→ مذهب أهل المدينة في مسائل النكاح | مجموع فتاوى ابن تيمية مذهب أهل المدينة في العقوبات والأحكام ابن تيمية |
فصل في مذهب أهل المدينة في الأحكام ← |
مذهب أهل المدينة في العقوبات والأحكام
وأما العقوبات والأحكام فمذهب أهل المدينة أرجح من مذهب أهل الكوفة من وجوه:
أحدها: أنهم يوجبون القود في القتل بالمثقل كما جاءت بذلك السنة وكما تدل عليه الأصول. بل بالغ مالك حتى أنكر الخطأ شبه العمد، وخالفه غيره في ذلك لهجر الشبه، لكنه في الحقيقة نوع من الخطأ امتاز بمزيد حكم فليس هو قسما من الخطأ المذكور في القرآن.
ومن ذلك مسألة قتل المسلم بالكافر والذمي والحر بالعبد للناس فيه ثلاثة أقوال: أحدها: يقتل به بكل حال؛ كقول أبي حنيفة وأصحابه. والثاني: لا يقتل به بحال كقول الشافعي وأحمد في أحد القولين. والثالث: لا يقتل به إلا في المحاربة؛ فإن القتل فيها حد لعموم المصلحة فلا تتعين فيه المكافأة بل يقتل فيه الحر وإن كان المقتول عبدا؛ والمسلم وإن كان المقتول ذميا. وهذا قول أهل المدينة والقول الآخر لأحمد وهو أعدل الأقوال وفيه جمع بين الآثار المنقولة في هذا الباب أيضا. ومذهب مالك في المحاربين وغيرهم إجراء الحكم على الردء والمباشر كما اتفق الناس على مثل ذلك في الجهاد. ومن نازعه في هذا سلم أن المشتركين في القتل يجب عليهم القود فإنه متفق عليه من مذهب الأئمة. كما قال عمر: «لو تمالأ أهل صنعاء لقتلتهم به» فإن كانوا كلهم مباشرين فلا نزاع وإن كان بعضهم غير مباشر لكنه متسبب سببا يفضي إلى القتل غالبا كالمكره وشاهد الزور إذا رجع والحاكم الجائر إذا رجع فقد سلم له الجمهور على أن القود يجب على هؤلاء. كما قال علي رضي الله عنه في الرجلين اللذين شهدا على رجل أنه سرق فقطع يده ثم رجعا وقالا: أخطأنا قال: «لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما» فدل على قطع الأيدي باليد وعلى وجوب القود على شاهد الزور. والكوفيون يخالفون في هذين وعمر بن الخطاب رضي الله عنه جعل رقبة المحاربين بينهم ومعلوم أن قول من جعل المتعاونين على الإثم والعدوان مشتركين في العقوبة أشبه بالكتاب والسنة لفظا ومعنى ممن لم يوجب العقوبة إلا على نفس المباشر. ومن ذلك أهل المدينة يتبعون ما خطب به عمر بن الخطاب على منبر رسول الله ﷺ حيث قال: «الرجم في كتاب الله حق على كل من زنى من الرجال والنساء إذا أحصن وقامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف». كذلك يحدون في الخمر بما إذا وجد سكرانا أو تقيأ؛ أو وجدت منه الرائحة ولم يكن هناك شبهة وهذا هو المأثور عن النبي ﷺ وخلفائه الراشدين كعمر وعثمان وعلي. وأبو حنيفة والشافعي لا يرون الحد إلا بإقرار أو بينة على الفعل وزعموا أن ذلك شبهة وعن أحمد روايتان. ومعلوم أن الأول أشبه لسنة رسول الله ﷺ وسنة خلفائه الراشدين وهو حفظ لحدود الله تعالى التي أمر الله بحفظها والشبهة في هذا كالشبهة في البينة والإقرار الذي يحتمل الكذب والخطأ.
ومن ذلك أن أهل المدينة يرون العقوبات المالية مشروعة حيث مضت بها سنة رسول الله ﷺ وسنة خلفائه الراشدين كما أن العقوبات البدنية مشروعة حيث مضت بها السنة، وقد أنكر العقوبات المالية من أنكرها من أهل الكوفة ومن اتبعهم وادعوا أنها منسوخة، ومن أين يأتون على نسخها بحجة؟ وهذا يفعلونه كثيرا إذا رأوا حديثا صحيحا يخالف قولهم. وأما علماء أهل المدينة وعلماء الحديث فرأوا السنن والآثار قد جاءت بالعقوبات المالية كما جاءت بالعقوبات البدنية: مثل كسر دنان الخمر؛ وشق ظروفها؛ وتحريق حانوت الخمار. كما صنع موسى بالعجل، وصنع النبي ﷺ بالأصنام، وكما أمر عليه السلام عبد الله بن عمرو بتحريق الثوبين المعصفرين، وكما أمرهم عليه السلام بكسر القدور التي فيها لحم الحمر ثم أذن لهم في غسلها، وكما ضعف القود على من سرق من غير الحرز، وفي حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب غرم الضالة المكتومة وضعف ثمن دية الذمي المقتول عمدا.
وكذلك مذهبهم في العقود والديات من أصح المذاهب فمن ذلك دية الذمي فمن الناس من قال: ديته كدية المسلم؛ كقول أبي حنيفة. ومنهم من قال: ديته ثلث دية المسلم؛ لأنه أقل ما قيل؛ كما قاله الشافعي. والقول الثالث: أن ديته نصف دية المسلم وهذا مذهب مالك وهو أصح الأقوال؛ لأن هذا هو المأثور عن النبي ﷺ كما رواه أهل السنن: أبو داود وغيره عن النبي ﷺ.
ومن ذلك العاقلة تحمل جميع الدية كما يقول الشافعي؛ أو تحمل المقدرات كدية الموضحة والأصابع فما فوقها كما يقوله أبو حنيفة؛ أو تحمل ما زاد على الثلث وهو مذهب مالك وهذا الثالث هو المأثور وهو مذهب أحمد، وفي الثلث قولان في مذهب مالك وأحمد.
ويذكر أنه تناظر مدني وكوفي فقال المدني للكوفي: قد بورك لكم في الربع كما تقول: يمسح ربع الرأس، ويعفى عن النجاسة المخففة عن ربع المحل، وكما تقولونه في غير ذلك. فقال له الكوفي: وأنتم بورك لكم في الثلث كما تقولون: إذا نذر صدقة ماله أجزأه الثلث، وكما تقولون: العاقلة تحمل ما فوق الثلث، وعقل المرأة كعقل الرجل إلى الثلث فإذا زادت كانت على النصف وأمثال ذلك.
وهذا صحيح؛ ولكن يقال للكوفي: ليس في الربع أصل لا في كتاب الله ولا سنة رسوله. وإنما قالوا: الإنسان له أربع جوانب ويقال: رأيت الإنسان إذا رأيت أحد جوانبه وهي أربعة فيقام الربع مقام الجميع. وأما الثلث فله أصل في غير موضع من سنة رسول الله ﷺ، فإنه قد ثبت بالسنة الصحيحة واتفاق المسلمين أن المريض له أن يوصي بثلث ماله لا أكثر؛ كما أمر به النبي ﷺ سعد بن أبي وقاص لما عاده في حجة الوداع؛ وكما ثبت في الصحيح في الذي أعتق ستة مملوكين له عند موته فجزأهم النبي ﷺ ثلاثة أجزاء فأعتق اثنين وأرق أربعة؛ وكما روي أنه قال لأبي لبابة: «يجزيك الثلث» وكما في غير ذلك فأين هذا من هذا؟ وما في هذا الحديث يقول به أهل المدينة.
والقرعة فيها آية من كتاب الله وستة أحاديث عن النبي ﷺ منها هذا الحديث. ومنها قوله: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ولم يجدوا إلا أن يستهموا عليه»، ومنها: «إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه»، ومنها: أن الأنصار كانوا يستهمون على المهاجرين لما هاجروا إليهم، ومنها في المتداعيين اللذين أمرهما النبي ﷺ أن يستهما على اليمين حبا أم كرها، ومنها: في اللذين اختصما في مواريث درست فقال لهما: «توخيا الحق واستهما وليحلل كل منكما صاحبه». والقرعة يقول بها أهل المدينة ومن وافقهم كالشافعي وأحمد وغيرهما، ومن خالفهم من الكوفيين لا يقول بها؛ بل نقل عن بعضهم أنه قال: القرعة قمار وجعلوها من الميسر.
والفرق بين القرعة التي سنها رسول الله ﷺ وبين الميسر الذي حرمه ظاهر بين؛ فإن القرعة إنما تكون مع استواء الحقوق وعدم إمكان تعيين واحد وعلى نوعين: أحدهما: أن لا يكون المستحق معينا كالمشتركين إذا عدم المقسوم فيعين لكل واحد بالقرعة، وكالعبيد الذين جزأهم النبي ﷺ ثلاثة أجزاء، وكالنساء اللاتي يريد السفر بواحدة منهن فهذا لا نزاع بين القائلين بالقرعة أنه يقرع فيه. والثاني: ما يكون المعين مستحقا في الباطن كقصة يونس، والمتداعيين، وكالقرعة فيما إذا أعتق واحدا بعينه ثم أنسيه، وفيما إذا طلق امرأة من نسائه ثم أنسيها أو مات: أو نحو ذلك. فهذه القرعة فيها نزاع وأحمد يجوز ذلك دون الشافعي.
هامش