→ سئل عن القياس | مجموع فتاوى ابن تيمية فصول عن القياس ابن تيمية |
فصل أن الإجارة خلاف القياس ← |
فصول عن القياس
فصل
وأما الحوالة فمن قال: تخالف القياس قال: إنها بيع دين بدين وذلك لا يجوز وهذا غلط من وجهين: أحدهما: أن بيع الدين بالدين ليس فيه نص عام ولا إجماع. وإنما ورد النهي عن بيع الكالئ بالكالئ والكالئ هو المؤخر الذي لم يقبض بالمؤخر الذي لم يقبض وهذا كما لو أسلم شيئًا في شيء في الذمة وكلاهما مؤخر فهذا لا يجوز بالاتفاق وهو بيع كالئ بكالئ.
وأما بيع الدين بالدين فينقسم إلى بيع واجب بواجب كما ذكرناه وينقسم إلى بيع ساقط بساقط وساقط بواجب. وهذا فيه نزاع. الوجه الثاني: أن الحوالة من جنس إيفاء الحق لا من جنس البيع. فإن صاحب الحق إذا استوفى من المدين ماله كان هذا استيفاء فإذا أحاله على غيره كان قد استوفى ذلك الدين عن الدين الذي له في ذمة المحيل ولهذا ذكر النبي ﷺ الحوالة في معرض الوفاء فقال في الحديث الصحيح: «مطل الغني ظلم وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع».
فأمر المدين بالوفاء ونهاه عن المطل وبين أنه ظالم إذا مطل وأمر الغريم بقبول الوفاء إذا أحيل على مليء وهذا كقوله تعالى: { فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } [1] أمر المستحق أن يطالب بالمعروف وأمر المدين أن يؤدي بإحسان.
ووفاء الدين ليس هو البيع الخاص وإن كان فيه شوب المعاوضة وقد ظن بعض الفقهاء أن الوفاء إنما يحصل باستيفاء الدين بسبب أن الغريم إذا قبض الوفاء صار في ذمته للمدين مثله يتقاص ما عليه بماله وهذا تكلف أنكره جمهور الفقهاء وقالوا: بل نفس المال الذي قبضه يحصل به الوفاء ولا حاجة أن نقدر في ذمة المستوفي دينًا وأولئك قصدوا أن يكون وفاء الدين بدين وهذا لا حاجة إليه بل الدين من جنس المطلق الكلي والمعين من جنس المعين فمن ثبت في ذمته دين مطلق كلي فالمقصود منه هو الأعيان الموجودة وأي معين استوفاه حصل به المقصود من ذلك الدين المطلق.
فصل
ومن قال: القرض خلاف القياس قال: لأنه بيع ربوي بجنسه من غير قبض. وهذا غلط فإن القرض من جنس التبرع بالمنافع كالعارية ولهذا سماه النبي ﷺ منيحة فقال: «أو منيحة ذهب أو منيحة ورق».
وباب العارية أصله أن يعطيه أصل المال لينتفع بما يستخلف منه ثم يعيده إليه فتارة ينتفع بالمنافع كما في عارية العقار.
وتارة يمنحه ماشية ليشرب لبنها ثم يعيدها وتارة يعيره شجرة ليأكل ثمرها ثم يعيدها فإن اللبن والثمر يستخلف شيئًا بعد شيء بمنزلة المنافع ولهذا كان في الوقف يجري مجرى المنافع والمقرض يقرضه ما يقرضه لينتفع به ثم يعيد له بمثله فإن إعادة المثل تقوم مقام إعادة العين ولهذا نهي أن يشترط زيادة على المثل كما لو شرط في العارية أن يرد مع الأصل غيره. وليس هذا من باب البيع فإن عاقلا لا يبيع درهما بمثله من كل وجه إلى أجل ولا يباع الشيء بجنسه إلى أجل إلا مع اختلاف الصفة أو القدر كما يباع نقد بنقد آخر وصحيح بمكسور ونحو ذلك ولكن قد يكون في القرض منفعة للمقرض كما في مسألة السفتجة ولهذا كرهها من كرهها والصحيح أنها لا تكره لأن المقترض ينتفع بها أيضا ففيها منفعة لهما جميعا إذا أقرضه.
فصل
وأما قول من يقول: إزالة النجاسة على خلاف القياس والنكاح على خلاف القياس ونحو ذلك: فهو من أفسد الأقوال وشبهتهم أنهم يقولون: الإنسان شريف والنكاح فيه ابتذال المرأة وشرف الإنسان ينافي الابتذال.
وهذا غلط فإن النكاح من مصلحة شخص المرأة ونوع الإنسان والقدر الذي فيه من كون الذكر يقوم على الأنثى هو من الحكمة التي بها تتم مصلحة جنس الحيوان فضلا عن نوع الإنسان ومثل هذا الابتذال لا ينافي الإنسانية كما لا ينافيها أن يتغوط الإنسان إذا احتاج إلى ذلك وأن يأكل ويشرب وإن كان الاستغناء عن ذلك أكمل بل ما احتاج إليه الإنسان وحصلت له به مصلحته فإنه لا يجوز أن يمنع منه والمرأة محتاجة إلى النكاح وهو من تمام مصلحتها فكيف يقال: القياس يقتضي منعها أن تتزوج؟ وكذلك إزالة النجاسة فإن شبهة من قال: إنها تخالف القياس أن الماء إذا لاقاها نجس الماء ثم إذا صب ماء آخر لاقى الأول. وهلم جرا قالوا: فكان القياس أنها تنجس المياه المتلاحقة والنجس لا يزيل النجس. وهذا غلط فإنه يقال لم قلتم القياس يقتضي أن الماء إذا لاقى النجاسة نجس؟ فإن قلتم: لأنه في بعض الصور كذلك. قيل: الحكم في الأصل ممنوع عند من يقول: الماء لا ينجس إلا بالتغير ومن سلم الأصل قال ليس جعل الإزالة مخالفة للقياس بأولى من جعل تنجس الماء مخالفا للقياس بأن يقال: القياس يقتضي أن الماء إذا لاقى نجاسة لا ينجس كما أنه إذا لاقاها حال الإزالة لا ينجس فهذا القياس أصح من ذلك لأن النجاسة تزول بالماء بالنص والإجماع وأما تنجس الماء بالملاقاة فمورد نزاع فكيف يجعل مواقع النزاع حجة على مواقع الإجماع والقياس أن يقاس موارد النزاع على مواقع الإجماع.
ثم يقال: الذي يقتضيه المعقول أن الماء إذا لم تغيره النجاسة لا ينجس ؛ فإنه باق على أصل خلقه وهو طيب داخل في قوله تعالى: { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِث } [2] وهذا هو القياس في المائعات جميعها إذا وقعت فيها نجاسة فاستحالت حتى لم يظهر طعمها ولا لونها ولا ريحها أن لا تنجس فقد تنازع الفقهاء: هل القياس يقتضي نجاسة الماء بملاقاة النجاسة إلا ما استثناه الدليل أو القياس يقتضي أنه لا ينجس إذا لم يتغير؟ على قولين والأول قول أهل العراق والثاني قول أهل الحجاز.
وفقهاء الحديث منهم من يختار هذا ؛ ومنهم من يختار هذا وهم أهل الحجاز وهو الصواب الذي تدل عليه الأصول والنصوص والمعقول ؛ فإن الله أباح الطيبات وحرم الخبائث والطيب والخبث باعتبار صفات قائمة بالشيء فما دام على حاله فهو طيب فلا وجه لتحريمه ؛ ولهذا لو وقعت قطرة خمر في جب لم يجلد شاربه.
والذين يسلمون أن القياس نجاسة الماء بالملاقاة فرقوا بين ملاقاته في الإزالة وبين غيرها بفروق. منهم من قال: الماء هاهنا وارد على النجاسة وهناك وردت النجاسة عليه وهذا ضعيف ؛ فإنه لو صب ماء في جب نجس ينجس عندهم. ومنهم من قال: الماء إذا كان في مورد التطهير لإزالة الخبث أو الحدث لم يثبت له حكم النجاسة ولا الاستعمال إلا إذا انفصل وأما قبل الانفصال فلا يكون مستعملا ولا نجسًا. وهذا حكاية مذهب ليس فيه حجة.
ومنهم من قال: الماء في حال الإزالة جار والماء الجاري لا ينجس إلا بالتغير. وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وهو أنص الروايتين عن أحمد وهو القول القديم للشافعي ولكن إزالة النجاسة تارة تكون بالجريان وتارة تكون بدونه كما لو صب الماء على الثوب في الطست.
فالصواب أن مقتضى القياس أن الماء لا ينجس إلا بالتغير والنجاسة لا تزول به حتى يكون غير متغير وأما في حال تغيره فهو نجس لكن تخفف به النجاسة وأما الإزالة فإنما تحصل بالماء الذي ليس بمتغير.
وهذا القياس في الماء هو القياس في المائعات كلها أنها لا تنجس إذا استحالت النجاسة فيها ولم يبق لها فيها أثر ؛ فإنها حينئذ من الطيبات لا من الخبائث.
وهذا القياس هو القياس في قليل الماء وكثيره ؛ وقليل المائع وكثيره فإن قام دليل شرعي على نجاسة شيء من ذلك فلا نقول: إنه خلاف القياس بل نقول: دل ذلك على أن النجاسة ما استحالت.
ولهذا كان أظهر الأقوال في المياه مذهب أهل المدينة والبصرة: أنه لا ينجس إلا بالتغير وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد نصرها طائفة من أصحابه كالإمام أبي الوفاء بن عقيل ؛ وأبي محمد بن المنى. وكذلك الماء المستعمل في طهارة الحدث باق على طهوريته وقد صح عن النبي ﷺ أنه قال: «الماء لا ينجس» فلا يصير الماء جنبًا ولا يتعدى إليه حكم الجنابة.
ونهيه - ﷺ - عن البول في الماء الدائم أو عن الاغتسال فيه لا يدل على أنه يصير نجسًا بذلك بل قد نهى عنه لما يفضي إليه البول بعد البول من إفساده أو لما يؤدي إلى الوسواس.
كما «نهى عن بول الرجل في مستحمه وقال: عامة الوسواس منه». ونهيه عن الاغتسال قد جاء فيه أنه نهى - عن الاغتسال فيه بعد البول وهذا يشبه نهيه عن بول الإنسان في مستحمه. وقد ثبت في الصحيح عنه ﷺ أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال: «ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم».
والتفريق المروي فيه: «إن كان جامدا فألقوها وما حولها ؛ وإن كان مائعا فلا تقربوه» غلط - كما بينه البخاري والترمذي - وغيرهما وهو من غلط معمر فيه وابن عباس راويه أفتى فيما إذا ماتت أن تلقى وما حولها ويؤكل فقيل لهما: إنها قد دارت فيه فقال: إنما ذاك لما كانت حية ؛ فلما ماتت استقرت. رواه أحمد في مسائل ابنه صالح. وكذلك الزهري راوي الحديث أفتى في الجامد والمائع القليل والكثير ؛ سمنًا كان أو زيتًا ؛ أو غير ذلك: بأن تلقى وما قرب منها ويؤكل الباقي ؛ واحتج بالحديث فكيف قد يكون روى فيه الفرق؟.
وحديث القلتين إن صح عن النبي ﷺ يدل على ذلك أيضا فإن قوله: «إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث وفي اللفظ الآخر: لم ينجسه شيء» يدل على أن الموجب لنجاسته كون الخبث فيه محمولا فمتى كان مستهلكًا فيه لم يكن محمولا فمنطوق الحديث وتعليله لم يدل على ذلك.
وأما تخصيص القلتين بالذكر فإنهم سألوه عن الماء يكون بأرض الفلاة ؛ وما ينوبه من السباع والدواب ؛ وذلك الماء الكثير في العادة فبين ﷺ أن مثل ذلك لا يكون فيه خبث في العادة بخلاف القليل فإنه قد يحمل الخبث وقد لا يحمله ؛ فإن الكثيرة تعين على إحالة الخبث إلى طبعه ؛ والمفهوم لا يجب فيه العموم فليس إذا كان القلتان لا تحمل الخبث يلزم أن ما دونها يلزمه مطلقًا على أن التخصيص وقع جوابا لأناس سألوه عن مياه معينة ؛ فقد يكون التخصيص لأن هذه كثيرة لا تحمل الخبث والقلتان كثير ولا يلزم أن لا يكون الكثير إلا قلتين وإلا فلو كان هذا حدا فاصلا بين الحلال والحرام لذكره ابتداء ولأن الحدود الشرعية تكون معروفة كنصاب الذهب والمعشرات ونحو ذلك والماء الذي تقع فيه النجاسة لا يعلم كيله إلا خرصا ؛ ولا يمكن كيله في العادة فكيف يفصل بين الحلال والحرام بما يتعذر معرفته على غالب الناس في غالب الأوقات وقد أطلق في غير حديث قوله: «الماء طهور لا ينجسه شيء» و«الماء لا يجنب».
ولم يقدره مع أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ومنطوق هذا الحديث يوافق تلك ومفهومه إنما يدل عند من يقول بدلالة المفهوم إذا لم يكن هناك سبب يوجب التخصيص بالذكر لا الاختصاص بالحكم وهذا لا يعلم هنا.
وحديث الأمر بإراقة الإناء من ولوغ الكلب ؛ لأن الآنية التي يلغ فيها الكلب في العادة صغيرة ولعابه لزج يبقى في الماء ويتصل بالإناء فيراق الماء ويغسل الإناء من ريقه الذي لم يستحل بعد بخلاف ما إذا ولغ في إناء كبير.
وقد نقل حرب عن أحمد في كلب ولغ في جب كبير فيه زيت فأمره بأكله. وبسط هذه المسائل له موضع آخر وإنما المقصود التنبيه على مخالفة القياس وموافقته.
فصل
وقول القائل: إن تطهير الماء على خلاف القياس هو بناء على هذا الأصل الفاسد وإلا فمن كان من أصله أن القياس أن الماء لا ينجس إلا بالتغير فالقياس عنده تطهيره ؛ فإن الحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها وإذا كانت العلة التغير فإذا زال التغير زالت النجاسة كما أن العلة لما كانت في الخمر الشدة المضطربة فإذا زالت طهرت. كيف والنجاسة في الماء واردة عليه كنجاسة الأرض؟.
ولكن قد يقال: هذا مبني على مسألة الاستحالة وفيها نزاع مشهور ففي مذهب مالك وأحمد قولان ومذهب أبي حنيفة وأهل الظاهر أنها تطهر بالاستحالة ومذهب الشافعي لا تطهر بالاستحالة. وقول القائل: إنها تطهر بالاستحالة أصح فإن النجاسة إذا صارت ملحا أو رمادًا فقد تبدلت الحقيقة وتبدل الاسم والصفة فالنصوص المتناولة لتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير لا تتناول الملح والرماد والتراب لا لفظا ولا معنى والمعنى الذي لأجله كانت تلك الأعيان خبيثة معدوم في هذه الأعيان فلا وجه للقول بأنها خبيثة نجسة. والذين فرقوا بين ذلك وبين الخمر قالوا: الخمر نجست بالاستحالة فطهرت بالاستحالة فيقال لهم: وكذلك البول والدم والعذرة إنما نجست بالاستحالة فينبغي أن تطهر بالاستحالة.
فصل
وأما قول القائل: التوضؤ من لحوم الإبل على خلاف القياس فهذا إنما قاله لأنها لحم واللحم لا يتوضأ منه وصاحب الشرع قد فرق بين لحم الغنم ولحم الإبل كما فرق بين معاطن هذه ومبارك هذه فأمر بالصلاة في هذا ونهى عن الصلاة في هذا فدعوى المدعي أن القياس التسوية بينهما من جنس قول الذين قالوا { إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } [3] والفرق بينهما ثابت في نفس الأمر كما فرق بين أصحاب الإبل وأصحاب الغنم فقال: «الفخر والخيلاء في الفدادين أصحاب الإبل والسكينة في أهل الغنم» وروي في الإبل: «أنها جن خلقت من جن». وروي: «على ذروة كل بعير شيطان». فالإبل فيها قوة شيطانية والغاذي شبيه بالمغتذي. ولهذا حرم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير: لأنها دواب عادية بالاغتذاء بها تجعل في خلق الإنسان من العدوان ما يضره في دينه فنهى الله عن ذلك لأن المقصود أن يقوم الناس بالقسط والإبل إذا أكل منها تبقي فيه قوة شيطانية. وفي الحديث الذي في السنن عن النبي ﷺ أنه قال: «الغضب من الشيطان والشيطان خلق من النار وإنما تطفأ النار بالماء قال النبي ﷺ: فإذا غضب أحدكم فليتوضأ».
فإذا توضأ العبد من لحوم الإبل كان في ذلك من إطفاء القوة الشيطانية ما يزيل المفسدة بخلاف من لم يتوضأ منها فإن الفساد حاصل معه ولهذا يقال: إن الأعراب بأكلهم لحوم الإبل مع عدم الوضوء منها صار فيهم من الحقد ما صار. ولهذا «أمر بالوضوء مما مست النار».
وهو حديث صحيح وقد ثبت في أحاديث صحيحة أنه أكل مما مست النار ولم يتوضأ فقيل: إن الأول منسوخ لكن لم يثبت أن ذلك متقدم على هذا بل رواه أبو هريرة وإسلامه متأخر عن تاريخ بعض تلك الأحاديث كحديث السويق الذي كان بخيبر فإنه كان قبل إسلام أبي هريرة وقيل: بل الأمر بالتوضؤ مما مست النار استحباب كالأمر بالتوضؤ من الغضب وهذا أظهر القولين وهما وجهان في مذهب أحمد. فإن النسخ لا يصار إليه إلا عند التنافي والتاريخ وكلاهما منتف بخلاف حمل الأمر على الاستحباب فإن له نظائر كثيرة. وكذلك التوضؤ من مس الذكر ومس النساء هو من هذا الباب لما فيه من تحريك الشهوة ؛ فالتوضؤ مما يحرك الشهوة كالتوضؤ من الغضب وما مسته النار: هو من هذا الباب: فإن الغضب من الشيطان والشيطان من النار وأما لحم الإبل فقد قيل: التوضؤ منه مستحب لكن تفريق النبي ﷺ بينه وبين لحم الغنم - مع أن ذلك مسته النار والوضوء منه مستحب - دليل على الاختصاص وما فوق الاستحباب إلا الإيجاب ولأن الشيطنة في الإبل لازمة وفيما مسته النار عارضة ولهذا نهى عن الصلاة في أعطانها للزوم الشيطان لها بخلاف الصلاة في مباركها في السفر فإنه جائز لأنه عارض والحشوش محتضرة فهي أولى بالنهي من أعطان الإبل. وكذلك الحمام بيت الشيطان وفي الوضوء من اللحوم الخبيثة عن أحمد روايتان على أن الحكم مما عقل معناه فيعدي أو ليس كذلك؟.
والخبائث التي أبيحت للضرورة كلحوم السباع أبلغ في الشيطنة من لحوم الإبل فالوضوء منها أولى. وقد تنازع العلماء في الوضوء من النجاسة الخارجة من غير السبيلين ؛ كالفصاد ؛ والحجامة والجرح والقيء والوضوء من مس النساء لشهوة وغير شهوة والتوضؤ من مس الذكر والتوضؤ من القهقهة فبعض الصحابة كان يتوضأ من مس الذكر كسعد وابن عمر كثير منهم لم يكن يتوضأ منه والوضوء منه هل هو واجب أو مستحب؟ فيه عن مالك وأحمد روايتان وإيجابه قول الشافعي وعدم الإيجاب مذهب أبي حنيفة. وكذلك مس النساء لشهوة إذا قيل باستحبابه فهذا يتوجه وأما وجوب ذلك فلا يقوم الدليل إلا على خلافه ولا يقدر أحد قط أن ينقل عن النبي ﷺ أنه كان يأمر أصحابه بالوضوء من مس النساء ولا من النجاسات الخارجة ؛ لعموم البلوى بذلك وقوله تعالى: { أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء } [4] المراد به الجماع كما فسره بذلك ابن عباس وغيره لوجوه متعددة.
وقوله ﷺ للمستحاضة: «إنما ذلك عرق وليس بالحيضة». تعليل لعدم وجوب الغسل لا لوجوب الوضوء فإن وجوب الوضوء لا يختص بدم العروق بل كانت قد ظنت أن ذلك الدم هو دم الحيض الذي يوجب الغسل فبين لها النبي ﷺ أن هذا ليس هو دم الحيض الذي يوجب الغسل فإن ذلك يرشح من الرحم كالعرق وإنما هذا دم عرق انفجر في الرحم ودماء العروق لا توجب الغسل وهذه مسائل مبسوطة في مواضع أخر.
والمقصود هنا التنبيه على فساد قول من يدعي التناقض في معاني الشريعة أو ألفاظها ويزعم أن الشارع يفرق بين المتماثلين بل نبينا محمد ﷺ بعث بالهدى ودين الحق بالحكمة والعدل والرحمة فلا يفرق بين شيء ين في الحكم إلا لافتراق صفاتهما المناسبة للفرق ولا يسوي بين شيء ين إلا لتماثلهما في الصفات المناسبة للتسوية. والأظهر أنه لا يجب الوضوء من مس الذكر ولا النساء ولا خروج النجاسات من غير السبيلين ولا القهقهة ولا غسل الميت فإنه ليس مع الموجبين دليل صحيح بل الأدلة الراجحة تدل على عدم الوجوب لكن الاستحباب متوجه ظاهر فيستحب أن يتوضأ من مس النساء لشهوة ويستحب أن يتوضأ من الحجامة والقيء ونحوهما كما في السنن: «أن النبي ﷺ قاء فتوضأ».
والفعل إنما يدل على الاستحباب ولم يثبت عنه أنه أمر بالوضوء من الحجامة ولا أمر أصحابه بالوضوء إذا جرحوا مع كثرة الجراحات والصحابة نقل عنهم فعل الوضوء لا إيجابه. وكذلك القهقهة في الصلاة ذنب ويشرع لكل من أذنب أن يتوضأ وفي استحباب الوضوء من القهقهة وجهان في مذهب أحمد وغيره.
وأما الوضوء من الحدث الدائم لكل صلاة ففيه أحاديث متعددة عن النبي ﷺ قد صحح بعضها غير واحد من العلماء فقول الجمهور الذين يوجبون الوضوء لكل صلاة أظهر ؛ وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد والله أعلم.
فصل
وأما الحجامة فإنما اعتقد أن الفطر منها مخالف للقياس من اعتقد أن الفطر مما خرج لا مما دخل وهؤلاء أشكل عليهم القيء والاحتلام ودم الحيض والنفاس. وأما من تدبر أصول الشرع ومقاصده فإنه رأى الشارع لما أمر بالصوم أمر فيه بالاعتدال حتى كره الوصال وأمر بتعجيل الفطر وتأخير السحور وجعل أعدل الصيام وأفضله صيام داود وكان من العدل أن لا يخرج من الإنسان ما هو قيام قوته فالقيء يخرج الغذاء والاستمناء يخرج المنى والحيض يخرج الدم.
وبهذه الأمور قوام البدن، لكن فرق بين ما يمكن الاحتراز منه وما لا يمكن فالاحتلام لا يمكن الاحتراز منه وكذلك من ذرعه القيء وكذا دم الاستحاضة فإنه ليس له وقت معين بخلاف دم الحيض فإن له وقتًا معينًا فالمحتجم أخرج دمه وكذلك المفتصد بخلاف من خرج دمه بغير اختياره كالمجروح فإن هذا لا يمكن الاحتراز منه فكانت الحجامة من جنس القيء والاستمناء والحيض وكان خروج دم الجرح من جنس الاستحاضة والاحتلام وذرع القيء فقد تناسبت الشريعة وتشابهت ولم تخرج عن القياس.
والأظهر أنه لا يفطر بالكحل ولا بالتقطير في الإحليل ولا بابتلاع ما لا يغذي كالحصاة ولكن يفطر بالسعوط لقوله: «وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا».
فصل
وأما قولهم: السلم على خلاف القياس فقولهم هذا من جنس ما رووا عن النبي ﷺ أنه قال: «لا تبع ما ليس عندك» وأرخص في السلم.
وهذا لم يرو في الحديث وإنما هو من كلام بعض الفقهاء وذلك أنهم قالوا: السلم بيع الإنسان ما ليس عنده فيكون مخالفًا للقياس ونهي النبي ﷺ حكيم بن حزام عن بيع ما ليس عنده: إما أن يراد به بيع عين معينة فيكون قد باع مال الغير قبل أن يشتريه وفيه نظر.
وإما أن يراد به بيع ما لا يقدر على تسليمه وإن كان في الذمة وهذا أشبه ؛ فيكون قد ضمن له شيئًا لا يدري هل يحصل أو لا يحصل؟ وهذا في السلم الحال إذا لم يكن عنده ما يوفيه والمناسبة فيه ظاهرة.
فأما السلم المؤجل فإنه دين من الديون وهو كالابتياع بثمن مؤجل فأي فرق بين كون أحد العوضين مؤجلا في الذمة وكون العوض الآخر مؤجلا في الذمة؟ وقد قال تعالى: { إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } [5] وقال ابن عباس: أشهد أن السلف المضمون في الذمة حلال في كتاب الله وقرأ هذه الآية فإباحة هذا على وفق القياس لا على خلافه.
فصل
وأما الكتابة فقال من قال: هي خلاف القياس ؛ لكونه بيع ماله بماله. وليس كذلك بل باعه نفسه بمال في الذمة والسيد لا حق له في ذمة العبد وإنما حقه في بدنه فإن السيد حقه مالية العبد في إنسانيته فهو من حيث يؤمر وينهى إنسان مكلف فيلزمه الإيمان والصلاة والصيام لأنه إنسان والذمة العهد وإنما يطالب العبد بما في ذمته بعد عتقه وحينئذ لا ملك للسيد عليه.
فالكتابة: بيعه نفسه بمال في ذمته ثم إذا اشترى نفسه كان كسبه له ونفعه له وهو حادث على ملكه الذي استحقه بعقد الكتابة لكن لا يعتق فيها إلا بالإذن ؛ لأن السيد لم يرض بخروجه من ملكه إلا بأن يسلم له العوض فمتى لم يحصل له العوض وعجز العبد عنه كان له الرجوع في المبيع وهذا هو القياس في المعاوضات. ولهذا يقول: إذا عجز المشتري عن الثمن لإفلاسه كان للبائع الرجوع في المبيع فالعبد المكاتب مشتر لنفسه فعجزه عن أداء العوض كعجز المشتري وهذا القياس في جميع المعاوضات إذا عجز المعاوض عما عليه من العوض كان للآخر الرجوع في عوضه ويدخل في ذلك عجز الرجل عن الصداق وعجز الزوج عن الوطء وطرده عجز الرجل عن العوض في الخلع والصلح عن القصاص.
هامش