الرئيسيةبحث

معالم السنن/الجزء الثاني/4

30/54م ومن باب صوم تطوع الدهر

555- قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن غيلان بن جرير عن عبد الله بن معبد الزماني عن أبى قتادة أن رجلا أتي النبي ﷺ فقال يا رسول الله كيف تصوم فغضب رسول الله ﷺ من قوله فلما رأى ذلك عمر رضي الله عنه قال رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسول فلم يزل عمر يرددها حتى سكن من غضب رسول الله ﷺ فقال يا رسول الله كيف بمن يصوم الدهر كله قال لا صام ولا أفطر، قال يا رسول الله كيف بمن يصوم يومين ويفطر يوما قال أو يطيق ذلك أحد، قال يا رسول الله كيف بمن يصوم يوما ويفطر يوما قال ذاك صيام داود، قال يا رسول الله فكيف بمن يصوم يوما ويفطر يومين قال وددت أنى أطقت ذلك تم قال رسول الله ﷺ ثلاث من كل شهر ورمضان إلى رمضان فهذا صيام الدهر كله.

قلت يشبه أن يكون غضب النبي ﷺ من مسألته إياه عن صومه كراهة أن يقتدي به السائل في صومه فيتكلفه ثم يعجز عنه فعلا أو يسأمه ويمله بقلبه فيكون صياما عن غير نية وإخلاص وقد كان ﷺ يواصل وهو محرَّم على أمته وقد كان رسول الله ﷺ يترك بعض النوافل خوفا من أن يفرض على أمته إذا فعلوه اقتداء به كما ترك القيام في شهر رمضان بعد أن قام بهم ليلة أو ليلتين ثم لم يخرح إليهم وقال لهم إنه لم يخف علي مكانكم ولكني خفت أن يكتب عليكم ثم لا تقومون أو كما قال.

وقوله لا صام ولا أفطر معناه لم يصم ولم يفطر ؛ وقد يوضع لا بمعنى لم كقوله تعالى {فلا صدق ولا صلى} [1] أي لم يصدق ولم يصلي وقد يحتمل أن يكون معناه الدعاء عليه كراهة لصنعه وزجرا له عن ذلك ويشبه أن يكون الذي نهى عنه من صوم الدهر هو أن يسرد الصيام أيام السنة كلها لا يفطر فيها الأيام المنهي عن صيامها وقد سرد الصوم دهره أبو طلحة الأنصاري وكان لا يفطر في سفر ولا حضر فلم يعبه رسول الله ﷺ ولا نهاه عن ذلك.

وقوله وددت أني أطقت ذلك يحتمل أن يكون إنما خاف العجز عى ذلك للحقوق التى تلزمه لنسائه لأن ذلك يخل بحظوظهن منه لا لضعف جبلته عى احتمال الصيام أو قلة صبره عن الطعام في هذه المدة والله أعلم.


31/55م ومن باب صوم أشهر الحرم

556- قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن سعيد الجريري، عن أبي السليل عن مُجيبة الباهلية عن أبيها أوعمها أنه أتى رسول الله ﷺ ثم انطلق فأتاه بعد سنة وقد تغيرت حاله وهيئته فقال يا رسول الله أما تعرفني قال ومن أنت قال أنا الباهلي الذي جئتك عام الأول، قال فما غيرك وقد كنت حسن الهيئة، قال ما أكلت طعاما منذ فارقتك إلا بليل فقال رسول الله ﷺ لم عذبت نفسك، ثم قال صم شهر الصبر ويوما من كل شهر، قال زدني فإن بي قوة، قال صم يومين، قال زدني قال صم ثلاثة أيام، قال زدني قال صم من الحُرم وأترك، صم من الحرم وأترك، صم من الحرم وأترك. وقال بأصابعه الثلاثة فضمها ثم أرسلها.

قلت شهر الصبر هو شهر رمضان، وأصل الصبر الحبس فسمي الصيام صبرا لما فيه من حبس النفس عن الطعام ومنعها عن وطء النساء وغشيانهن في نهار الشهر.

وقوله صم من الحرم فإن الحرم أربعة أشهر وهي التي ذكرها الله في كتابه فقال {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم} [2] وهي شهر رجب وذي القعدة وذي الحجة والمحرم، وقيل لأعرابي يتفقه كم الأشهر الحرم قال أربعة ثلاثة سرد وواحد فرد.


32/63م ومن باب صوم يوم عرفة

557- قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حوشب بن عقيل عن مهدي الهجري حدثنا عكرمة قال كنا عند أبي هريرة في بيته فحدثنا أن رسول الله ﷺ نهى عن صوم يوم عرفة.

قلت هذا نهي استحباب لا نهي إيجاب، وإنما نهى المحرم عن ذلك خوفا عليه أن يضعف عن الدعاء والابتهال في ذلك المقام، فأما من وجد قوة ولا يخاف معها ضعفا فصوم ذلك اليوم أفضل له إن شاء الله، وقد قال ﷺ صيام يوم عرفة يكفر سنتين سنة قبلها وسنة بعدها.

وقد اختلف الناس في صيام الحاج يوم عرفة فروي عن عثمان بن أبي العاص وابن الزبير أنهما كانا يصومانه وقال أحمد بن حنبل إن قدر على أن يصوم صام وإن أفطر فذلك يوم يحتاج فيه إلى قوة. وكان إسحاق يستحب صومه للحاج وكان عطاء يقول أصوم في الشتاء ولا أصوم في الصيف، وكان مالك وسفيان يختاران الإفطار للحاج، وكذلك الشافعي وروي عن ابن عمر أنه قال لم يصمه النبي ﷺ ولا أبوبكر ولا عمر ولا عثمان ولا أصومه أنا.


33/4 6م ومن باب صوم عاشوراء ومن قال هو اليوم التاسع

558- قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب أخبرني يحيى بن أيوب أن إسماعيل بن أمية حدثه أنه سمع أبا غطفان يقول سمعت عبد الله بن عباس يقول حين صام رسول الله ﷺ يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا يا رسول الله أنه يوم تعظمه اليهود والنصارى فقال رسول الله ﷺ فإذا كان العام المقبل صمنا يوم التاسع فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله ﷺ.

قلت هذا من قول رسول الله ﷺ يحتمل وجهين أحدهما أن يكون أراد بذلك مخالفة اليهود وقد روي ذلك في بعض الحديث والوجه الآخر أن يكون قد أثبت عاشوراء على ما كانوا يثبتونه من الوقت ووصله بيوم قبله كأنه كره أن يصوم يوما فردا لا يوصل بصيام قبله ولا بعده كما نهى أن يصام يوم الجمعة لا يوصل بالخميس ولا بالسبت.

وفيه وجه آخر وهو أن بعض أهل اللغة زعم أن اسم عاشوراء مأخوذ من أعشار أوراد الإبل والعشر عندهم تسعة أيام وذلك أنهم كانوا يحسبون في الإظماء يوم الورود فإذا وردوا يوما وأقاموا في الرعي يومين ثم أوردوا اليوم الثالث قالوا وردنا أربعا وإنما هو اليوم الثالث في الإظماء وإذا أقاموا في الرعي ثلاثا ووردوا اليوم الرابع قالوا وردنا خمسا وعلى هذا الحساب فعاشوراء على هذا القياس إنما هو اليوم اتاسع. وكان ابن عباس يقول يوم عاشوراء هو اليوم التاسع حدثناه ابن السماك حدثنا إبراهيم بن الوليد الحشاش حدثنا أبو سلمة حدثنا حماد عن علي بن زيد عن عمار بن أبي عمار عن ابن عباس.


34/66م ومن باب فضل صيامه

559- قال أبو داود: حدثنا محمد بن المنهال حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة عن عبد الرحمن بن مسلمة عن عمه ان أسلم أتت النبي ﷺ فقال صمتم يومكم قالوا لا قال فأتموا يومكم واقضوه.

قلت هذا منه ﷺ استحباب وليس بايجاب وذلك أن لأوقات الطاعات أذمة ترعى ولا تهمل فأحب النبي ﷺ أن يرشدهم إلى ما فيه الفضل والحظ لئلا يغفلوه عند مصادفتهم وقته، وقد صار هذا أصلا في مذاهب العلماء في مواضع مخصوصة.

قال أصحاب الرأي إذا قدم المسافر في بعض نهار الصوم أمسك عن الأكل بقية يومه.

وقال الشافعي فيمن لا يجد ماء ولا ترابا أو كان محبوسا في حش أو مصلوبا على خشبة أنه يصلي على حسب ما يمكنه مراعاة لحرمة الوقت وعليه الإعادة إذا قدر على الطهارة والصلاة.

قلت وقد يحتج أصحاب الرأي بهذا الحديث في جواز تأخير نية صيام الفرض عن أول وقته إلا أن قوله ﷺ واقضوه يفسد هذا الاستدلال.


35/71م ومن باب النية في الصيام

560- قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب حدثني ابن لهيعة ويحيى بن أيوب عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن ابن شهابة عن سالم بن عبد الله عن أبيه عن حفصة زوج النبي ﷺ أن رسول الله ﷺ قال من يُجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له.

قلت معنى الإجماع أحكام النية والعزيمة، يقال أجمعت الرأي وأزمعت بمعنى واحد.

وفي بيان أن تأخرت نيته للصوم عن أول وقته فإن صومه فاسد.

وفيه دليل على أن تقديم نية الشهر كله في أول ليلة منه لا يجزئه عن الشهر كله لأن صيام كل يوم من الشهر صيام منفرد بنفسه متميز عن غيره فإذا لم ينوه في الثاني قبل فجره، وفي الثالث كذلك حصل صيام ذلك اليوم صياما لم يجمع له قبل فجره فبطل وهو قول عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمر، وإليه ذهب الحسن البصري وبه قال الشافعي وأحمد بن حنبل.

وقال أصحاب الرأي إذا نوى الفرض قبل زوال الشمس أجرأه، وقالوا في صوم النذر والكفاره والقضاء إن عليه تقديم النية قبل الفجر. وقال إسحاق إذا قدم للشهر النية أول ليلة أجزأه للشهر كله وإن لم يجدد النية كل ليلة. وقد زعم بعضهم أن هذا الحديث غير مسند لأن سفيان ومعمرا قد وقفاه عنى حفصة.

قلت وهذا لا يضر لأن عبد الله بن عمرو بن حزم قد أسنده وزيادات الثقات مقبولة.


561- قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أنا سفيان ( ح ) وحدثنا عثمان بن أبي شيبة أخبرنا وكيع جميعا عن طلحة بن يحيى عن عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤنين قالت كان النبي إذا دخل عليَّ قال هل عندكم طعام فإذا قلنا لا قال فإني صائم زاد وكيع فدخل علينا يوما آخر فقلنا يا رسول الله اهدي لنا حَيس فحبسناه لك قال ادنيه قال طلحة فأصبح صائما وأفطر.

قلت فيه نوعان من الفقه أحدهما جواز تأخير نية الصوم عن أول النهار إذا كان متطوعا به ولم يذكر في الحديث إيجاب القضاء، وكان غير واحد من الصحابة يفعل ذلك منهم ابن مسعود وحذيفة وأبو الدردراء وأبو أيوب الأنصاري وبه قال الشافعي وأحمد.

وكان ابن عمر لايصوم تطوعا حتى يجمع من الليل، وقال جابر بن زيد لا يجزئه في التطوع حتى يبيت النية، وقال مالك في صوم لا أحب أن يصوم أحد إلا أن يكون قد نوى الصيام من الليل.


562- قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير بن عبد الحميد عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحارث عن أم هانىء قالت لما كان يوم فتح مكة جاءت فاطمة فجلست عن يسار رسول الله ﷺ وأم هانىء عن يمينه قالت فجاءت الوليدة بإناء فيه شراب فناولته فشرب منه ثم ناوله أم هانىء فشربت منه فقالت يا رسول الله لقد أفطرت وكنت صائمة فقال لها كنت تقضين شيئا فقالت لا قال فلا يضرك إن كان تطوعا.

قلت في هذا بيان أن القضاء غير واجب عليه إذا أفطر في تطوع وهو قول ابن عباس وإليه ذهب الشافعي وأحمد وإسحاق.

وقال أصحاب الرأي يلزمه القضاء إذا أفطر، وقال مالك بن أنس إذا أفطر من غير علة يلزمه القضاء.


563- قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني حيوة بن شريح عن ابن الهاد عن زُميل مولى عروة عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت اهدي لي ولحفصة طعام وكنا صائمتين فأفطرنا ثم دخل رسول الله ﷺ فقلنا يا رسول الله إنا أهديت لنا هدية فاشتهيناها فافطرنا فقال رسول الله ﷺ لا عليكما صوما مكانه يوما آخر.

قلت قد جاء في هذا الحديث إيجاب القضاء إلا أن الحديث إسناده ضعيف وزميل مجهول، والمشهور من هذا الحديث رواية ابن جريج عن الزهري عن عروة، قال ابن جريج قلت للزهري اسمعته من عروة قال لا إنما أخبرنيه رجل بباب عبد الملك بن مروان فيشبه أن يكون ذلك الرجل هو زميل. هذا ولو ثبت الحديث أشبه أن يكون إنما أمرهما بذلك استحبابا لأن بدل الشيء في أكثر أحكام الأصول يحل محل أصله وهو في الأصل مخير فكذلك في البدل.


36/74م ومن باب المرأة تصوم بغير إذن زوجها

564- قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد قال جاءت امرأة إلى النبي ﷺ ونحن عنده فقالت يا رسول الله إن زوجي صفوان بن المعطل يضربني إذا صليت ويفطرني إذا صمت ولا يصلي صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، قال وصفوان عنده قال فسأله عما قالت، فقال يا رسول الله أما قولها يضربني إذا صليت فإنها تقرأ بسورتين وقد نهيتها، قال فقال لو كانت سورة واحدة لكفت الناس. وأما قولها يفطرني فإنها تنطلق فتصوم وأنا رجل شاب ولا أصبر فقال رسول الله ﷺ يومئذ لا تصوم امرأة إلا بإذن زوجها، وأما قولها إني لا أصلي حتى تطلع الشمس فانا أهل بيت قد عرف لنا ذلك ولا نكاد نستيقظ حتى تطلع الشمس. قال فإذا استيقظ فصل.

قلت في هذا الحديث من الفقه أن منافع المتعة والعشرة من الزوجة مملوكة للزوج في عامة الأحوال وإن حقها في نفسها محصور في وقت دون وقت.

وفيه أن للزوج أن يضربها ضربا غير مبرح إذا امتنعت عليه من إيفاء الحق واجمال العشرة. وفيه دليل على أنها لو أحرمت بالحج كان له منعها وحصرها لأن حقه عليها معجل وحق الحج متراخ. وإلى هذا ذهب عطاء بن أبي رباح ولم يختلف العلماء في أن له منعها من حج التطوع.

وقوله فإذا استيقظت فصل ثم تركه التعنيف له في ذلك أمرعجيب من لطف الله سبحانه بعباده ومن لطف نبيه ورفقه بأمته ويشبه أن يكون ذلك منه على معنى ملكة الطبع واستيلاء العادة فصار كالشيء المعجز عنه وكان صاحبه في ذلك بمنزلة من يغمى عليه فعذر فيه ولم يؤنب عليه ويحتمل أن يكون ذلك إنما كان يصيبه في بعض الأوقات دون بعض وذلك إذا لم يكن بحضرته من يوقظه ويبعثه من المنام فيتمادى به النوم حتى تطلع الشمس دون أن يكون ذلك منه في عامة الأوقات فإنه قد يبعد أن يبقى الإنسان على هذا في دائم الأوقات وليس بحضرته أحد لا يصلح هذا القدر من شأنه ولا يراعي مثل هذا من حاله ولا يجوز أن يظن به الامتناع من الصلاة في وقتها ذلك مع زوال العذر بوقوع التنبيه والإيقاظ ممن يحضره ويشاهده والله أعلم.


37/77م ومن باب الاعتكاف

565- قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل أخبرنا حماد بن ثابت، عن أبي رافع، عن أبي ابن كعب أن رسول الله ﷺ كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان ولم يعتكف عاما فلما كان العام المقبل اعتكف عشرين ليلة.

قلت فيه من الفقه أن النوافل المعتادة تقضى إذا فاتت كما تقضى الفرائض ومن هذا قضاء رسول الله ﷺ بعد العصر الركعتين اللتين فاتتاه لقدوم الوفد عليه واشتغاله بهم.

وفيه مستدل لمن أجاز الاعتكاف بغير صوم ينشئه له وذلك أن صومه في شهر رمضان إنما كان للشهر لأن الوقت مستحق له.

وقد اختلف الناس في هذا فقال الحسن البصري إن اعتكف من غير صيام أجزأه، وإليه ذهب الشافعي وروي عن علي وابن مسعود أنهما قالا إن شاء صام وإن شاء أفطر، وقال الأوزاعي ومالك لا اعتكاف إلا بصوم وهو مذهب أصحاب الرأي وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وعائشة وهو قول سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والزهري.


566- قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية ويعلى بن عبيد عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة قالت كان رسول الله ﷺ إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه قالت وإنه أراد مرة أن يعتكف في العشر الأواخر من رمضان قالت فأمر ببنائه فضرب فلما رأيت ذلك أمرت ببنائي فضرب، قالت وأمر غيري من أزواج النبي ﷺ ببنائه فضرب فلما صلى الفجر نظر إلى الأبنية فقال ما هذا آلبرَّ تردن آلبر تردن قالت فأمر ببنائه فقوض وأمربأبنيتهن فقوضت ثم أخر الاعتكاف إلى العشر الأول من، يَعني من شوال.

قلت فيه من الفقه أن المعتكف يبتدىء اعتكافه أول النهار ويدخل في معتكفه بعد أن يصلي الفجر، وإليه ذهب الأوزاعي وبه قال أبو ثور.

وقال مالك والشافعي وأحمد يدخل في الاعتكاف قبل غروب الشمس إذا أراد اعتكاف شهر بعينه وهو مذهب أصحاب الرأي.

وفيه دليل على أن الاعتكاف إذا لم يكن نذرا كان للمعتكف أن يخرج منه أي وقت شاء، وفيه إباحة ترك عمل البر إذا كان نافلة لآفة يخاف معها حبوط الأجر.

قلت وفي الحديث دليل على جواز اعتكاف النساء وعلى أنه ليس للمرأة أن تعتكف إلا بإذن زوجها وعلى أن للزوج أن يمنعها من ذلك بعد الإذن فيه.

وقال مالك ليس له ذلك وقال الشافعي له أن يمنعها من ذلك بعد الإذن، وفيه كالدلالة على أن اعتكاف المرأة في بيتها جائز. وقد حكي جوازه، عن أبي حنيفة ؛ فأما الرجل فلم يختلفوا أن اعتكلفه في بيته غير جائز وإنما شرع الاعتكاف في المساجد. وكان حذيفة بن اليمان يقول لا يكون الاعتكاف إلا في المساجد الثلاثة مسجد مكة والمدينة وبيت المقدس. وقال عطاء لا يعتكف إلا في مسجد مكة والمدينة، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال لا يجوز أن يعتكف إلا في الجامع، وكذلك قال الزهري والحكم وحماد.

وقال سعيد بن جبير وأبو قلابة والنخعي يعتكف في مساجد القبائل وهو قول أصحاب الرأي وإليه ذهب مالك والشافعي.


38/79م ومن باب المعتكف يدخل البيت للحاجة

567- قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة قالت كان رسول الله ﷺ إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان.

قلت فيه بيان أن المعتكف لا يدخل بيته إلا لغائط أو بول فإن دخله لغيرهما من طعام وشراب فسد اعتكافه.

وقد اختلف الناس في ذلك فقال أبو ثور لا يخرج إلا لحاجة الوضوء الذي لا بد له منه. وقال إسحاق بن راهويه لا يخرج إلا لغائط أو بول غير أنه فرق بين الواجب من الاعتكاف والتطوع، وقال في الواجب لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة وفي التطوع يشترط ذلك حين يبتدىء. وقال الأوزاعي لا يكون في الاعتكاف شرط. وقال أصحاب الرأي ليس ينبغي للمعتكف أن يخرج من المسجد لحاجة ما خلا الجمعة والغائط والبول، فأما ما سوى ذلك من عيادة مريض وشهود جنازة فلا يخرج له.

وقال مالك والشافعي لا يخرج المعتكف في عيادة مريض ولا شهود جنازة وهو قول عطاء ومجاهد وقالت طائفة للمعتكف أن يشهد الجمعة ويعود المريض ويشهد الجنازة روي ذلك عن علي رضي الله عنه وهو قول سعيد بن جبير والحسن البصري والنخعي.


568- قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد عن هشام بن عروه عن أبيه عن عائشة قالت كان رسول الله ﷺ يكون معتكفا في المسجد فيناولني رأسه من خلل الحجرة فأغسل رأسه. قال مسدد فارجّله وأنا حائض.

قلت فيه من الفقه أن المعتكف ممنوع من الخروج من المسجد إلا لغائط أو بول، وفيه أن ترجيل الشعر يجوز للمعتكف وفي معناه حلق الرأس وتلقيم الأظفار وتنظيف البدن من الشعث والدرن.

وفيه أن بدن الحائض طاهر غير نجس، وفيه أن من حلف لا يدخل بيتا فأدخل رأسه فيه وسائر بدنه خارج لم يحنث.


569- قال أبو داود: حدثنا أحمد بن محمد شبّويه المروزي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن علي بن حسين عن صفية قالت: كان رسول الله ﷺ معتكفا فأتيته أزوره فحدثته ثم قمت فانقلبت فقام معي ليقلبني وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد فمر رجلان من الأنصار فلما رأيا النبي ﷺ أسرعا فقال النبي ﷺ على رسلكما أنها صفية بنت حُيي قالا سبحان الله يا رسول الله، قال إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم فخشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا أو شرا.

قلت حكي لنا عن الشافعي أنه قال كان ذلك منه ﷺ شفقة عليهما لأنهما لو ظنا به ظن سوء كفرا فبادر إلى إعلامهما ذلك لئلا يهلكا.

قلت وفيه أنه خرج من المسجد معها ليبلغها منزلها وفي هذا حجة لمن رأى أن الاعتكاف لا يفسد إذا خرج في واجب وأنه لا يمنع المعتكف من إتيان معروف.


570- قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا عبد السلام بن حرب أخبرنا الليث بن أبى سليم عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة قال النفيلي قالت كان النبي ﷺ يعود المريض وهومعتكف فيمر كما هو فلا يعرج يسأل عنه. قال وحدثنا وهب بن بقية حدثنا خالد عن عبد الرحمن، يَعني ابن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة أنها قالت السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه ولا اعتكاف إلا بصوم ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع.

قلت قولها السنة إن كانت أرادت بذلك إضافة هذه الأمور إلى النبي ﷺ قولا أو فعلا فهي نصوص لا يجوز خلافها وإن كانت أرادت به الفتيا على معاني ما عقَلت من السنة فقد خالفها بعض الصحابة في بعض هذه الأمور، والصحابة إذا اختلفوا في مسألة كان سبيلها النظر، على أن أبا داود قد ذكر على أثر هذا الحديث أن غير عبد الرحمن بن إسحاق لا يقول فيه إنها قالت السنة فدل ذلك على احتمال أن يكون ما قالته فتوى منها وليس برواية عن النبي ﷺ ويشبه أن يكون أرادت بقولها لا يعود مريضا أي لا يخرج من معتكفه قاصدا عيادته وأنه لا يضيق عليه أن يمر به فيسأله غير معرج عليه كما ذكرته عن النبي ﷺ في حديب القاسم بن محمد.

وقولها لا يمس امرأة تريد الجماع وهذا لا خلاف فيه أنه إذا جامع امرأته فقد بطل اعتكافه. وأما المباشرة فقد اختلف الناس فيها فقال عطاء والشافعي إن باشر أو قبل لم يفسد اعتكافه وإن أنزل. وقال مالك يفسده وكذلك قال أصحاب الرأي.

وقولها لا اعتكاف إلا بصوم قد ذكرنا الاختلاف في ذلك وقولها لا اعتكاف إلا في مسجد جامع فقد يحتمل أن يكون معناه نفي الفضيلة والكمال وإنما يكره الاعتكاف في غير الجامع لمن نذر اعتكافا من جمعة لئلا تفوته صلاة الجمعة فأما من كان اعتكافه دون ذلك فلا بأس به والجامع وغيره سواء في ذلك والله أعلم.


571- قال أبو داود: حدثنا أحمد بن إبراهيم حدثنا أبو داود حدثنا عبد الله بن بديل يعنى ابن ورقاء الليثي عن عمرو بن دينار عن ابن عمر أن عمر جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية ليلة أو يوما عند الكعبة فسأل النبي ﷺ فقال اعتكف وصم.

قلت فيه من الفقه أن نذر الجاهلية إذا كان على وفاق حكم الإسلام كان معمولا به.

وفيه دليل على أن من حلف في كفره ثم أسلم فحنث أن الكفارة واجبة عليه وهذا على مذهب الشافعي.

وقال أبو حنيفة لا تلزمه الكفارة لأن الإسلام قد جب ما قبله.

قلت إذا جاز إيلاؤه في حال الكفر وما كان مأخوذا بحكمه في الإسلام فكذلك سائر إيمانه.

وفيه أيضا دليل على وقوع ظهار الذمي ووجوب الكفارة عليه فيها والله أعلم.


7 كتاب المناسك

572- قال أبو داود: حدثنا زهير بن حرب وعثمان بن أبي شيبة المعنى قالا: حدثنا يزيد بن هارون عن سفيان بن حسين عن الزهري، عن أبي سنان عن ابن عباس أن الأقرع بن حابس سأل النبي ﷺ فقال يا رسول الله الحج في كل سنة أو مرة واحدة قال بل مرة واحدة فمن زاد فتطوع.

قلت لا خلاف بين العلماء في أن الحج لا يتكرر وجوبه إلا أن هذا الإجماع إنما حصل منهم بدليل، فأما نفس اللفظ فقد كان موهما التكرار ومن أجله عرض هذا السؤال وذلك أن الحج في اللغة قصد فيه تكرار ومن ذلك قول الشاعر:

يحجون سب الزِّبرقان المزعفرا

يريد أنهم يقصدونه في أمورهم ويختلفون إليه في حاجاتهم مرة بعد أخرى إذ كان سيدا لهم ورئيسا فيهم وقد استدلوا بهذا المعنى في إيجاب العمرة وقالوا إذا كان الحج قصدا فيه تكرار فإن معناه لا يتحقق إلا بوجوب العمرة لأن القصد في الحج إنما هو مرة واحدة لا يتكرر.

وفي الحديت دليل على أن المسلم إذا حج مرة ثم ارتد ثم أسلم أنه لا إعادة عليه للحج.

وقد اختلف العلماء في الأمر الواحد من قبل الشارع هل يوجب التكرار أم لا على وجهين فقال بعضهم نفس الأمر يوجب التكرار وذهبوا إلى معنى اقتضاء العموم منه، وقال الآخرون لا يوجبه ويقع الخلاص منه والخروح من عهدته باستعماله مرة واحدة لأنه إذا قيل له أفعلت ما أمرت به فقال نعم كان صادقا وإلى هذا ذهب أكثر الناس.


1/2م ومن باب المرأة تحج بغير محرم

573- قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه أن أبا هريرة قال: قال رسول الله ﷺ لا يحل لامرأة مسلمة تسافر مسيرة ليلة إلا ومعها رجل ذو حرمة منها.

قلت في هذا بيان أن المرأة لا يلزمها الحج إذا لم تجد رجلا ذا محرم يخرج معها وإلى هذا ذهب النخعي والحسن البصري وهو قول أصحاب الرأي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وقال مالك تخرج مع جماعة من النساء.

وقال الشافعي تخرج مع امرأة حرة مسلمة ثقة من النساء.

قلت المرأة الحرة المسلمة الثقة التي وصفها الشافعي لا تكون رجلا ذا حرمة منها وقد حظر النبي ﷺ عليها أن تسافر إلا ومعها رجل ذو محرم منها فإباحة الخروج لها في سفر الحج مع عدم الشريطة التي أثبتها النبي ﷺ خلاف السنة فإذا كان خروجها مع غير ذي محرم معصية لم يجز إلزامها الحج وهو طاعة بأمر يؤدي إلى معصية.

وعامة أصحاب الشافعي يحتجون في هذا بما روي عن النبي ﷺ أنه سئل عن الاستطاعة فقال الزاد والراحلة قالوا فوجب إذا قدرت المرأة على هذه الاستطاعة أن يلزمها الحج ويتأولون خبر النهي على الأسفار التي هي متطوعة بها دون السفر الواجب.

قلت وهذا الحديث إنما رواه إبراهيم بن يزيد الخوزي عن محمد بن عباد بن جعفر عن ابن عمر. وإبراهيم الخوزى متروك الحديث، وقد روي ذلك من طريق الحسن مرسلا والحجة عند الشافعي لا تقوم بالمراسيل. وشبهها أصحابه بالكافرة تسلم في دار الحرب في أنها تهاجر إلى دار الإسلام بلا محرم وكذلك الأسيرة المسلمة إذا تخلصت من أيدي الكفار قالوا والمعنى في ذلك أنه سفر واجب عليها فكذلك الحج.

قلت ولوكانوا سواء لكان يجوز لها أن تحج وحدها ليس معها أحد من رجل ذي محرم أو امرأة ثقة فلما لم يبح لها في الحج أن تخرج وحدها إلا مع امرأة حرة ثقه مسلمة دل على الفرق بين الأمرين.


2/3م ومن باب لا صرورة

574- قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة أبو خالد، يَعني سليمان بن حبان الأحمر عن ابن جريج عن عمر عن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ لا صرورة في الإسلام.

قلت الصرورة تفسر تفسيرين أحدهما أن الصرورة هو الرجل الذي قد انقطع عن النكاح وتبتل على مذهب رهبانية النصارى ومنه قول النابغة.

لو أنها عرضت لأشمطَ راهبٍ... عبد الإله صرورةٍ متلبد

والوجه الاخر أن الصرورة هو الرجل الذي لم يحج فمعناه على هذا أن سنة الدين أن لا يبقى أحد من الناس يستطيع الحج فلا يحج حتى لا يكون صرورة في الإسلام وقد يستدل به من يزعم أن الصرورة لا يجوز له أن يحج عن غيره وتقدير الكلام عنده أن الصرورة إذا شرع في الحج عن غيره صار الحج عنه وانقلب عن فرضه ليحصل معنى النفي فلا يكون صرورة، وهذا مذهب الأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق.

وقال مالك والثوري حجه على ما نواه وإليه ذهب أصحاب الرأي، وقد روي ذلك عن الحسن البصري وعطاء والنخعي.

هامش

  1. [القيامة: 31]
  2. [التوبة: 36]