→ السابق | معالم السنن للإمام الخطابي
|
اللاحق ← |
25/46م ومن باب الشُح
493- قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن الحارث، عن أبي كثير عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله ﷺ إياكم والشح فإنما هلك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا وأمرهم بالفجور ففجروا.
قلت الشح أبلغ في المنع من البخل وإنما الشح بمنزلة الجنس والبخل بمنزلة النوع، وأكثر ما يقال البخل إنما هو في إفراد الأمور وخواص الأشياء، والشح عام وهو كالوصف اللازم للإنسان من قبل الطبع والجبلة.
وقال بعضهم البخل أن يضن بمال والشح أن يبخل بماله وبمعروفه، والفجور ههنا الكذب، وأصل الفجور الميل والانحراف عن الصدق ويقال للكاذب قد فجر أي انحرف عن الصدق.
494- قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا إسماعيل حدثنا أيوب عن عبد الله بن أبي مليكة قال حدثتني أسماء بنت أبي بكر قالت: قلت يا رسول الله ما لي شيء إلا ما أدخل عليَّ الزبير بيته أفأعطي منه قال اعطي ولا تُوكي فيوكى عليك.
قلت معناه اعطي من يصيبك منه ولا توكي أي لا تدخري والإيكاء شد رأس الوعاء بالوكاء وهو الرباط الذي يربط به يقول لا تمنعي ما في يدك فتنقطع مادة بركة الرزق عنك.
وفيه وجه آخر وهو أن صاحب البيت إذا أدخل الشيء بيته كان ذلك في العرف مفوضا إلى ربة المنزل فهي تنفق منه بقدر الحاجة في الوقت وربما تدخر منه الشيء لغابر الزمان فكأنه قال إذا كان الشىء مفوضا إليك موكولا إلى تدبيرك فاقتصري على قدر الحاجة في النفقة وتصدقي بالباقي ولا تدخري والله أعلم.
5 كتاب اللقطة
495- قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا شعبة عن سلمة بن كهيل عن سويد بن غَفَلة قال غزوت مع زيد بن صوحان وسلمان بن ربيعة فوجدت سوطا فقال لي أطرحه فقلت لا ولكن إن وجدت صاحبه وإلا استمتعت به، قال فحججت فمررت على المدينة فسألت أُبيّ بن كعب فقال وجدت صرة فيها مائة دينار فأتيت رسول الله ﷺ فقال عرفها حولا فعرفتها حولا ثم أتيته فقال عرفها حولا فعرفتها حولا ثم أتيته فقال عرفها حولا فعرفتها ثم أتيته فقلت لم أجد من يعرفها. قال احفظ عددها ووكاءها ووعاءها فان جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها وقال لا أدري ثلاثا قال عرفها أو مرة واحدة.
496- قال أبو داود: حدثنا موسى بن اسماعيل حدثنا حماد حدثنا سلمة بن كهيل بإسناده ومعناه قال في التعريف عامين أو ثلاثة، وقال اعرف عددها ووعاءها ووكاءها زاد فإن جاء صاحبها فعرف عددها ووكاءها فادفعها إليه.
قال أبو داود ليس يقول ذا الكلمة إلا حماد في هذا الحديث، يَعني فعرف عددها.
في هذا الحديث من الفقه إن أخذ اللقطة جائز فإنه ﷺ لم ينكر على أُبيّ أخذها والتقاطها. وممن روى ذلك عنه عبد الله بن عمر بن الخطاب وجابر بن زيد وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وكره أخذها أحمد بن حنبل.
قلت وفيه أن اللقطة إذا كان لها بقاء ولم يكن مما يسرع إليها الفساد فيتلف قبل مضي السنة فإنها تعرف سنة كاملة.
وقد اختلفت هذه الرواية في تحديد المدة فقال فيها لا أدري قالها مرة أو ثلاثا وجاء في خبر زيد بن خالد الجهني عن رسول الله ﷺ عرفها حولا واحدا من غير شك فيه وهو مذهب عامة الفقهاء. وفي قوله فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها دليل على أن له أن يتملكها بعد السنة ويأكلها بعد السنة إن شاء غنيا كان الملتقط لها أو فقيرا وكان أبي بن كعب من مياسير الأنصار ولوكان لا يجوز للغني أن يتملكها بعد تعريف السنة لأشبه أن لا يبيح له الاستمتاع منها إلا بالقدر الذي لا يخرجه عن حد الفقر إلى حد الغنى فلما أباح له الاستمتاع بها كلها دل أن حكم الغني والفقير لا يختلف في ذلك وإلى هذا ذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه. وقد روي عن عمر بن الخطاب وعائشة إباحة التملك والاستمتاع بعد السنة.
وقالت طائفة إذا عرفها سنة ولم يأت صاحبها تصدق بها روي ذلك عن علي وابن عباس وهو قول الثوري وأصحاب الرأي وإليه ذهب مالك.
وفي قوله من رواية حماد فإن جاء صاحبها فعرف عددها ووكاءها فادفعها إليه دلالة على أنه إذا وصف اللقطة وعرف عددها دفعت إليه من غير تكليف بينة سواها وهو مذهب مالك وأحمد. وقال الشافعي إن وقع في نفسه أنه صادق وقد عرف الرجل العفاص والوكاء والعدد والوزن دفعها إليه إن شاء ولا أخبره على ذلك إلا ببينة لأنه قد يصيب الصفة بأن يستمع الملتقط يصفها وكذلك قال أصحاب الرأي.
قلت ظاهر الحديث يوجب دفعها إليه إذا أصاب الصفة وهو فائدة قوله عفاصها ووكاءها فإن صحت هذه اللفظة في رواية حماد وهي قوله فعرف عددها فادفعها إليه كان ذلك أمرا لا يجوز خلافه وإن لم يصح فالاحتياط مع من لم يرالرد إلا بالبينة لقوله عليه السلام البينة على المدعي.
ويتأول على هذا المذهب قول اعرف عفاصها ووكاءها على وجهين أحدهما أنه أمره بذلك لئلا يختلط بماله فلا يتميز منه والوجه الآخر لتكون الدعوى فيها معلومة فإن الدعوى المبهمة لا تقبل.
قلت وأمره بإمساك اللقطة وتعريفها أصل في أبواب من الفقه إذا عرضت الشبهة فلم يتبين الحكم فيها وإلى هذا ذهب الشافعي في كثير من المسائل مثل أن يطلق إحدى نسائه من غير تعيين ومات فإن الثمن يوقف بينهن حتى تتبين المطلقة منهن أو يصطلحن على شيء في نظائر لها من الأحكام.
497- قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا إسماعيل بن جعغر عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد الجهني أن رجلا سأل رسول الله ﷺ عن اللقطة فقال عرفها سنة ثم اعرف وكاءها وعفاصها ثم استنفق بها فإن جاء ربها فأدها إليه فقال يا رسول الله فضالة الغنم فقال خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب قال يا رسول الله فضالة الإبل فغضب رسول الله ﷺ حتى احمرت وجنتاه أو احمر وجهه.
وقال مالك ولها معها حذاؤها وسقاؤها حتى يأتيها ربها.
قلت الوكاء الخيط الذي يشد به الصرة والعفاص الوعاء الذي يكون فيه النفقة وأصل العفاص الجلد الذي يلبس رأس القارورة.
وفي الحديث دليل على أن قليل اللقطة وكثيرها سواء في وجوب التعريف إذا كان مما يبقى إلى الحول لأنه عم اللفظ ولم يخص. وقال قوم ينتفع بالقليل التافه من غير تعريف كالنعل والسوط والجراب ونحوها مما يرتفق به ولا يتمول.
وعن بعضهم أن ما دون عشرة دراهم قليل. وقال بعضهم إنما يعرف من اللقطة ما كان فوق الدينار واستدل بحديث علي رضي الله عنه أنه وجد دينارا فأخبر بذلك رسول الله ﷺ فأمره أن يشتري به دقيقا ولحما فلما وضع الطعام جاء صاحب الدينار قال فهذا لم يعرفه سنة لكن استنفقه حين وجده فدل ذلك على فرق ما بين القليل من اللقطة والكثير منها. وقد ذكر أبو داود حديث عليّ في موضع من هذا الكتاب.
وقوله في ضالة الغنم هي لك أولأخيك أو للذئب فيه دليل على أنه إنما جعل هذا حكمها إذا وجدت بأرض فلا يخاف عليها الذئاب فيها. فأما إذا وجدت في قرية وبين ظهراني عمارة فسبيلها سبيل اللقطة في التعريف إذ كان معلوما إن الذئاب لا تأوي إلى الأمصار والقرى.
وأما ضالة الإبل فإنه لم يجعل لواجدها أن يتعرض لها لأنها قد ترد الماء وترعى الشجر وتعيش بلا راع وتمتنع على أكثر السباع فيجب أن يخلي سبيلها حتى يأتي ربها، وفي معنى الإبل الخيل والبغال والظباء وما أشبهها من كبار الدواب التي تمعن في الأرض وتذهب فيها.
وقوله في الإبل معها حذاؤها وسقاؤها فإنه يريد بالحذاء اخفافها يقول إنها تقوى على السير وقطع البلاد وأراد بالسقاء أنها تقوى على ورود المياه فتحمل ريها في أكراشها.
قلت فإن كانت الإبل مهازيل لا تنبعث فإنها بمنزلة الغنم التي قيل فيها هي لك أو لأخيك أو للذئب.
وفى قوله ثم استنفق بها وقوله هي لك أو لأخيك دليل على أنه لا ينقض عليه البيع فيها إذا كان قد باعها ولكن يغرم القيمة لأنه أذن له في أن يستنفقها فقد أذن له فيما يتوصل به إلى الاستنفاق بها من بيع ونحوه.
498- قال أبو داود: حدثنا محمد بن رافع وهارون بن عبد الله المعنى قالا: حدثنا ابن أبي فديك عن الضحاك، يَعني ابن عثمان عن بُسر بن سعيد عن زيد بن خالد الجهني أن رسول الله ﷺ سئل عن اللقطة فقال عرفها سنة فإن جاء باغيها فأدها إليه وإلا فاعرف عفاصها ووكاءها ثم كلها فإن جاء باغيها فأدها إليه.
قلت قوله ثم كلها يصرح بإباحتها له بشرط أن يؤدي ثمنها إذا جاء صاحبها فدل أنه لا وجه لكراهة الاستمتاع بها. وقال مالك بن أنس إذا أكل الشاة التي وجدها بأرض الفلاة ثم جاء صاحبها لم يغرمها وقال لأن النبي ﷺ جعلها له ملكا بقوله هي لك أو لأخيك، وكذلك قال داود والحديث حجة عليهما وهو قوله بعد إباحة الأكل فإن جاء باغيها فأدها إليه.
وقال الشافعي يغرمها كما يغرم اللقطة يلتقطها في المصر سواء.
499- قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حفص حدثني أبي حدثني إبراهيم بن طهمان عن عباد بن إسحاق عن عبد الله بن يزيد عن أبيه يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد الجهني أنه قال سئل رسول الله ﷺ عن اللقطة قال تعرفها حولا فإن جاء صاحبها دفعتها إليه وإلا عرفت وكاءها وعفاصها ثم أفضها في مالك فإن جل صاحبها دفعتها إليه.
قوله ثم افضها في مااك معناه ألقها في مالك وأخلطها به من قولك فاض الأمر والحديث إذا انتشر وشاع، فيقال ملك فلان فائض إذا كان شائعا مع أملاك شركائه غير مقسوم ولا متميز منها، وهذا يبين لك أن المراد بقوله اعرف عفاصها ووكاءها إنما هو ليمكنه تمييزها بعد خلطها بماله إذا جاء صاحبها لا أنه جعله شرطا لوجوب دفعها إليه بغير بينة يقيمها أكثر من ذكر عددها وإصابة الصفة فيها.
500- قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا خالد، يَعني الطحان قال وحدثنا موسى بن إسماعيل أخبرنا وهيب المعنى عن خالد الحذاء، عن أبي العلاء عن مطرف، يَعني ابن عبد الله عن عياض بن حماد قال: قال رسول الله ﷺ من وجد لقطة فليشهد ذا عدل. أو ذوي عدل ولا يكتم ولا يغيب فإن وجد صاحبها فليردها عليه وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء.
قوله فليشهد أمر تأديب وإرشاد وذلك لمعنيين أحدهما ما يتخوفه في العاجل من تسويل النفس وانبعاث الرغبة فيها فتدعوه إلى الخيانة بعد الأمانة والآخر ما لا يؤمن من حدوث المنية به فيدعيها ورثته ويحوزونها في جملة تركته.
501- قال أبو داود: حدثنا قتيبة حدثنا الليث عن ابن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله ﷺ أنه سئل عن الثمر المعلق فقال من أصاب منه من ذي حاجة غير متخذ خُبنة فلا شيء عليه ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة. ومن سرق منه بعد أن يؤويه الجَرين فبلغ ثمن المجَن فعليه القطع. ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثليه والعقوبة. قال وسئل عن اللقطه فقال ما كان في طريق المِيتاء والقرية الجامعة فعرفها سنة وما كان من الخراب ففيها وفي الركاز الخمس.
قلت الخبنة ما يأخذه الرجل في ثوبه فيرفعه إلى فوق، ويقال للرجل إذا رفع ذيله في المشي قد رفع خبنته. وقوله فعليه غرامة مثليه يشبه أن يكون هذا على سبيل التوعيد لينتهي فاعل ذلك عنه. والأصل أن لا واجب على متلف الشيء أكثر من مثله وقد قيل أنه كان في صدر الإسلام يقع بعض العقوبات في الأموال ثم نسخ والله أعلم.
وإنما سقط القطع عمن سرق الثمر المعلق لأن حوائط المدينة ليس عليها حيطان وليس سقوطه عنه من أجل أن لا قطع في عين الثمر فإنه مال كساتر الأموال ألست ترى أنه قد أوجب القطع في ذلك الثمر بعينه إذا كان أواه الجرين فإنما كان الفرق بين الأمرين الحرز. والطريق الميتاء هي المسلوكة التي يأتيها الناس. وقوله وما كان من الخراب فإنه يريد بالخراب العادي الذي لا يعرف له مالك وسبيله سبيل الركاز وفيه الخمس وسا ئره لواجده.
فأما الخراب الذي كان مرة عامرا ملكا لمالك ثم خرب فإن المال الموجود فيه ملك لصاحب الخراب ليس لواجده منه شيء فان لم يعرف صاحبه فهو لقطة.
502- قال أبو داود: حدثنا مخلد بن خالد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن عمرو بن مسلم عن عكرمة أحسبه، عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال في ضالة الإبل المكتومة غرامتها ومثلها معها.
قلت سبيل هذا سبيل ما تقدم ذكره من الوعيد الذي يراد به وقوع الفعل وإنما هو زجر وردع، وكان عمر بن الخطاب يحكم به وإليه ذهب أحمد بن حنبل وأما عامة الفقهاء فعلى خلافه.
503- قال أبو داود: حدثنا عمر بن عون حدثنا خالد، عن أبي حيان التيمي عن المنذر بن جرير قال كنت مع جرير بالبوازيج فجاء الراعي بالبقر وفيها بقرة ليست منها فقال له جرير أخرجوها سمعت رسول الله ﷺ يقول لا يأوي الضالة إلا ضال.
قلت هذا ليس بمخالف للأخبار التي جاءت في أخذ اللقطة. وذلك أن اسم الضالة لا يقع على الدرهم والدنانير والمتاع ونحوها، وإنما الضالة اسم للحيوان التي تضل عن صاحبها كالإبل والبقر والطير وما في معناها فإذا وجدها المرء لم بجز له أن يعرض لها ما دامت بحال تمتنع بنفسها وتستقل بقوتها حتى يأخذها ربها.
6 كتاب الصيام
504- قال أبو داود: حدثنا ابن المثنى حدثنا ابن أبي عدي عن سعيد عن قتادة عن عزرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله عز وجل {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} [1] قال كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وهما يطيقان الصيام أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكينا والحبلى والمرضع إذا خافتا، يَعني على أولادهما أفطرتا وأطعمتا.
قلت مذهب ابن عباس في هذا أن الرخصة مثبتة للحبلى والمرضع، وقد نسخت في الشيخ الذي يطيق الصوم فليس له أن يفطر ويفدي إلا أن الحامل والمرضع وإن كانت الرخصة قائمة لهما فإنه يلزمهما القضاء مع الإطعام، وإنما لزمهما الإطعام مع القضاء لأنهما يفطران من أجل غيرهما شفقة على الولد وإبقاء عليه، وإذا كان الشيخ يجب عليه الإطعام وهو أنه رخص له في الإفطار من أجل نفسه فقد عقل أن من ترخص فيه من أجل غيره أولى بالإطعام وهذا على مذهب الشافعي وأحمد. وقد روي ذلك أيضا عن مجاهد.
فأما الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم فإنه يطعم ولا قضاء عليه لعجزه. وقد روي ذلك عن أنس وكان يفعل ذلك بعدما أسن وكبر، وهو قول أصحاب الرأي ومذهب الشافعي والأوزاعي. وقال الأوزاعي والثوري وأصحاب الرأي في الحبلى والمرضع تقضيان ولا تطعمان كالمريض، وكذلك روي عن الحسن وعطاء والنخعي والزهري. وقال مالك بن أنس في الحبلى هي كالمريض تقضي ولا تطعم، والمرضع تقضي وتطعم.
1/4م ومن باب الشهر يكون تسعا وعشرين
505- قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا شعبة عن الأسود بن قيس عن سعيد بن عمرو، يَعني ابن سعيد بن العاص عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ إنَّا أُمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا وهكذا وخنَس سليمان إصبعه في الثالثة، يَعني تسعا وعشرين.
قوله أمية إنما قيل لمن لا يكتب ولا يقرأ أمي لأنه منسوب إلى أمة العرب وكانوا لا يكتبون ولا يقرؤون، ويقال إنما قيل له أمي على معنى أنه باق على الحال التي ولدته أمه لم يتعلم قراءة ولا كتابا.
وقوله خنس إصبعه أي أضجعها فأخرها عن مقام أخواتها، ويقال للرجل إذا كان مع أصحابه في مسير أو سفر فتخلف عنهم قد خنس عن أصحابه.
وقوله الشهر هكذا يريد أن الشهر قد يكون هكذا أي تسعا وعشرين وليس يريد أن كل شهر تسعة وعشرون، وإنما احتاج إلى بيان ما كان موهوما أن يخفى عليهم لأن الشهر في العرف وغالب العادة ثلاثون فوجب أن يكون البيان فيه مصروفا إلى النادر دون المعروف منه. فلو ان رجلا حلف أو نذر أن يصوم شهرا بعينه فصامه فكان تسعا وعشرين كان بارا في يمينه ونذره ولو حلف ليصومن شهرا لا يعينه فعليه إتمام العدة ثلاثون يوما.
وفي الحديث مستدل لمن رأى الحكم بالإشارة واعمال دلالة الإيماء كمن قال امرأتي طالق وأشار بأصابعه الثلاث فإنه يلزمه ثلاث تطليقات على الظاهر من الحال.
506- قال أبو داود: حدثنا سليمان حدثنا حماد حدثنا أيوب عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فأقدروا له فكان ابن عمر إذا كان شعبان تسعا وعشرين نظر له فإن رئي فذلك. وإن لم ير ولم يحل دون منظره سحاب أو قترة أصبح مفطرا وإن حال دون منظره سحاب أو قترة أصبح صائما. قال وكان ابن عمر يفطر مع الناس ولا يأخذ بهذا الحساب.
قوله غم عليكم من قولك غممت الشيء إذا غطيته فهومغموم. وقوله فأقدروا له معناه التقدير له بإكمال العدد ثلاثين، يقال قدرت الشيء أقدره قدرا بمعنى قدرته تقديرا ومنه قوله تعالى {فقدرنا فنعم القادرون} [2].
وكان بعض أهل العلم يذهب في ذلك غير هذا المذهب ويتأوله على التقدير له بحساب سير القمر في المنازل والقول الأول أشبه ألا تراه يقول في رواية أخرى فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يوما. حدثناه جعفر بن نصير الخالدي حدثنا الحاوث بن أبي أسامة حدثنا سليمان بن داود حدثنا إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن ابن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غُم عليكم فصوموا ثلاثين يوما.
وقد روي ذلك أيضا من طريق ابن عمر أخبرنا محمد بن هاشم حدثنا الدبَري عن عبد الرزاق عن عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ إن الله جعل الأهلة مواقيت للناس فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا له ثلاثين يوما.
قلت وعلى هذا قول عامة أهل العلم ويؤكد ذلك نهيه ﷺ عن صوم يوم الشك، وكان أحمد يقول إذا لم ير الهلال لتسع وعشرين من شعبان لعلة في السماء صام الناس وإن كان صحوا لم يصوموا أتباعا لمذهب ابن عمر.
وقوله وكان ابن عمر يفطر مع الناس ولا يأخذ بهذا الحساب يريد أنه كان يفعل هذا الصنيع في شهر شعبان احتياطا للصوم ولا يأخذ بهذا الحساب في شهر رمضان ولا يفطر إلا مع الناس، والقتَرة الغبرة في الهواء الحائلة بين الأبصار وبين رؤية الهلال.
507- قال أبو داود: حدثنا مسداد أن يزيد بن زريع حدثه، قال: حدثنا خاك الحذاء عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه عن النبي ﷺ قال شهرا عيد لا ينقصان رمضان وذو الحجة.
قلت اختلف الناس في تأويله على وجوه فقال بعضهم معناه أنهما لا يكونان تاقصين في الحكم وإن وجدا ناقصين في عدد الحساب.
وقال بعضهم معناه إنهما لا يكادان يوجدان في سنة واحدة مجتمعين في النقصان فإن كان أحدهما تسعا وعشرين كان الآخر ثلاثين على الكمال.
قلت وهذا القول لا يعتمد لأن دلالته تخلف إلا أن يحمل الأمر في ذلك على الغالب الأكثر. وقال بعضهم إنما أراد بهذا تفضيل العمل في العشر من ذي الحجة وأنه لا ينقص في الأجر والثواب عن شهر رمضان.
2/5م ومن باب إذا أخطأ القوم الهلال
508- قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبيد الله حدثنا حماد في حديث أيوب عن محمد بن المنكدر، عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال فيه وفطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون.
معنى الحديث أن الخطأ موضوع عن الناس فيما كان سبيله الاجتهاد فلو أن قوما اجتهدوا فلم يروا الهلال إلا بعد الثلاثين فلم يفطروا حتى استوفوا العدد ثم ثبت عندهم أن الشهر كان تسعا وعشرين فإن صومهم وفطرهم ماض فلا شيء عليهم من وزر أو عتب. وكذلك هذا في الحج إذا أخطؤوا يوم عرفة فإنه ليس عليهم إعادته ويجزيهم أضحاهم كذلك ؛ وإنما هذا تخفيف من الله سبحانه ورفق بعباده ولو كلفوا إذا أخطؤوا العدد أن يعيدوا أن يأمنوا أن يخطؤوا ثانيا وأن لا يسلموا من الخطأ ثالثا ورابعا فإن ما كان سبيله الاجتهاد كان الخطأ غير مأمون فيه.
3/8م ومن باب تقدم الشهر
509- قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن ثابت عن مطرف عن عمران بن حصين. وسعيد الجريري، عن أبي العلاء عن مطرف عن عمران أن رسول الله ﷺ قال لرجل هل صمت من سَرَر شعبان شيئا قال لا قال فإذا أفطرت فصم يوما، وقال أحدهما يومين.
510- قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا حسين عن زائدة عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ لا تقدموا الشهر بصيام يوم ولا يومين إلا أن يكون شيء يصومه أحدكم.
قلت هذان الحديثان متعارضان في الظاهر ووجه الجمع بينهما أن يكون الأول إنما هو شيء كان الرجل قد أوجبه على نفسه بنذره فأمره بالوفاء به أو كان ذلك عادة قد اعتادها في صيام أواخر الشهور فتركه لاستقبال الشهر فاستحب له ﷺ أن يقضيه.
وأما المنهي عنه في حديث ابن عباس فهو أن يبتدأ المرء متبرعا به من غير إيجاب نذر ولا عادة قد تعودها فيما مضى والله أعلم.
وسرر الشهر آخره وفيه لغتان يقال سرر الشهر وسراره.
511- قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن العلاء الزُبيدي من كتابه حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا عبد الله بن العلاء، عن أبي الأزهر المغيرة بن فروة قال قام معاوية في الناس بدير مسحل الذي على باب حمص فقال يا أيها الناس إنا قد رأينا الهلال يوم كذا وكذا، وأنا متقدم بالصيام فمن أحب أن يفعله فليفعله قال فقام إليه مالك بن هبيرة فقال يا معاوية أشيء سمعته من رسول الله ﷺ أم شيء من رأيك قال سمعت رسول الله ﷺ يقول صوموا الشهر وسرَّه.
512- قال أبو داود: حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي قال قال الوليد سمعت أبا عمرو، يَعني الأوزاعي يقول سره أوله. قلت أنا أنكر هذا التفسير وأراه غلطا في النقل ولا أعرف له وجها في اللغة، والصحيح ان سره آخره هكذا حدثناه أصحابنا عن إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل حدثنا محمود بن خالد الدمشقي عن الوليد عن الأوزاعي قال سِره آخره وهذا هو الصواب. وفيه لغات يقال سر الشهر وسَرَرُ الشهر وسراره وسمي آخر الشهر سرا لاستسرار القمر فيه.
وأما قوله صوموا الشهر فإن العرب تسمي الهلال الشهر تقول رأيت الشهر أي الهلال وأنشد ابن الأعرابي:
اَبْدانَ من نجد على مَهَل …والشهر مثل قلامة الظفر
أي الهلال ولذا كان أول الشهر مأمورا بصيامه في قوله صوموا الشهر فقد علم أن الأمربصيام سره غير أوله.
4/9م ومن باب إذا رُأى الهلال ببلد قبل آخر بليلة
513- قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا إسماعيل، يَعني ابن جعفر أخبرني محمد بن أبي حرمله أخبرني كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام قال فقدمت الشام فقضيت حاجتها فاستهل رمضان وأنا بالشام فرأينا الهلال ليله الجمعة ثم قدمت المدينة من الشام في آخر الشهر فسألني ابن عباس فقال متى رأيتم الهلال قلت رأيته ليلة الجمعة، قال أنت رأيته قلت نعم ورآه الناس فصاموا وصام معاوية، فقال لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل الثلاثين أو نراه، فقلت أفلا نكتفي برؤيه معاوية وصيامه قال لا هكذا أمرنا رسول الله ﷺ.
قلت اختلف الناس في الهلال يستهله أهل بلد في ليلة ثم يستهله أهل بلد آخر في ليلة قبلها أو بعدها فذهب إلى ظاهر حديث ابن عباس القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله بن عمر وعكرمة وهو مذهب إسحاق وقالوا لكل قوم رؤيتهم.
وقال ابن المنذر قال أكثر الفقهاء إذا ثبت بخبر الناس أن أهل بلد من البلدان قد رأوه قبلهم فعليهم قضاء ما أفطروه، وهو قول أصحاب الرأي ومالك، وإليه ذهب الشافعي وأحمد.
5/10م ومن باب كراهة صوم يوم الشك
514- قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير أخبرنا أبو خالد الأحمر عن عمرو بن قيس، عن أبي إسحاق عن صلة قال كنا عند عمار في اليوم الذي يشك فيه فأتى بشاة فتنحى بعض القوم فقال عمار من صام هذا اليوم فقد عصى أبا القاسم ﷺ.
قلت اختلف الناس في معنى النهي عن صيام يوم الشك فقال قوم إنما نهى عن صيامه إذا نوى به أن يكون عن رمضان. فأما من نوى به صوم يوم من شعبان فهو جائز. هذا قول مالك بن أنس والأوزاعي وأصحاب الرأي، ورخص فيه على هذا الوجه أحمد وإسحاق.
وقالت طائفة لا يصام ذلك اليوم عن فرض ولا تطوع للنهي فيه وليقع الفصل بذلك بين شعبان ورمضان، هكذا قال عكرمة وروي معناه، عن أبي هريرة وابن عباس.
وكانت عائشة وأسماء ابنتا أبي بكر رضي الله عنهم تصومان ذلك اليوم، وكانت عائشة تقول لأن أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان. وكان مذهب عبد الله بن عمر بن الخطاب صوم يوم الشك إذا كان من ليله في السماء سحاب أو قترة فإن كان صحوا ولم ير الناس الهلال أفطر مع الناس وإليه ذهب أحمد بن حنبل.
وقال الشافعي إن وافق يوم الشك يوما كان يصومه صامه وإلا لم يصمه وهو أن يكون من عادته أن يصوم صوم داود فإن وافق يوم صومه صامه وإن وافق يوم فطره لم يصمه.
515- قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال لا يتقدم أحدكم صوم رمضان بيوم ولا يومين إلا أن يكون صوما يصومه رجل فليصم ذلك اليوم.
قلت معناه أن يكون قد اعتاد صوم الاثنين والخميس فيوافق صوم اليوم المعتاد فيصومه ولا يتعمد صومه إن لم تكن له عادة وهذا قريب من معنى الحديث الأول.
516- قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا عبد العزيز بن محمد عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ إذا انتصف شعبان فلا تصوموا.
قلت هذا حديث كان يذكره عبد الرحمن بن مهدي من حديث العلاء وروت أم سلمة أن رسول الله ﷺ كان يصوم شعبان كله ويصله برمضان ولم يكن يصوم من السنة شهرا تاما غيره.
517- حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا عبد العزيز بن محمد قال قدم عباد بن كثير المدينة فمال إلى مجلس العلاء فأخذ بيده فأقامه ثم قال اللهم إن هذا يحدث عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال إذا انتصف شعبان فلا تصوموا، فقال العلاء اللهم إن أبى حدثني، عن أبي هريرة ويشبه أن يكون حديث العلاء أثبت على معنى كراهة صوم يوم الشك ليكون في ذلك اليوم مفطرا أو يكون استحب إجمام الصائم في بقية شعبان ليتقوى بذلك على صيام الفرض في شهر رمضان كما كره للحاج الصوم بعرفة ليتقوى بالإفطار على الدعاء.
6/14م ومن باب الشهادة على هلال شهر شوال
518- قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبد الرحيم أبو يحيى البزاز حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا عباد بن العوام، عن أبي مالك الأشجعي حدثنا الحسين بن الحارث الجَدَلي جديلة قيس. أن أمير مكة خطب ثم قال عهد إلينا رسول الله ﷺ أن ننسك لرؤيته فإن لم نره وشهد شاهد عدل نسكنا بشهادتهما قال فسألت الحسين بن الحارث من أمير مكة، فقال الحارث بن حاطب أخو محمد بن حاطب ثم قال الأمير إن فيكم من هو أعلم بالله ورسوله مني وشهد هذا من رسول الله ﷺ وأومأ بيده إلى رجل قال الحسين، فقلت لشيخ إلى جنبي من هذا الذي أومأ إليه الأمير، قال هذا عبد الله بن عمر وصدق كان أعلم بالله منه فقال بذلك أمرنا رسول الله ﷺ.
قلت لا أعلم اختلافا في أن شهادة الرجلين العدلين مقبولة في رؤية هلال شوال وإنما اختلفوا في شهادة رجل واحد، فقال أكثر العلماء لا يقبل فيه أقل من شاهدين عدلين.
وقد روي عن عمر بن الخطاب من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه أجاز شهادة رجل واحد في أضحى أو فطر، ومال إلى هذا القول بعض أهل الحديث وزعم أن باب رؤية الهلال باب الإخبار فلا يجري مجرى الشهادات ألا ترى أن شهادة الواحد مقبولة في رؤية هلال شهر رمضان فكذلك يجب أن تكون مقبولة في هلال شهر شوال.
قلت لو كان ذلك من باب الإخبار لجاز فيه أن يقول أخبرني فلان أنه رأى الهلال فلما لم يجز ذلك على الحكاية عن غيره علم أنه ليس من باب الإخبار والدليل على صحة ذلك أنه يقول أشهد أني رأيت الهلال كما يقول ذلك في سائر الشهادات ولكن بعض الفقهاء ذهب في أن رؤية هلال رمضان خصوصا من باب الإخبار وذلك لأن الواحد العدل فيه كاف عند جماعة من العلماء واحتج بخبر ابن عمر أنه قال أخبرت رسول الله ﷺ إني رأيت الهلال فأمرالناس بالصيام.
قلت ومن ذهب إلى هذا الوجه أجاز فيه المرأة والعبد.
519- قال أبو داود: حدثنا محمود بن خالد وعبد الله بن عبد الرحمن السمرقندي وإنا لحديثه أتقن قالا: حدثنا مروان وهو ابن محمد عن عبد الله بن وهب عن يحيى بن عبد الله بن سالم، عن أبي بكر بن نافع عن أبيه عن ابن عمر قال ترايا الناس الهلال فأخبرت رسول الله ﷺ أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه.
قلت فيه بيان أن شهادة الواحد العدل في رؤية هلال شهر رمضان مقبولة وإليه ذهب الشافعي في أحد قوليه وهو قول أحمد بن حنبل.
وكان أبو حنيفة وأبو يوسف يجيزان على هلال شهر رمضبان شهادة الرجل الواحد العدل وإن كان عبدا، وكذلك المرأة الواحدة وإن كانت أمة ولا يجيزان في هلال الفطر إلا رجلين أو رجلا وامرأتين. وكان الشافعي لا يجيز في ذلك شهادة النساء، وكان مالك والأوزاعي وإسحاق بن راهويه يقولون لا يقبل على هلال شهر رمضان ولا على هلال الفطر أقل من شاهدين عدلين.
وفي قول ابن عمر ترايا الناس الهلال فأخبرت رسول الله ﷺ أني رأيته وقبوله في ذلك قوله وحده دليل على وجوب قبول أخبار الآحاد وأنه لا فرق بين أن يكون المخبر بذلك منفردا عن الناس وحده وبين أن يكون مع جماعة من الناس فلا يشاركه أصحابه في ذلك.
وقال بعض أهل العراق إذا ترايا الناس الهلال وكان صحوا فقال واحد منهم قد رأيته لم أقبله قال وهذا مثل أن يكون جماعة قد حضروا الإمام يوم الجمعة فأخبر واحد منهم أنه خطب موليا وجهه عن القبلة ولم يصدقه على ذلك الجماعة الحضور فإنه لا يقبل.
قلت وهذا مخالف لما شبهوه به لأن مثل تلك الحال لا يخفى على ذي بصر. والحاد البصر والكليل يستويان في ذلك. وأما الهلال فقد يزل عن بعض أبصار الناس لدقته وضؤلة شخصه ويتجلى لمن كان أحد بصرا وأجود استدراكا. ولو أن جماعة حضروا في محفل فشهد عدلان منهم على رجل من جماعتهم أنه قام فيهم فطلق امرأته وأنكره الباقون كان القول قولهما دون قول من أنكر وإن كانوا كلهم ذوي آذان سميعة واحساس سليم فكذلك هذا لا فرق بين الأمرين.
520- قال أبو داود: حدثنا محمد بن بكار بن الريان حدثنا الوليد، يَعني ابن ثور قال وحدثنا الحسن بن علي حدثنا حسين عن زائدة المعنى عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس، قال جاء أعرابي إلى النبي ﷺ فقال إني رأيت الهلال، قال الحسن، يَعني هلال رمضان، فقال أتشهد أن لا إله إلا الله، قال نعم قال أتشهد أن محمدا رسول الله قال نعم، قال يا بلال أذن في الناس فليصوموا غدا.
قلت وهذا يدل على مثل ما دل عليه خبر ابن عمر، وفيه حجة لمن أجرى الأمر في رؤ ية هلال شهر رمضان مجرى الإخبار ولم يحملها على أحكام الشهادات وفيه أيضا حجة لمن رأى أن الأصل في المسلمين العدالة، وذلك أنه لم يطلب أن يعلم من الأعرابي غير الإسلام فقط ولم يبحث بعد عن عدالته وصدق لهجته.
7/16م ومن باب السحور
521- قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا ابن المبارك عن موسى بن علي بن رباح عن أبيه، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله ﷺ إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر.
قلت معنى هذا الكلام الحث على التسحر وفيه الإعلام بأن هذا الدين يسرلا عسر فيه. وكان أهل الكتاب إذا ناموا بعد الإفطار لم يحل لهم معاودة الأكل والشرب وعلى مثل ذلك كان الأمر في أول الإسلام ثم نسخ الله عز وجل ذلك ورخص في الطعام والشراب إلى وقت الفجر بقوله {كلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} [3].
522- قال أبو داود: حدثنا عمرو بن محمد الناقد حدثنا حماد بن خاك الخياط حدثنا معاوية بن صالح عن يوسف بن سيف عن الحارث بن زياد، عن أبي رُهم عن العرباض بن سارية قال دعاني رسول الله ﷺ إلى السحور في رمضان فقال هلم إلى الغداء المبارك.
قلت إنما سماه غداء لأن الصائم يتقوى به على صيام النهار فكأنه قد تغدى والعرب تقول غدا فلان لحاجته إذا بكر فيها وذلك من لدن وقت السحر إلى طلوع الشمس قال:
أمن آل نُعم أنت غادٍ فمبكر
523- قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا حماد بن زيد عن عبد الله بن سوادة القشيري عن أبيه قال سمعت سمرة بن جندب يخطب وهو يقول. قال رسول الله ﷺ: لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق الذي هكذا حتى يستطير.
قوله يستطير معناه يعترض في الأفق وينشر ضوءه هناك قال الشاعر:
لهان على سراة بني لؤي... حريق بالبُويرة مستطير
524- قال أبو داود: حدثنا محمد بن عيسى حدثنا ملازم بن عمرو عن عبد الله بن النعمان حدثني قيس بن طلق عن أبيه قال: قال رسول الله ﷺ كلوا واشربوا ولا يَهِيدنكم الساطع المصعد فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر.
قوله لا يهيدنكم معناه لا يمنعنكم الأكل وأصل الهيد الزجر، يقال هدت الرجل أهيده هيدا إذا زجرته، ويقال في زجر الدواب يريد هِيْد هِيْد والساطع المرتفع وسطوعها ارتفاعها مصعدا قبل أن يعترض. ومعنى الأحمر ههنا أن يستبطن البياض المعترض أوائل حمرة وذلك أن البياض إذا تتام طلوعه ظهرت أوائل الحمرة والعرب تشبه الصبح بالبلَق في الخيل لما فيه من بياض وحمرة، وقد جعله عمر بن أبي ربيعة شقرة فقال:
فلما تقضى الليل إلا أقله …وكادت توالي نجمه تتغوّر
فما راعني إلا مناد تحملوا …وقد لاح معروف من الصبح أشقر
525- قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا حصين بن نمير قال وحدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا ابن إدريس المعنى عن حصين عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال لما نزلت هذه الآية {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود} [4] قال أخذت عقالا أبيض وعقالا أسود ووضعتهما تحت وسادتي فنظرت فلم أتبين فذكرت ذلك للنبي ﷺ فضحك وقال إن وسادك إذا لعريض طويل إنما هو الليل والنهار.
وقال عثمان إنما هو سواد الليل وبياض النهار. قوله إن وسادك إذا لعريض فيه قولان أحدهما يريد أن نومك إذا لكثير وكنى بالوساد عن النوم إذا كان النائم يتوسده أو يكون أراد أن ليلك إذا لطويل إذا كنت لا تمسك عن الأكل والشرب حتى يتبين لك سواد العقال من بياضه.
والقول الآخر أنه كنى بالوساد عن الموضع الذي يضعه من رأسه وعنقه على الوساد إذا نام والعرب تقول فلان عريض القفا إذا كانت فيه غباوة وغفلة.
وقد روي في هذا الحديث من طريق آخر أنه قال إنك عريض القفا والعرب تسمي بياض الصبح أول ما يبدو خيطا قال النابغة:
فلما تبدت لنا سَدْفة... ولاح من الصبح خيط أنارا
8/19م ومن باب الرجل يسمع النداء والإناء على يده
526- قال أبو داود: حدثنا عبد الأعلى بن حماد حدثنا حماد عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه.
قلت هذا على قوله إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم أو يكون معناه أن يسمع الأذان وهو يشك في الصبح مثل أن تكون السماء متغمة فلا يقع له العلم بأذانه أن الفجر قد طلع لعلمه أن دلائل الفجر معه معدومة ولو ظهرت للمؤذن لظهرت له أيضا، فأما إذا علم انفجار الصبح فلا حاجة به إلى أذان الصارخ لأنه مأمور بأن يمسك عن الطعام والشراب إذا تبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.
9/20م ومن باب وقت فطر الصائم
527- قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا وكيع قال وحدثنا مسدد حدثنا عبد الله بن داود المعنى عن هشام بن عروة عن أبيه عن عاصم بن عمر عن أبيه قال: قال رسول الله ﷺ إذا جاء الليل من هاهنا وذهب النهار من هاهنا. قال مسدد وغابت الشمس فقد أفطر الصائم.
قوله فقد أفطر الصائم معناه أنه قد صار في حكم المفطر وإن لم يأكل وقيل معناه أنه قد دخل في وقت الفطر وحان له أن يفطر كما قيل أصبح الرجل إذا دخل في وقت الصبح وأمسى وأظهر كذلك. وفيه دليل على بطلان الوصال.
528- قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الواحد حدثنا سليمان الشيباني. قال سمعت عبد الله بن أبي أوفى يقول سرنا مع رسول الله ﷺ وهو صائم فلما غربت الشمس قال يا بلال انزل فاجدح لنا فقال يا رسول الله لو أمسيت قال انزل فاجدح لنا قال يا رسول الله إن عليك نهارا. قال انزل فاجدح لنا فجدح فشرب رسول الله ﷺ ثم قال إذا رأيتم الليل قد أقبل من ههنا فقد أفطر الصائم وأشار بأصبعه قبل المشرق.
قوله أجدح لنا الجدح أن يخاض السويق بالماء ويحرك حتى يستوي وكذلك اللبن ونحوه. والمجدح العود المجنح الرأس الذي يخاض به الأشربة ليرق ويستوي.
10/25م ومن باب الوصال
529- قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ نهى عن الوصال قالوا فإنك تواصل قال إني لست كهيئتكم أني أطعم وأسقى.
قلت الوصال من خصائص ما أبيح لرسول الله ﷺ وهو محظور على أمته ويشبه أن يكون المعنى في ذلك ما يتخوف على الصائم من الضعف وسقوط القوة فيعجزوا عن الصيام المفروض وعن سائر الطاعلت أو يملوها إذا نالتهم المشقة فيكون سببا لترك الفريضة.
قوله إني لست كهيئتكم إني أطعم وأسقى يحتمل معنيين أحدهما أني أعان على الصيام وأقوى عليه فيكون ذلك بمنزلة الطعام والشراب لكم. ويحتمل أن يكون قد يؤتى على الحقيقة بطعام وشراب يطعمهما فيكون ذلك خصيصا كرامة لا يشركه فيها أحد من أصحابه والله أعلم.
11/26م ومن باب الغيبة للصائم
530- قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك، عن أبي الزناد عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال إذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم إني صائم.
قوله لا يرفث يريد لا يفحش والرفث الخنا والفحش. وقوله فليقل إني صائم يتأول على وجهين أحدهما فليقل ذلك لصاحبه نطقا باللسان يرده بذلك عن نفسه. والوجه الآخر أن يقول ذلك في نفسه أي ليعلم أنه صائم فلا يخوض معه ولا يكافئه على شتمه لئلا يفسد صومه ولا يحبط أجر عمله.
12/28م ومن باب الاستنشاق للصائم
531- قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا يحيى بن سليم عن إسماعيل بن كثير عن عاصم بن لقيط بن صبرة عن أبيه لقيط بن صبرة قال: قال رسول الله ﷺ بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما.
فيه من الفقه أن وصول الماء إلى موضع الدماغ يفطر الصائم إذا كان بفعله وعلى قياس ذلك كل ما وصل إلى جوفه بفعله من حقنة وغيرها سواء كان ذلك في موضع الطعام والغذاء أو في غيره من حشو جوفه، وقد يستدل بذلك من يوجب الاستنشاق في الطهارة قالوا ولولا وجوبه لكان يطرحه عن الصائم أصلا احتياطا على صومه فلما لم يفعل ذلك دل على أنه واجب لا يجوز تركه وإلى هذا ذهب إسحاق بن راهويه.
13/24م - ومن باب من أفطر قبل غروب الشمس
532- قال أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله ومحمد بن العلاء المعنى قالا: حدثنا أبو أسامة حدثنا هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أيى بكر قالت أفطرنا يوما في رمضان في غيم في عهد رسول الله ﷺ ثم طلعت الشمس وقال أسامة قلت لهشام أمروا بالقضاء قال وبُدَّ من ذلك.
قلت اختلف في وجوب القضاء في مثل هذا فقال أكثر أهل العلم القضاء واجب عليه وقال إسحاق بن راهويه وأهل الظاهر لا قضاء عليه ويمسك بقية النهار عن الأكل حتى تغرب الشمس، وروي ذلك عن الحسن البصرى وشبهوه بمن أكل ناسيا في الصوم.
قلت الناسي لا يمكنه أن يحترز من الأكل ناسيا وهذا يمكنه أن يمكث فلا يأكل حتى يتيقن غيبوبة الشمس فالنسيان خطأ في الفعل وهذا خطأ في الوقت والزمان والتحرز منه ممكن.
14/26م - ومن باب السواك للصائم
533- قال أبو داود: حدثنا محمد بن الصباح حدثنا شريك ( ح ) وحدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان عن عاصم بن عبيد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه قال رأيت رسول الله ﷺ يستاك وهو صائم زاد مسدد في حديثه ما لا أعُدُ ولا أُحصي.
قلت السواك مستحب للصائم والمفطر إلا أن قوما من العلماء كرهوا للصائم أن يستاك آخر النهار استبقاء لخلوف فمه، وإلى هذا ذهب الشافعى وهو قول الأوزاعي وروي ذلك عن ابن عمر وإليه ذهب عطاء ومجاهد.
15/29م - ومن باب الصائم يحتجم
534- قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن هشام، يَعني ابن أبي عبد الله عن يحيى عن ابن أبي كثير، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان عن رسول الله ﷺ قال: أفطر الحاجم والمحجوم.
قلت اختلف الناس في تأويل هذا الحديث فذهبت طائفة من أهل العلم إلى أن الحجامة تفطر الصائم قولا بظاهر الحديث، هذا قول أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وقالا عليهما القضاء وليست عليهما الكفارة، وعن عطاء قال على من احتجم وهو صائم في شهر رمضان القضاء والكفارة.
وروي عن جماعة من الصحابة أنهم كانوا يحتجمون ليلا منهم ابن عمر وأبو موسى الأشعري وأنس بن مالك. وكان مسروق والحسن وابن سيرين لا يرون للصائم أن يحتجم، وكان الأوزاعي يكره ذلك، وقال ابن المسيب والشعبي والنخعي إنما كرهت الحجامة للصائم من أجل الضعف. وممن كان لا يرى بأسا بالحجامة للصائم سفيان الثوري ومالك بن أنس والشافعي وهو قول أصحاب الرأي.
وتأول بعضهم الحديث فقال معنى أفطر الحاجم والمحجوم أي تعرضا للإفطار أما المحجوم فللضعف الذي يلحقه من ذلك فيؤديه إلى أن يعجز عن الصوم. وأما الحاجم فلأنه لا يؤمن أن يصل إلى جوفه من طعم الدم أو من بعض أجراحه إذا ضم شفتيه على قصب الملازم وهذا كما يقال للرجل يتعرض للمهالك قد هلك فلان وإن كان باقيا سالما. وإنما يراد به أنه قد أشرف على الهلاك وكقوله ﷺ من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين يريد أنه قد تعرض للذبح.
وقيل فيه وجه آخر وهو أنه مر بهما مساء فقال أفطر الحاجم والمحجوم كأنه عذرهما بهذا القول إذ كانا قد أمسيا ودخلا في وقت الإفطار كما يقال أصبح الرجل وأمسى وأظهر إذا دخل في هذه الأوقات. وأحسبه قد روي في بعض الحديث.
وقال بعضهم هذا على التغليظ لهما والدعاء عليهما كقوله فيمن صبام الدهر لا صام ولا أفطر. فمعنى قوله أفطر الحاجم والمحجوم على هذا التأويل أي بطل صيامهما فكأنهما صارا مفطرين غير صائمين، وقيل أيضا معناه حان لهما أن يفطرا كقولك حصد الزرع إذا حان أن يحصد واركب المهر إذا كان له أن يركب.
535- قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ احتجم صائما محرما.
قلت وهذا يؤكد قول من رخص في الحجامة للصائم ورأى أن الحجامة لا تفسد الصوم.
وفيه دليل على أن الحجامة لا تضر المحرم مالم يقطع شعرا، وقد تأول حديث ابن عباس من ذهب إلى أن الحجامة تفطر الصائم، فقال إنما احتجم النبي ﷺ صائما محرما وهو مسافر لأنا لا نعلمه كان محرما وهو مقيم وللمسافر أن يفطر على ما شاء من طعام وجماع وحجامة وغيرها.
قلت وهذا التأويل غير صحيح لأنه قد أثبته حين احتجم صائما ولو كان يفسد صومه بالحجامة لكان يقال أنه أفطر بالحجامة كما يقال أفطر الصائم بشرب الماء وبأكل التمر وما أشبههما ولا يقال شرب ماء صائما ولا أكل تمرا وهو صائم.
هامش