→ فصل في مذهب أهل المدينة في الأحكام | مجموع فتاوى ابن تيمية فصل نسخ القرأن بالسنة ابن تيمية |
فصل في الحقيقة والمجاز ← |
فصل نسخ القرأن بالسنة
وقال:
وأما نسخ القرآن بالسنة فهذا لا يجوزه الشافعي؛ ولا أحمد في المشهور عنه؛ ويجوزه في الرواية الأخرى. وهو قول أصحاب أبي حنيفة وغيرهم وقد احتجوا على ذلك بأن الوصية للوالدين والأقربين نسخها قوله: «إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث» وهذا غلط فإن ذلك إنما نسخه آية المواريث كما اتفق على ذلك السلف؛ فإنه لما قال بعد ذكر الفرائض: { تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [1] { وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [2] فلما ذكر أن الفرائض المقدرة حدوده ونهى عن تعديها: كان في ذلك بيان أنه لا يجوز أن يزاد أحد على ما فرض الله له وهذا معنى قول النبي ﷺ: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث» وإلا فهذا الحديث وحده إنما رواه أبو داود ونحوه من أهل السنن ليس في الصحيحين ولو كان من أخبار الآحاد لم يجز أن يجعل مجرد خبر غير معلوم الصحة ناسخا للقرآن. وبالجملة فلم يثبت أن شيئا من القرآن نسخ بسنة بلا قرآن وقد ذكروا من ذلك قوله تعالى: { فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلا } [3].
وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال: «خذوا عني؛ خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام؛ والثيب بالثيب جلد مائة والرجم». وهذه الحجة ضعيفة لوجهين: أحدهما: أن هذا ليس من النسخ المتنازع فيه؛ فإن الله مد الحكم إلى غاية، والنبي ﷺ بين تلك الغاية، لكن الغاية هنا مجهولة فصار هذا يقال: إنه نسخ بخلاف الغاية البينة في نفس الخطاب كقوله: { ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ } [4] ؛ فإن هذا لا يسمى نسخا بلا ريب. الوجه الثاني: أن جلد الزاني ثابت بنص القرآن، وكذلك الرجم كان قد أنزل فيه قرآن يتلى ثم نسخ لفظه وبقي حكمه وهو قوله: «والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالا من الله والله عزيز حكيم» وقد ثبت الرجم بالسنة المتواترة وإجماع الصحابة.
وبهذا يحصل الجواب عما يدعى من نسخ قوله: { وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ } الآية؛ فإن هذا إن قدر أنه منسوخ فقد نسخه قرآن جاء بعده؛ ثم نسخ لفظه وبقي حكمه منقولا بالتواتر وليس هذا من موارد النزاع؛ فإن الشافعي وأحمد وسائر الأئمة يوجبون العمل بالسنة المتواترة المحكمة وإن تضمنت نسخا لبعض آي القرآن لكن يقولون: إنما نسخ القرآن بالقرآن لا بمجرد السنة ويحتجون بقوله تعالى: { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } [5] ويرون من تمام حرمة القرآن أن الله لم ينسخه إلا بقرآن.
هامش