→ السابق | معالم السنن للإمام الخطابي
|
اللاحق ← |
80/135م ومن باب عقوبة الغال
787- قال أبو داود: حدثنا النفيلي وسعيد بن منصور قالا: حدثنا عبدالعزيز بن محمد عن صالح بن محمد بن زائدة قال دخلت مع مسلمة أرض الروم فأتي برجل قد غل فسأل سالما عنه فقال سمعت أبي يحدث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال إذا الرجل قد غل فاحرقوا متاعه واضربوه ؛ قال فوجدنا في متاعه مصحفا فسأل سالما عنه فقال بعه وتصدق بثمنه.
قلت أما تأديبه عقوبة في نفسه على سوء فعله فلا أعلم بين أهل العلم فيه خلافا وأما عقوبته في ماله فقد اختلف العلماء في ذلك، فقال الحسن البصري يحرق من ماله إلا أن يكون حيوانا أو مصحفا وقال الأوزاعي يحرق متاعه وكذلك قال أحمد وإسحاق قالوا ولا يحرق ما غل لأنه حق الغانمين يرد عليهم فإن استهلكه غرم قيمته.
وقال الأوزاعي يحرق متاعه الذي غزا به وسرجه وأكافه ولا يحرق دابته ولا نفقته إن كانت معه ولا سلاحه ولا ثيابه التي عليه.
وقال الشافعي لا يحرق رحله ولا يعاقب الرجل في ماله إنما يعاقب في بدنه جعل الله الحدود على الأبدان لا على الأموال، وإلى هذا ذهب مالك ولا أراه إلا قول أصحاب الرأي، ويشبه أن يكون الحديث عندهم معناه الزجر والوعيد لا الإيجاب والله أعلم.
81/136م ومن باب السلب يعطي القاتل
788- قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن يحيى بن سعيد عن عمر بن كثير بن أفلح، عن أبي محمد مولى أبي قتادة، عن أبي قتادة أنه قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ في عام حنين قال فلما التقينا كانت للمسلمين جولة، قال فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين، قال فاستدرت له حتى أتيته من ورائه فضربته بالسيف على حبل عاتقه فأقبل عليّ فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت ثم أرسلني فلحقت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقلت له ما بال الناس، قال أمر الله ثم إن الناس رجعوا وجلس رسول الله ﷺ فقال من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه، قال فقمت ثم قلت من يشهد لي ثم جلست ثم قال الثانية من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه، قال فقمت ثم قلت من يشهد لي ثم جلست، ثم قال ذلك الثالثة فقال رسول الله ﷺ ما لك يا أبا قتادة فاقتصصت عليه القصة، فقال رجل من
القوم صدق يا رسول الله وسلب ذلك القتيل عندي فأرضه منه، فقال أبو بكر الصديق لاها الله إذا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله وعن رسوله فيعطيك سلبه، فقال رسول الله ﷺ صدق فأعطه إياه، قال أبو قتادة فأعطانيه فبعت الدرع فابتعت به مَخْرِفا في بني سلمة وأنه لأول مال تأثلته في الإسلام.
قلت حبل العاتق وصلة ما بين العنق والكاهل. وقوله لاها الله إذا هكذا يروى والصواب لا هآ الله ذا بغير ألف قبل الذال، ومعناه في كلامهم لا والله يجعلون الهاء مكان الواو ومعناه لا والله لا يكون ذا. والمخرف بفتح الميم البستان يريد حائط نخل منه الثمر، فأما المخرف بكسر الميم فالوعاء الذي يخترف فيه الثمر.
وقوله تأثلته معناه تملكته فجعلته أصل مال واثلة كل شيء أصله ويقال تأثل ملك فلان إذا كثر.
وفيه من الفقه أن السلب لا يخمس وأنه يجعل للقاتل قبل أن يقسم الغنيمة وسواء كان الإمام قاله ونادى به قبل الوقعة أو لم يفعل ذلك وسواء بارز القاتل المقتول أو لم يبارزه لأن هذا القول من رسول الله ﷺ حكم شرع كقوله للفارس سهمان وللراجل سهم، فسواء قاله الإمام يوم الحرب أو لم يقله فإن الحكم به ماض والعمل به واجب.
وقد اختلف الناس في السلب فقال قوم السلب للقاتل سواء قتل القتيل مقبلا أو مدبرا بارزه أو لم يبارزه نادى به الإمام أو لم يناد كانت الحرب قائمة أو لا وعلى أي جهة قتل فالسلب لقاتله على ظاهر الحديث وهو قول جماعة من أصحاب الحديث وإليه ذهب أبو ثور.
وقال الشافعي إنما يكون السلب للقاتل إذا قتل والحرب قائمة والمشرك مقبل غير مدبر لأنه عطية أعطاها إياه لإبلائه في الحرب. فأما من أجهز على جريح فلا معنى لتخصيصه بالعطاء من غير إبلاء كان منه وسواء عنده بارز أو لم يبارز نادى الإمام به أو لم يناد.
وقال أحمد إنما يعطى السلب من بارز فقتل قِرنه دون من لم يبارز.
وقال مالك لا يكون السلب له إلا بإذن الإمام ولا يكون ذلك من الإمام إلا على وجه الاجتهاد.
وعن أبي حنيفة أنه قال إذا قتل الرجل وأخذ سلبه فإنه لا ينبغي للإمام أن ينفله إياه لأنه صار في الغنيمة. وعن يعقوب أنه قال إذا قال الإمام من قتل قتيلا فله سلبه ومن أسر أسيرا فله سلبه فهو جائز وهذا هو النفل. فأن إذا لم ينفله الإمام فلا نفل.
واختلفوا فيما يستحقه القاتل من السلب فقال الأوزاعي له فرسه الذي قاتل عليه وسلاحه وسرجه ومنطقته وخاتمه وما كان في سرجه وسلاحه من حلية ولا يكون له الهميان فإن كان مع العلج دراهم أو دنانير ليس مما يتزين به لحربه فلا شيء له من ذلك وهومغنم للجيش.
وقال الشافعي للقاتل كل ثوب عليه وكل سلاح ومنطقة وفرسه الذي هوراكبه أوممسكه، فأما التاج والاسوار من الذهب والفضة وما ليس من آلة الحرب فقد علق القول فيها، وقال إن ذهب ذاهب إلى أنها من سلبه كان مذهبا وإن ذهب إلى خلافه كان وجها.
وقال أحمد بن حنبل في المنطقة فيها الذهب والفضة هي من السلب وقال في الفرس ليس من سلبه، وسئل عن السيف فقال لا أدري وقيل للأوزاعي يسلبون حتى يتركوا عراة فقال ابعد الله عورتهم. وكره الثوري أن يتركوا عراة.
82/137م ومن باب الإمام يمنع القاتل السلب إن رأى
789- قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا الوليد بن مسلم حدثني صفوان بن عمرو عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك الأشجعي قال خرجت مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة ورافقني مَدَديّ من أهل اليمن ليس معه غير سيفه فنحر رجل من المسلمين جزورا فسأله المددي طائفة من جلده فأعطاه إياه فاتخذم كهيئة الدرق ومضينا فلقينا جموع الروم وفيهم رجل على فرس أشقر عليه سرج مذهب وسلاح مذهب فجعل الرومي يفري بالمسلمين فقعد له المدديّ خلف صخرة فمر به الرومي فعرقب فرسه فخر وعلاه فقتله وحاز فرسه وسلاحه، فلما فتح الله على المسلمين بعث إليه خالد بن الوليد فأخذ السلب قال عوف فأتيته فقلت يا خالد أما علمت أن رسول الله ﷺ قضى بالسلب للقاتل، قال بلى ولكني استكثرته قلت لتردنه عليه أو لأعرفنكها عند رسول الله ﷺ فأبى أن يرد عليه، قال عوف فاجتمعنا عند رسول الله ﷺ فقصصت عليه قصة المددي وما فعل خالد، فقال رسول الله ﷺ يا خالد ما حملك على ما صنعت قال يا رسول الله استكثرته، فقال رسول الله ﷺ يا خالد رد عليه ما أخذت منه، قال عوف فقلت دونك يا خالد ألم اف لك فقال رسول الله ﷺ وما ذاك، قال فأخبرته فغضب رسول الله ﷺ فقال يا خالد لا ترد عليه هل أنتم تاركون لي امرائي لكم ِصفوة أمرهم وعليهم كدره.
قوله يفري بالمسلمين معناه شدة النكاية فيهم، يقال فلان يفري الفري إذا كان يبالغ في الأمر، وأصل الفري القطع. وقوله لأعرفنكها يريد لأجازينك بها حتى تعرف صنيعك، قال الفراء العرب تقول للرجل إذا أساء إليه رجل لأعرفن لك عن هذا أي لأجازينك عليه، تقول هذا لمن تتوعده قد علمت ما علمت وعرفت ما صنعت، ومعناه سأجازيك عليه لا أنك تقصد إلى أن تعرفه أنك قد علمت فقط، ومنه قول الله عز وجل {عرف بعضه واعرض عن بعض} [1] قراءة الكسائي بالتخفيف. وقد روي ذلك أيضا عن عاصم في إحدى الروايتين، قال ومعنى عرف جازى قال ومثله قوله {وما تفعلوا من خير يعلمه الله} [2] وتأويله يعلمه الله فيجازي عليه.
وفي الحديث من الفقه أن الفرس من السلب ؛ وأن السلب ما كان قليلا أو كثيرا فإنه للقاتل لا يخمس، ألا ترى أنه أمر خالدا برده عليه مع استكثاره إياه، وإنما كان رده إلى خالد بعد الأمر الأول بإعطائه القاتل نوعا من التكبر على معروف وردعا له وزجرا لئلا يتجرأ الناس على الأئمة ولئلا يتسرعوا إلى الوقيعة فيهم، وكان خالد مجتهدا في صنيعه ذلك إذ كان قد استكثر السلب فأمضى له رسول الله ﷺ اجتهاده لما رأى في ذلك من المصلحة العامة بعد أن كان خطأه في رأيه الأول والأمر الخاص مغمور بالعام واليسير من الضرر محتمل للكثير من النفع والصلاح، ويشبه أن يكون النبي قد عوض المددي من الخمس الذي هوله وترضى خالدا بالنصح عنه وتسليم الحكم له في السلب.
وفيه دليل على أن نسخ الشيء قبل الفعل جائز، ألا ترى أن النبي ﷺ أمره بإمساكه قبل أن يرده فكان في ذاك نسخ لحكمه الأول.
والصفوة مكسورة الصاد خلاصة الشيء وما صفا منه. إذا أثبت الهاء قلت صفوة بكسر الصاد وإذا حذفتها قلت صفو بفتحها.
83/140م ومن باب من جاء بعد الغنيمة لا سهم له
790- قال أبو داود: حدثنا سعيد بن منصور حدثنا إسماعيل بن عياش عن محمد بن الوليد الزبيدي عن الزهري أن عنبسة بن سعيد أخبره أنه سمع أبا هريرة يحدث سعيد بن العاص أن رسول الله بعث أبان بن سعيد بن العاص على سرية من المدينة قِبل نجد فقدم أبان وأصحابه على رسول الله ﷺ إن بخيبر بعد أن فتحها وإن حزم خيلهم ليف ؛ فقال أبان أقسم لنا يا رسول الله قال أبوهريرة فقلت لا تقسم لهم يا رسول الله فقال أبان أنت بها يا وَبْر تحدر علينا من رأس ضال فقال النبي ﷺ أجلس يا أبان ولم يقسم لهم.
قوله أنت بها فيه اختصار واضمار ومعناه أنت المتكلم بهذه الكلمة. وكان ابن عمر يرمي فإذا أصاب الخصل قال أنا بها أي أنا الفائز بالإصابة، والوبر دويبة في قد السنور أو نحوه، وضال يقال أنه جبل أو موضع يريد بهذا الكلام تصغير شأنه وتوهين أمره.
وفيه من الفقه أن الغنيمة لمن شهد الوقعة دون من لحقهم بعد إحرازها.
وقال أبو حنيفة من لحق الجيش بعد أخذ الغنيمة قبل قسمها في دار الحرب فهو شريك الغانمين. وقال الشافعي الغنيمة لمن حضر الوقعة أو كان ردا لهم فأما من لم يحضرها فلا شيء له منها وهوقول مالك وأحمد. وكان الشافعي يقول إن مات قبل القتال فلا شيء له ولا لورثته، وإن مات بعد القتال وقبل القسم كان سهمه لورثته. وكان الأوزاعي يقول إذا أدرب قاصدا في سبيل الله أسهم له شهد القتال أو لم يشهد. وقوله أدرب يريد دخل الدرب.
791- قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء حدثنا أبو أسامة حدثنا يزيد، عن أبي بردة، عن أبي موسى قال قدمنا فوافقنا رسول الله ﷺ حين افتتح خيبر فأسهم لنا أو قال فأعطانا منها وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئا إلا لمن شهد معه إلا أصحاب سفينتنا جعفر وأصحابه أسهم له معهم.
قلت يشبه أن يكون النبي ﷺ إنما أعطاهم من الخمس الذي هو حقه دون حقوق من شهد الوقعة وقد روي أن النبي ﷺ أعطى أبا موسى وأصحابه بإذن أهل الحديبية ولم يتخلف عن خيبر أحد من أهل الحديبية.
792- قال أبو داود: حدثنا محبوب بن موسى الأنطاكي أبو صالح حدثنا أبو إسحاق الفزاري عن كليب بن وائل عن هانىء بن قيس عن حبيب بن أبي مليكة عن ابن عمر قال إن رسول الله ﷺ قام، يَعني يوم بدر فقال إن عثمان انطلق في حاجة الله وحاجة رسوله وإني أبايع له فضرب له رسول الله ﷺ بسهم ولم يضرب لأحد غاب غيره.
قلت هذا خاص لعثمان رضي الله عنه لأنه كان ممرض ابنة رسول الله ﷺ وهومعنى قوله حاجة الله وحاجة رسوله يريد بذلك حاجة عثمان في حق الله وحق رسوله وهذا كقوله سبحانه {إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون} [3] وإنما هو رسول الله إليهم، ومن احتج بهذا في وجوب القسم لمن لحق الجيش قبل القسم فهو غير مصيب وذلك أن عثمان رضي الله عنه كان بالمدينة وهذا القائل لا يقسم لمن كان في المصر فلا موضع لاستدلاله فيه.
84/141م ومن باب المرأة والعبد يحذيان من الغنيمة
793- قال أبو داود: حدثنا سعيد بن منصور حدثنا أبو معاوية عن الأعمش، عن أبي سفيان عن جابر قال كنت أميح أصحابي الماء يوم بدر.
المائح هو الذي ينزل إلى أسفل البئر فيملأ الدلو ويرفعها إلى الماتح وهو الذي ينزع الدلو.
794- قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن سعيد حدثنا زيد بن الحباب حدثنا رافع بن سلمة بن زياد حدثني حشرج بن زياد عن جدته أم أبيه أنها خرجت مع رسول الله ﷺ في غزوة خيبر سادس ست نسوة فبلغ رسول الله ﷺ فبعث إلينا فجئنا فرأينا فيه الغضب فقال مع من خرجتن وبإذن من خرجتن فقلنا يا رسول الله خرجنا نغزل الشعر ونعين في سبيل الله ومعنا دواء للجرحى ونناول السهام ونسقي السويق فقال قمن به. حتى إذا فتح الله عليه خيبر أسهم لنا كما أسهم للرجال، قال فقلت لها يا جدة وما كان ذلك قالت تمرا.
قلت قد ذهب أكثر الفقهاء إلى أن النساء والعبيد والصبيان لا يسهم لهم. وإنما يرضخ لهم، إلا أن الأوزاعي قال يسهم لهن وأحسبه ذهب إلى هذا الحديث واسناده ضعيف لا تقوم الحجة بمثله، وقد قيل أيضا إن المرأة إذا كانت تقاتل أسهم لها، وكذلك المراهق إذا قوي على القتال أسهم له.
وذهب بعض الفقهاء إلى أنه لا يرضخ للنساء من الغنيمة، وإنما يرضخ لهن من خمس الخمس سهم النبي ﷺ وقد روي في هذا الحديث أنها قالت أسهم لنا تمرا والتمر طعام وليس الطعام كسائر الأموال.
وقال مالك بن أنس لا يسهم للنساء ولا يرضخ لهن شيئا.
85/143م ومن باب سهمان الخيل
795- قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا أبو معاوية حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ أسهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم سهما له وسهمين لفرسه.
قلت قوله سهما له اللام في هذه الإضافة لام التمليك. وقوله وسهمين لفرسه عطف على الكلام الأول، إلا أن اللام فيه لام التسبيب. وتحرير الكلام أنه أعطى الفارس ثلاثة أسهم سهما له وسهمين لأجل فرسه أي لغنائه في الحرب ولما يلزمه من مؤونته إذ كان معلوما أن مؤنة الفرس متضاعفة على مؤنة صاحبه فضوعف له العرض من أجله، وهذا قول عامة العلماء إلا أن أبا حنيفة قال للفارس سهمان، وحكي أنه قال لا أفضل بهيمة على مسلم وخالفه صاحباه فكانا مع جماعة العلماء.
قلت وقد روى هذا الحديث من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر فقال فيه للفارس سهمان وللراجل سهم وعبيد الله احفظ من عبد الله وأثبت باتقان أهل الحديث كلهم.
796- قال أبو داود: حدثنا محمد بن عيسى حدثنا مجمع بن يعقوب بن مجمع بن يزيد الأنصاري. قال سمعت أبي يعقوب بن مجمع يذكر عن عمه عبد الرحمن بن يزيد الأنصاري عن عمه مجمع بن جارية الأنصاري قال وكان أحد القراء الذين قرؤوا القرآن، قال شهدنا الحديبية مع رسول الله ﷺ فلما انصرفنا عنها إذا الناس يهزون الأباعر، فقال بعض الناس لبعض ما بال الناس قالوا أوحي إلى رسول الله ﷺ فخرجنا نوجف فوجدنا النبي ﷺ واقفا على راحلته عند كراع الغميم، فلما اجتمع عليه الناس قرأ عليهم {انا فتحنا لك فتحا مبينا} [4] فقال رجل يا رسول الله أفتح هو، قال نعم والذي نفس محمد بيده أنه لفتح فقسمت خيبر على أهل الحديبية فقسمها رسول الله ﷺ على ثمانية عشر سهما وكان الجيش ألفا وخمسمائة، فيهم ثلاثمائة فارس فأعطى الفارس سهمين وأعطى الراجل سهما.
قال أبو داود وحديث أبي معاوية أصح والعمل عليه. قال والوهم في حديث مجمع أنه قال كان الجيش ألفا وخمسمائة فيهم ثلاثمائة فارس وإنما كانوا مائتي فارس.
قوله يهزون أي يحركون رواحلهم، والهز كالضغط للشيء وشدة الاعتماد عليه والايجاف الركض والإسراع يقال وجف البعير وجيفا فأوجفه راكبه إيجافا.
86/144-145م ومن باب النفل
797- قال أبو داود: حدثنا وهب بن بقية حدثنا خالد عن داود عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ يوم بدر من فعل كذا وكذا فله من النفل كذا وكذا، قال فتقدم الفتيان ولزم المشيخة الرايات فلم يبرحوها، فلما فتح الله عليهم قالت المشيخة كنا ردءا لكم لو انهزمتم فئتم إلينا فلا تذهبوا بالمغنم ونبقى فأبى الفتيان وقالوا جعله الله ﷺ لنا فأنزل الله سبحانه {يسألونك عن الأنفال} إلى قوله {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون} [5] يقول فكان ذلك خيرا لهم فكذلك أيضا فأطيعوني فإني أعلم بعاقبة هذا منكم.
قلت النفل ما زاد من العطاء على القدر المستحق منه بالقسمة ومنه النافلة وهي الزيادة من الطاعة بعد الفرض وكان رسول الله ﷺ ينفل الجيوش والسرايا تحريضا على القتال وتعويضا لهم عما يصيبهم من المشقة والكآبة ويجعلهم أسوة الجماعة في سهمان الغنيمة فيكون ما يخصهم به من النفل كالصلة والعطية المستأنفة ولا يفعل ذلك إلا بأهل الغناء في الحروب وأصحاب البلاء في الجهاد.
وقد اختلف مذاهب العلماء في هذا الباب وفي تأويل ما روي فيه من الأخبار فكان مالك بن أنس لا يرى النفل ويكره أن يقول الإمام من قاتل في موضع كذا، أو قتل من العدو عددا فله كذا، أو يبعث سرية في وجه من الوجوه فيقول ما غنمتم من شيء فلكم نصفه، ويكره أن يقاتل الرجل ويسفك دم نفسه في مثل هذا، وأثبت الشافعي النفل، وقال به الأوزاعي وأحمد بن حنبل.
وقال الثوري إذا قال الإمام من جاء برأسٍ فله كذا، ومن أخذ شيثا فهو له ومن جاء بأسير فله كذا جاز.
87/145م ومن باب نفل السرية تخرج من العسكر
798- قال أبو داود: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا الوليد عن شعيب بن أبي حمزة عن نافع عن ابن عمر، قال بعثنا رسول الله ﷺ في جيش قِبَل نجد وانبعث سرية من الجيش فكان سهمان الجيش اثني عشر بعيرا، إثني عشر بعيرا ونفّل أهل السرية بعيرا بعيرا، فكانت سهمانهم ثلاثة عشر ثلاثة عشر.
قلت في هذا من الفقه أن السرية إذا انفصلت من الجيش فجاءت بغنيمة فإنها تكون مشتركة بينهم وبين الجيش لأنهم ردءٌ لهم.
واختلفوا في هذه الزيادة التي هي النفل من أين أعطاهم إياها فكان ابن المسيب يقول إنما ينفل الإمام من الخمس، يَعني سهم النبي ﷺ وهوخمس الخمس من الغنيمة وإلى هذا ذهب الشافعي وأبو عبيد وذلك أن النبي ﷺ كان يضعه حيث أراه الله عز وجل في مصالح أمر الدين ومعاون المسلمين.
قال الشافعي فإذا كثر العدو واشتدت شوكتهم وقل من بإزائهم من المسلمين نفل منه الإمام اتباعا للسنة وإذا لم يكن ذلك لم ينفل.
وقال أبو عبيد الخمس مفوض إلى الإمام ينفل منه إن شاء، ومن ذلك قول النبي ﷺ ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم.
وقال غيرهم إنما كان النبي ﷺ ينفلهم من الغنيمة التي يغنمونها كما نفل القاتل السلب من جملة الغنيمة.
قلت وعلى هذا دل أكثر ما روي من الأخبار في هذا الباب.
799- قال أبو داود: حدثنا هناد بن السري حدثنا عبدة عن محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر قال بعث رسول الله ﷺ سرية إلى نجد فخرجت معها فأصبنا نعما كثيرا فنفلنا أميرنا بعيرا بعيرا لكل إنسان ؛ ثم قدمنا على رسول الله ﷺ فقسم بيننا غنيمتنا فأصاب كل رجل منا اثني عشر بعيرا بعد الخمس، وما حاسبنا رسول الله ﷺ بالذي أعطانا صاحبنا ولا عاب عليه ما صنع فكان لكل رجل منا ثلاثة عشر بعيرا بنفله.
قلت في هذا بيان واضح أن النفل إنما أعطاهم من جملة الغنيمة لا من الخمس الذي هو سهمه ونصيبه، وظاهر حديث ابن عمر أنه أعطاهم هذا النفل قبل الخمس كما نفلهم السلب قبل الخمس، وإلى هذا ذهب أبو ثور.
88/146م ومن باب من قال الخمس قبل النفل
800- قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيلن عن يزيد بن يزيد بن جابر الشامي عن مكحول عن زياد بن جارية التميمي عن حبيب بن مسلمة الفهري أنه قال كان رسول الله ﷺ ينفل الثلث بعد الخمس.
قلت وفي هذا الحديث أنه أعطاهم ذلك بعد أن خمس الغنيمة فيشبه والله أعلم أن يكون الأمران معا جائزين، وفيه أنه قد بلغ بالنفل الثلث.
وقد اختلف العلماء في ذلك فقال مكحول والأوزاعي لا يجاوز بالنفل الثلث.
وقال الشافعي ليس في النفل حد لا يجاوز وإنما هو إلى اجتهاد الإمام.
801- قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان ومحمود بن خالد الدمشقيان المعنى قالا: حدثنا مروان بن محمد حدثنا يحيى بن حمزة قال سمعت أبا وهب يقول سمعت مكحولا يقول كنت عبدا بمصر لامرأة من بني هذيل فأعتقتني فما خرجت من مصر وبها علم إلا حويت عليه فيما أرى، ثم أتيت الحجاز فما خرجت منها وبها علم إلا حويت عليه فيما أرى، ثم أتيت العراق فما خرجت منها وبها علم إلا حويت عليه فيما أرى، ثم أتيت الشام فغربلتها كل ذلك أسأل عن النفل فلم أجد أحدا يخبرني فيه بشيء حتى لقيت شيخا يقال له زياد بن جارية التميمي فقلت له هل سمعت في النفل شيئا، قال نعم سمعت حبيب بن مسلمة الفهري يقول شهدت النبي ﷺ نفل الربع في البدأة والثلث في الرجعة.
قلت: أخبرني الحسن بن يحيى عن ابن المنذر، وروي هذا الحديث ثم قال قد قيل أن النبي ﷺ إنما فرق بين البدأة والقفول حتى فضل إحدى العطيتين على الأخرى لقوة الظهر عند دخولهم وضعفه عند خروجهم لأنهم وهم داخلون انشط وأشهى للسير والإمعان في بلاد العدو وأجم، وهم عند القفول تضعف دوابهم وهم أشهى للرجوع إلى أوطانهم وأهاليهم لطول عهدهم بهم وحبهم للرجوع إليهم فنرى أنه زادهم في القفول لهذه العلل.
قلت كلام ابن المنذر في هذا ليس بالبين لأن فحواه يوهم أن معنى الرجعة هو القفول إلى أوطانهم، وليس هو معنى الحديث، والبدأة إنما هي ابتداء سفر الغزو إذا نهضت سرية من جملة العسكر فأوقعت بطائفة العدو. فما غنموا كان لهم منه الربع ويشركهم سائر العسكر في ثلاثة أرباعه. فإن قفلوا من الغزاة ثم رجعوا فأوقعوا بالعدو ثانية كان لهم مما غنموا الثلث لأن نهوضهم بعد القفل أشق والخطر فيه أعظم.
89/147م ومن باب السرية ترد على أهل العسكر
802- قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن عمر حدثني هشيم عن يحيى بن سعيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله ﷺ المسلمون تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم ؛ يرد مُشدهم على مُضعفهم، ومتسريهم على قاعدهم، لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده.
قلت قوله تتكافأ دماؤهم معناه أن أحرار المسلمين دماؤهم متكافئة في وجوب القصلص والقود لبعضهم من بعض لا يفضل منهم شريف على وضيع. فإذا كان المقتول وضيعا وجب القصاص على قاتله. إن كان شريفا لم يسقط القود عنه شرفه، وإن كان القتيل شريفا لم يقتص له إلا من قاتله حسب.
وكان أهل الجاهلية لا يرضون في دم الرجل الشريف بالاستقادة من قاتله ولا يرونه بَوآءً به حتى يقتصوا من عدة من قبيلة القاتل فأبطل الإسلام حكم الجاهلية وجعل المسلمين على التكافؤ في دمائهم وإن كان بينهم تفاضل وتفاوت في معنى آخر.
وقوله يسعى بذمتهم أدناهم، يريد أن العبد ومن كان في معناه من الطبقة الدنيا كالنساء والضعفاء الذين لا جهاد عليهم إذا أجاروا كافرا أمضي جوارهم ولم تخفر ذمتهم.
وقوله ويجير عليهم أقصاهم معناه أن بعض المسلمين وإن كان قاصي الدار إذا عقد للكافر عقدا لم يك لأحد منهم أن ينقضه وإن كان أقرب دارا من المعقود له.
قلت وهذا إذا كان العقد والذمة منه لبعض الكفار دون عامتهم فإنه لا يجوز له عقد الأمان لجماعتهم، وإنما الأمر في بذل الأمان وعقد الذمة للكافة منهم إلى الإمام على سبيل الاجتهاد وتحري المصلحة فيه دون غيره. ولوجعل لأفناء الناس ولآحادهم أن يعقدوا لعامة الكفار كلما شاؤوا صار ذلك ذريعة إلى إبطال الجهاد وذلك غير جائز.
وقوله وهم يد على من سواهم فإن معنى اليد المعاونة والمظاهرة إذا استنفروا وجب عليهم النفير وإذا استنجدوا انجدوا ولم يتخلفوا ولم يتخاذلوا والمُشِد المقوي والمضعف من كانت دوابه ضعافا، وجاء في بعض الحديث المضعف أمير الرفقة. يريد أن الناس يسيرون بسير الضعيف لا يتقدمونه فيتخلف عنهم ويبقى بمضيعة والمتسري هو الذي يخرج في السرية، ومعناه أن يخرج الجيش فينيخوا بقرب دار العدو ثم ينفصل منهم سرية فيغنموا فإنهم يردون ما غنموه على الذين هم ردء لهم لا ينفردون به، فأما إذا كان خروج السرية من البلد فأنهم لا يردون على المقيمين في أوطانهم شيئا.
وقوله لا يقتل مؤمن بكافر فإنه قد دخل فيه كل كافر له عهد وذمة أو لا عهد له ولا ذمة.
وقوله ولا ذو عهد في عهده فإن العهد للكفار على ضربين، أحدهما عهد متأبد كمن حقن دمه للجزية، والآخر من كان له عهد إلى مدة فإذا انقضت تلك المدة عاد مباح الدم كما كان.
وقد تأوله من ذهب من الفقهاء إلى أن المسلم يقتل بالذمي على أن قوله ولا ذو عهد في عهده معطوف على قوله لا يقتل مؤمن بكافر ويقع في الكلام على مذهبه تقديم وتأخير فيصير كأنه قال لا يقتل مؤمن ولا ذو عهد في عهده بكافر، وإلى هذا ذهب أصحاب الرأي. وقال الشافعي لا يقتل مسلم بوجه من الوجوه بأحد من الكفار على ظاهر الحديث وعمومه قال وقوله لا يقتل مسلم بكافر كلام تام بنفسه، ثم قال على أثره ولا ذو عهد في عهده أي لا يقتل معاهد ما دام في عهده، قال وإنما احتيج إلى أن يجري ذكر المعاهد ويؤكد تحريم دمه هاهنا لأن قوله لا يقتل مؤمن بكافر قد يوهم ضعفا وتوهينا لشأنه ويوقع شبهة في دمه فلا يؤمن أن يستباح إذا علم أن لا قود على قاتله فوكد تحريمه بإعادة البيان لئلا يعرض الاشكال في ذلك.
803- قال أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا عكرمة حدثني إياس بن سلمة عن أبيه قال أغار عبد الرحمن بن عيينة على إيل رسول الله ﷺ فقتل راعيها وخرج يطردها هو وأناس معه في خيل فجعلت وجهي قبل المدينة ثم ناديت ثلاث مرات يا صباحاه ثم اتبعت القوم فجعلت ارمي واعقرهم وساق الحديث والقصة إلى أن قال ثم جئت رسول الله ﷺ وهو على الماء الذي حلأتهم عنه ذو قرد قال ونبي الله ﷺ في خمسمائة فأعطاني سهم الفارس والراجل.
قوله حلأتهم عنه معناه طردتهم عنه وأصله الهمز، يقال حلأت الرجل عن الماء إذا منعته الورود ؛ ورجل محلأ أي مذود عن الماء مصدود عن وروده، ومنه قول الشاعر:
لحائِم حام حتى لا حراك به محلأ... عن سبيل الماء مطرود
وقوله أعطاني سهم الفارس والراجل فإنه يشبه أن يكون إنما أعطاه من الغنيمة سهم الراجل حسب. لأن سلمة كان راجلا في ذلك اليوم وأعطاه الزيادة نفلا لما كان من حسن بلاءه.
0 9/151م ومن باب يستجن بالإمام في العهد
804- قال أبو داود: حدثنا محمد بن الصباح البزاز حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ إنما الإمام جنة يقاتل به.
قلت معناه أن الإمام هو الذي يعقد العهد والهدنة بين المسلمين وبين أهل الشرك فإذا رأى ذلك صلاحا وهادنهم فقد وجب على المسلمين أن يجيزوا أمانه وأن لا يعرضوا لمن عقد لهم في نفس أومال، ومعنى الجنة العصمة والوقاية وليس لغير الإمام أن يجعل الأمة بأسرها من الكفار أمانا، وإنما معنى قوله ﷺ يسعى بذمتهم أدناهم أن يكون ذلك في الأفراد والآحاد أو في أهل حصن أو قلعة ونحوها. فأما أن يجوز ذلك في جيل وأمة منهم فلا يجوز. وقد ذكرنا هذا فيما مضى.
805- قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني عمرو عن بكير بن الأشج عن الحسن بن علي بن أبي رافع أن أبا رافع أخبره أنه قال بعثتني قريش إلى رسول الله ﷺ فلما رأيته ألقي في قلبي الإسلام فقلت يا رسول الله والله إني لا أرجع إليهم أبدا فقال إني لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد ولكن ارجع فإن كان في نفسك الذي في نفسك الآن فارجع قال فذهبت ثم أتيت النبي ﷺ فأسلمت.
قلت قوله لا أخيس بالعهد معناه لا أنقض العهد ولا أفسده من قولك خاس الشيء في الوعاء إذا فسد.
وفيه من الفقه أن العقد يرعى مع الكافر كما يرعى مع المسلم وأن الكافر إذا عقد لك عقد أمان فقد وجب عليك أن تؤمنه وأن لا تغتاله في دم ولا مال ولا منفعة.
وقوله لا أحبس البرد فقد يشبه أن يكون المعنى في ذلك أن الرسالة تقتضي جوابا والجواب لا يصل إلى المرسل إلا على لسان الرسول بعد انصرافه فصار كأنه عقد له العهد مدة مجيئه ورجوعه والله أعلم.
91/152م ومن باب ما يسير في العهد
نحو عدو ليقرب منهم فيغير بعد المدة عليهم
806- قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر النمري حدثنا شعبة، عن أبي الفيض عن سُليم بن عامر عن رجل من حمير، قال كان بين معاوية وبين الروم عهد وكان يسير نحو بلادهم حتى إذا انقضى العهد غزاهم فجاء رجل على فرس أو برذون وهو يقول الله أكبر الله أكبر وفاء لا غدر فنظروا فإذا هو عمرو بن عنبسة فأرسل إليه معاوية فسأله فقال سمعت رسول الله ﷺ يقول من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء فرجع معاوية.
الأمد الغاية، قال النابغة:
سبْق الجواد إذا استولى على الأمد
ومعنى قوله ينبذ إليهم على سواء أي يعلمهم أنه يريد أن يغذوهم وأن الصلح الذي كان بينهم قد ارتفع فيكون الفريقان في ذلك على السواء.
وفيه دليل على أن العهد الذي يقع بين المسلمين وبين العدو ليس بعقد لازم لا يجوز القتال قبل انقضاء مدته، ولكن لا يجوز أن يفعل ذلك إلا بعد الإعلام به والإنذار فيه، ويشبه أن يكون عمرو إنما كره مسير معاوية إلى ما يتاخم بلاد العدو والإقامة بقرب دارهم من أجل أنه إذا هادنهم إلى مدة وهو مقيم في وطنه فقد صارت مدة مسيره بعد انقضاء المدة كالمشروط مع المدة المضروبة في أن لا يغزوهم فيها فيأمنونه على أنفسهم. فإذا كان مسيره إليهم في أيام الهدنة حتى ينيخ بقرب دارهم كان إيقاعه بهم قبل الوقت الذي يتوقعونه فكان ذلك داخلا عند عمرو في معنى الغدر.
92/154م ومن باب الرسل
807- قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان، عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرّب أنه أتى عبد الله بن مسعود فقال ما بيني وبين أحد من العرب حِنة وإني مررت بمسجد لبني حنيفة فإذا هم يؤمنون بمسيلمة فأرسل إليهم عبد الله فجيء بهم فاستتابهم غير ابن النواحة فقال له سمعت رسول الله ﷺ يقول لولا أنك رسول لضربت عنقك فأنت اليوم لست برسول فأمر قرظة بن كعب فضرب عنقه بالسوق، ثم قال من أراد أن ينظر إلى ابن النواحة قتيلا بالسوق.
قوله حنة يريد الوتر والضغن واللغة الفصيحة احنة بالهمز قال الشاعر:
إذا كان في نفس ابن عمك احنة…… فلا تستثرها سوف يبدو دفينها
ويقال فلان مواحن لفلان إذا كان مضمرا له على عداوة، ويشبه أن يكون مذهب ابن مسعود في قتله من غير استتابة أنه رأى قول النبي ﷺ لولا أنك رسول لضربت عنقك حكما منه بقتله لولا علة الرسالة، فلما ظفر به وقد ارتفعت العلة أمضاه فيه ولم يستأنف له حكم سائر المرتدين.
وفيه حجة لمذهب مالك في قتل المستسر بالكفر وترك استابته ومعلوم أن هؤلاء لا يمكنهم إظهار الكفر بالكوفة في مسجدهم وهي دار الإسلام، وإنما كانوا يستبطنون الكفر ويسرون الإيمان بمسيلمة فاطلع على ذلك منهم حارثة فرفعهم إلى عبد الله وهو وال عليها فاستتاب قوما منهم وحقن بالتوبة دماءهم ولعلهم قد كانت داخلتهم شبهة في أمر مسيلمة ثم تبينوا الحق فراجعوا الدين فكانت توبتهم مقبولة عند عبد الله، ورأى أن أمر ابن النواحة بخلاف ذلك لأنه كان داعية إلى مذهب مسيلمة فلم يعرض عليه التوبة ورأى الصلاح في قتله.
وإلى نحو من هذا ذهب بعض العلماء في أمر هولاء القرامطة الذين يلقبون بالباطنية.
وأما قوله لولا أنك رسول لضربت عنقك فالمعنى في الكف عن دمه أن الله سبحانه قال {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه} فحقن له دمه حتى يبلغ مأمنه ويعود بجواب ما أرسل به فتقوم به الحجة على مرسله.
93/155م ومن باب أمان المرأة
808- قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا وهب أخبرني عياض بن عبد الله عن مخرمة بن سليمان عن كريب عن ابن عباس قال حدثتني أم هانئ بنت أبي طالب أنها أجارت رجلا من المشركين يوم الفتح فأتت النبي ﷺ فذكرت ذلك له فقال قد أجرنا من أجرت وأمّنا من امّنت.
قلت في هذا حجة لمن ذهب إلى أن مكة فتحت عنوة لأنه لو كان صلحا لوقع به الأمان العام فلم يحتج إلى إجارة أمان أم هانىء ولا إلى تجديد الأمان من رسول الله ﷺ.
وأجمع عوام أهل العلم أن أمان المرأة جائز وكذلك قال أكثر الفقهاء في أمان العبد؛ غير أن أصحاب الرأي فرقوا بين العبد الذي يقاتل والذي لا يقاتل فأجازوا أمانه إن كان ممن يقاتل ولم يجيزوا أمانه إن كان لم يقاتل، فأما أمان الصبي فأنه لا ينعقد لأن القلم مرفوع عنه.
هامش