الرئيسيةبحث

مجموع الفتاوى/المجلد الرابع عشر/تفسير قوله تعالى ثم قضى أجلا

تفسير قوله تعالى ثم قضى أجلا

سُئِلَ رَضي اللَّه عَنهُ عن قوله تعالى: { ثُمَّ قَضَى أَجَلا وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ } [1]، وقوله تعالى: { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ } [2]، وقوله تعالى: { يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } [3]: هل المحو والإثبات في اللوح المحفوظ والكتاب الذي جاء في الصحيح: «إن الله تعالى كتب كتابا فهو عنده على عرشه» الحديث، وقد جاء: «جَفَّ القلم»، فما معنى ذلك في المحو والإثبات؟

وهل شرع في الدعاء أن يقول: اللهم إن كنت كتبتني كذا فامحني واكتبني كذا، فإنك قلت: { يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ } ؟ وهل صح أن عمر كان يدعو بمثل هذا؟ وهل الصحيح عندكم أن العمر يزيد بصلة الرحم، كما جاء في الحديث؟ أفتونا مأجورين.

فأجاب رضي الله عنه:

الحمد للّه رب العالمين. أما قوله سبحانه: { ثُمَّ قَضَى أَجَلا وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ } فالأجل الأول هو: أجل كل عبد؛ الذي ينقضي به عمره، والأجل المسمى عنده هو: أجل القيامة العامة؛ ولهذا قال: { مُّسمًّى عِندَهُ } فإن وقت الساعة لا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل، كما قال: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ } [4]. بخلاف ما إذا قال: { مُّسمًّى } كقوله: { إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } [5]، إذ لم يقيد بأنه مسمى عنده، فقد يعرفه العباد.

وأما أجل الموت فهذا تعرفه الملائكة الذين يكتبون رزق العبد، وأجله وعمله، وشقى أو سعيد، كما قال في الصحيحين عن ابن مسعود قال: حدثنا رسول الله ﷺ وهو الصادق المصدوق: «إن أحدكم يُجمَع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نُطْفَة، ثم يكون عَلَقَة مثل ذلك، ثم يكون مُضْغَة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك، فيؤمر بأربع كلمات، فيقال: اكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقى أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح»، فهذا الأجل الذي هو أجل الموت قد يعلمه الله لمن شاء من عباده.

وأما أجل القيامة المسمى عنده فلا يعلمه إلا هو.

وأما قوله: { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } [6]، فقد قيل: إن المراد الجنس، أي ما يعمر من عمر إنسان، ولا ينقص من عمر إنسان، ثم التعمير والتقصير يراد به شيئان:

أحدهما: أن هذا يطول عمره، وهذا يقصر عمره، فيكون تقصيره نقصا له بالنسبة إلى غيره، كما أن المعمر يطول عمره، وهذا يقصر عمره، فيكون تقصيره نقصا له بالنسبة إلى غيره، كما أن التعمير زيادة بالنسبة إلى آخر.

وقد يراد بالنقص النقص من العمر المكتوب، كما يراد بالزيادة الزيادة في العمر المكتوب، وفى الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: «من سَرَّه أن يُبْسَط له في رزقه، ويُنْسَأ له في أثره فلْيَصِلْ رَحِمَه»، وقد قال بعض الناس: إن المراد به البركة في العمر، بأن يعمل في الزمن القصير ما لا يعمله غيره إلا في الكثير، قالوا: لأن الرزق والأجل مقدران مكتوبان.

فيقال لهؤلاء: تلك البركة وهي الزيادة في العمل، والنفع هي أيضا مقدرة مكتوبة، وتتناول لجميع الأشياء.

والجواب المحقق: أن الله يكتب للعبد أجلا في صحف الملائكة، فإذا وصل رحمه زاد في ذلك المكتوب، وإن عمل ما يوجب النقص نقص من ذلك المكتوب.

ونظير هذا ما في الترمذي وغيره عن النبي ﷺ: «إن آدم لما طلب من الله أن يريه صورة الأنبياء من ذريته فأراه إياهم، فرأى فيهم رجلا له بَصِيص، فقال: من هذا يارب؟ فقال: ابنك داود. قال: فكم عمره؟ قال: أربعون سنة. قال: وكم عمري؟ قال: ألف سنة. قال: فقد وهبت له من عمري ستين سنة. فكتب عليه كتاب، وشهدت عليه الملائكة، فلما حضرته الوفاة قال: قد بقي من عمري ستون سنة. قالوا: وهبتها لابنك داود، فأنكر ذلك، فأخرجوا الكتاب». قال النبي ﷺ: «فنَسِيَ آدم فنسيت ذريته، وجَحَد آدم فجحدت ذريته» وروى أنه كمل لآدم عمره، ولداود عمره.

فهذا داود كان عمره المكتوب أربعين سنة، ثم جعله ستين، وهذا معنى ما روى عن عمر أنه قال: اللهم إن كنت كتبتني شقيا فامحنى واكتبنى سعيدا، فإنك تمحوا ما تشاء وتثبت.

والله سبحانه عالم بما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، فهو يعلم ما كتبه له وما يزيده إياه بعد ذلك، والملائكة لا علم لهم إلا ما علمهم الله، والله يعلم الأشياء قبل كونها وبعد كونها؛ فلهذا قال العلماء: إن المحو والإثبات في صحف الملائكة، وأما علم الله سبحانه فلا يختلف ولا يبدو له ما لم يكن عالما به، فلا محو فيه ولا إثبات.

وأما اللوح المحفوظ، فهل فيه محو وإثبات؟ على قولين، والله سبحانه وتعالى أعلم.

هامش

  1. [الأنعام: 2]
  2. [فاطر: 11]
  3. [الرعد: 39]
  4. [الأعراف: 187]
  5. [البقرة: 282]
  6. [فاطر: 11]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد الرابع عشر
فصل في أسماء القرآن | فصل في الآيات الدالة على اتباع القرآن | سئل عن بعض الآحاديث هل هي صحيحة أم لا | فصل في ذكر فضائل الفاتحة | سورة الفاتحة | فصل في تفصيل حاجة الناس إلى الرب تبارك وتعالى | فصل في بيان أن الإنسان وجميع المخلوقات عباد لله | فصل في بيان أنه لا غنى عن الله تبارك وتعالى | فصل في بيان ما يصلح العباد من الأوامر والنواهي | فصل في ضرورة اقتفاء الصراط المستقيم | سورة البقرة | تفسير بعض آيات مشكلة في سورة البقرة | فصل في تفسيرقوله تعالى ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق | فصل في معنى المثل | تفسير بعض المشكل من الآيات | فصل في تقسيم ذمم أهل الكتاب | سئل عن معنى قوله تعالى ما ننسخ من آية | تفسير قوله تعالى يسألونك عن الشهر الحرام | سئل عن قوله تعالى ولا تنكحوا المشركات | فصل فيما يبطل الصدقة | فصل في تفسير قوله تعالى وإن تبدوا ما في أنفسكم | خواتيم سورة البقرة | فصل في الدعاء المذكور في آخر سورة البقرة | سورة آل عمران | فصل في كيفية شهادة الرب تبارك وتعالى | فصل في بيان حال الشهادة | فصل في بيان ما يتبع الشهادة من العزة والحكمة | فصل فيما تضمنته أية الشهادة | فصل في قوله تعالى وهو العزيز الحكيم | فصل في أهمية شهادة أولي العلم | فصل في بيان عظمت شهادة الرب تبارك وتعالى | فصل شهادة الرب بالسمع والبصر | فصل في بيان أن الصدق في جانب الله معلوم بالفطرة | فصل في بيان قوله تعالى لكن الله يشهد بما أنزل | فصل في بيان أن من شهادة الرب تبارك وتعالى ما يجعله في القلوب من العلم | سئل عن قوله تعالى ومن دخله كان آمنا | ما قاله الشيخ في قوله تعالى إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه | سورة النساء | سئل عن قوله تعالى واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن | فصل في قوله تعالى إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا | فصل في حكمة الجمع بين الخيلاء والفخر والبخل في الآيات | فصل في قول الناس الآدمي جبار ضعيف | تفسير قوله تعالى ما أصابك من حسنة فمن الله | فصل في قوله تعالى ما أصابك من حسنة فمن الله | فصل فيما يتناوله لفظ الحسنات والسيئات في القرآن الكريم | فصل في المعصية الثانية | فصل في معنى السيئات التي يعملها الإنسان | فصل ليس للقدرية أن يحتجوا بالآية من يعمل سوءا يجز به | فصل في ظن طائفة أن في الآية إشكالا | فصل في تأويل قوله تعالى وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك | فصل في ذكر كلام الجهمية | فصل في قول من قال لم فرق بين الحسنات والسيئات | فصل في أن الحسنات من فضل الله ومنه | فصل في أن الحسنات يضاعفها الله تبارك وتعالى | فصل في اضطراب الناس في مضاعفة الحسنات | فصل المقصود من الآية هو أن يشكر الإنسان ربه على هذه النعم | فصل في أن ما يحصل للإنسان من الحسنات أمر وجودي أنعم الله به عليه | فصل في تنازع الناس في الترك | فصل في أن الثواب والعقاب على أمر وجودي | فصل منشأ السيئات من الجهل والظلم | فصل في أن الغفلة والشهوة أصل الشر | فصل في بيان تفضل الله على العباد | فصل في الذنوب عقوبة للإنسان على عدم فعله ما خلق له | فصل في قوله تعالى ونقلب أفئدتهم وأبصارهم | فصل في أن السيئات ليس لها سبب إلا نفس الإنسان | فصل في أن السيئات خبيثة مذمومة | فصل في حتمية ألا يطلب العبد الحسنات إلا من الله تعالى | فصل في تفسير قوله تعالى ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن | فصل في تفسير قوله تعالى ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم | فصل في أنه لا يجوز الجدال عن الخائن | سورة المائدة | فصل في تفسير قوله تعالى أوفوا بالعقود | فصل في تفسير قوله تعالى قوله: سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك | تفسير آيات أشكلت | فصل في تفسير قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم | فصل في بيان ما جاءت به الشريعة الإسلامية | فصل في تفسير قوله تعالى عليكم أنفسكم | فصل في تفسير قوله تعالى فيقسمان بالله إن ارتبتم | سورة الأنعام | تفسير قوله تعالى ثم قضى أجلا | فصل في أن الله عز وجل يرفع درجات من يشاء بالعلم | تفسير بعض الآيات المشكلة | فصل في تفسير قوله تعالى وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا