→ السابق | معالم السنن للإمام الخطابي
|
اللاحق ← |
43/83م ومن باب الحرق في بلاد العدو
738- قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ حرق نخل بني النضير وقطع وهي البويرة فأنزل الله تعالى {ما قطعتم من لينة} [1] الآية.
واختلف العلماء في تأويل ما فعل رسول الله ﷺ من ذلك، فقال بعضهم إنما أمر بقطع النخيل لأنه كان مقابل القوم فأمر بقطعها ليتسع المكان له، وكره هذا القائل قطع الشجر واحتج بنهي أبي بكر عن ذلك، وإلى هذا المعنى ذهب الأوزاعي، وقال الأوزاعي لا بأس بقطع الشجر وتحريقها في بلاد المشركين وبهدم دورهم وكذلك قال مالك. وقال أصحاب الرأي لا بأس به وكذاك قال إسحاق.
وكره أحمد تخريب العامر إلا من حاجة إلى ذلك. قال الشافعي ولعل أبا بكر إنما أمرهم أن يكفوا عن أن يقطعوا شجرا مثمرا لأنه سمع النبي ﷺ يخبر أن بلاد الشام يفتح على المسلمين فأراد بقاءها عليهم.
44/85م ومن باب ابن السبيل
يأكل من الثمرة ويشرب من اللبن إذا مر به
739- قال أبو داود: حدثنا عياش بن الوليد الرقام حدثنا عبد الأعلى حدثنا سعيد عن قتادة عن الحسن عن سمرة بن جندب أن نبي الله ﷺ قال: إذا أتي أحدكم على ماشية فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه فإن أذن له فليحلب وليشرب، وإن لم يكن فيها فليصوت ثلاثا فإن أجابه فليستأذنه وإلا فليحلب وليشرب ولا يحمل.
قلت هذا في المضطر الذي لا يجد طعاما وهو يخاف على نفسه التلف فإذا كان كذلك جاز له أن يفعل هذا الصنيع.
وذهب بعض أصحاب الحديث إلى أن هذا شيء قد ملكه النبي ﷺ إياه فهو له مباح لا يلزمه له قيمة.
وذهب أكثر الفقهاء إلى أن قيمته لازمة له يؤديها إليه إذا قدر عليها لأن النبي ﷺ قال لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيبة نفس منه.
740- قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة، عن أبي بشر عن عباد بن شرحبيل قال أصابتني سنة فدخلت حائطا من حيطان المدينة ففركت سنبلا فأكلت وحملت في ثوبي فجاء صاحبه فضربني وأخذ ثوبي فأتيت رسول الله ﷺ فقال له ما علّمت إذ كان جاهلا ولا أطعمت إذ كان جائعا أو قال ساغبا وأمره فرد عليّ ثوبي وأعطاني وسقا أو نصف وسق من طعام.
السنة المجاعة تصيب الناس والساغب الجائع ؛ وفيه أنه ﷺ عذره بالجهل حين حمل الطعام فلام صاحب الحائط إن لم يطعمه إذ كان جائعا.
45/86م ومن باب من قال لا يحلب
741- قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمرأن رسول الله ﷺ قال: لا يحلبن أحد ماشية أحد بغير إذنه أيحب أحدكم أن يؤتى مشربته فتكسر خزانته فينتثل طعامه فإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتَهم فلا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه.
المشربة كالعرقة يرفع فيها المتاع والشيء. وقوله ينتثل معناه يستخرج ويقال لما يخرج من تراب البئر إذا حفرت نثيل ومن هذا قولهم نثل الرجل كنانته إذا صبها على الأرض فأخرج ما فيها من النبل.
وفي هذا إثبات القياس والحكم للشيء بحكم نظيره. وفيه دليل على أن الشاة المبيعة إذا كان لها لبن مقدور على حلبه فإن للبن حصة من الثمن. وهذا يؤيد خبر المصراة ويثبت حكمها في تقويم اللبن.
وفيه دليل على أن السارق إذا سرق من الطعام ما يبلغ قيمته ربع دينار قطع. واللبن وغيره من رطب الطعام ويابسه في ذلك سواء إذا أخذه من حرز.
46/87م ومن باب في الطاعة
742- قال أبو داود: حدثنا عمرو بن مرزوق أخبرنا شعبة عن زبيد عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ بعث جيشا وأمرعليهم رجلا وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا فأجج نارا وأمرهم أن يقتحموا فيها فأبى قوم أن يدخلوها فبلغ ذلك النبي ﷺ فقال لو دخلوها لم يزالوا فيها وقال لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف.
قلت هذه القصة وما ذكر فيها من شأن النار والوقوخفيها يدل على أن المراد به طاعة الولاة وأنها لا تجب إلا في المعروف كالخروج في البعث إذا أمر به الولاة والنفوذ لهم في الأمور التي هي طاعات ومعاون للمسلمين ومصالح لهم. فأما ما كان فيها معصية كقتل النفس المحرمة وما أشبهه فلا طاعة لهم في ذلك.
وقد يفسر قوله لا طاعة في معصية الله تفسيرا آخر وهو أن الطاعة لا تسلم لصاحبها ولا تخلص إذا كانت مشوبة بالمعصية، وإنما تصح الطاعات مع اجتناب المعاصي.
47/89م ومن باب كراهية تمني لقاء العدو
743- قال أبو داود: حدثنا محبوب بن موسى أبو صالح أخبرنا أبو إسحاق الفزاري عن موسى بن عقبة عن سالم أبي النَّضر مولى عمر بن عبيد الله بن معمر وكان كاتبا له، قال كتب إليه عبد الله بن أبي أوفى حين خرج إلى الحرورية أن رسول الله ﷺ في بعض أيامه التي لقي فيها العدو، قال يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف، ثم قال اللهم منزل الكتاب مجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم.
قلت معنى ظلال السيوف الدنو من القرن حتى يعلوه ظل سيفه لا يولي عنه ولا يفر منه وكل شيء دنا منك فقد أظلك كقول الشاعر:
ورنَّقت المنية فهي ظل... على الأقران دانية الجَناح
48/90 ومن باب ما يدعى عند اللقاء
744- قال أبو داود: حدثنا نصر بن علي أخبرني أبي حدثنا المثنى بن سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك قال كان رسول الله ﷺ إذا غزا قال اللهم أنت عضدي ونصيري بك أحول وبك أصول وبك أقاتل.
قوله أحول معناه احتال قال ابن الأنباري الحَول معناه في كلام العرب الحيلة، يقال ما للرجل حول وماله محالة، قال ومنه قولك لا حول ولا قوة إلا بالله أي لا حيلة في دفع سوء ولا قوة في درك خير إلا بالله.
وفيه وجه آخر وهو أن يكون معناه المنع والدفع، من قولك حال بين الشيئين إذا منع أحدهما عن الآخر يقول لا أمنع ولا أدفع إلا بك.
49/91م ومن باب دعاء المشركين
745- قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا ثابت عن أنس أن النبي ﷺ كان يغير عند صلاة الصبح وكان يستمع فإذا سمع أذانا أمسك وإلا أغار.
قلت فيه من الفقه ان إظهار شعار الإسلام في القتال وعند شن الغارة يحقن به الدم وليس كذلك حال السلامة والطمأنينة التي يتسع فيها معرفة الأمور على حقائقها واستيفاء الشروط اللازمة فيها.
وفيه دليل على أن قتال الكفار من غير احداث الدعوة جائز، وقد ذكرنا اختلاف أهل العلم في ذلك في باب قبل هذا.
وقال الشافعي في هذا الحديث إنما كان رسول الله ﷺ لا يغير حتى يصبح ليس لتحريم الغارة ليلا أو نهارا ولا غارين وفي كل حال ولكنه على أن يكون يبصر من معه كيف يغيرون احتياطا أن يؤتوا من كمين ومن حيث لا يشعرون وقد يختلط أهل الحرب إذا غاروا ليلا فيقتل بعض المسلمين بعضا.
قلت وقد أغار رسول الله على بني المصطلق وهم غارون وأنعامهم على الماء تسقى، وقد ذكره أبو داود في هذا الباب. وقال لأسامة أغر على أُبْنا صباحا وحرق فدل على إباحة البيات والإيقاع بهم وهم غارون. وقال سلمة بن الأكوع أمّرعلينا رسول الله ﷺ أبا بكر رضي الله عنه فغزونا ناسا من المشركين فبيتناهم نقتلهم وكان شعارنا تلك الليلة امِتْ امت.
0 5/92م ومن باب المكر في الحرب
746- قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبيد حدثنا ابن ثور عن معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه أن النبي ﷺ كان إذا أراد غزوة وَرَّى بغيرها وكان يقول الحرب خَدعة.
قوله ورى بغيرها التورية أن يريد إنسان الشيء فيظهر غيره.
وقوله الحرب خدعة معناه إباحة الخداع في الحرب وإن كان محظورا في غيرها من الأمور، وهذا الحرف يروى على ثلاثة أوجه خَدْعة بفتح الخاء وسكون الدال، وخُدْعة بضم الخاء وسكون الدال، وخُدَعة الخاء مضمومة والدال منصوبة وأصوبها خَدْعة بفتح الخاء. أخبرني أبو رجاء الغنوي، عن أبي العباس أحمد بن يحيى، قال خدعة بفتح الخاء بلغنا أنها لغة النبي ﷺ.
قلت معنى الخدعة أنها هي مرة واحدة أي إذا خُدع المقاتل مرة واحدة لم يكن له إقالة، ومن قال خُدْعة أراد الاسم كما يقال هذه لعبة، ومن قال خُدَعة بفتح الدال كان معناه أنها تخدع الرجال وتمنيهم ثم لا تفي لهم كما يقال رجل لعبه إذا كان كثير التلعب بالأشياء.
51/94 ومن باب لزوم الساقة
747- قال أبو داود: حدثنا الحسن بن شَوكر حدثنا إسماعيل بن علية حدثنا الحجاج بن أبي عثمان، عن أبي الزبير أن جابر بن عبد الله حدثهم قال كان رسول الله ﷺ يتخلف في المسير فيزجي الضعيف ويردف ويدعو لهم.
قوله يزجي أي يسوق بهم، يقال أزجيت المطية إذا حثثتها في السوق.
52/95م ومن باب على ما يقاتل المشركون
748- قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي وعثمان بن أبي شيبة المعنى قالا: حدثنا يعلى بن عبيد عن الأعمش، عن أبي ظبيان حدثنا أسامة بن زيد قال بعثنا رسول الله ﷺ سرية إلى الحُرَقات فنذروا بنا فهر وا فأدركنا رجلا فلما غشيناه قال لا إله إلا الله فضربناه حتى قتلناه فذكرته للنبي ﷺ فقال من لك بلا إلّه إلا الله يوم القيامة فقلت يا رسول الله إنما قالها مخافة السلاح، قال أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم من أجل ذلك قالها أم لا. من لك بلا إلّه إلا الله يوم القيامة فما زال يقولها حتى وددت أني لم أسلم إلا يومئذٍ.
فيه من الفقه أن الكافر إذا تكلم بالشهادة وإن لم يصف الأيمان وجب الكف عنه والوقوف عن قتله سواء كان بعد القدرة عليه أو قبلها.
وفي قوله هلا شققت عن قلبه دليل على أن الحكم إنما يجري على الظاهر وإن السرائر موكولة إلى الله سبحانه.
وفيه أنه لم يُلزمه مع إنكاره عليه الدية، ويشبه أن يكون المعنى فيه أن أصل دماء الكفار الإباحة، وكان عند أسامة أنه إنما تكلم بكلمة التوحيد مستعيذا من القتل لا مصدقا به فقتله على أنه كافر مباح الدم فلم تلزمه الدية إذ كان في الأصل مأمورا بقتاله والخطأ عن المجتهد موضوع.
ويحتمل أن يكون قد تأول فيه قول الله {فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا} [2] وقوله في قصة فرعون {الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين} [3] فلم يخلصهم إظهار الإيمان عند الضرورة والارهاق من نزول العقوبة بساحتهم ووقوع بأسه بهم.
749- قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن ابن شهاب عن عطاء بن زيد الليثي عن عبيد الله بن عدي بن الخيار عن المقداد بن الأسود أنه أخبره أنه قال يا رسول الله أرأيت أن لقيت رجلا من الكفار يقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف ثم لاذ مني بشجرة فقال أسلمت لله افأقتله يا رسول الله بعد أن قالها، قال رسول الله ﷺ لا تقتله فقلت يا رسول الله إنه قطع يدي، قال رسول الله ﷺ لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال.
قلت الخوارج ومن يذهب مذاهبهم في التكفير بالكبائر يتأولونه على أنه بمنزلته في الكفر. وهذا تأويل فاسد وإنما وجهه أنه جعله بمنزلته في إباحة الدم لأن الكافر قبل أن يسلم مباح الدم بحق الدين فإذا أسلم فقتله قاتل فإن قاتله مباح الدم بحق القصاص.
750- قال أبو داود: حدثنا هناد بن السري حدثنا أبو معاوية عن إسماعيل عن قيس عن جرير بن عبد الله قال بعث رسول الله ﷺ سرية إلى خثعم فاعتصم ناس منهم بالسجود فأسرع فيهم القتل، قال فبلغ ذلك النبي ﷺ فأمر لهم بنصف العقل وقال أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين قالوا يا رسول الله لِمَ قال لا ترايا ناراهما.
قلت إنما أمر لهم بنصف العقل ولم يكمل لهم الدية بعد علمه بإسلامهم لأنهم قد أعانوا على أنفسهم بمقامهم بين ظهراني الكفار فكانوا كمن هلك بجناية نفسه وجناية غيره فسقط حصة جنايته من الدية.
وأما اعتصامهم بالسجود فإنه لا يمحص الدلالة على قبول الدين لأن ذلك قد يكون منهم في تعظيم السادة والرؤساء فعذروا لوجود الشبه.
وفيه دليل على أنه إذا كان أسيرا في أيديهم فأمكنه الخلاص والانقلاب منهم لم يحل له المقام معهم وإن حلفوه فحلف لهم أن لا يخرج كان الواجب أن يخرج إلا أنه إن كان مكرها على اليمين لم تلزمه الكفارة، وإن كان غير مكره كانت عليه الكفارة عن يمينه. وعلى الوجهين جميعا فعليه الاحتيال للخلاص، وقد قال رسول الله ﷺ من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه.
وقوله لا ترايا ناراهما فيه وجوه أحدها معناه لا يستوي حكماهما قاله بعض أهل العلم. وقال بعضهم معناه أن الله قد فرق بين داري الإسلام والكفر فلا يجوز لمسلم أن يساكن الكفار في بلادهم حتى إذا أوقدوا نارا كان منهم بحيث يراها.
وفيه دلالة على كراهة دخول المسلم دار الحرب للتجارة والمقام فيها أكثر من مدة أربعة أيام.
وفيه وجه ثالث ذكره بعض أهل اللغة قال معناه لا يتسم المسلم بسمة المشرك ولا يتشبه به في هديه وشكله والعرب تقول ( ما نار بعيرك أي ما سمته ) ومن هذا قولهم ( نارها نجارها ) يريدون أن ميسمها يدل على كومها وعتقها ومنه قول الشاعر:
حتى سقوا آبالهم بالنار... والنار قد تشفي من الأوار
يريد أنهم يعرفون الكرام منها بسماتها فيقدمونها في السقي على اللئام.
53/96م ومن باب التولي من الزحف
751- قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا يزيد بن أبي زياد أن عبد الرحمن بن أبي ليلى حدثه أن عبد الله بن عمر حدثه أنه كان في سرية من سرايا رسول الله ﷺ قال فجاض الناس جيضة فكنت فيمن جاض فلما فررنا قلنا كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب فقلنا ندخل المدينة فنثبت فيها ونذهب فلا يرانا أحد، قال فدخلنا فقلنا لو عرضنا أنفسنا على رسول الله ﷺ فإن كان لنا توبة أقمنا وإن كان غير ذلك ذهبنا قال فجلسنا لرسول الله ﷺ قبل صلاة الفجر، فلما خرج قمنا إليه فقلنا نحن الفرارون فأقبل إلينا فقال لا بل أنتم العكَّارون قال فدنونا فقبلنا يده فقال أنا فئة المسلمين.
يقال جاض الرجل إذا حاد عن طريقه أو انصرف عن وجهه إلى جهة أخرى.
وقوله أنتم العكارون، يريد أنتم العائدون إلى القتال والعاطفون عليه، يقال عَكَرت على الشيء إذا عطفت عليه وانصرفت إليه بعد الذهاب عنه.
وأخبرني ابن الزيبقي حدثنا الكديمي عن الأصمعي ؛ قال رأيت أعرابيا يفلي ثيابه فيقتل البراغيث ويترك القمل فقلت لم تصنع هذا قال اقتل الفرسان ثم أعكر على الرجَّالة.
وقوله ﷺ إنا فئة المسلمين يمهد بذلك عذرهم وهو تأويل قوله أو متحيزا إلى فئة.
54/98م ومن باب حكم الجاسوس إذا كان مسلما
752- قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن عمرو وحدثه حسن بن محمد بن علي أخبره عبيد الله بن أبي رافع وكان كاتبا لعلي بن أبي طالب، قال سمعت عليا يقول بعثني رسول الله ﷺ أنا والزبير والمقداد فقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها فانطلقنا تتعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة فقلنا هلمي الكتاب فقالت ما عندي من كتاب قلت لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب فأخرجته من عقاصها فأتينا به النبي ﷺ فإذا هو من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله ﷺ فقال ما هذا يا حاطب فقال يا رسول الله لا تعجل عليَّ فإني كنت امرءا ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسها وإن قريشا لهم بها قرابات يحمون بها أهليهم فأحببت إذ فاتني ذلك أن اتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتي والله ما كان بي كفر ولا ارتداد، فقال رسول الله ﷺ صدقكم فقال عمر رضي الله عنه دعني اضرب عنق هذا المنافق، فقال رسول الله ﷺ قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.
قلت في هذا الحديث من الفقه إن حكم المتأول في استباحة المحظور عليه خلاف حكم المتعمد لاستحلاله من غير تأويل.
وفيه أنه إذا تعاطى شيئا من المحظور وادعى أمرا مما يحتمله التأويل كان القول قوله في ذلك وإن كان غالب الظن بخلافه، ألا ترى أن الأمر لما احتمل وأمكن أن يكون كما قال حاطب وأمكن أن يكون كما قاله عمر رضي الله عنه استعمل رسول الله ﷺ حسن الظن في أمره وقبل ما ادعاه في قوله.
وفيه دليل على أن الجاسوس إذا كان مسلما لم يقتل.
واختلفوا فيما يفعل به من العقوبة فقال أصحاب الرأي في المسلم إذا كتب إلى العدو ودله على عورات المسلمين يوجع عقوبة ويطال حبسه.
وقال الأوزاعي إن كان مسلما عاقبه الإمام عقوبة منكلة وغربه إلى بعض الآفاق في وثاق وإن كان ذميا فقد نقض عهده.
وقال مالك لم أسمع فيه شيئا وأرى فيه اجتهاد الإمام. وقال الشافعي إذا كان هذا من الرجل ذي الهيئة بجهالة كما كان من حاطب بجهالة وكان غير متهم أحببت أن يتجافى عنه وإن كان من غير ذي الهيئة كان للإمام تعزيره.
وفي الحديث من الفقه أيضا جواز النظر إلى ما ينكشف من النساء لإقامة حد أو إقامة شهادة في إثبات حق إلى ما أشبه ذلك من الأمور.
وفيه دليل على أن من كفر مسلما أو نفقه على سبيل التأويل وكان من أهل الاجتهاد لم تلزمه عقوبة. ألا ترى أن عمر رضي الله عنه قال دعني أضرب عنق هذا المنافق وهو مؤمن قد صدقه رسول الله ﷺ فيما ادعاه من ذلك ثم لم يعنف عمر فيما قاله. وذلك أن عمر لم يكن منه عدوان في هذا القول على ظاهر حكم الدين إذ كان المنافق هو الذي يظهر نصرة الدين في الظاهر ويبطن نصرة الكفار وكان هذا الصنيع من حاطب شبيها بأفعال المنافقين إلا أن رسول الله ﷺ قد أخبر أن الله تعالى قد غفر له ما كان منه من ذلك الصنيع وعفا عنه فزال عنه اسم النفاق والله أعلم.
55/0 10م ومن باب الحكم في الجاسوس المستأمن
753- قال أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله أن هاشم بن القاسم حدثهم عن عكرمة أخبرني إياس بن سلمة قال حدثني أبي قال غزوت مع رسول الله ﷺ هوازن قال فبينا نحن نتضحى وعامتنا مشاة وفينا ضعفة إذ جاء رجل على جمل أحمر فانتزع طلقا من حقو البعير فقيد به جمله، ثم جاء يتغدى مع القوم فلما رأى ضعفهم ورقة ظهرهم خرج يعدو إلى جمله فأطلقه ثم أناخه فقعد عليه ثم خرج يركضه وأتبعه رجل من أسلم على ناقة ورقاء هي أمثل ظهر القوم، قال فخرجت أعدو فأدركته ورأس الناقة عند ورك الجمل وكنت عند ورك الناقة ثم تقدمت حتى كنت عند ورك الجمل ثم تقدمت حتى أخذت بخطام الجمل فأنخته فلما وضع ركبته بالأرض اخترطت سيفي فأضرب رأسه فنذر فجئت براحلته وما عليها أقوده، فقال رسول الله ﷺ من قتل الرجل فقالوا سلمة بن الأكوع قال له سلبه أجمع.
قوله نتضحى معناه نتغدى والضحاء ممدود الغداء والطلق سير يقيد به البعير وحقوه مؤخره. وقوله نذر، معناه بان منه وسقط، وفيه إثبات السلب للقاتل وأنه لم يخمسه.
56/4 10م ومن باب الخُيَلاء في الحرب
754- قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم وموسى بن إسماعيل المعنى واحد قالا: حدثنا أبان حدثنا يحيى عن محمد بن إبراهيم عن ابن جابر بن عتيك عن جابر بن عتيك، قال من الغيرة ما يحب الله ومنها ما يبغض الله، فأما التي يحبها الله فالغيرة في الريبة وأما التي بغضها الله فالغيرة في غير ريبة وأن من الخيلاء ما يبغض الله ومنها ما يحب الله، فأما الخيلاء التي يحب الله فاختيال الرجل نفسه عند القتال واختياله عند الصدقة، وأما التي يبغض الله فاختياله في البغي قال موسى والفخر.
قلت معنى الاختيال في الصدقة أن يهزه أريحية السخاء فيعطيها طيبة نفسه بها من غير من ولا تصريد. واختيال الحرب أن يتقدم فيها بنشاط نفس وقوة جنان ولا يكبع ولا يجبن.
57/5 10م ومن باب الرجل يستأسر
755- قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا إبراهيم بن سعد حدثنا ابن شهاب قال أخبرني عمر بن جارية الثقفي حليف بني زهرة، عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال بعث رسول الله ﷺ عشرة عينا وأمر عليهم عاصم بن ثابت فنفروا لهم هذيل قريب من مائة رجل رام ؛ فلما أحس بهم عاصم لجؤوا إلى قَرْدَد فقالوا لهم انزلوا فأعطوا بأيديكم ولكم العهد والميثاق أن لا يقتل منكم أحد، فقال عاصم أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر فرموهم بالنبل فقتلوا عاصما في سبعة نفر ونزل إليهم خبيب وزيد بن الدثنة ورجل آخر فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فربطوهم بها قال الرجل الثالث هذا أول الغدر والله لا أصحبكم إن لي بهؤلاء لأسوة فجرروه فأبى أن يصحبهم فقتلوه فلبث خبيب أسيرا حتى أجمعوا قتله فاستعار موسى يستحد بها فلما أخرجوه ليقتلوه قال لهم خبيب دعوني أركع ركعتين ثم قال والله لولا أن يحسبوا ما بي جزعا لزدت.
القردد رابية مشرفة على وهدة قال الشاعر:
متى ما تُررنا آخر الدهر تلقنا... بقرقرةٍ ملساء ليست بقَرْدد
وقوله يستحد بها أي يحلق شعر عانته والاستحداد مأخوذ من الحديد.
وفيه من العلم أن المسلم يجالد العدو إذا أزهق ولا يستأسر له ما قدر على الامتناع منه، وإنما استحد خبيب خوفا أن تظهر عورته إذا صلبوه، ثم أنه من السنة فاستعمله متجهزا للموت.
58/6 10م ومن باب في الكمين
756- قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا زهير حدثنا أبو إسحاق قال سمعت البراء يحدث قال جعل رسول الله ﷺ على الرماة يوم أحد وكانوا خمسين رجلا عبد الله بن جبير وقال إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا من مكانكم هذا حتى أرسل إليكم وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، قال فهزمهم الله قال فأنا والله رأيت النساء يسندن على الجبل فقال أصحاب عبد الله بن جبير الغنيمة أي قوم الغنيمة ظهر أصحابكم فقال عبد الله بن جبير أنسيتم ما قال لكم رسول الله ﷺ قالوا والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة فأتوهم فصرفت وجوههم وأقبلوا منهزمين.
قوله تخطفنا الطير معناه الهزيمة يقول إن رأيتمونا وقد أسرعنا مولين فأثبتوا أنتم ولا تبرحوا، والعرب تقول فلان ساكن الطير إذا كان ركينا ثابت الجأش وقد طار طير فلان إذا طاش وخف قال لقيط الإيادي.
هو الجلاء الذي يجتذ أصلكم... إن طار طيركم يوما وإن وقعا
وقوله يسندن على الجبل معناه يصعدن فيه يقال سند الرجل في الجبل إذا صعد فيه، والسند ما ارتفع من الأرض، والسناد الطويلة من النوق.
59/107م ومن باب الصفوف
757- قال أبو داود: حدثنا أحمد بن سنان حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا عبد الرحمن بن سليمان بن الغسيل عن حمزة بن أبي أسيد عن أبيه قال: قال رسول الله ﷺ حين اصطففنا يوم بدر إذا أكثبوكم فارموهم بالنبل واستبقوا نبلكم.
قوله أكثبوكم معناه غشوكم وأصله من الكثب وهو القرب يقول إذا دنوا منكم فارموهم ولا ترموهم على بعد.
60/109م ومن باب المبارزة
758- قال أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا عثمان بن عمر أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن علي رضي الله عنه، قال تقدم عتبة بن ربيعة ومعه ابنه وأخوه فنادى من يبارز فانتدب له شباب من الأنصار، فقال من أنتم فأخبروه فقال لا حاجة لنا فيكم إنما أردنا بني عمنا، فقال رسول الله ﷺ قم يا حمزة قم يا علي قم يا عبيدة بن الحارث فأقبل حمزة إلى عتبة وأقبلت إلى شيبة واختلف بين عبيدة والوليد ضربتين فأثخن كل واحد منهما صاحبه ثم ملنا إلى الوليد فقتلناه واحتملنا عبيدة.
قلت فيه من الفقه إباحة المبارزة في جهاد الكفار ولا أعلم اختلافا في جوازها إذا أذن الإمام فيها، وإنما اختلفوا فيها إذا لم تكن عن إذن من الإمام فكره سفيان الثوري وأحمد واسحاق أن يفعل ذلك إلا بإذن الإمام. وحكي ذلك أيضا عن الأوزاعي.
وقال مالك والشافعي لا بأس بها كانت بإذن الإمام أو بغير إذنه، وقد روي ذلك أيضا عن الأوزاعي.
قلت قد جمع هذا الحديث معنى جوازها بإذن الإمام وبغير إذنه، وذلك أن مبارزة حمزة وعلي رضي الله عنهما كانت بإذن النبي ﷺ ولم يذكر فيه إذن من النبي ﷺ للأنصاريين الذين خرجوا إلى عتبة وشيبة قبل على وحمزة ولا إنكار من النبي ﷺ عليهم في ذلك.
وفي الحديث من الفقه أيضا أن معونة المبارز جائزة إذا ضعف أو عجز عن قرنه ألا ترى أن عبيدة لما أثخن أعانه علي وحمزة في قتل الوليد.
واختلفوا في ذلك فرخص فيه الشافعي وأحمد وإسحاق. وقال الأوزاعي لا يعينونه عليه لأن المبارزة إنما تكون هكذا.
61/10 1م ومن باب النهي عن المثلة
759- قال أبو داود: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن الحسن عن الهياج بن عمران أن عمران بن حصين أبق له غلام فجعل الله عليه لئن قدر عليه ليقطعن يده فأرسلني لأسأل فأتيت سمرة بن جندب فقال كان رسول الله ﷺ يحثنا على الصدقة وينهانا عن المثلة.
قلت المثلة تعذيب المقتول بقطع أعضائه وتشويه خلقه قبل أن يقتل أو بعده وذلك مثل أن يجدع أنفه أو أذنه أو يفقأ عينه أو ما أشبه ذلك من أعضائه.
قلت وهذا إذا لم يكن الكافر فعل مثل ذلك بالمقتول المسلم فإن مثل بالمقتول جاز أن يمثل به ولذلك قطع رسول الله ﷺ أيدي العرنيين وأرجلهم وسمر أعينهم وكانوا فعلوا ذلك برعاء رسول الله ﷺ وكذلك هذا في القصاص بين المسلمين إذا كان القاتل قطع أعضاء المقتول وعذبه قبل القتل فإنه يعاقب بمثله وقد قال تعالى {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}.
62/111م ومن باب قتل النساء
760- قال أبو داود: حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا عمر بن المرقع بن صيفي بن رماح حدثني أبي عن جده رماح بن الربيع، قال كنا مع رسول الله ﷺ في غزوة فرأى الناس مجتمعين على شيء فبعث رجلا فقال انظر علام اجتمع هؤلاء فجاء فقال على امرأة قتيل، فقال ما كانت هذه لتقاتل قال وعلى المقدمة خالد بن الوليد فبعث رجلا فقال قل لخالد لا تقتلن امرأة ولا عسيفا.
قلت فيه دليل على أن المرأة إذا قاتلت قتلت ألا ترى أنه جعل العلة في تحريم قتلها أنها لا تقاتل فإذا قاتلت دل على جواز قتلها.
والعسيف الأجير والتابع ؛ واختلفوا في جواز قتله فقال الثوري لا يقتل العسيف وهو التابع. وقال الأوزاعي نحوا منه وقال لا يقتل الحراث إذا علم أنه ليس من المقاتلة، قال وكذلك لا يقتل صاحب الصومعة ولا شيخا فانيا ولا صغيرا قال ويقتل الشاب المريض ويكف عن الأعمى. وقال الشافعي يقتل الفلاحون والشيوخ والأجراء حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية.
761- قال أبو داود: حدثنا سعيد بن منصور حدثنا هشيم حدثنا حجاج حدثنا قتادة عن الحسن عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله ﷺ: اقتلوا شيوخ المشركين واستبقوا شرخهم.
قلت الشرخ هاهنا جمع شارخ وهو الحديث السن، يقال شارخ وشرخ كما قالوا راكب وركب وصاحب وصحب، يريد بهم الصبيان ومن لم يبلغ مبلغ الرجال. والشيوخ هاهنا المسان، فإذا قيل شرخ الشباب كان معناه أول الشباب قال حسان:
إن شرخ الشباب والشعر الأسود... ما لم يعاصِ كان جنونا
762- قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت لم يقتل من نساء بني قريظة إلا امرأة إنها لعندي تحدث تضحك ظهرا وبطنا ورسول الله ﷺ يقتل رجالهم بالسيوف إذ هتف بها هاتف باسمها أين فلانه. قالت أنا، قلت وما شأنك قال حدثا أحدثته، قال فانطلق بها فضربت عنقها فما أنسى عجبا منها أنها تضحك ظهرا وبطنا وقد علمت أنها تقتل.
قلت يقال إنها كانت شتمت النبي ﷺ وهو الحدث الذي أحدثته وفي ذلك دلالة على وجوب قتل من فعل ذلك. ويحكى عن مالك أنه كان لا يرى لمن سب النبي ﷺ توبة ويقبل توبة من ذكر الله سبحانه بسب أو شتم ويكف عنه.
وأخبرني بعض أهل العلم من أهل الأندلس أن هذه القضية جارية فيما بينهم وإن أمراءهم والقضاة يحكمون بها على من فعل ذلك، وربما بقي أسراء الروم في أيديهم فيطول مقامهم بينهم فيطلبون الخلاص بالموت فيجاهرون بشتم النبي ﷺ فعند ذلك لا ينهون أن يقتلوا، والغالب على بلاد الأندلس ونواحي المغرب رأي مالك.
763- قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح حدثنا سفيان عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس عن الصعب بن جثامة أنه سأل النبي ﷺ عن الدار من المشركين يبيتون فيصاب من ذراريهم ونسائهم فقال النبي ﷺ هم منهم.
يريد أنهم منهم في حكم الدين وإباحة الدم، وفيه بيان أن قتلهم في البيات وفي الحرب إذا لم يتميزوا من آبائهم وإذا لم يتوصلوا إلى الكبار إلا بالإتيان عليهم جائز. وأن النهي عن قتلهم منصرف إلى حال التمييز والتفرق فإن الإبقاء عليهم إنما هو من أجل أنهم فيء للمسلمين لا من جهة أنهم على حكم الإسلام.
هامش