→ فصل في أن السيئات ليس لها سبب إلا نفس الإنسان | مجموع فتاوى ابن تيمية – التفسير فصل في أن السيئات خبيثة مذمومة ابن تيمية |
فصل في حتمية ألا يطلب العبد الحسنات إلا من الله تعالى ← |
فصل في أن السيئات خبيثة مذمومة
الفرق الثامن: أن السيئة إذا كانت من النفس، والسيئة خبيثة مذمومة، وصفها بالخبث في مثل قوله: { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ } [1].
قال جمهور السلف: الكلمات الخبيثة للخبيثين. ومن كلام بعضهم: الأقوال والأفعال الخبيثة للخبيثين.
وقد قال تعالى: { ضَرَبَ اللهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً } [2]، { وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ } [3]، وقال الله: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [4]، والأقوال والأفعال صفات القائل الفاعل.
فإذا كانت النفس متصفة بالسوء والخبث لم يكن محلها ينفعه إلا ما يناسبها.
فمن أراد أن يجعل الحيات والعقارب يعاشرون الناس كالسنانير لم يصلح.
ومن أراد أن يجعل الذي يكذب شاهدا على الناس، لم يصلح.
وكذلك من أراد أن يجعل الجاهل معلما للناس، مفتيا لهم، أو يجعل العاجز الجبان مقاتلا عن الناس، أو يجعل الأحمق الذي لا يعرف شيئا سائسا للناس، أو للدواب، فمثل هذا يوجب الفساد في العالم، وقد يكون غير ممكن، مثل من أراد أن يجعل الحجارة تَسْبَح على وجه الماء كالسفن، أو تصعد إلى السماء كالريح، ونحو ذلك.
فالنفوس الخبيثة لا تصلح أن تكون في الجنة الطيبة التي ليس فيها من الخبث شيء، فإن ذلك موجب للفساد، أو غير ممكن.
بل إذا كان في النفس خبث طهرت وهذبت، حتى تصلح لسكنى الجنة.
كما في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدرى رضي الله عنه عن النبي ﷺ: «إن المؤمنين إذا نجوا من النار أي عبروا الصراط وقفوا على قَنْطَرة بين الجنة والنار، فيُقْتَصّ لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، فإذا هُذِّبوا ونُقُّوا أذن لهم في دخول الجنة».
وهذا مما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ: «يخلص المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، فو الذي نفس محمد بيده، لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا».
والتهذيب: التخليص، كما يهذب الذهب، فيخلص من الغش.
فتبين أن الجنة إنما يدخلها المؤمنون بعد التهذيب والتنقية من بقايا الذنوب، فكيف بمن لم يكن له حسنات يعبر بها الصراط؟
وأيضا فإذا كان سببها ثابتا فالجزاء كذلك، بخلاف الحسنة، فإنها من إنعام الحي القيوم الباقى، الأول الآخر، فسببها دائم، فيدوم بدوامه.
وإذا علم الإنسان أن السيئة من نفسه، لم يطمع في السعادة التامة، مع ما فيه من الشر، بل علم تحقيق قوله تعالى: { مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } [5]، وقوله: { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه } [6].
وعلم أن الرب عليم حليم، رحيم عدل، وأن أفعاله جارية على قانون العدل والإحسان، وكل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل.
وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: «يمين الله ملأى، لا يَغِيضُها نفقة، سَحَّاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض؟ فإنه لم يَغِضْ ما في يمينه، والقِسْط بيده الأخرى يخفض ويرفع».
وعلم فساد قول الجهمية، الذين يجعلون الثواب والعقاب بلا حكمة ولا عدل، ولا وضع للأشياء مواضعها، فيصفون الرب بما يوجب الظلم والسفه، وهو سبحانه قد شهد { أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [7].
ولهذا يقولون: لا ندري ما يفعل بمن فعل السيئات، بل يجوز عندهم أن يعفو عن الجميع، ويجوز عندهم أن يعذب الجميع، ويجوز أن يعذب ويغفر بلا موازنة، بل يعفو عن شر الناس، ويعذب خير الناس على سيئة صغيرة، ولا يغفرها له.
وهم يقولون: السيئة لا تمحى، لا بتوبة ولا حسنات ماحية ولا غير ذلك، وقد لا يفرقون بين الصغائر والكبائر.
قالوا: لأن هذا كله إنما يعلم بالسمع والخبر، خبر الله ورسوله.
قالوا: وليس في الكتاب والسنة ما يبين ما يفعل الله بمن كسب السيئات، إلا الكفر، وتأولوا قوله تعالى: { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } [8]، بأن المراد بالكبائر: قد يكون هو الكفر وحده، كما قال تعالى: { إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } [9].
وقد ذكر هذه الأمور القاضي أبو بكر بن الباقلاني وغيره، ممن يقول بمثل هذه الأقوال ممن سلك مسلك جَهْم بن صَفْوان في القَدَر وفى الوعيد، وهؤلاء قصدوا مناقضة المعتزلة في القدر والوعيد.
فأولئك لما قالوا: إن الله لم يخلق أفعال العباد، وأنه يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء، وسلكوا مسلك نفاة القدر في هذا، وقالوا في الوعيد بنحو قول الخوارج، قالوا: إن من دخل النار لا يخرج منها، لا بشفاعة ولا غيرها، بل يكون عذابه مؤبدا، فصاحب الكبيرة، أو من رجحت سيئاته عندهم لا يرحمه الله أبدا، بل يخلده في النار. فخالفوا السنة المتواترة وإجماع الصحابة فيما قالوه في القدر، وناقضهم جهم في هذا وهذا.
وسلك هؤلاء مسلك جهم، مع انتسابهم إلى أهل السنة والحديث واتباع السلف، وكذلك سلكوا في الإيمان والوعيد مسلك المرجئة الغلاة كجهم وأتباعه.
وجهم اشتهر عنه نوعان من البدعة: نوع في الأسماء والصفات، فغلا في نفي الأسماء والصفات، ووافقه على ذلك ملاحدة الباطنية والفلاسفة ونحوهم، ووافقه المعتزلة في نفي الصفات دون الأسماء.
والكلابِيَّة ومن وافقهم من السالمية، ومن سلك مسلكهم من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية وافقوه على نفي الصفات الاختيارية دون نفي أصل الصفات.
والكَرَّامِيَّة ونحوهم وافقوه على أصل ذلك، وهو امتناع دوام ما لا يتناهى، وأنه يمتنع أن يكون الله لم يزل متكلما إذا شاء، وفعالا لما يشاء إذا شاء؛ لامتناع حوادث لا أول لها، وهو عن هذا الأصل الذي هو نفى وجود ما لا يتناهى في المستقبل قال بفناء الجنة والنار.
وقد وافقه أبو الهذيل [10] إمام المعتزلة على هذا، لكن قال بتناهى الحركات.
فالمعتزلة في الصفات مخانيث الجهمية.
وأما الكلابية، فيثبتون الصفات في الجملة، وكذلك الأشعريون، ولكنهم كما قال الشيخ أبو إسماعيل الأنصارى: الجهمية الإناث، وهم مخانيث المعتزلة.
ومن الناس من يقول: المعتزلة مخانيث الفلاسفة.
وقد ذكر الأشعري وغيره هذا؛ لأن قائله لم يعلم أن جهما سبق هؤلاء إلى هذا الأصل، أو لأنها مخانيثهم من بعض الوجوه، وإلا فإن مخالفتهم للفلاسفة كبيرة جدا.
والشهرستاني يذكر عن شيوخهم: أنهم أخذوا ما أخذوا عن الفلاسفة؛ لأن الشهرستانى إنما يرى مناظرة أصحابه الأشعرية في الصفات ونحوها مع المعتزلة، بخلاف أئمة السنة والحديث؛ فإن مناظرتهم إنما كانت مع الجهمية، وهم المشهورون عند السلف والأمة بنفى الصفات.
وأهل النفي للصفات والتعطيل لها، هم عند السلف يقال لهم: الجهمية، وبهذا تميزوا عند السلف عن سائر الطوائف.
وأما المعتزلة، فامتازوا بقولهم بالمنزلة بين المنزلتين، لما أحدث ذلك عمرو بن عبيد وكان هو وأصحابه يجلسون معتزلين للجماعة، فيقول قتادة وغيره: أولئك المعتزلة، وكان ذلك بعد موت الحسن البصري في أوائل المائة الثانية، وبعدهم حدثت الجهمية.
وكان القدر قد حَدَّث أهله قبل ذلك في خلافة عبد الله بن الزبير، بعد موت معاوية؛ ولهذا تكلم فيهم ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم وغيرهما.
وابن عباس مات قبل ابن الزبير، وابن عمر مات عقب موته، وعقب ذلك تولى الحجاج العراق سنة بضع وسبعين.
فبقي الناس يخوضون في القَدَر بالحجاز والشام والعراق، وأكثره كان بالشام والعراق بالبصرة، وأقله كان بالحجاز.
ثم لما حدَّثت المعتزلة بعد موت الحسن، وتُكلم في المنزلة بين المنزلتين، وقالوا بإنفاذ الوعيد، وخلود أهل التوحيد في النار، وأن النار لا يخرج منها من دخلها، وهذا تغليظ على أهل الذنوب ضموا إلى ذلك القدر؛ فإن به يتم التغليظ على أهل الذنوب، ولم يكن الناس إذ ذاك قد أحدثوا شيئا من نفي الصفات.
إلى أن ظهر الجعد بن درهم، وهو أولهم، فضحى به خالد بن عبد الله القسري، وقال: أيها الناس ضَحُّوا، تقبل الله ضحاياكم، فإنى مُضَحٍّ بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا. ثم نزل فذبحه. وهذا كان بالعراق.
ثم ظهر جهم بن صفوان من ناحية المشرق من تِرمِذ، ومنها ظهر رأي جهم.
ولهذا كان علماء السنة والحديث بالمشرق، أكثر كلاما في رد مذهب جهم من أهل الحجاز والشام والعراق، مثل إبراهيم بن طَهْمَان [11] وخارجة بن مصعب، ومثل عبد الله ابن المبارك، وأمثالهم وقد تكلم في ذمهم وابن الماجشون وغيرهما وكذلك الأوزاعي وحماد بن زيد وغيرهم.
وإنما اشتهرت مقالتهم من حين محنة الإمام أحمد بن حنبل وغيره من علماء السنة، فإنهم في إمارة المأمون قووا وكثروا؛ فإنه كان قد أقام بخراسان مدة، واجتمع بهم، ثم كتب بالمحنة من طرسوس سنة ثماني عشرة ومائتين، وفيها مات. وردوا أحمد بن حنبل إلى الحبس ببغداد إلى سنة عشرين، وفيها كانت محنته مع المعتصم ومناظرته لهم في الكلام، فلما رد عليهم ما احتجوا به عليه، وبين أن لا حجة لهم في شيء من ذلك، وأن طلبهم من الناس أن يوافقوهم، وامتحانهم إياهم جهل وظلم، وأراد المعتصم إطلاقه، فأشار عليه من أشار بأن المصلحة ضربه، حتى لا تنكسر حرمة الخلافة مرة بعد مرة، فلما ضربوه قامت الشناعة عليهم في العامة، وخافوا الفتنة، فأطلقوه.
وكان أحمد بن أبي دؤاد قد جمع له نفاة الصفات القائلين بخلق القرآن من جميع الطوائف؛ فجمع له مثل أبى عيسى محمد بن عيسى برغوث، ومن أكابر النجارية أصحاب حسين النجار.
وأئمة السنة كابن المبارك، وأحمد بن إسحاق، والبخاري وغيرهم يسمون جميع هؤلاء: جهمية.
وصار كثير من المتأخرين من أصحاب أحمد وغيرهم يظنون أن خصومه كانوا المعتزلة. ويظنون أن بشر بن غياث المريسي وإن كان قد مات قبل محنة أحمد، وابن أبى دؤاد ونحوهما كانوا معتزلة وليس كذلك.
بل المعتزلة كانوا نوعا من جملة من يقول: القرآن مخلوق، وكانت الجهمية أتباع جهم، والنجارية أتباع حسين النجار، والضرارية أتباع ضرار بن عمرو، والمعتزلة هؤلاء، يقولون: القرآن مخلوق، وبسط هذا له موضع آخر.
والمقصود هنا أن جهما اشتهر عنه نوعان من البدعة: أحدهما: نفي الصفات. والثاني: الغلو في القدر والإرجاء. فجعل الإيمان مجرد معرفة القلب، وجعل العباد لا فعل لهم ولا قدرة.
وهذان مما غلت المعتزلة في خلافه فيهما.
وأما الأشعري، فوافقه على أصل قوله، ولكن قد ينازعه منازعات لفظية.
وجهم لم يثبت شيئا من الصفات لا الإرادة ولا غيرها فهو إذا قال: إن الله يحب الطاعات، ويبغض المعاصي، فمعنى ذلك عنده: الثواب والعقاب.
وأما الأشعري، فهو يثبت الصفات كالإرادة فاحتاج حينئذ أن يتكلم في الإرادة: هل هي المحبة أم لا؟ وأن المعاصي: هل يحبها الله أم لا؟ فقال: إن المعاصي يحبها الله ويرضاها، كما يريدها.
وذكر أبو المعالي الجويني: أنه أول من قال ذلك، وأن أهل السنة قبله كانوا يقولون: إن الله لا يحب المعاصي.
وذكر الأشعري في الموجز: أنه قد قال ذلك قبله طائفة سماهم، أشك في بعضهم.
وشاع هذا القول في كثير من الصوفية ومشايخ المعرفة والحقيقة، فصاروا يوافقون جهما في مسائل الأفعال والقدر، وإن كانوا مكفرين له في مسائل الصفات، كأبي إسماعيل الأنصاري الهروي، صاحب كتاب ذم الكلام، فإنه من المبالغين في ذم الجهمية لنفيهم الصفات. وله كتاب تكفير الجهمية ويبالغ في ذم الأشعرية، مع أنهم من أقرب هذه الطوائف إلى السنة والحديث، وربما كان يلعنهم.
وقد قال له بعض الناس بحضرة نظام الملك: أتلعن الأشعرية؟ فقال: ألعن من يقول: ليس في السموات إله، ولا في المصحف قرآن، ولا في القبر نبي، وقام من عنده مغضبا.
ومع هذا، فهو في مسألة إرادة الكائنات، وخلق الأفعال، أبلغ من الأشعرية. لا يثبت سببا ولا حكمة، بل يقول: إن مشاهدة العارف الحكم لا تبقى له استحسان حسنة، ولا استقباح سيئة.
والحكم عنده هي المشيئة؛ لأن العارف المحقق عنده هو من يصل إلى مقام الفناء، فيفنى عن جميع مراداته بمراد الحق، وجميع الكائنات مرادة له، وهذا هو الحكم عنده. والحسنة والسيئة يفترقان في حظ العبد؛ لكونه ينعم بهذه، ويعذب بهذه. والالتفات إلى هذا هو من حظوظ النفس، ومقام الفناء ليس فيه إلا مشاهدة مراد الحق.
وهذه المسألة وقعت في زمن الجنيد، كما ذكر ذلك في غير موضع.
وبين لهم الجنيد الفرق الثاني، وهو أنهم مع مشاهدة المشيئة العامة لابد لهم من مشاهدة الفرق بين ما يأمر الله به وما ينهى عنه وهو الفرق بين ما يحبه وما يبغضه. وبين لهم الجنيد، كما قال في التوحيد: هو إفراد الحدوث عن القدم.
فمن سلك مسلك الجنيد، من أهل التصوف والمعرفة، كان قد اهتدى ونجا وسعد.
ومن لم يسلك في القدر مسلكه، بل سوى بين الجميع، لزمه ألا يفرق بين الحسنات والسيئات، وبين الأنبياء والفساق، فلا يقول: إن الله يحب هؤلاء وهذه الأعمال. ولا يبغض هؤلاء وهذه الأعمال، بل جميع الحوادث هو يحبها كما يريدها، كما قاله الأشعري. وإنما الفرق: أن هؤلاء ينعمون، وهؤلاء يعذبون.
والأشعري لما أثبت الفرق بين هذا وهذا بالنسبة إلى المخلوق كان أعقل منهم.
فإن هؤلاء يدعون أن العارف الواصل إلى مقام الفناء لا يفرق بين هذا وهذا.
وهم غلطوا في حق العبد وحق الرب.
أما في حق العبد، فيلزمهم أن تستوى عنده جميع الحوادث، وهذا محال قطعا. وهم قد تمر عليهم أحوال يفنون فيها عن أكثر الأشياء، أما الفناء عن جميعها فممتنع؛ فإنه لابد أن يفرق كل حي بين ما يؤلمه وبين ما يلذه، فيفرق بين الخبز والتراب، والماء والشراب.
فهؤلاء عزلوا الفرق الشرعي الإيمانى الرحمانى، الذي به فرق الله بين أوليائه وأعدائه، وظنوا أنهم مع الجمع القدري.
وعلى هذا، فإن تسوية العبد بين جميع الحوادث ممتنع لذاته، بل لابد للعبد من أن يفرق؛ فإن لم يفرق بالفرق الشرعي فيفرق بين محبوب الحق ومكروهه وبين ما يرضاه وما يسخطه وإلا فرق بالفرق الطبعي بهواه وشيطانه، فيحب ما تهواه نفسه، وما يأمر به الشيطان.
ومن هنا وقع منهم خلق كثير في المعاصي، وآخرون في الفسوق، وآخرون في الكفر، حتى جَوَّزوا عبادة الأصنام.
ثم كثير منهم من ينتقل إلى وحدة الوجود، وهم الذين خالفوا الجنيد وأئمة الدين في التوحيد، فلم يفرقوا بين القديم والمحدث.
وهؤلاء صرحوا بعبادة كل موجود كما قد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع وهو قول أهل الوحدة، كابن عربي الحاتمي، وابن سبعين، والقونوي، والتلمسانى، والبليانى، وابن الفارض، وأمثالهم.
والمقصود هنا: الكلام على من نفى الحكم والعدل والأسباب في القدر من أهل الكلام والمتصوفة، الذين وافقوا جهما في هذا الأصل. وهو بدعته الثانية التي اشتهرت عنه، بخلاف الإرجاء؛ فإنه منسوب إلى طوائف غيره.
فهؤلاء يقولون: إن الرب يجوز أن يفعل كل ما يقدر عليه ويمكن فعله، من غير مراعاة حكمة، ولا رحمة ولا عدل، ويقولون: إن مشيئته هي محبته.
ولهذا تجد من اتبعهم غير معظم للأمر والنهي، والوعد والوعيد بل هو منحل عن الأمر الشرعي كله، أو عن بعضه، أو متكلف لما يعتقده أو يعلمه؛ فإنهم أرادوا أن الجميع بالنسبة إلى الرب سواء، وأن كل ما شاءه فقد أحبه، وأنه يحدث ما يحدثه بدون أسباب يخلقه بها، ولا حكمة يسوقه إليها، بل غايته أنه يسوق المقادير إلى المواقيت.
لم يبق عندهم فرق في نفس الأمر بين المأمور والمحظور، بل وافقوا جَهْما، ومن قال بقوله كالأشعري في أنه في نفس الأمر لا حسن ولا سيئ، وإنما الحسن والقبح مجرد كونه مأمورا به ومحظورا، وذلك فرق يعود إلى حظ العبد، هؤلاء يدعون الفناء عن الحظوظ.
فتارة يقولون في امتثال الأمر والنهي: إنه من مقام التلبيس، أو ما يشبه هذا، كما يوجد في كلام أبي إسماعيل الهروي صاحب منازل السائرين.
وتارة يقولون: يفعل هذا لأهل المارستان أي العامة كما يقوله الشيخ المغربى، إلى أنواع، ليس هذا موضع بسطها.
ومن يسلك مسلكهم غايته إذا عظم الأمر والنهي أن يقول كما نقل عن الشاذلي: يكون الجمع في قلبك مشهودا، والفرق على لسانك موجودا.
ولهذا يوجد في كلامه وكلام غيره أقوال وأدعية وأحزاب تستلزم تعطيل الأمر والنهي، مثل أن يدعو أن يعطيه الله إذا عصاه أعظم مما يعطيه إذا أطاعه، ونحو هذا مما يوجب أنه يجوز عنده أن يجعل الذين اجترحوا السيئات كالذين آمنوا وعملوا الصالحات، بل أفضل منهم، ويدعون بأدعية فيها اعتداء، كما يوجد في جواب الشاذلي، وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع.
وآخرون من عوام هؤلاء يجوزون أن يكرم الله بكرامات أكابر الأولياء من يكون فاجرا، بل كافرا، ويقولون: هذه موهبة وعطية، يعطيها الله من يشاء، ما هي متعلقة لا بصلاة، ولا بصيام، ويظنون أن تلك من كرامات الأولياء، وتكون كراماتهم من الأحوال الشيطانية، التي يكون مثلها للسحرة والكهان، قال الله تعالى: { وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } [12].
وقد قال النبي ﷺ: «لتتبعن سَنَنَ من كان قبلكم حَذْو القُذَّةِ بالقذة، حتى لو دخلوا جُحْر ضَبٍّ لدخلتموه».
والمسلمون الذين جاءهم كتاب الله: القرآن عدل كثير منهم ممن أضله الشيطان من المنتسبين إلى الإسلام إلى أن نبذ كتاب الله وراء ظهره، واتبع ما تتلوه الشياطين، فلا يعظم أمر القرآن ولا نهيه، ولا يوالى من أمر القرآن بموالاته، ولا يعادي من أمر القرآن بمعاداته، بل يعظم من رآه يأتى ببعض خوارقهم، التي يأتى بمثلها السحرة والكهان بإعانة الشياطين، وهي تحصل بما تتلوه الشياطين.
ثم منهم من يعرف أن هذا من الشيطان، ولكن يعظم ذلك لهواه، ويفضله على طريق القرآن ليصل به إلى تقديس العامة، وهؤلاء كفار، كالذين قال الله تعالى فيهم: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَن يَلْعَنِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا } [13].
وهؤلاء ضاهوا الكفار، الذين قال الله تعالى فيهم: { وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ } الآية [14].
ومنهم من لا يعرف أن هذا من الشياطين.
وقد يقع في مثل هذا طوائف من أهل الكلام، والعلم، وأهل العبادة، والتصوف، حتى جَوَّزوا عبادة الكواكب والأصنام، لما رأوه فيها من الأحوال العجيبة، التي تعينهم عليها الشياطين، لما يحصل لهم بها من بعض أغراضهم، من الظلم والفواحش، فلا يبالون بشركهم بالله، ولا كفرهم به وبكتابه إذا نالوا ذلك، ولم يبالوا بتعليم ذلك للناس، وتعظيمهم لهم، لرياسة ينالونها، أو مال ينالونه. وإن كانوا قد علموا أنه الكفر والشرك عملوه، ودعوا إليه، بل حصل عندهم ريب وشك فيما جاء به الرسول ﷺ، أو اعتقاد أن الرسول خاطب الجمهور بما لا حقيقة له في الباطن؛ لأجل مصلحة الجمهور، كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة والملاحدة والباطنية.
وقد دخل في رأي هؤلاء طائفة من هؤلاء وهؤلاء، وهذا مما ضاهوا به فارس والروم وغيرهم؛ فإن فارس كانت تعظم الأنوار، وتسجد للشمس وللنار. والروم كانوا قبل النصرانية مشركين يعبدون الكواكب والأصنام، فهؤلاء الذين أشبهوا فارس والروم شر من الذين أشبهوا اليهود والنصارى، فإن أولئك ضاهوا أهل الكتاب فيما بُدِّل أو نُسِخ، وهؤلاء ضاهوا من لا كتاب له من المجوس والمشركين، فارس والروم، ومن دخل في ذلك من الهند واليونان.
ومذهب الملاحدة الباطنية مأخوذ من قول المجوس بالأصلين، ومن قول فلاسفة اليونان بالعقول والنفوس.
وأصل قول المجوس يرجع إلى أن تكون الظلمة المضاهية للنور هي إبليس، وقول الفلاسفة بالنفس.
فأصل الشر عبادة النفس والشيطان، وجعلهما شريكان للرب وأن يعدلا به، ونفس الإنسان تفعل الشر بأمر الشيطان. وقد علَّم النبي ﷺ أبا بكر رضى الله عنه أن يقول إذا أصبح وإذا أمسى، وإذا أخذ مضجعه: «اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم».
وهذا من تمام تحقيق قوله تعالى: { مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } [15]، مع قوله تعالى: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ } [16]، وقوله: { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } [17].
وقد ظهرت دعوى النفس الإلهية في فرعون ونحوه، ممن ادعى أنه إله مع الله أو من دونه، وظهرت فيمن ادعى إلهية بشر مع اللَّه كالمسيح وغيره.
وأصل الشرك في بنى آدم كان من الشرك بالبشر الصالحين المعظمين؛ فإنهم لما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم عبدوهم.
فهذا أول شرك كان في بني آدم، وكان في قوم نوح، فإنه أول رسول بعث إلى أهل الأرض يدعوهم إلى التوحيد، وينهاهم عن الشرك، كما قال تعالى: { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرا } [18] وهذه أسماء قوم صالحين كانوا في قوم نوح، فلما ماتوا جعلوا الأصنام على صورهم، ثم ذهبت هذه الأصنام لما أغرق الله أهل الأرض، ثم صارت إلى العرب، كما ذكر ذلك ابن عباس وغيره، إن لم تكن أعيانها، وإلا فهي نظائرها.
وأما الشرك بالشيطان فهذا كثير.
فمتى لم يؤمن الخلق بأنه «لا إله إلا الله» بمعنى: أنه المعبود المستحق للعبادة دون ما سواه، وأنه يحب أن يعبد، وأنه أمر أن يعبد وأنه لا يعبد إلا بما أحبه مما شرع، من واجب ومستحب - فلابد أن يقعوا في الشرك وغيره.
فالذين جعلوا الأقوال والأفعال كلها بالنسبة إلى الله سواء، لا يحب شيئا دون شيء، فلا فرق عنده بين من يعبده وحده لا يشرك به شيئا، وبين من يعبد معه آلهة أخرى، وجعلوا الأمر معلقا بمشيئة، ليس معها حكمة ولا رحمة ولا عدل، ولا فرق فيها بين الحسنات والسيئات، طمعت النفس في نيل ما تريده بدون طاعة الله ورسوله.
ثم إذا جوزوا الكرامات لكل من زعم الصلاح، ولم يقيدوا الصلاح بالعلم الصحيح والإيمان الصادق والتقوى، بل جعلوا علامة الصلاح هذه الخوارق، وجوزوا الخوارق مطلقا، وحكوا في ذلك مكاشفات، وقالوا أقوالا منكرة.
فقال بعضهم: إن الولي يُعْطَى قول: «كن»، وقال بعضهم: إنه لا يمتنع على الولي فعل ممكن، كما لا يمتنع على الله تعالى فعل محال.
وهذا قاله ابن عربي والذين اتبعوه، قالوا: إن الممتنع لذاته مقدور عليه، ليس عندهم ما يقال: إنه غير مقدور عليه للولي، حتى ولا الجمع بين الضدين، ولا غير ذلك. وزاد ابن عربى: إن الولي لا يعزب عن قدرته شيء من الممكنات، والذي لا يعزب عن قدرته شيء من الممكنات هو الله وحده.
فهذا تصريح منهم بأن الولي مثل الله، إن لم يكن هو الله.
وصرح بعضهم بأنه يعلم كل ما يعلمه الله، ويقدر على كل ما يقدر الله عليه.
وادعوا أن هذا كان للنبي، ثم انتقل إلى الحسن بن علي، ثم من الحسن إلى ذريته واحدا بعد واحد، حتى انتهى ذلك إلى أبي الحسن الشاذلي، ثم إلى ابنه.
خاطبني بذلك من هو من أكابر أصحابهم.
وحدثني الثقة من أعيانهم، أنهم يقولون: إن محمدا هو الله.
وحدثني بعض الشيوخ، الذين لهم سلوك وخبرة: أنه كان هو وابن هود في مكة، فدخلا الكعبة، فقال له ابن هود وأشار إلى وسط الكعبة: هذا مهبط النور الأول، وقال له: لو قال لك صاحب هذا البيت: أريد أن أجعلك إلها ماذا كنت تقول له؟ قال: فَقَفّ شَعرِي [19] من هذا الكلام وانخنست [20] أو كما قال.
ومن الناس من يحكي عن سهل بن عبد الله: أنه لما دخل الزنج البَصْرة، قيل له في ذلك، فقال: هاه إن ببلدكم هذا من لو سألوا الله أن يزيل الجبال عن أماكنها لأزالها، ولو سألوه ألا يقيم القيامة لما أقامها، لكنهم يعلمون مواضع رضاه، فلا يسألونه إلا ما يحب.
وهذه الحكاية، إما كذب على سهل وهو الذي نختار أن يكون حقا أو تكون غلطا منه، فلا حول ولا قوة إلا بالله. وذلك أن ما أخبر الله أن يكون فلابد أن يكون، ولو سأله أهل السموات والأرض ألا يكون لم يجبهم، مثل إقامة القيامة، وألا يملأ جهنم من الجنة والناس أجمعين، وغير ذلك، بل كل ما علم الله أنه يكون فلا يقبل الله دعاء أحد في ألا يكون.
لكن الدعاء سبب يقضى الله به ما علم الله أنه سيكون بهذا السبب، كما يقضى بسائر الأسباب ما علم أنه سيكون بها.
وقد سأل الله تعالى من هو أفضل من كل من في البصرة بكثير، ما هو دون هذا فلم يجابوا؛ لما سبق الحكم بخلاف ذلك، كما سأله إبراهيم عليه الصلاة والسلام - أن يغفر لأبيه، وكما سأله نوح عليه السلام سأله نجاة ابنه، فقيل له: { يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [21].
وأفضل الخلق محمد ﷺ، قيل له في شأن عمه أبى طالب: { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى } [22]، وقيل له في المنافقين: { سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } [23] وقد قال تعالى عموما: { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [24]، وقال: { وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [25]، فمن هذا الذي لو سأل الله ما يشاؤه هو أعطاه إياه؟
وسيد الشفعاء محمد ﷺ يوم القيامة، أخبر أنه: يسجد تحت العرش، ويحمد ربه، ويثنى عليه، فيقال له: «أي محمد، ارفع رأسك، وقل يُسْمَعْ، وسَلْ تُعْطَ، واشفع تشفع». قال: «فيُحَدُّ لي حدا، فأدخلهم الجنة»، وقد قال تعالى: { ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } [26].
وأي اعتداء أعظم وأشنع من أن يسأل العبد ربه ألا يفعل ما قد أخبر أنه لابد أن يفعله، أو أن يفعل ما قد أخبر أنه لا يفعله؟ وهو سبحانه كما أخبر عن نفسه: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [27]، وقال: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين } [28].
وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: «ما من داع يدعو الله بدعوة، ليس فيها ظلم، ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى خصال ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخر له من الخير مثلها، وإما أن يصرف عنه من الشر مثلها».
فالدعوة التي ليس فيها اعتداء، يحصل بها المطلوب أو مثله. وهذا غاية الإجابة؛ فإن المطلوب بعينه قد يكون ممتنعا، أو مفسدا للداعي أو لغيره، والداعي جاهل، لا يعلم ما فيه المفسدة عليه، والرب قريب مجيب، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، والكريم الرحيم إذا سئل شيئا بعينه، وعلم أنه لا يصلح للعبد إعطاؤه أعطاه نظيره، كما يصنع الوالد بولده إذا طلب منه ما ليس له، فإنه يعطيه من ماله نظيره، وللّه المثل الأعلى.
وكما فعل النبي ﷺ لما طلبت منه طائفة من بني عمه أن يوليهم ولاية لا تصلح لهم، فأعطاهم من الخمس ما أغناهم عن ذلك وزوجهم، كما فعل بالفضل بن عباس، وربيعة بن الحارث بن عبد المطلب.
وقد روي في الحديث: «ليس شيء أكرم على الله من الدعاء»، وهذا حق.
هامش
- ↑ [النور: 26]
- ↑ [إبراهيم: 24]
- ↑ [إبراهيم: 26]
- ↑ [فاطر: 10]
- ↑ [النساء: 123]
- ↑ [الزلزلة: 7، 8]
- ↑ [آل عمران: 18]
- ↑ [النساء: 31]
- ↑ [النساء: 116]
- ↑ [هو أبو الهذبل محمد بن الهذبل ين عبد الله ين مكحول العبدى، مولى عبد القيس، شيخ المعتزلة، اشتهر بعلم الكلام وكان خبيث القول فارق إجماع المسلمين، له كتب كثيرة منها كتاب سماه ميلاس على اسم مجوسي أسلم على يده، ولد في البصرة سنة 135ه، وتوفى بسامرا سنة 235ه]
- ↑ [هو أبو سعيد إبراهيم بن طهمان بن شعيب الهروي الخراساني، حافظ، ولد في هراة وأقام في نيسابور وبغداد، وتوفى سنة 861ه]
- ↑ [البقرة 101، 102]
- ↑ [النساء: 51، 52]
- ↑ [البقرة: 101، 102]
- ↑ [النساء: 79]
- ↑ [الحجر: 42]
- ↑ [ص: 85]
- ↑ [نوح: 23، 24]
- ↑ [أي: قمت فَزَعًا. انظر: القاموس، مادة: قفف]
- ↑ [أي: انقبضت. انظر: القاموس، مادة: خنس]
- ↑ [هود: 46]
- ↑ [التوبة: 113]
- ↑ [المنافقون: 6]
- ↑ [البقرة: 255]
- ↑ [سبأ: 23]
- ↑ [الأعراف: 55]
- ↑ [البقرة: 186]
- ↑ [غافر: 60]