الرئيسيةبحث

مجموع الفتاوى/المجلد العشرون/مذهب أهل المدينة في المحرم لكسبه

مذهب أهل المدينة في المحرم لكسبه

وأما النوع الثاني من المحرمات وهو المحرم لكسبه؛ كالمأخوذ ظلمًا بأنواع الغصب من السرقة والخيانة والقهر؛ وكالمأخوذ بالربا والميسر؛ وكالمأخوذ عوضًا عن عين أو نفع محرم؛ كثمن الخمر والدم؛ والخنزير والأصنام ومهر البغي وحلوان الكاهن؛ وأمثال ذلك: فمذهب أهل المدينة في ذلك من أعدل المذاهب فإن تحريم الظلم، وما يستلزم الظلم أشد من تحريم النوع الأول؛ فإن الله حرم الخبائث من المطاعم إذ هي تغذى تغذية خبيثة، توجب للإنسان الظلم، كما إذا اغتذى من الخنزير والدم والسباع؛ فإن المغذى شبيه بالمغتذى به فيصير في نفسه من البغي والعدوان بحسب ما اغتذى منه. وإباحتها للمضطر لأن مصلحة بقاء النفس مقدم على دفع هذه المفسدة، مع أن ذلك عارض لا يؤثر فيه مع الحاجة الشديدة أثرًا يضر. وأما الظلم فمحرم قليله وكثيره وحرمه تعالى على نفسه، وجعله محرمًا على عباده. وحرم الربا لأنه متضمن للظلم، فإنه أخذ فضل بلا مقابل له، وتحريم الربا أشد من تحريم الميسر الذي هو القمار؛ لأن المرابي قد أخذ فضلًا محققًا من محتاج وأما المقامر فقد يحصل له فضل، وقد لا يحصل له، وقد يقمر هذا هذا، وقد يكون بالعكس.

وقد نهى النبي ﷺ عن بيع الغرر؛ وعن بيع الملامسة والمنابذة، وبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وبيع حبل الحبلة. ونحو ذلك مما فيه نوع مقامرة، وأرخص في ذلك فيما تدعو الحاجة إليه، ويدخل تبعًا لغيره كما أرخص في ابتياعها بعد بدو صلاحها مبقاة إلى كمال الصلاح، وإن كان بعض أجزائها لم يخلق، وكما أرخص في ابتياع النخل المؤبّر مع جديده إذا اشترطه المبتاع وهو لم يبد صلاحه، وهذا جائز بإجماع المسلمين، وكذلك سائر الشجر الذي فيه ثمر ظاهر، وجعل للبائع ثمرة النخل المؤبّر، إذا لم يشترطها المشتري فتكون الشجرة للمشتري، والبائع ينتفع بها، بإبقاء ثمره عليها إلى حين الجذاذ. وقد ثبت في الصحيح أنه أمر بوضع الجوائح وقال: «إن بعت من أخيك ثمرة فأصابتها جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ من مال أخيك شيئًا بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق؟». ومذهب مالك وأهل المدينة في هذا الباب أشبه بالسنة، والعدل من مذهب من خالفهم من أهل الكوفة وغيرهم، وذلك أن مخالفهم جعل البيع إذا وقع على موجود جاز، سواء كان قد بدا صلاحه أو لم يكن قد بدا صلاحه، وجعل موجب كل عقد قبض المبيع عقبه، ولم يجز تأخير القبض فقال: أنه إذا اشترى الثمر باديًا صلاحه أو غير باد صلاحه جاز وموجب العقد القطع في الحال لا يسوغ له تأخير الثمر إلى تكمل صلاحه ولا يجوز له أن يشترطه. وجعلوا ذلك القبض قبضًا ناقلًا للضمان إلى المشتري دون البائع وطردوا ذلك فقالوا: إذا باع عينًا مؤجرة لم يصح لتأخير التسليم وقالوا: إذا استثنى منفعة المبيع: كظهر البعير وسكنى الدار لم يجز وذلك كله فرع على ذلك القياس. وأهل المدينة وأهل الحديث خالفوهم في ذلك كله، واتبعوا النصوص الصحيحة، وهو موافقة القياس الصحيح العادل، فإن قول القائل: العقد موجب القبض عقبه؛ يقال له: موجب العقد إما أن يتلقى من الشارع؛ أو من قصد العاقد، والشارع ليس في كلامه ما يقتضي أن هذا يوجب موجب العقد مطلقًا، وأما المتعاقدان فهما تحت ما تراضيا به ويعقدان العقد عليه، فتارة يعقدان على أن يتقابضا عقبه، وتارة على أن يتأخر القبض كما في الثمر؛ فإن العقد المطلق يقتضي الحلول؛ ولهما تأجيله إذا كان لهما في التأجيل مصلحة فكذلك الأعيان؛ فإذا كانت العين المبيعة فيها منفعة للبائع أو غيره كالشجر الذي ثمره ظاهر، وكالعين المؤجرة وكالعين التي استثنى البائع نفعها مدة، لم يكن موجب هذا العقد أن يقتضي المشتري ما ليس له؛ وما لم يملكه إذا كان له أن يبيع بعض العين دون بعض، كان له أن يبيعها دون منفعتها. ثم سواء قيل: إن المشتري يقبض العين أو قيل: لا يقبضها بحال: لا يضر ذلك؛ فإن القبض في البيع ليس هو من تمام العقد، كما هو في الرهن بل الملك يحصل قبل القبض للمشتري تابعًا، ويكون نماء المبيع له بلا نزاع، وإن كان في يد البائع، ولكن أثر القبض، إما في الضمان، وإما في جواز التصرف. وقد ثبت عن ابن عمر أنه قال: مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حيًا مجموعًا فهو من ضمان المشتري.

ولهذا ذهب إلى ذلك أهل المدينة وأهل الحديث؛ فإن تعليق الضمان بالتمكين من القبض، أحسن من تعليقه بنفس القبض، وبهذا جاءت السنة ففي الثمار التي أصابتها جائحة لم يتمكن المشتري من الجذاذ، وكان معذورًا، فإذا تلفت كانت من ضمان البائع؛ ولهذا التي تلفت بعد تفريطه في القبض كانت من ضمانه، والعبد والدابة التي تمكن من قبضها تكون من ضمانه على حديث علي وابن عمر. ومن جعل التصرف تابعًا للضمان فقد غلط؛ فإنهم متفقون على أن منافع الإجارة إذا تلفت قبل تمكن المستأجر من استيفائها كانت من ضمان المؤجر، ومع هذا للمستأجر أن يؤجرها بمثل الأجرة وإنما تنازعوا في إيجارها بأكثر من الأجرة لئلا يكون ذلك ربحًا فيما لا يضمن، والصحيح جواز ذلك؛ لأنها مضمونة على المستأجر، فإنها إذا تلفت مع تمكنه من الاستيفاء كانت من ضمانه، ولكن إذا تلفت قبل تمكنه من الاستيفاء لم يكن من ضمانه. وهذا هو الأصل أيضا؛ فقد ثبت في الصحيح عن ابن عمر أنه قال كنا نبتاع الطعام جزافًا على عهد رسول الله ﷺ فنهى أن نبيعه حتى ننقله إلى رحالنا.

وابن عمر هو القائل: مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حيًا مجموعًا فهو من ضمان المشتري.

فتبين أن مثل هذا الطعام مضمون على المشتري، ولا يبيعه حتى ينقله، وغلة الثمار والمنافع له أن يتصرف فيها، ولو تلفت قبل التمكن من قبضها، كانت من ضمان المؤجر، والبائع والمنافع لا يمكن التصرف فيها إلا بعد استيفائها، وكذلك الثمار لا تباع على الأشجار بعد الجذاذ، بخلاف الطعام المنقول. والسنة في هذا الباب فرقت بين القادر على القبض، وغير القادر في الضمان والتصرف، فأهل المدينة أتبع للسنة في هذا الحكم كله، وقولهم أعدل من قول من يخالف السنة. ونظائر هذا كثير مثل بيع الأعيان الغائبة: من الفقهاء من جوز بيعها مطلقًا، وإن لم توصف، ومنهم من منع بيعها مع الوصف؛ ومالك جوز بيعها مع الصفة دون غيرها وهذا أعدل. والعقود من الناس من أوجب فيها الألفاظ وتعاقب الإيجاب والقبول ونحو ذلك، وأهل المدينة جعلوا المرجع في العقود إلى عرف الناس وعادتهم، فما عده الناس بيعًا فهو بيع، وما عدوه إجارة فهو إجارة، وما عدوه هبة فهو هبة، وهذا أشبه بالكتاب والسنة وأعدل فإن الأسماء منها ما له حد في اللغة، كالشمس والقمر، ومنها ما له حد في الشرع كالصلاة والحج، ومنها ما ليس له حد لا في اللغة ولا في الشرع بل يرجع إلى العرف كالقبض. ومعلوم أن اسم البيع والإجارة والهبة، في هذا الباب لم يحدها الشارع، ولا لها حد في اللغة؛ بل يتنوع ذلك بحسب عادات الناس وعرفهم، فما عدوه بيعًا فهو بيع، وما عدوه هبة فهو هبة، وما عدوه إجارة فهو إجارة. ومن هذا الباب أن مالكاَ يجوز بيع المغيب في الأرض كالجزر واللفت وبيع المقاثي جملة، كما يُجَوز هو والجمهور بيع الباقلاء ونحوه في قشره. ولا ريب أن هذا هو الذي عليه عمل المسلمين من زمن نبيهم ﷺ وإلى هذا التاريخ، ولا تقوم مصلحة الناس بدون هذا، وما يظن أن هذا نوع غرر، فمثله جائز في غيره من البيوع، لأنه يسير والحاجة داعية إليه، وكل واحد من هذين يبيح ذلك، فكيف إذا اجتمعا؟ وكذلك ما يجوز مالك من منفعة الشجر تبعًا للأرض مثل أن يكري أرضًا أو دارًا فيها شجرة أو شجرتان هو أشبه بالأصول من قول من منع ذلك. وقد يجوز ذلك طائفة من أصحاب أحمد بن حنبل مطلقًا، وجوزوا ضمان الحديقة التي فيها أرض وشجر، كما فعل عمر بن الخطاب لما قبل الحديقة من أسيد بن الحضير ثلثًا، وقضى بما تسلفه دينًا، كان عليه وقد بسطت الكلام على هذه المسألة في غير هذا الموضع. وهذا يتبين بذكر الربا؛ فإن تحريم الربا أشد من تحريم القمار، لأنه ظلم محقق، والله سبحانه وتعالى لما جعل خلقه نوعين: غنيًا وفقيرًا أوجب على الأغنياء الزكاة، حقًا للفقراء، ومنع الأغنياء عن الربا الذي يضر الفقراء، وقال تعالى: { يَمْحَقُ اللهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } [1]. وقال تعالى: { وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ } [2]. فالظالمون يمنعون الزكاة، ويأكلون الربا، وأما القمار فكل من المتقامرين قد يقمر الآخر، وقد يكون المقمور هو الغني أو يكونان متساويين في الغنى والفقر، فهو أكل مال بالباطل، فحرمه الله، لكن ليس فيه من ظلم المحتاج وضرره ما في الربا، ومعلوم أن ظلم المحتاج أعظم من ظلم غير المحتاج. ومعلوم أن أهل المدينة حرموا الربا ومنعوا التحيل على استحلاله، وسدوا الذريعة المفضية إليه، فأين هذا ممن يسوغ الاحتيال على أخذه؟ بل يدل الناس على ذلك. وهذا يظهر بذكر مثلًا ربا الفضل وربا النسأ. أما ربا الفضل فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة، واتفق جمهور الصحابة والتابعين، والأئمة الأربعة على أنه لا يباع الذهب والفضة والحنطة والشعير والتمر والزبيب بجنسه إلا مثلًا بمثل؛ إذ الزيادة على المثل أكل مال بالباطل وظلم، فإذا أراد المدين أن يبيع مائة دينار مكسور، وزنه مائة وعشرون دينارًا؛ يسوغ له مبيح الحيل أن يضيف إلى ذلك رغيف خبز أو منديل يوضع فيه مائة دينار؛ ونحو ذلك مما يسهل على كل مرب فعله: لم يكن لتحريم الربا فائدة ولا فيه حكمة ولا يشاء مرب أن يبيع نوعًا من هذا بأكثر منه من جنسه إلا أمكنه أن يضم إلى القليل ما لا قدر له من هذه الأمور. وكذلك إذا سوغ لهما أن يتواطآ على أن يبيعه إياه بعرض لا قصد للمشتري فيه، ثم يبتاعه منه بالثمن الكثير أمكن طالب الربا أن يفعل ذلك.

ومعلوم أن من هو دون الرسول، إذا حرم شيئًا لما فيه من الفساد، وأذن أن يفعل بطريق لا فائدة فيه، لكان هذا عيبًا وسفهًا؛ فإن الفساد باق، ولكن زادهم غشًا، وإن كان فيه كلفة فقد كلفهم ما لا فائدة فيه، فكيف يظن هذا بالرسول ﷺ؟ بل معلوم أن الملوك لو نهوا عما نهى عنه النبي ﷺ، واحتال المنهي على ما نهي عنه بمثل هذه الطريق، لعدوه لاعبًا مستهزئًا بأوامرهم وقد عذب الله أهل الجنة الذين احتالوا على ألا يتصدقوا، وعذب الله القرية التي كانت حاضرة البحر لما استحلوا المحرم بالحيلة، بأن مسخهم قردة وخنازير، وعن النبي ﷺ أنه قال «لا تركبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا ما حرم الله بأدنى الحيل». وقد بسطنا الكلام على قاعدة إبطال الحيل وسد الذرائع في كتاب كبير مفرد، وقررنا فيه مذهب أهل المدينة بالكتاب والسنة، وإجماع السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار.

وكذلك ربا النسأ فإن أهل ثقيف الذين نزل فيهم القرآن، أن الرجل كان يأتي إلى الغريم عند حلول الأجل فيقول: أتقضي أم تربي؟ فإن لم يقضه وإلا زاده المدين في المال، وزاده الطالب في الأجل، فيضاعف المال في المدة لأجل التأخير. وهذا هو الربا الذي لا يشك فيه باتفاق سلف الأمة، وفيه نزل القرآن، والظلم والضرر فيه ظاهر. والله سبحانه وتعالى أحل البيع، وأحل التجارة، وحرم الربا، فالمبتاع يبتاع ما يستنفع به كطعام ولباس ومسكن ومركب وغير ذلك، والتاجر يشتري ما يريد أن يبيعه ليربح فيه، وأما آخذ الربا فإنما مقصوده أن يأخذ دراهم بدراهم إلى أجل، فيلزم الآخر أكثر مما أخذ بلا فائدة حصلت له، لم يبع ولم يتجر، والمربي آكل مال بالباطل بظلمه، ولم ينفع الناس لا بتجارة ولا غيرها؛ بل ينفق دراهمه بزيادة بلا منفعة حصلت له، ولا للناس.

فإذا كان هذا مقصودهما فبأي شيء توصلوا إليه حصل الفساد والظلم، مثل أن تواطآ على أن يبيعه ثم يبتاعه، فهذه بيعتان في بيعة، وفي السنن عن النبي ﷺ أنه قال: «من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا» مثل أن يدخل بينهما محللًا يبتاع منه أحدهما ما لا غرض له فيه ليبيعه آكل الربا لموكله في الربا ثم الموكل يرده إلى المحلل بما نقص من الثمن.

وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه «لعن آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه » « ولعن المحلل والمحلل له». ومثل أن يضما إلى الربا نوع قرض، وقد ثبت عن النبي ﷺ «لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك»، خطأ ثم « إن النبي ﷺ نهى عن المزابنة والمحاقلة». وهو اشتراء الثمر والحب بخرص، وكما نهى عن بيع الصبرة من الطعام لا يعلم كيلها بالطعام المسمى؛ لأن الجهل بالتساوي فيما يشترط فيه التساوي كالعلم بالتفاضل، والخرص لا يعرف مقدار المكال، إنما هو حزر وحدس، وهذا متفق عليه بين الأئمة. ثم إنه قد ثبت عنه أنه أرخص في العرايا يبتاعها أهلها بخرصها تمرًا، فيجوز ابتياع الربوي هنا بخرصه، وأقام الخرص عند الحاجة مقام الكيل، وهذا من تمام محاسن الشريعة، كما أنه في العلم بالزكاة وفي المقاسمة أقام الخرص مقام الكيل، فكان يخرص الثمار على أهلها يحصي الزكاة، وكان عبد الله بن رواحة يقاسم أهل خيبر خرصًا بأمر النبي ﷺ، ومعلوم أنه إذا أمكن التقدير بالكيل فعل، فإذا لم يمكن كان الخرص قائمًا مقامه للحاجة كسائر الأبدال في المعلوم والعلامة؛ فإن القياس يقوم مقام النص عند عدمه والتقويم يقوم مقام المثل، وعدم الثمن المسمى عند تعذر المثل والثمن المسمى.

ومن هذا الباب القافة التي هي استدلال بالشبه على النسب، إذا تعذر الاستدلال بالقرائن؛ إذ الولد يشبه والده في الخرص والقافة والتقويم أبدال في العلم كالقياس مع النص، وكذلك العدل في العمل؛ فإن الشريعة مبناها على العدل، كما قال تعالى: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } [3]. { لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } [4].

والله قد شرع القصاص في النفوس والأموال والأعراض بحسب الإمكان فقال تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } [5]. الآية وقال تعالى: { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } [6]. الآية وقال تعالى: { وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [7] الآية وقال تعالى: { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } [8] الآية وقال تعالى: { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ } [9]. الآية فإذا قتل الرجل من يكافئه عمدًا عدوانًا، كان عليه القود، ثم يجوز أن يفعل به مثل ما فعل؛ كما يقوله أهل المدينة ومن وافقهم كالشافعي وأحمد في إحدى الروايتين بحسب الإمكان؛ إذا لم يكن تحريمه بحق الله كما إذا رضخ رأسه كما «رضخ النبي ﷺ رأس اليهودي الذي رضخ رأس الجارية» كان ذلك أتم في العدل بمن قتله بالسيف في عنقه، وإذا تعذر القصاص عدل إلى الدية، وكانت الدية بدلًا لتعذر المثل. وإذا أتلف له مالًا؛ كما لو تلفت تحت يده العارية: فعليه مثله، إن كان له مثل، وإن تعذر المثل كانت القيمة، وهي الدراهم والدنانير، بدلًا عند تعذر المثل، ولهذا كان من أوجب المثل في كل شيء، بحسب الإمكان مع مراعاة القيمة أقرب إلى العدل ممن أوجب القيمة من غير المثل، وفي هذا كانت قصة داود وسليمان. وقد بسطنا الكلام على هذه الأبواب كلها في غير هذا الموضع، وإنما المقصود هنا: التنبيه.

وحينئذ فتجويز العرايا أن تباع بخرصها لأجل الحاجة عند تعذر بيعها بالكيل، موافق لأصول الشريعة مع ثبوت السنة الصحيحة فيه، وهو مذهب أهل المدينة، وأهل الحديث، ومالك جوز الخرص في نظير ذلك للحاجة، وهذا عين الفقه الصحيح. ومذهب أهل المدينة ومن وافقهم كالشافعي، وأحمد في جزاء الصيد: أنه يضمن بالمثل في الصورة، كما مضت بذلك السنة وأقضية الصحابة، فإن في السنن أن النبي ﷺ قضى في الضبع بكبش، وقضت الصحابة في النعامة ببدنة، وفي الظبي بشاة، وأمثال ذلك. ومن خالفهم من أهل الكوفة، إنما يوجب القيمة في جزاء الصيد، وأنه يشتري بالقيمة الأنعام والقيمة مختلفة باختلاف الأوقات.

هامش

  1. [البقرة 276]
  2. [الروم 39]
  3. [الحديد 25]
  4. [البقرة 286]
  5. [البقرة 178]
  6. [المائدة 45]
  7. [الشورى 40]
  8. [البقرة 194]
  9. [النحل 126]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد العشرون - أصول الفقه
اتفاق الرسل في الأصول الاعتقادية | سئل عن معنى إجماع العلماء | فصل في أقوال الصحابة | سئل عن الاجتهاد والاستدلال والتقليد والاتباع | سئل هل كل مجتهد مصيب | فصل في الخطأ المغفور في الاجتهاد | فصل في التفريق في الأحكام قبل الرسالة وبعدها | سئل هل كان البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم مجتهدين أم مقلدين | القلب المعمور بالتقوى إذا رجح بمجرد رأيه فهو ترجيح شرعي | فصل في تعارض الحسنات والسيئات | فصل في الحسنات والعبادات ثلاثة أقسام | قاعدة جامعة في كل واحد من الدين الجامع بين الواجبات وسائر العبادات | فصل في كلام الفقهاء في الطاعات الشرعية والعقلية | فصل في أن الصدق أساس الحسنات وجماعها | فصل أن الحسنات كلها عدل والسيئات كلها ظلم | فصل في العدل القولي والصدق | قاعدة في أن جنس فعل المأمورات أعظم من جنس فعل المنهيات | أعظم الحسنات هو الإيمان بالله ورسوله | أول ذنب عصي الله به | ما يكفر به الشخص عند أهل السنة | الحسنات تذهب بعقوبة الذنوب | تارك المأمور به عليه قضاؤه وإن تركه لعذر | قتل من ترك أركان الإسلام الخمسة | أهل البدع شر من أهل المعاصي الشهوانية | أكثر شرك بني آدم من عدم التصديق بالحق | جوامع تتضمن امتثال المأمور به والوعيد على المعصية بتركه | عامة ما ذم الله به المشركين هو الشرك | خلق الله الخلق لعبادته | مقصود النهي ترك المنهي عنه | المأمور به هو الأمور التي يصلح بها العبد ويكمل | المطلوب بالأمر وجود المأمور به | الأمر أصل والنهي فرع | لم يأمر الله بأمر إلا وقد خلق سببه ومقتضيه في جبلة العبد | فعل الحسنات يوجب ترك السيئات | فعل الحسنات موجب للحسنات أيضا | ترجيح الوجود على العدم إذا علم أنه حسنة | بعث الله الرسل وأنزل الكتب بالكلم الطيب والعمل الصالح | النفي والنهي لا يستقل بنفسه بل لا بد أن يسبقه ثبوت | الحسنات سبب للتحليل دينا وكونا | تنازع الناس في الأمر بالشيء هل يكون أمرا بلوازمه | فصل في تعليل الحكم الواحد بعلتين | فصل في العلتين لا تكونان مستقلتين بحكم واحد حال الاجتماع | فصل في أن العلتين كلا منهما ليس واجبا بنفسه بل مفتقرا إلى غيره | المنحرفون من أتباع الأئمة على أنواع | فصل في المتكلم باللفظ العام لا بد أن يقوم بقلبه معنى عام | قاعدة في تعليل الحسنات | فصل في الإيجاب والتحريم | فصل في التمذهب | سئل عن تقليد بعض العلماء في مسائل الاجتهاد | سئل عمن سئل عن مذهبه فقال إنه محمدي | سئل عن رجل تفقه في مذهب من المذاهب واشتغل بعده بالحديث | سئل هل لازم المذهب مذهب أم لا | سئل عمن لازم مذهبا هل ينكر عليه مخالفته | موالاة علماء المسلمين | أعذار العلماء في الخطأ في الأحكام | المجتهد ودخوله تحت أحكام الوعيد | سئل عن الشيخ عبد القادر والإمام أحمد | سئل عن صحة أصول مذهب أهل المدينة | والكلام في إجماع أهل المدينة ومراتبه | حديث أهل المدينة أصح حديث أهل الأمصار | موقف أهل المدينة من الكلام والرأي | مالك أقوم الناس بمذهب أهل المدينة | أصول مالك وأهل المدينة أصح الأصول | قواعد توضح أن جملة مذاهب أهل المدينة راجحة في الجملة على المذاهب | مذهب أهل المدينة في المحرم لكسبه | فصل في أنواع الكسب | مذهب أهل المدينة في مسائل العبادات | مذهب أهل المدينة في مسائل النكاح | مذهب أهل المدينة في العقوبات والأحكام | فصل في مذهب أهل المدينة في الأحكام | فصل نسخ القرأن بالسنة | فصل في الحقيقة والمجاز | فصل في ألفاظ لا تستعمل إلا مقرونة | فصل في تسمية أهل الأمصار الحقيقة والمجاز | فصل في حجة نفاة المجاز | فصل في حجة أخرى لنفاة المجاز | فصل في رد ابن عقيل على من تكلف وجعل المجاز حقيقة | فصل في أصول العلم والدين | سئل عن القياس | فصول عن القياس | فصل أن الإجارة خلاف القياس | فصل في قول من يقول حمل العقل على خلاف القياس | فصل في الأحكام التي يقال عنها أنها خلاف القياس | فصل في قولهم إن المضي في الحج الفاسد على خلاف القياس | فصل في حجة من قال إن الأكل ناسيا على خلاف القياس | فصل في موقف الصحابة من القياس | سئل هل يسوغ تقليد هؤلاء الأئمة كحماد بن أبي سليمان وابن المبارك وسفيان الثوري والأوزاعي