→ أعذار العلماء في الخطأ في الأحكام | مجموع فتاوى ابن تيمية المجتهد ودخوله تحت أحكام الوعيد ابن تيمية |
سئل عن الشيخ عبد القادر والإمام أحمد ← |
المجتهد ودخوله تحت أحكام الوعيد
فإن قيل: فهلا قلتم إن أحاديث الوعيد لا تتناول محل الخلاف، وإنما تتناول محل الوفاق وكل فعل لعن فاعله أو توعد بغضب أو عقاب حمل على فعل اتفق على تحريمه لئلا يدخل بعض المجتهدين في الوعيد إذا فعل ما اعتقد تحليله بل المعتقد أبلغ من الفاعل، إذ هو الآمر له بالفعل فيكون قد ألحق به وعيد اللعن أو الغضب بطريق الاستلزام؟؟ قلنا: الجواب من وجوه:
أحدها: أن جنس التحريم إما أن يكون ثابتا في محل خلاف أو لا يكون فإن لم يكن ثابتا في محل خلاف قط لزم أن لا يكون حراما إلا ما أجمع على تحريمه فكل ما اختلف في تحريمه يكون حلالا وهذا مخالف لإجماع الأمة وهو معلوم البطلان بالاضطرار من دين الإسلام.
وإن كان ثابتا ولو في صورة فالمستحل لذلك الفعل المحرم من المجتهدين إما أن يلحقه ذم من حلل الحرام أو فعله وعقوبته أو لا؟ فإن قيل: إنه يلحقه، أو قيل: إنه لا يلحقه: فكذلك التحريم الثابت في حديث الوعيد اتفاقا والوعيد الثابت في محل الخلاف على ما ذكرناه من التفصيل بل الوعيد إنما جاء على الفاعل وعقوبة محلل الحرام في الأصل أعظم من عقوبة فاعله من غير اعتقاد، فإذا جاز أن يكون التحريم ثابتا في صورة الخلاف ولا يلحق المحلل المجتهد عقوبة ذلك الإحلال للحرام، لكونه معذورا فيه، فلأن لا يلحق الفاعل وعيد ذلك الفعل أولى وأحرى.
وكما لم يلزم دخول المجتهد تحت حكم هذا التحريم من الذم والعقاب وغير ذلك: لم يلزم دخوله تحت حكمه من الوعيد، إذ ليس الوعيد إلا نوعا من الذم والعقاب فإن جاز دخوله تحت هذا الجنس فما كان الجواب عن بعض أنواعه كان جوابا عن البعض الآخر ولا يغني الفرق بقلة الذم وكثرته، أو شدة العقوبة وخفتها، فإن المحذور في قليل الذم والعقاب في هذا المقام كالمحذور في كثيره فإن المجتهد لا يلحقه قليل ذلك ولا كثيره بل يلحقه ضد ذلك من الأجر والثواب.
الثاني: أن كون حكم الفعل مجمعا عليه أو مختلفا فيه أمور خارجة عن الفعل وصفاته وإنما هي أمور إضافية بحسب ما عرض لبعض العلماء من عدم العلم. واللفظ العام إن أريد به الخاص فلا بد من نصب دليل يدل على التخصيص إما مقترن بالخطاب عند من لا يجوز تأخير البيان وإما موسع في تأخيره إلى حين الحاجة عند الجمهور.
ولا شك أن المخاطبين بهذا على عهد رسول الله ﷺ كانوا محتاجين إلى معرفة حكم الخطاب فلو كان المراد باللفظ العام في لعنة آكل الربا والمحلل ونحوهما المجمع على تحريمه - وذلك لا يعلم إلا بعد موت النبي ﷺ وتكلم الأمة في جميع أفراد ذلك العام - لكان قد أخر بيان كلامه إلى أن تكلم جميع الأمة في جميع أفراده وهذا لا يجوز.
الثالث: أن هذا الكلام إنما خوطبت الأمة به لتعرف الحرام فتجتنبه ويستندون في إجماعهم إليه، ويحتجون في نزاعهم به فلو كانت الصورة المرادة هي ما أجمعوا عليه فقط لكان العلم بالمراد موقوفا على الإجماع فلا يصح الاحتجاج به قبل الإجماع فلا يكون مستندا للإجماع لأن مستند الإجماع يجب أن يكون متقدما عليه فيمتنع تأخره عنه فإنه يفضي إلى الدور الباطل فإن أهل الإجماع حينئذ لا يمكنهم الاستدلال بالحديث على صورة حتى يعلموا أنها مرادة ولا يعلمون أنها مرادة حتى يجتمعوا فصار الاستدلال موقوفا على الإجماع قبله والإجماع موقوفا على الاستدلال قبله إذا كان الحديث هو مستندهم فيكون الشيء موقوفا على نفسه فيمتنع وجوده ولا يكون حجة في محل الخلاف لأنه لم يرد وهذا تعطيل للحديث عن الدلالة على الحكم في محل الوفاق والخلاف وذلك مستلزم أن لا يكون شيء من النصوص التي فيها تغليظ للفعل أفادنا تحريم ذلك الفعل وهذا باطل قطعا.
الرابع: أن هذا يستلزم أن لا يحتج بشيء من هذه الأحاديث إلا بعد العلم بأن الأمة أجمعت على تلك الصورة فإذا الصدر الأول لا يجوز أن يحتجوا بها، بل ولا يجوز أن يحتج بها من يسمعها من في رسول الله ﷺ ويجب على الرجل إذا سمع مثل هذا الحديث ووجد كثيرا من العلماء قد عملوا به ولم يعلم له معارض: أن لا يعمل به حتى يبحث عنه هل في أقطار الأرض من يخالفه؟ كما لا يجوز له أن يحتج في مسألة بالإجماع إلا بعد البحث التام وإذا يبطل الاحتجاج بحديث رسول الله ﷺ بمجرد خلاف واحد من المجتهدين فيكون قول الواحد مبطلا لكلام رسول الله ﷺ وموافقته محققة لقول رسول الله ﷺ وإذا كان ذلك الواحد قد أخطأ صار خطؤه مبطلا لكلام رسول الله ﷺ. وهذا كله باطل بالضرورة، فإنه إن قيل: لا يحتج به إلا بعد العلم بالإجماع: صارت دلالة النصوص موقوفة على الإجماع وهو خلاف الإجماع وحينئذ فلا يبقى للنصوص دلالة، فإن المعتبر إنما هو الإجماع والنص عديم التأثير. فإن قيل: يحتج به إذ لا يعلم وجود الخلاف فيكون قول واحد من الأمة مبطلا لدلالة النص وهذا أيضا خلاف الإجماع وبطلانه معلوم بالاضطرار من دين الإسلام.
الخامس: أنه إما أن يشترط في شمول الخطاب اعتقاد جميع الأمة للتحريم أو يكتفى باعتقاد العلماء. فإن كان الأول لم يجز أن يستدل على التحريم بأحاديث الوعيد حتى يعلم أن جميع الأمة - حتى الناشئين بالبوادي البعيدة والداخلين في الإسلام من المدة القريبة - قد اعتقدوا أن هذا محرم وهذا لا يقوله مسلم بل ولا عاقل، فإن العلم بهذا الشرط متعذر. وإن قيل: يكتفى باعتقاد جميع العلماء قيل له: إنما اشترطت إجماع العلماء حذرا من أن يشمل الوعيد لبعض المجتهدين وإن كان مخطئا وهذا بعينه موجود فيمن لم يسمع دليل التحريم من العامة فإن محذور شمول اللعنة لهذا كمحذور شمول اللعنة لهذا ولا ينجي من هذا الإلزام أن يقال: ذلك من أكابر الأمة وفضلاء الصديقين وهذا من أطراف الأمة فإن افتراقهما من هذا الوجه لا يمنع اشتراكهما في هذا الحكم، فإن الله سبحانه كما غفر للمجتهد إذا أخطأ غفر للجاهل إذا أخطأ ولم يمكنه التعلم بل المفسدة التي تحصل بفعل واحد من العامة محرما لم يعلم تحريمه ولم يمكنه معرفة تحريمه، أقل بكثير من المفسدة التي تنشأ من إحلال بعض الأئمة لما قد حرمه الشارع وهو لم يعلم تحريمه ولم يمكنه معرفة تحريمه.
ولهذا قيل: احذروا زلة العالم فإنه إذا زل زل بزلته عالم. قال ابن عباس رضي الله عنهما: ويل للعالم من الأتباع. فإن كان هذا معفوا عنه مع عظم المفسدة الناشئة من فعله: فلأن يعفى عن الآخر مع خفة مفسدة فعله أولى. نعم يفترقان من وجه آخر، وهو أن هذا اجتهد فقال باجتهاد وله من نشر العلم وإحياء السنة ما تنغمر فيه هذه المفسدة وقد فرق الله بينهما من هذا الوجه فأثاب المجتهد على اجتهاده وأثاب العالم على علمه ثوابا لم يشركه فيه ذلك الجاهل فهما مشتركان في العفو مفترقان في الثواب ووقوع العقوبة على غير المستحق ممتنع جليلا كان أو حقيرا فلا بد من إخراج هذا الممتنع من الحديث بطريق يشمل القسمين.
السادس: أن من أحاديث الوعيد ما هو نص في صورة الخلاف مثل لعنة المحلل له فإن من العلماء من يقول: إن هذا لا يأثم بحال فإنه لم يكن ركنا في العقد الأول بحال حتى يقال: لعن لاعتقاده وجوب الوفاء بالتحليل. فمن اعتقد أن نكاح الأول صحيح وإن بطل الشرط فإنها تحل للثاني: جرد الثاني عن الإثم بل وكذلك المحلل فإنه إما أن يكون ملعونا على التحليل أو على اعتقاده وجوب الوفاء بالشرط المقرون بالعقد فقط أو على مجموعهما، فإن كان الأول أو الثالث حصل الغرض وإن كان الثاني فهذا الاعتقاد هو الموجب للعنة سواء حصل هناك تحليل أو لم يحصل وحينئذ فيكون المذكور في الحديث ليس هو سبب اللعنة، وسبب اللعنة لم يتعرض له وهذا باطل. ثم هذا المعتقد وجوب الوفاء إن كان جاهلا فلا لعنة عليه.
وإن كان عالما بأنه لا يجب فمحال أن يعتقد الوجوب إلا أن يكون مراغما للرسول ﷺ فيكون كافرا فيعود معنى الحديث إلى لعنة الكفار والكفر لا اختصاص له بإنكار هذا الحكم الجزئي دون غيره فإن هذا بمنزلة من يقول: لعن الله من كذب الرسول في حكمه بأن شرط الطلاق في النكاح باطل.
ثم هذا كلام عام عموما لفظيا ومعنويا وهو عموم مبتدأ ومثل هذا العموم لا يجوز حمله على الصور النادرة، إذ الكلام يعود لكنة وعيا كتأويل من يتأول قوله: «أيما امرأة نكحت من غير إذن وليها»، على المكاتبة. وبيان ندوره: أن المسلم الجاهل لا يدخل في الحديث والمسلم العالم بأن هذا الشرط لا يجب الوفاء به لا يشترطه معتقدا وجوب الوفاء به إلا أن يكون كافرا والكافر لا ينكح نكاح المسلمين إلا أن يكون منافقا وصدور هذا النكاح على مثل هذا الوجه من أندر النادر ولو قيل إن مثل هذه الصورة لا تكاد تخطر ببال المتكلم لكان القائل صادقا.
وقد ذكرنا الدلائل الكثيرة في غير هذا الموضع على أن هذا الحديث قصد به المحلل القاصد وإن لم يشترط وكذلك الوعيد الخاص من اللعنة والنار وغير ذلك قد جاء منصوصا في مواضع مع وجود الخلاف فيها مثل حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ﷺ أنه قال: «لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج» قال الترمذي حديث حسن وزيارة النساء رخص فيها بعضهم وكرهها بعضهم ولم يحرمها. وحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي ﷺ: «لعن الله الذين يأتون النساء في محاشهن» وحديث أنس رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: «الجالب مرزوق والمحتكر ملعون».
وقد تقدم حديث الثلاثة الذين لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم وفيهم من منع فضل مائه وقد لعن بائع الخمر وقد باعها بعض المتقدمين. وقد صح عنه من غير وجه أنه قال: «من جر إزاره خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة» وقال: «ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب» مع أن طائفة من الفقهاء يقولون: إن الجر والإسبال للخيلاء مكروه غير محرم.
وكذلك قوله ﷺ: «لعن الله الواصلة والمستوصلة» وهو من أصح الأحاديث. وفي وصل الشعر خلاف معروف.
وكذلك قوله: «إن الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم». ومن العلماء من لم يحرم ذلك.
السابع: أن الموجب للعموم قائم، والمعارض المذكور لا يصلح أن يكون معارضا، لأن غايته أن يقال: حمله على صور الوفاق والخلاف يستلزم دخول بعض من لا يستحق اللعن فيه فيقال: إذا كان التخصيص على خلاف الأصل فتكثيره على خلاف الأصل فيستثنى من هذا العموم من كان معذورا بجهل أو اجتهاد أو تقليد. مع أن الحكم شامل لغير المعذورين كما هو شامل لصور الوفاق فإن هذا التخصيص أقل، فيكون أولى.
الثامن: أنا إذا حملنا اللفظ على هذا كان قد تضمن ذكر سبب اللعن ويبقى المستثنى قد تخلف الحكم عنه لمانع ولا شك أن من وعد وأوعد ليس عليه أن يستثنى من تخلف الوعد أو الوعيد في حقه لمعارض فيكون الكلام جاريا على منهاج الصواب. أما إذا جعلنا اللعن على فعل المجمع على تحريمه أو سبب اللعن هو اعتقاد المخالف للإجماع: كان سبب اللعن غير مذكور في الحديث مع أن ذلك العموم لا بد فيه من التخصيص أيضا فإذا كان لا بد من التخصيص على التقديرين فالتزامه على الأول أولى لموافقة وجه الكلام وخلوه عن الإضمار.
التاسع: أن الموجب لهذا إنما هو نفي تناول اللعنة للمعذور وقد قدمنا فيما مضى أن أحاديث الوعيد إنما المقصود بها بيان أن ذلك الفعل سبب لتلك اللعنة فيكون التقدير هذا الفعل سبب اللعن فلو قيل: هذا لم يلزم منه تحقق الحكم في حق كل شخص، لكن يلزم منه قيام السبب إذا لم يتبعه الحكم ولا محذور فيه وقد قررنا فيما مضى أن الذم لا يلحق المجتهد حتى إنا نقول: إن محلل الحرام أعظم إثما من فاعله ومع هذا فالمعذور معذور. فإن قيل: فمن المعاقب فإن فاعل هذا الحرام إما مجتهد أو مقلد له وكلاهما خارج عن العقوبة؟.
قلنا: الجواب من وجوه.
أحدها: أن المقصود بيان أن هذا الفعل مقتض للعقوبة سواء وجد من يفعله أو لم يوجد فإذا فرض أنه لا فاعل إلا وقد انتفى فيه شرط العقوبة، أو قد قام به ما يمنعها: لم يقدح هذا في كونه محرما بل نعلم أنه محرم ليجتنبه من يتبين له التحريم ويكون من رحمة الله بمن فعله قيام عذر له وهذا كما أن الصغائر محرمة وإن كانت تقع مكفرة باجتناب الكبائر وهذا شأن جميع المحرمات المختلف فيها فإن تبين أنها حرام - وإن كان قد يعذر من يفعلها مجتهدا أو مقلدا - فإن ذلك لا يمنعنا أن نعتقد تحريمها.
الثاني: أن بيان الحكم سبب لزوال الشبهة المانعة من لحوق العقاب، فإن العذر الحاصل بالاعتقاد ليس المقصود بقاءه بل المطلوب زواله بحسب الإمكان ولولا هذا لما وجب بيان العلم ولكان ترك الناس على جهلهم خيرا لهم ولكان ترك دلائل المسائل المشتبهة خيرا من بيانها.
الثالث: أن بيان الحكم والوعيد سبب لثبات المجتنب على اجتنابه ولولا ذلك لانتشر العمل بها.
الرابع: أن هذا العذر لا يكون عذرا إلا مع العجز عن إزالته وإلا فمتى أمكن الإنسان معرفة الحق فقصر فيها لم يكن معذورا.
الخامس: أنه قد يكون في الناس من يفعله غير مجتهد اجتهادا يبيحه، ولا مقلدا تقليدا يبيحه فهذا الضرب قد قام فيه سبب الوعيد من غير هذا المانع الخاص فيتعرض للوعيد ويلحقه، إلا أن يقوم فيه مانع آخر من توبة أو حسنات ماحية أو غير ذلك ثم هذا مضطرب، قد يحسب الإنسان أن اجتهاده أو تقليده مبيح له أن يفعل ويكون مصيبا في ذلك تارة ومخطئا أخرى لكن متى تحرى الحق ولم يصده عنه اتباع الهوى فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
العاشر: أنه إن كان إبقاء هذه الأحاديث على مقتضياتها مستلزما لدخول بعض المجتهدين تحت الوعيد، وإذا كان لازما على التقديرين بقي الحديث سالما عن المعارض فيجب العمل به. بيان ذلك: أن كثيرا من الأئمة صرحوا بأن فاعل الصورة المختلف فيها ملعون منهم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فإنه سئل عمن تزوجها ليحلها ولم تعلم بذلك المرأة ولا زوجها فقال: هذا سفاح وليس بنكاح «لعن الله المحلل والمحلل له». وهذا محفوظ عنه من غير وجه، وعن غيره، منهم الإمام أحمد بن حنبل، فإنه قال: إذا أراد الإحلال فهو محلل وهو ملعون وهذا منقول عن جماعات من الأئمة في صور كثيرة من صور الخلاف في الخمر والربا وغيرهما. فإن كانت اللعنة الشرعية وغيرها من الوعيد الذي جاء لم يتناول إلا محل الوفاق: فيكون هؤلاء قد لعنوا من لا يجوز لعنه، فيستحقون من الوعيد الذي جاء في غير حديث مثل قوله ﷺ: «لعن المسلم كقتله» وقوله ﷺ فيما رواه ابن مسعود رضي الله عنه: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر» متفق عليهما. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: «إن الطعانين واللعانين لا يكونون يوم القيامة شفعاء ولا شهداء». وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال «لا ينبغي لصديق أن يكون لعانا» رواهما مسلم وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا الفاحش ولا البذيء» رواه الترمذي وقال: حديث حسن وفي أثر آخر: «ما من رجل يلعن شيئا ليس له بأهل إلا حارت اللعنة عليه». فهذا الوعيد الذي قد جاء في اللعن - حتى قيل: إن من لعن من ليس بأهل كان هو الملعون وإن هذا اللعن فسوق، وأنه مخرج عن الصديقية والشفاعة والشهادة - يتناول من لعن من ليس بأهل فإذا لم يكن فاعل المختلف فيه داخلا في النص لم يكن أهلا فيكون لاعنه مستوجبا لهذا الوعيد فيكون أولئك المجتهدون الذين رأوا دخول محل الخلاف في الحديث مستوجبين لهذا الوعيد فإذا كان المحذور ثابتا على تقدير إخراج محل الخلاف وتقدير بقائه علم أنه ليس بمحذور ولا مانع من الاستدلال بالحديث وإن كان المحذور ليس ثابتا على واحد من التقديرين فلا يلزم محذور ألبتة، وذلك أنه إذا ثبت التلازم، وعلم أن دخولهم على تقدير الوجود مستلزم لدخولهم على تقدير العدم: فالثابت أحد الأمرين: إما وجود الملزوم واللازم وهو دخولهم جميعا أو عدم اللازم والملزوم وهو عدم دخولهم جميعا، لأنه إذا وجد الملزوم وجد اللازم، وإذا عدم اللازم عدم الملزوم.
وهذا القدر كاف في إبطال السؤال، لكن الذي نعتقده أن الواقع عدم دخولهم على التقديرين على ما تقرر وذلك أن الدخول تحت الوعيد مشروط بعدم العذر في الفعل وأما المعذور عذرا شرعيا فلا يتناوله الوعيد بحال والمجتهد معذور بل مأجور فينتفي شرط الدخول في حقه فلا يكون داخلا سواء اعتقد بقاء الحديث على ظاهره أو أن في ذلك خلافا يعذر فيه وهذا إلزام مفحم لا محيد عنه إلا إلى وجه واحد وهو أن يقول السائل: أنا أسلم أن من العلماء المجتهدين من يعتقد دخول مورد الخلاف في نصوص الوعيد ويوعد على مورد الخلاف بناء على هذا الاعتقاد فيلعن مثلا من فعل ذلك الفعل لكن هو مخطئ في هذا الاعتقاد خطأ يعذر فيه ويؤجر فلا يدخل في وعيد من لعن بغير حق، لأن ذلك الوعيد هو عندي محمول على لعن محرم بالاتفاق فمن لعن لعنا محرما بالاتفاق تعرض للوعيد المذكور على اللعن وإذا كان اللعن من موارد الاختلاف لم يدخل في أحاديث الوعيد كما أن الفعل المختلف في حله ولعن فاعله لا يدخل في أحاديث الوعيد فكما أخرجت محل الخلاف من الوعيد الأول أخرج محل الخلاف من الوعيد الثاني.
وأعتقد أن أحاديث الوعيد في كلا الطرفين لم تشمل محل الخلاف لا في جواز الفعل ولا في جواز لعنة فاعله سواء اعتقد جواز الفعل أو عدم جوازه فإني على التقديرين لا أجوز لعنة فاعله ولا أجوز لعنة من لعن فاعله ولا أعتقد الفاعل ولا اللاعن داخلا في حديث وعيد ولا أغلظ على اللاعن إغلاظ من يراه متعرضا للوعيد بل لعنه لمن فعل المختلف فيه عندي من جملة مسائل الاجتهاد وأنا أعتقد خطأه في ذلك كما قد أعتقد خطأ المبيح فإن المقالات في محل الخلاف ثلاثة:
أحدها: القول بالجواز.
والثاني: القول بالتحريم ولحوق الوعيد.
والثالث: القول بالتحريم الخالي من هذا الوعيد الشديد. وأنا قد أختار هذا القول الثالث: لقيام الدليل على تحريم الفعل وعلى تحريم لعنة فاعل المختلف فيه مع اعتقادي أن الحديث الوارد في توعد الفاعل وتوعد اللاعن لم يشمل هاتين الصورتين. فيقال للسائل: إن جوزت أن تكون لعنة هذا الفاعل من مسائل الاجتهاد جاز أن يستدل عليها بالظاهر المنصوص، فإنه حينئذ لا أمان من إرادة محل الخلاف من حديث الوعيد والمقتضي لإرادته قائم فيجب العمل به، وإن لم تجوز أن يكون من مسائل الاجتهاد كان لعنه محرما تحريما قطعيا.
ولا ريب أن من لعن مجتهدا لعنا محرما تحريما قطعيا كان داخلا في الوعيد الوارد للاعن وإن كان متأولا كمن لعن بعض السلف الصالح فثبت أن الدور لازم سواء قطعت بتحريم لعنة فاعل المختلف فيه أو سوغت الاختلاف فيه وذلك الاعتقاد الذي ذكرته لا يدفع الاستدلال بنصوص الوعيد على التقديرين وهذا بين.
ويقال له أيضا: ليس مقصودنا بهذا الوجه تحقيق تناول الوعيد لمحل الخلاف وإنما المقصود تحقيق الاستدلال بحديث الوعيد على محل الخلاف والحديث أفاد حكمين: التحريم والوعيد وما ذكرته إنما يتعرض لنفي دلالته على الوعيد فقط والمقصود هنا إنما هو بيان دلالته على التحريم فإذا التزمت أن الأحاديث المتوعدة للاعن لا تتناول لعنا مختلفا فيه: لم يبق في اللعن المختلف فيه دليل على تحريمه وما نحن فيه من اللعن المختلف فيه كما تقدم فإذا لم يكن حراما كان جائزا.
أو يقال: فإذا لم يقم دليل على تحريمه لم يجز اعتقاد تحريمه والمقتضي لجوازه قائم وهي الأحاديث اللاعنة لمن فعل هذا وقد اختلف العلماء في جواز لعنته ولا دليل على تحريم لعنته على هذا التقدير فيجب العمل بالدليل المقتضي لجواز لعنته السالم عن المعارض.
وهذا يبطل السؤال: فقد دار الأمر على السائل من جهة أخرى وإنما جاء هذا الدور الآخر لأن عامة النصوص المحرمة للعن متضمنة للوعيد فإن لم يجز الاستدلال بنصوص الوعيد على محل الخلاف لم يجز الاستدلال بها على لعن مختلف فيه كما تقدم.
ولو قال: أنا أستدل على تحريم هذه اللعنة بالإجماع.
قيل له: الإجماع منعقد على تحريم لعنة معين من أهل الفضل أما لعنة الموصوف فقد عرفت الخلاف فيه وقد تقدم أن لعنة الموصوف لا تستلزم إصابة كل واحد من أفراده إلا إذا وجدت الشروط وارتفعت الموانع وليس الأمر كذلك. ويقال له أيضا: كل ما تقدم من الأدلة الدالة على منع حمل هذه الأحاديث على محل الوفاق ترد هنا وهي تبطل هذا السؤال هنا كما أبطلت أصل السؤال وليس هذا من باب جعل الدليل مقدمة من مقدمات دليل آخر حتى يقال: هذا مع التطويل إنما هو دليل واحد إذ المقصود منه أن نبين أن المحذور الذي ظنوه هو لازم على التقديرين فلا يكون محذورا فيكون دليل واحد قد دل على إرادة محل الخلاف من النصوص، وعلى أنه لا محذور في ذلك وليس بمستنكر أن يكون الدليل على مطلوب مقدمة في دليل مطلوب آخر وإن كان المطلوبان متلازمين.
الحادي عشر: أن العلماء متفقون على وجوب العمل بأحاديث الوعيد فيما اقتضته من التحريم فإنما خالف بعضهم في العمل بآحادها في الوعيد خاصة فأما في التحريم فليس فيه خلاف معتد محتسب وما زال العلماء من الصحابة والتابعين والفقهاء بعدهم رضي الله عنهم أجمعين في خطابهم وكتابهم يحتجون بها في موارد الخلاف وغيره بل إذا كان في الحديث وعيد كان ذلك أبلغ في اقتضاء التحريم على ما تعرفه القلوب وقد تقدم أيضا التنبيه على رجحان قول من يعمل بها في الحكم واعتقاد الوعيد وأنه قول الجمهور، وعلى هذا فلا يقبل سؤال يخالف الجماعة.
الثاني عشر: أن نصوص الوعيد من الكتاب والسنة كثيرة جدا والقول بموجبها واجب على وجه العموم والإطلاق من غير أن يعين شخص من الأشخاص فيقال: هذا ملعون ومغضوب عليه أو مستحق للنار لا سيما إن كان لذلك الشخص فضائل وحسنات، فإن من سوى الأنبياء تجوز عليهم الصغائر والكبائر مع إمكان أن يكون ذلك الشخص صديقا أو شهيدا أو صالحا، لما تقدم أن موجب الذنب يتخلف عنه بتوبة أو استغفار أو حسنات ماحية أو مصائب مكفرة أو شفاعة أو لمحض مشيئته ورحمته.
فإذا قلنا بموجب قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } [1]، وقوله تعالى: { وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [2]، وقوله تعالى: { لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا } [3]، إلى غير ذلك من آيات الوعيد. أو قلنا بموجب قوله ﷺ: «لعن الله من شرب الخمر أو عق والديه أو من غير منار الأرض» أو «لعن الله السارق» أو «لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه» أو «لعن الله لاوي الصدقة والمعتدي فيها» أو «من أحدث في المدينة حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» أو «من جر إزاره بطرا لم ينظر الله إليه يوم القيامة» أو «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر»، و«من غشنا فليس منا» أو «من ادعي إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فالجنة عليه حرام» أو «من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان» أو «من استحل مال امرئ مسلم بيمين كاذبة فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة» أو «لا يدخل الجنة قاطع» إلى غير ذلك من أحاديث الوعيد. لم يجز أن نعين شخصا ممن فعل بعض هذه الأفعال ونقول: هذا المعين قد أصابه هذا الوعيد، لإمكان التوبة وغيرها من مسقطات العقوبة ولم يجز أن نقول: هذا يستلزم لعن المسلمين، ولعن أمة محمد ﷺ أو لعن الصديقين أو الصالحين، لأنه يقال: الصديق والصالح متى صدرت منه بعض هذه الأفعال فلا بد من مانع يمنع لحوق الوعيد به مع قيام سببه ففعل هذه الأمور ممن يحسب أنها مباحة باجتهاد أو تقليد أو نحو ذلك غايته أن يكون نوعا من أنواع الصديقين الذين امتنع لحوق الوعيد بهم لمانع كما امتنع لحوق الوعيد به لتوبة أو حسنات ماحية أو غير ذلك.
واعلم أن هذه السبيل هي التي يجب سلوكها، فإن ما سواها طريقان خبيثان:
أحدهما: القول بلحوق الوعيد لكل فرد من الأفراد بعينه ودعوى أن هذا عمل بموجب النصوص، وهذا أقبح من قول الخوارج المكفرين بالذنوب والمعتزلة وغيرهم وفساده معلوم بالاضطرار وأدلته معلومة في غير هذا الموضع.
الثاني: ترك القول والعمل بموجب أحاديث رسول الله ﷺ، ظنا أن القول بموجبها مستلزم للطعن فيما خالفها.
وهذا الترك يجر إلى الضلال واللحوق بأهل الكتابين الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم فإن النبي ﷺ قال: «لم يعبدوهم ولكن أحلوا لهم الحرام فاتبعوهم وحرموا عليهم الحلال فاتبعوهم» ويفضي إلى طاعة المخلوق في معصية الخالق ويفضي إلى قبح العاقبة وسوء التأويل المفهوم من فحوى قوله تعالى: { أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا } [4]. ثم إن العلماء يختلفون كثيرا، فإن كان كل خبر فيه تغليظ خالفه مخالف ترك القول بما فيه من التغليظ أو ترك العمل به مطلقا لزم من هذا من المحذور ما هو أعظم من أن يوصف: من الكفر والمروق من الدين وإن لم يكن المحذور من هذا أعظم من الذي قبله لم يكن دونه فلا بد أن نؤمن بالكتاب ونتبع ما أنزل إلينا من ربنا جميعه ولا نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض وتلين قلوبنا لاتباع بعض السنة وتنفر عن قبول بعضها بحسب العادات والأهواء فإن هذا خروج عن الصراط المستقيم إلى صراط المغضوب عليهم والضالين.
والله يوفقنا لما يحبه ويرضاه من القول والعمل في خير وعافية لنا ولجميع المسلمين. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتخبين وأزواجه أمهات المؤمنين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
هامش