الرئيسيةبحث

مجموع الفتاوى/المجلد الرابع عشر/سورة آل عمران

سورة آل عمران

وَقالَ شيخ الإسلام أبو العباس تقى الدين ابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه:

فى قوله تعالى: { شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ } [1]، قد تنوعت عبارات المفسرين في لفظ { شّهٌد } فقالت طائفة منهم مجاهد والفراء وأبو عبيدة: أي: حكم وقضى. وقالت طائفة منهم ثعلب والزجاج: أي: بين. وقالت طائفة: أي: أعلم. وكذلك قالت طائفة: معنى شهادة الله: الإخبار والإعلام، ومعنى شهادة الملائكة والمؤمنين: الإقرار. وعن ابن عباس أنه شهد بنفسه لنفسه قبل أن يخلق الخلق حين كان، ولم يكن سماء ولا أرض، ولا بر ولا بحر، فقال: { شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } .

وكل هذه الأقوال وما في معناها صحيحة؛ وذلك أن الشهادة تتضمن كلام الشاهد وقوله وخبره عما شهد به، وهذا قد يكون مع أن الشاهد نفسه يتكلم بذلك ويقوله ويذكره، وإن لم يكن معلماً به لغيره، ولا مخبرا به لسواه. فهذه أول مراتب الشهادة.

ثم قد يخبره ويعلمه بذلك، فتكون الشهادة إعلاما لغيره وإخبارا له، ومن أخبر غيره بشيء فقد شهد به. سواء كان بلفظ الشهادة أو لم يكن، كما في قوله تعالى: { وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ } [2]، وقوله تعالى: { وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا } الآية [3]. ففى كلا الموضعين إنما أخبروا خبرا مجردا، وقد قال: { وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ } [4].

وفي الصحيحين عن النبي ﷺ قال: «عدلت شهادة الزور الإشراك بالله»، قالها مرتين أو ثلاثا، ثم تلا هذه الآية، وإنما في الآية: { وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ } وهذا يعم كل قول زور بأى لفظ كان، وعلى أي صفة وجد، فلا يقوله العبد ولا يحضره ولا يسمعه من قول غيره. والزور: هو الباطل الذي قد ازور عن الحق والاستقامة أي: تحول، وقد سماه النبي ﷺ شهادة الزور، وقد قال في المظاهرين من نسائهم: { وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا } [5].

وفى الصحيحين عن ابن عباس قال: شهد عندى رجال مرضيون وأرضاهم عندى عمر أن النبي ﷺ نهى عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس. وهؤلاء حدثوه أنه نهى عن ذلك، ولم يقولوا: نشهد عندك؛ فإن الصحابة لم يكونوا يلتزمون هذا اللفظ في التحديث، وإن كان أحدهم قد ينطق به، ومنه قولهم في ماعز: فلما شهد على نفسه أربع مرات رجمه النبي ﷺ ولفظه كان إقرارا ولم يقل: أشهد.

ومنه قوله تعالى: { كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ } [6]، وشهادة المرء على نفسه هي إقراره، وهذا لا يشترط فيه لفظ الشهادة باتفاق العلماء، وإنما تنازعوا في الشهادة عند الحكام: هل يشترط فيها لفظ أشهد؟ على قولين في مذهب أحمد، وكلام أحمد يقتضى أنه لا يعتبر ذلك، وكذلك مذهب مالك، والثاني يشترط ذلك، كما يحكى عن مذهب أبى حنيفة والشافعى.

والمقصود هنا الآية فالشهادة تضمنت مرتبتين:

إحداهما: تكلم الشاهد وقوله وذكره لما شهد في نفسه به.

والثانية: إخباره وإعلامه لغيره بما شهد به، فمن قال: حكم وقضى فهذا من باب اللازم، فإن الحكم والقضاء هو إلزام وأمر.

ولا ريب أن الله ألزم الخلق التوحيد وأمرهم به وقضى به وحكم، فقال: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ } [7]، وقال: { أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ } [8]، وقال: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولا أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } الآية [9]. وقال تعالى: { وَقَالَ اللهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ } [10]، وقال: { وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [11]، { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء } [12].

وهذا كثير في القرآن يوجب على العباد عبادته وتوحيده، ويحرم عليهم عبادة ما سواه، فقد حكم وقضى أنه لا إله إلا هو.

ولكن الكلام في دلالة لفظ الشهادة على ذلك؛ وذلك أنه إذا شهد أنه لا إله إلا هو، فقد أخبر وبين وأعلم أن ما سواه ليس بإله فلا يعبد، وأنه وحده الإله الذي يستحق العبادة، وهذا يتضمن الأمر بعبادته والنهى عن عبادة ما سواه؛ فإن النفى والإثبات في مثل هذا يتضمن الأمر والنهى، كما إذا استفتى شخص شخصا، فقال له قائل: هذا ليس بمفت، هذا هو المفتى، ففيه نهى عن استفتاء الأول، وأمر وإرشاد إلى استفتاء الثاني.

وكذلك إذا تحاكم إلى غير حاكم، أو طلب شيئا من غير ولى الأمر، فقيل له: ليس هذا حاكما ولا هذا سلطانا، هذا هو الحاكم وهذا هو السلطان، فهذا النفى والإثبات يتضمن الأمر والنهى، وذلك أن الطالب إنما يطلب من عنده مراده ومقصوده، فإذا ظنه شخصا فقيل له: ليس مرادك عنده وإنما مرادك عند هذا، كان أمرا له بطلب مراده عند هذا دون ذاك.

والعابدون إنما مقصودهم أن يعبدوا من هو إله يستحق العبادة، فإذا قيل لهم: كل ما سوى الله ليس بإله، إنما الإله هو الله وحده، كان هذا نهيا لهم عن عبادة ما سواه، وأمرا بعبادته.

وأيضا فلو لم يكن هناك طالب للعبادة فلفظ الإله يقتضى أنه يستحق العبادة، فإذا أخبر أنه هو المستحق للعبادة دون ما سواه كان ذلك أمرا بما يستحقه.

وليس المراد هنا بالإله من عبده عابد بلا استحقاق، فإن هذه الآلهة كثيرة، ولكن تسميتهم آلهة والخبر عنهم بذلك واتخاذهم معبودين أمر باطل، كما قال تعالى: { إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ } [13]، وقال: { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ } [14].

فالآلهة التي جعلها عابدوها آلهة يعبدونها كثيرة، لكن هي لا تستحق العبادة فليست بآلهة، كمن جعل غيره شاهدا أو حاكما أو مفتيا أو أميرا وهو لا يحسن شيئا من ذلك.

ولابد لكل إنسان من إله يألهه ويعبده، «تعس عبد الدينار وعبد الدرهم»، فإن بعض الناس قد أله ذلك محبة وذلا وتعظيما، كما قد بسط في غير هذا الموضع.

فإذا شهد الله أنه لا إله إلا هو، فقد حكم وقضى بألا يعبد إلا إياه.

وأيضا فلفظ الحكم والقضاء يستعمل في الجمل الخبرية، فيقال للجمل الخبرية: قضية، ويقال: قد حكم فيها بثبوت هذا المعنى وانتفاء هذا المعنى، وكل شاهد ومخبر هو حاكم بهذا الاعتبار قد حكم بثبوت ما أثبته ونفى ما نفاه حكما خبريا، قد يتضمن حكما طلبيا.

هامش

  1. [آل عمران: 18، 19]
  2. [الزخرف: 19]
  3. [يوسف: 81]
  4. [الحج: 30، 31]
  5. [المجادلة: 2]
  6. [النساء: 135]
  7. [الإسراء: 23]
  8. [النحل: 2]
  9. [النحل: 36]
  10. [النحل: 51]
  11. [التوبة: 31]
  12. [البينة: 5]
  13. [النجم: 23]
  14. [الحج: 26]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد الرابع عشر
فصل في أسماء القرآن | فصل في الآيات الدالة على اتباع القرآن | سئل عن بعض الآحاديث هل هي صحيحة أم لا | فصل في ذكر فضائل الفاتحة | سورة الفاتحة | فصل في تفصيل حاجة الناس إلى الرب تبارك وتعالى | فصل في بيان أن الإنسان وجميع المخلوقات عباد لله | فصل في بيان أنه لا غنى عن الله تبارك وتعالى | فصل في بيان ما يصلح العباد من الأوامر والنواهي | فصل في ضرورة اقتفاء الصراط المستقيم | سورة البقرة | تفسير بعض آيات مشكلة في سورة البقرة | فصل في تفسيرقوله تعالى ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق | فصل في معنى المثل | تفسير بعض المشكل من الآيات | فصل في تقسيم ذمم أهل الكتاب | سئل عن معنى قوله تعالى ما ننسخ من آية | تفسير قوله تعالى يسألونك عن الشهر الحرام | سئل عن قوله تعالى ولا تنكحوا المشركات | فصل فيما يبطل الصدقة | فصل في تفسير قوله تعالى وإن تبدوا ما في أنفسكم | خواتيم سورة البقرة | فصل في الدعاء المذكور في آخر سورة البقرة | سورة آل عمران | فصل في كيفية شهادة الرب تبارك وتعالى | فصل في بيان حال الشهادة | فصل في بيان ما يتبع الشهادة من العزة والحكمة | فصل فيما تضمنته أية الشهادة | فصل في قوله تعالى وهو العزيز الحكيم | فصل في أهمية شهادة أولي العلم | فصل في بيان عظمت شهادة الرب تبارك وتعالى | فصل شهادة الرب بالسمع والبصر | فصل في بيان أن الصدق في جانب الله معلوم بالفطرة | فصل في بيان قوله تعالى لكن الله يشهد بما أنزل | فصل في بيان أن من شهادة الرب تبارك وتعالى ما يجعله في القلوب من العلم | سئل عن قوله تعالى ومن دخله كان آمنا | ما قاله الشيخ في قوله تعالى إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه | سورة النساء | سئل عن قوله تعالى واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن | فصل في قوله تعالى إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا | فصل في حكمة الجمع بين الخيلاء والفخر والبخل في الآيات | فصل في قول الناس الآدمي جبار ضعيف | تفسير قوله تعالى ما أصابك من حسنة فمن الله | فصل في قوله تعالى ما أصابك من حسنة فمن الله | فصل فيما يتناوله لفظ الحسنات والسيئات في القرآن الكريم | فصل في المعصية الثانية | فصل في معنى السيئات التي يعملها الإنسان | فصل ليس للقدرية أن يحتجوا بالآية من يعمل سوءا يجز به | فصل في ظن طائفة أن في الآية إشكالا | فصل في تأويل قوله تعالى وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك | فصل في ذكر كلام الجهمية | فصل في قول من قال لم فرق بين الحسنات والسيئات | فصل في أن الحسنات من فضل الله ومنه | فصل في أن الحسنات يضاعفها الله تبارك وتعالى | فصل في اضطراب الناس في مضاعفة الحسنات | فصل المقصود من الآية هو أن يشكر الإنسان ربه على هذه النعم | فصل في أن ما يحصل للإنسان من الحسنات أمر وجودي أنعم الله به عليه | فصل في تنازع الناس في الترك | فصل في أن الثواب والعقاب على أمر وجودي | فصل منشأ السيئات من الجهل والظلم | فصل في أن الغفلة والشهوة أصل الشر | فصل في بيان تفضل الله على العباد | فصل في الذنوب عقوبة للإنسان على عدم فعله ما خلق له | فصل في قوله تعالى ونقلب أفئدتهم وأبصارهم | فصل في أن السيئات ليس لها سبب إلا نفس الإنسان | فصل في أن السيئات خبيثة مذمومة | فصل في حتمية ألا يطلب العبد الحسنات إلا من الله تعالى | فصل في تفسير قوله تعالى ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن | فصل في تفسير قوله تعالى ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم | فصل في أنه لا يجوز الجدال عن الخائن | سورة المائدة | فصل في تفسير قوله تعالى أوفوا بالعقود | فصل في تفسير قوله تعالى قوله: سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك | تفسير آيات أشكلت | فصل في تفسير قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم | فصل في بيان ما جاءت به الشريعة الإسلامية | فصل في تفسير قوله تعالى عليكم أنفسكم | فصل في تفسير قوله تعالى فيقسمان بالله إن ارتبتم | سورة الأنعام | تفسير قوله تعالى ثم قضى أجلا | فصل في أن الله عز وجل يرفع درجات من يشاء بالعلم | تفسير بعض الآيات المشكلة | فصل في تفسير قوله تعالى وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا