الرئيسيةبحث

معالم السنن/الجزء الثالث/3

24/32-34م ومن باب الذمي يسلم في بعض السنة

هل عليه الجزية

858- قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن الجراح عن جرير عن قابوس عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ: ليس على مسلم جزية.

قلت هذا يتأول على وجهين أحدهما أن معنى الجزية الخراج فلو أن يهوديا أسلم وكانت في يده أرض صولح عليها وضعت عن رقبته الجزية وعن أرضه الخراج وهو قول سفيان والشافعي، قال سفيان وإن كانت الأرض مما أخذ عنوة ثم أسلم صاحبها وضعت عنه الجزية وأقر على أرضه الخراج.

والوجه الآخر أن الذمي إذا أسلم وقد مر بعض الحول لم يطالب بحصة ما مضى من السنة كما لا يطالب المسلم بالصدقة إذا باع الماشية قبل مضي الحول لأنها حق يجب باستكمال الحول.

واختلفوا فيه إذا أسلم بعد استكمال الحول فقال أبو عبيد لا يستأدي الجزية لما مضى واحتج فيه بالأثر عن عمر بن الخطاب.

وقال أبو حنيفة إذا مات أحد منهم وعليه شيء من جزية رأسه لم يؤخذ بذلك ورثته ولم يؤخذ ذلك من تركته. لأن ذلك ليس بدين عليه وإن أسلم أحد منهم وقد بقي عليه شيء منها سقط عنه ولم يؤخذ منه.

وعند الشافعي يطالب به ويراه كالدين لا يسقط عنه إلا بالأداء ؛ وقد علق القول فيه أيضا، وقوله مع الجماعة أولى والله أعلم.

25/33-35م ومن باب الإمام يقبل هدايا المشركين

859- قال أبوداود: حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا أبو داود حدثنا عمران عن قتادة عن يزيد بن عبد بن الشخير عن عياض بن حماد، قال أهديت للنبي ﷺ ناقة فقال هل أسلمت قلت لا، فقال النبي ﷺ إني نهيت عن زبد المشركين.

الزبد العطاء، وفي رده هديته وجهان أحدهما أن يغيظه برد الهدية فيمتعض منه فيحمله ذلك على الاسلام. والآخر أن للهدية موضعا من القلب، وقد روي تهادوا تحابوا، ولا يجوز عليه ﷺ أن يميل بقلبه إلى مشرك فرد الهدية قطعا لسبب الميل.

وقد ثبت أن النبي ﷺ قبل هدية النجاشي وليس ذلك بخلاف لقوله نهيت عن زبد المشركين لأنه رجل من أهل الكتاب ليس بمشرك، وقد أبيح لنا طعام أهل الكتاب ونكاحهم وذلك خلاف حكم أهل الشرك.

26/34-36م ومن باب إقطاع الأرضين

860- قال أبو داود: حدثنا العباس بن محمد بن حاتم حدثنا الحسين بن محمد أخبرنا أبو أويس حدثني كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده أن النبي ﷺ اقطع بلال بن الحارث معادن القبليّة جلسيها وغورّيها وحيث يصلح الزرع من قدس ولم يعطه حق مسلم، وكتب له النبي ﷺ بذلك كتابا ؛ قال أبو أويس وحدثني ثور بن زيد مولى بني الديل عن عكرمة عن ابن عباس مثله.

قلت يقال إن معادن القبلية من ناحية القُرُع. وقوله جلسيها يريد نجديها ويقال لنجد جَلْس. قال الأصمعي وكل مرتفع جلس، والغور ما انخفض من الأرض يريد أنه اقطعه وِهادها ورُباها.

قلت إنما يقطع الناس من بلاد العنوة ما لم يحزه ملك مسلم فإذا اقطع رجلا بياض أرض فإنه يملكها بالعمارة والاحياء ويثبت ملكه عليها فلا تتزع من يده أبدا. فإذا اقطعه معدنا نظر فإن كان المعدن شيئا ظاهرا كالنفط والقير ونحوهما فإنه مردود لأن هذه الأشياء منافع حاصلة وللناس فيها مرفق وهي لمن سبق إليها ليس لأحد أن يتملكها فيستأثر بها على الناس، وإن كان لها معدن من معادن الذهب والفضة أو النحاس وسائر الجواهر المستكنة في الأرض المختلطة بالتربة والحجارة التي لا تستخرج إلا بمعاناة ومؤنة فإن العطية ماضية إلا أنه لا يملك رقبتها حتى يحظرها على غيره إذا عطلها وترك العمل فيها، إنما له أن يعمل فيها ما بدا له أن يعمل فإذا ترك العمل خلي بينه وبين الناس، وهذا كله على معاني الشافعي.

وفي قوله ولم يعطه حق مسلم دليل على أن من ملك أرضا مرة ثم عطلها أو غاب عنها فإنها لا تملك عليه باقطاع أو احياء وهي باقية على ملكه الأول.

861- قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد ومحمد بن المتوكل العسقلاني المعنى واحد إن محمد بن يحيى بن قيس المازني حدثهم قال أخبرني أبي عن ثمامة بن شراحيل عن سُمي بن قيس عن شمير قال ابن المتوكل بن عبد المدان عن أبيض بن حمال أنه وفد إلى رسول الله ﷺ فاستقطعه الملح الذي بمأرب فقطعه له فلما أن ولى قال رجل من المجلس: أتدري ما اقطعت له إنما اقطعت له الماء العِدّ قال فانتزع منه، قال وسأل عما يحمي من الأراك قال ما لم تنله اخفاف الإبل.

قلت وهذا يبين ما قلنا من أن المعدن الظاهر الموجود خيره ونفعه لا يقطعه أحد، والماء العد هو الماء الدائم الذي لا ينقطع.

وفيه من الفقه أن الحاكم إذا تبين الخطأ في حكم نقضه وصار إلى ما استبان من الصواب في الحكم الثاني.

وقوله ما لم تنله اخفاف الإبل ذكر أبو داود عن محمد بن الحسن المخزومي أنه قال معناه أن الإبل تأكل منتهى رؤوسها ويحمي ما فوقه.

وفيه وجه آخر وهو أنه إنما يحمي من الأراك ما بعد عن حضرة العمارة فلا تبلغه الإبل الرائحة إذا أرسلت في الرعي.

وفي هذا دليل على أن الكلأ والرعي لا يمنع من السارحة وليس لأحد أن يستأثر به دون سائر الناس.

862- قال أبو داود: حدثنا محمد بن أحمد القرشي حدثنا عبد الله بن الزبير حدثنا فرج بن سعيد حدثني عمي ثابت بن سعيد عن أبيه عن جده عن أبيض بن حمال أنه سأل رسول الله ﷺ عن حمى الأراك فقال رسول الله ﷺ لا حمى في الأراك قال أراكة في حظاري، قال فرج، يَعني بحظاري الأرض التي فيها الزرع المحاط عليها.

قلت يشبه أن يكون هذه الأراكة يوم إحياء الأرض وحظر عليها قائمة فيها فملك الأرض بالاحياء ولم يملك الأراكة إذ كانت مرعى السارحة، فأما الأراك إذا نبت في ملك رجل فإنه محمي لصاحبه غير محظور عليه يملكه والتصرف فيه ولا فرق بينه وبين سائر الشجر الذي يتخذه الناس في أراضيهم.

863- قال أبو داود: حدثنا عمر بن الخطاب حدثنا الفريابي حدثنا أبان قال عمر وهو ابن عبد الله بن أبي حازم قال حدثني عثمان بن أبي حازم عن أبيه عن جده صخر أن رسول الله ﷺ غزا ثقيفا، فلما أن سمع ذلك صخر ركب في خيل يُمد رسول الله ﷺ فوجد نبي الله ﷺ قد انصرف ولم يفتح فجعل صخر يومئذ عهد الله وذمته أن لا يفارق هذا القصر حتى ينزلوا على عهد رسول الله ﷺ فلم يفارقهم حتى نزلوا على حكم رسول الله ﷺ فكتب إليه صخر: أما بعد ؛ فإن ثقيفا قد نزلت على حكمك يا رسول الله وأنا مقبل إليهم وهم في خيل فأمر رسول الله ﷺ بالصلاة جامعة فدعا لأحمس عشر دعوات، اللهم بارك لأحمس في خيلها ورجالها، فأتاه القوم فتكلم المغيرة بن شعبة، قال يا نبي الله إن صخرا قد أخذ عمتي وقد أسلمت ودخلت فيما دخل فيه المسلمون، فدعاه فقال يا صخر إن القوم إذا أسلموا أحرزوا دماءهم وأموالهم فادفع إلى المغيرة عمته فدفعها إليه وسأل النبي ﷺ ما لبني سليم قد هربوا عن الإسلام وتركوا ذلك الماء، فقال يا نبي الله أنزلنيه أنا وقومي، قال نعم فأنزله وأسلم السُلميون فأتوا صخرا فسألوه أن يدفع إليهم الماء فأبى فأتوا النبي ﷺ فقالوا يا نبي الله أسلمنا وأتينا صخرا ليدفع إلينا ماءنا فأبى علينا، فدعاه فقال يا صخر إن القوم إذا أسلموا أحرزوا أموالهم ودماءهم فادفع إلى القوم ماءهم، قال نعم يا نبي الله فرأيت وجه رسول الله ﷺ يتغير عند ذلك حمرة حياء من أخذه الجارية وأخذه الماء.

قلت يشبه أن يكون أمره برد الماء عليهم إنما هوعلى معنى استطابة النفس عنه ولذلك كان يظهر في وجهه أثر الحياء، والأصل أن الكافر إذا هرب عن مال له فإنه يكون فيئا فإذا صار فيئا وقد ملكه رسول الله ﷺ ثم جعله لصخر فانه لا ينتقل عنه ملكه إليهم باسلامهم فيما بعد ولكنه استطاب نفس صخر عنه ثم رده عليهم تألفا لهم على الإسلام وترغيبا لهم في الدين والله أعلم.

وأما رده المرأة فقد يحتمل أن يكون على هذا المعنى أيضا كما فعل ذلك في سبي هوازن بعد أن استطاب أنفس الغانمين عنها، وقد يحتمل أن يكون ذلك الأمر فيها بخلاف ذلك لأن القوم إنما نزلوا على حكم رسول الله ﷺ فكان السبي والدماء والأموال موقوفة على ما يريه الله فيهم فرأى ﷺ أن ترد المرأه وأن لا تسيى.

864- قال أبو داود: حدثنا حسين بن علي حدثنا يحيى بن آدم حدثنا أبو بكر بن عياش عن هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر أن رسول الله ﷺ اقطع الزبير نخلا.

قلت النخل مال ظاهر العين حاضر النفع كما المعادن الظاهرة فيشبه أن يكون إنما أعطاه ذلك من الخمس الذي هو سهمه، وكان أبو إسحاق المروزي يتأول اقطاع النبي ﷺ المهاجرين الدور على معنى العارية.

865- قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر وموسى بن إسماعيل المعنى واحد قالا: حدثنا عبد الله بن حسان العنبري حدثتني جدتاي صفية ودُحيبة ابنتا عُليبة وكانتا ربيبتي قيلة بنت مخرمة وكانت جدة أبيهما أنها أخبرتهما، قالت قدمنا على رسول الله ﷺ قالت وتقدم صاحبي تعني حريث بن حسان وافد بكر بن وائل فبايعه على الإسلام عليه وعلى قومه، ثم قال يا رسول الله اكتب بيننا وبين بني تميم بالدهناء أن لا يجاوزها إلينا منهم إلا مسافر أو مجاور، قال اكتب له يا غلام بالدهناء، فلما رأيته قد أمر له بها شخص بي وهي وطني وداري فقلت له يا رسول الله أنه لم يسألك السوية من الأرض إذ سألك إنما هو هذه الدهناء مقيد الجمل ومرعى الغنم ونساء تميم وأبناؤها وراء ذلك، فقال امسك ياغلام صدقت المسكينة المسلم أخو المسلم يسعهما الماء والشجر ويتعاونان على الفَتّان.

قوله مقيد الجمل أي مرعى الجمل ومسرحه فهولا يبرح منه ولا يتجاوزه في طلب المرعى فكأنه مقيد هناك كقول الشاعر:

خليليّ بالموماة عُوجا فلا أرى... بها منزلا إلا جَريب المقيّد

وفيه من الفقه أن المرعى لا يجوز إقطاعه وأن الكلأ بمنزلة الماء لا يمنع.

وقوله يسعهما الماء والشجر يأمرهما بحسن المجاورة وينهاهما عن سوء المشاركة وقوله ويتعاونا على الفتان، يقال معناه الشيطان الذي يفتن الناس عن دينهم ويضلهم ويروى الفتان بضم الفاء وهو جماعة الفاتن كما قالوا كاهن وكهان.

27/35-37م ومن باب احياء الموات

866- قال أبو داود: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الوهاب حدثنا أيوب عن هشام بن عروة عن أبيه عن سعيد بن زيد عن النبي ﷺ قال من أحيى أرضا ميتة فهي له وليس لعرق ظالم حق.

قلت إحياء الموات إنما يكون بحفره وتحجيره وبإجراء الماء إليه وبنحوها من وجوه العمارة، فمن فعل ذلك فقد ملك به الأرض سواء كان ذلك بإذن السلطان أو بغير إذنه، وذلك لأن هذا كلمة شرط وجزاء فهو غير مقصور على عين دون عين ولا على زمان دون زمان، وإلى هذا ذهب أكثر أهل العلم.

وقال أبو حنيفة لا يملكها بالاحياء حتى يأذن له السلطان في ذلك وخالفه صاحباه فقالا كقول عامة العلماء.

وقوله ليس لعرق ظالم حق هو أن يغرس الرجل في غير أرضه بغير إذن صاحبها فإنه يؤمر بقلعه إلا أن يرضى صاحب الأرض بتركه.

867- قال أبو داود: حدثنا هناد بن السري حدثنا عبدة عن محمد بن إسحاق عن يحيى بن عروة عن أبيه قال ولقد خبرني الذي حدثني هذا الحديث أن رجلين اختصما إلى رسول الله ﷺ غرس أحدهما نخلا في أرض الآخر فقضى لصاحب الأرض بأرضه وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله منها، قال فلقد رأيتها وانها لتضرب أصولها بالفؤوس وأنها لنخل عُم حتى أخرجت منها.

قوله نخل عم أي طوال واحدها عميم ورجل عميم إذا كان تام الخلق.

868- قال أبو داود: حدثنا عبد الواحد بن غياث حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا الأعمش عن جامع بن شداد عن كلثوم عن زينب أنها كانت تفلي رأس رسول الله ﷺ وعنده امرأة عثمان بن عفان ونساء من المهاجرات وهن يشتكين منازلهن أنها تضيق عليهن ويخرجن منها فأمر رسول الله ﷺ أن تورث دور المهاجرين النساء فمات عبد الله بن مسعود فورثته امرأته دارا بالمدينة.

قلت قد روي عن النبي ﷺ أنه أقطع المهاجرين الدور بالمدينة فتأولوها علي وجهين أحدهما أنه إنما كان أقطعهم العَرصة ليبتنوا فيها الدور، فعلى هذا الوجه يصح ملكهم في البناء الذي أحدثوه في العرصة. والوجه الآخر أنهم إنما أقطعوا الدور عارية، وإليه ذهب أبو إسحاق المروزي، وعلى هذا الوجه لا يصح الملك فيها وذلك أن الميراث لا يجري إلا في فيما كان الموروث مالكا له وقد وضعه أبو داود في باب احياء الموات، فقد يحتمل أن يكون إنما أحيا تلك البقاع بالبناء فيها إذ كانت غير مملوكة لأحد قبل والله أعلم.

وقد يكون نوع من الاقطاع ارفاقا من غير تمليك وذلك كالمقاعد في الأسواق والمنازل في الأسفار إنما يرتفق بها ولا تملك.

فأما توريثه الدور نساء المهاجرين خصوصا ؛ فيشبه أن يكون ذلك على معنى القسمة بين الورثة، وإنما خصصهن بالدور لأنهن بالمدينة غرائب لا عشيرة لهن بها فجاز لهن الدور لما رأى من المصلحة في ذلك.

وفيه وجه آخر وهو أن تكون تلك الدور في أيديهن مدة حياتهن على سبيل الإرفاق بالسكنى دون الملك كما كانت دور النبي ﷺ وحجره في أيدي نسائه بعده لا على سبيل الميراث فإنه ﷺ قال نحن لا نورث ما تركناه صدقة. ويحكى عن سفيان بن عيينة أنه قال كان نساء النبي ﷺ في معنى المعتدات لأنهن لا ينكحن وللمعتدة السكنى فجعل لهن سكنى البيوت ما عشن ولا يملكن رقابها.

28/36-38م ومن باب الدخول في أرض الخراج

869- قال أبو داود: حدثنا حيوة بن شريح الحضرمي الحمصي حدثنا بقية حدثني عمارة بن أبي الشعثاء حدثني سنان بن قيس حدثني شبيب بن نعيم حدثني يريد بن خمير حدثني أبو الدرداء قال: قال رسول الله ﷺ من أخذ أرضا بجزيتها فقد استقال حجرته، ومن نزع صغار كافر من عنقه فجعله في عنقه فقد ولى الإسلام ظهره.

قلت معنى الجزية ههنا الخراج، ودلالة الحديث أن المسلم إذا اشترى أرضا خراجية من كافر فإن الخراج لا يسقط عنه، وإلى هذا ذهب أصحاب الرأي إلا أنهم لم يروا فيما أخرجت من حب عشرا، وقالوا لا يجتمع الخراج مع العشر.

وقال عامة أهل العلم العشر عليه واجب فيما أخرجته الأرض من حب إذا بلغ خمسة أوساق.

والخراج عند الشافعي على وجهين: أحدهما جزية والآخر بمعنى الكراء والأجرة. فإذا فتحت الأرض صلحا على أن أرضها لأهلها فما وضع عليها من خراج فمجراها مجرى الجزية التي تؤخذ من رؤوسهم، فمن أسلم منهم سقط ما عليه من الخراج كما يسقط ما على رقبته من الجزية ولزومه العشر فيما أخرجت أرضه وإن كان الفتح إنما وقع على أن الأرض للمسلمين ويؤدى في كل سنة عنها شيئا فالأرض للمسلمين وما يؤخذ منهم عنها فهو أجرة الأرض فسواء من أسلم منهم أو أقام على كفره فعليه أداء ما اشترط عليه ومن باع منهم شيئا من تلك الأرضين فبيعه باطل لأنه باع ما لا يملك. وهذا سبيل أرض السواد عنده.

29/37-39م ومن باب الأرض يحميها الرجل

870- قال أبو داود: حدثنا ابن السرح أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن الصعب بن جثامة أن رسول الله ﷺ قال لا حمى إلا لله ولرسوله قال ابن شهاب وبلغني أن رسول الله ﷺ حمى النقيع.

قلت قوله لا حمى إلا لله ولرسوله، يريد لا حمى إلا على معنى ما أباحه رسول الله ﷺ وعلى الوجه الذي حماه، وفيه إبطال ما كان أهل الجاهلية يفعلونه من ذلك وكان الرجل العزيز منهم إذا انتجع بلدا مخصبا أوفى بكلب على جبل أوعلى نشر من الأرض ثم استعوى الكلب ووقف له من يسمع منتهى صوته بالعواء فحيث انتهى صوته حماه من كل ناحية لنفسه ومنع الناس منه.

فأما ما حماه رسول الله ﷺ لمهازيل إبل الصدقة ولضعفى الخيل كالنقيع وهو مكان معروف مستنقع للمياه ينبت فيه الكلأ، وقد يقال أنه مكان ليس بحد واسع يضيق بمثله على المسلمين المرعى فهو مباح وللأئمة أن يفعلوا ذلك على النظر ما لم يضق منه على العامة المرعى، وهذا الكلام الذي سقته معنى كلام الشافعي في بعض كتبه.

30/38-40م ومن باب الركاز

871- قال أبو داود: حدثنا جعفر بن مسافر حدثنا ابن أبي فديك الزَمعي عن عمته قريبة بنت عبد الله بن وهب عن أمها كريمة بنت المقداد عن ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب أنها أخبرته ؛ قالت ذهب المقداد لحاجته ببقيع الخبخبة فإذا جرذ يخرج من جحر دينارا ثم لم يزل يخرج دينارا دينارا ختى أخرج سبعة عشر دينارا ثم أخرج خرقة حمراء، يَعني فيها دينارا فكانت ثمانية عشر دينارا فذهب بها إلى النبي ﷺ فأخبره وقال له خذ صدقتها، فقال له النبي ﷺ هل أهويت للجحر، قال لا فقال له رسول الله ﷺ بارك الله لك فيها.

قوله هل أهويت للجحر يدل على أنه لو أخذها من الجحر لكان ركازا يجب في الخمس.

وقوله بارك الله لك فيها لا يدل على أنه جعلها له في الحال ولكنه محمول على بيان الأمر في اللقطة التي إذا عرفت سنة فلم تعرف كانت لآخذها.

872- قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة سمعا أبا هريرة رضي الله عنه يحدث عن النبي ﷺ قال في الركاز الخمس.

873- قال أبو داود: حدثنا يحيى بن أيوب حدثنا عباد بن العوام عن هشام عن الحسن قال الركاز الكنز العادي.

قلت الركاز على وجهين فالمال الذي يوجد مدفونا لا يعلم له مالك ركاز لأن صاحبه قد كان ركزه في الأرض أي أثبته فيها.

والوجه الثاني من الركاز عروق الذهب والفضة فتستخرج بالعلاج ركزها الله في الأرض ركزا، والعرب تقول أركز المعدن إذا أنال الركاز.

والحديث إنما جاء في النوع الأول منهما وهو الكنز الجاهلي على ما فسره الحسن، وإنما كان فيه الخمس لكثرة نفعه وسهولة نيله والأصل إن ما خفت مؤونته كثر مقدار الواجب فيه وما كثرت مؤونته قل مقدار الواجب فيه كالعشر فيما سقي بالأنهار ونصف العشر فيما سقي بالدواليب.

واختلفوا في مصرف الركاز، فقال أبو حنيفة يصرف مصرف الفيء، وقال الشافعي يصرف مصرف الصدقات، واحتجوا لأبي حنيفة بأنه مال مأخوذ من أيدي المشركين، واحتجوا للشافعي بأنه مال مستفاد من الأرض كالزرع وبأن الفيء يكون أربعة أخماسه للمقاتلة وهذا المال يختص به الواجد له كمال الصدقة.

31/39-41م ومن باب نبش القبور العادية

يكون فيها المال

874- قال أبو داود: حدثنا يحيى بن معين حدثنا وهب بن جرير حدثنا أبي قال سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن إسماعيل بن أمية عن بجير بن أبي بجير، قال سمعت عبد الله بن عمرو يقول سمعت رسول الله ﷺ حين خرجنا معه إلى الطائف فمررنا بقبر فقال رسول الله ﷺ هذا قبر أبي رغال وكان بهذا الحرم يُدفع عنه فلما خرج أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان فدفن فيه. وآية ذلك أنه دفن معه غصن من ذهب إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه معه فابتدره الناس فاستخرجوا الغصن.

قلت هذا سبيله سبيل الركاز لأنه مال من دفن الجاهلية لا يعلم مالكه، وكان أبو رغال من بقية قوم عاد أهلكهم الله فلم يبق لهم نسل ولا عقب فصار حكم ذلك المال حكم الركاز.

وفيه دليل على جواز نبش قبور المشركين إذا كان فيه أرب أو نفع للمسلمين وان ليست حرمتهم في ذلك كحرمة المسلمين.

11 كتاب البيوع

1/1م من باب التجارة يخالطها الحلف والكذب

أخبرنا الشيخ الإمام أبو المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل بن محمد الروياني بقراءتي عليه بآمد طبرستان فأقر به في شهور سنة تسع وتسعين وأربعمائة قال أخبرنا أبو نصر أحمد بن محمد البلخي، قال أخبرنا أبو سليمان حمد بن محمد الخطابي البستي،، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن بكر بن داسة قال:

875- حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني رحمه الله ؛، قال: حدثنا مسدد، قال: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش، عن أبي وائل عن قيس بن أبي غرزة قال كنا في عهد رسول الله ﷺ نسمى السماسرة فمر بنا رسول الله ﷺ فسمانا باسم هو أحسن منه فقال يا معشر التجار أن البيع يحضره اللغو والحلف فشوبوه بالصدقة.

قال الشيخ أبو سليمان السمسار أعجمي وكان كثير ممن يعالج البيع والشراء فيهم عجما فتلقنوا هذا الاسم عنهم فغيره رسول الله ﷺ إلى التجارة التي هي من الأسماء العربية، وذلك معنى قول فسمانا باسم هو أحسن منه.

وقد تدعو العرب التاجر أيضا الرّقاحي والترقيح في كلامهم إصلاح المعيشة.

وقد احتج بهذا الحديث بعض أهل الظاهر ممن لا يرى الزكاة في أموال التجارة وزعم أنه لو كان تجب فيها صدقة كما تجب في سائر الأموال الظاهرة لأمرهم النبي ﷺ بها ولم يقتصر على قوله فشوبوه بالصدقة أو بشيء من الصدقه.

قال الشيخ وليس فيما ذكروه دليل على ما ادعوه لأنه إنما أمرهم في هذا الحديث بشيء من الصدقه غير معلوم المقدار في تضاعيف الأيام ومر الأوقات ليكون كفارة عن اللغو والحلف.

فأما الصدقة المقدرة التي هي ربع العشر الواجبة عند تمام الحول فقد وقع البيان فيها من غير هذه الجهة، وقد روى سمرة بن جندب أن رسول الله ﷺ كان يأمرهم أن يخرجوا الصدقة عن الأموال التي يعدونها للبيع، وقد ذكره أبو داود في كتاب الزكاة ثم هو عمل الأمة وإجماع أهل العلم فلا يعد قول هؤلاء معهم خلافا.

2/2م ومن باب استخراج المعادن

876- قال أبو داود: حدثنا القعنبي، قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد عن عمرو، يَعني ابن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس أن رجلا لزم غريما له بعشرة دنانير فقال والله ما أفارقك حتى تقضيني أو تأتيني بحميل قال فتحمل بها رسول الله ﷺ فأتاه بقدر ما وعده، فقال له النبي ﷺ من أين أصبت هذا الذهب قال من معدن، قال لا حاجة لنا فيها ليس فيها خير فقضاها عنه رسول الله ﷺ.

قال الشيخ في هذا الحديث إثبات الحمالة والضمان وفيه إثبات ملازمة الغريم ومنعه من التصرف حتى يخرج من الحق الذي عليه. وأما رده الذهب الذي استخرجه من المعدن، وقوله لا حاجة لنا فيه ليس فيه خير فيشبه أن يكون ذلك لسبب علمه فيه خاصة لا من جهة أن الذهب المستخرج من المعدن لا يباح تموله وتملكه، فإن عامة الذهب والورق مستخرجة من المعادن، وقد اقطع رسول الله ﷺ بلال بن الحارث المعادن القبليه وكانوا يؤدون عنها الحق وهو عمل المسلمين وعليه أمرالناس إلى اليوم. ويحتمل أن يكون ذلك من أجل أن أصحاب المعادن يبيعون ترابها ممن يعالجه فيحصل ما فيه من ذهب أو فضفه وهوغرر لا يدرى هل يوجد فيه شيء منهما أم لا. وقد كره بيع تراب المعادن جماعة من العلماء منهم عطاء والشعبي وسفيان الثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه.

وفيه وجه آخر وهو أن مع قوله لا حاجة لنا فيها ليس لنا فيها خير، أي ليس لها رواج ولا لحاجتنا فيها نجاح، وذلك أن الذي كان تحمله عنه دنانير مضروبة، والذي جاء به تبر غير مضروب وليس بحضرته من يضربه دنانير وإنما كان تحمل إليهم الدنانير من بلاد الروم، وأول من وضع السكة في الإسلام وضرب الدنانير عبد الملك بن مروان، وقد يحتمل ذلك أيضا وجها آخر وهو أن يكون إنما كرهه لما يقع فيه من الشبهة ويدخله من الغرر عند استخراجهم إياه من المعدن وذلك أنهم إنما استخرجوه بالعشر أو الخمس أو الثلث مما يصيبونه وهو غرر لا يدرى هل يصيب العامل فيه شيئا أم لا، فكان ذلك بمنزلة العقد على رد الآبق والبعير الشارد لأنه لا يدرى هل يظفر بهما أم لا.

وفيه أيضا نوع من الخطر والتغرير بالأنفس لأن المعدن ربما انهار على من يعمل فيه فكره من أجل ذلك معالجته واستخراج ما فيه.

وكانت الدنانير تحمل إليهم في زمان النبي ﷺ من بلاد الروم وكان أول من ضربها في الإسلام عبد الملك بن مروان فهي تدعي المروانية إلى هذا الزمان.

3/3 ومن باب في اجتناب الشبهات

877- قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس، قال: حدثنا أبو شهاب، قال: حدثنا ابن عون عن الشعبي قال سمعت النعمان بن بشير يقول سمعت رسول الله ﷺ يقول إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات.

أحيانا يقول مشتبهة وسأضرب في ذلك مثلا ان الله تعالى حمَى حِمىً وإن حمى الله ما حرم وأنه من يرعى حول الحمى يوشك أن يخالطه وأنه من يخالط الريبة يوشك أن يجسر.

878- قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي،، قال: حدثنا عيسى حدثنا زكريا عن عامر، قال سمعت النعمان بن بشير يقول سمعت رسول الله ﷺ يقول في هذا الحديث قال وبينهما مشتبهات ولا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرى دينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام.

قال الشيخ هذا الحديث أصل في الورع وفيما يلزم الإنسان اجتنابه من الشبهة والريب.

ومعنى قوله وبينهما أمور مشتبهات أي أنها تشتبه على بعض الناس دون بعض وليس أنها في ذوات أنفسها مشتبهة لا بيان لها في جملة أصول الشريعة فان الله تعالى لم يترك شيئا يجب له فيها حكم إلا وقد جعل فيه بيانا ونصب عليه دليلا ولكن البيان ضربان، بيان جلي يعرفه عامة الناس كافة، وبيان خفي لا يعرفه إلا الخاص من العلماء الذين عنوا بعلم الأصول فاستدركوا معاني النصوص، وعرفوا طرق القياس والاستنباط ورد الشيء إلى المثل والنظير.

ودليل صحة ما قلناه وإن هذه الأمور ليست في أنفسها مشتبهة قوله لا يعرفها كثير من الناس وقد عقل ببيان فحواه أن بعض الناس يعرفونها وإن كانوا قليلي العدد فإذا صار معلوما عند بعضهم فليس بمشتبه في نفسه ولكن الواجب على من اشتبه عليه أن يتوقف ويستبري الشك ولا يقدم إلا على بصيرة فإنه إن أقدم على الشيء قبل التثبت والتبين لم يأمن أن يقع في المحرم عليه وذلك معنى الحمى وضربه المثل به.

وقوله الحلال بين والحرام بين أصل كبير في كثير من الأمور والأحكام إذا وقعت فيها الشبهة أو عرض فيها الشك ومهما كان ذلك فإن الواجب أن ينظر فإذا كان للشيء أصل في التحريم والتحليل فإنه يتمسك به ولا يفارقه باعتراض الشك حتى يزيله عنه يقين العلم، فالمثال في الحلال الزوجة تكون للرجل والجارية تكون عنده يتسرى بها ويطأها فيشك هل طلق تلك أوأعتق هذه فهما عنده على أصل التحليل حتى يتيقن وقوع طلاق أو عتق، وكذلك الماء يكون عنده وأصله الطهارة فيشك هل وقعت فيه نجاسة أم لا فهو على أصل الطهارة حتى يتيقن أن قد حلته نجاسة، وكالرجل يتطهر للصلاة ثم يشك في الحدث فإنه يصلي ما لم يعلم الحدث يقينا على هذا المثال.

وأما الشيء إذا كان أصله الحظر وإنما يستباح على شرائط وعلى هيئات معلومة كالفروج لا تحل إلا بعد نكاح أو ملك يمين وكالشاة لا يحل لحمها إلا بذكاة فأنه مهما شك في وجود تلك الشرائط وحصولها يقينا على الصفة التي جعلت علما للتحليل كان باقيا على أصل الحظر والتحريم، وعلى هذا المثال فلو اختلطت امرأته بنساء أجنبيات أو اختلطت مذكاة بميتات ولم يميزها بعينها وجب عليه أن يجتنبها كلها ولا يقربها وهذان القسمان حكمهما الوجوب واللزوم.

وها هنا قسم ثالث وهو أن يوجد الشيء ولا يعرف له أصل متقدم في التحريم ولا في التحليل، وقد استوى وجه الإمكان فيه حلا وحرمة فان الورع فيما هذا سبيله الترك والاجتناب وهو غير واجب عليه وجوب النوع الأول، وهذا كما روي عن النبي ﷺ أنه مرّ بتمرة ملقاة في الطريق ؛ فقال لولا إني أخاف أن تكون صدقة لأكلتها وقدم له الضب فلم يأكله، وقال إن أُمه مسخت فلا أدري لعله منها أوكما قال. ثم إن خالد بن الوليد أكله بحضرته فلم ينكره ويدخل في هذا الباب معاملة من كان في ماله شبهة أو خالطه ربى فإن الاختيار تركها إلى غيرها وليس بمحرم عليك ذلك ما لم يتيقن أن عينه حرام أو مخرجه من حرام، وقد رهن رسول الله ﷺ درعه من يهودي على أصوع من شعير أخذها لقوت أهله، ومعلوم أنهم يربون في تجاراتهم ويستحلون أثمان الخمور، ووصفهم الله تعالى بأنهم سماعون للكذب أكالون للسحت، فعلى هذه الوجوه الثلاثة يجري الأمر فيما ذكرته لك.

وقوله من اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه أصل في باب الجرح والتعديل وفيه دلالة على أن من لم يتوق الشبهات في كسبه ومعاشه فقد عرض دينه وعرضه للطعن وأهدفهما للقول.

وقوله من وقع في الشبهات وقع في الحرام يريد أنه إذا اعتادها واستمر عليها أدته إلى الوقوع في الحرام بأن يتجاسر عليه فيواقعه بقول فليتق الشبهة ليسلم من الوقوع في المحرم.

4/5م ومن باب وضع الربى

879- قال أبو داود: حدثنا مسدد، قال: حدثنا أبو الأحوص، قال: حدثنا شبيب بن غرقدة عن سليمان بن عمرو عن أبيه قال سمعت رسول الله ﷺ يقول في حجة الوداع إلا أن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون إلا وإن كل دم من دم الجاهلية موضوع وأول دم أضع منها دم الحارث بن عبد المطلب كان مسترضعا في بني ليث فقتلته هذيل اللهم قد بلغت، قالوا نعم ثلاثا، قال اللهم أشهد ثلاث مرات.

قال الشيخ في هذا من الفقه أن ما أدركه الإسلام من أحكام الجاهلية فإنه يلقاه بالرد والنكير، وأن الكافر إذا أربى في كفره ولم يقبض المال حتى أسلم فإنه يأخذ رأس ماله ويضع الربا ؛ فأما ما كان قد مضى من أحكامهم فإن الإسلام يلقاه بالعفو فلا يعترض عليهم في ذلك ولا يتبع أفعالهم في شيء منه فلو قتل في حال كفره وهو في دار الحرب ثم أسلم فإنه لا يتبع بما كان فيه في حال الكفر. ولو أسلم زوجان من الكفار وتحاكما إلينا في مهر من خمر أو خنزيرا أو ما أشبههما من المحرم فإنه ينظر فإن كانت لم تقبضه منه كله فإنا نوجب لها عليه مهر المثل ولو قبضت نصفه وبقي النصف فإنا نوجب عليه للباقي منه نصف المهر ونجعل الفائت من النصف الاخر كأن لم يكن، وعلى هذا إن كان نكاحا يريدون أن يستأنفوا عقده فإنا لا نجيز من ذلك إلا ما أباح حكم الإسلام، فإن كان أمرا ماضيا فإنا لا نفسخه ولا نعرض له وعلى هذا القياس جميع هذا الباب.

وقوله دم الحارث بن عبد المطلب فإن أبا داود هكذا روى، وإنما هو في سائر الروايات دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وحدثني عبد الله بن محمد المكي، قال: حدثنا علي بن عبد العزيز، عن أبي عبيدة قال أخبرني ابن الكلبي أن ربيعة بن الحارث لم يقتل وقد عاش بعد النبي ﷺ إلى زمن عمر وانما قتل له ابن صغير في الجاهلية فأهدر النبي ﷺ فيما أهدر ونسب الدم إليه لأنه ولي الدم.

5/7م ومن باب الرجحان في الوزن

880- قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا سفيان عن سماك بن حرب قال حدثني سويد بن قيس قال جلبت أنا ومخرمة العبدي بُرا من هجر فأتينا به مكة فجاءنا رسول الله ﷺ يمشي فساومنا بسراويل فبعناه وثم رجل يزن بالأجر فقال له رسول الله ﷺ زن وارجح.

قوله زن وارجح فيه دليل على جواز هبة المشاع، وذلك أن مقدار الرجحان هبة منه للبائع وهو غير متميزمن جملة الثمن.

وفيه دليل على جواز أخذ الأجرة على الوزن والكيل وفي معناهما أجرة القسام والحاسب وكان سعيد بن المسيب ينهى عن أجرة القسام وكرهها أحمد بن حنبل.

قال الشيخ وفي مخاطبة النبي ﷺ وأمره إياه به كالدليل على أن وزن الثمن على المشتري فإذا كان الوزن عليه لأن الإيفاء يلزمه فقد دل على أن أجرة الوزان عليه فإذا كان ذلك على المشتري فقياسه في السلعة المبيعة أن تكون على البائع.

ومن باب قول النبي ﷺ المكيال مكيال أهل المدينة

881- قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن دكين، قال: حدثنا سفيان عن حنظلة عن طاوس عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ الوزن وزن أهل مكة والمكيال مكيال أهل المدينة.

قال الشيخ هذا حديث قد تكلم فيه بعض الناس وتخبط في تأويله فزعم أن النبي ﷺ أراد بهذا القول تعديل الموازين والأرطال والمكاييل وجعل عيارها أوزان أهل مكة ومكاييل أهل المدينة ليكون عند التنازع حكما بين الناس يحملون عليها إذا تداعوا، فادعى بعضهم وزنا أوفى أو مكيالا أكبر وادعى الخصم أن الذي يلزمه هو الأصغر منها دون الأكبر، وهذا تأويل فاسد خارج عما عليه أقاويل أكثر الفقهاء وذلك أن من أقر لرجل مكيلة بُر أو بعشرة أرطال من تمر أو غيره واختلفا في قدر المكيلة والرطل فأنهما يحملان على مجرف البلد وعادة الناس في المكان الذي هو به ولا يكلف أن يعطي برطل مكة ولا بمكيال المدينة، وكذلك إذا أسلفه في عشرة مكاييل قمح أو شعير وليس هناك إلا مكيلة واحدة معروفة فإنهما يحملان عليها فإن كان هناك مكاييل مختلفة فأسلفه في عشرة مكاييل ولم يصف الكيل بصفة يتميز بها عن غيره فالسلم فاسد وعليه رد الثمن. وإنما جاء الحديث في نوع ما يتعلق به أحكام الشريعة في حقوق الله سبحانه دون ما يتعامل به الناس في بياعاتهم وأمور معاشهم.

فقوله الوزن وزن أهل مكة يريد وزن الذهب والفضة خصوصا دون سائر الأوزان ومعناه أن الوزن الذي يتعلق به حق الزكاة في النقود وزن أهل مكة وهي دراهم الإسلام المعدلة منها العشرة بسبعة مثاقيل فإذا ملك رجل منها مائتي درهم وججبت فيها الزكاة، وذلك أن الدراهم مختلفة الأوزان في بعض البلدان والأماكن فمنها البغلي ومنها الطبري ومنها الخوارزمي وأنواع غيرها، والبغلي ثمانية دوانيق والطبري أربعة دوانيق والدرهم الوزان الذي هو من دراهم الإسلام الجائزة بينهم في عامة البلدان ستة دوانيق وهو نقد أهل مكة ووزنهم الجائز بينهم، وكان أهل المدينة يتعاملون بالدراهم عددا وقت مقدم رسول الله ﷺ إياها، والدليل على صحة ذلك أن عائشة رضي الله عنها قالت فيما روي عنها من قصة بريرة إن شاء أهلك أن أعدها لهم عدة واحدة فعلت تريد الدراهم التي هي ثمنها فأرشدهم رسول الله ﷺ إلى الوزن فيها وجعل العيار وزن أهل مكة دون ما يتفاوت وزنه منها في سائر البلدان.

وقد تكلم الناس في هذا الباب وهل كانت هذه الدراهم لم تزل في الجاهلية على هذا العيار والوزن فذهب بعضهم إلى أن الوزن فيها لم يزل على هذا العيار وإنما غيروا الشكل منها ونقشوا فيها اسم الله عز وجل وقام الإسلام.

والأوقية وزنها أربعون درهما، لحلك قال رسول الله ﷺ ليس فيما دون خمس أواقي صدقة وهي مائتا درهم، وهذا المعنى بلغني، عن أبي العباس بن شريح أنه كان يقوله ويذهب إليه وحكوا، عن أبي عبيد القاسم بن سلام ما يخالف هذا.

قال أبو عبيد حدثني رجل من أهل العلم والعناية بأمر الناس ممن يعنى بهذا الشأن أن الدراهم كانت في الجاهلية على دربين البغلية السوداء التي في كل واحد منها أربعة دوانيق وكانوا يستعملونها على النصف والنصف مائة بغلية طبرية فكان في المائتين منها من الزكاة خمسة دراهم، فلما كان زمان بني أمية قالوا إن ضربنا البغلية ظن الناس أن هذه التي تجب فيها الزكاة المشروعة فيضر ذلك بالفقراء وإن ضربنا الطبرية أضر ذلك بأرباب الأموال فجمع بين الدراهم البغلية والطبرية فكان في أحدهما ثمانية دوانيق وفي الآخر أربعة دوانيق وجملتها اثنا عشر دانقا فقسموها نصفين وضربوا الدراهم على ستة دوانيق.

وأما الدنانير فمشهور من أمرها أنها كانت تحمل إليهم من بلاد الروم وكانت العرب تسميها الهرقلية وقد ذكره كثير في شعره فقال:

يروق العيون الناظرات كأنه... هرقلي وزن أحمر التبر راجح

ثم ضرب الدنانير في عهد الإسلام عبد الملك بن مروان فحدثني أحمد بن عبد العزيز بن شابور، قال: حدثنا علي بن عبد العزيز، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثنا عمر بن عثمان عن إسحاق بن عبد الله بن كعب بن مالك قال لما أراد عبد الملك بن مروان ضرب الدنانير والدراهم سأل عن أوزان الجاهلية فأجمعوا له على أن المثقال اثنان وعشرون قيراطا إلا حبة بالشامي، وأن العشرة دراهم وزن سبعة مثاقيل فضربها على ذلك.

فأما أوزان الأرطال والأمناء فهو بمعزل عن هذا وللناس فيها عادات مختلفة في البلدان قد أقروا عليها مع تباينها واختلافها كالشامي والحجازي والعراقي وأرطال أهل أذربيجان مضاعفة وأرطال أهل الري وأصبهان دون الأردبيلي وفوق الحجازي والعراقي منه ادة كثيرة وكل من أهل هذه البلدان محمول على عرف بلده وعادة قومه لا ينقل عنها ولا يحمل على ما سواها وليست كالدراهم والدنانير التي حمل الناس فيها على عيار واحد وحكم سواء إلا أن الدراهم قد يختلف حكمها في شيء واحد وهو أن رجلا لو باع ثوبا بعشرة دراهم في بلدة يتعاملون فيها بالدراهم الطبرية أو الخوارزمية لم يلزم المشتري أن يدفع في ثمنه الوازنة، وإنما يلزمه نقد البلد ولكن إن كان أقر له بعشرة دراهم لزمته الوازنة لأنه ليس في الأ قرار عرف يتغير به الحكم في بلد دون بلد ألا ترى أن رجلا من أهل خوارزم لو أقر عند حاكم بغداد بمائة درهم لرجل من خوارزم أنه يلزمه الدراهم الوازنة إن ادعاها المقر له بها فباب الاقرار خلاف باب المعاملات على ما بيناه والله أعلم.

وأما قوله والمكيال مكيال أهل المدينة فإنما هو الصاع الذي يتعلق به وجوب الكفارات ويجب إخراج صدقة الفطر به ويكون تقدير النفقات وما في معناها بعياره والله أعلم.

وللناس صيعان مختلفة فصاع أهل الحجاز خمسة أرطال وثلث بالعراقي وصاع أهل البيت فيما يذكره زعماء الشيعة تسعة أرطال وثلث ينسبونه إلى جعفر بن محمد وصاع أهل العراق ثمانية أرطال وهو صاع الحجاج الذي سعر به على أهل الأسواق، ولما ولي خالد بن عبد الله القسري العراق ضاعف الصاع فبلغ به ستة عشر رطلا فإذا جاء باب المعاملات حملنا العراقي على الصاع المتعارف المشهوو عند أهل بلاده والحجازي على الصاع المعروف ببلاد الحجاز، وكذلك كل أهل بلد على عرف أهله وإذا جاءت الشريعة وأحكامها فهو صاع المدينة فهو معنى الحديث ووجهه عندي والله أعلم.

هامش