→ فصل في بيان عظمت شهادة الرب تبارك وتعالى | مجموع فتاوى ابن تيمية – التفسير فصل شهادة الرب بالسمع والبصر ابن تيمية |
فصل في بيان أن الصدق في جانب الله معلوم بالفطرة ← |
فصل شهادة الرب بالسمع والبصر
وإذا كان لابد من بيان شهادته للعباد؛ ليعلموا أنه قد شهد، فهو قد بينها بالطريقين؛ بالسمع والبصر. فالسميع يسمع آيات الله المتلوة المنزلة، والبصير يعاين آياته المخلوقة الفعلية؛ وذلك أن شهادته تتضمن بيانه ودلالته للعباد وتعريفهم ذلك، وذلك حاصل بآياته، فإن آياته هي دلالاته وبراهينه التي بها يعرف العباد خبره وشهادته، كما عرفهم بها أمره ونهيه، وهو عليم حكيم؛ فخبره يتضمن أمره ونهيه، وفعله يبين حكمته.
فالأنبياء إذا أخبروا عنه بكلامه عرف بذلك شهادته وآياته القولية، ولابد أن يعرف صدق الأنبياء فيما أخبروا عنه؛ وذلك قد عرفه بآياته التي أيد بها الأنبياء ودل بها على صدقهم؛ فإنه لم يبعث نبيا إلا بآيه تبين صدقه، إذ تصديقه بما لا يدل على صدقه غير جائز، كما قال: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ } [1] أي: بالآيات البينات، وقال: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالا نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [2]، وقال: { قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ } [3]، وقال { فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ } [4].
وفى الصحيحين عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: «ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتى من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وَحْيًا أوحاه الله إلى فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة».
فالآيات والبراهين التي أرسل بها الرسل دلالات الله على صدقهم، دل بها العباد، وهى شهادة الله بصدقهم فيما بلغوا عنه، والذي بلغوه فيه شهادته لنفسه فيما أخبر به، ولهذا قال بعض النُّظَّار: إن المعجزة تصديق الرسول، وهى تجرى مجرى المرسل، صدقت فهى تصديق بالفعل، تجرى مجرى التصديق بالقول؛ إذ كان الناس لا يسمعون كلام الله المرسل منه، وتصديقه إخبار بصدقه، وشهادة له بالصدق وشهادة له بأنه أرسله وشهادة له بأن كل ما يبلغه عنه كلامه.
وهو سبحانه اسمه المؤمن، وهو في أحد التفسيرين المصدق، الذي يصدق أنبياءه فيما أخبروا عنه بالدلائل التي دل بها على صدقه.
وأما الطريق العيانى فهو: أن يرى العباد من الآيات الأفقية والنفسية ما يبين لهم أن الوحى الذي بلغته الرسل عن الله حق، كما قال تعالى: { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد } [5] أي: أو لم يكف بشهادته المخبرة بما علمه، وهو الوحى الذي أخبر به الرسول؛ فإن الله على كل شيء شهيد وعليم به، فإذا أخبر به وشهد كان ذلك كافيا، وإن لم ير المشهود به، وشهادته قد علمت بالآيات التي دل بها على صدق الرسول، فالعالم بهذه الطريق لا يحتاج أن ينظر الآيات المشاهدة، التي تدل على أن القرآن حق، بل قد يعلم ذلك بما علم به أن الرسول صادق فيما أخبر به عن شهادة الله تعالى وكلامه.
وكذلك ذكر الكتاب المنزل، فقال: { وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } الآيات إلى قوله: { إِلَّا الظَّالِمُونَ } [6] فبين أن القرآن آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم، فإنه من أعظم الآيات البينة الدالة على صدق من جاء به، وقد اجتمع فيه من الآيات ما لم يجتمع في غيره؛ فإنه هو الدعوة والحجة، وهو الدليل والمدلول عليه، والحكم، وهو الدعوى، وهو البينة على الدعوى، وهو الشاهد والمشهود به.
وقوله: { فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } [7]، سواء أريد به أنه بين في صدورهم، أو أنه محفوظ في صدورهم، أو أريد به الأمران وهو الصواب، فإنه محفوظ في صدور العلماء، بين في صدورهم، يعلمون أنه حق، كما قال: { وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ } [8]، وقال: { أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى } [9]، { وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [10].
وقال تعالى: { وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [11]، فيها بيان ما يوجب السعادة للمؤمنين وينجيهم من العذاب.
ثم قال: { قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } ، فإنه إذا كان عالما بالأشياء كانت شهادته بعلم، وقد بين شهادته بالآيات الدالة على صدق الرسول، ومنها القرآن، و الله أعلم.
هامش
- ↑ [الحديد: 25]
- ↑ [النحل: 43، 44]
- ↑ [آل عمران: 183]
- ↑ [آل عمران: 184]
- ↑ [فصلت: 53]
- ↑ [العنكبوت: 46 49]
- ↑ [العنكبوت: 49]
- ↑ [سبأ: 6]
- ↑ [الرعد: 19]
- ↑ [الحج: 54]
- ↑ [العنكبوت: 50-52]