→ السابق | معالم السنن للإمام الخطابي
|
اللاحق ← |
23/30م ومن باب المزارعة
908- قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير قال أخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار قال سمعت ابن عمر يقول أن رسول الله ﷺ نهى عنها فذكرته لطاوس فقال قال ابن عباس إن رسول الله ﷺ لم ينه عنها ولكن قال لأن يمنح أحدكم أرضه خير من أن يأخذ خراجا معلوما.
قال الشيخ خبر رافع بن خديج من هذا الطريق خبر مجمل يفسره الأخبار التي رويت عن رافع بن خديج وعن غيره من طرق أخر، وقد عقل ابن عباس معنى الخبر وأن ليس المراد به تحريم المزارعة شطر ما تخرجه الأرض، وإنما أريد بذلك أن يتمانحوا أرضهم وأن يرفق بعضهم بعضا، وقد ذكر رافع بن خديج في رواية أخرى عنه النوع الذي حرم منها والعلة التي من أجلها نهى عنها، وذكره أبو داود في هذا الباب.
909-، قال: حدثنا إبراهيم بن موسى قال أخبرنا عيسى، قال: حدثنا الأوزاعي عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال حدثني حنظلة بن قيس الأنصاري قال سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والورق، فقال لا بأس بها إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله ﷺ بما على الماذيانات وإقبلل الجداول وأشياء من الزرع فيهلك هذا ويسلم هذا أو يسلم هذا ويهلك هذا ولم يكن للناس كرا إلا هذا فلذلك زجر عنه، فأما شيء مضمون معلوم فلا بأس به.
فقد أعلمك رافع في هذا الحديث أن المنهي عنه هو المجهول منه دون المعلوم وأنه كان من عادتهم أن يشترطوا فيها شروطا فاسدة وأن يستثنوا من الزرع ما على السواقي والجداول فيكون خاصا لرب المال والمزارعة شركة، وحصة الشريك لا تجوز أن تكون مجهولة، وقد يسلم ما على السواقي ويهلك سائر الزرع فيبقى المزارع لا شيء له وهذا غرر وخطر. وإذا اشترط رب المال على المضارب دراهم لنفسه زيادة على حصة الربح المعلومة فسدت المضاربة، وهذا وذلك سواء وأصل المضاربة في السنة المزارعة المساقاة فكيف يجوز أن يصح الفرع ويبطل الأصل.
والماذيانات: الأنهار وهي من كلام العجم صارت دخيلا في كلامهم.
قال الشيخ وقد ذكر زيد بن ثابت العلة والسبب الذي خرج عليه الكلام في ذلك وبين الصفة التي وقع عليها النهي ورواه أبو داود في هذا الباب.
910-، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا ابن علية ( ح ) وحدثنا مسدد، قال: حدثنا بشر المعنى عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار عن الوليد بن أبي الوليد عن عروة بن الزبير قال: قال زيد بن ثابت يغفر الله لرافع بن خديج أنا والله أعلم بالحديث منه إنما أتاه رجلان من الأنصار قد اقتتلا فقال رسول الله ﷺ إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع فسمع قوله لا تكروا المزارع.
وضعف أحمد بن حنبل حديث رافع وقال هو كثير الألوان يريد اضطراب هذا الحديث واختلاف الروايات عنه فمرة يقول سمعت رسول الله ﷺ ومرة يقول حدثني عمومتي عنه.
وجوز أحمد المزارعة واحتج بأن النبي ﷺ أعطى اليهود أرض خيبر مزارعة ونخلها مساقاة وأجازها ابن أبي ليلى ويعقوب ومحمد وهو قول ابن المسيب وابن سيرين والزهري وعمر بن عبد العزيز وأبطلها أبو حنيفة ومالك والشافعي.
قال الشيخ فإنما صار هؤلاء إلى ظاهر الحديث من رواية رافع بن خديج ولم يقفوا على علته كما وقف عليه أحمد: وقد أنعم بيان هذا الباب محمد بن إسحاق بن خزيمة وجوزه وصنف في المزارعة مسألة ذكر فيها علل الأحاديث التي وردت فيها فالمزارعة على النصف والثلث والربع وعلى ما تراضى به الشريكان جائزة إذا كانت الحصص معلومة والشروط الفاسدة معدومة وهي عمل المسلمين من بلدان الإسلام وأقطار الأرض شرقها وغربها لا أعلم أني رأيت أو سمعت أهل بلد أو صقع من نواحي الأرض التي يسكنها المسلمون يبطلون العمل بها.
ثم ذكر أبو داود على أثر هذه الأحاديث بابا في تشديد النهي عن المزارعة وذكر فيه طرقا لحديث رافع بن خديج بألفاط مختلفة كرهنا ذكرها لئلا يطول الكتاب وسبيلها كلها أن يرد المجمل منها إلى المفسر من الأحاديث التي مر ذكرها وقد بينا عللها.
وفي هذا الباب ألفاط يحتاج إلى تفسير وشرح منها، قوله أفقر أخاك أو أكره بالدراهم، ومعنى أفقر أخاك أي أعِرْهُ إياها، وأصل الإفقار في إعارة الظهر، يقال أفقرت الرجل بعيري إذا أعرته ظهره للركوب. ومنها الحقل وهو الزرع الأخضر والحقل أيضا القراح الذي يُعَد للمزارعة وفي بعض الأمثال لا تنبت البقلة إلا الحقلة، ومنه أخذت المحاقلة ومنها المخابرة وهي المزارعة على النصف والثلث ونحوهما والخبير والنصيب والخبير الأكار.
24/32م ومن باب إذا زرع الأرض بغير إذن صاحبها
911- قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا شريك، عن أبي إسحاق عن عطاء عن رافع بن خديج قال: قال رسول الله ﷺ من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته.
قال الشيخ هذا الحديث لا يثبت عند أهل المعرفة بالحديث وحدثني الحسن بن يحيى عن موسى بن هارون الجمال أنه كان ينكر هذا الحديث ويضعفه ويقول لم يروه، عن أبي إسحاق غير شريك ولا عن عطاء غير أبى إسحاق وعطاء لم يسمع من رافع بن خديج شيئا وضعفه البخاري أيضا، وقال تفرد بذلك شريك، عن أبي إسحاق وشريك يَهِمُ كثيرا أو أحيانا.
ويشبه أن يكون معناه لو صح وثبت على العقوبة والحرمان للغاصب والزرع في قول عامة الفقهاء لصاحب البذر لأنه تولد من غير ماله وتكوَّن معه وعلى الزارع كراء الأرض، غير أن أحمد بن حنبل كان يقول إذا كان الزرع قائما فهو لصاحب الأرض فأما إذا حصد فإنما يكون له الأجرة.
وحكى ابن المنذر، عن أبي داود قال سمعت أحمد بن حنبل وسئل عن حديث رافع فقال عن رافع ألوان ولكن أبا إسحاق زاد فيه زرع بغير إذنه وليس غيره ينكر هذا الحرف.
25/33م ومن باب في المخابرة
912- قال أبو داود: حدثنا مسدد أن حمادا وعبد الوارث حدثاهم عن أيوب، عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال نهى رسول الله ﷺ عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة والمعاومة وعن الثنيا ورخص في العرايا.
قال الشيخ المحاقلة قد مر تفسيرها فيما مضى وأنها بيع الزرع بالحب والمخابرة هي المزارعة والخبير الأكار. والمزابنة بيع الرطب بالتمر، وأما المعاومة فهي بيع السنين ومعناه أن يبيعه سنة أو سنتين أو أكثر إما ثمرة نخلة بعينها أو نخلات وهو بيع فاسد لأنه بيع ما لم يوجد ولم يخلق ولا يدرى هل يثمر أو لا يثمر. وبيع الثنيا المنهي عنه أن يبيعه ثمرحائطه ويستثني منه جزءا غير معلوم قيبطل لأن المبيع حينئذ يكون مجهولا فإذا كان ما يستثنيه شيئا معلوما كالثلث والربع ونحوه كان جائزا فكذلك إذا باعه صبرة طعام جزافا واستثني منه قفيزا أو قفيزين كان جائزا لأنه استثنى معلوما من معلوم ؛ وقد تقدم ذكر تفسير العرايا.
26/34م ومن باب المساقاة
913- قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل، قال: حدثنا يحيى عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ عامل خيبر بشطر ما يخرج من ثمر أو زرع.
قال الشيخ في هذا إثبات المزارعة على ضعف خبر رافع بن خديج في النهي عن المزارعة بشطر ما تخرجه الأرض، وإنما صار إليه ابن عمر تورعا واحتياطا وهو راوي خبر أهل خيبر، وقد رأى رسول الله ﷺ أقرهم عليها أيام حياته ثم أبا بكر ثم عمر إلى أن أجلاهم عنها.
وفيه إثبات المساقاة وهي التي تسميها أهل العراق المعاملة وهي أن يدفع صاحب النخل نخله إلى الرجل ليعمل بما فيه صلاحها أو صلاح ثمرها ويكون له الشطر من ثمرها وللعامل الشطر فيكون من أحد الشقين رقاب الشجر، ومن الشق الآخر العمل كالمزارعة يكون فيها من قبل رب المال الدراهم والدنانير ومن العامل التصرف فيها وهذه لها في القياس سواء.
والعمل بالمساقاة ثابت في قول أكثر الفقهاء ولا أعلم أحدا منهم أبطلها إلا أبا حننفة. وخالفه صاحباه فقالا بقول جماعة أهل العلم.
واختلفوا فيما يصح فيه المساقاة من الشجر والثمر فكان الشافعي يقول إنما تصح المساقاة في النخل والكرم لأنهما يخرصان وثمرهما بادٍ بارز يدركه البصر وعلق القول فيما يتفرق ثمره في الشجر ويغيب عن البصر تحت الورق كالتين والزيتون والتفاح ونحوها من الفواكه.
وكان مالك وأبو يوسف ومحمد بن الحسن يجيزونها في كل شجر له أصل قائم. وقال مالك لا بأس بالمساقاة في القثاء والبطيخ وشرط فيها شروطا لا يكاد يتبين صحة معناه فيها، وقال أبو ثور تجوز المساقاة في النخل والكرم والرطاب والباذنجان وما يكون له ثمرة قائمة إذا كان دفعه إليه أرضا ومنها النخل والرطاب.
واحتج في ذلك بخبر أرض خيبر أن النبي ﷺ عاملهم وفى أرضهم النخل والزرع ونحوه.
27/36م ومن باب كسب المعلم
914- قال أبو داود: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع وحميد بن عبد الرحمن الرُّواسي عن مغيرة بن زياد عن عبادة بن نسى عن الأسود بن ثعلبة عن عبادة بن الصامت قال علمت ناسا من أهل الصفة الكتاب والقرآن فأهدى إلي رجل منهم قوسا فقلت ليست بمال فأرمي عليها في سبيل الله لآتين رسول الله ﷺ فلأسألنه فأتيته فقلت يا رسول الله رجل أهدى إلي قوسا ممن كنت أعلمه الكتاب والقرآن وليست بمال فأرمي عنها في سبيل الله فقال إن كنت تحب أن تطوق طوقا من نار فاقبلها.
قال الشيخ اختلف الناس في معنى هذا الحديث وتأويله فذهب قوم من العلماء إلى ظاهره فرأوا أن أخذ الأجرة والعوض على تعليم القرآن غير مباح، وإليه ذهب الزهري وأبو حنيفة وإسحاق بن راهويه.
وقالت طائفة لا بأس به ما لم يشترط وهو قول الحسن البصري وابن سيرين والشعبي وأباح ذلك آخرون وهو مذهب عطاء ومالك والشافعي وأبي ثور واحتجوا بحديث سهل بن سعد أن النبي ﷺ قال للرجل الذي خطب المرأة فلم يجد لها مهرا زوجتكها على ما معك من القرآن، وقد ذكره أبو داود في موضعه من هذا الكتاب، وتأولوا حديث عبادة على أنه أمر كان تبرع به ونوى الاحتساب فيه ولم يكن قصده وقت التعليم إلى طلب عوض ونفع فحذره النبي ﷺ إبطال أجره وتوعده عليه، وكان سبيل عبادة في هذا سبيل من رد ضالة الرجل أو استخرج له متاعا قد عرف تبرعا وحسبة فليس له أن يأخذ عليه عوضا ولو أنه طلب لذلك أجرة قبل أن يفعله حسبة كان ذلك جائزا.
وأهل الصفة قوم فقراء كانوا يعيشون بصدقة الناس فأخذ الرجل المال منهم مكروه ودفعه إليهم مستحب.
وقال بعض العلماء أخذ الأجرة على تعليم القرآن له حالات فإذا كان في المسلمين غيره ممن يقوم به حل له أخذ الأجرة عليه لأن فرض ذلك لا يتعين عليه. وإذا كان في حال أو موضع لا يقوم به غيره لم يحل له أخذ الأجرة وعلى هذا تأول اختلاف الأخبار فيه.
28/37م ومن باب كسب المعالجين من الطب
915- قال أبو داود: حدثنا مسدد، قال: حدثنا أبو عوانه، عن أبي شر، عن أبي المتوكل عن أب سعيد الخدري أن رهطا من أصحاب رسول الله ﷺ انطلقوا في سفرة سافروها فنزلوا بحي من أحياء العرب فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم، قال فلدغ سيد ذلك الحي فشفوا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فقال بعضهم لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا بكم لعل أن يكون عند بعضهم شيء ينفع صاحبكم، فقال بعضهم إن سيدنا لدغ فهل عند أحد منكم رقية، فقال رجل من القوم أني لأرقي ولكن استضفناكم فأبيتم أن تضيفونا ما أنا براق حتى تجعلوا لي جعلا فجعلوا له قطيعا من الشاء فأتاه فقرأ عليه بأم الكتاب ويتفل حتى برأ كأنما أنشط من عقال فأوفاهم جُعلهم الذي صالحوهم عليه فقالوا اقتسموا، فقال الذي رقى لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله ﷺ فنستأمره فغدوا على رسول الله ﷺ فذكروا له، فقال رسول الله ﷺ من أين علمتم أنها رقية أحسنتم واضربوا لي معكم بسهم.
قال الشيخ وفي هذا بيان جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن ولو كان ذلك حراما لأمرهم النبي ﷺ برد القطيع، فلما صوب فعلهم وقال لهم أحسنتم ورضي الأجرة التي أخذوها لنفسه فقال اضربوا لي معكم بسهم ثبت أنه طِلْق مباح وأن المذهب الذي ذهب إليه من جمع بين أخبار الإباحة والكراهة في جواز أخذ الأجرة على ما لا يتعين الفرض فيه على معلمه ونفى جوازه على ما يتعين فيه التعليم مذهب سديد وهو قول أبي سعيد الأصطخري.
وفي الحديث دليل على جواز بيع المصاحف وأخذ الأجرة على كتبها، وفيه إباحة الرقية بذكر الله في أسمائه، وفيه إباحة أجر الطبيب والمعالج وذلك أن القراءة والرقية والنفث فعل من الأفعال المباحة، وقد أباح له أخذ الأجرة عليها فكذلك ما يفعله الطبيب من قول ووصف وعلاج فعل لا فرق بينهما.
وقد تكلم الناس في جواز بيع المصاحف فكرهت طائفة بيعها، روي عن ابن عمر أنه كان يقول وددت أن الأيدي تقطع في بيع المصاحف وكره بيعها شريح وابن سيرين ورخص في شرائها روي ذلك عن ابن عباس وسعيد بن جبير.
وقال أحمد بن حنبل الأمر في شرائها أهون، قال وما أعلم في البيع رخصة. ورخص أكثر الفقهاء في بيعها وشرائها وهو قول الحسن والشعبي وعكرمة والحكم وسفيان الثوري وأصحاب الرأي والنخعي وكرهت، وإليه ذهب مالك والشافعي.
وقوله فشفوا له بكل شيء، معناه عالجوه بكل شىء مما يستشفى به والعرب تضع الشفاء موضع العلاج قال الشاعر:
جعلت لعراف اليمامة حكمه... وعراف حجر إن هما شفياني
وقوله أنشط من عقال أي حل من وثاق، يقال نشطت الشيء إذا شددته وأنشطته إذا فككته والأنشوطة الحبل الذي يشد به الشيء.
29/38م ومن باب كسب الحجام
916- قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا أبان، قال: حدثنا يحيى، يَعني ابن أبي كثير عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ عن السائب بن يزيد عن رافع بن خديج أن رسول الله ﷺ قال كسب الحجام خبيث وثمن الكلب خبيث ومهر البغي خبيث.
917- قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن ابن محيصة عن أبيه أنه استأذن رسول الله ﷺ في إجارة الحجام فنهاه فلم يزل يسأله ويستأذنه حتى أمره أن أعلفه ناضحك أو رقيقك.
قال الشيخ حديث محيصة يدل على أن أجرة الحجام ليست بحرام وأن خبثها من قبل دناءة مخرجها، وقال ابن عباس احتجم رسول الله ﷺ وأعطى الحجام أجره ولو علمه محرما لم يعطه.
قال الشيخ وقوله أعلفه ناضحك أو رقيقك يدل على صحة ما قلناه وذلك أنه لا يجوز له أن يطعم رقيقه إلا من مال قد ثبت له ملكه، وإذا ثبت له ملكه فقد ثبت أنه مباح، وإنما وجهه التنزيه عن الكسب الدنىء والترغيب في تطهير الطعم والإرشاد فيها إلى ما هو أطيب وأحسن وبعض الكسب أعلى وأفضل وبعضه أدنى وأوكح.
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن كسب الحجام إن كان حرا فهو محرم، واحتج بهذا الحديث بقوله إنه خبيث وإن كان عبدا فإنه يعلفه ناضحه وينفقه على دوابه.
قال الشيخ وهذا القائل يذهب في التفريق بينهما مذهبا ليس له معنى صحيح وكل شيء حلّ من المال للعبيد حل للأحرار. والعبد لا ملك له ويده يد سيده وكسبه كسبه، وإنما وجه الحديث ما ذكرته لك، وأن الخبيث معناه الدنيء كقوله تعالى {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} [1] أي الدون.
فأما قوله ثمن الكلب خبيث، ومهر البغي خبيث فإنهما على التحريم، وذلك أن الكلب نجس الذات محرم الثمن، وفعل الزنا محرم وبدل العوض عليه وأخذه في التحريم مثله لأنه ذريعة إلى التوصل إليه، والحجامة مباحة، وفيها نفع وصلاح الأبدان.
وقد يجمع الكلام بين القرائن في اللفظ الواحد ويفرق بينهما في المعاني وذلك على حسب الأغراض والمقاصد فيها، وقد يكون الكلام في الفصل الواحد بعضه على الوجوب وبعضه على الندب وبعضه على الحقيقة وبعضه على المجاز وإنما يعلم ذلك بدلائل الأصول وباعتبار معانيها.
والبغي الزانية وفعلها البغاء، ومنه قوله تعالى {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء} [2].
30/39م ومن باب كسب الإماء
918- قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن معاذ، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا شعبة عن محمد بن جحادة قال سمعت أبا حازم سمع أبا هريرة قال نهى رسول الله ﷺ عن كسب الإماء.
قال الشيخ كانت لأهل مكه ولأهل المدينة إماء عليهن ضرائب تخدمن الناس تخبزن وتسقين الماء وتصنعن غير ذلك من الصناعات ويؤدين الضريبة إلى ساداتهن. والإماء إذا دخل تلك المداخل وتبذلن ذلك التبذل وهن مخارجات وعليهن ضرائب لم يؤمن أن يكون منهن أو من بعضهن الفجور وأن يكسبن بالسفاح فأمر ﷺ بالتنزه عن كسبهن ومتى لم يكن لعملهن وجه معلوم يكتسبن به فهو أبلغ في النهي وأشد في الكراهة.
وقد جاءت الرخصة في كسب الأمة إذا كانت في يدها عمل، ورواه أبو داود في هذا الباب.
919-، قال: حدثنا هارون بن عبد الله، قال: حدثنا هاشم بن القاسم، قال: حدثنا عكرمة بن عمار قال أخبرني طارق بن عبد الرحمن القرشري ؛ قال جاء رافع بن رفاعة إلى مجلس الأنصار فقال لقد نهانا رسول الله ﷺ فذكر أشياء ونهى عن كسب الأمة إلا ما عملت بيدها، وقال هكذا بأصابعه نحو الخبز والغزل والنفش.
النفش نتف الصوف أو ندفه وفي حديث آخر أنه ﷺ نهى عن كسب الأمة حتى يعلم من أين هو أخرجه أبو داود من حديث رافع بن خديج.
31/39م ومن باب حلوان الكاهن
920- قال أبو داود: حدثنا قتيية بن سعيد عن سفيان عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي مسعود عن النبي ﷺ أنه نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن.
قال الشيخ حلوان الكاهن هو ما يأخذه المتكهن عن كهانته وهو محرم وفعله با طل ؛ يقال حلوت الرجل شيئا، يَعني رشوته وأخبرنى أبو عمر، قال: حدثنا أبو العباس عن ابن الأعرابي قال: ويقال لحلوان الكاهن الشنع والصهيم.
قال الشيخ وحلوان العرّاف حرام كذلك والفرق بين الكاهن والعراف أن الكاهن إنما يتعاطى الخبر عن الكوائن في مستقبل الزمان ويدعي معرفة الأسرار، والعراف هو الذي يتعاطى معرفة الشيء المسروق ومكان الضالة ونحوهما من الأمور.
32/41م ومن باب عسب الفحل
921- قال أبو داود: حدثنا مسدد بن مسرهد، قال: حدثنا إسماعيل عن علي بن الحكم عن نافع عن ابن عمر قال نهى رسول الله ﷺ عن عسب الفحل.
قال الشيخ عسب الفحل الذكر الذي يؤخذ على ضرابه وهو لا يحل، وفيه غرر لأن الفحل قد يضرب وقد لا يضرب، وقد تلقح الأنثى وقد لا تلقح فهو أمر مظنون والغرر فيه موجود.
وقد اختلف في ذلك أهل العلم فروى عن جماعة من الصحابة تحريمه، وهو قول أكثر الفقهاء.
وقال مالك لا بأس به إذا استأجروه ينزونه مدة معلومة، وإنما يبطل إذا شرطوا أن ينزوه حتى تعلق الر_ّ_مكة. وشبهه بعض أصحابه بأجرة الرضاع وابار النخل وزعم أنه من المصلحة ولو منعنا منه لانقطع النسل.
قال الشيخ وهذا كله فاسد لمنع السنة منه، وإنما هومن باب المعروف فعلى الناس أن لا يتمانعوا منه. فأما أخذ الأجرة عليه فمحرم وفيه قبح وترك مروءة.
وقد رخص فيه أيضا الحسن وابن سيرين، وقال عطاء لا بأس به إذا لم يجد من يطرقه.
33/41م ومن باب الصائغ
922- قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا حماد، قال: حدثنا محمد بن إسحاق عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبي ماجدة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال سمعت رسول الله ﷺ يقول إني وهبت لخالتي غلاما وإني أرجو أن يبارك لها فيه فقلت لها لا تسلميه حجاما ولا صائغا ولا قصَّابا.
قال الشيخ يشبه أن يكون إنما كره كسب الصائغ لما يدخله من الربا ولما يجري على ألسنتهم من المواعيد في رد المتاع، ثم يقع في ذلك الخلف، وقد يكثر هذا في الصاغة حتى صار ذلك كالسمة لهم وإن كان غيرهم قد يشركهم في بعض ذلك.
وقد روي في حديث أكذب النلس الصباغون والصواغون وإن لم يكن إسناده بذلك، وأما القصاب فعمله غير نظيف، وثوبه الذي يعالج فيه صناعته غير طاهر في الأغلب والحجامة أمر مشهور، وقد تقدم ذكره فيما مضى.
34/42م ومن باب العبد يباع وله مال
923- قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل، قال: حدثنا سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي ﷺ قال من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع ومن باع نخلا مؤبرا فالثمرة للبائع إلا أن يشترط المبتاع.
قال الشيخ في هذا الحديث من الفقه أن العبد لا يملك مالا بحال، وذلك لأنه جعله في أرفع أحواله وأقواها في إضافة الملك إليه مملوكا عليه ماله ومنتزعا من يده فدل ذلك على عدم الامتلاك أصلا وإلى هذا ذهب أصحاب الرأي والشافعي.
وقال مالك العبد يملك إذا ملكه صاحبه، وكذا قال أهل الظاهر. وفائدة هذا الخلاف والموضع الذي تبين أثره فيه مسألتان أحدهما هل له أن يتسرى أم لا فمن جعل له ملكا أباح له ذلك ومن لم يره يملك لم يبح له الوطء بملك اليمين. والمسألة الأخرى أن يكون في يده نصاب من الماشية فيمر عليه الحول ثم يبيعه سيده ولم يشترط المبتاع ماله، فإذا عاد إلى السيد هل يلزمه الزكاة فيه أم لا فمن لم يثبت له ملكا أوجب زكاته على سيده ومن جعل للعبد ملكا أسقط الزكاة عنه لأن ملكه ناقص كملك المكاتب ويستأنف السيد به الحول.
وممن ذهب إلى ظاهر الحديث في أن ماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع مالك والشافعي وأحمد واسحاق. وروي عن الحسن والنخعي أنهما قالا فيمن باع وليدة قد زينت أن ما عليها للمشتري إلا أن يشترط الذي باعها ما عليها.
قال الشيخ ولا يجوز على مذهب الشافعي أن يكون ماله الذي يشترطه المبتاع إلا معلوما فإن كان مجهولا لم يجز لأنه غرر وللثمن منه حصة فإذا لم يكن معلوما جهل الثمن فيه فبطل البيع.
وإن كان المال الذي في يد العبد شيئا مما يدخله الربا لم يجز بيعه إلا بما يجوز فيه بيوع الأشياء التي يدخلها الربا ولا يتم إلا بالتقابض. وإن كان ماله دينا لم يجز أن يشتري بدين. وعلى هذا قياس هذا الباب في مذهبه وقوله الجديد، فأما مالك فإنه يجعل ماله تبعا لرقبته إذا شرطه المبتاع في الصفقة وسواء عنده كان المال نقدا أو عرضا أو دينا أو كان مال العبد أكثر من الثمن أو أقل ويجعل تبعا للعبد بمنزلة حمل الشاة ولبنها.
وأما قوله من باع نخلا مؤبرا فالثمرة للبائع إلا أن يشترط المبتاع فيه بيان أن التأبير حد في كون الثمرة تبعا للأصل، فإذا أبرت تفرد حكمها بنفسها وصارت كالولد بائن الأم فلم يكن لها تبعا في البيع إلا أن يقصد بنفسه وما دام غير مؤبر فهو كبعض أغصان الشجرة وجريدة النخلة في كونها تبعا للأصل. والتأبير هو التلقيح، وهو أن يؤخذ طلع محال النخل فيؤخذ شعب منه فيودع الثمر أول ما ينشف الطلع فيكون لقاحا بإذن الله تعالى.
وقد اختلف الناس في هذا فقال مالك والشافعي وأحمد بن حنبل الثمر تبع للنخل ما لم تؤبر فإذا أبر لم يدخل في البيع إلا أن يشترط قولا بظاهر الحديث.
وقال أصحاب الرأي الثمر للبائع أبر أو لم يؤبر إلا أن يشترط المبتاع كالزرع. وقال ابن أبي ليلى الثمر للمشتري أبر أو لم يؤبر شرط أو لم يشترط لأن الثمر من النخل.
35/43م ومن باب التلقي
924- قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال: لا يبع بعضكم على بيع بعض ولا تلقوا السلع حتى يهبط بها الأسواق.
قال أبو داود: حدثنا الربيع بن نافع حدثنا أبو توبة، قال: حدثنا أبو عبيد الله، يَعني ابن عمر والرقي عن أيوب عن ابن سيرين، عن أبي هريرة أن النبي ﷺ نهى عن تلقي الجلب فإن تلقى متلق فاشتراه فصاحب السلعة بالخيار إذا ورد السوق.
قال الشيخ قوله لا يبع بعضكم على بيع بعض هو أن يكون المتبايعان قد تواجبا الصفقة وهما في المجلس لم يتفرقا بعد وخيارهما باق فيجيء الرجل فيعرض عليه مثل سلعته أو أجود منه بمثل الثمن أو أرخص منه فيندم المشتري فيفسخ البيع فيلحق البائع منه الضرر، فأما مادام المتبايعان يتساومان ويتراودان البيع ولم يتواجباها بعد فإنه لا يضيق ذلك، وقد باع رسول الله ﷺ الحِلس والقدح فيمن يزيد.
وأما النهي عن تلقي السلع قبل ورودها السوق فالمعنى في ذلك كراهة الغبن ويشبه أن يكون قد تقدم من عادة أولئك أن يتلقوا الركبان قبل أن يقدموا البلد ويعرفوا سعر السوق، فيخبروهم أن السعر ساقطة والسوق كاسدة والرغبة قليلة حتى يخدعوهم عما في أيديهم ويبتاعوه منهم بالوكس من الثمن فنهاهم ﷺ عن ذلك وجعل للبائع الخيار إذا قدم السوق فوجد الأمر بخلاف ما قالوه.
وقد كره التلقي جماعة من العلماء منهم مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق ولا أعلم أحدا منهم أفسد البيع، غير أن الشافعي أثبت الخيار للبائع قولا بظاهر الحديث وأحسبه مذهب أحمد أيضا، ولم يكره أبو حنيفة التلقي ولا جعل لصاحب السلعة الخيار إذا قدم السوق.
وكان أبو سعيد الاصطخري يقول إنما يكون للبائع الخيار إذا كان المتلقي قد ابتاعه بأقل من الثمن فإذا ابتاعه بثمن مثله فلا خيار له.
قال الشيخ وهذا قول قد خرج على معاني الفقه.
هامش