوه وكان ابن عباس يقول لا بأس إذا كان للرجل متاع بمكة يخشى عليه ان يأت عن منى.

وقال أصحاب الرأي لا شيء على من كان بمكة أيام منى إذا رمى الجمرة وقد أساء. وقال الشافعي ليست الرخصة في هذا إلا لأهل السقاية ومن مذهبه أن في ليلة درهما وفي ليلتين درهمين وفي ثلاث ليال دم. وكان مالك يرى عليه في ليلة واحدة دما.


48/75م ومن باب الصلاة بمنى

659- قال أبو داود: حدثنا مسدد أن أبا معاوية بن يزيد وحفص بن غياث حدثاهم وحديث أبى معاوية أتم عن الأعمش عن إبراهيم عن عبد الرحمن بن يزيد قال صلى عثمان بمنى أربعا فقال عبد الله صليت مع النبي ﷺ ركعتين ومع أبي بكر ركعتين ومع عمر ركعتين زاد حفص ومع عثمان رضي الله عنهم صدرا من إمارته ركعتين ثم أتمها. زاد من هنا، عن أبي معاوية ثم تفرقت بكم الطرق، قال الأعمش وحدثني معاوية بن قرة عن أشياخه أن عبد الله صلى أربعا فقيل له عبت على عثمان ثم صليت أربعا فقال الخلاف شر.

قلت لو كان المسافر لا يجوز له الإتمام كما لا يجوز له القصر لما يتابعوا عثمان عليه إذ لا يجوز على الملأ من الصحابة متابعته على الباطل فدل ذلك على أن من رأيهم جواز الإتمام وإن كان الاختيار عند كثير منهم القصر. ألا ترى أن عبد الله أتم الصلاة بعد ذلك واعتذر بقول الخلاف شر فلو كان الإتمام لا جواز له لكان الخلاف له خيرا لا شرا. وفي هذا دليل على ما قلناه إلا أنه قد روي عن إبراهيم أنه قال إنما صلى عثمان أربعا لأنه كان اتخذها وطنا، وعن الزهري أنه قال إنما فعل ذلك لأنه اتخذ الأموال بالطائف وأراد أن يقيم بها.

قلت وكان من مذهب ابن عباس أن المسافر إذا قدم على أهل أو ماشية أتم الصلاة، وقال أحمد بن حنبل بمثل قول ابن عباس.


49/76م ومن باب القصر لأهل مكة

660- قال أبو داود: حدثنا النفيلي حدثنا زهير حدثنا أبو إسحاق حدثنا حارثة بن وهب الخزاعي قال صليت مع رسول الله ﷺ بمنى والناس أكثر ما كانوا فصلى بنا ركعتين في حجة الوداع. قال أبو داود حارثة من خزاعة دارهم بمكة. حارثة بن وهب أخو عبيد الله بن عمر بن الخطاب لأمه.

قلت ليس في قوله فصلى بنا ركعتين دليل على أن المكي يقصر الصلاة بمنى لأن رسول الله ﷺ كان مسافرا بمنى فصلى صلاة المسافر ولعله لو سأل رسول الله ﷺ عن صلاته لأمره بالإتمام وقد يترك ﷺ بيان الأمور في بعض المواطن اقتصارا على ما تقدم من البيان السابق خصوصا في مثل هذا الأمرالذي هو من العلم الظاهر العام، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يصلي بهم فيقصر فإذا سلم التفت فقال أتموا يا أهل مكة فإنا قوم سَفر.

وقد اختلف الناس في هذا فقال الشافعي يقصر الإمام والمسافرون معه ويقوم أهل مكة فيتمون لأنفسهم، وإليه ذهب سفيان وأحمد وهو قول أصحاب الرأي وقد روي ذلك عن عطاء ومجاهد والزهري، وذهب مالك والأوزاعي وإسحاق إلى أن الإمام إذا قصر قصروا معه وسواء في ذلك أهل مكة وغيرهم.

وحدثني إسماعيل بن محمد بن خشَك بن محرز حدثنا سلمة بن شبيب قال: قال الوليد بن مسلم وافيت مكة وعليها محمد بن إبراهيم وقد كتب إليه أن يقصر الصلاة بمنى وعرفة فقصر فرأيت سفيان الثوري قام فأعاد الصلاة وقام ابن جريج فبنى على صلاته فأتمها، قال الوليد ثم دخلت المدينة فلقيت مالك بن أنس فذكرت ذلك له وأخبرته بفعل الأمير وفعل سفيان وابن جريج، فقال أصاب الأمير وأخطأ ابن جريج ثم قدمت الشام فلقيت الأوزاعي فذكرت له ذلك فقال أصاب مالك وأصاب الأمير وأخطأ سفيان وابن جريج. قال ثم دخلت مصر فلقيت الشافعي فذكرت ذلك له فقال أخطأ الأمير وأخطأ مالك وأخطأ الأوزاعي وأصاب سفيان وأصاب ابن جريج.

قلت أما ابن جريج فإنما بنى على صلاته لأن من مذهبه أن المفترض يجوز له أن يصلي خلف المتنفل وأعاد سفيان الصلاة لأنه لا يرى للمفترض أن يصلي خلف المتنفل. وكانت صلاة الأمير عنده نافلة حين قصرها وهو مقيم بمكة واليا عليها فاستأنف سفيان صلاته. وكذلك مذهب أصحاب الرأي في هذا.


5/77م ومن باب رمي الجمار

661- قال أبو داود: حدثنا ابن السرح أخبرنا ابن وهب أخبرني مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن أبيه، عن أبي البَدَّاح بن عاصم عن أبيه وهو عاصم بن عدي أن رسول الله ﷺ رخص لرعاء الإبل في البيتوتة يرمون يوم النحر ثم يرمون الغد أو من بعد الغد ليومين ثم يرمون يوم النفر.

قلت أراد بيوم النفر هاهنا النفر الكبير وهذا رخصة رخصها رسول الله ﷺ للرعاء لأنهم مضطرون إلى حفظ أموالهم فلو أخذوا بالمقام والمبيت بمنى ضاعت أموالهم وليس حكم غيرهم في هذا كحكمهم.

وقد اختلف الناس في تعيين اليوم الذي يرمي فيه فكان مالك يقول يرمون يوم النحر وإذا مضى اليوم الذي يلي يوم النحر رموا من الغد وذاك يوم النفر الأول يرمون لليوم الذي مضى ويرمون ليومهم ذلك، وذلك أنه لا يقضي أحد شيئا حتى يجب عليه. وقال الشافعي نحوا من قول مالك، وقال بعضهم هم بالخيار إن شاؤوا قدموا وإن شاؤوا أخروا.


51/78م ومن باب الحلق والتقصير

662- قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله ﷺ قال: اللهم ارحم المحلقين قالوا يا رسول الله والمقصرين قال اللهم ارحم المحلقين قالوا يا رسول الله والمقصرين قال والمقصرين.

قلت كان أكثر من أحرم مع رسول الله ﷺ من الصحابة ليس معهم هدي وكان ﷺ قد ساق الهدي ومن كان معه هدي فإنه لا يحلق حتى ينحر هديه فلما أمر من ليس معه هدي أن يحل وجدوا من ذلك في أنفسهم وأحبوا أن يأذن لهم في المقلم على إحرامهم حتى يكملوا الحج وكانت طاعة رسول الله ﷺ أولى بهم فلما لم يكن لهم بد من الاحلال كان القصر في نفوسهم أحب من الحلق فمالوا إلى القصر فلما رأى ذلك رسول الله ﷺ منهم أخرهم في الدعاء وقدم عليهم من حلق وبادر إلى الطاعة وقصر بمن تهيبه وحاد عنه ثم جمعهم في الدعوة وعمهم بالرحمة.


663- قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء حدثنا حفص عن هشام عن ابن سيرين عن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ رمى جمرة العقبة يوم النحر ثم رجع إلى منزله بمنى فدعا بذِبح فذبح ثم دعا بالحلاق فأخذ بشق رأسه الأيمن فحلقه فجعل يقسم بين من يليه الشعرة والشعرتين ثم أخذ بشق رأسه الأيسر فحلقه ثم قال هاهنا أبو طلحة فدفعه إليه.

قلت فيه من السنة أن يبدأ في الحلاق بالشق الأيمن من الرأس ثم بالشق الأيسر وهو من باب ما كان يستحبه ﷺ من التيمن في كل شيء من طهوره ولباسه ونعله في نحو ذلك من الأمور.

وفيه أن شعر بني آدم طاهر فلا معنى لقول من زعم أن هذا خاص لرسول الله ولو لزم هذا في شعره للزم في منيه مثل ذلك فيقال إن مني سائر الناس نجس فلما لم يفترق الأمور في ذلك عنده وجب أن لا يفترق كذلك في الشعر. والذبح مكسورة الذال ما يذبح من الغنم والذَبح الفعل.

قلت وفي قوله اللهم ارحم المحلقين وجه آخر وهو أن السنة فيمن لبد رأسه الحلق وإنما يجزىء القصر فيمن لم يلبد وكان رسول الله ﷺ قد لبد رأسه.

وروى عنه أنه قال من لبد رأسه فليحلق من طريق عبد الله العمري عن نافع عن ابن عمر، وروي ذلك أيضا عن عمر بن الخطاب وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق، وقال أصحاب الرأي إن قصر ولم يحلق أجزأه.


52/79م ومن باب العمرة

664- قال أبو داود: حدثنا هناد بن السري، عن أبي زائدة حدثنا ابن جريج ومحمد بن إسحاق عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال والله ما أعمر رسول الله ﷺ عائشة في ذي الحجة إلا ليقطع بذلك أمر أهل الشرك فإن هذا الحي من قريش ومن دان دينهم كانوا يقولون إذا عفا الوبَر وبرأ الدبر ودخل صفر فقد حلت العمرة لمن اعتمر.

قوله عفا الوبر معناه كثر واثمر نباته يقال عفا القوم إذا كثر عددهم، ومنه قول الله تعالى {حتى عفوا} [3] وكانوا لا يعتمرون في الأشهر الحرم حتى تنسلخ.


665- قال أبو داود: حدثنا أبو كامل حدثنا أبو عوانة عن إبراهيم بن مهاجر، عن أبي بكر بن عبد الرحمن قال أخبرني رسول مروان الذي أرسل إلى أم معقل قال جاء أبو معقل حاجا مع رسول الله ﷺ فلما قدم قالت أم معقل قد علمت أن عليَّ حجة فانطلقا يمشيان حتى دخلا على رسول الله ﷺ فقالت يا رسول الله إن علي حجة وإن لأبي معقل بكرا فقال أبو معقل صدقت جعلته في سبيل الله فقال رسول الله ﷺ أعطها فلتحج عليه فإنه في سبيل الله فأعطاها البكر فقالت يا رسول الله إني امرأة قد كبرت وسقمت فهل من عمل يجزىء عني من حجتي فقال عمرة في رمضان تجزء حجة.

قلت فيه من الففه جواز احباس الحيوان. وفيه أنه جعل الحج من السبيل، وقد اختلف الناس في ذلك، وكان ابن عباس لا يرى بأسا أن يعطي الرجل من زكاته في الحج وروي مثل ذلك عن ابن عمر، وكان أحمد وإسحاق يقولان يعطي من ذلك في الحج، وقال سفيان وأصحاب الرأي والشافعي لا تصرف الزكاة إلى الحج وسهم السبيل الغزاة والمجاهدون.


53/84م ومن باب الحائض تخرج بعد الإفاضة

666- قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي ﷺ ذكر صفيه بنت حُيَي فقيل إنها قد حاضت فقال رسول الله ﷺ لعلها حابستنا فقالوا يا رسول الله إنها قد أفاضت قال فلا إذا.

قلت طواف الإفاضة هو الذي يدعي طواف الزيارة وهو الواجب الذي لا يتم الحج إلا به.

وفيه دليل على أن طواف الوداع ليس بواجب وأوجبوا على من تركه دما إلا الحائض فإنها إذا تركته لم يلزمها شيء. وفيه دليل على أن الطواف لا يصح من الحائض وأنها لا تدخل المسجد ولا تقرب البيت.


667- قال أبو داود: حدثنا عمرو بن عوف أخبرنا أبو عَوانة عن يعلى بن عطاء عن الوليد بن عبد الرحمن عن الحارث بن عبد الله بن أوس قال أتيت عمر بن الخطاب فسألته عن المرأة تطوف بالبيت يوم النحر ثم تحيض، قال ليكن آخر عهدها بالبيت، قال فقال الحارث كذلك أفتاني رسول الله ﷺ فقال عمر اربْتَ عن يديك سألتني عن شيء سألت عنه رسول الله ﷺ لكيما أخالف.

قوله اربت دعاء عليه كأنه يقول سقطت آرابه وهي جمع أرب وهو العضو. قلت وهذا على سبيل الاختيار في الحائض إذا كان في الزمان نفَس وفي الوقت مهلة. فأما إذا أعجلها السير كان لها أن تنفر من غير وداع بدليل خبر صفية، وممن قال أنه لا وداع على الحائض مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وهو قول أصحاب الرأي وكذلك قال سفيان.


54/86م ومن باب التحصيب

668- قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن سعيد عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت إنما نزل رسول الله ﷺ المحصب ليكون اسمح لخروجه.

قلت التحصيب إذا نفر الرجل من منى إلى مكة للتوديع أن يقيم بالشعب الذي يخرجه إلى الأبطح حتى يهجع بها من الليل ساعة ثم يدخل مكة وكان هذا شيئا يفعل ثم ترك.


55/87م ومن باب من قدم شيئا قبل شيء في حجه

669- قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن عيسى بن طلحة بن عبيد الله عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال وقف رسول الله ﷺ في حجة الوداع بمنى يسألونه فجاء رجل فقال يا رسول الله إني لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح فقال رسول الله ﷺ اذبح ولا حرج، وجاء آخر فقال يا رسول الله لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي قال ارم ولا حرج، قال فما سئل يومئذٍ عن شيء قدم أو أخر إلا قال اصنع ولا حرج.


670- قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن الشيباني عن زياد بن علاقة عن أسامة بن شريك قال خرجت مع النبي ﷺ حاجا فكان الناس يأتونه فمن قائل يا رسول الله سعيت، يَعني قبل أن أطوف وأخرت شيئا أو قدمت شيئا فكان يقول لا حرج لا حرج إلا على رجل اقترض من عرض رجل مسلم وهو ظالم فذلك الذي حَرِج وهلَك.

قلت ظاهر هذا الحديث أنه إذا حلق رأسه قبل أن يذبح أو نحر قبل أن يرمي فلا شيء عليه، وإلى هذا ذهب مجاهد وطاوس وهو قول الشافعي وسواء عندهم فعله ناسيا أو متعمدا.

وقال أحمد وإسحاق فيمن فعل ذلك ساهيا فلا شيء عليه كأنه يرى أن حكم العامد خلاف ذلك ويدل على صحة ما ذهب إليه أحمد قوله في هذا الحديث إني لم أشعر فحلقت.

وذهب قوم إلى أنه إذا قدم شيئا أو أخره كان عليه دم. وروي ذلك عن ابن عباس وبه قال سعيد بن جبير وقتادة وإليه ذهب مالك بن أنس.

وتأول بعض من ذهب إلى هذا القول من أصحاب الرأي. قوله ارم ولا حرج على أنه أراد رفع الحرج في الإثم دون الفدية، قال وقد يجوز أن يكون هذا السائل مفردا فلا يلزمه دم وإذا كان متطوعا بالدم لم يلزمه في تقديمه وتأخيره شيء.

قلت قوله لا حرج ينتظم الأمرين جميعا الاثم والفدية لأنه كلام عام، وكان أصحاب رسول الله ﷺ إما متمتعين أو قارنين على ما دلت عليه الأخبار والدم على القارن والمتمتع واجب. على أن السائل عن هذا الحكم لم يكن رجلا واحدا فقط إنما كانوا جماعة ألا تراه يقول فمن قائل أخرت شيئا أو قدمت شيئا وهؤلاء لا يتفق أن يكونوا كلهم مفردين فكان هذا الاعتراض غير لازم.

وأما قوله سعيت قبل أن أطوف فيشبه أن يكون هذا السائل لما طاف طواف القدوم قرن به السعي، فلما طاف طواف الإفاضة لم يعد السعي فأفتاه بأن لا حرج لأن السعي الأول الذي قرنه بالطواف الأول قد أجزأه.

فأما إذا لم يكن سعى إلى أن أفاض فالواجب عليه أن يؤخر السعي عن الطواف لا يجزيه غير ذلك في قول عامة أهل العلم إلا في قول عطاء وحده فإنه قال يجزئه وهو قول كالشاذ لا اعتبار له.

قوله اقترض معناه اغتاب وأصله من القرض وهو القطع.


56/89م ومن باب حرم مكة

671- قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الأوزاعي حدثني يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال لما فتح الله على رسوله ﷺ مكة قام رسول الله ﷺ فيهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين وإنما أحلت لي ساعة من النهار ثم هي حرام إلى يوم القيامة لا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها ولا تحل لقطتها إلا لمنشد فقام عباس أو قال فقال يا رسول الله إلا الاذخر قال وزادنا فيه ابن المصفى عن الوليد فقام أبو شاة رجل من أهل اليمن فقال اكتبوا لي يا رسول الله فقال رسول الله ﷺ اكتبوا لأبي شاة قلت للأوزاعي ما قوله اكتبوا لأبي شاة. قال هذه الخطبة.

قوله إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين. ثم قوله وإنما أحلت لي ساعة من النهار يستدل بهما من يذهب إلى أن مكة فتحت عنوة لا صلحا. وتأول غيرهم قوله وإنما أحلت لي ساعة من النهار على معنى دخوله إياها من غير إحرام لأنه دخلها وعليه عمامة سوداء.


وقيل إنما أحلت له في تلك الساعة إراقة الدم دون الصيد وقطع الشجر وسائر ما حرم على الناس منه.

وقد سأل بعض الملحدين عن هذا فقال لم كان حبس الفيل في زمان الجاهلية عنها ومنعه منها ومن الإفساد والإلحاد فيها ولم يمنع الحجاج بن يوسف في زمان الإسلام عنها وقد نصب المنجنيق على الكعبة وأضرمها بالنار وسفك فيها الدم الحرام وقتل عبد الله بن الزبير وأصحابه في المسجد وكيف لم يحبس عنها القرامطة وقد سلبوا الكعبة ونزعوا حليتها وقلعوا الحجر وقتلوا العالم من الحاج وخيار المسلمين بحضرة الكعبة. فأجاب عن مسألته بعض العلماء بأن حبس الفيل عنها في الجاهلية كان علما لنبوة رسول الله ﷺ وتنويها بذكر آبائه إذ كانوا عمار البيت وسكان الوادي فكان ذلك الصنيع ارهاصا للنبوة وحجة عليهم في إثباتها فلو لم يقع الحبس عنها والذب عن حريمها لكان في ذلك أمران أحدهما فناء أهل الحرم وهم الآباء والأسلاف لعامة المسلمين ولكافة من قام به الدين، والآخر أن الله سبحانه أراد أن يقيم به الحجة عليهم في إثبات نبوة رسوله ﷺ وأن يجعله مقدمة لكونها وظهورها فيهم فكان مولد رسول الله ﷺ عامئذ وكانوا قوما عربا أهل جاهلية ليست لهم بصيرة في العلم ولا تقدمة في الحكمة وإنما كانوا يعرفون من الأمور ما كان دركه من جهة الحس والمشاهدة فلو لم يجر الأمر في ذلك على الوجه الذي جرى لم يكن يبقى في أيديهم شيء من دلائل النبوة تقوم به الحجة عليهم في ذلك الزمان فأما وقد أظهر الله الدين ورفع أعلامه وشرح أدلته وأكثر أنصاره فلم يكن ما حدث عليها من ذلك الصنيع أمرا يضر بالدين أو يقدح في بصائر المسلمين وإنما كان ما حدث منه امتحانا من الله سبحانه لعباده ليبلو في ذلك صبرهم واجتهادهم ولينيلهم من كرامته ومغفرته ما هو أهل التفضيل به والله يفعل ما يشاء وله الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين.


وقوله لا يعضد شجرها معناه لا يقطع والعضد القطع قلت وسواء في ذلك ما غرسه الآدميون وما نبت من غير غرس وتنبيت لأن العموم يسترسل على ذلك كله وهو ظاهر مذهب الشافعي، وسمعت أصحاب أبي حنيفة يفرقون بين ما ينبت من الشجر في الحرم وبين ما ينبته الآدميون ويجعلون النهي مصروفا إلى ما أنبته الله تعالى دون غيره.

ويحكى عن مالك أنه قال لا شيء على من قطع شيئا من شجر الحرم وهو قول داود وأهل الظاهر وأما الشافعي فإنه يرى فيه الفدية.

وقوله لا ينفر صيدها معناه لا يتعرض له بالاصطياد ولا يهاج فينفر.

وحكي عن سفيان بن عيينة أنه قال معناه أن يكون الصيد رابضا في ظل الشجرة فلا ينفره الرجل ليقعد فيستظل مكانه وقوله لا تحل لقطتها إلا لمنشد فإن المنشد هو المعرف تقول نشدت الضالة إذا طلبتها وأنشدتها إذا عرفتها.

وقد اختلف الناس في حكم ضالة الحرم فذهب أكثر أهل العلم إلى أنه لا فرق بينها وبين ضالة الحل. وكان عبد الرحمن بن مهدي يذهب إلى التفرقة بينها وبين ضالة سائر البقاع ويقول ليس لواجدها منها غير التعريف أبدا ولا يملكها بحال ولا يستنفقها ولا يتصدق بها حتى يظفر بصاحبها، وكان يحتج بقوله لا تحل لقطتها إلا لمنشد، ويحكى عن الشافعي نحو من هذا القول.

وفي الحديث دليل على أن كتاب العلم وتدوين أحاديث الرسول ﷺ وتخليدها في الصحف جائز وقد رويت الكراهة في ذلك عن بعض السلف.


672- قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن منصور عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس في هذه القصة قال ولا يختلي خلاها.

قلت الخلاء الحشيش ومنه سميت المخلاة، وكان الشافعي يقول لا يحتش من الحرم، فأما الرعي فلا بأس به وتفصيل ذلك على مذهبه أن ينظر إلى الحشيش فإن كان يستخلف إذا قطع كان جائزا قطعه، وكذلك القضيب من أغصان الشجر وإن كان لا يستخلف لم يجز وفيه ما يقصه. ويكره على مذهبه إخراج شيء من أحجار مكة ومن جميع أجزاء أرضها وتربتها لتعلق حرمة الحرم بها إلا إخراج ماء زمزم فإنه غير مكروه لما فيه من التبرك والتشفي.

وقال أبوحنيفة ومحمد بن الحسن لا يحتش ولا يرعى وقول أبي يوسف قريب من قول الشافعي.

قلت فأما الشوك فلا بأس بقطعه لما فيه من الضرر وعدم النفع ولا بأس بأن ينتفع بحطام الشجر وما بلي منه والله أعلم.


673- قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا إسرائيل عن إبراهيم بن مهاجر عن يوسف بن ماهك عن أمه عن عائشة قالت: قلت يا رسول الله ألا نبني لك بيتا أو بناء يظلك من الشمس فقال لا إنما هو مُناخ من سبق إليه.

قلت قد يحتج بهذا من لا يرى دور مكة مملوكة لأهلها ولا يرى بيعها وعقد الإجارة عليها جائز وقد قيل إن هذا خاص للنبي ﷺ وللمهاجرين من أهل مكة فأنها دار تركوها لله تعالى فلم ير أن يعودوا فيها فيتخذوها وطنا أو يبنوا فيها بناء والله أعلم.


57/94-95م ومن باب في إتيان المدينة

674- قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن الزهري عن ابن المسيب، عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى.

قلت هذا في النذر ينذر الإنسان أن يصلي في بعض المساجد فإن شاء وفى به وإن شاء صلى في غيره إلا أن يكون نذر الصلاة في واحد من هذه المساجد فإن الوفاء يلزمه بما نذره فيها، وإنما خص هذه المساجد بذلك لأنها مساجد الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، وقد أمرنا بالاقتداء بهم.

وقال بعض أهل العلم لا يصح الاعتكاف إلا في واحد من هذه المساجد الثلاثة وعليه تأول الخبر.


58/95-96م ومن باب في تحريم المدينة

675- قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير حدثنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن علي رضي الله عنه قال ما كتبنا عن رسول الله ﷺ إلا القرآن وما في هذه الصحيفة قال رسول الله ﷺ المدينة حرام ما بين عائر إلى ثور فمن أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه عدل ولا صرف. ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه عدل ولا صرف ومن والى قوما بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه عدل ولا صرف.

عائر وثور جبلان وزعم بعض العلماء أن أهل المدينة لا يعرفون بالمدينة جبلا يقال له ثور، وإنما ثور بمكة فيرون أن الحديث إنما أصله ما بين عائر إلى أحد، وأما تحريمه المدينة فإنما هو في تعظيم حرمتها دون تحريم صيدها وشجرها.

وقد اختلف الناس في صيد المدينة وشجرها فقال مالك والشافعي وأكثر الفقهاء لا جزاء على من اصطاد في المدينة صيدا واحتجوا بحديث أنس وبقوله ﷺ يا أبا عمير ما فعل النغير والنغر صيد فلو كان صيد المدينة حراما لم يجز اصطياده ولا إمساكه في المدينة كهو بمكة، وكان ابن ذئب يرى الجزاء على من قتل صيدا من صيد المدينة أو قطع شجرة من شجرها.

وروي أن سعدا وزيد بن ثابت وأبا هريرة كانوا يرون صيد المدينة حراما فأما إيجاب الجزاء فلا يصح عن أحد منهم.

وكان الشافعي يذهب في القديم إلى أن من اصطاد في المدينة صيدا أخذ سلبه وروى فيه أثرا عن سعيد وقال في الجديد بخلافه.

وقال ابن نافع سئل مالك عن قطع السدر وما جاء فيه من النهي فقال إنما نهى عن قطع سدر المدينة لئلا توحش وليبقى فيها شجرها فيستأنس بذلك ويستظل بها من هاجر إليها.

وقوله من آوى محدثا فعليه لعنة الله فإنه يروى على وجهين محدثا مكسورة الدال وهو صاحب الحدث وجانيه، ومحدثا مفتوحة الدال وهو الأمرالمحدث والعمل المبتدع الذي لم تجر به سنة ولم يتقدم به عمل.


وقوله لا يقبل منه عدل ولا صرف فإنه يقال في تفسير العدل أنه الفريضة والصرف النافلة. ومعنى العدل هو الواجب الذي لا بد منه ومعنى الصرف الربح والزيادة ومنه صرف الدراهم والدنانير والنوافل زيادات على الأصول فلذلك سميت صرفا.

وقوله يسعى بها أدناهم فمعناه أن يحاصر الإمام قوما من الكفار فيعطي بعض أهل عسكر المسلمين أمانا ًلبعض الكفار فإن أمانه ماض وإن كان المجير عبدا وهو أدناهم وأقلهم. وهذا خاص في أمان بعض الكفار دون جماعتهم ولا يجوز لمسلم أن يعطي أمانا عاما لجماعة الكفار فإن فعل ذلك لم يجز أمانه لأن ذلك يؤدي إلى تعطيل الجهاد أصلا وذلك غير جائز.

وقوله فمن أخفر مسلما يريد نقض العهد يقال خفرت الرجل إذا أمنته وأخفرته بالألف إذا نقضت عهده.

وقوله من والى قوما بغير إذن مواليه فإن ظاهره يوهم أنه شرط وليس معناه معنى الشرط حتى يجوز له أن يوالي غير مواليه إذا أذنوا له في ذلك وإنما هو بمعنى التوكيد لتحريمه والتنبيه على بطلانه والإرشاد إلى السبب فيه وذلك أنه إذا استأذن أولياءه في موالاة غيرهم منعوه من ذلك، وإذا استبد به دونهم خفي أمره عليهم فربما ساغ له ما تعاطاه من ذلك فإذا تطاول الوقت وامتد به الزمان عرف من لاء من انتقل إليهم فيكون ذلك سببا لبطلان حق مواليه فهذا وجه ما ذكر من إذنهم.


676- قال أبو داود: حدثنا حامد بن يحيى حدثنا عبد الله بن الحارث عن محمد بن عبد الله بن إنسان الطائفي عن أبيه عن عروة بن الزبير قال أقبلنا مع رسول الله ﷺ من لية حتى إذا كنا عند السدرة وقف رسول الله ﷺ في طرف القرن الأسود حذوها فاستقبل نخبا ببصره ووقف حتى اتفق الناس كلهم ثم قال إن صيد وجٍّ وعِضاهه حَرَم مُحَرم لله وذلك قبل نزوله الطائف وحصاره ثقيف.

قلت القرن جبيل صغير ورابية تشرف على وهدة. وَوَجٍّ ذكروا أنه من ناحية الطائف ونخب أراه جبلا أو موضعا ولست أحقه والعضاه من الشجر ما كان له شوك ويقال للواحدة منه عضة على وزن عوة ويقال عضة وعضاه كما قالوا شفة وشفاه. ولست أعلم لتحريمه وجها معنى إلا أن يكون ذلك على سبيل الحمى لنوع من منافع المسلمين، وقد يحتمل أن يكون ذلك التحريم إنما كان في وقت معلوم وفي مدة محصورة ثم نسخ. ويدل على ذلك قول وذلك قبل نزول الطائف وحصاره ثقيف ثم عاد الأمر فيه إلى الإباحة كساتر بلاد الحل. ومعلوم أن عسكر رسول الله ﷺ إذا نزلوا بحضرة الطائف وحصروا أهلها ارتفقوا بما نالته أيديهم من شجر وصيد ومرفق فدل ذلك على أنها حل مباح وليس يحضرني في هذا وجه غير ما ذكرته إلا شيء يروى عن كعب الأحبار لا يعجبني أن أحكيه وأعظم أن أقوله وهو كلام لا يصح في دين ولا نظر والله أعلم.


8 كتاب الضحايا

677- قال أبو داود: حدثنا حميد بن مسعدة حدثنا بشر عن عبد الله بن عون عن عامر بن أبي رملة قال أنبأنا مخنف بن سليم قال ونحن وقوف مع رسول الله ﷺ بعرفات فقال يا أيها الناس إن على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة أتدرون ما العتيرة هذه التي تقول الناس الرجبية. قال أبو داود العتيرة منسوخة.

قلت العتيرة تفسيرها في الحديث أنها شاة تذبح في رجب وهذا هو الذي يشبه معنى الحديث ويليق بحكم التدين، فأما العتيرة التي كان يعترها أهل الجاهلية فهي الذبيحة تذبح للصنم فيصب دمها على رأسه، والعتر بمعنى الذبح ومنه قول الحارث بن حلزة:

عننا باطلا وظلما كما تعتر عن حجرة الربيض الظباء

أي تذبح واختلفوا في وجوب الأضحية فقال أكثر أهل العلم إنها ليست بواجبة ولكنها مندوب إليها.

وقال أبو حنيفة هي واجبة وحكاه عن إبراهيم، وقال محمد بن الحسن هي واجبة على المياسير.

قلت هذا الحديث ضعيف المخرج وأبو رملة مجهول.


1/2- 3م ومن باب الرجل يأخذ من شعره

وهو يريد أن يضحي

678- قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا محمد بن عمرو حدثنا عمرو بن مسلم الليثي قال سمعت سعيد بن المسيب يقول سمعت أم سلمة تقول قال رسول الله ﷺ من كان له ذِبح يذبحه فإذا أهل هلال ذي الحجة فلا يأخذن من شعره ولا من أظفاره شيئا حتى يضحي.

قلت الذِبح بكسر الذال الضحية التي يذبحها المضحي. واختلف العلماء في القول بظاهر هذا الخبر فكان سعيد بن المسيب يقول به ويمنع المضحي من أخذ أظفاره وشعره أيام العشر من ذي الحجة، وكذلك قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن وإليه ذهب أحمد وإسحاق.

وكان مالك والشافعي يريان ذلك على الندب والاستحباب. ورخص أصحاب الرأي في ذلك.

قلت وفي حديث عائشة دليل على أن ذلك ليس على الوجوب وهو قولها فتلت قلائد هدي رسول الله ﷺ بيدي ثم قلدتها ثم بعث بها ثم لم يحرم عليه شيء كان أحله الله له حتى نحر الهدي.

وأجمعوا أنه لا يحرم عليه اللباس والطيب كما يحرمان على المحرم فدل ذلك على سبيل الندب والاستحباب دون الحتم والإيجاب.


2/3-4م ومن باب ما يستحب من الضحايا

679- قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب حدثني حياة حدثني أبو صخر عن ابن قسيط عن عروة عن الزبير عن عائشة أن رسول الله ﷺ أمر بكبش أقرن يطأ في سواد وينظر في سواد ويبرك في سواد فأتي به فضحى به، قال فقال يا عائشة هلمي المدية ثم قال أشحثيها بحجر ففعلت فأخذها وأخذ الكبش فأضجعه وذبحه وقال بسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد ثم ضحى به.

قوله يطأ في سواد يريد أن أظلافه ومواضع البروك منه وما أحاط بملاحظ عينيه من وجهه أسود وسائر بدنه أبيض. وقوله أشحثيها إنما هو اشحذيها والثاء والذال قريبا المخرج. وفي قوله تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد دليل على أن الشاة الواحدة تجزىء عن الرجل وأهله وإن كثروا وروي، عن أبي هريرة وابن عمر أنهما كانا يفعلان ذلك وأجازه مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد وكره ذلك الثوري وأبو حنيفة.


680- قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي حدثنا عيسى حدثنا محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي عياش عن جابر بن عبد الله قال ذبح النبي ﷺ يوم الذبح كبشين أقرنين أملحين موجبين فلما وجههما قال إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض على ملة إبراهيم حنيفا وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين اللهم منك ولك عن محمد وأمته بسم الله الله أكبر ثم ذبح.

الأملح من الكباش هو الذي في خلال صوفه الأبيض طاقات سود.

وقوله موجبين يريد منزوعي الأنثيين والوجاء الخصاء يقال وجأت الدابة فهي موجوءة إذا خصيتها.

وفي هذا دليل على أن الخصي في الضحايا غير مكروه، وقد كرهه بعض أهل العلم لنقص العضو وهذا نقص ليس بعيب لأن الخصاء يفيد اللحم طيبا وينفي منه الزهومة وسوء الرائحة.


681- قال أبو داود: حدثنا يحيى بن معين حدثنا حفص عن جعفرعن أبيه، عن أبي سعيد قال كان رسول الله ﷺ يضحي بكبش أقرن فحيل ينظر في سواد ويأكل في سواد ويمشي في سواد.

قلت الفحيل الكريم المختار للفحلة، فان الفحل فهو عام في الذكور منها وقالوا في ذكورة النخل فحال فرقا بينه وبين سائر الفحول من الحيوان.

هامش

  1. [التوبة: 37]
  2. [البقرة: 198]
  3. [الأعراف: 95]