الرئيسيةبحث

مجموع الفتاوى/المجلد الرابع عشر/فصل في تنازع الناس في الترك

فصل في تنازع الناس في الترك

وقد تنازع الناس في الترك: هل هو أمر وجودي أو عدمي؟ والأكثرون على أنه وجودي.

وقالت طائفة كأبي هاشم بن الجبائي: إنه عدمي، وأن المأمور يعاقب على مجرد عدم الفعل، لا على ترك يقوم بنفسه، ويسمون المذمية؛ لأنهم رتبوا الذم على العدم المحض.

والأكثرون يقولون: الترك أمر وجودي، فلا يثاب من ترك المحظور إلا على ترك يقوم بنفسه. وتارك المأمور إنما يعاقب على ترك يقوم بنفسه، وهو أن يأمره الرسول ﷺ بالفعل فيمتنع، فهذا الامتناع أمر وجودي؛ ولذلك فهو يشتغل عما أمر به بفعل ضده، كما يشتغل عن عبادة الله وحده بعبادة غيره، فيعاقب على ذلك.

ولهذا كان كل من لم يعبد الله وحده، فلابد أن يكون عابدا لغيره، يعبد غيره فيكون مشركا. وليس في بني آدم قسم ثالث، بل إما موحد، أو مشرك، أو من خلط هذا بهذا كالمبدلين من أهل الملل؛ النصارى ومن أشبههم من الضلال، المنتسبين إلى الإسلام، قال الله تعالى: { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } [1]، وقد قال تعالى: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ } [2] لما قال إبليس: { لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } قال تعالى: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ } [3].

فإبليس لا يغوى المخلصين، ولا سلطان له عليهم، إنما سلطانه على الغاوين، وهم الذين يتولونه، وهم الذين به مشركون.

وقوله: { الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } صفتان لموصوف واحد. فكل من تولاه فهو به مشرك، وكل من أشرك به فقد تولاه.

قال تعالى: { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } [4].

وكل من عبد غير الله فإنما يعبد الشيطان، وإن كان يظن أنه يعبد الملائكة والأنبياء، وقال تعالى: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ } [5].

ولهذا تتمثل الشياطين لمن يعبد الملائكة والأنبياء والصالحين ويخاطبونهم، فيظنون أن الذي خاطبهم مَلَك أو نبي، أو وَلِيّ وإنما هو شيطان، جعل نفسه ملكا من الملائكة، كما يصيب عُبَّاد الكواكب وأصحاب العزائم والطلسمات، يسمون أسماء، يقولون: هي أسماء الملائكة، مثل منططرون وغيره، وإنما هي أسماء الجن.

وكذلك الذين يدعون المخلوقين من الأنبياء والأولياء والملائكة، قد يتمثل لأحدهم من يخاطبه، فيظنه النبي، أو الصالح الذي دعاه، وإنما هو شيطان تصور في صورته، أو قال: أنا هو، لمن لم يعرف صورة ذلك المدعو.

وهذا كثير يجري لمن يدعو المخلوقين، من النصارى ومن المنتسبين إلى الإسلام، يدعونهم عند قبورهم، أو مغيبهم، ويستغيثون بهم، فيأتيهم من يقول: إنه ذلك المستغاث به، في صورة آدمي، إما راكبا، وإما غير راكب. فيعتقد المستغيث أنه ذلك النبي، والصالح، أو أنه سِرّه، أو روحانيته، أو رقيقته أو المعنى تَشَكَّل، أو يقول: إنه ملك جاء على صورته، وإنما هو شيطان يغويه؛ لكونه أشرك بالله ودعا غيره؛ الميت فمن دونه. فصار للشيطان عليه سلطان بذلك الشرك، فظن أنه يدعو النبي، أو الصالح، أو الملك، وأنه هو الذي شفع له، أو هو الذي أجاب دعوته، وإنما هو الشيطان؛ ليزيده غلوا في كفره وضلاله.

فكل من لم يعبد الله مخلصا له الدين، فلابد أن يكون مشركا عابدا لغير الله، وهو في الحقيقة عابد للشيطان.

فكل واحد من بنى آدم إما عابد للرحمن، وإما عابد للشيطان، قال تعالى: { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ } [6]، وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [7].

فبنو آدم منحصرون في الأصناف الستة، وبسط هذا له موضع آخر.

هامش

  1. [النحل: 98 100]
  2. [الحجر: 42]
  3. [الحجر: 39، 42]
  4. [يس: 60، 61]
  5. [سبأ: 40، 41]
  6. [الزخرف: 36 39]
  7. [الحج: 17]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد الرابع عشر
فصل في أسماء القرآن | فصل في الآيات الدالة على اتباع القرآن | سئل عن بعض الآحاديث هل هي صحيحة أم لا | فصل في ذكر فضائل الفاتحة | سورة الفاتحة | فصل في تفصيل حاجة الناس إلى الرب تبارك وتعالى | فصل في بيان أن الإنسان وجميع المخلوقات عباد لله | فصل في بيان أنه لا غنى عن الله تبارك وتعالى | فصل في بيان ما يصلح العباد من الأوامر والنواهي | فصل في ضرورة اقتفاء الصراط المستقيم | سورة البقرة | تفسير بعض آيات مشكلة في سورة البقرة | فصل في تفسيرقوله تعالى ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق | فصل في معنى المثل | تفسير بعض المشكل من الآيات | فصل في تقسيم ذمم أهل الكتاب | سئل عن معنى قوله تعالى ما ننسخ من آية | تفسير قوله تعالى يسألونك عن الشهر الحرام | سئل عن قوله تعالى ولا تنكحوا المشركات | فصل فيما يبطل الصدقة | فصل في تفسير قوله تعالى وإن تبدوا ما في أنفسكم | خواتيم سورة البقرة | فصل في الدعاء المذكور في آخر سورة البقرة | سورة آل عمران | فصل في كيفية شهادة الرب تبارك وتعالى | فصل في بيان حال الشهادة | فصل في بيان ما يتبع الشهادة من العزة والحكمة | فصل فيما تضمنته أية الشهادة | فصل في قوله تعالى وهو العزيز الحكيم | فصل في أهمية شهادة أولي العلم | فصل في بيان عظمت شهادة الرب تبارك وتعالى | فصل شهادة الرب بالسمع والبصر | فصل في بيان أن الصدق في جانب الله معلوم بالفطرة | فصل في بيان قوله تعالى لكن الله يشهد بما أنزل | فصل في بيان أن من شهادة الرب تبارك وتعالى ما يجعله في القلوب من العلم | سئل عن قوله تعالى ومن دخله كان آمنا | ما قاله الشيخ في قوله تعالى إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه | سورة النساء | سئل عن قوله تعالى واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن | فصل في قوله تعالى إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا | فصل في حكمة الجمع بين الخيلاء والفخر والبخل في الآيات | فصل في قول الناس الآدمي جبار ضعيف | تفسير قوله تعالى ما أصابك من حسنة فمن الله | فصل في قوله تعالى ما أصابك من حسنة فمن الله | فصل فيما يتناوله لفظ الحسنات والسيئات في القرآن الكريم | فصل في المعصية الثانية | فصل في معنى السيئات التي يعملها الإنسان | فصل ليس للقدرية أن يحتجوا بالآية من يعمل سوءا يجز به | فصل في ظن طائفة أن في الآية إشكالا | فصل في تأويل قوله تعالى وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك | فصل في ذكر كلام الجهمية | فصل في قول من قال لم فرق بين الحسنات والسيئات | فصل في أن الحسنات من فضل الله ومنه | فصل في أن الحسنات يضاعفها الله تبارك وتعالى | فصل في اضطراب الناس في مضاعفة الحسنات | فصل المقصود من الآية هو أن يشكر الإنسان ربه على هذه النعم | فصل في أن ما يحصل للإنسان من الحسنات أمر وجودي أنعم الله به عليه | فصل في تنازع الناس في الترك | فصل في أن الثواب والعقاب على أمر وجودي | فصل منشأ السيئات من الجهل والظلم | فصل في أن الغفلة والشهوة أصل الشر | فصل في بيان تفضل الله على العباد | فصل في الذنوب عقوبة للإنسان على عدم فعله ما خلق له | فصل في قوله تعالى ونقلب أفئدتهم وأبصارهم | فصل في أن السيئات ليس لها سبب إلا نفس الإنسان | فصل في أن السيئات خبيثة مذمومة | فصل في حتمية ألا يطلب العبد الحسنات إلا من الله تعالى | فصل في تفسير قوله تعالى ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن | فصل في تفسير قوله تعالى ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم | فصل في أنه لا يجوز الجدال عن الخائن | سورة المائدة | فصل في تفسير قوله تعالى أوفوا بالعقود | فصل في تفسير قوله تعالى قوله: سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك | تفسير آيات أشكلت | فصل في تفسير قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم | فصل في بيان ما جاءت به الشريعة الإسلامية | فصل في تفسير قوله تعالى عليكم أنفسكم | فصل في تفسير قوله تعالى فيقسمان بالله إن ارتبتم | سورة الأنعام | تفسير قوله تعالى ثم قضى أجلا | فصل في أن الله عز وجل يرفع درجات من يشاء بالعلم | تفسير بعض الآيات المشكلة | فصل في تفسير قوله تعالى وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا