→ سورة يونس | تفسير المراغي سورة هود مثل الفرقين كاعمى والاصم أحمد مصطفى المراغي |
سورة يوسف ← |
☰ جدول المحتويات
- [سورة هود (11): الآيات 1 الى 4]
- [سورة هود (11): آية 5]
- [تتمة سورة هود]
- [سورة هود (11): الآيات 6 الى 8]
- [سورة هود (11): الآيات 9 الى 11]
- [سورة هود (11): الآيات 12 الى 14]
- افتراء النبي ﷺ للقرآن
- ما حوته قصص القرآن
- [سورة هود (11): الآيات 15 الى 16]
- [سورة هود (11): آية 17]
- [سورة هود (11): الآيات 18 الى 24]
- قصة نوح عليه السلام
- [سورة هود (11): الآيات 25 الى 27]
- [سورة هود (11): الآيات 28 الى 31]
- [سورة هود (11): الآيات 32 الى 34]
- [سورة هود (11): آية 35]
- [سورة هود (11): الآيات 36 الى 39]
- [سورة هود (11): الآيات 40 الى 44]
- [سورة هود (11): الآيات 45 الى 49]
- تتمة لقصة نوح عليه السلام
- حادثة الطوفان في القرآن والتوراة والتاريخ القديم
- عمر نوح عليه السلام
- قصة هود عليه السلام
- [سورة هود (11): الآيات 50 الى 52]
- [سورة هود (11): الآيات 53 الى 57]
- [سورة هود (11): الآيات 58 الى 60]
- قصة صالح عليه السلام
- [سورة هود (11): الآيات 61 الى 63]
- [سورة هود (11): الآيات 64 الى 68]
- [سورة هود (11): الآيات 69 الى 73]
- [سورة هود (11): الآيات 74 الى 76]
- قصة لوط عليه السلام
- [سورة هود (11): الآيات 77 الى 80]
- [سورة هود (11): الآيات 81 الى 83]
- قصة شعيب عليه السلام
- [سورة هود (11): الآيات 84 الى 86]
- [سورة هود (11): الآيات 87 الى 90]
- [سورة هود (11): الآيات 91 الى 95]
- قصة موسى وفرعون
- [سورة هود (11): الآيات 96 الى 99]
- العبرة بقصص الأمم الظالمة وبما آل إليه أمرها
- [سورة هود (11): الآيات 100 الى 102]
- العظة بعذاب الآخرة
- [سورة هود (11): الآيات 103 الى 109]
- [سورة هود (11): الآيات 110 الى 111]
- [سورة هود (11): الآيات 112 الى 113]
- [سورة هود (11): الآيات 114 الى 115]
- [سورة هود (11): الآيات 116 الى 119]
- [سورة هود (11): الآيات 120 الى 123]
- بيان بإجمال للمقاصد الدينية التي حوتها هذه السورة
وهي مكية كالتي قبلها، وعدد آيها ثلاث وعشرون ومائة، نزلت بعد سورة يونس، وتصمنت ما تضمنته تلك من أصول الإسلام، وهي التوحيد والنبوة والبعث والحساب والجزاء.
وفصّل فيها ما أجمل في سابقتها من قصص الرسل عليهم السلام وهي مناسبة لها في فاتحتها وخاتمتها وتفصيل الدعوة في أثنائها، فقد افتتحتا بذكر القرآن بعد (الر) وذكر رسالة النبي المبلغ عن ربه، وبيان أن وظيفة الرسول إنما هي التبشير والإنذار وفى أثنائهما ذكر التحدي بالقرآن والرد على الذين زعموا أن الرسول ﷺ قد افتراه، ومحاجّة المشركين في أصول الدين، وختمتا بخطاب الناس بالدعوة إلى ما جاء به الرسول ﷺ، ثم أمر الرسول ﷺ في الأولى بالصبر حتى يحكم الله بينه وبين الكافرين، وفى الثانية بانتظار هذا الحكم منه تعالى مع الاستقامة على عبادته والتوكل عليه.
وعلى الجملة فقد أجمل في كل منهما ما فصل في الأخرى مع فوائد انفردت بها كل منهما، فقد اتفقتا موضوعا في الأكثر واختلفتا نظما وأسلوبا مما لا مجال للشك في أنهما من كلام الرحمن، الذي علم الإنسان البيان.
[سورة هود (11): الآيات 1 الى 4]
بسم الله الرحمن الرحيم
الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعًا حَسَنًا إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)
تفسير المفردات
(الر) تقدم أن قلنا إنها حرف تنبيه كألا وتقرأ بأسمائها ساكنة فيقال: (ألف لام، را) وإحكام البناء كالقصر والحصن: إتقانه حتى لا يقع فيه خلل، وتفصيل العقد بالفرائد: جعل خرزة أو مرجانة بلون بين كل خرزتين من لون آخر، والمتاع: كل ما ينتفع به في المعيشة وحاجة البيوت، والأجل المسمى: هو العمر المقدر.
المعنى الجملي
جاءت هذه الآيات في أصول الدين وهي القرآن وما بيّن فيه من توحيد الله وعبادته وحده والإيمان برسله والبعث والجزاء في اليوم الآخر.
الإيضاح
(الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) أي هذا كتاب عظيم الشأن جليل القدر، جعلت آياته محكمة النظم والتأليف واضحة المعاني، لا تقبل شكا ولا تأويلا ولا تبديلا، كأنها الحصن المنيع الذي لا يتطرق إليه خلل - وجعلت فصولا متفرقة في سورة، تبين حقائق العقائد والأحكام والمواعظ وجميع ما أنزل له الكتاب من الحكم والفوائد، فكأنها العقد المفصّل بالفرائد، ولا عجب فقد أنزلت من لدن حكيم يقدر حاجة عباده، ويعطيهم ما فيه الخير لهم، خبير بعواقب ذاك ومصادره وموارده.
(أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) أي أحكمت وفصلت بألا تعبدوا إلا الله، أي نزل هذا القرآن المحكم المفصّل لعبادة الله وحده لا شريك له، وهذا كقوله: « وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ » وقوله: « وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ » وقل للناس إني من عند الله نذير ينذركم عقابه، ويبشركم ثوابه على طاعته والإخلاص له.
وهذا بيان لوظيفة الرسالة، ومبيّن لدعوة الرسول ﷺ.
(وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعًا حَسَنًا إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي واسألوه أن يغفر لكم ما كان منكم من أعمال الشرك والكفر والإجرام، ثم ارجعوا إليه بإخلاص العبادة له دون سواه مما تعبدون من دونه من الأصنام والأوثان فإن فعلتم ذلك واستغفرتم من كل ذنب وتبتم من الإعراض عن هدايته وتنكّب سننه، يمتعكم في دنياكم متاعا حسنا فيرزقكم من زينة الدنيا وينسألكم في آجالكم إلى الوقت الذي قضى عليكم فيه الموت وهو العمر المقدر لكم في علمه المكتوب في نظام الخليقة وسنن الاجتماع البشرى في عباده، ولا يقطعه بعذاب الاستئصال ولا بفساد العمران ولا ينقصه ما ينقص من أدمن على الشرك والمعاصي.
ذاك أن الله ما حرم إلا الأشياء الضارة بالعقل أو بالصحة أو بنظام الاجتماع المالى أو البدني، وإنما يكمل ضررها بإصرار فاعليها عليها، فاذا أقلعوا عنها وندموا على ما فعلوا وبادروا إلى التوبة من قريب، امتنع ذلك الفساد.
وهذه سنة مطردة في ذنوب الأمم، وهي فيها أظهر من ذنوب الأفراد، فالمشاهد أن الأمم التي تصرّ على الظلم والفسوق والعصيان يهلكها الله تعالى في الدنيا بالضعف والشقاق وخراب العمران حتى تزول منعتها وتتمزق وحدتها.
(وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) أي وإن تجتنبوا الشرك وتؤمنوا بالله وتستغفروه يمتعكم متاعا حسنا تكونون به خير الأمم نعمة وقوة وعزة ويعط كل ذي فضل من علم وعمل جزاء فضله، أما في الآخرة فهو مطّرد دائما، وأما في الدنيا فقد يكون ناقصا مشوبا بأكدار، ولا يكون مطردا لقصر أعمار الأفراد.
(وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) أي وإن توليتم وأعرضتم عما دعوتكم إليه من عبادة الله وحده وعدم عبادة غيره، فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير الهول شديد البأس، فيصيبكم مثل ما أصاب أقوام الرسل الذين عاندوهم وأصروا على تكذيبهم وعصيانهم، أو قريب منه بعد نصر الرسول والمؤمنين.
(إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي إليه تعالى رجوعكم بعد موتكم جميعا أمما وأفرادا لا يتخلّف منكم أحد، وحينئذ تلقون جزاءكم بالعدل والقسطاس، وهو سبحانه قدير على كل شيء.
[سورة هود (11): آية 5]
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (5)
تفسير المفردات
ثنى الشيء: عطف بعضه على بعض فطواه، وإثناء الثوب: إطواؤه، وثناه عنه: لواه وحوّله، وثناه عليه: أطبقه وطواه ليخفيه فيه، وثنى عنانه عنّى: تحول وأعرض، والاستخفاء: محاولة الخفاء، واستغشى الثوب تغطّى به كما قال حكاية عن نوح عليه السلام: « وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبارًا ».
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنهم إن أعرضوا حاق بهم عذاب يوم كبير - بين في هذه الآية حالهم وصفتهم العجيبة الدالة على إعراض الحيرة والعجز ومنتهى الجهل.
الإيضاح
(أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) أي إن هؤلاء الكافرين الكارهين لدعوة التوحيد يحنون ظهورهم وينكسون رءوسهم كأنهم يحاولون طي صدورهم على بطونهم حين سماع القرآن ليستخفوا منه ﷺ حين تلاوته فلا يراهم حين نزول هذه القوارع على رءوسهم، روى ابن جرير وغيره أن ابن شداد قال: كان أحدهم ذا مر بالنبي ﷺ ثنى صدره كيلا يراه أحد.
(حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) أي إن ثنى صدورهم وتنكيس رءوسهم ليستخفوا من الداعي لهم إلى توحيد ربهم لا يغني عنهم شيئا، فإن ربهم يعلم ما يسرون ليلا حين يستغشون ثيابهم فيغطون بها جميع أبدانهم، ثم ما يعلنون نهارا.
(إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي إنه تعالى عليم بأسرار الصدور وخواطر القلوب، فاحذروا أن يطلع عليكم ربكم وأنتم مضمرون في صدوركم الشك في شيء من توحيده أو أمره أو نهيه.
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين.
تمت مسودة هذا الجزء في السادس والعشرين من ذي الحجة سنة اثنتين وستين وثلاثمائة وألف هجرية بمدينة حلوان من أرباض القاهرة قاعدة الديار المصرية.
[تتمة سورة هود]
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة هود (11): الآيات 6 الى 8]
وما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (8)
تفسير المفردات
الدابة: اسم لكل نسمة حية تدبّ على الأرض زحفا، أو على قوائم اثنتين فأكثر، وغلب عرفا على ما يركب من الخيل والبغال والحمير، والدبّ والدبيب: الانتقال الخفيف البطيء كدبيب الطفل والشيخ المسنّ والعقرب. والمستقر: مكان الاستقرار من الأرض، والمستودع: حيث كان مودعا قبل الاستقرار في صلب أو رحم أو بيضة، والعرش: مركز نظام الملك ومصدر التدبير، والبلاء: الاختبار والامتحان، والأمة: الطائفة أو المدة من الزمن كما قال تعالى: « وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ » وأصلها الجماعة من نوع واحد أو دين واحد أو زمن واحد، مصروفا عنهم: أي مدفوعا ومجبوسا، وحاق: نزل وأحاط.
المعنى الجملي
بعد أن بين في الآيات السالفة شمول قدرته تعالى لكل شيء وإحاطة علمه بما يسرون وما يعلنون بما في الصدور - قفى على في ذلك بذكر ما يهمّ الناس من آثار قدرته ومتعلقات علمه، وهو ما يتعلق بحياتهم وشئونهم المختلفة، ثم بذكر خلقه للعالم كله، ومكان عرشه قبل هذا من ملكه، وبلاء البشر بذلك ليظهر أيّهم أحسن عملا، ثم بعثه إياهم بعد الموت لينالوا جزاء أعمالهم مع إنكار الكفار لذلك وطلب استعجال العذاب الذي أوعدهم به مع بيان أنه واقع بهم لا محالة إن أصرّوا على كفرهم.
الإيضاح
(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها) أي وما من دابة من أي نوع من أنواع الدواب في الأرض إلا على الله رزقها، لا فرق في ذلك بين الجنّة (المكروبات) التي لا ترى بالأبصار، وبين ضخام الأجسام، والوسطى بين هذه وتلك، وقد أعطى كلا خلقه المناسب لمعيشته، ثم هداه إلى تحصيل غذائه بالغريزة والفطرة، ولله تعالى حكم في خلق كل نوع منها، فإن خفي علينا أمر خلق الحيات والسنانير ونحوها، فلنا أن نقول مثلا إنه لولاها لضاقت الأرض بكثرة إحيائها، أو لأنتنت من كثرة أمواتها.
ومعنى كفالته تعالى لرزقها أنه سخره لها وهداها إلى طلبه وتحصيله كما قال: « رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى » وقد علم بنصوص القرآن وسنن الله في الخلق وأسباب الرزق أن مشيئته تعالى لا تكون إلا بمقتضى سننه في ارتباط الأسباب بالمسببات مع الحكمة في ذلك، لا أنه يأتيها بمحض قدرته سواء طلبته أم لا.
(وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها) أي ويعلم حيث تستقر وتقيم، وحيث كانت مودعة إلى حين، ويرزقها في كلتا الحالين.
(كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي كل الدواب وأرزاقها ومستقرها ومستودعها ثابت مرقوم في كتاب مبين أي في لوح محفوظ كتب الله فيه مقادير الخلق كلها.
(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أي في ستة أيام من أيام الله في الخلق والتكوين وما شاء من الأطوار، لا من أيامنا في هذه الدار التي وجدت بهذا الخلق لا قبله، فلا يصح أن تقدر أيام الله بأيامنا، ويؤيد هذا قوله تعالى: « وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ » وقوله: « تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ».
وقد أثبت علماء الفلك أن أيام غير الأرض من الكواكب التابعة لنظام شمسنا تختلف عن أيام هذه الأرض في طولها بحسب أجرامها وأبعادها وسرعتها في دورانها، وأن أيام التكوين بخلقه تعالى من الدخان الذي يعبرون عنه بالسديم شموسا مضيئة تتبعها كواكب منيرة - يقدر اليوم منها بألوف الألوف من سنينا هذه.
(وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) أي وكان سرير ملكه في أثناء هذا الطور من خلق هذا العالم أو من قبله على الماء، وعرش الرحمن من عالم الغيب الذي لا ندركه بحواسنا، لا نستطيع تصويره بأفكارنا، فلا نعلم كنه استوائه عليه ولا صدور تدبيره لأمر هذا الملك العظيم، ومن ثم روى عن أم سلمة رضي الله عنها وعن مالك وربيعة قولهم: الاستواء معلوم، والكيف مجهول.
ومن الآية نعلم أن الذي كان دون العرش من مادة الخلق قبل تكوين السموات والأرض هو الماء الذي جعله الله أصلا لخلق جميع الأحياء كما قال: « أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقًا فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ؟ »
أي إنه يجب عليهم أن يعلموا أن السموات والأرض كانتا مادة واحدة متصلة لا فتق فيها ولا انفصال، وهي ما تسمى لدى علماء الفلك السديم، ويسميها القرآن الدخان، ففتقناهما بفصل بعضهما من بعض فكان منها ما هو سماء ومنها ما هو أرض، وجعلنا من الماء كل شيء حي، أفلا يؤمنون بأن الرب الذي خلق كل هذا هو الذي يعبد وحده ولا يشرك به شيء، وأنه قادر على إعادة الخلق كما بدأه أول مرة؟
والخلاصة - إن الماء أصل جميع الأحياء وهو الذي يتنزل إليه أمر التدبير والتكوين.
ثم علل خلقه بما ذكر ببعض حكمه الخاصة بالمكلفين المخاطبين بالقرآن فقال:
(لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) أي ليجعل ذلك ابتلاء واختبارا لكم فيظهر أيّكم أحسن إتقانا لما يعمله لنفسه وللناس، ذاك أنه تعالى سخر لنا ما في الأرض وجعلنا مستعدين لإبراز ما أودعه فيها من منافع وفوائد مادية ومعنوية، ومستعدين للإفساد والضرر، ليجزى كل عامل بما يعمل، وإنما يتم ذلك ويظهر في الآخرة.
(وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي ولئن أخبرت هؤلاء المشركين أن الله سيبعثهم بعد مماتهم كما بدأهم، ليجزيهم فيما بلاهم به كما قال: « لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى » ليجيبنّك الذين كذبوا بلقاء الله قائلين: ما هذا الذي جئتنا به من هذا القرآن لتسحرنا لطاعتك وتمنعنا عن لذات الدنيا - إلا سحر بين ظاهر تسحر به العقول وتسخّر به الضمائر والقلوب وبعد أن ذكر ما يقوله المنكرون للبعث ذكر ما يقوله المنكرون لإنذار الرسول ﷺ إياهم عذاب الدنيا والآخرة بتكذيبهم له فقال:
(وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ؟) أي ولئن أخرنا عنهم عذابنا الذي توعّدهم به الرسول ﷺ إلى حين من الزمن مقدر في علمنا وهو مقتضى سنتنا في خلقنا، وبيناه في كتابنا بقولنا « لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ » ليقولن استهزاء، أي شيء يمنع هذا العذاب من الوقوع إن كان حقا.
(ثم توعدهم نزوله فقال أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ) أي ألا إن له يوما يأتيهم فيه حين تنتهى المدة المضروبة دونه، ويومئذ لا يصرفه صارف، ولا يحبسه حابس.
(وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي وسيحيط بهم يومئذ من كل جانب ما كانوا يستهزئون به من العذاب قبل وقوعه، فلا هو يصرف عنهم، ولا ينجون منه.
[سورة هود (11): الآيات 9 الى 11]
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)
تفسير المفردات
الإذاقة هنا: الإعطاء القليل، والنزع: السلب والحرمان، واليئوس: شديد اليأس من عود تلك النعمة، والكفور: كثير الكفران والجحود لما سلف عليه من النعم، والنعماء والنعمة والنّعمى: الخير والمنفعة، ويقابلها الضراء والضّر، وفرح: بطر مغتر بهذه النعمة، فخور: متعاظم على الناس بما أوتى من النعم، مشغول بذلك عن القيام بشكرها.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنه خلق السموات والأرض ليبلو الإنسان أيشكر أن يكفر؟ - قفّى على ذلك بذكر طبيعة الإنسان في ذلك، وهي أنه إذا أصابته نعماء ثم نزعت منه قنط من روح الله وكفر بها، وإذا أذاقه نعمة بعد بؤس بطر وفخر - هكذا شأن الإنسان - إلا من صبر وشكر وعمل صالحا.
الإيضاح
(وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ) أي ولئن أعطينا الإنسان نوعا من أنواع النعم كرخاء عيش وبسطة رزق وصحة وأمن وولد بارّ، رحمة مبتدأة منا أذقناه لذاتها فكان شديد الاغتباط بها، ثم سلبنا ذلك بما يحدث من الأسباب التي قدرها الله في الخليقة كالمرض والموت والعسر، إنه ليظل في هذه الحال شديد اليأس من الرحمة، قاطعا للرجاء من عود تلك النعمة، كثير الكفران لغيرها من النعم التي لا يزال يتمتع بها فضلا عما سلف منها.
والخلاصة - إنه يجمع بين اليأس بعودة ما نزع منه والكفر بما بقي له، لحرمانه من فضيلتي الصبر والشكر.
(وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) أي ولئن كشفنا عنه الضراء التي أصابته وحل محلها نعماء، كشفاء من مرض، وزيادة قوة، وخروج من عسر إلى يسر، ونجاة من خوف وذل، إنه ليقولن: ذهب ما كان يسوءنى من المصايب والضراء ولن يعود، وما هي إلا سحابة صيف قد تقشّعت، وعلي أن أنساها وأتمتع بتلك اللذات، وإنه حينئذ لشديد الفرح بما يهيجه البطر بتلك النعمة، وإنه ليغالى في الفخر والتعالي على الناس والاحتقار لمن دونه فيها.
والخلاصة - أنا إذا منحنا هذا الإنسان اليئوس الكفور نعماء أذقناه لذتها بعد ضراء مسته باقترافه أسبابها لم يقابلها بشكر الله عليها، بل يبطر ويفخر على الناس ولا يقوم بما يجب عليه من مواساة البائسين الفقراء وعمل الخير لبنى الإنسان كفاء ما هو متمتع به من تلك النعم.
ثم استثنى سبحانه من جنس الإنسان فيما ذكر من حاليه السالفتين قبل الصابرين الذين يعملون الصالحات فقال:
(إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) أي إلا الذين صبروا على ما أصابهم من الضراء إيمانا بالله واحتسابا للأجر عنده، وعملوا الصالحات حينما يكشفها ويبدّل النعماء بها ويشكره باستعمالها فيما يرضيه من عمل البر والخير لعباده، أولئك لهم مغفرة من ربهم تمحو ما علق بأنفسهم من ذنب أو تقصير، وأجر كبير في الآخرة على ما وفّقوا لعمله من بر وخير كثير.
والخلاصة - إن الإنسان وإن كان مؤمنا حق الإيمان لا يسلم من ضيق صدر حين حلول الضراء والمصايب، وذلك مما ينافى كمال الرضا، كما لا يسلم حين النعماء من شيء من الزّهو والتقصير في الشكر، فيغفر له كل منهما بصبره وشكره وإنابته إلى ربه.
وقد جاء بمعنى الآية قوله تعالى: « وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ ».
ووصف الأجر بالكبير - لما حواه من نعيم سر مدى وأمن من العذاب ورضا من الله عز وجل ونظر إلى وجهه الكريم « وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ».
[سورة هود (11): الآيات 12 الى 14]
فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)
تفسير المفردات
لعل هنا للاستفهام الإنكارى الذي يفيد النهى، وضيق الصدر: يراد به الغم والحزن، والكنز: ما يدّخر من المال في الأرض، والوكيل: الرقيب الحفيظ للأمور، الموكّل بحراستها، والاستجابة للداعى: إجابته، والإسلام: الإذعان والخضوع والانقياد.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عز اسمه في بدء السورة قولهم في القرآن: إنه سحر مبين، وأنهم يستغشون ثيابهم كى لا يسمعوه - قفّى على ذلك بذكر تكذيبهم للرسول ﷺ والقرآن وبيان أن همه وحزنه ﷺ قد بلغ من كلامهم كل مبلغ، ثم أعقبه بتحدّيه لهم بالقرآن كى يأتوا بعشر سور مثله، حتى إذا ما عجزوا علم أنه وحي من عند الله.
روي عن ابن عباس أن الآية نزلت حين قال رؤساء مكة: يا محمد اجعل لنا جبال مكة ذهبا إن كنت رسولا، وقال آخرون: ائتنا بالملائكة يشهدون بنبوّتك فقال لا أقدر على ذلك.
الإيضاح
(فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) أي أفتارك أنت أيها الرسول بعض ما يوحى إليك، مما يشقّ سماعه على المشركين من الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك والإنذار والوعيد لهم، والنعي على معبوداتهم وتسفيه أحلامهم، وضائق به صدرك أن تبلّغهم إياه كما أنزل.
ذاك أنهم كانوا يتهاونون به فيضيق صدره أن يلقى إليهم ما لا يقبلون وما يضحكون منه، فاستحثه سبحانه على أداء الرسالة وعدم المبالاة باستهزائهم، وطرح مقالاتهم الساخرة وراءه ظهريا.
وخلاصة ذلك - تحمّل أخف الضررين وهو تحمل سفاهتهم، على ترك بعض الوحي والوقوع في الخيانة فيه
(أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) أي كراهة أن يقولوا: هلا أعطاه ربه كنزا من عنده يغنيه ويمتاز به عن غيره، أو جاء معه ملك يؤيده في دعوته كما حكى الله عنهم في سورة الفرقان « وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا. أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها ».
وجملة المعنى - إن عنادهم وجحودهم وإعراضهم عن الإيمان وشدة اهتمامك بأمرهم مما من شأنه أن يقتضى ضيق الصدر بحسب الطباع البشرية أو أن يخطر على البال ترك بعض الوحي، ولو لا عصمتنا إياك وتثبيتنا لك لاجترحت ذلك واستسلمت لما لمثله جرت العادة، ولكن الله حفظك حتى تؤدى رسالته وترحم العالمين بنور نبوتك كما قال: « وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا ».
وقد جاء بمعنى الآية قوله تعالى: « فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا » وقوله: « وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ » وقوله: « المص. كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ ».
(إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي ليس عليك إلا إنذارهم بما أوحى إليك غير مبال بما يصدر منهم ويطلق ألسنتهم، والله هو الرقيب على عباده وليس عليك من أعمالهم شيء.
وقد جاء بمعنى الآية قوله: « لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ » وقوله « فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ » وقوله: « نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ ».
وبعد أن ذكر ضيق صدره لتكذيب المشركين له، قفى على ذلك بذكر ما قالوه في القرآن فقال:
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي بل أيقول هؤلاء المشركون من أهل مكة إن محمدا قد افترى هذا القرآن؟ فقل لهم إن كان الأمر كما تزعمون فأتوا بعشر سور مثله مفتريات من عند أنفسكم لا تدّعون أنها من عند الله، فإنكم أهل اللّسن والبيان والمران على المفاخرة بالفصاحة والبلاغة وفنون الشعر والخطابة، ولم يسبق لي مع العمر الطويل الذي عشته بينكم أن أزاول شيئا من ذلك، فإن كان من كلام البشر فأنتم على مثله أقدر، وإنكم لتعلمون إني لم أكذب على بشر قط، فكيف أفترى على الله، وإن زعمتم أن لي من يعيننى على تأليفه ووصفه، فادعوا من استطعتم ممن تعبدون غير الله، ومن جميع خلقه ليساعدوكم على الإتيان بهذه السور العشر، ولتكن مثله مفتريات تشتمل على مثل ما فيه من تشريع ديني ومدنى وحكم ومواعظ، وآداب وأنباء غيبية إخبارا عن ماض، وأنباء غيبية إخبارا عن مستقبل، بمثل هذا النظام البديع والأسلوب البالغ حد الإعجاز، والبلاغة الساحرة للألباب، والسلطان الحاكم على الأنفس والأرواح - إن كنتم صادقين في دعواكم.
والخلاصة - إن مشركي مكة المعاندين لم يجدوا شهة في القرآن بعد شبهة السحر التي لم تجد آذانا صاغية عند العرب، لأنهم أرباب الفصاحة واللسن فعرفوا فضله على سائر الكلام - إلا زعمهم أن محمدا قد افتراه جملة وليس بوحي من عند الله، فتحداهم بالإتيان بعشر سور مثله في النظم والأسلوب، محتوية على التشريع القيّم من ديني ومدنى وسياسى، وحكم ومواعظ وآداب، وكلّفهم دعوة من استطاعوا من دون الله ليظاهروهم ويعاونوهم على ذلك، فعجزوا ولم يجدوا من فصحائهم من يستجيب لهم، فقامت الحجة عليهم وعلى غيرهم إلى يوم الدين، وهذا معنى قوله:
(فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ) أي فإن لم يستجب لكم من تدعونهم من دون الله ليعاونوكم على الإتيان بالعشر السور المماثلة للقرآن من فحول الكتاب ومصاقع الخطباء وعلماء أهل الكتاب العارفين أخبار الأنبياء، فاعلموا أنما أنزل على محمد ﷺ بمقتضى علم الله وإرادته أن يبلغه لعباده على لسان رسوله ولا يقدر عليه محمد ولا غيره ممن تدّعونه زورا أنهم أعانوه، لأنه من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا من أعلمه الله به.
(وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي واعلموا أنه لا إله يعبد بحق إلا هو، إذ من خصائص الإله أن يعلم ما لا يعلمه غيره، وأن يعجز من عداه عن مثل ما يقدر عليه.
(فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي فهل أنتم بعد أن قامت عليكم الحجة داخلون في الإسلام الذي أدعوكم إليه بهذا القرآن، مؤمنون بما فيه من عقائد ووعد ووعيد وأحكام وحكم وآداب.
والخلاصة - إنه لم يبق لكم بعد أن دحضت شبهتكم وانقطعت معاذيركم إلا جحود العناد وإعراض الاستكبار، والعاقل المنصف لا يرضى لنفسه بمثل هذا دعاء المشركين.
افتراء النبي ﷺ للقرآن
افتراء القرآن يشمل ناحيتين:
(1) افتراء في جملته بإسناده إلى الله ادعاء أنه من كلامه أوحاه إليه.
(2) افتراء أخبار الغيب التي يدّعى أنها من عند الله ولا يعلمها إلا هو وبها استدل على نبوته، وقد حكى الله عنهم ادعاء الأمرين في سورة الفرقان بقوله: « وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْمًا وَزُورًا. وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُورًا رَحِيمًا ».
وأساطير الأولين: هي قصصهم وأكاذيبهم التي سطروها، وكانت العرب تسلّى نفسها عن جهلها بالأديان والتواريخ بزعمهم أنها أساطير الأولين.
وأنباء الغيب ضربان:
(ا) أنباء الغيب الماضية، وتشمل قصص الرسل مع أقوامهم، وأخبار التكوين كخلق السموات والأرض وما بينهما كخلق الإنسان والجانّ.
(ب) أنباء الغيب الآتية، وتشمل وعد الله بنصره لرسله والمؤمنين وجعل العاقبة لهم واستخلافهم في الأرض وخذلان أعدائهم الكافرين، والقيامة والبعث والحساب والجزاء على العقائد والأعمال، وقد كانوا ينكرون ذلك ويستبعدونه.
ما حوته قصص القرآن
إن في قصص القرآن لأشعة من ضياء العلم والهدى جاءت على لسان كهل أمي لم يكن منشئا ولا راوية ولا حافظا، ويمكن أن بحمل أغراضها فيما يلي:
(1) بيان أصول الدين المشتركة بين جميع الأنبياء من الإيمان بالله وتوحيده وعلمه وحكمته وعدله ورحمته والإيمان بالبعث والجزاء.
(2) بيان أن وظيفة الرسل تبليغ وحي الله لعباده فحسب، ولا يملكون وراء ذلك نفعا ولا ضرا:
(3) بيان سنن الله في استعداد الإنسان النفسي والعقلي لكل من الإيمان والكفر والخير والشر.
(4) بيان سنن الله في الاجتماع وطباع البشر وما في خلقه للعالم من الحكمة.
(5) آيات الله وحججه على خلقه في تأييد رسله.
(6) نصائح الأنبياء ومواعظهم الخاصة بكل قوم بحسب حالهم كقوم نوح في غوايتهم وغرورهم، وقوم فرعون وملئه في ثروتهم وعتوهم، وقوم عاد في قوتهم وبطشهم، وقوم لوط في فحشهم.
فإن أمكن أن يكون كل هذا حديثا مفترى، فان مفتريه يكون أكمل منهم جميعا علما وعملا وهداية وإصلاحا، فما أجدرهم أن يتبعوه، وما أحقهم أن يهتدوا بهديه، ولن يكشف حقيقة أمره إلا من يستطيع أن يأتي بحديث مثله ولو مفترى في صورته وموضوعه، فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين.
ومن المعلوم أن الاحتذاء والاتباع، أهون من الابتداء والابتداع.
ولكن افتراء الأمي لهذه العلوم الإلهية والنفسية والتشريعية محال، فقد عجز عن مثلها حكماء العلماء - أفهكذا يكون الافتراء، والحديث المفترى الذي ينهى عنه العقلاء وفى التحدي بهذه السور العشر توسيع على المنكرين إن حدثتهم أنفسهم أن يتصدّوا لمعارضته، لكنهم لم يستطيعوا فقامت عليهم وعلى غيرهم الحجة إلى يوم القيامة.
[سورة هود (11): الآيات 15 الى 16]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (16)
تفسير المفردات
نوف إليهم: أي نوصّل إليهم، ولا يبخسون: لا ينقصون، وحبط: أي فسد وبطل ولم ينتفعوا به.
المعنى الجملي
بعد أن أقام الحجة على حقية دعوة الإسلام، وعلى أن القرآن من عند الله وليس بالمفترى من عند محمد ﷺ كما يدعيه المشركون - قفّى على ذلك ببيان أن الباعث لهم على المعارضة والتكذيب ليس إلا شهواتهم وحظوظهم الدنيوية والإسلام يدعو إلى إيثار الآخرة على الأولى.
الإيضاح
(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ) أي من كان حظهم من الدنيا التمتع بلذاتها من طعام وشراب، وزينتها من اللباس والأثاث والرياش والأموال والأولاد دون استعداد للحياة الآخرة بعمل البر والإحسان وتزكية النفس بعمل الطاعات بباعث الإيمان - نؤد إليهم ثمرات أعمالهم وافية تامة بحسب سنتنا في الأسباب ولا ينقصون شيئا من نتاج كسبهم لأجل كفرهم، إذ مدار الأرزاق فيها على الأعمال لا على النيات والمقاصد، وإن كان لهداية الدين أثر في ذلك كالاستقامة والصدق، واجتناب الخيانة والزور والغش ونحو ذلك.
والخلاصة - إن جزاء الأعمال في الدنيا منوط بأمرين: كسب الإنسان، وقضاء الله وقدره به، وأما جزاء الآخرة فهو بفعل الله تعالى بلا وساطة أحد. « وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ».
(أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي هؤلاء الذين لا همّ لهم إلا الدنيا وزينتها، ليس لهم في الآخرة إلا النار، لأن الجزاء فيها على الأعمال كالجزاء في الدنيا، وهم لم يعملوا للآخرة شيئا، فإن العمل لها يكون بتزكية النفس بالإيمان وعمل الفضائل - وبالتقوى باجتناب المعاصي والرذائل، وما صنعوه فيها مما ظاهره البر والإحسان كالصدقة وصلة الرحم ونحو ذلك لم يكن تزكية لأنفسهم تقرّبهم إلى ربهم، بل كان لأغراض نفسية من شهواتها كالرياء والسمعة والاعتزاز بذوي القرابة على الأعداء ولو بالباطل، فلا أجر له فيها وقد انقطع أثره الدنيوي.
وقد جاء في معنى الآية قوله تعالى: « مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُومًا مَدْحُورًا. وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا. كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا. انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ، وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا »
وقوله ﷺ « إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه ».
والخلاصة - أن الدين يبيح التمتع بالطيبات من المآكل والمشارب، ويبيح الزينة في غير سرف ولا خيلاء، على شريطة ألا يجعلها المرء كل همه في الحياة، فيحتقر المواهب الإنسانية من عقلية وروحية وهي التي سما بها الإنسان على غيره من المخلوقات، ألا ترى أن الثور يفضله في كثرة الأكل، والبعير في كثرة الشرب، والعصفور في كثرة السّفاد، والطاوس في الزينة ولمعان اللباس.
[سورة هود (11): آية 17]
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِمامًا وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17)
تفسير المفردات
البينة: ما يتبين به الحق كالبرهان في الأمور العقلية، والنصوص في الأمور النقلية، والتجارب في الأمور الحسية، والشهادة في القضاء، ويتلوه: يتبعه، والشاهد: هو القرآن، والموعد: مكان الوعد وهي النار يردها كما قال: « لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ » والمرية: الشك.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه مآل من كان يريد الدنيا وزينتها ولا يهتمّ بالآخرة وأعمالها - قفى على ذلك بذكر من كان يريد الآخرة ويعمل لها، وكان على بينة من ربه في كل ما يعمل ومعه شاهد يدل على صدقه، وهو القرآن، ومآل من أنكر صحته وكفر به.
الإيضاح
(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِمامًا وَرَحْمَةً) أي أفمن كان على نور وبصيرة في دينه ويؤيده نور غيبى يشهد بصحته وهو القرآن المشرق النور والهدى، ويؤيده شاهد آخر جاء من قبله. وهو الكتاب الذي أنزل على موسى عليه السلام حال كونه إماما متّبعا في الهدى والتشريع، ورحمة لمن آمن وعمل به من بني إسرائيل (وشهادة موسى لهذا النبي الكريم شهادة مقال بالبشارة بنبوته، وشهادة حال وهي التشابه بين رسالتيهما) - أي أفمن كان على هذه الأوصاف كمن يريد الحياة الفانية وزينتها الموقوتة، ويظل محروما من الحياة العقلية والروحية التي توصل إلى سعادة الآخرة الباقية.
ونحو الآية قوله: « أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ » وإجمال المعنى - أفمن كان كامل الفطرة والعقل، وعرف حقيقة الوحي وهو القرآن وما فيه من نور وهداية، وعرف تأييده بالوحي السابق الذي اهتدى به بنو إسرائيل، فتظاهرت لديه الحجج الثلاث في الهداية (كمال الفطرة، ونور القرآن والوحي الذي أنزل على موسى) كمن حرم من ذلك وكان همه مقصورا على الحياة الفانية ولذاتها.
(أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي أولئك الذين جمعوا بين البينة الوهبية، والبينة الكسبية النقلية، يؤمنون بهذا القرآن إيمان يقين وإذعان، على علم بما فيه من الهدى والفرقان، فيجزمون بأنه ليس بالمفترى من دون الله ولم يكن من شأنه أن يكون كذلك.
(وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) أي ومن يكفر بهذا القرآن فيجحد أنه من عند الله ممن تحزبوا من أهل مكة وزعماء قريش للصدّ عنه. قال مقاتل هم بنو أمية وبنو المغيرة بن عبد الله المخزومي وآل طلحة بن عبيد الله، والذين سيتحزبون لمثل ذلك من أهل الكتاب - فإنه يصير إلى جهنم من جرّاء تكذيبه لوعيده الذي جاء في نحو قوله « أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ ».
(فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أي فلا تكن أيها المكلف في شك من أمر هذا القرآن إنه الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه آتيا من ربك وخالقك الذي يربّيك بما تكمل به فطرتك، ويوصلك إلى سعادتك في دنياك وآخرتك.
(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) أي ولكن أكثر الناس لا يؤمنون هذا الإيمان الكامل، أما المشركون منهم فلاستكبار زعمائهم ورؤسائهم، وتقليد مرءوسيهم وعامتهم لهم، وأما أهل الكتاب فلتحريفهم دين أنبيائهم وابتداعهم فيه.
[سورة هود (11): الآيات 18 الى 24]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (19) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (21) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24)
تفسير المفردات
الأشهاد: واحدهم شاهد، واللعنة: الطرد من الرحمة، والصدّ عن سبيل الله: الصرف عنه، والعوج: الالتواء، ومعجزين في الأرض، أي لا يمكنهم أن يهربوا من عذابه، وضل: أي غاب، ولا جرم: أي حقا، وأخبتوا: أي خشعوا وخضعوا وأصله من الخبت، وهو الأرض المطمئنة.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه فيما سبق أن الناس فريقان: فريق يريد الدنيا وزينتها وفريق على بينة من ربه، قفّى على ذلك ببيان حال كل من الفريقين في الدنيا وما يكون عليه في الآخرة.
الإيضاح
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) أي لا أحد أظلم لنفسه ولغيره ممن افترى على الله كذبا في أقواله أو أفعاله، أو أحكامه أو صفاته، أو في اتخاذ الشفعاء والأولياء له بدون إذنه أو في زعم أنه اتخذ له ولدا من الملائكة كالعرب الذين قالوا الملائكة بنات الله، والنصارى الذين قالوا المسيح ابن الله، أو في تكذيب ما جاء به رسله من دينه لصدّ الناس عن سلوك سبيله.
(أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ، أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) أي ويوم القيامة تعرض أعمال هؤلاء وأقوالهم على ربهم لمحاسبتهم، ويقول الذين يقومون للشهادة عليهم من الملائكة والأنبياء وصالحي المؤمنين: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم بالافتراء عليه، ويفضحونهم بهذه الشهادة المقرونة باللعنة الدالة على خروجهم من محيط الرحمة.
وقد جاء في معنى الآية قوله تعالى: « إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ »
وفي حديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « إن الله يدنى المؤمن حتى يضع كنفه عليه ويستره من الناس ويقرره بذنوبه ويقول له: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: رب أعرف، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال فإني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته. وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد (هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ، أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) ».
(الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) أي إن الظالمين هم الذين يمنعون الناس ويصرفونهم عن سبيل الله (وهي دينه القيم وصراطه المستقيم) ويصفونها بالعوج والالتواء لينّفروا الناس منها، والحال أنهم كافرون بالآخرة لا يؤمنون ببعث ولا جزاء.
(أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ) أي إن هؤلاء الذين يصدون عن سبيل الله لم يكونوا بالذين يعجزون ربهم بهربهم منه في الأرض إذا أراد عقابهم، بل هم في قبضته وملكه، لا يمتنعون منه إذا أرادهم ولا يفوتونه هربا إذا طلبهم، ولم يكن لهم أنصار ينصرونهم من دونه ويحولون بينهم وبينه إذا هو عذّبهم، ويضاعف لهم العذاب من أجل ضلالهم وإضلالهم.
ثم بين علة هذه المضاعفة بقوله:
(ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) أي ما كانوا يستطيعون إلقاء أسماعهم إلى القرآن إصغاء لدعوة الحق، لاستحواذ الباطل على أنفسهم ورين الكفر والظلم على قلوبهم، كما حكى الله عنهم بقوله: « وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ » وما كانوا يبصرون ما يدل على صدقه في الأنفس وفى الآفاق.
وإجمال المعنى - إنهم لشدة انهماكهم في الكفر واتباع الهوى والشهوات صاروا يكرهون الحق والهدى، فيثقل عليهم سماع ما يبينه من الآيات السمعية وما يثبته من الآيات البصرية، فهم قد ختم الله على سمعهم وعلى أبصارهم فلا يسمعون الحق سماع منتفع ولا يبصرون حجج الله إبصار مهتد.
(أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي أولئك الذين هذه صفتهم هم الذين غبنوا أنفسهم حظوظها من رحمة الله، بافترائهم عليه واشتراء الضلالة بالهدى، وبطل كذبهم بادعاء أن له شركاء وشفعاء يقربونهم إليه زلفى، ثم سلك بما كانوا يدعونه من دون الله غير مسلكهم إذ سلك بهم إلى جهنم وصارت آلهتهم عدما لأنها كانت في الدنيا أحجارا أو خشبا أو نحاسا، وذلك هو ضلالهم وبعدهم عنهم.
(لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) أي حقا إنهم في الآخرة أشد الناس خسرانا، إذ هم قد اعتاضوا عن نعيم الجنان، بحميم آن، وعن شرب الرحيق المختوم، بسموم وحميم، وظلّ من يحموم، وعن الحور العين، بطعام من غسلين، وعن قرب الرحمن، بعقوبة الملك الديان.
وبعد أن بين حال الكافرين وأعمالهم ومآلهم، بيّن حال المؤمنين وعاقبة أمرهم فقال:
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي إن الذين صدقوا الله ورسوله وعملوا في الدنيا الأعمال الصالحة، فأتوا بالطاعات وتركوا المنكرات، وخشعت نفوسهم واطمأنت إلى ربهم - أولئك هم قطّان الجنة الذين لا يخرجون منها ولا يموتون، بل هم ما كثون فيها أبدا.
(مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ) أي مثل فريقى الكافرين والمؤمنين وصفتهما الحسية التي تطابق حالهما كمثل الأعمى الفاقد لحاسة البصر في خلقته، والأصم الفاقد لحاسة السمع الذي حرم وسائل العلم والمعرفة الإنسانية والحيوانية، ومن هو كامل حاستى السمع والبصر، فهو يستمد العلم من آيات الله في خلقه بما يسمع من القرآن وبما يرى في الأكوان، وهما وسيلتا العلم والهدى لعقل الإنسان.
(هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟) أي هل يستوى الفريقان صفة وحالا ومآلا؟ كلا، إنهما لا يستويان، أتغفلون عن ذلك المثل الجلى الواضح أفلا تتذكرون ما بينهما من التباين والاختلاف فتعتبروا به؟
وإجمال المعنى - إنه شبه الكافرين بالعمى الذين لا يستعملون أبصارهم فيما يفضلون به الحيوان العجم من فهم آيات الله التي تزيدهم علما وهدى، وبالصمّ الذين لا يسمعون داعي الله إلى الرشاد والهدى فيجيبونه ويهتدون به، وشبه المؤمنين الذين انتفعوا بأسماعهم وأبصارهم واهتدوا إلى الجنة وتركوا ما كانوا خابطين فيه من كفر وضلال، بحال من هو سميع بصير فيهتدى بسمعه إلى ما يبعده من مواضع الهلاك، ويهتدى ببصره بواسطة النور حين السير في الظلام.
قصة نوح عليه السلام
[سورة هود (11): الآيات 25 الى 27]
ولَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحًا إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَرًا مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27)
تفسير المفردات
الملأ: الأشراف والزعماء وأراذل: واحدهم أرذل، وهو الخسيس الدنيء، وبادى الرأي: أي ظاهره قبل التأمل في باطنه، وفضل: أي زيادة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر بعثة النبي الكريم، وأثبت بالبرهان أنه رسول من رب العالمين، وأن القرآن وحي من الرحمن الرحيم، قفي على ذلك بقصص الأنبياء قبله ليبين لقومه أن محمدا ﷺ ليس بدعا من الرسل وأنه إنما بعث بمثل ما بعث به من قبله من الدعوة إلى عبادة الله وحده والإيمان بالبعث والجزاء، فحاله معهم كحال من قبله من الرسل عليهم السلام مع أقوامهم جملة وتفصيلا كما قال: « سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا ».
الإيضاح
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحًا إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه قائلا لهم إني لكم نذير من الله أنذركم بأسه على كفركم به، فآمنوا به وأطيعوا أمره.
ثم فسر هذا الإنذار بقوله:
(أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) أي بألا تعبدوا إلا الله ولا تشركوا به شيئا، وكانوا أول من أشرك بالله واتخذوا الأنداد، وكان هو أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض.
ثم علل هذا بقوله: إني أخاف عليكم إلخ، أي إن لم تخصوه بالعبادة وتفردوه بالتوحيد وتخلعوا ما دونه من الأنداد والأوثان - أخف عليكم من الله عذاب يوم مؤلم عقابه وعذابه، لمن عذّب فيه.
وقد أجابوه عن مقالته بأربع حجج داحضة ظنا منهم أنها تكفى في رد دعوته.
(1) (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنا) أي إن الأشراف والزعماء بادروا إلى الجواب بقولهم: ما أنت إلا بشر مثلنا في الجنس لا مزية لك علينا تجعلنا نطيعك ونذعن لنبوتك.
(2) (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ) أي وإنا لم نر متبعيك إلا الأخساء كالزرّاع والصناع ومن في حكمهم في المكانة الاجتماعية، بادى الرأي قبل التأمل في عواقبه، والنظر في مستنده، وترجيح العقل له، وهذا مما يرجح رد الدعوة والتولي عنها.
(3) (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) أي وما نرى لك ولمن اتبعك أدنى امتياز عنا من قوة أو كثرة أو علم أو أصالة رأى يحملنا على اتباعكم ويجعلنا ننزل عن جاهنا ومالنا ونكون نحن وأنتم سواء.
(4) (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) أي بل إنا نرجح الحكم عليك وعليهم بالكذب، فأنت كاذب في دعوى النبوة، وهم كاذبون في تصديقك، وهذه الشبهة الأخيرة طعن على نوح عليه السلام أشركوا فيها أتباعه ولم يجابهوه بها وحده كما أنهم جعلوها ظنا ولم يجزموا بها، لأن ذلك كاف في رد دعوته، وعدم الدخول في دينه.
[سورة هود (11): الآيات 28 الى 31]
قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)
تفسير المفردات
أرأيتم: أي أخبروني، والبينة. ما يتبين به الحق، وعميت: أخفيت، وطرده: أبعده ونحّاه، وتجهلون: أي تسفهون عليهم، وهو من الجهالة التي تضادّ العقل والحلم، وتذكرون أصله تتذكرون، وزرى على فلان زراية: عابه واستهزأ به.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر مقالتهم وطعنهم في نوح عليه السلام بتلك الشبه السالفة، قفى على ذلك بدحض نوح لها، ورد شبهات أخرى قد تكون صدرت منهم ولم يحكها، لعلها من الرد عليها، وربما لم يقولوها وإن كان كلامهم يستلزمها، وهذا من خواصّ أسلوب الكتاب الكريم، وسرّ من أسرار بلاغته.
الإيضاح
(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) أي قال يا قومي: أخبروني ماذا ترون وماذا تقولون، إن كنت على حجة فيما جئتكم به من ربى يتبين لي بها أنه الحق من عنده، لا من عندي ومن كسبى البشرى الذي تشاركوننى فيه، وآتاني رحمة من عنده وهي النبوة وتعاليم الوحي التي هي سبب رحمة خاصة لمن يهتدى بها، فحجبها عنكم جهلكم وغروركم بالمال والجاه فلم تتبينوا منها ما تدل عليه من التفرقة بيني وبينكم، فمنعتم فضل الله عنى بحرماني من النبوة.
(أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) أي أنكرهكم على قبولها وأنتم معرضون عنها غير متدبرين لها، كلا، إنا لا نفعل ذلك، بل نكل أمركم إلى الله حتى يقضى في أمركم ما يرى ويشاء، وما علي إلا البلاغ.
وهذا أول نصّ في دين الله على أنه لا ينبغي أن يكون الإيمان بالإكراه.
وفي هذه الآية إثبات لنبوته عليه السلام، وردّ لإنكارهم لها وتكذيبه ومن معه فيها، وإبطال لشبهتهم في أنه بشر مثلهم، وقد فاتهم أن المساواة في البشرية لا تقتضى استواء أفراد الجنس في الكمالات والفضائل؟ فالمشاهدة والتجارب تدل على التفاوت العظيم بين أفراد البشر في العقل والفكر والرأي والأخلاق والأعمال، حتى إن الواحد منهم ليأتي بضروب من الإصلاح لقومه بالعلم والعمل يعجز عن مثلها الألوف من الناس في أجيال كثيرة.
والناس ألف منهم كواحد وواحد كالألف إن أمر عرا
فما بالك بمن يختصهم الله من عباده بما شاء مما لا كسب لهم فيه كالأنبياء والرسل الكرام.
(وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ) أي لا أسألكم على نصيحتى لكم ودعوتكم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له إلا خيركم ومصلحتكم ولا أريد بذلك مالا فأكون متهما فيه عندكم لمكانة حبّ المال من أنفسكم واعتزازكم به علي وعلى الفقراء من أتباعي، فما أجري على ذلك إلا على الله الذي أرسلنى، فهو الذي يجازينى ويثيبنى عليه.
ومثل هذه المقالة قد صدرت من جميع الأنبياء بعده، فجاءت على لسان هود وصالح وشعيب ومحمد، صلوات الله عليهم أجمعين كما ترى ذلك في سورة الشعراء محكيا عنهم.
(وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) أي ليس من شأني ولا بالذي يكون مني أن أبعد من يؤمن بي، وأنحّيه عنى احتقارا له على أي حال كانت صفته.
وفي هذا إيماء إلى الجواب عن قولهم (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) وقد روى أنهم قالوا له يا نوح إن أحببت أن نتبعك فاطرد هؤلاء، فإنا لن نرضى أن نكون نحن وهم في الأمر سواء.
ثم علل الامتناع من طردهم بقوله:
(إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) أي إن هؤلاء الذين تسألوننى طردهم - صائرون إلى ربهم وهو سائلهم عما كانوا يعملون في الدنيا، ولا يسألهم عن حسبهم وشرفهم.
(وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ) أي تجهلون ما يمتاز به البشر بعضهم عن بعض من اتباع الحق والتحلي بالفضائل وعمل البر والخير، وتظنون أن الميزة إنما تكون بالمال والجاه.
وقد جاء هذا المعنى في قصته من سورة الشعراء: « قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ. قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ. وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ. إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ».
(وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ) أي ويا قوم لا أجد أحدا يمنع عنى ما أستحقه من عقاب الله إن طردتهم بعد إيمانهم واتباعهم إياي فيما بلغتهم - فإن ذلك ظلم عظيم يستحق شديد العقاب مهما تكن صفة من اجترحه كما قال في سورة الأنعام: « فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ».
(أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أي أفلا تتفكرون فيما تقولون، وهو ظاهر الخطأ لائحه فتنتهوا عنه؟، فإن لهم ربّا ينصرهم وينتقم لهم.
(وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ) أي ولا أقول لكم بادعائى للنبوة والرسالة إن عندي خزائن رزق الله: (أنواع رزقه التي يحتاج إليها عباده للانفاق منها)
أتصرّف فيها بغير وسائل الأسباب المسحرة لسائر الناس، فأنفق على نفسي وعلى من تبعني بالتصرف فيها بخوارق العادات، بل أنا وغيري في الكسب سواء، إذ ذلك ليس من موضوع الرسالة ولا من خصائص النبي، ولو كان كذلك لا تبع الناس الرسل لأجلها. بل الغاية من بعث الرسل تزكية الأنفس بمعرفة الله وعبادته، وتأهيلها لمثوبته في دار كرامته، ورضاه عنها يوم لا ينفع مال ولا بنون.
(وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) فلا أمتاز عن سائر البشر بعلم ما لا يصل إليه علمهم الكسبي من مصالحهم ومنافعهم ومضارهم في معايشهم وكسبهم، فأخبر بها أتباعي ليفضلوا عليكم، ومن ثم أمر الله نبيه أن يقول لقومه: « قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ » (وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) من الملائكة أرسلت إليكم فأكون كاذبا فيما أدعى، بل أنا بشر مثلكم أمرت بدعائكم إلى الله وقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم.
وفي هذا دحض لشبهتهم، إذ زعموا أن الرسول من الله إلى البشر يجب أن يفضلهم ويمتاز عنهم، ولا سبيل إلى ذلك إلا بأن يكون ملكا يعلم ما لا يعلمه البشر، ويقدر على ما لا يقدر عليه البشر.
(وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا) أي ولا أقول للذين اتبعوني وآمنوا بالله وحده، وأنتم تنظرون إليهم نظرة استصغار واحتقار فتزدريهم أعينكم لفقرهم ورثاثة حالهم: لن يؤتيهم الله خيرا وهو ما وعدوه على الأيمان والهدى من سعادة الدنيا والآخرة.
(اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ) أي الله أعلم بما في صدورهم وبما آتاهم من الإيمان على بصيرة، ومن اتباع رسوله بإخلاص وصدق سريرة، لا كما زعمتم من اتباعهم إياي بادى الرأي بلا بصيرة ولا علم.
(إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أي إني إذا قضيت على سرائرهم بخلاف ما أبدته لي ألسنتهم على غير علم مني بما في نفوسهم أكون ظالما لهم بهضم حقوقهم.
[سورة هود (11): الآيات 32 الى 34]
قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)
تفسير المفردات
أصل الجدال. هو الصراع وإسقاط المرء صاحبه على الجدالة وهي الأرض الصّلبة ثم استعمل في المخاصمة والمنازعة بما يشغل عن ظهور الحق ووضوح الصواب، والنصح: تحري الخير والصلاح للمنصوح له، والإخلاص فيه قولا وعملا، والإغواء: الإيقاع في الغي، وهو الفساد الحسي والمعنوي، والإجرام: الفعل القبيح الضارّ الذي يستحق فاعله العقاب.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه شبهاتهم في رفض نبوة نوح عليه السلام وردّ نوح عليهم بما فيه مقنع لهم لو كانوا يعقلون، ذكر هنا مقالتهم التي تدل على العجز والإفحام، وأن الحيل قد ضاقت عليهم فلم يجدوا للرد سبيلا، وفى ذلك إيماء إلى أن الجدال في تقرير أدلة التوحيد والنبوة والمعاد وفى إزالة الشبهات عنها هي وظيفة الأنبياء، والتقليد والجهل والإصرار على الباطل والإنكار والجحود هو ديدن الكفار المعاندين.
الإيضاح
(قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي قال قومه له: قد حاججتنا فأكثرت جدالنا واستقصيت فيه فلم تدع حجة إلا ذكرتها حتى مللنا وسئمنا ولم يبق لدينا شيء نقوله كما قال في سورة نوح حكاية عنه: « قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهارًا. فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِرارًا » أي فأتنا بما تعدنا من عذاب الله الدنيوي الذي تخافه علينا وهو الذي أراده بقوله (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) إن كنت صادقا في دعواك أن الله يعاقبنا على عصيانه في الدنيا قبل عقاب الآخرة.
(قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي قال لهم نوح حين استعجلوا العذاب: يا قوم إن هذا العذاب بيد الله لا أملكه وهو الذي يأتيكم به إن تعلقت مشيئته في الوقت الذي تقتضيه حكمته، ولستم بفائتيه هربا منه إن أخره لحكمة يعلمها، وهو واقع لا محالة متى شاء، لأنكم في ملكه وسلطانه، وقدرته نافذة عليكم.
(وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) أي إن نصحى لكم لا ينفعكم بمجرد إرادتى له فيما أدعوكم إليه، بل يتوقف نفعه على إرادة الله تعالى له، وقد مضت سنته كما دلت عليه التجارب أن النصح إنما يقبله المستعد للرشاد، ويرفضه من غلب عليه الغي والفساد، باجتراحه أسبابه من غرور بغنى وجاه، أو باتباع هوى وحب شهوات، تمنع من طاعة الله تعالى.
والخلاصة - إن معنى إرادة الله إغواءهم اقتضاء سننه فيهم أن يكونوا من الغاوين لا خلقه للغواية فيهم ابتداء من غير عمل منهم ولا كسب لأسبابها، فإن الحوادث مرتبطة بأسبابها والنتائج متوقفة على مقدماتها.
(هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي هو مالك أموركم ومدبرها بحسب سننه المطردة في الدنيا، ولكل شيء عنده قدر، ولكل قدر أجل، وإليه ترجعون في الآخرة فيجازيكم بما كنتم تعملون من خير وشر، ولا تظلمون نقيرا.
[سورة هود (11): آية 35]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)
المعنى الجملي
قال مقاتل وغيره: هذه الآية معترضة في قصة نوح حكاية لقول مشركي مكة في تكذيب هذه القصص. وللجمل والآيات المعترضة في القرآن حكم وفوائد، منها تنبيه الأذهان ومنع السآمة وتجديد النشاط بالانتقال من غرض إلى آخر والتشويق إلى سماع بقية الكلام، ومن المتوقع هنا أن يخطر في بال المشركين حين سماع ما تقدم من هذه القصة أنها مفتراة، لاستغرابهم هذا السبك في الجدال، والقوة في الاحتجاج فكان إيراد هذه الآية تجديد للرد عليهم وتجديدا لنشاطهم.
الإيضاح
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) أي بل أيقول مشركو مكة: إن محمد افترى خبر قوم نوح.
فأمره الله أن يجيبهم بقوله:
(قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي) أي إن كنت افتريته على الله كما تزعمون فما عليكم في ذلك من بأس، إنما إثم ذلك وعقابه علي، ومن كان يؤمن أن هذا إجرام يعاقب عليه فاعله، فما الذي يحمله على اقترافه؟.
(وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) أي كما إني بريء من آثامكم وذنوبكم، فحكم الله العدل أن يجزى كل امرئ بعمله كما قال: « وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ».
[سورة هود (11): الآيات 36 الى 39]
وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (39)
تفسير المفردات
ابتأس: اشتد بؤسه وحزنه، والفلك: السفينة، ويطلق على الواحد والجمع، والمراد بالأعين هنا: شدة الحفظ والحراسة، وسخر منه: استهزا به، ويخزيه: يذله ويفضحه: ومقيم: أي دائم.
المعنى الجملي
بعد أن أخبر سبحانه أن نوحا قد أكثر في حجاجهم وجدالهم، وأنه كلما ازداد في ذلك زادوا عتوّا وطغيانا حتى تعجلوا منه العذاب وقالوا له: ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين - قفّى على ذلك بذكر ما أيأسه من إيمانهم وأعلمه بأن ذلك كالمحال الذي لا يكون فالجدال والحجاج معهم عبث ضائع، فلن يؤمن منهم إلا من قد حصل منه إيمان من قبل. فإياك أن تغتمّ على ما كان منهم من تكذيب في تلك الحقبة الطويلة، فقد حان حينهم وأزف وقت الانتقام منهم.
الإيضاح
(وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) أي وأوحى الله إلى نوح بعد أن استعجل قومه العذاب، ودعا عليهم دعوته التي حكاها الله عنه « رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّارًا »: أنه لن يؤمن أحد منهم فيتّبعك على ما تدعوه إليه إلا من قد آمن من قبل فيظل على إيمانه فلا يشتدنّ عليك البؤس والحزن بعد اليوم، بما كانوا يفعلون في السنين الطوال من العناد والإيذاء والتكذيب لك ولمن آمن معك، فأرح نفسك بعد الآن من جدالهم ومن إعراضهم واحتقارهم، فقد آن زمن الانتقام، وحان حين العذاب.
(وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) أي واصنع الفلك الذي سننجيك ومن آمن معك فيه وأنت محروس ومراقب برعايتنا، أي إننا حافظوك في كل آن، فلا يمنعك من حفظنا مانع، وملهموك ومعلموك بوحينا كيف تصنعه، فلا يعرضنّ لك خطأ في صنعته ولا في وصفه.
ونحو الآية قوله لموسى « وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي » وقوله لمحمد ﷺ « وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا ».
(وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) أي ولا تراجعنى في شيء من أمرهم من دفع العذاب عنهم وطلب الرحمة لهم، فقد حقت عليهم كلمة العذاب وقضى عليهم بالإغراق.
والخلاصة - لا تأخذنك بهم رأفة ولا شفقة.
(وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ) أي وشرع يصنع الفلك وكلما مر عليه جماعة من كبراء قومه استهزءوا به وضحكوا منه، وتنادروا عليه ظنا منهم أنه أصيب بالهوس والجنون.
روي أنهم قالوا له: أتحولت نجارا بعد أن كنت نبيّا، وليس ذلك بالغريب منهم فإنه ما من أحد يسبق أهل عصره بما فوق عقولهم من قول أو فعل إلا سخروا منه قبل أن يكتب له النجاح فيه.
(قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ) أي قال نوح مجيبا لهم عن سخريتهم، إن تسخروا منا اليوم وتستجهلونا لرؤيتكم ما لا تتصورون له فائدة، فإنا نسخر منكم كما تسخرون جزاء وفاقا، نسخر منكم اليوم لجهلكم، وغدا لما سيحلّ بكم.
(فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) أي فإن كنتم لا تعلمون اليوم فائدة ما نعمل وما له من عاقبة محمودة فسوف تعلمون بعد تمامه من يأتيه عذاب يفضحه ويجلب له العار والخزي في الدنيا وهو عذاب الغرق، ويحل عليه عذاب دائم في الآخرة بعد ذلك، وكل ما في الدنيا فهو هيّن لين بالنسبة إلى ما يكون في الآخرة لانقضائه وزواله، وبقاء ذاك ودوامه.
[سورة هود (11): الآيات 40 الى 44]
حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40) وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (42) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
تفسير المفردات
الفور والفوران: الارتفاع القوى، يقال في الماء إذا نبع وجرى، وإذا غلا وارتفع، والمراد منه هنا اشتداد غضب الله على أولئك المشركين الظالمين لأنفسهم وللناس، وحلول وقت انتقامه منهم، والتنور: ما يخبز فيه الخبز، اتفقت فيه لغة العرب والعجم وأهل بيت الرجل: نساؤه وأولاده وأزواجهم، ومجريها ومرساها: أي إجراؤها وإرساؤها، ومعزل: أي مكان عزلة وانفراد، وآوى: أي ألجأ، وعصمه: حفظه، والبلع: ازدراد الطعام والشراب بسرعة، وغاض الماء غار في الأرض ونضب، والجودي: جبل بالموصل.
المعنى الجملي
هذه الآيات غاية لما ذكر قبلها من الاستعداد لهلاكهم، ومقابلة السخرية بغير ابتئاس ولا ضجر.
الإيضاح
(حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ) أي حتى إذا جاء وقت أمرنا بهلاكهم، ونبع الماء من التنور وارتفع بشدة كما تفور القدر بغليانها، وكان ذلك علامة لنوح عليه السلام، والأقرب أن يكون المراد من التنور وجه الأرض، ويكون المعنى حتى إذا نبع الماء من وجه الأرض.
(قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) أي حتى إذا أمرنا قلنا لنوح آنئذ: احمل في السفينة من كل نوع من أنواع الحيوان زوجين اثنين ذكرا وأنثى، لتبقى بعد غرق سائر الأحياء فتتناسل ويبقى نوعها على الأرض.
(وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ) أي واحمل فيها أهل بيتك ذكرانا وإناثا إلا من سبق عليه القول بأنهم من المغرقين بسبب ظلمهم كما قال: (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) واحمل من صدقك واتبعك من قومك.
(وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) منهم، قيل إنهم كانوا ثمانية: نوحا عليه السلام وأهله وأبناءه الثلاثة وأزواجهم، ولم يبين الله ورسوله لنا عددهم، فحصره في عدد معين من قبيل الحدس والتخمين، كما لم يبين لنا أنواع الحيوان التي حملها ولا كيف حملها وأدخلها السفينة، وقد فصل ذلك في سفر التكوين.
(وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها) أي فحملهم نوح وقال اركبوا فيها باسم الله جريانها وإرساؤها، فهو الذي يتولّى ذلك بحوله وقوته، وحفظه وعنايته، وقد يكون المعنى: إن نوحا أمرهم بأن يقولوها كما يقولها على تقدير: اركبوا فيها قائلين باسم الله أي بتسخيره وقدرته مجراها حين تجرى، ومرساها حين يرسيها، لا بحولنا ولا بقوتنا.
(إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إن ربى لواسع المغفرة لعباده حيث لم يهلكهم بذنوبهم، بل يهلك الكافرين الظالمين منهم، رحيم بهم إذ سخر لهم هذه السفينة لنجاة بقية الإنسان والحيوان من هذا الطوفان الذي اقتضته مشيئته.
أخرج الطبراني وغيره عن الحسن بن على رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله ﷺ « أمان لأمتي من الغرق إذا ركبوا الفلك أن يقولوا: باسم الله الملك الرحمن الرحيم (بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها) الآية ».
(وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ) أي هي تجرى بهم في موج يشبه الجبال في علوه وارتفاعه وامتداده، ومن كابد ما يحدث في البحار العظيمة من الأمواج حين ما تهيجها الرياح الشديدة عرف أن المبالغة في هذا التشبيه غير بعيدة، فإن السفينة لترى كأنها تهبط في غور عميق كواد سحيق يرى البحر من جانبيه كجبلين عظيمين يكادان يطبقان عليها، وبعد هنيهة يرى أنها قد اندفعت إلى أعلى الموج كأنها في شاهق جبل تريد أن تنقضّ منه، والملاحون يربطون أنفسهم بالحبال على ظهرها وجوانبها لئلا يجرفهم ما يفيض من الموج عليها.
ثم بين أن نوحا دعته الشفقة على ابنه فناداه كما أشار إلى ذلك بقوله:
(وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ: يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) أي وناداه حين الركوب في السفينة، وقبل أن تجرى بهم، وكان في مكان منعزل بعيد عن أبيه وإخوته ومن آمن من قومه، يا بني اركب معنا الفلك ولا تكن مع الكافرين الذين قضى عليهم بالهلاك.
فردّ ابنه عليه:
(قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ) أي قال سأصير إلى جبل أتحصن به من الماء فيحفظني من الغرق.
فأجابه نوح مبيّنا له خطأه:
(قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ، وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) أي قال نوح لابنه لا شيء يعصم أحدا في هذا اليوم العصيب من عذاب الله الذي قضاه على الكافرين، فليس الأمر أمر ماء يتّقى بالأسباب العادية، وإنما هو انتقام من أشرار العباد الذين أشركوا بالله وظلموا أنفسهم وظلموا الناس بطغيانهم في البلاد، لكنه يحفظ من رحم ويعصمه، وقد اختص بهذه الرحمة من حملهم في السفينة، وكان الماء قد بدأ يرتفع أثناء الحديث حتى حال بين الولد ووالده فكان من المغرقين الهالكين.
وقد وصف سبحانه هذا الطوفان في سورة القمر قال: « كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ، فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ، فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ، وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ، وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ، تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ، وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ، فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ ».
وإنه لمنظر تشيب من هوله الولدان، ماء ينهمر من السماء انهمارا، وأرض تتفجر فتفيض ماء ثجاجا يصير بحرا متلاطم الأمواج، تغطت من تحته الأرض بجبالها ووديانها.
وخفيت من فوقه السماء بكواكبها وشمسها، وكانت عليه السفينة كما كان عرش الله على الماء في بدء التكوين.
ثم ذكر ما حدث بعد هلاكهم مبينا قدرته تعالى فقال:
(وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ، وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي وجاء نداء من الملأ الأعلى خوطبت به الأرض والسماء: يا أرض ابلعي ماءك الذي عليك والذي تفجر من باطنك، ويا سماء كفّى عن المطر، فلم يلبث أن غاض الماء امتثالا للأمر، وقضى الأمر بإهلاك الظالمين واستقرت السفينة راسية على جبل الجودي، وقيل هلاكا وسحقا للظالمين، وبعدا لهم من رحمة الله بما كان من ظلمهم وفقدهم الاستعداد للتوبة والرجوع إلى الله عز وجل.
[سورة هود (11): الآيات 45 الى 49]
وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47) قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)
المعنى الجملي
الآيات الثلاث الأولى تبين أن حكم الله في خلقه العدل بلا محاباة لولي ولا نبي، وأن الأنبياء قد يجوز عليهم الخطأ في الاجتهاد ويعدّ ذلك ذنبا بالنظر إلى مقامهم الرفيع ومعرفتهم بربهم، وذلك ما عرض له نوح عليه السلام من الاجتهاد في أمر ابنه الذي تخلّف عن السفينة فكان من المغرقين، كما أن في الآية الأخيرة استدلالا على نبوّة محمد ﷺ وطلب صبره على أذى قومه.
الإيضاح
(وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي، وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) أي ونادى نوح ربه إثر ندائه لابنه الذي تخلف عن السفينة ودعاه إليها فلم يستجب، فقال يا رب إن ابني هذا من أهلي الذي وعدتني بنجاتهم إذ أمرتنى بحملهم في السفينة، وإن وعدك الحق الذي لا خلف فيه، وأنت خير الحاكمين بالحق، كما قلت « وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ » فحكمك يصدر عن كمال العلم والحكمة فلا يعرض له الخطأ ولا الحيف والظلم.
والخلاصة - إن نوحا كان يريد أن ينجو ابنه الذي تخلف عن السفينة من الغرق بعد أن دعاه إليها، ومن البيّن أن هذا الدعاء لا بد أن يكون بعد المحاورة مع ابنه قبل أن يحول بينهما الموج.
(قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) أي قال تعالى: يا نوح إنه ليس من أهلك الذين أمرتك أن تحملهم في الفلك لإنجائهم، وقد بين سبحانه سبب ذلك بأنه ذو عمل غير صالح: أي فهو يتنكّب الصلاح ويلتزم الفساد.
(فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أي فلا تسألني في شيء ليس لك به علم صحيح، وقد سمى دعاءه سؤالا، لأنه تضمن ذكر الوعد بنجاة أهله، ومارتبه عليه من طلب نجاة ولده.
وفي الآية إيماء إلى أنه لا يجوز الدعاء بطلب ما هو مخالف لسنن الله في خلقه بإرادة قلب نظام الكون لأجل الداعي، ولا بطلب ما هو محرم شرعا، وإنما يجوز الدعاء بتسخير الأسباب والتوفيق فيها والهداية إلى العلم بالمجهول من السنن والنظام، لنكثر من عمل الخير، ونزيد من عمل البر والإحسان.
(إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) أي إني أنهاك أن تكون من زمرة من يجهلون، فيسألونه تعالى أن يبطل حكمته وتقديره في خلقه، إجابة لشهواتهم وأهوائهم في أنفسهم أو أهليهم أو محبيهم.
وفي ذلك دليل على أن من أكبر الجهالات أن نسأل بعض الصالحين والأولياء ما نهى الله عنه نبيّا من أولى العزم من رسله أن يسأله إياه، فإن ذلك يقضى بأن الله يعطيهم ما لم يعط مثله لرسله.
ثم ذكر طلب نوح المغفرة من ربه على ما فرط منه من السؤال فقال حاكيا عنه:
(قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي قال نوح رب إني ألتجئ إليك وأحتمى بك من أن أسألك بعد الآن شيئا لا أعلم أن حصوله مقتضى الحكمة، وإن لم تغفر لي ذنب هذا السؤال الذي سوّلته لي الرحمة الأبوية وطمعى في الرحمة الربانية، وترحمنى بقبول توبتى برحمتك التي وسعت كل شيء - أكن من الخاسرين فيما حاولته من الربح بنجاة أولادى كلهم وسعادتهم بطاعتك وأنت أعلم بهم مني.
والعبرة في الآية من وجوه:
(1) إن ما سأله نوح لابنه لم يكن معصية لله تعالى خالف فيها أمره أو نهيه، وإنما كان خطأ في اجتهاد بنية صالحة، وعدّ هذا ذنبا، لأنه ما كان ينبغي لمثله من أرباب العلم الصحيح اللائق بمنزلته من ربه، ومثل هذا الاجتهاد لم يعصم منه الأنبياء، فهم يقعون فيه أحيانا ليشعروا بحاجتهم إلى تأديب ربهم وتكميله إياهم حينا بعد حين.
(2) إنه لا علاقة للصلاح بالوراثة والأنساب، بل يختلف ذلك باختلاف استعداد الأفراد وما يحيط بهم من البيئة والآراء والمعتقدات، ولو كان للوراثة تأثير كبير لكان جميع أولاد آدم سواء، ولكان سلائل أبناء نوح المؤمنين الذين نجوا معه في السفينة كلهم مؤمنين.
(3) إنه تعالى يجزى الناس في الدنيا والآخرة بإيمانهم وأعمالهم، لا بأنسابهم، ولا يحابى أحدا منهم لأجل الآباء والأجداد وإن كانوا من الأنبياء والمرسلين.
(4) إن من يغترّ بنسبه ولا يعمل ما يرضى ربه، ويزعم أنه أفضل من العلماء العاملين والأولياء الصالحين، فهو جاهل بكتاب ربه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
(قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) أي قال الذي بيده ملكوت كل شيء ومدبر أمر العالم كله لنوح، بعد أن انتهى الطوفان، وأقلعت السماء عن المطر، وابتلعت الأرض ماءها وصارت السكنى على الأرض والعمل عليها سهلا ممكنا: يا نوح اهبط من الجودي الذي استوت عليه السفينة، ممتّعا بسلام وتحية. منا كما قال تعالى « سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ » وبركات في المعايش والأرزاق تفيض عليك وعلى من معك في السفينة وعلى ذريات يتناسلون منهم ويتفرقون في الأرض فيكونون أمما مستقلا بعضها من بعض، ومنهم أمم آخرون من بعدهم سنمتعهم في الدنيا بالأرزاق والبركات، ولا يصيبهم لطف من ربهم ورحمة منه كما يصيب المؤمنين، فإن الشيطان سيغويهم ويزين لهم الشرك والظلم والبغي، ثم يمسهم العذاب الأليم في الدنيا والآخرة، لأنهم لا يحافظون على السلام، بل يبغى بعضهم على بعض لتفرقهم واختلافهم في هداية الدين التي بعث بها المرسلون، ويكون جزاؤهم في الآخرة النار وبئس القرار.
ثم ذكر لنبيّه ﷺ أن هذا قصص من عالم الغيب لا يعرفه هو ولا قومه من قبل فقال: (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) أي هذا القصص الذي قصصته عليك من خبر نوح وقومه من أخبار الغيب التي لم تشهدها حتى تعلمها، نوحيها إليك نحن فنعرّفكها تفصيلا، وما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل الوحي الذي نزل مبيّنا لها، وربما كان يعلمها هو وقومه على سبيل الإجمال.
(فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) أي فاصبر على القيام بأمر الله وتبليغ رسالته وما تلقى من قومك من أذى كما صبر نوح على قومه، فإن سنة الله في رسله وأقوامهم أن تكون العاقبة بالفوز والنجاة للمتقين الذين يجتنبون المعاصي ويعملون الطاعات، فأنتم الفائزون المفلحون، والمصرّون على عداوتكم هم الخاسرون الهالكون.
تتمة لقصة نوح عليه السلام
هل كان الطوفان عامّا أو خاصا؟
سئل الأستاذ الإمام محمد عبده في ذلك فأجاب بما يلي:
ليس في القرآن نص قاطع على عموم الطوفان ولا على عموم رسالة نوح عليه السلام، وما ورد من الأحاديث على فرض صحة سنده فهو آحاد لا يوجب اليقين، والمطلوب في تقرير مثل هذه الحقائق هو اليقين لا الظن إذا عدّ اعتقادها من عقائد الدين.
وأما المؤرخ ومريد الاطلاع فله أن يحصل من الظن ما ترجحه عنده ثقته بالراوي أو المؤرخ أو صاحب الرأي، وما يذكره المؤرخون والمفسرون في هذه المسألة لا يخرج عن حد الثقة بالرواية أو عدم الثقة بها، ولا تتخذ دليلا قطعيا على معتقد ديني.
من أجل هذا كانت هذه المسألة موضوع نزاع بين أهل الأديان وأهل النظر في طبقات الأرض، وموضوع خلاف بين مؤرخي الأمم.
فأهل الكتاب وعلماء الأمة الإسلامية على أن الطوفان كان عاما لكل الأرض، ووافقهم على ذلك كثير من أهل النظر، واحتجوا على رأيهم بوجود بعض الأصداف والأسماك المتحجرة في أعالى الجبال، لأن هذه الأشياء مما لا تتكون إلا في البحر، فظهورها في رءوس الجبال دليل على أن الماء صعد إليها مرة من المرات، ولن يكون ذلك حتى يكون قد عم الأرض.
ويزعم غالب أهل النظر من المتأخرين أن الطوفان لم يكن عامّا، ولهم على ذلك شواهد يطول شرحها، غير أنه لا يجوز لمسلم أن ينكر قضية أن الطوفان كان عاما لمجرد احتمال التأويل في آيات الكتاب العزيز، بل على كل من يعتقد بالدين ألا ينفى شيئا مما يدل عليه ظاهر الآيات والأحاديث التي صح سندها وينصرف عنها إلى التأويل إلا بدليل عقلى يقطع بأن الظاهر غير مراد، والوصول إلى ذلك في مثل هذه المسألة يحتاج إلى بحث طويل وعناء شديد. وعلم غزير في طبقات الأرض وما تحتوى عليه، وذلك يتوقف على علوم شتى عقلية ونقلية، ومن هذى برأيه بدون علم يقيني فهو مجازف لا يسمع له قول، ولا يسمح له ببثّ جهالاته، والله ورسوله أعلم اه بتصرف.
وخلاصة هذا - إن ظواهر القرآن والأحاديث تدل على أن الطوفان كان عامّا شاملا لقوم نوح الذين لم يكن في الأرض غيرهم فيجب اعتقاده، ولكنه لا يقتضى أن يكون عاما للأرض، إذ لا دليل على أنهم كانوا يملئون الأرض، وكذلك وجود الأصداف والحيوانات البحرية في قنن الجبال لا يدل على أنها من أثر ذلك الطوفان، بل الأقرب أنه كان من أثر تكوّن الجبال وغيرها من اليابسة في الماء، فإن صعود الماء إلى الجبال أياما معدودة لا يكفى لحدوث ما ذكر فيها.
ولما كانت هذه المسألة التاريخية ليست من مقاصد الدين لم يبينها بنص قطعى، ومن ثم نقول إنه ظاهر النصوص ولا نتخذه عقيدة دينية قطعية، فإن أثبت علم طبقات الأرض (الجيلوجيا) خلافه فلا يضيرنا، لأنه لا ينقض نصّا قطعيا عندنا.
حادثة الطوفان في القرآن والتوراة والتاريخ القديم
ذكرنا فيما سلف أن أحداث التاريخ وضبط وقائعه وأزمنتها وأمكنتها ليس من مقاصد القرآن، وأن ما فيه من قصص الرسل مع أقوامهم فإنما هو بيان لسنة الله فيهم.
وذكرنا أيضا أن قصة نوح عليه السلام جاءت في عدة سور في كل سورة منها ما ليس في سائرها، ولم يذكر من حادثة الطوفان إلا ما فيه العبرة والموعظة.
وجاءت هذه القصة في سفر التكوين في أربعة فصول ذكر في أولها سبب الطوفان وهو في جملته على نحو ما جاء في القرآن الكريم إلا أن الأسلوب على نحو أساليب التوراة، وذكر في الرابع منها رجوع المياه من الأرض بالتدريج واستقرار الفلك على جبل أراراط ثم خروج نوح ومن معه من السفينة.
وقد ورد في تواريخ أكثر الأمم القديمة ذكر الطوفان، منها ما هو موافق لما في سفر التكوين، ومنها ما هو مخالف له فروى اليونان خبرا عن الطوفان أورده أفلاطون قال: إن كهنة المصريين قالوا لسولون (الحكيم اليوناني) إن السماء أرسلت طوفانا غيّر وجه الأرض، وروى عن قدماء الفرس طوفان أغرق الله به الأرض بما انتشر فيها من الفساد والشر بفعل (اهريمان) إله الشر، وقالوا إن هذا الطوفان فار أولا من تنورالعجوز (زول كوفه) إذ كانت تخبز خبزها فيه، ولكن المجوس أنكروا عموم الطوفان وقالوا إنه كان خاصا بإقليم العراق وانتهى إلى حدود كردستان.
عمر نوح عليه السلام
جاء في الكتاب الكريم في سورة العنكبوت: « وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحًا إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ ».
وجاء في سفر التكوين نحو من هذا، وقد اشتبه الأمر على الناس في أزمنة مختلفة حتى زعم بعضهم أن السنة عند المتقدمين أقل من السنة عند أهل القرون المعروفة بعد تدوين التاريخ، ولا دليل على هذا.
والذي يظهر أن أعمار آدم وذريته إلى ما قبل الطوفان أو قبل ما كشف من آثار التاريخ لا تقاس بما عرف بعد ذلك، لأن معيشة الإنسان الفطرية كانت أسلم للأبدان وأقل توليدا للأمراض: وقول الله هو الحق ويجب الإيمان به على كل حال، قال الشاعر:
نجيت يا رب نوحا واستجبت له في فلك ماخر في اليمّ مشحونا
وعاش يدعو بآيات مبيّنة في قومه ألف عام غير خمسينا
قصة هود عليه السلام
[سورة هود (11): الآيات 50 الى 52]
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُودًا قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (50) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (51) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْرارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)
المعنى الجملي
هذا القصص ذكر في سورة الأعراف بأسلوب ونظم يخالف ما هنا، وفى كل منهما من العظة والعبرة ما ليس في الآخر، وسيأتي في السور التالية بسياق آخر.
وقد جاء في بعض الروايات أن هودا أول من تكلم بالعربية، فهو أول رسول عربي من ذرية نوح، وآخر رسول هو محمد ﷺ وهو عربي أيضا.
الإيضاح
(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُودًا قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ) أي وأرسلنا إلى عاد الأولى أخاهم في النسب والوطن هودا فقال لهم: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره فلا تعبدوا من دونه وثنا ولا صنما، فما أنتم في عبادتكم غيره من الأنداد والشركاء إلا مفترون الكذب عليه بتسميتكم إياهم شفعاء تتقربون بهم أو بقبورهم أو بصورهم وتماثيلهم وترجون النفع وكشف الضر عنكم بجاههم عنده.
(يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي يا قوم لا أسألكم على ما أدعوكم إليه من إخلاص العبادة لله والبراءة من الأوثان أجرا فتتهمونى بأني أريد المنفعة لنفسى، ما ثوابى الذي أرجوه على تبليغى إياكم إلا على الله الذي خلقنى على الفطرة السليمة مبرّأ من هذه البدع الوثنية التي ابتدعها قوم نوح حين صنعوا التماثيل لحفظ ذكرى الصالحين، فزيّن لهم الشيطان تعظيم هذه التماثيل فعبدوها، أفلا تعقلون ما يقال لكم فتميزوا بين ما يضر وما ينفع، وإني لكم ناصح أمين فلا أغشكم فيما أدعوكم إليه.
(وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْرارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ) السماء هنا: المطر، والمدرار: الكثير الدرور، وأصله في كثرة درّ اللبن، يقال درّت الشاة تدرّ فهي دار: أي كثر فيض لبنها، أي يا قوم استغفروا ربكم من الشرك ثم أخلصوا له التوبة، يرسل عليكم المطر متتابعا من غير ضرر (وقد كانوا أصحاب زروع وبساتين وعمائر) ويزدكم عزّا إلى عزكم وقد كانوا يهتمون بذلك ويفخرون على الناس، وقد بسط الله لهم الأجسام وأعطوا القوة فيها كما قال تعالى: « فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ. فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ ».
(وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) أي ولا تعرضوا عما دعوتكم إليه مما ربما كان سببا في نعيم العيش وسعة الرزق وزيادة القوة، وأنتم مصرون على ما أنتم عليه من الإجرام.
[سورة هود (11): الآيات 53 الى 57]
قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر تبليغ هود عليه السلام قومه دعوة ربه، ذكر هنا ردّ قومه لتلك الدعوة في جحودهم للبينة، ثم إنذاره لهم.
الإيضاح
(قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) أي قالوا يا هود: ما جئتنا بحجة واضحة تدل على صحة دعواك أنك مرسل من عند الله، وقد قالوا ذلك عنادا منهم وجحودا للحق، وما نحن بتاركي عبادة آلهتنا بسبب قولك الذي لا بيّنة عليه، وما نحن بمصدقين ما جئت به.
ثم بالغوا في الردّ وقالوا:
(إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) أي لا نجد من قول نقوله فيك إلا أن بعض آلهتنا أصابك بمسّ من جنون أو خبل لإنكارك لها وصدّك إيانا عن عبادتها.
والخلاصة - إن ما تقوله لا يصدر إلا عمن أصيب بشىء اقتضى خروجه عن قانون العقل، فلا يعتدّ به لأنه من قبيل الخرافات والهذيانات التي لا تصدر إلا عن المجانين فكيف نؤمن بك؟.
والخلاصة - إنهم ترقوا في حجاجهم من سيئ إلى أسوأ، إذ قالوا أولا ما جئتنا بالبينة: ثم نفوا تصديقهم له مع كونه مما يقبل التصديق، ثم نفوا عنه تلك المرتبة أيضا.
ثم ذكر رده عليهم على طريق الحكاية.
(قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها، إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).
هذا جواب منه عن مقالتهم وهو يتضمن جملة أمور:
(1) البراءة من إشراكهم الذي اقترفوه ولا حقيقة له.
(2) إشهاد الله على ذلك ثقة منه بأنه على بيّنة من ربه.
(3) إشهادهم أيضا على ذلك إعلاما منه بعدم مبالاته بهم وبما يزعمون من قدرة شركائهم على إيذائه وضرره:
(4) طلبه منهم أن يجمعوا كلهم على الكيد له والإيقاع به بلا إمهال ولا تأخير إن استطاعوا.
وفي هذا دليل واضح على أنه لا يخافهم ولا يخاف آلهتهم، وقد صدرت مثل هذه المقالة عن نوح عليه السلام إذ قال « فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ » كما لقن الله نبيه مثل هذا بقوله « قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ ».
(5) عدم الخوف منهم ومن آلهتهم، إذ وكل أمر حفظه وخذلانهم إلى ربه وربهم، ومالك أمره وأمرهم، المتصرف في كل مادب على وجه الأرض والمسخر له وهو سبحانه مطلع على أمور العباد، مجاز لهم بالثواب والعقاب، كاف لمن اعتصم به، وهو لا يسلّط أهل الباطل من أعدائه على أهل الحق من رسله ولا يفوته ظالم.
(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ) أي فإن استمررتم على ما أنتم عليه من التولّى والإعراض وأبيتم إلا تكذيبى، فقد أبلغتكم رسالة ربى التي أرسلنى بها إليكم، وليس علي غير البلاغ وقد لزمتكم الحجة وحقت عليكم كلمة العذاب.
(وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ) أي إن الله يهلككم ويستخلف في دياركم وأموالكم قوما آخرين.
(وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا) بتوليكم عن الإيمان، فإنه غني عنكم وعن إيمانكم، وهو بمعنى قوله « إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ، وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ».
(إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) أي إن ربى رقيب على كل شيء قائم بالحفظ عليه على ما اقتضته سننه وتعلقت به إرادته، ومن ذلك أنه ينصر رسله ويخذل أعداءهم إذا أصروا على الكفر بعد قيام الحجة عليهم.
[سورة هود (11): الآيات 58 الى 60]
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عز اسمه إصرار قوم هود على العناد والعتوّ وتكذيب هود فيما جاء به من الآيات - ذكر هنا عاقبة أمره وأمرهم، وأنه تعالى أصابه برحمة من لدنه، وأنزل بهم العذاب الغليظ، كفاء كفرهم بآياته وعصيان رسله.
الإيضاح
(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ أي ولما نزل عذابنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة من لدنا وميزناهم عن الكافرين فيما نزل بهم من ذلك العذاب الغليظ، وهو الريح العقيم التي لا تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم، كما فصل ذلك في سورة القمر بقوله: « إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ، تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ».
ثم ذكر سبب ما نزل بهم من البلاء فقال:
(وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) أي وقد أحللنا بهم نقمتنا، لأنهم جحدوا بآيات ربهم وحججه، وعصوا رسله الذين أرسلهم إليهم للدعاء إلى توحيده واتباع أمره، وهم وإن كانوا قد عصوا رسولا واحدا فإن عصيان واحد منهم عصيان للجميع، لأنه ما كان إلا لنفى الرسالة نفسها بدعوى أن الرسول لا يكون بشرا.
وقد اتبع سوادهم ودهماؤهم كل جبار عنيد من رؤسائهم الطغاة العتاة المستبدين الذين يأبون الحق ولا يذعنون له وإن قام عليه الدليل.
(وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) أي ولحقت بهم لعنة في هذه الدنيا، فكان كل من علم بحالهم ومن أدرك آثارهم، وكل من بلّغه الرسل من بعدهم خبرهم يلعنونهم، وتلحقهم أيضا يوم القيامة حين ما يلعن الأشهاد الظالمين أمثالهم: قال قتادة: تتابعت عليهم لعنتان من الله، لعنة في الدنيا ولعنة في الآخرة.
ثم أكد كفرهم بشهادته عليهم فقال:
(أَلا إِنَّ عادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ) أي إن عادا كفروا نعمه عليهم بجحودهم بآياته وتكذيبهم لرسله كبرا وعنادا.
(أَلا بُعْدًا لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ) هذا دعاء عليهم بالهلاك والبعد من الرحمة، وهو تسجيل عليهم باستحقاقه وإعلام بدوامه.
قصة صالح عليه السلام
[سورة هود (11): الآيات 61 الى 63]
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحًا قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)
تفسير المفردات
أعمرته الأرض واستعمرته إياها: إذا فوضت إليه عمارتها، والريب، الظن والشك يقال رابنى الشيء يريبنى: إذا جعلك شاكا، وغير تخسير: أي غير إيقاع في الخسران باستبدال الشرك بالتوحيد.
المعنى الجملي
جاء هذا القصص في بيان دعوة صالح لقومه ثمود وردهم لها بعد احتجاجه عليهم، وصالح هو الرسول الثاني من العرب، ومساكن قبيلته ثمود - الحجر وهي بين الحجاز والشام وسيأتي ذكر قصصهم في سورة الشعراء والنمل والقمر والحجر وغيرها، وفى كل منها من الموعظة والعبرة ما لا يغني عنه غيره.
الإيضاح
(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحًا قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) الكلام في هذا كالكلام في نظيره السابق في تبليغ هود عليهما السلام.
(هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) أي ابتدأ خلقكم منها، فهي المادة الأولى التي خلق منها آدم أبو البشر، ثم خلقكم أنتم من سلالة من طين بالوسائط، فإن النطفة التي تتحول إلى علقة ثم إلى مضغة، ثم إلى هيكل عظمى يحيط به لحم - أصلها دم. والدم من الغذاء وهو إما من نبات الأرض، وإما من اللحم الذي يرجع إلى النبات بعد طور أو أكثر.
(وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) أي جعلكم عمّارا لها فقد كانوا زرّاعا وصبناعا وبنائين كما جاء في الآية الأخرى « وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتًا آمِنِينَ ».
والخلاصة - إنه هو المنشئ لخلقكم والممدّ لكم بأسباب العمران والنعم في الأرض فلا ينبغي أن تعبدوا فيها غيره، فهو ذو الفضل عليكم، وشكرانه واجب عليكم بإخلاص العبادة له وحده.
(فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) أي فاسألوه أن يغفر لكم ما تقدم من ذنوبكم بإشراككم به سواه، وبما اجترحتم من الآثام، ثم ارجعوا إليه بالتوبة كلما فرط منكم ذنب عسى أن يغفر لكم.
(إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) أي قريب من عباده لا يخفى عليه استغفارهم ولا الباعث عليه ومجيب لدعاء من دعاه وسأله إذا كان مؤمنا مخلصا.
ونحو الآية ما تقدم في سورة البقرة من قوله « وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ ».
ثم ذكر ما ردوا به عليه.
(قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا) أي قد كنت عندنا موضع الرجاء لمهام أمورنا لما لك من رجاحة عقل وأصالة رأى، ولحسبك ونسبك قبل هذه الدعوة التي تطلب بها إلينا أن نبدل ديننا زعما منك أنه باطل، فالآن قد انقطع رجاؤنا منك ثم ذكروا أسباب انقطاع رجائهم بقولهم:
1 - (أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) أي عجيب منك أن تنهانا عن عبادة ما كان يعبد آباؤنا من قبلنا، وقد سرنا نحن على نهجهم ولم ينكره أحد علينا ولم يستقبحه، فكيف تنكره؟.
2 - (وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) أي وإنا لفى شك من دعوتك إلى عبادته تعالى وحده دون أن نتوسل إليه بأحد من الشفعاء المقربين عنده، ولا أن نعظم ما وضعه آباؤنا لهم من صور وتماثيل تذكّرنا بهم، فكل هذا يوجب الريب والتهمة وسوء الظن وعدم الطمأنينة إلى دعوتك.
فأجابهم صالح:
(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً) أي أخبروني عن حالى معكم إن كنت على برهان وبصيرة من ربى مالك أمري وآتاني من قبله رحمة خاصة من عنده جعلنى بها نبيّا مرسلا إليكم.
(فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ؟) أي فمن يمنعنى من عذابه إذا أنا كتمت الرسالة، أو كتمت ما يسوءكم من بطلان عبادة الأصنام والأوثان تقليدا لآبائكم - أي لا أحد يدفع ذلك عنى في هذه الحال فلا أبالى إذا بقطع رجائكم في ولا بما أنتم فيه من شك وريب في أمري.
ثم ذكر مآل أمره إذا هو اتبعهم فقال:
(فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ) أي فما تزيدوننى باتقاء سوء ظنكم وارتيابكم غير إيقاعى في الخسران بإيثار ما عندكم على ما عند الله واشتراء رضاكم بسخطه تعالى.
[سورة هود (11): الآيات 64 الى 68]
ويا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)
تفسير المفردات
الآية: المعجزة الدالة على صدق نبوته، وذروها: اتركوها، وعقر الناقة بالسيف: قطع قوائمها به أو نحرها، والتمتع: التلذذ بالمنافع، والدار: البلد كما يقال ديار بكر: أي بلادهم، وكذب فلانا حديثا وكذبه الحديث: أي كذب عليه فيه، والوعد: خبر موقوت كأن الواعد قال للموعود إننى أفي به في وقته، فإن وفى فقد صدق ولم يكذبه، وأصل الأخذ: التناول باليد، ثم استعمل في الأشياء المعنوية كأخذ الميثاق والعهد وفى الإهلاك، والصيحة: الصوت الشديد والمراد بها هنا صيحة الصاعقة، وجاثمين: أي ساقطين على وجوههم مصعوفين لم ينج منهم أحد، وغنى بالمكان: أقام فيه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن قومه قالوا له إننا لفى شك مما تدعونا وسألوه الآية على ما دعاهم إليه - ذكر هنا أنه قال لهم إن آيته على رسالته هي الناقة، وأن من يمسها بسوء يصيبه عذاب أليم.
الإيضاح
(وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً) أي يا قومي هذه ناقة ممتازة عن سائر الإبل بما ترون من أكلها وشربها وجميع شئونها، قد جعلها الله لكم آية بينة منه تدل على صدقى وعلى إهلاككم إن أنتم خالفتم أمره فيها.
(فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ) أي فاتركوها تأكل مما في الأرض من المراعى وليس عليكم مؤنتها.
(وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ) أي ولا يمسها أحد منكم بأذي فيأخذكم عذاب عاجل لا يتأخر عن مسكم إياها بسوء إلا يسيرا.
ثم ذكر أنهم لم يستمعوا نصحه فقال:
(فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) أي فكذبوه فعقروها فقال لهم صالح: استمتعوا بحياتكم في دار الدنيا ثلاثة أيام، وهذا الأجل الذي أجّلتم وعد من الله وعدكم حين انقضائه بالهلاك ونزول العذاب، لم يكذبكم فيه من أعلمكم ذلك.
ثم ذكر وقوع ما أوعدوا به فقال:
(فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ) أي فلما جاء ثمود عذابنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة خاصة منا، ونجيناهم من عذاب ذلك اليوم ونكاله باستئصالهم من الوجود وبما يتبعه من سوء الذكر والطرد من رحمة الله.
ثم بيّن عظيم قدرته على التنكيل بأمثالهم من المشركين فقال:
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) أي إن ربك أيها الرسول الذي فعل هذا بهم قادر أن يفعل مثل ذلك بقومك إذا أصروا على الجحود، إذ لا يعجزه شيء، وهو الغالب على أمره.
ثم ذكر مآل أمرهم وشديد عقابه بهم فقال:
(وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) أيفأخذتهم صيحة الصاعقة التي نزلت بهم فأحدثت رجفة في القلوب وزلزلة في الأرض وصعقوا بها جميعا فانكبّوا على وجوههم لم ينج منهم أحد.
(كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِثَمُودَ) أي كأنهم لسرعة زوالهم وعدم بقاء أحد منهم لم يقيموا في ديارهم البتة، وما سبب هذا إلا أن كفروا بآيات ربهم فجحدوها، ألا بعدا وهلاكا لهم.
بشارة الملائكة لابراهيم وامرأته بإسحاق
[سورة هود (11): الآيات 69 الى 73]
وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلامًا قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)
تفسير المفردات
فما لبث: أي ما أبطأ، وحنيذ: أي مشوي بالرضف وهي الحجارة المحماة، ولا تصل إليه: أي لا تمتد للتناول، ونكره وأنكره: ضد عرفه، وأوجس القلب فزعا: أحسّ به، ولوط: هو ذلك النبي الكريم، وهو ابن أخي إبراهيم وأول من آمن به، ويا ويلتنا: أصلها يا ويلى: وهي كلمة تقال حين يفجأ الإنسان أمر مهمّ من بليّة أو فجيعه أو فضيحة على جهة التعجب منه أو الاستنكار له أو الشكوى منه، والبعل: الزوج وجمعه بعولة، وأمر الله: قدرته وحكمته، وحميد: أي تحمد أفعاله، ومجيد: أي كثير الخير والإحسان.
الإيضاح
(وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى) أي ولقد جاءت رسلنا من الملائكة، واختلفت الرواية فيهم، فعن عطاء إنهم جبريل وميكائيل وإسرافيل عليهم السلام، وعن غيره إنهم جبريل وسبعة أملاك معه، ومثل هذا لا يعلم إلا بتوقيف من الوحي ولم يثبت، والبشرى: البشارة بالولد لقوله: « فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ » الآية وقوله في الذاريات: « وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ».
(قالُوا سَلامًا) أي قالوا: نسلم عليك سلاما.
(قالَ سَلامٌ) أي قال: عليكم سلام.
(فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) أي فما أبطأ أن جاءهم بعجل مشوي على الحجارة المحماة (وقد اهتدى البشر إلى شيى اللحم من صيد وغيره على الحجارة المحماة بحر الشمس قديما قبل الاهتداء إلى إنضاجه بالنار).
وجاء في سورة الذاريات: « فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ. فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ » وفى هذا دليل على أنه كان مشويّا معدا لمن يجىء من الضيوف، وربما كان قد شوى عند وصولهم بلا إبطاء ولا تريث.
(فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) أي فلما رأى إبراهيم أيديهم لا تمتد إلى الطعام الذي قدم إليهم نكر ذلك منهم ووجده على غير ما يعهد من الضيوف (فالعادة قد جرت أن الضيف إذا لم يطعم مما قدّم إليه ظنّ أنه لم يجىء بخير وأنه يحدّث نفسه بشر) وأحس في نفسه خوفا وفزعا، حين شعر أنهم ليسوا بشرا وربما كانوا من ملائكة العذاب.
(قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) أي قالوا له حين علموا ما يساور قلبه من الخوف: لا تخف، فنحن لا نريد بك سوءا، وإنما أرسلنا إلى قوم لوط لإهلاكهم، وكانت ديارهم قريبة من دياره، وجاء في سورة الحجر أنه صارحهم بالخوف فطمأنوه وبشروه بغلام عليم، وكذا في سورة الذاريات.
(وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ) أي وكانت امرأة إبراهيم واقفة للخدمة فضحكت سرورا بالأمن من الخوف، أو لقرب عذاب قوم لوط لكراهتها لسيرتهم الخبيثة.
(فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) أي فبشرناها بالتبع لبشارة إبراهيم بإسحاق، ومن بعد إسحاق يعقوب أي إنه سيكون لإسحاق ولد أيضا كما قال تعالى: « وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ »:
(قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخًا؟ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) أي قالت سارّة لما بشرت بإسحاق: كيف ألد وقد بلغت السن التي لا يلد من كان قد بلغها من الرجال والنساء، وهذا زوجي شيخا كبيرا لا يولد لمثله، إن هذا الذي بشرتمونا به لشيء عجيب مخالف لسنن الله التي سلكها في عباده.
وقد جاء في سفر التكوين (إن إبراهيم كان عمره يومئذ مائة سنة، وإن زوجه سارة كانت ابنة تسعين سنة) ومثلها لا يلد، بل الغالب أن ينقطع حيض المرأة في سن الخمسين فيبطل استعدادها للحمل والولادة، على أنها كانت عقيما كما في سورة الذاريات.
وربما كانت زوجه سارة علمت من حال زوجها بعد ولادة هاجر لابنه إسماعيل بمدة قليلة أو كثيرة أنه أصبح غير مستعد لمباشرة النساء، أو كانت تعتقد كما يعتقد أن مثله في تلك السن لا يولد له.
(قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) أي قالوا لها: لا ينبغي لك أن تعجبى من شيء يصدر عن أمر الله الذي لا يعجزه شيء كما قال: « إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ».
والله الخالق للسنن، والواضع لنظام الأسباب هو الذي أراد أن يستثنى منها واقعة بعينها يجعلها من آياته لحكمة من حكمه أرادها لبعض عباده.
(رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ) أي رحمة الله وبركاته الكثيرة عليكم يا أهل بيت النبوة تتوارث في نسلكم إلى يوم القيامة، وما تلك بأول آية لإبراهيم فقد نجّاه من نار قومه الظالمين، وآواه إلى الأرض التي بارك فيها للعالمين.
(إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) أي إنه جل ثناؤه مستحق لجميع المحامد، حقيق بالخير والإحسان.
[سورة هود (11): الآيات 74 الى 76]
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)
تفسير المفردات
الروع: (بالفتح) الخوف والفزع: (وبالضم) النفس، والحليم: الذي لا يحب المعاجلة بعقاب، والأوّاه: الكثير التأوه مما يسوء ويؤلم، والمنيب الذي يرجع إلى الله في كل أمر، وغير مردود: أي غير مدفوع لا بجدال ولا بشفاعة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عز اسمه بعض ما جرى بين إبراهيم والملائكة، وصل به بعضا آخر كالتتمة له.
الإيضاح
(فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) أي فلما سرّى عن إبراهيم وانكشف له ما أوجس منه الخيفة، إذ علم أن هؤلاء الرسل من ملائكة العذاب، وجاءته البشرى بالولد واتصال النسل أخذ يجادل رسلنا فيما أرسلناهم به من عقاب قوم لوط (وجعلت مجادلتهم مجادلة لله لأنها مجادلة في تنفيذ أمره) وهذه المجادلة قد فصلت في سورة العنكبوت فجاء فيها: « ولَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ. قالَ إِنَّ فِيها لُوطًا قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ ».
كما جاءت هذه المجادلة في الفصل الثامن عشر من سفر التكوين من التوراة ففيه:
(إن الرب ظهر لإبراهيم وهو جالس في باب الخيمة، فظهر له ثلاثة رجال فاستضافهم وأتى لهم بعجل وخبز ملّة فأكلوا وبشروه بالولد، فسمعت امرأته سارة فضحكت وتعجبت لكبرها وانقطاع عادة النساء عنها فقال الرب لإبراهيم لما ذا ضحكت سارة، هل يستحيل على الرب شيء؟... وانصرف الرجال (أي الملائكة) من هناك وذهبوا نحو سدوم (قرية قوم لوط) وإبراهيم لم يزل قائما أمام الرب فتقدم إبراهيم وقال: أفتهلك البارّ مع الأثيم؟ عسى أن يكون هناك خمسون بارا في المدينة، أفتهلك المكان ولا تصفح عنه من أجل الخمسين بارا الذين فيه؟ فقال الرب إن وجدت في سدوم خمسين بارا فإني أصفح عن المكان كله من أجلهم، ثم كلمه إبراهيم مثل هذا في خمسة وأربعين ثم في أربعين ثم في ثلاثين ثم في عشرين ثم في عشرة، والرب يعده في كل من هذه الأعداد بأنه من أجلهم لا يهلك القوم... وذهب الرب عند ما فرغ من الكلام مع إبراهيم إلى مكانه) اهـ.
(إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) أي إنه جادل الملائكة في عذاب قوم لوط، لأنه كان حليما لا يعجل بالانتقام من المسيء، كثير التأوّه مما يسوء الناس ويؤلمهم، يرجع إلى الله في كل أموره.
(يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ، وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) أي يا إبراهيم أعرض عن الجدال في أمر قوم لوط والاسترحام لهم، إنه قد نفذ فيهم القضاء وحقت عليهم الكلمة بالهلاك وحلول البأس الذي لا يرد عن القوم المجرمين، وإنهم آتيهم عذاب لا سبيل إلى دفعه ورده بجدل ولا شفاعة ولا بغيرهما.
وفي هذه الآية عبرة لمن يتخذ من الله أندادا من أوليائه، ويزعم أنهم يتصرفون في الكون كما يريدون ولا يردّ لهم طلب كما قال: « لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ » وفيها أكبر رد عليهم فيما يتخرصون به، فهذا جدّ الأنبياء وأفضلهم بعد محمد ﷺ وهو إبراهيم نهاه الله عن التعرض لما قضى به فأراده.
قصة لوط عليه السلام
[سورة هود (11): الآيات 77 الى 80]
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطًا سِي ءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (79) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)
تفسير المفردات
سىء بهم: أي وقع فيما ساءه وغمه بمجيئهم، الذرع والذراع: منتهى الطاقة، يقال مالى به ذرع ولا ذراع: أي مالى به طاقة، ويقال ضقت بالأمر ذرعا إذا صعب عليك احتماله، والعصيب: الشديد الأذى، ويقال هرع وأهرع (بالبناء للمفعول): إذا حمل على الإسراع، وقال الكسائي لا يكون الإهراع إلا إسراعا مع رعدة من برد أو غضب أو حمّى أو شهوة، ولا تخزون: أي لا تخجلوني، والضيف يطلق على الواحد والجمع، والرشيد: ذو الرشد والعقل، لو أن لي يكم قوة: أي على الدفع بنفسي، أو آوى إلى ركن شديد من أرباب العصبيات القوية الذين يحمون اللاجئين ويجيرون المستجيرين.
الإيضاح
في سفر التكوين: إن لوطا عليه السلام ابن هرون أخي إبراهيم ﷺ وأنه هاجر معه من مسقط رأسهما (أور الكلدانيين) في العراق إلى أرض الكنعانيين وسكن إبراهيم في أرض كنعان، ولوط في سدوم بالأردن، ويظن بعض الباحثين أن بحيرة لوط غمر موضعها بعد الخسف، ويقال إن الباحثين في العصر الحاضر عثروا على آثارها.
(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطًا سِي ءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ) أي ولما جاءت ملائكتنا لوطا ساءه مجيئهم، وعجز عن احتمال ضيافتهم، لما كان يتوقعه من اعتداء قومه عليهم كعادتهم (وقد روى أنهم جاءوه بشكل غلمان حسان الوجوه) وقال هذا يوم شديد شرّه، عظيم بلاؤه.
(وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ) أي وجاء لوطا قومه يهرولون كأن سائقا يسوقهم مما بهم من طلب الفاحشة.
(وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) أي ومن قبل هذا المجيء كانوا يعملون السيئات الكثيرة التي أفظعها ما أنكرته الفطر البشرية والشرائع الإلهية والوضعيه، وهو إتيان الرجال شهوة من دون النساء ومجاهرتهم بها في أنديتهم كما حكى الله عنهم بقوله: « أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ » (قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) فتزوجوهن، أراد ببناتى بنات قومه لأن النبي في قومه كالوالد في عشيرته كما قال ابن عباس، ويدخل فيهن نساؤهم المدخول بهن وغيرهن من المعدّات للزواج، ومراده أن الاستمتاع بهن بالزواج أطهر من التلوث برجس اللواط، فإنه يكبح جماح الشهوة مع الأمن من الفساد.
(فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي) أي فاخشوا الله واحذروا عقابه في إتيانكم الفاحشة التي تطلبونها ولا تذلونى وتمتهنونى بفضيحتي في ضيوفى فإن إهانة الضيوف إهانة للمضيف وفضيحة لهم.
(أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) أي أليس منكم رجل ذو رشد وحكمة ينهى من أرادوا ركوب الفاحشة من ضيوفى، فيحول بينهم وبين ما يريدون.
(قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ) أي لقد علمت من قبل أنه ليس لنا - في بناتك من رغبة في تزوّجهن فتصرفنا بعرضهن علينا عما نريده، وقد يكون المعنى - لقد علمت الذي لنا في نسائنا اللواتى تسميهن بناتك من حق الاستمتاع وما نحن عليه معهن، فلا ينبغي عرضك إياهن علينا لتصرفنا عما نريده.
(وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ) أي وإنك لتعرف حق المعرفة ما نريد من الاستمتاع بالذكران، وإننا لا نؤثر عليه شيئا.
والخلاصة - إنهم أجمعوا أمرهم على فعل ما يريدون.
(قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) أي قال لوط لقومه حين أبوا إلا المضي لما قد جاءوا له من طلب الفاحشة وأيس من أن يستجيبوا له إلى شيء مما عرض عليهم: لو أن لي بكم قوة بأنصار تنصرنى عليكم وأعوان تعيننى، أو أنضم إلى عشيرة تجيرنى منكم لحلت بينكم وبين ما جئتم تريدونه مني في أضيافى.
[سورة هود (11): الآيات 81 الى 83]
قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
تفسير المفردات
السرى: (بالضم) والإسراء في الليل: كالسير في النهار، والقطع من الليل: الطائفة منه، والسجيل: الطين المتحجر كما جاء في الآية الأخرى « حِجارَةً مِنْ طِينٍ ».
وقال الراغب: هو حجر وطين مختلط أصله فارسي فعرّب، ومنضود: أي وضع بعضه على بعض وأعد لعذابهم، ومسومة: أي لها سومة (بالضم) أو علامة خاصة في علم ربك.
المعنى الجملي
بعد أن بين عز اسمه ما يدل على أن لوطا كان قلقا على أضيافه مما يوجب الفضيحة لهم، وذلك قوله: « لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ » ذكر هنا أن الرسل بشروه بأن قومه لن يصلوا إلى ما هموا به، وأن الله مهلكهم ومنجيه مع أهله من العذاب.
الإيضاح
(قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ) أي قالت الملائكة للوط بعد أن رأوا شديد الكرب الذي لحقه بسببهم وتمنيه أن يجد قوة تدفعهم عن أضيافه: إنا رسل ربك أرسلنا لإهلاكهم وتنجيتك من شرهم.
(لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) ولا إلى ضيفك بمكروه، فهوّن عليك الأمر، وحينئذ طمس الله أعينهم فلم يعودوا يبصرون لوطا ولا من معه كما جاء في سورة القمر: « وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ » فانقلبوا عميا يتخبطون لا يعرفون الطريق ولا يهتدون إلى بيوتهم وصاروا يقولون: النجاء النجاء فإن في بيت لوط قوما سحرة.
(فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) أي فاخرج من هذه القرى أنت وأهلك ببقية من الليل تكفى لتجاوز حدودها، وجاء في سورة الذاريات: « فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ».
(وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) أي ولا ينظر أحد إلى ما وراءه ليجدّوا في السير أو لئلا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب فيرقّوا لهم، وجاء في سورة الحجر: « وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ ».
(إِلَّا امْرَأَتَكَ) فقد كان ضلعها مع القوم وكانت كافرة خائنة.
(إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ) أي إنه مصيبها ذلك العذاب الذي أصابهم ومقضي عليها بذلك، فهو واقع لا بد منه.
ثم علل الإسراء ببقية من الليل فقال:
(إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ) أي موعد عذابهم الصبح ابتداء من طلوع الفجر إلى الشروق كما جاء في سورة الحجر « فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ».
ثم أكد ما سبق فأجاب عن استعجال لوط لهلاكهم فقال:
(أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) أي أليس موعد الصبح بموعد قريب لم يبق له إلا ليلة واحدة فانج فيها بأهلك.
وحكمة تخصيص هذا الوقت أنهم يكونون مجتمعين في مساكنهم فلا يفلت منهم أحد.
(فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) أي فلما جاء أمرنا بالعذاب وقضاؤنا فيهم بالهلاك قلبنا قراها كلها وخسفنا بها الأرض.
وقد جرت سنة الله أنه إذا أراد خسف أرض في جهة ما أحدث تحتها فراغا بتفاعل الأبخرة التي في جوفها فيندكّ الجزء الأعلى وينهدم ويغور إلى أسفل إما عموديا إن كان الفراغ بقدر ما انخسف من الأرض وإما مائلا إلى جانب من الجوانب إن كان الفراغ تحته أوسع، وفى بعض هذه الحالات يكون عاليها سافلها ويرجع بعض علماء طبقات الأرض (الجيولوجيا) أن قرى قوم لوط خسف بها تحت الماء المعروف ببحيرة لوط أو بحر لوط، وقد عثر الباحثون على بعض آثارها من عهد قريب.
وقد روى المفسرون في خسفها من الخرافات ما لم يثبته نقل ولا يقبله عقل، فقالوا إن جبريل عليه السلام قلعها من تخوم الأرض بجناحه وصعد بها إلى عنان السماء حتى سمع أهل السماء أصوات الكلاب والدجاج ونهيق الحمير، ثم قلبها قلبا مستويا فجعل عاليها سافلها، مع أن المشاهدة في هذا العصر أثبتت أن الطائرات المطاردة التي تحلّق في الجو تصل فقط إلى حيث يخفّ ضغط الهواء وتستحيل الحياة حينئذ، ومن ثم يضعون فيها من أو كسجين الهواء ما يكفى استنشاقه وتنفسه للحياة في طبقات الجوّ العليا ثم يصعدون فيها وقد أشار الكتاب الكريم إلى ما يكون للتصعيد في جو السماء من التأثير في ضيق الصدر وعسر التنفس بقوله: « فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ ».
(وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ. مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ) أي وأمطرنا عليهم قبل القلب أو في أثنائه حجارة من سجيل: أي من طين متحجر كما جاء في سورة الذاريات: « لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ » ومثل هذا المطر يحدث عادة بإرسال الله تعالى ريحا شديدة تحمل بعض الأحجار من المستنقعات أو الأنهار فتلقيها حيث يشاء الله.
وهذا السجيل قد نضد وتراكب بعضه في أثر بعض بحيث يقع طائفة بعد طائفة، وقد وضع على تلك الأحجار سومة: أي علامة خاصة في علم ربك بحيث لا تصيب غير أهلها.
وقد يكون المعنى: إنه سخرها عليهم وحكّمها في إهلاكهم بحيث لا يمنعها شيء، من قولهم: سوّمت فلانا في الأمر إذا حكّمته فيه وخلّيته وما يريد، لا تثنى له يد في تصرفه.
ويرى بعض المفسرين أن التسويم كان حسيا بخطوط في ألوانها أو بأمثال الخواتيم عليها أو بأسماء أهلها، وكل ذلك من أمور الغيب التي لا تثبت إلا بسلطان ونص من خاتم الرسل، وإني هو؟.
(وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) أي وما هذه القرى التي حل بها العذاب بمكان بعيد عنكم أيها المشركون من أهل مكة الظالمون لأنفسهم بتكذيبك والمماراة فيما تنذرهم به، بل هي قريبة منكم على طريقكم في رحلة الصيف إلى الشام كما قال في سورة الصافات: « وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ » أي وإنكم لتمرون على آثارهم ومنازلهم في أسفاركم وقت النهار وبالليل، أفلا تعتبرون بما حل بهم.
وفي هذا عبرة للظالمين في كل زمان وإن اختلف العذاب باختلاف الأحوال وأنواع الظلم كثرة وقلة ومقدار أثره في الأمة من إفساد عام أو خاص.
قصة شعيب عليه السلام
[سورة هود (11): الآيات 84 الى 86]
وإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْبًا قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)
المعنى الجملي
تقدم ذكر قصة شعيب في سورة الأعراف، وذكرت هنا مرة أخرى، وقد جاء في كل موضع منهما من العظات والأحكام والحكم ما ليس في الآخرة مع الإحكام في السبك وحسن الرّصف، والسلامة من التعارض والاختلاف والتفاوت.
الإيضاح
(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْبًا) أي وأرسلنا إلى مدين أخاهم شعيبا.
(قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) أي فلما أتاهم قال يا قوم اعبدوا الله وحده ولا تعبدوا معه غيره، فما لكم من إله إلا هو.
وقد جرت سنة الأنبياء أن يبدءوا بالدعوة إلى التوحيد، لأنه جذر شجرة الإيمان، ثم يتبعونه فالأهم بالأهم فيما يرون لدى أقوامهم، ومن ثم ثنى بالنهي عن نقص الكيل والميزان، لأن أهل مدين اعتادوا ذلك فقال:
(وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) أي ولا تنقصوا الناس حقوقهم في مكيالكم وميزانكم كما هي عادتكم، وقد جاء مثل هذا النهى في قوله: « وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ. الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ » أي ينقصون.
(إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ) أي إني أراكم بثروة وسعة في الرزق تغنيكم عن الدناءة في بخس حقوق الناس وأكل أموالهم بالباطل بما تنقصون لهم من المبيع في مكيل أو موزون وكانوا تجارا مطففين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم ينقصون المكيال والميزان.
إلا أن في هذا كفرانا لنعمة الله عليكم، إذ كان يجب عليكم شكرانها بالزيادة على سبيل الصدقة والإحسان.
(وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) أي وإني أخشى عليكم يوما يحيط بكم عذابه إذا أنتم أصررتم على شرككم بالله بعبادة غيره، وكفرتم بنعمه بنقص المكيال والميزان.
وهذا العذاب إما في الدنيا بعذاب الاستئصال، وإما في يوم القيامة.
(وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) أي ويا قوم أتمّوهما بالعدل بلا زيادة ولا نقصان.
وقد أمرهم بالواجب بعد أن نهاهم عن ضده لتأكيده وللتنبيه إلى كون عدم التعمد للنقص لا يكفى لتحرّى الحق، بل يجب معه تحرى الإيفاء بالعدل والسوية من غير زيادة ولا نقص، وإن كان التيقن من ذلك لا يكون إلا بزيادة طفيفة، وتعمدها في الكيل والوزن للناس سخاء وفضيلة يمدح فاعلها عليها، وفي الاكتيال أو الوزن عليهم طمع فهو رذيلة مذمومة.
(وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) البخس: النقص في كل الأشياء، يقال بخسه ماله وبخسه علمه وفضله، أي لا تظلموا الناس أشياءهم، وذلك يشمل ما للأفراد وما للجماعات من مكيل وموزون ومعدود ومحدود بحدود حسية وحقوق مادية أو معنوية.
(وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) الإفساد تعطيل يشمل مصالح الدنيا وأمور الدين وأخلاق النفس وصفاتها، وكل ذلك فاش في عصرنا أي لا تفسدوا في الأرض وأنتم تتعمدون الإفساد، وإنما اشترط في النهى تعمد الإفساد، لأن بعض ما هو إفساد في الظاهر قد يراد به الإصلاح أو دفع أخف الضررين كما يقع في الحرب من قطع الأشجار أو فتح سدود الأنهار أو إحراق بعض الغابات، وكما فعل الخضر عليه السلام للسفينة التي كانت لمساكين يعملون في البحر، لأجل منع الملك الظالم الذي وراءهم من أخذها إذا أعجبته.
وهذا نهى عام يشمل غير ما سبق، كقطع الطرق، وتهديد الأمن، وقطع الشجر، وقتل الحيوان، ونحو ذلك.
(بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي ما يبقى لكم بعد إيفاء الكيل والميزان من الربح الحلال خير لكم مما تأخذونه بالتطفيف ونحوه من الحرام، إن كنتم مؤمنين به حق الإيمان، فالإيمان يطهّر النفس من رذيلة الطمع ويحلّيها بفضيلة السخاء والكرم.
(وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أي وما أنا بالذي أستطيع أن أحفظكم من القبائح، وإنما أنا ناصح مبلّغ، وقد أعذرت إذ أنذرت، ولم آل جهدا في ذلك.
[سورة هود (11): الآيات 87 الى 90]
قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)
تفسير المفردات
الحليم: ذو الأناة والتروّى الذي لا يتعجل بأمر قبل الثقة من فائدته، والرشيد: الذي لا يأمر إلا بما استبان له من الخير والرشد، والمخالفة: أن يأخذ كل واحد طريقا غير طريق الآخر في قوله أو فعله أو حاله، يقال خالفنى فلان إلى كذا إذا قصده وأنت مولّ عنه، وخالفنى عنه إذا ولى عنه وأنت قاصد له، وأناب إلى الله: رجع إليه، وجرم الذنب أو المال: كسبه، ورحيم: عظيم الرحمة للمستغفرين، ودود: كثير اللطف والإحسان إليهم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أمر شعيب لقومه بعبادة الله وحده وعدم النقص في الكيل والميزان ذكر هنا ردهم على كلا الأمرين، فردوا على الأول بأنهم إنما ساروا على منهج آبائهم وأسلافهم في التدين والإيمان، وردوا على الثاني بأنهم أحرار في أموالهم يتصرفون فيها بما يجلب لهم المصلحة فيها.
ثم أعاد النصح لهم بأنه لا يريد لهم إلا الإصلاح، وأنه يخشى أن يصيبهم ما أصاب الأمم فيهم كقوم نوح أو قوم هود وما الأحداث التي اجتاحت قوم لوط ببعيدة عنكم، فعليكم أن تتوبوا إلى ربكم، عله أن يرحمكم، فهو واسع الرحمة، محب لمن تاب وأناب إليه.
الإيضاح
(قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا؟) أي أصلاتك التي هي من نتاج الوسوسة وفعل المجانين تأمرك بأن نترك ما سار عليه آباؤنا جيلا إثر جيل من عبادة الأوثان والأصنام، وإنما جعلوه مأمورا مع أن الصادر عنه إنما هو الأمر بعبادة الله وغيرها من الشرائع، لأنه عليه السلام لم يكن يأمرهم من تلقاء نفسه بل بوحي من ربه ويبلغهم أنه مأمور بذلك، وإسناد الأمر إلى الصلاة دون غيرها من العبادات لأنه كان
كثير الصلاة معروفا بذلك حتى إنهم كانوا إذا رأوه يصلّى تغامزوا وتضاحكوا، فكانت هي من بين الشعائر ضحكة لهم.
(أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) أي أو أن نترك فعلنا ما نشاء في أموالنا من التطفيف وغيره من التنمية والاستغلال والتصرف في الكسب بما نستطيع من الحذق والاحتيال والخديعة، فما ذاك إلا حجر على حريتنا وتحكّم في إرادتنا وذكائنا.
والخلاصة - إنهم ردوا عليه الناحيتين الدينية والدنيوية بما رأوا من شبه مزيّفة، وحجج آفنة.
ثم أتبعوا ذلك بما يدل على السخرية والهزء به فقالوا:
(إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) أي أنت ذو الجهالة والسفاهة في الرأي، والغواية في الفعل بهوس الصلاة، لكنهم عكسوا القضية تهكما واستهزاء كما يقال للبخيل: لو رآك حاتم لاقتدى بك في سخائك.
(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أي قال يا قوم أخبروني عن شأني وشأنكم إن كنت على حجة واضحة من ربى ومالك أمري فيما دعوتكم إليه وما أمرتكم به ونهيتكم عنه فكان وحيا منه لا رأيا مني.
(وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا) في كثرته وفى صفته وقد كان ذلك بالحلال بلا تطفيف مكيال ولا ميزان ولا بخس لحق أحد من الناس، فما أقوله لكم صادر عن تجربة في الكسب الطيب وما فيه من خير وبركة، لا عن آراء نظرية ممن ليست له خبرة - فماذا أقول غير الذي قلت عن وحي من ربى وعن تجربة في مالى هل يسعنى بعد هذا التقصير في التبليغ والكتمان لأوامر الله.
(وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) أي وما أريد بنهي إياكم عما أنهاكم عنه من البخس والتطفيف أن أقصده بعد ما ولّيتم عنه، فأستبدّ به دونكم مؤثرا لنفسى عليكم، بل أنا مستمسك به قبلكم.
(إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) أي ما أريد إلا الإصلاح بالنصيحة والموعظة ما استطعت إلى ذلك سبيلا لا آلو فيها جهدا، وليس ذلك عن هوى ولا منفعة خاصة، ولو لا ذلك ما فعلته.
وفي ذلك إيماء إلى إثبات عقله ورشده وحكمته، وإبطال لتهكمهم، واستهزائهم بتلقيبهم إياه (بالحليم الرشيد).
(وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ) التوفيق الفوز والفلاح في كل عمل صالح وسعى حسن، وحصول ذلك يتوقف على كسب العامل وطلبه من الطريق الموصّل إليه، وتيسير الأسباب التي يسهل معها الحصول عليه، وذلك إنما يكون من الله وحده، أي وما توفيقى لإصابة الحق والصواب في كل ما آتى وما أذر إلا بهداية الله تعالى ومعونته.
(عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) أي عليه توكلت في أداء ما كلّفنى من تبليغكم ما أرسلت به لا على حولى وقوتى، وإليه أرجع في كل ما أهمنى في الدنيا، وهو الذي يجازينى على أعمالى في الآخرة.
والخلاصة - إنه لا يرجو منهم أجرا ولا يخشى منهم ضيرا.
(وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ) أي لا تحملنكم عداوتي وبغضي وفراق الدين الذي أنا عليه على الإصرار على ما أنتم عليه من الكفر بالله وعبادة الأوثان وبخس الناس في المكيال والميزان، فيصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح من الغرق أو قوم هود من العذاب أو قوم صالح من الرجفة.
(وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) زماما ولا مكانا أي إن لم تعتبروا بمن ذكرنا قبل لقدم عهد أو بعد مكان فاعتبروا بهؤلاء، فإنهم بمرأى منكم ومسمع.
وقد يكون المعنى - ليسوا ببعيد منكم في الكفر والمساوى فاحذروا أن يحل بكم مثل ما حل بهم من العذاب.
(وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) أي واطلبوا من ربكم المغفرة مما أنتم عليه من عبادة الأوثان وبخس الناس حقوقهم في المكيال والميزان، ثم ارجعوا إلى طاعته والانتهاء إلى أمره ونهيه.
(إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) أي إن ربى رحيم بمن تاب وأناب إليه أن يعذبه بعد التوبة، كثير الود والمحبة، فيحب من يتوب ويرجع إليه.
وفي الآية إرشاد إلى أن الندم على فعل الفساد والظلم بالتوبة واستغفار الرب تعالى من أسباب خير الدنيا وخير الآخرة.
[سورة هود (11): الآيات 91 الى 95]
قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفًا وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (91) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)
تفسير المفردات
الفقه: الفهم الدقيق المؤثّر في النفس الباعث على العمل، والرهط: الجماعة من الثلاثة إلى السبعة أو العشرة، لرجمناك: لقتلناك بالرمي بالحجارة، بعزيز: أي ذي عزة ومنعة، واتخذه ظهريا (بالكسر والتشديد) أي جعله نسيا منسيا لا يذكر كأنه غير موجود، ومحيط: أي محص ما تعملون، وعلى مكانتكم: على غاية تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم، يقال مكُن مكانة: إذا تمكن أبلغ تمكن، وارتقبوا: أي وانتظروا، والصيحة: أي صيحة العذاب، وجاثمين: أي باركين على ركبهم مكبّين على وجوههم، وغنى بالمكان: أقام به، وبعدا: أي هلاكا لهم.
المعنى الجملي
بعد أن جادلوه أوّلا بالتي هي أحسن، وعمّيت عليهم العلل، وضاقت بهم الحيل، ولم يجدوا للمحاورة ثمرة - تحوّلوا إلى الإهانة والتهديد، وجعلوا كلامه من الهذيان والتخليط الذي لا يفهم معناه، ولا تدرك فحواه، فقابلهم بالإنذار بقرب الوعيد، ونزول العذاب الشديد.
الإيضاح
(قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ) أي ما نعلم حقيقة كثير مما تقول وتخبرنا به، من بطلان عبادة آلهتنا، وقبح حرية التصرف في أموالنا، ومجىء عذاب يحيط بنا، وإصابتنا بمثل الأحداث التي أصابت من قبلنا، كأنّ أمرها بيدك، يصيب بها ربك من يشاء لأجلك.
(وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفًا) لا قوة لك ولا قدرة على شيء من الضر والنفع، ولا تستطيع أن تمتنع منا إن أردنا أن نبطش بك.
(وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ) أي ولو لا عشيرتك الأقربون لقتلناك بالحجارة حتى تدفن فيها.
(وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) أي وما أنت بذي عزة ومنعة تحول بيننا وبين رجمك، وإنما نعزّ رهطك على قلتهم لأنهم منا وعلى ديننا الذي نبذته وراء ظهرك وأهنته، ودعوتنا إلى تركه لبطلانه في زعمك.
فوبخهم شعيب على سفاهتهم كما حكى سبحانه عنه.
(قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ) أي قال يا قوم: أرهطى أعز عليكم وأكرم من الله حتى كان امتناعكم عن رجمى بسبب انتسابي إليهم، وأنهم رهطى لا بسبب انتسابي إلى الله تعالى الذي أدعوكم إليه بأمره.
(وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) أي واستخففتم بربكم فجعلتموه خلف ظهوركم، لا تأمرون لأمره، ولا نخافون عقابه، ولا تعظمونه حق التعظيم، وكان القوم يؤمنون بالله ويشركون به سواه. وأكثر الناس اليوم لا يراقبون الله في أقوالهم ولا في أعمالهم.
فيرجوه إذا أحسنوا، ويخافوه إذا أساءوا، ويتسابقوا إلى الإحسان ابتغاء مرضاته:
(إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) أي إن ربى محيط علمه بعملكم فلا يخفى عليه شيء منه وهو مجازيكم عليه، وأما رهطي فلا يستطيعون لكم ضرا ولا نفعا.
ولا يخفى ما في ذلك من التهديد والوعيد.
ثم هددهم مرة أخرى فقال:
(وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي ويا قوم اعملوا ما استطعتم على منتهى تمكنكم في قوتكم وعصبيتكم.
وخلاصة ذلك - اثبتوا على ما أنتم عليه من الكفر والمشاقّة وسائر ما لا خير فيه، وهذا كلام من واثق بقوته بربه، وضعف قومه على كثرتهم، وإدلالهم عليه، وتهديدهم له بقوتهم.
(إِنِّي عامِلٌ) على مكانتى على قدر ما يؤيدنى الله به من وسائل التأييد والتوفيق.
(سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) أي سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويذله، أنا أم أنتم؟ ومن هو كاذب في قوله، ومن هو صادق مني ومنكم - وهذا تصريح منه بالوعيد بعد التلميح بالأمر بالعمل المستطاع تعجيزا لهم.
(وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) أي وانتظروا ما أقول لكم من حلول ما أعدكم به وظهور صدقه، إني مرتقب منتظر.
ثم ذكر أنه كان صادقا في وعيده لهم فحل بهم سوء العذاب فقال:
(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) أي ولما جاء أمرنا بعذابهم الذي أنذروه نجينا رسولنا شعيبا والذين آمنوا به فصدّقوه على ما جاءهم به من عند ربهم برحمة خاصة بهم.
(وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) أي وأخذت أولئك الظالمين بسبب ظلمهم صيحة العذاب كالتي أخذت ثمود فأصبحوا جميعا باركين على ركبهم مكبين على وجوههم في ديارهم.
(كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها) أي كأنهم لم يقيموا فيها متصرفين في أطرافها متقلبين في أكنافها.
ثم دعا عليهم بالهلاك فقال:
(أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ) أي هلاكا لهم وبعدا من رحمة الله كما بعدت من قبلهم ثمود من رحمته بإنزال سخطه بهم.
والخلاصة - إن الله أرسل على كل من ثمود ومدين صاعقة ذات صوت شديد فرجفت أرضها، وزلزلت من شدتها، وخروا ميتين، وكانت صاعقتها أشد من الصاعقة التي أخذت بني إسرائيل حين قالوا (أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً) وقد أحياهم الله عقبها، لأن هذه تربية لقوم نبي في حضرته، وتلك صاعقة كانت عذاب خزى لمشركين ظالمين معاندين أنجى الله نبي كل منهما ومؤمنيهما قبلها.
قصة موسى وفرعون
[سورة هود (11): الآيات 96 الى 99]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (96) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)
تفسير المفردات
الآيات: هي الآيات التسع المعدودة في سورة الإسراء والمفصّلة في سورة الأعراف وغيرها، والسلطان المبين: هو ما آتاه الله من الحجة البالغة في محاوراته مع فرعون وملئه، والملأ: أشراف القوم وزعماؤهم، وما أمر فرعون: أي ما شأنه وتصرفه، برشيد: أي بذي رشد وهدى، وقدم يقدم (كنصر ينصر): تقدم، فأوردهم النار: أي أدخلهم إياها، والورد بلوغ الماء في مورده من نهر وغيره، والمورود: الماء والمراد به هنا النار، وأتبعوا: أي وألحقت به لعنة، والرفد: (بالكسر): العطاء والعون فيقال رفده وأرفده: أعانه وأعطاه، والمرفود: المعطى.
المعنى الجملي
ذكر سبحانه في هذه الآيات قصص موسى مع فرعون وملئه للإعلام بأن عاقبة فرعون وأشراف قومه اللعنة والهلاك ككفار أولئك الأقوام الظالمين وإن كان عذاب الخزي وهو الغرق في البحر لم يعمّ جميع قومه، بل لحق من اتبع موسى وسار أثره للأسباب التي سلف ذكرها في سورة الأعراف.
الإيضاح
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أي ولقد أرسلنا موسى إلى فرعون وملئه مصحوبا بآيات بينات دالة على توحيد الله، وفيها السلطان المبين، والحجة الواضحة على صدق نبوته، وإنما خص الملأ بالذكر وقد أرسل إلى قومه جميعا، لأنهم أهل الحل والعقد والاستشارة في دولته، ويعهد إليهم يتنفيذ ما يقرره من الأمور، فغيرهم يكون تبعا لهم في كل ما يأتون ويذرون.
(فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ) في كل ما قرره من الكفر بموسى وردّ ما جاءهم به من عند الله، وتشديد الظلم على بني إسرائيل بتقتيل أبنائهم واستحياء نسائهم إلى نحو أولئك مما جاء في السور الأخرى مفصلا.
(وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) أي وما شأنه وتصرفه بصالح حميد العاقبة، بل هو محض غي وضلال، ظلم وفساد، لغروره بنفسه، وكفرانه بربه، وطغيانه في حكمه.
ثم ذكر جزاءه مع قومه في الآخرة فقال:
(يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) أي يتقدم قومه يوم القيامة ويكونون تبعا له كما كانوا تابعين في الدنيا إلا من آمن، فيوردهم جهنم معه: أي يدخلهم إياها.
وقد ورد أن آله يعرضون على النار منذ ماتوا صباحا ومساء من كل يوم كما قال تعالى: « وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ. النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ ».
(وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) أي وبئس الورد الذي يردونه النار، لأن وارد الماء إنما يرده لتبريد كبده وإطفاء غلّته من حر الظمأ، ووارد النار يحترق فيها احتراقا.
قال ابن عباس رضي الله عنه في الآية: الورود الدخول وقد ذكر في أربعة مواضع:
في هود « وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ » وفى مريم « وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها » وفى الأنبياء « حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ » وفى مريم أيضا « وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْدًا » وكان يقول: والله ليردنّ جهنم كلّ برّ وفاجر « ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا ».
(وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) أي وألحقت بهم لعنة عظيمة ممن بعدهم من الأمم، ويوم القيامة أيضا يلعنهم أهل الموقف جميعا فهي تابعة لهم حيثما ساروا، ودائرة أينما داروا.
والآية بمعنى قوله: « وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ » وقد سمى الله هذه اللعنات رفدا تهكّما بهم فقال:
(بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) أي بئس العطاء المعطى هذه اللعنة التي أتبعوها في الدنيا والآخرة.
وفي الآيات من العبرة أن في البشر فراعنة كثيرين يغوون الناس ويستعبدونهم، فيطيعونهم ويذلّون لهم ذل العبيد، ولا تفيدهم هداية القرآن شيئا. ومنهم من يدّعون الإسلام ولا يفقهون قول الله لرسوله في آية مبايعة النساء (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ)
وقوله ﷺ « لا طاعة لأحد في معصية الله إنما الطاعة في المعروف ».
العبرة بقصص الأمم الظالمة وبما آل إليه أمرها
[سورة هود (11): الآيات 100 الى 102]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر قصص الأمم الماضية والقرون السالفة مع الرسل الذين أرسلوا إليهم، نبه إلى ما في ذكرها من عظة واعتبار بقوله: (مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ) فالسامع لها والقارئ يلين قلبه، وتخضع نفسه، فيحمله ذلك على النظر والاعتبار بها - إلى ما في إخباره ﷺ بها من غير مطالعة كتب ولا مدارسة مع معلّم، من عظيم الدلالة على نبوته، إذ أن هذا لا يكون إلا بوحي من العلي الأعلى أتاه به روح القدس.
الإيضاح
(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ) أي ذلك الذي قصصناه عليك بعض أخبار لأمم الماضية، وأهمّ أطوار اجتماعها في المدائن والقرى من قوم نوح ومن بعدهم، نقصه عليك في هذا القرآن، لتتلوه على الناس ويتلوه المؤمنون آناء الليل وأطراف النهار إنذارا وتبليغا عنا.
(مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ) أي من تلك القرى ما بقيت آثارها ماثلة كالزرع القائم في الأرض كقوم صالح، ومنها ما عفت ودرست آثارها كالزرع المحصود الذي لم يبق منه بقية في الأرض كقرى قوم لوط.
(وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) أي وما كان إهلاكهم بغير جرم استحقوا به الهلاك، ولكن ظلموا أنفسهم بشركهم وإفسادهم في الأرض وإصرارهم على ذلك حتى لم يبق فيهم استعداد لقبول الحق، ولو بقوا زمانا ما ازدادوا إلا ظلما وفجورا وفسادا في الأرض كما قال نوح عليه السلام: « إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِرًا كَفَّارًا » وقد بالغ رسلهم في وعظهم وإرشادهم فما زادهم ذلك إلا عتوّا واستكبارا، وأنذروهم بالنّذر فما زادهم ذلك إلا إصرارا وعنادا، ثقة منهم بأن آلهتهم تدفع عنهم كل مخوف.
وتبعد عنهم كل محذور، جهلا منهم بما كانوا يعملون، ومن ثم قال:
(فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) أي فما نفعتهم ولا دفعت بأس الله عنهم آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله ويطلبون منها أن تدفع عنهم الضر بنفسها أو بشفاعتها عنده - لما جاء عذاب ربك تصديقا لما أنذرهم به رسله.
(وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) يقال تبّبه تتبيبا: أهلكه، وتبّ فلان وتبت يده: خسر أو هلك، وتبّا لفلان: دعاء عليه بالهلاك، أي وما زادوهم إلا هلاكا وتدميرا، إذ أنهم باتكالهم عليهم ازدادوا كفرا وإصرارا على الظلم والفساد، ظنا منهم أنهم ينتقمون لهم من الرسل كما حكى الله تعالى عن بعضهم قوله: « إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ ».
(وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ) أي ومثل ذلك الأخذ بالعذاب وعلى نهجه وطريقه، أخذ ربك أهل القرى وهي متلبّسة بالظلم، فذلك عقاب لا مفرّ منه ولا مهرب.
وفي هذا إنذار وتحذير من سوء عاقبة الظلم لكل قرية ظالمة في كل زمان ومكان (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) أي إن أخذه وجيع قاس لا يرجى منه الخلاص.
روى أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: « إن الله تعالى ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم قرأ: « وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ »
فليعتبر الظالمون بهذا، ولا يغترّوا بالدين الذي ينتسبون إليه دون أن يعملوا ما يرفع عنهم غضب ربهم ونقمته، فربما كان ذلك إملاء منه تعالى واستدراجا لهم.
العظة بعذاب الآخرة
[سورة هود (11): الآيات 103 الى 109]
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (107) وأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر العبرة في إهلاك الأمم الظالمة في الدنيا - ذكر هنا العبرة بجزاء الآخرة للأشقياء والسعداء، فالأولون يصلون النار التي لهم فيها شهيق وزفير، والآخرون يمتعون بالجنة التي فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين وهم فيها خالدون.
الإيضاح
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ) أي إن فيما قصه الله من إهلاك أولئك الأمم وبيان سنته في عاقبة الظالمين، لحجة بيّنة وعبرة ظاهرة لمن يخاف عذاب الآخرة يعتبر بها فيتقى الظلم في الدنيا على سائر ضروبه، إذ يعلم أن من عذّب الظالمين في الدنيا قادر أن يعذبهم في الآخرة، وأن ما حاق بهم في دار الفناء، أنموذج لما يكون لهم في دار البقاء.
والماديون في هذا العصر وفى عصور سابقة كما حكاه البيضاوي عن بعض أهل عصره يقولون: إن الطوفان والصاعقة وخسف الأرض كل أولئك قد حدث بأسباب طبيعية لا بإرادة الله واختياره لتربية الأمم - ويكفى في الرد عليهم أن يقال: إن حدوث هذه الأشياء وغيرها بالأسباب الموافقة لسنن الله في نظام العالم هو المراد بالقضاء والقدر في القرآن الكريم، والله تعالى أحدث هذه الأسباب في أوقات معينة بحكمته لعقاب تلك الأمم بها، ولم تكن من قبيل المصادفات.
والدليل على ذلك أن أولئك الرسل أنذروا أقوامهم بحدوثها قبل أن لم تكن، ومنهم من ذكر وقتها على سبيل التعيين والتحديد، وهكذا يفعل الله بالظالمين في كل زمان وإن لم يكن فيهم من ينذرهم بوقوع ما يحل بهم اكتفاء بإنذار القرآن كما قال: « وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ».
(ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) أي ذلك اليوم الذي يقع فيه عذاب الآخرة يوم يجمع له الناس كلهم ليحاسبوا على ما عملوا ثم يوفّوا جزاءهم بالعدل والقسطاس.
(وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) أي وذلك يوم يشهده الخلائق جميعا من الإنس والجن والملائكة وغيرهم.
(وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) أي وما نؤخر ذلك اليوم إلا لانتهاء مدة معلومة في علمنا لا تزيد ولا تنقص، وهي انتهاء مدة الدنيا، وكل شيء معدود محدود فهو قريب، ولم يطلع الله أحدا من خلقه على معرفة ذلك اليوم.
(يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي في ذلك الحين الذي يجىء فيه اليوم المعين لا تتكلم نفس من الأنفس الناطقة إلا بإذنه تعالى، إذ لا يملك أحد فيه قولا ولا فعلا إلا بإذنه كما قال تعالى: « يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا » وقال: « هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ، وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ » وقال: « يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَوابًا ».
(فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) أي فمن يجمع في ذلك اليوم شقى مستحق للعذاب الأليم الذي أوعد به الكافرون، وسعيد مستحق لما وعد به المتقون، من الثواب والنعيم الدائم.
والأطفال والمجانين لا يدخلون في هذا التقسيم لعدم التكليف - ويدخل فيه من استوت حسناتهم وسيئاتهم من المؤمنين، ومن تغلب سيئاتهم ويعاقبون عليها إلى حين ثم يدخلون الجنة، لأنهم من فريق السعداء باعتبار العاقبة. فالسعداء درجات، والأشقياء دركات.
روى الترمذي وأبو يعلى وغيرهما عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما نزلت « فمنهم شقى وسعيد » قلت: يا رسول الله فعلام نعمل؟ على شيء قد فرغ منه أو على شيء لم يفرغ منه قال: « بل على شيء قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر، ولكن كلّ ميسر لما خلق له »
وروي عن علي كرم الله وجهه عن النبي ﷺ أنه كان في جنازة فأخذ عودا فجعل ينكت في الأرض فقال: « اعملوا فكل ميسر لما خلق له » وقرأ: « فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى »
والمراد أن الله يعلم الغيب وأنه يعلم المستقبل كله بجميع أجزائه وأطرافه، ومنه عمل العاملين وما يترتب على كل عمل من الجزاء بحسب وعده ووعيده في كتابه المنزل وكتابته للمقادير، والنبي ﷺ علمنا أن الجزاء بالعمل، وأن كل إنسان ميسر له ومسهل عليه ما خلقه الله لأجله من سعادة الجنة، أو شقاوة النار، وأن ما وهبه من الاستعداد والعزيمة يكون له تأثير في تربية النفس توجيهها إلى ما تعتقد أن فيه سعادتها وخيرها.
ثم فصل جزاء الفريقين فقال:
(فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) الزفير تنفس الصّعداء من الهم والكرب إذا امتد واشتد وسمع صوته، والشهيق النشيج في البكاء إذا اشتد تردده في الصدر وارتفع به الصوت، أي فأما الذين شقوا في الدنيا بما كانوا يعملون من أعمال الأشقياء لفساد عقيدتهم الموروثة وسوء القدوة في العمل حتى أحاطت بهم خطيئاتهم وانطفأ نور الفطرة من أنفسهم، فلهم في النار التي هي مستقرهم ومثواهم زفير وشهيق من حرج صدورهم وضيق أنفاسهم وشدة كروبهم.
(خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) أي ما كثين فيها مكث خلود وبقاء مدة دوام السموات التي تظلهم والأرض التي تقلّهم، والمراد التأبيد ونفى الانقطاع على منهج قولهم: لا أفعله ما بدا كواكب، وما أضاء الفجر، وما تغنّت حمامة، والنصوص متظاهرة على تأبيد قرارهم فيها.
وسماء كل من أهل الجنة والنار ما هو فوقهم، وأرضهم ما هم مستقرون عليه وهو تحتهم، كما قال تعالى « يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ » وقال ابن عباس والسدي والحسن: لكلّ أرض وسماء.
(إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) أي إن هذا الخلود دائم إلا ما شاء ربك من تغيير في هذا النظام في طور آخر، إذ أنه إنما وضع بمشيئته وسيبقى كذلك، ويراد بمثل هذا في سياق الأحكام القطعية الدلالة على تقييد تأبيدها بمشيئته تعالى فقط، لا لإفادة عدم عمومها كما في قوله: « قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ » أي لا أملك شيئا من ذلك بقدرتي إلا ما شاء الله أن يملكنيه منه بتسخير أسبابه وتوفيقه، ونحو ذلك قوله: « سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ » أي إنه تعالى ضمن لنبيه حفظ القرآن الذي يقرئه إياه وعصمه ألا ينسى منه شيئا كما هو مقتضى الضعف البشرى إلا أن يكون بمشيئة الله فهو وحده القادر على ذلك.
(إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ومشيئته تعالى إنما تتعلق بما سبق به علمه واقتضته حكمته، وما كان كذلك لم يكن إخلافا لشيء من وعده ولا من وعيده كخلود أهل النار فيها.
(وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) المجذوذ: المقطوع، من جذّه إذا قطعه أو كسره، وهو كقوله: « لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ » أي إن هذا الجزاء هبة منه وإحسان دائم غير مقطوع، وقد كثر وعد الله تعالى للمؤمنين المحسنين بأنه يزيدهم من فضله، وبأنه يضاعف لهم الحسنة بعشرة أمثالها، وبأكثر من ذلك إلى سبعمائه ضعف، وبأنه يجزيهم بالحسنى، وبأحسن مما عملوا - ولم يوعد بزيادة جزاء الكافرين والمجرمين على ما يستحقون، بل أوعدهم بأنه يجزيهم بما عملوا، وبأن السيئة بمثلها وهم لا يظلمون، وبأنه لا يظلم أحدا، وهذا الجزاء وهو الخلود في النار أثر طبيعي لتدسية النفس بالكفر والظلم والفساد.
وبعد أن شرح سبحانه أقاصيص عبدة الأوثان، ثم أتبعه بأحوال الأشقياء والسعداء، أنذر أعداء النبي ﷺ والمشركين من قومه بما حل بالأمم المهلكة من العذاب فقال:
(فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ) أي إذا كان أمر الأمم المشركة الظالمة في الدنيا ثم في الآخرة كما قصصناه عليك، فلا تكن في أدنى ريب مما يعبد قومك هؤلاء في عاقبته بمقتضى تلك السنن التي لا تبديل لها.
وفي ذلك تسلية له ﷺ ووعيد لقومه كما لا يخفى.
ثم بين حالهم في عبادتهم وجزاءهم عليها فقال:
(ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ، وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ) أي إنهم أشبهوا آباءهم في الجهل والتقليد فهم مقلدون لهم، وإنا لمعطوهم نصيبهم من جزاء أعمالهم في الدنيا وافيا تامّا لا ينقص منه شيء كما وفينا آباءهم الأولين من قبل فأعمال الخير التي يعملونها في الدنيا كبرّ الوالدين وصلة الأرحام وإغاثة الملهوف يوفون جزاءهم عليها بسعة الرزق وكشف الضر جزاء تاما وافيا ولا يجزون عليها في الآخرة، ومثل هذا الجزاء متاع عاجل لا يلبث أن يزول.
[سورة هود (11): الآيات 110 الى 111]
ولَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)
المعنى الجملي
بعد أن ذكّر مشركي مكة بأقوام غلب عليهم الكفر والجحود ولم يؤمن إلا القليل منهم، فوفّاهم جزاء أعمالهم في الدنيا وسيوفيهم جزاءهم في الآخرة - ذكّرهم في هاتين الآيتين بقوم موسى الذين آتاهم الكتاب فاختلفوا فيه، وأن مثل الذين يختلفون من أمته في الكتاب مثل هؤلاء.
الإيضاح
(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ) أي فاختلف في الكتاب وكونه من عند الله فآمن به قوم وكفر به آخرون، فلا تبال باختلاف قومك فيما آتيناك من القرآن كقولهم « لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ » وزعمهم أن القرآن مفترى.
(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) الكلمة هي كلمة القضاء بتأخير العذاب إلى الأجل المسمى بحسب الحكمة الداعية إلى ذلك، أي ولو لا ما تقدم من حكم الله بتأخير إهلاك البغاة المثيرين للاختلاف فيه بأهوائهم، وإبقاء المعتصمين بالوحدة والاتفاق على هدايته، لأهلكهم، كما أهلك الذين ردوا دعوة الرسل جحودا وعنادا.
(وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) أي وإن المكذبين به منهم لفى شك موقع في الريب والاضطراب، فلا يدرون أحق هو أم باطل.
وجاء في معنى الآية قوله « شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ، كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ. وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ، وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ، وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ » والذين أورثوا الآيات بعد من تقدم ذكرهم من الأنبياء هم اليهود والنصارى وقد عرض لهم من الشك والريب في كتبهم ما لم يكن في عهد سلفهم، إذ أن التوراة التي كتبها موسى عليه السلام قد فقدت في إحراق البابليين لهيكل سليمان، والنصارى كانوا أشد اختلافا في كتبهم ومذاهبهم.
(وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي وإن كل أولئك المختلفين الذين قصصنا عليك قصصهم ليوفيهم ربك جزاء أعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر، إذ لا يخفى عليه شيء منها.
[سورة هود (11): الآيات 112 الى 113]
فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113)
المعنى الجملي
بعد أن بين أمر المختلفين في التوحيد والنبوة، وأطنب في وعدهم ووعيدهم أمر رسوله ﷺ ومن تاب معه بالاستقامة وهي كلمة جامعة لكل ما يتعلق بالعلم والعمل والأخلاق الفاضلة.
الإيضاح
(فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا) أي فالزم الصراط المستقيم الذي لا عوج فيه واثبت عليه، وكذلك فليستقم من تاب من الشرك وآمن معك، ولا تنحرفوا عما رسم لكم بتجاوز حدوده غلوّا في الدين، فإن الإفراط فيه كالتفريط كلاهما زيغ عن الصراط المستقيم. وفي هذا إيماء إلى وجوب اتباع النصوص في الأمور الدينية من عقائد وعبادات واجتناب الرأي وبطلان التقليد فيها.
وإيضاح هذا - إن تحكيم العقل البشرى في الخوض في ذات الله وصفاته وفيما دون ذلك من عالم الغيب كالملائكة والعرش والجنة والنار - تجاوز لحدوده، فإن اكبر العلماء والفلاسفة عقولا عجزوا إلى اليوم عن معرفة كنه أنفسهم وأنفس ما دونهم من المخلوقات صغيرها وكبيرها حتى الحشرات منها كالنحل والنمل، فأني لهم أن يعرفوا كنه ذات الله وصفاته أو معرفة حقيقة ملائكته وغيرهم من جند الله؟.
ولما خرج متأخر والأمة عن هدى سلفهم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان زاغوا فكانوا: « مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ » فسقط بعضهم في خيال التشبيه، وبعضهم في خيال التعطيل.
ولو كانوا قد نهجوا نهج السابقين لتجنبوا أسباب الخلاف والتفرق في الدين الذي أوعد الله أهله بالعذاب العظيم وبرأ رسوله منهم.
والواجب التزام كتاب الله وما فسرته به سنة رسوله ﷺ من العبادات العملية بدون تحكم بالرأي والقياس، والمعاملات على النحو الذي بينه الكتاب والسنة على السنن القويم دون تأويل ولا تخريج لهما على غير ما يفهم من ظاهرهما.
أما الاختلاف فيما عدا ذلك من أمور القضاء والسياسة وأمور المعاش من زراعات وتجارات فهو أمر طبيعي لا يمكن الغنى عنه، فلولاه لما تقدمت شئون الحياة، ولما حصل التنافس لدى أرباب المهن والصناعات، ولما جدّ كل يوم بدع جديد (موضه) ولكان الناس دائما على الفطرة الأولى، وأنّي لعقل الإنسان أن يسمتر على حال واحدة وقد أوتى الخلافة في الأرض وحسن استعمارها، وبهذا وحده فضل الملائكة ولله في خلقه شئون.
وقد بين سبحانه لنا المخرج إذا حدث بيننا الخلاف في الدين فقال: « فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ » الآية وقد فسر ذلك النبي ﷺ بقوله لمعاذ بن جبل حين ولاه القضاء في اليمين « بم تقضى؟ قال بكتاب الله. قال فإن لم تجد؟ قال فبسنة رسوله. قال فإن لم تجد؟ قال أجتهد رأيى - فأقرّه على ذلك ».
وهذا هو الاستقامة في الدين التي بها في يرقى المرء إلى أعلى عليين، وقد حثّ الله رسوله عليها في هذه الآية وحث موسى وهارون عليها فقال: « قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما ».
ومدح من اتصفوا بها ووعدهم بالخير والفلاح في الآخرة فقال: « إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ».
وروى مسلم عن سفيان الثقفي قال: « قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك. قال: (قل آمنت بالله ثم استقم) ».
(إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي إنه تعالى بصير بعملكم ومحيط به فيجزيكم به، فاتقوه أن يطلع عليكم وأنتم عاملون بخلاف أمره.
ونظير هذه الآية قوله « فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ، لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ، اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ».
(وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) الركون إلى الشيء: الاعتماد عليه، وركن الشيء: جانبه الأقوى، وما تتقوى به من ملك وجند وغيره ومنه قوله تعالى « فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ » والمراد من الظالمين هنا أعداء المؤمنين الذين يؤذونهم ويفتنونهم عن دينهم من المشركين ليردّوهم عنه، فهم بمعنى الذين كفروا في الآيات الكثيرة، وتمسكم النار، أي تصيبكم، أي لا تستندوا إلى الذين ظلموا من قومكم المشركين ولا من غيرهم فتجعوهم ركنا لكم تعتمدون عليه فتقروهم على ظلمهم وتوالوهم في شئونكم الحربية وأعمالكم الدينية، فإن الظالمين بعضهم أولياء بعض.
وخلاصة ذلك - لا تستعينوا بالظلمة فتكونوا كأنكم رضيتم عن أعمالهم، فإن فعلتم ذلك أصابتكم النار التي هي جزاء الظالمين بسبب ركونكم إليهم والاعتزاز بهم والاعتماد عليهم، والركون إلى الظلم وأهله ظلم « وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ».
وليس لكم في هذه الحال التي تركنون فيها إليهم غير الله وليّا ينقذكم ويخلصكم من عذابه، ثم لا تنصرون: أي لا ينصركم الله لأن الذين يركنون إلى الظالمين يكونون منهم وهو لا ينصر الظالمين كما قال « وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ » بل تكون عاقبتكم الحرمان مما وعد الله رسله ومن ينصره من المؤمنين.
والخلاصة - إن الركون إلى الظالمين المنهي عنه هو الاعتماد على أعداء المؤمنين الذين يفتنونهم ويصدونهم عن دينهم، ويؤيده ما روى عن ابن عباس رضي الله عنه أنه فسر الظلم هنا بالشرك، والذين ظلموا بالمشركين، وقيل إنها عامة في الظلمة من غير فرق بين كافر ومسلم، ولو فرضنا أن سبب النزول هم المشركون، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ومن ابتلى بمخالطة الظلمة فليزن أقوالهم وأفعالهم بميزان الشرع، فإن زاغوا عن ذلك فعلى أنفسهم قد جنوا، وطاعتهم واجبة على كل من دخل تحت أمرهم ونهيهم في كل ما يأمرون به ما لم يكن في معصية الله، فمن أمروه أن يدخل في شيء من الأعمال التي وكلها إليهم كالمناصب الدينية ونحوها فليدخل فيه إذا وثق من نفسه القدرة على القيام به، إلى أنه يجب الأخذ على أيدي الظالمين عامة وعلى أئمة الجور والأمراء خاصة ويجب تغيير المنكر أولا باليد فإن لم يستطع ذلك فباللسان، وإلا فبالقلب، وذلك أضعف الإيمان.
روى الإمام أحمد وأصحاب السنن عن أبي بكر أنه قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية - يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم حتى أتى على آخر الآية، ألا وإن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أو شك الله أن يعمهم بعقابه، ألا وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول « إن الناس إذا رأوا المنكر بينهم فلم ينكروه يوشك أن يعمهم الله بعقابه ».
[سورة هود (11): الآيات 114 الى 115]
وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)
تفسير المفردات
طرف الشيء: الطائفة منه والنهاية، فطرفا النهار: الغدو والعشى. وروى عن الحسن وقتادة والضحاك أنهما صلاة الصبح والعصر، والزلف واحدها زلفة وهي الطائفة من أول الليل لقربها من النهار، وقال الحسن: هما زلفتان صلاة المغرب وصلاة العشاء، وذكرى: عبرة وعظة، وللذاكرين: أي المعتبرين المتعظين.
المعنى الجملي
بعد أن أمر رسوله بالاستقامة وعدم تجاوز ما رسمه الدين، وعدم الركون إلى أولى الظلم - أمره هنا بأفضل العبادات وأجلّ الفضائل التي يستعان بها على ما سلف.
الإيضاح
(وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ) أي أدّها على الوجه القويم وأدمها في طرفى النهار من كل يوم، وفى زلف من الليل، ونظير هذه الآية قوله في سورة طه « وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى » والتسبيح عام يشمل الصلاة وغيرها.
والآية الصريحة في أوقات الصلوات الخمس قوله تعالى « فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ » فالمساء ما بين الظهر والمغرب وهو صلاة العصر، وصلاة المغرب العشاء الأولى، وصلاة العتمة العشاء الآخرة التي يزول عندها الشفق وهو آخر أثر لنور النهار.
وخصت الصلاة بالذكر لأنها أس العبادات المغذّية للإيمان والمعينة على سائر الأعمال.
ثم بين فائدة الأمر السابق وحكمته فقال:
(إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) أي إن الأعمال الحسنة تكفر السيئات وتذهب المؤاخذة عنها، لما فيها من تزكية النفس وإصلاحها، فتمحو منها تأثير الأعمال السيئة في النفس وإفسادها لها، والمراد بالحسنات ما يعم الأعمال الصالحة جميعا حتى ما كان منها تركا لسيئة كما قال تعالى « إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا »
وجاء في الحديث الشريف « وأتبع السيئة الحسنة تمحها »
والمراد بالسيئات الصغائر لأن الكبائر لا يكفرها إلا التوبة بدليل ما رواه مسلم « الصلوات الخمس كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر ».
(ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) أي إن فيما ذكر من الوصايا السابقة من الاستقامة والنهي عن الطغيان والركون إلى الذين ظلموا وإقامة الصلاة في تلك الأوقات، لعبرة للمتعظين الذين يراقبون الله ولا ينسونه، وخصهم بالذكر لأنهم هم الذين ينتفعون بها.
(وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) أي ووطّن نفسك على احتمال المشقة في سبيل ما أمرت به، وما نهيت عنه في هذه الوصايا وفى غيرها، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا بل يوفيه ثواب عمله من غير بخس له.
وفي الآية إيماء إلى أن الصبر من باب الإحسان.
[سورة هود (11): الآيات 116 الى 119]
فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)
تفسير المفردات
لولا: كلمة تفيد التحضيض والحث على الفعل، والقرون واحدهم قرن: وهو الجيل من الناس، قيل هو ثمانون سنة، وقيل سبعون، وشاع تقديره بمائة سنة، والبقية: ما يبقى من الشيء بعد ذهاب أكثره، واستعمل كثيرا في الأنفع والأصلح، لأن العادة قد جرت بأن الناس ينفقون أردأ ما عندهم ويستبقون الأجود، ويقال أترفته النعمة أي أبطرته وأفسدته، وكلمة ربك: أي قضاؤه وأمر
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عاقبة الأمم المكذبة لرسلها في الدنيا والآخرة وإنذار قومه ﷺ بهم، وبيّن ما يجب عليه وعلى من آمن به وتاب معه من الاستقامة والصلاح واجتناب أهل الظلم والفساد.
ذكر هنا بيان السنن العامة في إهلاك الأمم الذين قص الله قصصهم وأمثالهم ممن عصوا رسل ربهم بعد أن أنذروهم عقابه، ووعدوهم إذا أطاعوهم ثوابه.
الإيضاح
(فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ) أي فهلا وجد من أولئك الأقوام الذين أهلكناهم بظلمهم وفسادهم في الأرض جماعة أو لو عقل ورأى وصلاح ينهونهم عن الفساد في الأرض باتباع الهوى والشهوات التي تفسد عليهم أنفسهم ومصالحهم، فيحولون بينهم وبين الفساد، ومن سنة الله ألا يهلك قوما إلا إذا عمّ الفساد والظلم أكثرهم.
(إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ) أي ولكن كان هناك قليل من الذين أنجيناهم مع رسلهم منبوذين لا يقبل نهيهم وأمرهم مهددين مع رسلهم بالإبعاد والأذى.
(وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ) أي واتبع الظالمون وهم الأكثرون ما رزقناهم من أسباب الترف والنعيم فبطروا واستكبروا وصدوا عن سبيل الله، وكانوا ذوي جرائم بما ولده الترف والنعيم، فكان هو المسخّر لعقولهم، وبذا رجّحوا ما أتوا على اتباع الرسل.
وخلاصة ذلك - إن العقول السليمة كافية لفهم ما في دعوة الرسل من الخير والصلاح لو لم يمنع استعمال هدايتها الافتتان بالترف والنعيم بدلا من القصد والاعتدال فيه وشكر المنعم عليه، وقد هدت التجارب إلى أن الترف هو الباعث على الفسوق والعصيان والظلم والإجرام، ويظهر ذلك بديئا في الرؤساء والسادة، ومنهم ينتقل إلى الدهماء والعامة فيكون ذلك سببا في الهلاك بالاستئصال، أو في فقد العزة والاستقلال، وتلك هي سنة الله في خلقه كما قال: « وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيرًا ».
ثم بين سبحانه ما يحول بين الأمم وإهلاكها فقال:
(وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) الظلم هو الشرك أي إنه تعالى ليس من سنته أن يهلك القرى بشرك أهلها ماداموا مصلحين في أعمالهم الاجتماعية والعمرانية والمدنية، فلا يبخسون الناس حقوقهم كما فعل قوم شعيب، ولا يبطشون بالناس بطش الجبارين كقوم هود، ولا يذلّون لمتكبر جبار كقوم فرعون ولا يرتكبون الفواحش ويقطعون السبيل ويأتون في ناديهم المنكر كقوم لوط، بل لا بد أن يضموا إلى الشرك الإفساد في الأعمال والأحكام، ويفعلوا الظلم المدمّر للعمران، ومن ثم قالوا: الأمم تبقى مع الكفر ولا تبقى مع الظلم والجور، ويؤيد هذا ما أخرجه الطبراني والديلمي وابن مردويه عن جرير بن عبد الله قال: سمعت رسول الله ﷺ يسأل عن تفسير هذه الآية فقال: « وأهلها ينصف بعضهم بعضا ».
(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) أي ولو شاء ربك أيها الرسول الكريم، الشديد الحرص على إيمان قومك، الحزين من أجل إعراض أكثرهم عن إجابة دعوتك واتباع هديك - لجعل الناس على دين واحد بمقتضى الغريزة والفطرة لا اختيار لهم فيما يفعلون، فكانوا في حياتهم الاجتماعية أشبه بالنمل والنحل، وفى حياتهم الروحية أشبه بالملائكة مفطورين على طاعة الله واعتقاد الحق وعدم الميل إلى الزيغ والجور، لكنه تعالى خلقهم كاسبين لا ملهمين، وعاملين بالاختيار لا مجبورين ولا مضطرين وجعلهم متفاوتين في الاستعداد وكسب العلم، وكانوا في أطوارهم الأولى لا اختلاف بينهم، ثم لما كثرت وتنوعت حاجاتهم وكثرت مطالبهم ظهر فيهم الاستعداد للاختلاف كما قال تعالى: « وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ».
(وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) أي ولا يزالون مختلفين في شئونهم الدنيوية والدينية بحسب استعدادهم الفطري، إلا من رحم الله منهم فإنهم يتفقون على حكم كتابه فيهم وهو الذي عليه مدار جمع كلمة الأمة ووحدتها.
(وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) أي ولمشيئته تعالى فيهم الاختلاف والتفرق في علومهم ومعارفهم وآرائهم، وما يتبع ذلك من الإرادة والاختيار في الأعمال - خلقهم، وبهذا كانوا خلفاء في الأرض، ومن ذلك اختلافهم في الدين والإيمان والطاعة والعصيان، وبذا كانوا مظهر لأسرار خلقه الروحية والجسدية أو المادية والمعنوية، وقال ابن عباس خلقهم فريقين فريقا يرحم فلا يختلف، وفريقا لا يرحم فيختلف، فذلك قوله: « فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ».
والخلاصة - إن الناس فريقان: فريق اتفقوا في الدين فجعلوا كتاب الله حكما بينهم فيما اختلفوا فيه فاجتمعت كلمتهم وكانوا أمة واحدة فرحمهم الله ووقاهم شر الاختلاف في الدنيا وعذاب الآخرة، وفريق اختلفوا في الدين كما اختلفوا في منافع الدنيا فكان بأسهم بينهم شديدا فذاقوا عقاب الاختلاف في الدنيا وأعقبه جزاؤهم في الآخرة، فحرموا من رحمة الله بظلمهم لأنفسهم، لا بظلم منه تعالى لهم.
(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) أي قد سبق في قضائه وقدره وحكمته النافذة أن ممن خلقه من يستحق الجنة، ومنهم من يستحق النار، وأن الجنة والنار لا بد أن يملآ من عالمى الجن والإنس الذين لا يهتدون بما أرسل به رسله وبما أنزل عليهم من كتبه لهداية المكلفين والحكم بين المختلفين.
[سورة هود (11): الآيات 120 الى 123]
وكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
تفسير المفردات
القص: تتبع أثر الشيء للإحاطة به كما قال تعالى: « وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ » والنبأ: الخبر الهام، ونثبت: أي نقوّى ونجعل فؤادك راسخا كالجبل، على مكانتكم: أي على تمكنكم واستطاعتكم.
المعنى الجملي
بعد أن قص عز وجل قصص أشهر الأنبياء مع أممهم الماضين - بين هنا ما لذلك من فائدة لرسوله وللمؤمنين وهي تثبيت الفؤاد والعظة والاعتبار، ثم أمر رسوله بالعبادة والتوكل عليه وعدم المبالاة بعداوة المشركين والكيد له
الإيضاح
(وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ) أي وكل نبأ من أنباء الرسل المتقدمين من قبلك مع أممهم، وما جرى لهم من المحاجات والخصومات، وما احتمله الأنبياء من التكذيب والأذى، وكيف نصر الله حزبه وخذل أعداءه الكافرين، نقصّه عليك على وجهه لفائدتين:
(1) (ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) أي ما به يقوى فؤادك ويكون ثابتا كالجبل لتقوم بأعباء الرسالة ونشر الدعوة، لما لك من الأسوة بإخوانك المرسلين.
(2) (وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) أي وإن في هذه، الأنباء بيان الحق الذي دعا إليه الرسل وهو اعتقاد أنه تعالى واحد مع إخلاص العبادة له وحده والتوبة إليه وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وفيها موعظة وذكرى للذين يتعظون بما حلّ بأولئك الأمم من عقاب، وبيان أن ذلك إنما نالهم بسبب الظلم والفساد.
(وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي وقل للكافرين الذين لا يؤمنون فلا يتعظون: اعملوا على ما في مكنتكم وعلى قدر ما تستطيعون من مقاومة الدعوة وإيذاء الداعي والمستجيبين له.
وفي هذا تهديد ووعيد لهم بما يلقونه من العذاب جزاء ما كسبت أيديهم.
(إِنَّا عامِلُونَ) على مكانتنا وعلى قدر ما نستطيع من الثبات على الدعوة وتنفيذ أمر الله وطاعته.
(وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) أي وانتظروا بنا ما تتمنّونه من انتهاء أمرنا إما بموت أو غيره مما تحدّثون به أنفسكم كما حكى الله عنهم في قوله: « أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ » إنا منتظرون أن ينزل بكم مثل ما نزل بأمثالكم من عقابه تعالى بعذاب من عنده أو بأيدي المؤمنين، وأن يكفل لنا النصر والغلبة وتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، والله عزيز حكيم، وقد أنجز وعده ونصر رسوله وأيده، ونظير الآية قوله تعالى: « فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ».
(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي إنه سبحانه يعلم كل ما هو غائب عن علمك أيها الرسول وعن علمهم، مما هو في السموات والأرض، وهو المالك المتصرف فيه، وهو العالم بكل ما سيقع فيهما والعالم بوقته الذي يقع فيه.
(وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) فأمرك وأمرهم لا محالة راجع إليه، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
(فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) أي وإذا كان أمر كل شيء يرجع إليه فاعبده بإخلاص الدين له وحده، وادع إلى طاعته واتباع أمره بالحكمة والموعظة الحسنة، وتوكل عليه فيما لا يدخل في مكنتك واستطاعتك مما ليس لك سبيل إلى الحصول عليه، إذ لا يدخل تحت كسبك ولا تناله يدك. والتوكل لا يجدى نفعا بغير العبادة والأخذ بالأسباب المستطاعة، وبدون ذلك يكون من التمني الكاذب، والعبادة لا تكمل إلا بالتوكل إذ به يكمل التوحيد والإخلاص له تعالى.
روى أحمد والترمذي وابن ماجه أن النبي ﷺ قال « الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ».
وخلاصة ذلك - امتثل ما أمرت به وداوم على التبليغ والدعوة وتوكل عليه في سائر أمورك ولا تبال بالذين لا يؤمنون ولا يضيق صدرك بهم.
(وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أي وما ربك بغافل عما تعمل أنت أيها النبي ومن اتبعك من المؤمنين من عبادته والتوكل عليه والصبر على أذى المشركين فيوفيكم جزاءكم في الدنيا والآخرة، وعما يعمل المشركون من الكيد لكم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا وسيجزيهم على أعمالهم يوم تجزى كل نفس بما كسبت، وقد صدق الله وعده، ونصر عبده، وأظهر دينه على الدين كله.
ربنا لا تزع قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، وصل ربنا على خير خلقك محمد وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.
بيان بإجمال للمقاصد الدينية التي حوتها هذه السورة
قد اشتملت هذه السورة على ما اشتملت عليه سابقتها من أصول الدين ومبادئه العامة التي لا يكون المؤمن مؤمنا حقا إلا إذا سلك سبيلها ونهج نهجها، ومن ذلك:
(1) التوحيد وهو ضربان:
(ا) توحيد الألوهية - وهو أول ما دعا إليه محمد ﷺ ودعا إليه كل رسول قبله، وهو عبادته تعالى وحده وعدم عبادة أحد معه كما قال: « أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ » فعبادة غيره من الأصنام كحجر وشجر وكوكب أو بشر ولي أو نبي أو شيطان أو ملك إذا توجه العبد إليها توجها تعبديا ابتغاء النفع أو كشف الضر في غير الأسباب التي سخرها الله لجميع الناس - كل ذلك كفر لا فرق بينه وبين عبادة الأصنام أو الأوثان إذ جميع ما عدا الله فهو عبد وملك له لا يتوجّه بالعبادة إليه.
(ب) توحيد الربوبية - أي اعتقاد أن الله وحده هو الخالق المدبر لهذا الكون والمتصرف فيه على مقتضى حكمته ونظام سنته وتسخيره الأسباب لمن شاء بما شاء، وكان أكثر المشركين من العرب ومن قبلهم يؤمنون بأن الرب الخالق المدبر واحد، ولكن يقولون بتعدد الآلهة التي يتقرّب بها إليه توسلا وطلبا للشفاعة عنده.
(2) إثبات رسالته ﷺ بالقرآن بتحديهم بالإتيان بعشر سور مثله
مفتريات ودعوة من استطاعوا من دون الله لمظاهرتهم وإعانتهم على الإتيان بها إن كانوا صادقين، وقوله بعد ذلك: « فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ » وما جاء في قوله: « تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا ».
(3) جاءت آيات البعث والجزاء في القرآن لدعوة المشركين إلى الإيمان والاستدلال بها على قدرة الخالق، ولتذكير المؤمنين به للترغيب والترهيب والموعظة والجزاء كما جاء في قوله: « إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ » وقوله: « وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ».
(4) إهلاك الأمم بالظلم كما جاء في قوله لخاتم رسله: « ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ » وقوله: « وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ».
(5) سنته تعالى في ضلال الناس وغوايتهم - بأن يكونا بارتكاب أسبابهما من الأعمال الاختيارية والإصرار عليها إلى أن تتمكن من صاحبها وتحيط به خطيئته حتى يفقد الاستعداد للهدى والرشاد.
(6) من طباع البشر العجل والاستعجال لما يطلب من النفع والخير وما ينذر به من الشر كما قال: « وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ».
(7) سنته تعالى في تكوين الخلق وأنه كان أطوارا في أزمنة مختلفة بنظام محكم ولم يكن شيء منه فجائيا بلا تقدير ولا ترتيب كما قال تعالى: « وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ » فكلمة الخلق معناها التقدير المحكم الذي تكون فيه الأشياء على مقادير متناسبة ثم أريد بها الإيجاد التقديري فالسموات السبع المرئية للناظرين والأجرام السماوية قائمة بسنن دقيقة النظام، وما فيها من البسائط والمركّبات الغازية والسائلة والجامدة كذلك، والكون في جملته قائم بسنة عامة في ربط بعضه ببعض وحفظ نظامه، بأن يبنى بعضه على بعض وهو ما يسميه العلماء الجاذبية العامة والجاذبية الخاصة.
(8) إن الطغيان والركون إلى الظالمين من أمهات الرذائل كما قال: « وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ».
(9) الاختلاف في طبائع البشر، فيه فوائد ومنافع علمية وعملية وعملية لا تظهر مزاياه بدونها، وفيه مضار وشرور أكبرها التفرق والتعادي به، وقد شرع الله لهم الدين لتكميل فطرتهم والحكم بينهم فيما اختلفوا فيه بكتابه الذي لا مجال فيه للاختلاف، فاستحق الذين يحكّمونه فيما يتنازعون فيه رحمته وثوابه، والذين يختلفون فيه سخطه وعقابه.
(10) اتباع الإتراف وما فيه من الفساد والإجرام - ذلك أن مثار الظلم والإجرام الموجب لهلاك الأمم هو اتباع أكثرها لما أترفوا فيه من أسباب النعيم والشهوات واللذات، والمترفون هم مفسدو الأمم ومهلكوها.
وقد علم هذا المهتدون الأولون بالقرآن من الخلفاء الراشدين والسلف الصالحين فكانوا مثلا صالحا في الاعتدال في المعيشة أو تغليب جانب الخشونة والشدة على الإتراف والنعمة ففتحوا الأمصار وأقاموا دولة عز على التاريخ أن يقيم مثلها باتباع هدى القرآن وبيان السنة له وبذلك خرجوا من ظلمات الجهالة إلى نور العلم والعرفان، ثم أضاعها من خلف من بعدهم من متبعى الإتراف، وكيف ضلّوا بعد أن استفادوا الفنون والعلوم والملك والسلطان، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
(11) إقامة الصلاة في أوقاتها من الليل والنهار، لأن الحسنات يذهبن السيئات، وأعظم الحسنات الروحية الصلاة لما فيها من تطهير النفس وتزكية الروح.
(12) النهي عن الفساد في الأرض، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما سياج الدين والأخلاق والآداب.
(13) سننه تعالى في اختبار البشر لإحسان أعمالهم كما قال: « لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ».
(14) أول أتباع الرسل والمصلحين هم الفقراء كما حكى عن قوم نوح « وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ ».
(15) التنازع بين رجال المال ورجال الإصلاح في حرية الكسب المطلقة أو تقييد الكسب بالحلال ومراعاة الفضيلة.
(16) من سننه تعالى جعل العاقبة للمتقين وذلك هو الأساس الأعظم في فوز الجماعات الدينية والسياسية والأمم والشعوب في مقاصدها وغلبها لخصومها ومناوئيها.
(17) بيان أن الاختلاف في الدين ضرورى للعباد كما قال: « وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ».
(18) بيان أن نهى أولى الأحلام عن الفساد يحفظ الأمة من الهلاك كما قال: « فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ »