→ السابق | معالم السنن للإمام الخطابي
|
اللاحق ← |
66/0 8م ومن باب قبول الهدايا
984- قال أبو داود: حدثنا علي بن بحر، قال: حدثنا عيسى بن يونس عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ كان يقبل الهدية ويثيب عليها.
قال الشيخ قبول النبي ﷺ الهدية نوع من الكرم وباب من حسن الخلق يتألف به القلوب، وقد روي عنه ﷺ أنه قال تهادوا تحابوا، وكان أكل الهدية شعارا له وأمارة من أماراته ووصف في الكتب المتقدمة بأنه قبل الهدية ولا يأكل الصدقة، وإنما صانه الله سبحانه عن الصدقة وحرمها عليه لأنهأ أوساخ الناس وكان ﷺ إذا قبل الهدية أثاب عليها لئلا يكون لأحد عليه يد ولا يلزمه له منة، وقد قال الله عز وجل {لا أسألكم عليه أجرا} [1] فلو كان يقبلها ولا يثيب عليها لكانت في معنى الأجر، وهدية الولاة والحكام رشوة وهو ﷺ رئيسهم وسيدهم فلم يجز له أن يأخذ ولا يعطي وأن يقبل ولا يثيب.
وقال بعض العلماء في قول الله تعالى {فلا تمنن تستكثر} [2] هذا خاص للنبي ﷺ، قال ومعناه أن يهدي الشيء ليعتاض أكثر منه، قال وهذا لا يحرم على غيره كما يحرم عليه ﷺ.
وقد ذهب غير واحد من الفقهاء إلى أن الهدية تقتضي الثواب وإن لم يشترط واستدل في ذلك بالحديث الذي يروى عن النبي ﷺ أنه أهدى له أعرابي فأثابه فلم يرض، فقال ﷺ لقد هممت أن لا اتهب إلا من قرشي أو أنصاري أو دوسي، وقد ذكره أبو داود بمعناه في هذا الباب.
ومنهم من حمل أمر الناس في الهدية على وجوه وجعلهم في ذلك على ثلاث طبقات، فقال هبة الرجل ممن هو دونه كالخادم ونحوه إكرام له والطاف، وذلك غير مقتض ثوابا، وهبة الصغير لكبير طلب رفد ومنفعة والثواب فيها واجب، وهبة النظير لنظيره والغالب فيها معنى التودد والتقرب، وقد قيل إن فيها ثوابا فأما إذا وهب هبة واشترط فيها الثواب فهو لازم.
وقد ذهب بعض العلماء في ذلك إلى أنها عقد من عقود المعاوضات، وقال يجب أن يكون العوض معلوما وأثبت فيها شرائط المبايعات من خيار الثلاث والرد بالعيب ونحوه.
67/81م ومن باب الرجوع في الهدية
985- قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا أبان وهمام وشعبة قالوا حدثنا قتادة عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس عن النبي ﷺ قال العائد في هبته كالعائد في قيئه. قال همام قال قتادة ولا نعلم القيء إلا حراما.
قال الشيخ هذا الحديث لفظه في التحريم عام ومعناه خاص وتفسيره في حديث ابن عمر الذي عقبه أبو داود بذكره.
986-، قال: حدثنا مسدد قال، حدثنا حسين المعلم، قال: حدثنا عمرو بن شعيب عن طاوس عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال لا يحل لرجل أن يعطي عطية أو يهب هبة فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده.
قال الشيخ وإنما استثنى الوالد لأنه ليس كغيره من الأجانب والأباعد، وقد جعل رسول الله ﷺ للأب حقا في مال ولده قال أنت ومالك لأبيك وهو إذا سرق ماله مع الغنى عنه لم يقطع ولو وطىء جاريته لم يحد وجعلت يده في ولايه مال الولد كيده، ألا ترى أنه يلي عليه البيع والشراء ويقبض له وإذا كان كذلك صار في الهبة منه والاسترجاع عنه في معنى من وهب ولم يقبض إذا كانت يده كيده وهو مأمون عليه غير متهم فيما يسترده منه فأمره محمول في ذلك على أنه نوع من السياسة وباب من الاستصلاح، وليس كذلك الأجنبي ومن ليس بأب من ذوي الأرحام وقد يظن به التهمة والعداوة وأن يكون إنما دعا إلى ارتجاعها عبث أو موجدةٌ في نحوها من الأمور.
وقد اختلف الناس في هذا فقال الشافعي بظاهر هذا الحديث وجعل للأب الرجوع فيما وهب لابنه ولم يجعل له الرجوع فيما وهب للأجنبي.
وقال مالك له الرجوع فيما وهب له إلا أن يكون الشيء قد تغير في حاله فإن تغير لم يكن له أن يرتجعه.
وقال أبو حنيفة ليس للأب الرجوع فيما وهب لولده ولكل ذي رحم من ذوي أرحامه وله الرجوع فيما وهب للأجانب وتأولوا خبر ابن عمر على أن له الرجوع عند الحاجة إليه والمعنى في ذلك عند الشافعي أنه جعل ذلك بحق الأبوة والشركة التي له في ماله.
68/83م ومن باب الرجل يفضل بعض ولده على بعض في النحل
987- قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل، قال: حدثنا هشيم قال أخبرنا يسار قال وأخبرنا مغيرة قال وأخبرنا داود عن الشعبي ومجالد وإسماعيل بن سالم عن الشعبي عن النعمان بن بشير قال نحلني أبي نحلا. قال إسماعيل نحله غلاما له قال فقالت له أمي عمرة بنت رواحة ايت رسول الله ﷺ وأشهده فأتى النبي ﷺ فذكر ذلك لم، فقال إني نحلت ابني النعمان نحلا وأن عمرة سألتني أن أشهدك على ذلك، فقال ألك ولد سواه، قال قلت نعم قال فكلهم أعطيته مثل ما أعطيت النعمان، قال قلت لا قال فقال بعض هؤلاء المحدثين هذا جور وقال بعضهم هذا تلجئة فأشهد على هذا غيري.
قال الشيخ واختلف أهل العلم في جواز تفضيل بعض الأبناء على بعض في النحل والبر، فقال مالك والشافعي التفضيل مكروه فإن فعل ذلك نفذ، وكذلك قال أصحاب الرأي.
وعن طاوس أنه قال إن فعل ذلك لم ينفذ وكذلك قال إسحاق بن راهويه وهو قول داود.
وقال أحمد بن حنبل لا يجوز التفضيل، ويحكى ذلك أيضا عن سفيان الثوري واستدل بعض من منع ذلك بقوله هذا جور، وبقوله هذا تلجئة والجور مردود والتلجئة غير جائز ويدل على ذلك حديثه الآخر.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حدثنا جرير عن هشام بن عروة عن أبيه قال حدثني النعمان بن بشير قال أعطاه أبوه غلاما فقال له رسول الله ﷺ ما هذا الغلام، قال غلام أعطانيه أبي، قال فكل إخوتك أعطى كما أعطاك، قال لا قال فاردده.
واستدل من أجازه من رواية مالك عن الزهري عن ابن النعمان أن أباه بشير أتى به النبي ﷺ فقال إني نحلت ابني هذا غلاما ؛ فقال النبي ﷺ أكل ولدك نحلت مثله، قال لا، قال فارجعه. حدثناه الأصم حدثنا الربيع، قال أخبرنا الشافعي عن مالك.
قالوا فقوله ارجعه يدل بظاهره على أنه قد رده بعد خروجه عن ملكه وأن للأب أن يرجع فيما وهبه لابنه بعد القبض.
ويدل على ذلك أيضا قوله أيسرك أن يكونوا في البر سواء فدل أن ذلك من قبيل البر واللطف لا من قبيل الوجوب واللزوم.
قالوا ويدل على ذلك أيضا قوله أشهد على هذا غيري ولو لم يكن جائزا لكانت الشهادة عليها باطلة من الناس كلهم.
وفي الخبر دليل على ثبوت ولاية الأب على ابنه الصغير وعلى جواز بيعه وشرائه وقبضه له وجواز بيع ماله من نفسه.
وفيه دليل على جواز دخول الحاكم في الشهادات لأنهم إنما جاؤوا النبي ﷺ ليشهدوه على ذلك.
وفيه دليل على جواز حكمه بعلمه لأن ذلك هو فائدة إشهاده، فأما قوله هذا جور فمعناه هذا ميل عن بعضهم إلى بعض وعدول عن الفعل الذي هو أفضل وأحسن، ولا خلاف أنه لو آثر بجميع ماله أجنبيا وحرمه أولاده أن فعله ماض فكيف يرد فعله في إيثار بعض أولاده على بعض. وقد فضل أبو بكر عائشة عنهما بجداد عشرين وسقا ونحلها إياها دون أولاده وهم عدد فدل ذلك على جوازه وصحة وقوعه.
وقد قال بعض أهل العلم إنما كره ذلك لأنه يقع في نفس المفضول بالبر شيء فيمنعه ذلك من حسن الطاعه والبر، وربما كان سببا لعقوق الولد وقطيعة الرحم بينه وبين اخوته.
وذهب قوم إلى أنه لا يجوز أن يسوي بين أولاده الذكران والإناث في البر والصلة أيام حياته ولكن يفضل ويقسم على سهام الميراث وروي ذلك عن شريح.
وإليه ذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه واحتج من رأى التسوية بين الذكر والانثى بقوله أليس يسرك أن يكونوا في البر واللطف سواء قال نعم أي فسو كذلك في العطية بينهم وقالوا ولم يستثن ذكرا من أنثى.
قال الشيخ ونقل محمد بن إسحاق في سيره أن بشيرا لم يكن له ابنة يومئذ وفعل أبي بكر في تقديم عائشة وتفضيلها بعشرين وسقا يؤيد المذهب الأول.
68/84م ومن باب عطية المرأة بغير إذن زوجها
988- قال أبو داود: حدثنا أبو كامل، قال: حدثنا خالد بن الحارث، قال: حدثنا حسين عن عمرو بن شعيب أن أباه أخبره عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله ﷺ قال لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها.
قال الشيخ هذا عند أكثر العلماء على معنى حسن العشرة واستطابة نفس الزوج بذلك إلا أن مالك بن أنس قال ترد ما فعلت من ذلك حتى يأذن الزوج.
قال الشيخ ومحتمل أن يكون ذلك في غير الرشيد وقد ثبت عن رسول الله ﷺ أنه قال للنساء تصدقن فجعلت المرأة تلقي القرط والخاتم وبلال يتلقاها بكسائه وهذه عطية بغير إذن أزواجهن.
0 7/85م ومن باب العمرى والرقبى
989- قال أبو داود: حدثنا مؤمل بن الفضل الحراني قال، حدثنا محمد بن شعيب قال أخبرني الأوزاعي عن الزهري عن عروة عن جابر أن رسول الله ﷺ قال من أعمر عمرى فهي له ولعقبه يرثها من يرثه من عقبه.
قال الشيخ العمرى أن يقول الرجل لصاحبه أعمرتك هذه الدار ومعناه جعلتها لك مدة عمرك فهذا إذا اتصل به القبض كان تمليكا لرقبة الدار وإذا ملكها في حياته وجاز له التصرف فيها ملكها بعده وارثه الذي يرث سائر أملاكه وهذا قول الشافعي وقول أصحاب الرأي.
ويحكى عن مالك أنه قال العمرى تمليك المنفعة دون الرقبة فإن جعلها عمرى له فهي له مدة عمره لا تورث فان جعلها له ولعقبه بعده كانت منفعته ميراثا لأهله.
قال الشيخ وفي قوله ﷺ فهي له ولعقبه بيان وقوع الملك في الرقبة والمنفعة
معا ويؤكد ذلك حديث الآخر من طريق مالك نفسه وقد رواه أبو داود في هذا الباب.
990-، قال: حدثنا محمد بن يحيى ومحمد بن المثنى قالا: حدثنا بشر بن عمر، قال: حدثنا مالك عن ابن شهاب، عن أبي سلمة عن جابر أن رسول الله ﷺ قال أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه فإنها للذي يعطاها لا ترجع إلى الذي أعطاها لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث.
قال الشيخ لا عذر لمالك بعد هذا والله أعلم.
991- قال أبو داود: حدثنا إسحاق بن إسماعيل، قال: حدثنا سفيان عن ابن جريج عن عطاء عن جابر أن رسول الله ﷺ قال لا ترقبوا ولا تعمروا فمن ارقب شيئا أو اعمره فهو لورثته.
قال الشيخ والرقبى أن يرقب كل واحد منهما موت صاحبه فيكون الدار التي جعلها رقبي لآخر من بقي منهما.
وقال أبو حنيفة العمرى موروثة والرقبى عارية وعند الشافعي الرقبى موروثة كالعمرى وهو حكم ظاهر الحديث.
71/88م ومن باب تضمين العارية
992- قال أبو داود: حدثنا مسدد، قال: حدثنا يحيى عن ابن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي ﷺ قال على اليد ما أخذت حتى تؤدي ثم إن الحسن نسي قال هو أمينك لا ضمان عليه.
قال الشيخ في هذا الحديث دليل على أن العارية مضمونة وذلك أن على كلمة الزام وإذا حصلت اليد أخذه صار الأداء لازما لها والأداء قد يتضمن العين إذا كادت موجودة والقيمة إذا صارت مستهلكة ولعله أملك بالقيمة منه بالعين.
993- قال أبو داود: حدثنا الحسن بن محمد وسلمة بن شبيب قالا: حدثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا شريك عن عبد العزيز بن رفيع عن أمية بن صفوان بن أمية عن أبيه أن رسول الله ﷺ استعار منه ادراعا يوم حنين فقال اغصبا يا محمد قال لا بل عارية مضمونة.
قال الشيخ وهذا يؤكد ضمان العارية وفي قوله عارية مضمونة بيان ضمان قيمتها إذا تلفت لأن الأعيان لا تضمن ومن تأوله على أنها تؤدي ما دامت باقية فقد ذهب عن فائدة الحديث.
وقال قوم إذا اشترط ضمانها صارت مضمونة فان لم يشترط لم يضمن وهذا القول غير مطابق لمذاهب الأصول والشيء إذا كان حكمه في الأصل على الأمانة فإن الشرط لا يغيره عن حكم أصله ألا ترى أن الوديعة لما كانت أمانة كان شرط الضمان فيها غير مخرج لها عن حكم أصلها وإنما كان ذكر الضمان في حديث صفوان لأنه كان حديث العهد بالإسلام جاهلا بأحكام الدين فأعلمه رسول الله ﷺ أن من حكم الإسلام أن العواري مضمونة ليقع له الوثيقة بأنها مردودة عليه غير ممنوعة منه في حال.
994- قال أبو داود: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي، قال: حدثنا ابن عياش عن شرحبيل بن مسلم قال سمعت أبا أمامة يقول سمعت رسول الله ﷺ يقول العارية مؤداة والمنحة مردودة والدين مقضي والزعيم غارم.
قال الشيخ قوله مؤداة قضية الزام في أدائها عينا حال القيام وقيمة عند التلف وقوله المنحة مردودة فإن المنحة هي ما يمنحه الرجل صاحبه من أرض يزرعها مدة ثم يردها أو شاة يشرب درها ثم يردها على صاحبها أو شجرة يأكل ثمرتها وجملتها أنها تمليك المنفعة دون الرقبة وهي من معنى العواري وحكمها الضمان كالعارية.
وفيه دليل على أن المنحة إذا كانت مما ينقل ويلزم في نقلها مؤنة من كراء أو أجرة فإن جميع ذلك على الممنوح له لأنه قد إشترط عليه ردها وهي لا تكون مردودة حتى تصل إلى صاحبها. والزعيم الكفيل والزعامة الكفالة ومنه قيل لرئيس القوم الزعيم لأنه هو المتكفل بأمورهم.
وقد اختلف الناس في تضمين العارية فروي عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما سقوط الضمان فيها وقال شريح والحسن وإبراهيم لا ضمان فيها وإليه ذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي واسحاق بن راهويه.
وروي عن ابن عباس وأبي هريرة أنهما قالا هي مضمونة وبه قال عطاء والشافعي وأحمد بن حنبل. وقال مالك بن أنس ما ظهر هلاكه كالحيوان ونحوه غير مضمون وما خفي هلاكه من ثوب ونحوه فهو مضمون.
72/89م ومن باب من أفسد شيئا يضمن مثله
995- قال أبو داود: حدثنا مسدد، قال: حدثنا يحيى عن سفيان قال حدثني فليت العامري عن جسرة بنت دجاجة قالت: قالت عائشة رضي الله عنها ما رأيت صانعا طعاما مثل صفية صنعت طعاما لرسول الله ﷺ فبعثت به فأخذني أفْكَل فكسرت الإناء فقلت يا رسول الله ما كفارة ما صنعت قال إناء مثل إناء وطعام مثل طعام.
قال الشيخ يشبه أن يكون هذا من باب المعونة والاصلاح دون بت الحكم بوجوب المثل فإن القصعة والطعام المصنوع ليس لهما مثل معلوم. ثم ان هذا طعام وإناء حملا من بيت صفية وما كان في بيوت أزواجه من طعام ونحوه فإن الظاهر منه والغالب عليه أنه ملك رسول الله ﷺ وللمرء أن يحكم في ملكه وفيما تحت يده مما يجري مجرى الأملاك فيما يراه أرفق إلى الصلاح وأقرب وليس ذلك من باب ما يحمل عليه الناس من حكم الحكام في أبواب الحقوق والأموال، وفي إسناد الحديث مقال ولا أعلم أحدا من الفقهاء ذهب إلى أنه يجب في غير المكيل والموزون مثل إلا أن داود يحكى عنه أنه أوجب في الحيوان المثل وأوجب في العبد العبد، وفي العصفور العصفور وشبهه بحمار الصيد.
قال الشيخ والذي ذهب إليه في ذلك خلاف مذاهب عامة العلماء والحكم في جزاء الصيد حكم خاص في التقييد وحقوق الله تعالى تجري فيها المساهلة ولا تحمل على الاستقصاء وكمال الاستيفاء كحقوق الآدميين، وقد أوجب النبي ﷺ في المعتق شركا له في عبد القيمة لا المثل فدل هذا على فساد ما ذهب إليه والأفْكَل الرِعدة.
73/90م ومن باب المواشي تفسد زرع قوم
996- قال أبو داود: حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي،، قال: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن حرام بن محيصة عن أبيه أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائط رجل فأفسدت فقضى رسول الله ﷺ على أهل الأموال حفظها بالنهار وعلى أهل المواشي حفظها بالليل.
قال الشيخ وهذه سنة لرسول الله ﷺ خاصة في هذا الباب، ويشبه أن يكون إنما فرق بين الليل والنهار في هذا لأن في العرف أن أصحاب الحوائط والبساتين يحفظونها بالنهار ويوكلون بها الحفاظ والنواطير. ومن عادة أصحاب المواشي أن يسرحوها بالنهار ويردونها مع الليل إلى المراح فمن خالف هذه العادة كان به خارجا عن رسوم الحفظ إلى حدود التقصير والتضييع فكان كمن ألقى متاعه في طريق شارع أو تركه في غير موضع حرز فلا يكون على آخذه قطع.
وبالتفريق بين حكم الليل والنهار قال الشافعي.
وقال أصحاب الرأي لا فرق بين الأمرين ولم يجعلوا على أصحاب المواشي غرما، واحتجوا بقول العجماء جبار.
قال الشيخ وحديث العجماء جبار عام وهذا حكم خاص والعام ينبئ على الخاص. ويرد إليه فالمصير في هذا إلى حديث البراء والله أعلم.
125 كتاب النكاح
1/1م ومن باب التحريض على النكاح
997- قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حدثنا جرير عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة قال إني لأمشي مع عبد الله بن مسعود بمنى إذ لقيه عثمان فاستحلاه فلما رأى عبد الله أن ليست له حاجة قال لي تعال يا علقمة فجئت فقال له عثمان ألا نزوجك يا أبا عبد الرحمن بجارية بكرا لعله يرجع إليك عن نفسك ما كنت تعهد، فقال عبد الله لئن قلت ذلك لقد سمعت رسول الله ﷺ يقول من استطاع منكم الباءة فليزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع منكم فعليه بالصوم فإنه له وجاء.
قال الشيخ الباءة كناية عن النكاح، وأصل الباءة الموضع الذي يأوي إليه الإنسان، ومنه اشتق مباءة الغنم وهو المراح الذي تأوي إليه عند الليل، والوجاء رض الأنثيين والخصا نزعهما.
وفيه من الفقه استحباب النكاح لمن تاقت إليه نفسه، وفيه دليل على أن النكاح غير واجب، ويحكى عن بعض أهل الظاهر أنه كان يراه على الوجوب وفيه دليل على جواز التعالج لقطع الباءة بالأدوية ونحوها.
وفيه دليل على أن المقصود في النكاح الوطء وأن الخيار في العُنَّة واجب.
2/2م ومن باب ما يؤمر من ترويج ذات الدين
998- قال أبو داود: حدثنا مسدد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد قال حدثني عبيد الله قال حدثني سعيد بن أبي سعيد عن أبيه، عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال تنكح النساء لأربع لمالها ولحسبها ولدينها ولجمالها فاظفر بذات الدين تربت يداك.
قال الشيخ فيه من الفقه مراعاة الكفاءة في المناكح وأن الدين أولى ما اعتبر فيها.
وقوله تربت يداك كلمة معناها الحث والتحريض وأصل ذلك في الدعاء على الإنسان، يقال ترب الرجل إذا افتقر وأترب إذا أثرى وأيسر، والعرب تطلق ذلك في كلامها ولا يقصد بها وقوع الأمر.
وزعم بعض أهل العلم إن القصد به في هذا الحديث وقوع الأمر وتحقيق الدعاء. وأخبرني بعض أصحابنا عن ابن الأنباري أحسبه رواه عن الزهري أنه قال إنما قال النبي ﷺ له ذلك لأنه رأى أن الفقر خير من الغنى.
واختلف العلماء في تحديد الكفاءة فقال مالك بن أنس الكفاءة في الدين وأهل الإسلام كلهم بعضهم لبعض أكفاء وهو غالب مذهب الشافعي، وقد اعتبر فيها أيضا الحرية وربما اعتبر غير ذلك أيضا.
وقد روي معنى قول مالك عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وعبيد بن عمير وعمر بن عبد العزيز وابن سيرين وابن عون وحماد بن أبي سليمان.
وقال سفيان الثوري الكفاءة الدين والحسب، وكان يرى التفريق إذا نكح المولى عربية، وكذلك قال أحمد بن حنبل.
وقال أصحاب الرأي قريش بعضهم لبعض أكفاء وكل من كان من الموالي له أبوان أو ثلاثة في الإسلام فبعضهم لبعض أكفاء، وإذا أعتق عبد أو أسلم ذمي فإنه ليس بكفؤ لامرأة لها أبوان أو ثلاثة في الإسلام من الموالي. وإذا تزوجت المرأة غير كفؤ فسلم أحد من الأولياء فليس لمن بقي من الأولياء أن يفرقوا بينهما.
وروي عن ابن عباس أنه لم ير المولى كفؤا للعربية، وروي مثل ذلك عن سلمان الفارسي.
3/3م ومن باب تزويج الابكار
999- قال أبو داود: كتب إلي حسين بن حريث المروزي حدثنا الفضل بن موسى عن الحسين بن واقد عن عمارة بن أبي حفصة عن عكرمة عن ابن عباس قال جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال إن امرأتي لا تمنع يد لامس، قال غربها قال أخاف أن تتبعها نفسي، قال فاستمتع منها.
قال الشيخ قوله لا تمنع يد لامس، معناه الريبة وأنها مطاوعة لمن أرادها لا ترد يده وقوله غربها معناه أبعدها يريد الطلاق وأصل الغرب البعد.
وفيه دليل على جواز نكاح الفاجرة وإن كان الاختيار غير ذلك.
وأما قوله {والزانية لا ينكحنها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين} [3] فإنما نزلت في امرأة من الكفار خاصة وهي بغي بمكة يقال لها عناق، فأما الزانية المسلمة فإن العقد عليها لا يفسخ.
ومعنى قوله فاستمتع منها أي لا تسمها إلا بقدر ما تقضي متعة النفس منها ومن وطئها والاستمتاع من الشيء الانتفاع به إلى مدة، ومن هذا نكاح المتعة الذي حرمه رسول الله ﷺ ومنه قوله تعالى {إنما هذه الحياة الدنيا متاع} [4] أي متعة إلى حين ثم تنقطع.
4/5م ومن باب الرجل يعتق أمته ثم يتزوجها
1000- قال أبو داود: حدثنا عمر بن عون، قال: حدثنا أبو عَوانة عن قتادة وعبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك أن النبي ﷺ أعتق صفية وجعل عتقها صداقها.
قال الشيخ قد ذهب غير واحد من العلماء إلى ظاهر هذا الحديث ورأوا أن من أعتق أمة كان له أن يتزوجها بأن يجعل عتقها عوضا عن بعضها، وممن قال ذلك سعيد بن المسيب والحسن البصري وإبراهيم النخعي والزهري وهو قول أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ويحكى ذلك أيضا عن الأوزاعي.
وكره ذلك مالك بن أنس وقال هذا لا يصلح، وكذلك قال أصحاب الرأي.
وقال الشافعي إذا قالت الأمة أعتقني على أن أنكحك وصداقي عتقي فأعتقها على ذلك فلها الخيار في أن تنكح أو تدع ويرجع عليها بقيمتها فإن نكحته ورضيت بالقيمة التي عليها فلا بأس.
وتأول هذا الحديث من لم يجز النكاح على أنه خاص للنبي ﷺ إذ كانت له خصائص في النكاح ليست لغيره وقال بعضهم معناه أنه لم يجعل لها صداقا ؛ وإنما كانت في معنى الموهونه التي كان النبي ﷺ مخصوصا بها، إلا أنها لما استبيح نكاحها بالعتق صار العتق كالصداق لها وهذا كقول الشاعر:
- وأُمهرن أرماحا من الحظ ذبلاُ *
أي استبحن بالرماح فصرن كالمهيرات، وكقول الفرزدق.
وذات حليل أنكحتنا رماحنا... حلالا لمن يَبني بها لم تطلق
واحتج أهل المقالة الأولى بأنها لو قالت طلقني على أني أخيط لك ثوبا لزمها ذلك إذا طلقها: فكذلك إذا قالت أعتقني على أن أنكحك.
وحكوا عن أحمد بن حنبل أنه قال لا خلاف أن صفية كانت زوجة النبي ﷺ ولم ينقل من نكاحها غير هذه اللفظة فدل أنها سبب النكاح.
قال الشيخ وأجاب عن الفصل الأول بعض من خالفهم فقال إنما صح هذا في الثوب لأنه فعل والفعل يثبت في الذمة كالعين والنكاح عقد والعقد لا يثبت في الذمة والعتق على النكاح كالسلم فيه ولو أسلم رجل امرأة عشرة دراهم على أن يتزوج بها لم يصح كذلك هذا.
فأما الفصل الاخر وهو ما حكي عن أحمد فقد يحتمل أن يكون ذلك خصوصا للنبي ﷺ ويحتمل أن يكون ﷺ قد استأنف عقد النكاح عليها ولم ينقل ذلك مقرونا بالحديث لأن من سنته ﷺ أن النكاح لا ينعقد إلا بالكلام أو بما يقوم مقامه من الإيماء في الأخرس ونحوه، ويحمل ما خفي من ذلك على حكم ما ظهر، وروي أنه نكحها وجعل عتقها صداقها فإن ثبت ذلك فلا حاجة بنا معه إلى التأويل والله أعلم.
هامش