→ فصل في الحقيقة والمجاز | مجموع فتاوى ابن تيمية فصل في ألفاظ لا تستعمل إلا مقرونة ابن تيمية |
فصل في تسمية أهل الأمصار الحقيقة والمجاز ← |
فصل في ألفاظ لا تستعمل إلا مقرونة
إذا تبين هذا فيقال له: هذه الأسماء التي ذكرتها مثل لفظ الظهر والمتن والساق والكبد لا يجوز أن تستعمل في اللغة إلا مقرونة بما يبين المضاف إليه، وبذلك يتبين المراد.
فقولك: ظهر الطريق ومتنها، ليس هو كقولك: ظهر الإنسان ومتنه، بل ولا كقولك: ظهر الفرس ومتنه، ولا كقولك: ظهر الجبل.
وكذلك كبد السماء مثل كبد القوس، ولا هذأن مثل لفظ كبد الإنسان.
وكذلك لفظ السيف في قول النبى ﷺ: «إن خالدا سيف سله الله على المشركين» ليس هذا لفظ السيف في قوله: «من جاءكم وأمركم على رجل وأحد يريد أن يفرق جماعتكم فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان» فكل من لفظ السيف ههنا وههنا مقرون بما يبين معناه.
نعم! قد يقال: التشابه بين معنى الرسول والرسول اتم من التشابه بين معنى الكبد والكبد، والسيف والسيف. فيقال: هذا القدر الفارق دل عليه اللفظ المختص؛ كما في قوله: { وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ } [1] وفي قوله: { طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ } [2] وقوله: { لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ } [3] وقول النبى ﷺ: «من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة»، ومعلوم أن بيت العنكبوت ليس مماثلا في الحقيقة لبيته ولا لبيت النبى ﷺ ولا لبيت في الجنة؛ مع أن لفظ البيت حقيقة في الجميع؛ بلا نزاع اذ كان المخصص هو الإضافة في بيت العنكبوت، وبيت النبى دل على سكنى صاحب البيت فيه، وبيت الله لا يدل على أن الله ساكن فيه لكن اضافة كل شيء بحسبه، بل بيته هو الذي جعله لذكره وعبادته ودعائه، فهو كمعرفته بالقلوب وذكره باللسان، وكل موجود فله وجود عيني، وعلمي، ولفظي، ورسمي، واسم الله يراد به كل من هذه الاربعة في كلام الرسول ﷺ وكلام الله.
فإذا قال: { أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا } [4] فهو الله نفسه، وإذا قال: «لا يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى احبه فإذا احببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشى بها فبى يسمع وبى يبصر وبى يبطش وبى يمشى» وقوله: «عبدى مرضت فلم تعدنى فيقول ربى كيف اعودك وأنت رب العالمين فيقول أما علمت أن عبدى فلانا مرض فلو عدته لوجدتنى عنده». فالذي في قلوب المؤمنين هو الأيمان بالله ومعرفته ومحبته، وقد يعبر عنه بالمثل الأعلى، والمثال العلمى، ويقال: أنت في قلبى كما قيل:
مثالك في عيني وذكرك في فمي ** ومثواك في قلبي فأين تغيب
ويقال:
ساكن في القلب يعمره ** لست أنساه فاذكره
وما ينقل عن دأود عليه السلام أنه قال: «أنت تحل قلوب الصالحين» فمعلوم أن هذا كله لم يرد به أن نفس المذكور المعلوم المحبوب المعبر عنه بالمثال العلمى وقد قال النبي ﷺ يقول: «الله تعالى أنا مع عبدي ما ذكرنى وتحركت بي شفتاه» فقوله: بي أراد أنها تتحرك باسمه لم تتحرك بذاته، ولا ما في القلب هنا ذاته.
وفي الصحيح عن أنس «أن نقش خاتم النبى ﷺ كان ثلاثة اسطر الله سطر ورسول سطر ومحمد سطر»، فمعلوم أن مراده بلفظ الله هو النقش المنقوش في الخاتم؛ المطابق للفظ الدال على المعنى المعروف بالقلب، المطابق للموجود في نفس الأمر.
فهذه الأسماء العائدة إلى الله تعالى في كل موضع اقترن بها ما بين المراد ولم يكن في شيء من ذلك التباس، فكذلك لفظ بيته. وقلنا: المساجد بيوت الله، فيها ما بنى للقلوب والالسنة من معرفته والأيمان به وذكره ودعائه والأنوار التي يجعلها في قلوب المؤمنين، كما في قوله تعالى: { اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [5] ثم قال: { مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ } [6] إلى قوله: { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ } [7] فبين أن هذا النور في هذه القلوب وفي هذه البيوت كما جاء في الأثر: «أن المساجد تضى لأهل السموات كما تضىء الكواكب لأهل الأرض».
وإذا كان كذلك؛ فقول القائل: لو كانت هذه الأسماء حقيقة فيما ذكر لكان اللفظ مشتركا. يقال له: ما تعني باللفظ المشترك؟ تعني به ما هو الاشتراك االلفظي، وهو مذكور في كتابك؟ حيث قلت في تقسيم الألفاظ الاسم إما أن يكون وأحدا، أو متعددا. فإن كان وأحدا فمفهومه ينقسم على وجوه. القسمة الأولى: أنه إما أن يكون بحيث يصح أن يشترك في مفهومه أو لايصح. فإن كان الأول فهو طلبي. وذكر تمامه بكلام بعضه حق وبعضه باطل اتبع فيه المنطقيين. ثم قال: أما إن كان مفهومه غير صالح لاشتراك كثيرين فيه فهو الجزئي، وذكر أنه العلم خاصة؛ وقسمه تقسيم النحاة.
ثم قال: وأما إن كان الاسم وأحدا والمسمى مختلفا: فإما أن يكون موضوعا على الكل حقيقة بالوضع الأول، أو هو مستعار في بعضها. فإن كان الأول فهو المشترك وسواء كانت المسميات متباينة كالجون للسواد والبياض، أو غير متباينة كما إذا أطلقنا اسم الأسود على شخص بطريقة العلمية وبطريق الاشتقاق من السواد، وإن كان الثاني فهو مجاز. فإن أردت هذا فالمشترك هو الاسم الوأحد الذي يختلف مسماه ويكون موضوعا على الكل حقيقة بالوضع الأول، وتقسيم هذا أن يكون المسمى وأحدا، ويكون كليا وجزئيا كما ذكرته.
وحينئذ فيقال لك: لانسلم أن هذه الأسماء إذا كانت حقيقة فيما ذكر من الصور كان اللفظ مشتركا، وذلك لأن هذا التقسيم أنما يصح في وأحد يكون معناه أما وأحدا وأما متعددا، ونحن لا نسلم أن مورد النزاع داخل فيما ذكرته، فإنما يصح هذا إذا كان اللفظ وأحدا في الموضعين؛ وليس الأمر كذلك، فإن اللفظ المذكور في محل النزاع هو لفظ ظهر الطريق ومتنها وجناح السفر ونحو ذلك، وهذا اللفظ ليس له الا معنى وأحد؛ ليس معناه متعددا مختلفا؛ بل حيث وجد هذا اللفظ كان معناه وأحدا كسائر الأسماء.
فإن قلت: لكن لفظ الظهر والمتن والجناح يوجد له معنى غير هذا.
قيل: لفظ ظهر الطريق وجناحها ليس هو لفظ ظهر الإنسان وجناح الطائر ولا اجنحة الملائكة، ولفظ الظهر والطريق معرف باللام الدالة على معروف يدل اللفظ عليه، وهو ظهر الإنسان مثلا؛ ليس هو مثل لفظ الطريق، بل هذا اللفظ مغاير لهذا اللفظ. فلا يجوز أن يقال: اللفظ في موضع وأحد، بل أبلغ من هذا أن لفظ الظهر يستعمل في جميع الحيوان حقيقة بالإتفاق، ومع هذا فكثير من الناس قد لا يسبق إلى ذهنهم إلا ظهر الإنسان، لايخطر بقلبه ظهر الكلب، ولا ظهر الثعلب والذئب وبنات عرس، وظهر النملة والقملة؛ وذلك لأن ظهر الإنسان هو الذي يتصورونه، ويعبرون عنه كثيرا في عامة كلامهم معرفا باللام؛ ينصرف إلى الظهر المعروف.
ولهذا كانت الأيمان عند الفقهاء تنصرف إلى ما يعرفه المخاطب بلغته، وأن كان اللفظ يستعمل في غيره حقيقة أيضا، كما إذا حلف لا ياكل الرؤوس، فأما أن يراد به رؤوس الأنعام؛ أو رؤوس الغنم؛ أو الرأس الذي يؤكل في العادة، وكذلك لفظ البيض؛ يراد به البيض الذي يعرفونه،. فأما رأس النمل والبراغيث ونحو ذلك فلا يدخل في اللفظ ولا يدخل بيض السمك في اليمين، وإن كان ذلك حقيقة إذا قيل: بيض النمل وبيض السمك بالإضافة.
وكذلك إذا قال: بعتك بعشرة دراهم أو دنانير انصرف الإطلاق إلى ما يعرفونه من مسمى هذا اللفظ في مثل ذلك العقد في ذلك المكان حتى إنه في المكان الوأحد يكون لفظ الدينار يراد به ثمن بعض السلع الذهب الخالص؛ وفي سلعة اخرى ذهب مغشوش؛ وفي سلعة اخرى مقدار من الدراهم، فيحمل العقد المطلق على ما يعرفه المتبايعأن باتفاق الفقهاء وأن كان اللفظ أنما يستعمل في غيره بما يبين معناه، فكيف إذا كان نفس اللفظ متغايرا؟ كلفظ ظهر الإنسان! وظهر الطريق، ورأس الإنسان، ورأس الدرب، ورأس المال، أو رأس العين، أو قيد أحدهما بالتعريف كلفظ الظهر؛ وقيد الاخر بالإضافة؛ وكان اللام يوجب أرادة المعروف عند المخاطب؛ والإضافة توجب الاختصاص بالمضاف إليه. فالمعروف باللام ليس هو المعرف بالإضافة لا لفظا ولا معنى.
وقد يكون التعريف باللام في الموضعين ومع هذا يختلف المعنى، كما في لفظ الرسول؛ لأن جزء الدلالة معرفة المخاطب، وهو حقيقة في الموضعين: فكيف يكون تعريف الإضافة مع نعريف اللام؟ فقد تبين أنه ليس اللفظ الدال على ظهر الإنسان هو اللفظ الدال على ظهر الطريق، وحينئذ فلا يلزم من اختلاف معنى اللفظين أن يكون مشتركا لأن الاشتراك لايكون في لفظ وأحد اختلف معناه؛ وليس الأمر كذلك.
فإن قيل: فهذا يوجب أن لايكون في اللغة لفظ مشترك اشتراكا لفظيا؛ فإن اللفظ المشترك لا يستعمل الا مقرونا بما يبين أحد المعنيين. قيل: إما أن يكون هذا لازما؛ وإما أن لا يكون. فإن لم يكن لازما بطل السؤال؛ وأن كان لازما التزامنا قول من ينفي الاشتراك، إذا كان الأمر كذلك، كما يلتزم قول من ينفي المجاز.
فإن قيل: كيف تمنعون ثبوت الاشتراك، وقد قام الدليل على وجوده؟
قيل: لا نسلم أنه قام دليل على وجوده على الوجه الذي ادعوه وصاحب الكتاب أبي الحسين الآمدي يعترف بضعف أدلة مثبتيه؛ وقد ذكر لنفسه دليلا هو اضعف مما ذكره غيره؛ فإنه قال: في مسائله المسألة الأولى: اختلف الناس في اللفظ المشترك: هل له وجود في اللغة؟ فأثبته قوم ونفاه آخرون. قال: والمختار جواز وقوعه؛ أما الخطابي العقلي فلا يمتنع من واضع واحد، وإن يتفق وضع قبيلة للاسم على معناه ووضع أخرى له بازاء معنى آخر من غير شعور كل واحدة بما وضعت الأخرى، ثم يشتهر الوضعأن لخفاء سببه، قال: وهو الأشبه.
قال: وأما بيأن الوقوع أنه لو لم تكن الألفاظ المشتركة واقعة في اللغة مع أن المسببات غير متناهية؛ والأسماء متناهية ضرورة تركيبها من الحروف المتناهية؛ لخلت أكثر المسميات عن ألفاظ الأسماء الدالة عليها مع الحاجة إليها. وهو ممتنع، قال: وهو غير سديد من حيث أن الأسماء إن كانت مركبة من الحروف المتناهية فلا يلزم أن تكون متناهية إلا أن يكون ما يحصل من تضاعف التركيبات متناهية، فلا نسلم أن المسميات المتضادة والمختلفة وهى التي يكون اللفظ مشتركا بالنسبة إليها غير متناهية وأن كانت غير متناهية، غير أن وضع الأسماء على مسمياتها مشروط بكون كل وأحد من المسميات مقصودا بالوضع، وما لأنهاية له مما يستحيل فيه ذلك، وإن سلمنا أنه غير ممتنع؛ ولكن لا يلزم من ذلك الوضع.
ولهذا ياتى كثير من المعانى لم تضع العرب بازائها ألفاظا تدل عليها بطريق الاشتراك ولا التفضيل، كأنواع الروائح وكثير من الصفات.
قال: وقال أبو الحسين البصرى: أطلق أهل اللغة اسم القرء على الحيض والطهر، وهما ضدان؛ فدل على وقوع الاسم المشترك في اللغة.
قال: ولقائل أن يقول: القول بكونه مشتركا غير منقول عن أهل الوضع، بل غاية الموضوع اتحاد الاسم وتعدد المسمى، ولعله أطلق عليها باعتبار معنى واحد مشترك بيتهما لا باعتبار اختلاف حقيقتهما، أو أنه حقيقة في أحدهما مجاز في الأخرى وإن خفي علينا موضع الحقيقة والمجاز. وهذا هو الأولى، أما بالنظر إلى الاحتمال الأول فلما فيه من نفي التجوز والاشتراك، وأما بالنظر إلى الاحتمال.
الثاني: فلأن التجوز أولى من الاشتراك كما يأتي في موضعه.
قال: والأقرب من ذلك اتفاق إجماع الكل على إطلاق اسم الوجود على القديم والحادث حقيقة، ولو كان مجازا في أحدهما لصح نفيه إذ هي أمارة المجاز؛ وهو ممتنع، وعند ذلك فأما أن يكون اسم الوجود دالا على ذات الرب؛ أو على حقيقة زائدة على ذاته.
فإن كان الأول فلا يخفى أن ذات الرب مخالفة بذاتها لما سواها من الموجودات الحادثة، وإلا لوجب الاشتراك بينها وبين ما شاركها في معناها في الوجوب؛ ضرورة التسأوى في مفهوم الذات، وهو محال.
وأن كان مدلول اسم الوجود صفة زائدة على ذات الرب تعالى: فإما أن يكون المفهوم منها هو المهوم من اسم الوجود في الحوادث، وإما خلافه فالأول يلزم منه أن يكون مسمى الوجود في الوجود واجبا لذاته؛ ضرورة أن وجود الباري واجب لذاته؛ أو أن يكون وجود الرب ممكنا؛ ضرورة امكان وجود ما سوى الله؛ وهو محال. وإن كان الثاني لزم منه الاشتراك؛ وهو المطلوب.
فهذا في دليله وهو في غاية الضعف؛ فإنه مبنى على مقدمتين: على أن اسم الوجود حقيقة في الواجب والممكن؛ وأن ذلك يستلزم الاشتراك.
والمقدمة الثانية باطلة قطعا.
والأولى فيها نزاع؛ خلاف ما دعاه من الإجماع.
فمن الناس من قال: إن كل اسم تسمى به المخلوق لا يسمى به الخالق الا مجازا، حتى لفظ الشيء، وهو قول جهم ومن وافقه من الباطنية، وهؤلاء لا يسمونه موجودا ولا شيئا؛ ولا غير ذلك من الأسماء.
ومن الناس من عكس، وقال: بل كلما يسمى به الرب فهو حقيقة؛ ومجاز في غيره. وهو قول أبي العباس الناشي من المعتزلة.
والجمهور قالوا: إنه حقيقة فيهما؛ لكن أكثرهم قالوا: أنه متواطىء التواطىء العام؛ أو مشككا أن جعل المشكك نوعا آخر؛ وهو غير التواطىء الخاص الذي تتماثل معانيه في موارد ألفاظه. وإنما جعله مشتركا شرذمة من المتاخرين، لا يعرف هذا القول عن طائفة كبيرة ولا نظار مشهورين.
ومن حكى ذلك عن الاشعرى كما حكاه الرازي فقد غلط؛ فإن مذهب الرجل وعامة أصحابه: أن الوجود اسم عام ينقسم: إلى قديم وحادث، ولكن مذهبه أن وجود كل شيء عين ماهيته، وهذا مذهب جماهير العقلاء من المسلمين وغيرهم، فظن الظأن أن هذا يستلزم أن يكون اللفظ مشتركا كما احتج به الآمدي، وذلك غلط كما قد بسطناه في موضعه، وهو يتبين بالكلام على حجته.
وقوله: أما أن يكون اسم الوجود دالا على الذات؛ أو على صفة زائدة على الذات.
يقال له: أتريد به لفظ الوجود العام به لفظ الوجودالعام المنقس إلى واجب وممكن؛ أم لفظ الوجود الخاص؟ كما يقال: وجود الواجب ووجود الممكن؛ فإنه من المعلوم أن الأسماء التي يسمى بها الرب وغيره بل كل مسميين تارة تعتبر مطلقة عامة تتناول النوعين؛ وتارة تعتبر مقيدة بهذا المسمى.
ولفظ الحي، والعليم، والقدير، والسميع، والبصير، والموجود، والشيء، والذات إذا كان عاما يتناول الواجب، وإذا قيل: { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ } [8] { اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } [9] { وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } [10]، ونحو ذلك مما يختص بالرب لم يتناول ذلك الخلوق كما إذا قيل: { يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ } [11] لم يدخل الخالق في اسم هذا الحي.
وكذلك إذا قيل: العلم، والقدرة، والكلام، والاستواء، والنزول، ونحو ذلك: تارة يذكر مطلقا عاما؛ وتارة يقال: علم الله وقدرته، وكلامه، ونزوله، واستواؤه، فهذا يختص بالخالق؛ لا يشركه فيه المخلوق. كما إذا قيل: علم المخلوق، وقدرته، وكلامه، ونزوله، واستواؤه، فهذا يختص بالمخلوق ولا يشركه فيه الخالق. فالإضافة أو التعريف خصص وميز وقطع الاشتراك بين الخالق والمخلوق.
وكذلك إذا قيل: لفظ الوجود مطلقا، وقيل: وجود الواجب ووجود الممكن، فهذه ثلاثة معان. فإذا قيل: وجود العبد وذاته وماهيته وحقيقته كان ذلك مختصا به؛ دالا على ذاته المختصة به المتصفة بصفاته.
وكذلك إذا قيل: وجود الرب ونفسه، وذاته، وماهيته، وحقيقته كان دالا على ما يختص بالرب، وهو نفسه المتصفة بصفاته.
فقوله: اسم الوجود إما أن يكون دالا على ذات الرب، أو صفة زائدة. يقال له: إن أردت لفظ الوجود المطلق العام الذي يتناول الواجب والممكن. فهذا لا يدل على ما يختص بالواجب ولا على ما يختص بالممكن؛ بل يدل على المشترك الكلي والمشترك الكلي أنما يكون مشتركا كليا في الذهن واللفظ، وإلا فليس في الخارج شيء هو نفسه كلي مع كونه في الخارج.
وهذا كما إذا قيل: الذات والنفس ؛بحيث يعم الواجب والممكن فإنما يدل على المعنى العام الكلي لا على ما يختص بواحد منهما، كما إذا قيل: الوجود ينقسم إلى: واجب؛ وممكن. والذات تنقسم: إلى واجب؛ وممكن ونحو ذلك. وأما إن أريد بالوجود ما يعمهما جميعا كما إذا قيل: الوجود كله واجبه وممكنه، أو الوجود الواجب والممكن فهنا يدل على ما يختص بكل منهما، كما إذا قيل: وجود الواجب ووجود الممكن.
ففي الجملة اللفظ: إما أن يدل على المشترك فقط كالوجود المنقسم أو على المميز فقط كقول: وجود الواجب؛ وقول: وجود الممكن، أو عليها كقولك: الوجود كله واحبه وممكنه؛ والوجود الواجب والممكن. وعلى كل تقدير فلا يلزم الاشتراك.
وقوله: إذا كان دالا على ذات الرب فذاته مخالفة لما سواها من الموجودات. يقال: لفظ الوجود المطلق المنقسم لا يدل على ما يختص بالرب، وأما لفظ الوجود الخاص لوجود الرب أو العام كقولنا: الوجود الواجب والممكن ونحو ذلك، فهذا يدل على ما يختص بذات الرب وأن كان مخالفا لذات غيره، كما أن لفظ ذات الرب وذات العبد تدل على ما يختص بالرب وبالعبد؛ وإن كان حقيقة هذا مخالفا لحقيقة هذا، فكذلك لفظ الوجود يدل عليهما مع اختلاف حقيقة الموجودين.
فإن قيل: إذا كان حقيقة هذا الوجود يخالف حقيقة هذا الوجود كان اللفظ مشتركا. قيل: هذا غلط منه نشأ غلط هذا وأمثاله؛ وذلك أن جميع الحقائق المختلفة تتفق في اسماء عامة تتناول بطريق التواطىء والتشكيك، كلفظ اللون؛ فإنه يتناول السواد والبياض والحمرة مع اختلاف حقائق الألوان.
وكذلك لفظ الصفة والعرض والمعنى يتناول العلم، والقدرة، والحياة، والطعم، واللون، والريح، مع اختلاف حقائق الألوان.
وكذلك لفظ الحيوان يتناول الإنسان والبهيمة مع اختلاف حقائقهما فلفظ الوجود أولى بذلك.
وذلك أن هذه الحقائق المختلفة قد تشترك في معنى عام يشملها؛ ويكون اللفظ دالا على ذلك المعنى كلفظ اللون، ثم بالتخصيص يتناول ما يختص بكل واحد، كما يقال: لون الأسود ولون الأبيض. وقيل: وجود الرب ووجود العبد، ولو تكلم بالاسم العام المتناول لأفراده، كما إذا قيل: اللون أو الألوان أو الحيوان، والعرض، أو الوجود يتناول جميع ما دخل في اللفظ، وأن كانت حقائق مختلفة لشمول اللفظ لها كسائر الألفاظ العامة، وإن كانت أفرادها تختلف باعتبار آخر من جهة اللفظ العام.
وأيضا فقوله: إن كان مدلول اسم الوجود صفة فإن كان المفهوم واحدا في الواجب والممكن لزم كون الواجب ممكنا، والممكن واجبا وإلا لزم الاشتراك.
يقال له: أتعنى مدلول الاسم الوجود المطلق، أو المقيد المضاف؟ كما إذا قيل: وجود الواجب، ووجود الممكن؟ فإن عنيت الأول فالمفهوم واحد ولا يلزم تماثلهما في الموضعين؛ وإن كان ما في الذهن من معنى الوجود مماثلا لا يلزم أن يكون ما في الخارج منه متماثلا.
وأنما يلزم أن يطابق الاثنين ويعمهما فقط، كسائر الألفاظ المتواطئة المشككة، إذا قيل: السواد شارك سواد القار والحبر مع عدم تماثلهما، وإذا قيل: الأبيض والأحمر ونحو ذلك يتناول الكامل والناقص، وكذلك اسم الحى يتناول حياة الملائكة، وحياة أهل الجنة، وحياة الذباب، والبعوض مع عدم تماثلهما، فكيف يكون وجود الرب، أو علمه، أو قدرته مماثلا لوجود المخلوق وعلمه وقدرته؟ إذ يشملها اسم الوجود المطلق، أو العلم المطلق، أو القدرة المطلقة.
وإن قال: بل اعنى به الوجود المقيد مثل قولنا: وجود الواجب ووجود الممكن.
قيل: هنا المفهوم يختلف؛ لاختصاص كل منهما بلفظ قيد به الوجود وهو الإضافة، فهذه الإضافة المقيدة تمنع التماثل، ولا يلزم من ذلك الاشتراك اللفظي، فإن الاختلاف هنا يحصل في نفس لفظ الوجود؛ بل الإضافة الزائدة على اللفظ والإضافة أو التعريف كقولنا: وجود الرب أو وجود الواجب، ووجود المخلوق، أو وجود الممكن ونحو ذلك.
فهذا الذي احتج به على الاشتراك فيما يسمى به الرب والعبد يلزم منه الاشتراك في سائر الأسماء العامة، وهي من جنس الحجة التي احتج بها على المجاز حيث قال: إن كان اللفظ حقيقة في الموضعين لزم الاشتراك؛ وهو غلط؛ فإن الذي دل على خصوص هذا المعنى ليس هو الذي دل على خصوص ذاك، بل الزائد على اللفظ. فإذا قيل: وجود الرب ووجود العبد فهو من جنس ظهر الإنسان وظهر الفرس، كما تقول ظهر الإنسان وظهر الطريق، يعنى جميع هذه المواضع الدال على ما يخالف به هذا هو مما يختص بكل موضع، لا مجرد اللفظ المشترك، بل المشترك يدل على المشترك، والمختص يدل على المختص، وهذا يقتضى أن بين الظهرين جهة اتفاق وافتراق وكذلك بين الوجودين جهة اتفاق وافتراق، وهو الذي يعنى به الاشتراك والامتياز، لكن بعض الناس يظن أن المشترك بينهما موجود في الخارج مشتركا بينهما؛ وذلك غلط، بل كل وأحد مختص بالخارج ولكن الذهن يأخذ منهما قدرا مشتركا كليا، ويقال: هما مشتركان في الوجود والحيوانية والإنسانية، كما قال تعالى: { وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ } [12] وقال: { فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ } [13] فالعذاب الذي يصيب الاخر هو نظيره، وهو من حنسه اشتراكا في جنس العذاب، ليس في الخارج شيء بعينه يشتركان فيه، ولكن اشتركا في العذاب الخاص. بمعنى: أن كل واحد له منه نصيب كالمشتركين في العقار ونحو ذلك.
الجواب السادس: أن يقال: منع المقدمة الثانية قوله: لوكان مشتركا لما سبق إلى الفهم عندإطلاق هذه الألفاظ البعض دون البعض ضرورة التساوى في الدلالة الحقيقة. ولا شك أن السابق إلى الفهم منإطلاق لفظ الأسد إنما هوالسبع، ومن إطلاق لفظ الحمار إنما هوالبهيمة وكذلك ما في الضرورة.
فيقال: إطلاق لفظ الأسد والحمار المعرف بالالف واللام ينصرف إلى ما يعرفة المتكلم أوالمخاطب، وإذا كان المعرف هوالبهيمة انصرف إليها، وهذا هو المعروف عند أكثر الناس في أكثر الأوقات، ولا يلزم من ذلك إذا كان معرفا يوجب أنصرافه إلى البليد والشجاع، ولا يكون حقيقة أيضا، كقول أبي بكر: لاها الله إذا لا يعمد إلى أسد من أسد يقاتل عن الله ورسوله يعطيك سلبه. وكما اشير إلى شخص وقيل: هذا الأسد أو إلى بليد وقيل: هذا الحمار. فالتعريف هنا عينه وقطع أرادة غيره، كما أن لفظ الرؤوس والبيض والبيوت وغير ذلك ينصرف عند الإطلاق إلى الرؤوس والبيض الذي يؤكل في العادة؛ والبيوت إلى مساكن الناس، ثم إذا قيل بيت العنكبوت وبيض النمل ورؤوس الجراد كان أيضا حقيقة باتفاق الناس.
الجواب السابع: أن يقال: أنت جعلت دليل الحقيقة أن يسبق إلى الفهم عندإطلاق اللفظ، فاعتبرت في المستمع السابق إلى فهمه؛ وفي المتكلم إطلاق لفظه، وهذا لا ضابط له؛ فإنه إنما يسبق إلى فهم المستمع في كل موضع ما دل عليه دليل في ذلك الموضع، فإذا قال: ظهر الطريق ومتنها لم يسبق إلى فهمه ظهر الحيوان البتة، بل ممتنع عنده إرادته.
الجواب الثامن: قولك: من إطلاق جميع اللفظ كلام مجمل؛ فإن أردت كون اللفظ مطلقا عن القيود فهذا لا يوجد قط؛ فإن النظر إنما هو في الأسماء الموجودة في كلام كل متكلم كلام الله وملائكته وأنبيائه والجن وسائر بنى آدم والأمم لايوجد الا مقرونا بغيره، إما في ضمن جملة اسمية أو فعلية، ولا يوجد الا من متكلم، ولا يستدل به الا إذا عرفت عادة ذلك المتكلم في مثل ذلك اللفظ، فهنا لفظ مقيد مقرون بغيره من الألفاظ، ومتكلم قد عرفت عادته ومستمع قد عرف عادة المتكلم بذلك اللفظ، فهذه القيود لا بد منها في كلام يفهم معناه، فلا يكون اللفظ مطلقا عنه. فإن أراد أنه مطلق عن قيد دون قيد لم يكن ما ذكره دالا على ذلك. فعلم أن قوله: يرجع إلى مايفهم منإطلاق اللفظ.
الجواب التاسع: أن يقال له: اذكر اى قيد شئت وفرق بين مقيد ومقيد؛ فلا يذكر شيئا الا أنتقض وابين لك من الحدود التي تذكرها فارقة بين الحقيقة والمجاز؛ أن ما جعلته حقيقة تجعله مجازا وما جعلته مجازا تجعله حقيقة، وأن المتكلم الفارق بين هذا وهذا بالإطلاق والتقييد تكلم بكلام من لا يتصور ما يقول، فضلا عن أن يمكنه التعبير عنه فإن التعبير فرع التصور، فمن لم يتصور ما يقول لم يقل شيئا لا كان خطأ.
هامش
- ↑ [العنكبوت: 41]
- ↑ [البقرة: 125]
- ↑ [الأحزاب: 53]
- ↑ [طه: 14]
- ↑ [النور: 35]
- ↑ [النور: 35]
- ↑ [النور: 36]
- ↑ [الفرقان: 58]
- ↑ [البقرة: 255]
- ↑ [التحريم: 2]
- ↑ [الأنعام: 95]
- ↑ [الزخرف: 39]
- ↑ [الصافات: 33]