→ فصول عن القياس | مجموع فتاوى ابن تيمية فصل أن الإجارة خلاف القياس ابن تيمية |
فصل في قول من يقول حمل العقل على خلاف القياس ← |
فصل أن الإجارة خلاف القياس
وأما الإجارة فالذين قالوا: هي على خلاف القياس قالوا: إنها بيع معدوم لأن المنافع معدومة حين العقد وبيع المعدوم لا يجوز. ثم إن القرآن جاء بإجارة الظئر للرضاع في قوله تعالى: { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [1].
فقال كثير من الفقهاء: إن إجارة الظئر للرضاع على خلاف قياس الإجارة فإن الإجارة عقد على منافع وإجارة الظئر عقد على اللبن واللبن من باب الأعيان لا من باب المنافع ومن العجب أنه ليس في القرآن ذكر إجارة جائزة إلا هذه وقالوا: هذه خلاف القياس والشيء إنما يكون خلاف القياس إذا كان النص قد جاء في موضع بحكم وجاء في موضع يشابه ذلك بنقيضه فيقال: هذا خلاف لقياس ذلك النص.
وليس في القرآن ذكر الإجارة الباطلة حتى يقال: القياس يقتضي بطلان هذه الإجارة بل فيه ذكر جواز هذه الإجارة وليس فيه ذكر فساد إجارة تشبهها بل ولا في السنة بيان إجارة فاسدة تشبه هذه وإنما أصل قولهم ظنهم أن الإجارة الشرعية إنما تكون على المنافع التي هي أعراض لا على أعيان هي أجسام وسنبين إن شاء الله كشف هذه الشبهة.
ولما اعتقد هؤلاء أن إجارة الظئر على خلاف القياس صار بعضهم يحتال لإجرائها على القياس الذي اعتقدوه فقالوا: المعقود عليه فيها هو إلقام الثدي أو وضعه في الحجر أو نحو ذلك من المنافع التي هي مقدمات الرضاع ومعلوم أن هذه الأعمال إنما هي وسيلة إلى المقصود بعقد الإجارة وإلا فهي بمجردها ليست مقصودة ولا معقودا عليها بل ولا قيمة لها أصلا وإنما هو كفتح الباب لمن اكترى دارا أو حانوتا أو كصعود الدابة لمن اكترى دابة ومقصود هذا هو السكنى ومقصود هذا هو الركوب وإنما هذه الأعمال مقدمات ووسائل إلى المقصود بالعقد.
ثم هؤلاء الذين جعلوا إجارة الظئر على خلاف القياس طردوا ذلك في مثل ماء البئر والعيون التي تنبع في الأرض فقالوا: أدخلت ضمنا وتبعا في العقد حتى إن العقد إذا وقع على نفس الماء كالذي يعقد على عين تنبع ليسقي بها بستانه أو ليسوقها إلى مكانه ليشرب منها وينتفع بمائها قالوا: المعقود عليه الإجراء في الأرض أو نحو ذلك مما يتكلفونه ويخرجوا الماء المقصود بالعقود عن أن يكون معقودا عليه. ونحن ننبه على هذين الأصلين: على قول من جعل الإجارة على خلاف القياس وعلى قول من جعل إجارة الظئر ونحوها على خلاف القياس.
أما الأول فنقول: قولهم: الإجارة بيع معدوم وبيع المعدوم على خلاف القياس: مقدمتان مجملتان فيهما تلبيس ؛ فإن قولهم: الإجارة بيع إن أرادوا أنها البيع الخاص الذي يعقد على الأعيان فهو باطل وإن أرادوا البيع العام الذي هو معاوضة إما على عين وإما على منفعة فقولهم في المقدمة الثانية: أن بيع المعدوم لا يجور إنما يسلم - إن سلم - في الأعيان لا في المنافع ولما كان لفظ البيع يحتمل هذا وهذا تنازع الفقهاء في الإجارة: هل تنعقد بلفظ البيع؟ على وجهين.
والتحقيق: أن المتعاقدين إن عرفا المقصود انعقدت فأي لفظ من الألفاظ عرف به المتعاقدان مقصودهما انعقد به العقد وهذا عام في جميع العقود فإن الشارع لم يجد في ألفاظ العقود حدا بل ذكرها مطلقة فكما تنعقد العقود بما يدل عليها من الألفاظ الفارسية والرومية وغيرهما من الألسن العجمية فهي تنعقد بما يدل عليها من الألفاظ العربية ولهذا وقع الطلاق والعتاق بكل لفظ يدل عليه وكذلك البيع وغيره.
وطرد هذا النكاح فإن أصح قولي العلماء أنه ينعقد بكل لفظ يدل عليه لا يختص بلفظ الإنكاح والتزويج وهذا مذهب جمهور العلماء كأبي حنيفة ومالك وهو أحد القولين في مذهب أحمد بل نصوصه لم تدل إلا على هذا الوجه وأما الوجه الآخر من أنه إنما ينعقد بلفظ الإنكاح والتزويج فهو قول أبي عبد الله بن حامد وأتباعه كالقاضي أبي يعلى ومتبعيه.
وأما قدماء أصحاب أحمد وجمهورهم فلم يقولوا بهذا الوجه وقد نص أحمد في غير موضع على أنه إذا قال: أعتقت أمتي وجعلت عتقها صداقها انعقد النكاح وليس هنا لفظ إنكاح وتزويج ولهذا ذكر ابن عقيل وغيره: أن هذا يدل على أنه لا يختص النكاح بلفظ. وأما ابن حامد فطرد قوله وقال: لا بد أن يقول مع ذلك: وتزوجتها والقاضي أبو يعلى جعل هذا خارجا عن القياس فجوز النكاح هنا بدون لفظ الإنكاح والتزويج. وأصول الإمام أحمد ونصوصه تخالف هذا فإن من أصله أن العقود تنعقد بما يدل على مقصودها من قول أو فعل فهو لا يرى اختصاصها بالصيغ.
ومن أصله أن الكناية مع دلالة الحال كالصريح لا تفتقر إلى إظهار النية ولهذا قال بذلك في الطلاق والقذف وغير ذلك. والذين قالوا إن النكاح لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح والتزويج من أصحاب الشافعي قالوا: لأن ما سوى اللفظين كناية ؛ والكناية لا يثبت حكمها إلا بالنية والنية باطن والنكاح مفتقر إلى شهادة والشهادة إنما تقع على السمع فهذا أصل أصحاب الشافعي الذين خصوا عقد النكاح باللفظين.
وابن حامد وأتباعه وافقوهم لكن أصول أحمد ونصوصه تخالف هذا ؛ فإن هذه المقدمات باطلة على أصله. أما قول القائل: ما سوى هذين كناية فإنما يستقيم أن لو كانت ألفاظ الصريح والكناية ثابتة بعرف الشرع كما يقوله الشافعي ومن وافقه من أصحاب أحمد كالخرقي والقاضي أبي يعلى وغيرهما: أن الصريح في الطلاق هو الطلاق والفراق والسراح لمجيء القرآن بذلك.
فأما جمهور العلماء كأبي حنيفة ومالك وغيرهما ؛ وجمهور أصحاب أحمد كأبي بكر وابن حامد وأبي الخطاب وغيرهم ؛ فلا يوافقون على هذا الأصل بل منهم من يقول: الصريح هو لفظ الطلاق فقط كأبي حنيفة وابن حامد وأبي الخطاب وغيرهما من أصحاب أحمد وبعض أصحاب الشافعي.
ومنهم من يقول: بل الصريح أعم من هذه الألفاظ كما يذكر عن مالك وهو قول أبي بكر وغيره من أصحاب أحمد والجمهور يقولون: كلا المقدمتين المذكورتين أن صريح الطلاق تليه مقدمة باطلة. أما قولهم: إن هذه الألفاظ صريحة في خطاب الشارع فليس كذلك بل لفظ السراح والفراق في القرآن مستعمل في غير الطلاق قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا } [2].
فأمر بتسريحهن بعد الطلاق قبل الدخول وهو طلاق بائن لا رجعة فيه وليس التسريح هنا تطليقا باتفاق المسلمين وقال تعالى: { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } [3].
وفي الآية الأخرى { أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } [4].
فلفظ الفراق والسراح ليس المراد به هنا الطلاق فأما المطلقة الرجعية فهو مخير بين ارتجاعها وبين تخلية سبيلها لا يحتاج إلى طلاق ثان.
وأما المقدمة الثانية فلا يلزم من كون اللفظ صريحًا في خطاب الشارع أن يكون صريحًا في خطاب كل من يتكلم.
وبسط هذا له موضع آخر والمقصود هنا أن قول القائل: إن الإجارة نوع من البيع إن أراد به البيع الخاص - وهو الذي يفهم من لفظ البيع عند الإطلاق - فليس كذلك فإن ذاك إنما ينعقد على أعيان معينة أو مضمونة في الذمة وإن أراد به أنها نوع من المعاوضة العامة التي تتناول العقد على الأعيان والمنافع: فهذا صحيح لكن قوله ؛ إن المعاوضة العامة لا تكون على معدوم دعوى مجردة بل دعوى كاذبة فإن الشارع جوز المعاوضة العامة على المعدوم.
وإن قاس بيع المنافع على بيع الأعيان فقال: كما أن بيع الأعيان لا يكون إلا على موجود فكذلك بيع المنافع - وهذه حقيقة كلامه - فهذا القياس في غاية الفساد فإن من شرط القياس أن يمكن إثبات حكم الأصل في الفرع وهو هنا متعذر ؛ لأن المنافع لا يمكن أن يعقد عليها في حال وجودها فلا يتصور أن تباع المنافع في حال وجودها كما تباع الأعيان في حال وجودها.
والشارع أمر الإنسان أن يؤخر العقد على الأعيان التي لم تخلق إلى أن تخلق فنهى عن بيع السنين وبيع حبل الحبلة وبيع الثمر قبل بدو صلاحه ؛ وعن بيع الحب حتى يشتد ونهى عن بيع المضامين والملاقيح وعن المجر وهو الحمل ؛ وهذا كله نهي عن بيع حيوان قبل أن يخلق ؛ وعن بيع حب وثمر قبل أن يخلق وأمر بتأخير بيعه إلى أن يخلق. وهذا التفصيل وهو: منع بيعه في الحال وإجارته في حال يمتنع مثله في المنافع فإنه لا يمكن أن تباع إلا هكذا فما بقي حكم الأصل مساويا لحكم الفرع إلا أن يقال: فأنا أقيسه على بيع الأعيان المعدومة فيقال له: هنا شيئًان: أحدهما: يمكن بيعه في حال وجوده وحال عدمه فنهى الشارع عن بيعه إلا إذا وجد. والشيء الآخر: لا يمكن بيعه إلا في حال عدمه فالشارع لما نهى عن بيع ذاك حال عدمه فلا بد إذا قست عليه أن تكون العلة الموجبة للحكم في الأصل ثابتة في الفرع فلم قلت: إن العلة في الأصل مجرد كونه معدوما؟ ولم لا يجوز أن يكون بيعه في حال عدمه مع إمكان تأخير بيعه إلى حال وجوده؟.
وعلى هذا التقدير فالعلة مقيدة بعدم خاص وهو معدوم يمكن بيعه بعد وجوده وأنت إن لم تبين أن العلة في الأصل القدر المشترك كان قياسك فاسدا وهذا سؤال المطالبة وهو كاف في وقف قياسك. لكن نبين فساده فنقول: ما ذكرناه علة مطردة وما ذكرته علة منتقضة ؛ فإنك إذا عللت المنع بمجرد العدم انتقضت علتك ببعض الأعيان والمنافع وإذا عللته بعدم ما يمكن تأخير بيعه إلى حال وجوده ؛ أو بعدم هو غرر اطردت العلة وأيضا فالمناسبة تشهد لهذه العلة ؛ فإنه إذا كان له حال وجود وعدم كان بيعه حال العدم فيه مخاطرة وقمار وبها علل النبي ﷺ المنع حيث قال: «أرأيت إن منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق؟».
بخلاف ما ليس له إلا حال واحدة والغالب فيه السلامة ؛ فإن هذا ليس مخاطرة فالحاجة داعية إليه. ومن أصول الشرع أنه إذا تعارض المصلحة والمفسدة قدم أرجحهما فهو إنما نهى عن بيع الغرر لما فيه من المخاطرة التي تضر بأحدهما وفي المنع مما يحتاجون إليه من البيع ضرر أعظم من ذلك فلا يمنعهم من الضرر اليسير بوقوعهم في الضرر الكثير بل يدفع أعظم الضررين باحتمال أدناهما ولهذا لما نهاهم عن المزابنة لما فيها من نوع ربا أو مخاطرة فيها ضرر أباحها لهم في العرايا للحاجة لأن ضرر المنع من ذلك أشد وكذلك لما حرم عليهم الميتة لما فيها من خبث التغذية أباحها لهم عند الضرورة ؛ لأن ضرر الموت أشد ونظائره كثيرة. فإن قيل: فهذا كله على خلاف القياس؟ قيل: قد قدمنا أن الفرع اختص بوصف أوجب الفرق بينه وبين الأصل فكل فرق صحيح على خلاف القياس الفاسد.
وإن أريد بذلك أن الأصل والفرع استويا في المقتضي والمانع واختلف حكمهما فهذا باطل قطعا. ففي الجملة: الشيء إذا شابه غيره في وصف وفارقه في وصف كان اختلافهما في الحكم باعتبار الفارق مخالفا لاستوائهما باعتبار الجامع لكن هذا هو القياس الصحيح طردا وعكسا وهو التسوية بين المتماثلين والتفريق بين المختلفين وأما التسوية بينهما في الحكم مع افتراقهما فيما يوجب الحكم ويمنعه فهذا قياس فاسد. والشرع دائمًا يبطل القياس الفاسد كقياس إبليس وقياس المشركين الذين قالوا: { إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } [5].
والذين قاسوا الميت على المذكى وقالوا: أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله؟ فجعلوا العلة في الأصل كونه قتل آدمي وقياس الذين قاسوا المسيح على أصنامهم فقالوا: لما كانت آلهتنا تدخل النار لأنها عبدت من دون الله فكذلك ينبغي أن يدخل المسيح النار قال الله تعالى: { وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ } [6]. { وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } [7].
وهذا كان وجه مخاصمة ابن الزبعرى لما أنزل الله: { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } [8]. { لَوْ كَانَ هَؤُلَاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ } [9].
فإن الخطاب للمشركين لا لأهل الكتاب. والمشركون لم يعبدوا المسيح وإنما كانوا يعبدون الأصنام والمراد بقوله: { وَمَا تَعْبُدُونَ } [10]. الأصنام فالآية لم تتناول المسيح لا لفظًا ولا معنى.
وقول من قال: إن الآية عامة تتناول المسيح ولكن أخر بيان تخصيصها غلط منه ولو كان ذلك صحيحا لكانت حجة المشركين متوجهة ؛ فإن من خاطب بلفظ العام يتناول حقا وباطلا لم يبين مراده توجه الاعتراض عليه وقد قال تعالى: { وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا } [11]. أي: هم ضربوه مثلا كما قال: { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا } [12]. أي: جعلوه مثلا لآلهتهم فقاسوا الآلهة عليه وأوردوه مورد المعارضة فقالوا: إذا دخلت آلهتنا النار لكونها معبودة فهذا المعنى موجود في المسيح فيجب أن يدخل النار وهو لا يدخل النار فهي لا تدخل النار وهذا قياس فاسد لظنهم أن العلة مجرد كونه معبودًا وليس كذلك بل العلة أنه معبود ليس مستحقا للثواب أو معبود لا ظلم في إدخاله النار.
فالمسيح والعزير والملائكة وغيرهم ممن عبد من دون الله وهو من عباد الله الصالحين وهو مستحق لكرامة الله بوعد الله وعدله وحكمته فلا يعذب بذنب غيره فإنه لا تزر وازرة وزر أخرى. والمقصود بإلقاء الأصنام في النار إهانة عابديها وأولياء الله لهم الكرامة دون الإهانة فهذا الفارق بين فساد تعليق الحكم بذلك الجامع. والأقيسة الفاسدة من هذا الجنس. فمن قال: إن الشريعة تأتي بخلاف مثل هذا القياس فقد أصاب وهذا من كمال الشريعة واشتمالها على العدل والحكمة التي بعث الله بها رسوله.
ومن لم يخالف مثل هذه الأقيسة الفاسدة بل سوى بين الشيء ين باشتراكهما في أمر من الأمور لزمه أن يسوي بين كل موجودين لاشتراكهما في مسمى الوجود فيسوي بين رب العالمين وبين بعض المخلوقين فيكون من الذين هم بربهم يعدلون ويشركون فإن هذا من أعظم القياس الفاسد وهؤلاء يقولون: { تَاللهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } [13]. { إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [14].
ولهذا قال طائفة من السلف: أول من قاس إبليس وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس أي: بمثل هذه المقاييس التي يشتبه فيها الشيء بما يفارقه كأقيسة المشركين. ومن كان له معرفة بكلام الناس في العقليات رأى عامة ضلال من ضل من الفلاسفة والمتكلمين بمثل هذه الأقيسة الفاسدة التي يسوى فيها بين الشيء ين لاشتراكهما في بعض الأمور مع أن بينهما من الفرق ما يوجب أعظم المخالفة واعتبر هذا بكلامهم في وجود الرب ووجود المخلوقات ؛ فإن فيه من الاضطراب ما قد بسطناه في غير هذا الموضع. وهذا الذي ذكرناه في الإجارة بناء على تسليم قولهم: إن بيع الأعيان المعدومة لا يجوز.
وهذه المقدمة الثانية والكلام عليها من وجهين. أحدهما: أن نقول: لا نسلم صحة هذه المقدمة فليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ؛ بل ولا عن أحد من الصحابة أن بيع المعدوم لا يجوز لا لفظ عام ولا معنى عام وإنما فيه النهي عن بيع بعض الأشياء التي هي معدومة كما فيه النهي عن بيع بعض الأشياء التي هي موجودة وليست العلة في المنع لا الوجود ولا العدم بل الذي ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه: «نهى عن بيع الغرر».
والغرر ما لا يقدر على تسليمه سواء كان موجودًا أو معدومًا كالعبد الآبق والبعير الشارد ونحو ذلك مما قد لا يقدر على تسليمه بل قد يحصل وقد لا يحصل هو غرر لا يجوز بيعه وإن كان موجودا فإن موجب البيع تسليم المبيع والبائع عاجز عنه والمشتري إنما يشتريه مخاطرة ومقامرة فإن أمكنه أخذه كان المشتري قد قمر البائع. وإن لم يمكنه أخذه كان البائع قد قمر المشتري.
وهكذا المعدوم الذي هو غرر نهى عن بيعه لكونه غررا لا لكونه معدومًا كما إذا باع ما يحمل هذا الحيوان أو ما يحمل هذا البستان فقد يحمل وقد لا يحمل وإذا حمل فالمحمول لا يعرف قدره ولا وصفه فهذا من القمار وهو من الميسر الذي نهى الله عنه. ومثل هذا إذا أكراه دواب لا يقدر على تسليمها ؛ أو عقارا لا يمكنه تسليمه بل قد يحصل وقد لا يحصل فإنه إجارة غرر.
الوجه الثاني أن نقول: بل الشارع صحح بيع المعدوم في بعض المواضع فإنه ثبت عنه من غير وجه: «أنه نهى عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه». «ونهى عن بيع الحب حتى يشتد».
وهذا من أصح الحديث وهو في الصحيح عن غير واحد من الصحابة قد فرق بين ظهور الصلاح وعدم ظهوره فأحل أحدهما وحرم الآخر.
ومعلوم أنه قبل ظهور الصلاح لو اشتراه بشرط القطع كما يشتري الحصرم ليقطع حصرما جاز بالاتفاق وإنما نهى عنه إذا بيع على أنه باق ؛ فيدل ذلك على أنه جوزه بعد ظهور الصلاح أن يبيعه على البقاء إلى كمال الصلاح وهذا مذهب جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم.
ومن جوز بيعه في الموضعين بشرط القطع ؛ ونهى عنه بشرط التبقية أو مطلقا: لم يكن عنده لظهور الصلاح فائدة ولم يفرق بين ما نهى عنه النبي ﷺ وما أذن فيه.
وصاحب هذا القول يقول: موجب العقد التسليم عقيبه فلا يجوز التأخير. فيقال له: لا نسلم أن هذا موجب العقد: إما أن يكون ما أوجبه الشارع بالعقد أو ما أوجبه المتعاقدان على أنفسهما وكلاهما منتف فلا الشارع أوجب أن يكون كل بيع مستحق التسليم عقب العقد ولا العاقدان التزما ذلك بل تارة يعقدان العقد على هذا الوجه كما إذا باع معينا بدين حال وتارة يشترطان تأخير تسليم الثمن كما في السلم ؛ وكذلك في الأعيان.
وقد يكون للبائع مقصود صحيح في تأخير التسليم كما كان لجابر حين باع بعيره من النبي ﷺ واستثنى ظهره إلى المدينة ؛ ولهذا كان الصواب أنه يجوز لكل عاقد أن يستثني من منفعة المعقود عليه ما له فيه غرض صحيح كما إذا باع عقارا واستثنى سكناه مدة أو دوابه واستثنى ظهرها أو وهب ملكًا واستثنى منفعته أو أعتق العبد واستثنى خدمته مدة ؛ أو ما دام السيد أو وقف عينا واستثنى غلتها لنفسه مدة حياته وأمثال ذلك.
وهذا منصوص أحمد وغيره وبعض أصحاب أحمد قال: لا بد إذا استثنى منفعة المبيع من أن يسلم العين إلى المشتري ثم يأخذها ليستوفي المنفعة بناء على هذا الأصل الفاسد وهو أنه لا بد من استحقاق القبض عقب العقد.
وهو قول ضعيف. وعلى هذا الأصل قال من قال: إنه لا تجوز الإجارة إلا لمدة تلي العقد وهؤلاء نظروا إلى ما يفعله الناس أحيانا جعلوه لازما لهم في كل حال وهو من القياس الفاسد.
وعلى هذا بنوا إذا باع العين المؤجرة فمنهم من قال: البيع باطل لكون المنفعة لا تدخل في البيع فلا يحصل التسليم. ومنهم من قال: هذا مستثنى بالشرع بخلاف المستثنى بالشرط.
ولو باع الأمة المزوجة صح باتفاقهم وإن كانت منفعة البضع للزوج وقد فرق من فرق بينهما بما قد بسط في موضعه. والمقصود هنا: أن هذا كله تفريع على ذلك الأصل الضعيف وهو أن موجب العقد استحقاق التسليم عقبه والشرع لم يدل على هذا الأصل ؛ بل القبض في الأعيان والمنافع كالقبض في الدين تارة يكون موجب العقد قبضه عقبه بحسب الإمكان وتارة يكون موجب العقد تأخير التسليم لمصلحة من المصالح.
وعلى هذا فالنبي ﷺ جوز بيع الثمر بعد بدو الصلاح مستحق الإبقاء إلى كمال الصلاح وعلى البائع السقي والخدمة إلى كمال الصلاح ويدخل في هذا ما هو معدوم لم يخلق وهذا إذا قبض كان بمنزلة قبض العين المؤجرة فقبضه يبيح له التصرف فيه في أظهر قولي العلماء وهو أصح الروايتين عن أحمد وقبضه لا يوجب انتقال الضمان إليه بل إذا تلف الثمر بعد بدو صلاحه كان من ضمان البائع كما هو مذهب أهل المدينة مالك وغيره وهو مذهب أهل الحديث: أحمد رضي الله عنه وغيره وهو قول معلق للشافعي وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال: «إن بعت من أخيك ثمرة فأصابتها جائحة فلا يحل لك أن تأخذ من مال أخيك شيئًا بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق؟».
وليس مع المنازع دليل شرعي يدل على أن كل قبض جوز التصرف ينقل الضمان وما لم يجوز التصرف لم ينقل الضمان ؛ بل قبض العين المؤجرة يجوز التصرف ولا ينقل الضمان.
ومن هذا الباب بيع المقاثي ؛ فإن من العلماء من لم يجوز بيعها إلا لقطة لقطة لأنه بيع معدوم وجعلوا هذا من بيع الثمر قبل بدو صلاحه. ثم من هؤلاء من قال: إذا بيعت بعروقها كان كبيع أصل الشجر مع الثمر وذلك يجوز قبل ظهور صلاحه ؛ لقوله ﷺ في الحديث المتفق على صحته: «من باع نخلا قد أبرت فثمرها للبائع إلا أن يشترطه المبتاع».
فإذا اشترط الثمر دخل في البيع وهنا جاز بيع الثمر قبل بدو صلاحه تبعا للأصل ؛ ولهذا تكون خدمته على المشتري ومعلوم أن المقصود من الشجر هو الأصل والمقصود في المقاثي هو الثمر فلا يقاس أحدهما بالآخر. ومن العلماء من جوز بيع المقاثي كما هو قول مالك وغيره وهو قول في مذهب أحمد. وهذا أصح ؛ فإنه لا يمكن بيعها إلا على هذا الوجه إذ لا تتميز لقطة عن لقطة وما لا يباع إلا على وجه واحد لا ينهى عن بيعه كما تقدم والنبي ﷺ إنما نهى عن بيع الثمار التي يمكن تأخير بيعها حتى يبدو صلاحها فلم تدخل المقاثي في نهيه ولذلك كثير من العلماء أدخلوا ضمان البساتين في نهيه فقالوا: إذا ضمن الحديقة لمن يعمل عليها حتى تثمر بشيء معلوم كان هذا بيعا للثمر قبل بدو صلاحه ؛ فلا يجوز.
ومن الناس من حكى الإجماع على منع هذا وليس كما قال ؛ بل قد ثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل حديقة أسيد بن حضير ثلاث سنين ويستلف الضمان فقضى به دينا كان على أسيد ؛ لأنه كان وصيه وقد جوز ابن عقيل ضمانها مع الأراضي المؤجرة إذا لم يمكن إفراد أحدهما عن الآخر وجوز مالك ذلك تبعا للأرض في قدر الثلث وقضية عمر بن الخطاب مما يشتهر مثلها في العادة ولم ينقل أن أحدًا من الصحابة أنكره فالصواب ما فعله عمر بن الخطاب إذ الفرق بين البيع والضمان هو الفرق بين البيع والإجارة ألا ترى أن النبي ﷺ نهى عن بيع الحب حتى يشتد؟ ثم إذا استأجر أرضًا ليزرعها جاز هذا مع أن المستأجر مقصوده الحب لكن مقصوده ذلك بعمله هو لا بعمل البائع وكذلك الذي يستأجر البستان ليخدم شجره ويسقيها حتى تثمر هو بمنزلة المستأجر ليس بمنزلة المشتري الذي يشتري ثمرًا وعلى البائع مئونة خدمتها وسقيها.
فإن قيل: هذه أعيان والإجارة لا تكون على الأعيان. قيل: الجواب من وجهين: أحدهما: أن الأعيان هنا حصلت بعمله هو من الأصل المستأجر كما حصل الحب بعمله المؤجر في أرض وإذا قيل: الحب حصل من بذره والثمر حصل من شجر المؤجر: كان هذا فرقا لا أثر له في الشرع ألا ترى أن المساقاة كالمزارعة؟ والمساقي يستحق جزءا من الثمرة الحاصلة من أصل المالك ؛ والمزارع يستحق جزءا من الزرع النابت في أرض المالك وإن كان البذر من المالك ؛ وكذلك إن كان البذر منه كما ثبت بالسنة وإجماع الصحابة فالبذر يتلف لا يعود إلى صاحبه. وقد ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ «عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع على أن يعمروها من أموالهم».
فالأرض والنخل والماء كان للنبي ﷺ واستحقوا بعملهم جزءًا من الثمر كما استحقوا جزءا من الزرع ؛ وإن كان البذر منهم والشجر من النبي ﷺ فعلم أن هذا الفرق لا تأثير له في الشرع وإذا لم يؤثر في المساقاة والمزارعة التي يكون النماء مشتركا لم يؤثر في الإجارة بطريق الأولى ؛ فإن استئجار الأرض ليس فيه من النزاع ما في المزارعة فإذا كانت إجارتها أجوز من المزارعة فإجارة الشجر أجوز من المساقاة.
الوجه الثاني: أن نقول: هذا كإجارة الظئر والبئر ونحو ذلك والكلام على هذا هو الكلام على الأصل الثاني في الإجارة فنقول: قول القائل: إن إجارة الظئر على خلاف القياس إنما هو لاعتقاده أن الإجارة لا تكون إلا على منافع أعراض لا تستحق بها أعيان وهذا القدر لم يدل عليه كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس بل الذي دلت عليه الأصول أن الأعيان التي تحدث شيئًا بعد شيء مع بقاء أصلها حكمها حكم المنافع كالثمر والشجر ؛ واللبن في الحيوان ؛ ولهذا سوى بين هذا وهذا في الوقف ؛ فإن الأصل تحبيس الأصل وتسبيل الفائدة فلا بد أن يكون الأصل باقيا وأن تكون الفائدة تحدث مع بقاء الأصل فيجوز أن تكون فائدة الوقف منفعة كالسكنى ويجوز أن تكون ثمرة كوقف الشجر ويجوز أن تكون لبنا كوقف الماشية للانتفاع بلبنها. وكذلك باب التبرعات.
فإن العارية والعرية والمنحة هي إعطاء العين لمن ينتفع بها ثم يردها فالمنحة إعطاء الماشية لمن يشرب لبنها ثم يردها والعرية إعطاء الشجرة لمن يأكل ثمرها ثم يردها والسكنى إعطاء الدار لمن يسكنها ثم يعيدها فكذلك في الإجارة تارة تكريه العين للمنفعة التي ليست أعيانًا كالسكنى والركوب وتارة للعين التي تحدث شيئًا بعد شيء مع بقاء الأصل كلبن الظئر ونقع البئر والعين فإن الماء واللبن لما كانا شيئًا بعد شيء مع بقاء الأصل كان كالمنفعة والمسوغ للإجارة هو ما بينهما من القدر المشترك وهو حدث والمقصود بالعقد شيئًا فشيئًا سواء كان الحادث عينًا أو منفعة إذ كونه جسمًا أو معنى قائمًا بالجسم لا أثر له في جهة الجواز مع اشتراكهما في المقتضي للجواز بل هذا أحق بالجواز ؛ فإن الأجسام أكمل من صفاتها ؛ ولا يمكن العقد عليها إلا كذلك. وطرد هذا أكثر في الظئر من الحيوان للإرضاع ثم الظئر تارة تستأجر بأجرة مقدرة وتارة بطعامها وكسوتها وتارة يكون طعامها وكسوتها من جملة الأجرة.
وأما الماشية إذا عقد على لبنها بعوض فتارة يشتري لبنها مع أن علفها وخدمتها على المالك وتارة على أن ذلك على المشتري فهذا الثاني يشبه ضمان البساتين وهو بالإجارة أشبه لأن اللبن تسقيه الطفل فيذهب وينتفع به فهو كاستئجار العين يستقي بمائها أرضه بخلاف من يقبض اللبن فإنه هنا قبض العين المعقود عليها وتسمية هذا بيعا وهذا إجارة نزاع لفظي والاعتبار بالمقاصد.
ومن الفقهاء من يجعل اختلاف العبارات مؤثرًا في صحة العقد وفساده حتى إن من هؤلاء من يصحح العقد بلفظ دون لفظ كما يقول بعضهم إن السلم الحال لا يجوز وإذا كان بلفظ البيع جاز: ويقول بعضهم: إن المزارعة على أن يكون البذر من العامل لا تجوز وإذا عقده بلفظ الإجارة جاز وهذا قول بعض أصحاب أحمد وهذا ضعيف ؛ فإن الاعتبار في العقود بمقاصدها وإذا كان المعنى المقصود في الموضعين واحدا فتجويزه بعبارة دون عبارة كتجويزه بلغة دون لغة نعم إذا كان أحد اللفظين يقتضي حكما لا يقتضيه الآخر فهذا له حكم آخر ؛ وليس هذا موضع بسط هذه المسائل. وإنما المقصود التنبيه على ما يقال: إنه موافق للقياس أو مخالفه وإن الشارع إذا سوى بين شيء ين كما سوى بين الاستئجار على الرضاع والخدمة فالفارق بينهما عدم التأثير وهو كون هذا عينا وهذا منفعة وإذا فرق بين شيء ين فالجامع بينهما ليس هو وحده مناط الحكم بل للفارق تأثير.
هامش
- ↑ [الطلاق: 6]
- ↑ [الأحزاب: 49]
- ↑ [البقرة: 231]
- ↑ [الطلاق: 2]
- ↑ [البقرة: 275]
- ↑ [الزخرف: 57]
- ↑ [الزخرف: 58]
- ↑ [الأنبياء: 98]
- ↑ [الأنبياء: 99]
- ↑ [الأنبياء: 98]
- ↑ [الزخرف: 57]
- ↑ [الزخرف: 58]
- ↑ [الشعراء: 97]
- ↑ [الشعراء: 98]