→ سورة العنكبوت | تفسير المراغي سورة الروم أحمد مصطفى المراغي |
سورة لقمان ← |
☰ جدول المحتويات
- [سورة الروم (30): الآيات 1 الى 7]
- [سورة الروم (30): الآيات 8 الى 10]
- [سورة الروم (30): الآيات 11 الى 16]
- [سورة الروم (30): الآيات 17 الى 19]
- [سورة الروم (30): الآيات 20 الى 21]
- [سورة الروم (30): الآيات 22 الى 23]
- [سورة الروم (30): الآيات 24 الى 25]
- [سورة الروم (30): الآيات 26 الى 27]
- [سورة الروم (30): الآيات 28 الى 29]
- [سورة الروم (30): الآيات 30 الى 32]
- [سورة الروم (30): الآيات 33 الى 37]
- [سورة الروم (30): الآيات 38 الى 40]
- [سورة الروم (30): الآيات 41 الى 42]
- [سورة الروم (30): الآيات 43 الى 45]
- [سورة الروم (30): آية 46]
- [سورة الروم (30): آية 47]
- [سورة الروم (30): الآيات 48 الى 51]
- [سورة الروم (30): الآيات 52 الى 53]
- [سورة الروم (30): آية 54]
- [سورة الروم (30): الآيات 55 الى 57]
- [سورة الروم (30): الآيات 58 الى 60]
- خلاصة ما احتوت عليه السورة الكريمة من الموضوعات
هي مكية إلا قوله تعالى: « وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ » فمدنية وآيها ستون، نزلت بعد سورة الانشقاق.
ومناسبتها ما قبلها من وجوه:
(1) إن السورة السابقة بدئت بالجهاد وختمت به، فافتتحت بأن الناس لم يخلقوا في الأرض ليناموا على مهاد الراحة، بل خلقوا ليجاهدوا حتى يلاقوا ربهم، وأنهم يلاقون شتى المصاعب من الأهل والأمم التي يكونون فيها، وهذه السورة قد بدئت بما يتضمن نصرة المؤمنين ودفع شماتة أعدائهم المشركين، وهم يجاهدون في الله ولوجهه فكأن هذه متممة لما قبلها من هذه الجهة.
(2) إنّ ما في هذه السورة من الحجج على التوحيد والنظر في الآفاق والأنفس مفصل لما جاء منه مجملا في السورة السالفة، إذ قال في السالفة: « فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ » إلخ، وهنا بيّن ذلك، فقال: « أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ » إلخ، وقال: « اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ».
[سورة الروم (30): الآيات 1 الى 7]
بسم الله الرحمن الرحيم
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظاهِرًا مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7)
تفسير المفردات
الروم: أمة عظيمة من ولد روم بن عيص بن إسحق بن إبراهيم، كذا قال النسابون من العرب، أدنى الأرض: أي أقربها من الروم، والأقربية بالنظر إلى أهل مكة الذين يساق إليهم الحديث، والبضع: ما بين الثلاث إلى العشر، وقال: المبرد ما بين العقدين في جميع الأعداد، ظاهر الحياة الدنيا: هو ما يشاهدونه من زخارفها ولذاتها الموافقة لشهواتهم التي تستدعى انهما كهم فيها وعكوفهم عليها.
المعنى الجملي
روي أن فارس غزوا الروم، فوافوهم بأذرعات وبصرى من أرض الشام فغلبوا عليهم، وبلغ ذلك النبي ﷺ وأصحابه وهو بمكة، فشق ذلك عليهم، من قبل أن الفرس مجوس، والروم أهل كتاب، وفرح المشركون بمكة وشمتوا، ولقوا أصحاب النبي وهم فرحون، وقالوا: إنكم أهل كتاب، والنصارى أهل كتاب، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب، وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرنّ عليكم، فأنزل الله هؤلاء الآيات، فخرج أبو بكر رضي الله عنه إلى المشركين فقال: أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا؟ فلا تفرحوا ولا يقرّن الله أعينكم (لا يسرّنكم) فوالله لتظهرنّ الروم على فارس كما أخبرنا بذلك نبينا ﷺ فقام إليه أبي ابن خلف فقال: كذبت، فقال: أنت أكذب يا عدو الله، اجعل بيننا أجلا أنا حبك عليه (أراهنك) على عشر قلائص مني، وعشر قلائص منك، فإن ظهرت الروم على فارس غرمت، وإن ظهرت فارس غرمت إلى ثلاث سنين، فناحبه، ثم جاء إلى النبي ﷺ فأخبره، فقال عليه السلام: زايده في الخطر وماده في الأجل، فخرج أبو بكر، فلقى أبيا، فقال: لعلك ندمت، فقال: لا، تعال أزايدك في الخطر، وأمادك في الأجل فاجعلها مائة قلوص إلى تسع سنين، قال: قد فعلت، فلما أراد أبو بكر الهجرة طلب منه أبى كفيلا بالخطر إن غلب، فكفل به ابنه عبد الرحمن، فلما أراد أبي الخروج إلى أحد طلبه عبد الرحمن بالكفيل فأعطاه كفيلا، ومات أبي من جرح جرحه إياه النبي ﷺ في الموقعة وظهرت الروم على فارس لما دخلت السنة السابعة، فأخذ أبو بكر الخطر من ورثة أبي وجاء به إلى النبي ﷺ فقال النبي ﷺ: تصدق به
(وقد كان هذا قبل تحريم القمار كما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي، لأن السورة مكية وتحريم الخمر والميسر بالمدينة).
الإيضاح
(الم) تقدم في السورة قبلها ما فيه الكفاية من الكلام في أمثال هذه الحروف في أوائل السور، وقد بينا هناك أنه ينطق بأسمائها فيقال (ألف. لام. ميم).
(غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) أي غلبت فارس الروم في أقرب أرض الروم بالنسبة إلى بلاد العرب، إذ الوقعة كانت بين الأردن وفلسطين، والروم من بعد غلب فارس إياهم سيغلبون فارس في بضع سنين، وقد تحقق ذلك فغلبوهم بعد سبع من الوقعة الأولى.
ولا شك أن وقوعه على نحو ما قال الكتاب الكريم بعد من أكبر الدلائل على إعجازه، وأنه كلام الله العليم بكل شيء لا كلام البشر.
(لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) أي لله الأمر من قبل غلب دولة الروم على فارس ومن بعدها، فمن غلب فهو بأمر الله وقضائه وقدره كما قال: « وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ » فهو يقضى في خلقه بما يشاء ويحكم بما يريد، ويظهر من شاء منهم على من أحب إظهاره عليه.
(وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ) أي ويوم تغلب الروم فارس يفرح المؤمنون بنصر الله وتغليبه من له كتاب على من لا كتاب له، وغيظ من شمتوا من كفار مكة، وأنه سيكون فألا حسنا لغلبة المؤمنين على الكافرين.
ثم أكد قوله « لِلَّهِ الْأَمْرُ » بقوله:
(يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي ينصر من يشاء أن ينصره على عدوه ويغلّبه عليه على مقتضى السنن التي وضعها في الخليقة، وهو المنتقم ممن يستحقون الانتقام بالنصر عليهم، الرحيم بعباده، فلا يعاجلهم بالانتقام على ذنوبهم كما قال: « وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ».
(وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي وعد الله وعدا بظهور الروم على فارس، والله لا يخلف ما وعد، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك لجهلهم بشئونه تعالى وعدم تفكرهم في النواميس والسنن التي وضعها في الكون، فإنه قد جعل من تلك السنن أن وعده لا يخلف إذ هو مبنى على مقدمات ووسائل هو يعلمها، وقد رتب عليها تلك العدة التي وعدها، وجعل قانون الغلب في الأمم والأفراد مبنيا على الاستعداد النفسي والاستعداد الحربي، فلا تغلب أمة أخرى إلا بما أعدت لها من وسائل الظفر بها، وما كان لها من صفات تكفل لها هذا الظفر من أناة وصبر وتضحية بما تملك من عزيز لديها من مال ونفس.
وهكذا حكم الفرد فهو لا ينجح في الحياة إلا إذا كان معه أسلحة يغالب بها عوامل الأيام حتى يغلبها بجدّه وكدّه، فهذه الأمور وأمثالها تحتاج إلى دقة نظر لا يدركها إلا ذوو البصائر.
(يَعْلَمُونَ ظاهِرًا مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) كتدبير معايشهم، وإحسان مساكنهم، وتنمية متاجرهم، وتصرفهم في مزارعهم، على النحو الذي يجعلها تزدهر وتفى بحاجة المجتمع (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) أي وهم غافلون عن أن النفوس لها بقاء بعد الموت وأنها ستلبس ثوبا آخر في حياة أخرى، وستنال إذ ذاك جزاء ما قدمت من خير أو شر، ولو لم تكن النفوس تتوقع هذه الحياة لكانت آلام الدنيا ومتاعبها لا تطاق ولا تجد النفوس لاحتمالها سبيلا، وهي ما قبلت تلك الآلام واحتملتها إلا لأنها توقن بسعادة أخرى وراء ما تقاسى من المناعب في هذه الحياة، ولله در القائل:
ومن البلية أن ترى لك صاحبا في صورة الرجل السميع المبصر
فطن بكل مصيبة في ماله وإذا يصاب بدينه لم يشعر
[سورة الروم (30): الآيات 8 الى 10]
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (10)
المعنى الجملي
لما أنكر المشركون الإله بإنكار وعده، وأنكروا البعث كما قال وهم عن الآخرة هم غافلون - أردف هذا أن الأدلة متظاهرة في الأنفس والآفات على وجوده وتفرده بخلقها، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه، وأنها لم تخلق سدى ولا باطلا، بل خلقت بالحق، وأنها مؤجلة إلى أجل مسمى هو يوم القيامة، ثم أمرهم بالسير في أقطار الأرض ليعلموا حال المكذبين من الأمم قبلهم، وقد كانوا أشد منهم بأسا وقوة، فكذبوا رسلهم فأهلكهم الله وصاروا كأمس الدابر والمثل الغابر، وما كان ذلك إلا بظلمهم وفساد أنفسهم لا بظلم الله لهم.
الإيضاح
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى؟) أي أو لم يتفكر هؤلاء المكذبون بالبعث من قومك في خلق الله لهم ولم يكونوا شيئا، ثم تصريفهم أحوالا وتارات حتى صاروا كاملى الخلق كاملى العقل فيعلموا أن الذي فعل ذلك قادر أن يعيدهم بعد فنائهم خلقا جديدا، ثم يجازى المحسن منهم بإحسانه، والمسيء منهم بإساءته، لا يظلم أحدا منهم فيعاقبه بدون حرم صدر منه، ولا يحرم أحدا منهم جزاء عمله، لأنه العدل الذي لا يجور، فهو ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا بالعدل، وإقامة الحق إلى أجل مؤقت مسمى، فإذا حل الأجل أفنى ذلك كله، وبدل الأرض غير الأرض، وبرزوا للحساب جميعا.
ثم ذكر أن كثيرا من الناس غفلوا عن الآخرة وما فيها من حساب وجزاء فقال:
(وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) لأنهم لم يتفكروا في أنفسهم، ولو تفكروا فيها ودرسوا عجائبها لأيقنوا بلقاء ربهم، وأن معادهم إليه بعد فنائهم.
ثم نبههم لي صدق رسله فيما جاءوا به عنه، بما أيدهم به من المعجزات والدلائل الواضحة، من إهلاك من جحد نبوتهم، ونجاة من صدقهم فقال:
(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها، وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي أو لم يسر هؤلاء المكذبون بالله، الغافلون عن الآخرة، في البلاد التي يسلكونها تجرا، فينظروا إلى آثار الله فيمن كان قبلهم من الأمم المكذبة، كيف كان عاقبة أمرهم في تكذيبهم رسلهم، وقد كانوا أشد منهم قوة، وحرثوا الأرض وعمروها أكثر مما عمر هؤلاء ثم أهلكهم الله بكفرهم وتكذيبهم رسله، وما كان الله بظالم لهم، بعقابه إياهم على تكذيبهم رسله وجحودهم آياته، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون بمعصيتهم ربهم.
والخلاصة - إنه قد كان لكم فيمن قبلكم من الأمم معتبر ومزدجر، فقد كانوا أكثر منكم أموالا وأولادا، ومكّنوا في الدنيا تمكينا لم تبلغوا معشاره، وعمّروا فيها أعمارا طوالا واستغلوها أكثر من استغلالكم، ولما جاءتهم الرسل بالبينات كذبوهم وفرحوا بما أوتوا فأخذوا بذنوبهم ولم تغن عنهم أموالهم شيئا، ولم تحل بينهم وبين بأس الله ثم أكد ما سلف بقوله:
(ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) أي ثم كان العذاب عاقبتهم، أما في الدنيا فلهم البوار والهلاك، وأما في الآخرة فالنار لا يخرجون منها ولا هم يستعتمون، وما ذاك إلا لأن كذبوا بحجج الله وآياته، وهم أنبياؤه ورسله، وسخروا منهم عنتا وكبرا.
[سورة الروم (30): الآيات 11 الى 16]
اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16)
تفسير المفردات
يبلس المجرمون: أي يسكتون وتنقطع حجتهم، الروضة: الأرض ذات النبات والماء ويقال أراض الوادي واستراض إذا كثر ماؤه، وأرض القوم: أرواهم بعض الرّي، يحبرون: يسرون، يقال حبره يحبره (بالضم) حبرا وحبورا: إذا سره سرور لتهلل له وجهه، وظهر فيه أثره، وفى المثل: امتلأت بيوتهم حبرة، فهم ينتظرون العبرة، محضرون: أي مدخلون فيه لا يغيبون عنه.
المعنى الجملي
بعد أن بين أن عاقبة المجرمين النار، وكان ذلك يستلزم الإعادة والحشر لم يتركه دعوى بلا بينة، بل أقام عليه الدليل بأن أبان أن من خلق الخلق بقدرته وإرادته لا يعجز عن رجعته، ثم بين ما يكون حين الرجوع من إفلاس المجرمين وتحقق بأسهم وحيرتهم، إذ لا تنفعهم شركاؤهم، بل هم يكفرون بهم، ثم ذكر أن الناس حينئذ فريقان: فريق في الجنة وفريق في السعير، فالأولون يمتعون بسرور وحبور، والآخرون يصلون النار دأبا لا يغيبون عنها أبدا.
الإيضاح
(اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي الله ينشىء جميع الخلق بقدرته، وهو منفرد بإنشائه من غير شريك ولا ظهير، ثم يعيده خلقا جديدا بعد إفنائه وإعدامه كما بدأه خلقا سويا ولم يك شيئا، ثم إليه يردّون فيحشرون لفصل القضاء بينهم، فيجزى الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى.
ثم بين ما سيحدث في هذا اليوم من الأهوال للأشقياء، والنعيم والحبور للسعداء، فقال:
(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) أي ويوم تجىء الساعة التي فيها يفصل الله بين خلقه بعد نشرهم من قبورهم وحشرهم إلى موقف الحساب - يسكت الذين أشركوا بالله واجترحوا في الدنيا مساوى الأعمال، إذ لا يجدون حجة يدفعون بها عن أنفسهم ما يحل بهم من النكال والوبال.
ولما كان الساكت قد يغنيه غيره عن الكلام نفى ذلك بقوله:
(وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ) أي ولم يكن لهؤلاء المجرمين من شركائهم الذين كانوا يتبعونهم على ما دعوهم إليه من الضلالة - شفعاء يستنقذونهم من عذاب الله، وإذ ذاك يستبين لهم جهلهم وخطؤهم إذ قالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله.
ولما ذكر سبحانه حال الشفعاء معهم ذكر حالهم مع الشفعاء بقوله:
(وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ) أي وجحدوا ولاية الشركاء وتبرءوا منهم كما جاء في آية أخرى: « إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ. وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا ».
ثم بين بعدئذ أن الله يميز الخبيثين من الطيبين فقال:
(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) أي ويوم تجىء الساعة التي يحشر فيها الخلق إلى الله يتفرق أهل الإيمان بالله وأهل الكفر به فأما أهل الإيمان به فيؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة، وأما أهل الكفر فيؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار، قال قتادة: فرقة والله لا اجتماع بعدها.
ثم بين كيف يكون كل من الفريقين فقال:
(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) أي فأما الذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا بما أمرهم الله به وانتهوا عما نهاهم عنه، فهم في رياض الجنات يمرحون، وبألوان الزّهر والسندس الأخضر يتمتعون، ويتلذذون بالسماع والعيش الطيب الهني.
(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) أي وأما الذين جحدوا توحيد الله وكذبوا رسله وأنكروا البعث بعد الممات والنشور للدار الآخرة، فأولئك في عذاب الله محضرون لا يغيبون عنه أبدا.
[سورة الروم (30): الآيات 17 الى 19]
فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19)
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه حالى الفريقين المؤمنين الذين يعملون الصالحات، والكافرين المكذبين بالآيات، وما أعدّ لكل منهما من الثواب والعقاب - أرشد إلى ما يفضى إلى الحال الأولى وينجى من الثانية، وهو تنزيه الله عز وجل عن كل ما لا يليق به، وحمده، والثناء عليه بما هو أهل له من صفات الجلال والكمال.
ولما كان الإنسان حين الإصباح يخرج من حال النوم التي هي أشبه بالموت منها إلى اليقظة، وكأنها حياة بعد موت - أتبع ذلك بذكر الموت والحياة حقيقة.
الإيضاح
(فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) أي نزّهوا الله سبحانه في وقت المساء حين إقبال الليل وظلامه، وحين الصباح حين إسفار النهار بضيائه.
(وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي والله هو المحمود من جميع خلقه في السموات من سكانها من الملائكة، وفى الأرض من أهلها من أصناف خلقه فيها.
(وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) أيونزهوه وقت العشى حين اشتداد الظلام، ووقت الظهيرة حين اشتداد الضياء كما قال: « وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها. وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها »، وقال: « وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى. وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى ».
وتخصيص هذه الأوقات من بين سائرها لما فيها من التبدل الظاهر في أجزاء الزمن، والانتقال من حال إلى أخرى على صورة واضحة، كالانتقال من الضياء إلى الظلام في المساء، ومن الظلام إلى النور في الإصباح، ومن ضياء تام وقت الظهيرة إلى اضمحلال لذلك الضياء وقت العشى، وهكذا.
ثم بين صفات ذلك الإله المستحق للثناء والتقديس، فقال:
(1) (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) فهو القادر على خلق الأشياء المتقابلة بعضها من بعض، فيخرج الإنسان والطائر من النطفة والبيضة، كما يفعل ضد هذا، فيخرج النطفة والبيضة من الإنسان والطائر، وفى هذا دلالة على كمال قدرته، وبديع صنعه، وكون البيضة والنطفة كائن حي لا تعرفه العرب ولا تعترف به.
(2) (وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي ويحيى الأرض بالمطر، فتخرج النبات الغض بعد أن كانت صعيدا جرزا.
ونحو الآية قوله: « وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ » وقوله: « وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ».
(3) (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) أي وكما سهل حركة النائم الساكن بالانتباه، وإنماء الأرض بإنباتها بعد موتها - يسهل عليه إحياء الميت وإخراجه من قبره لفصل القضاء.
[سورة الروم (30): الآيات 20 الى 21]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)
المعنى الجملي
بعد أن أمر سبحانه بتنزيهه عن الأسواء والنقائص التي لا تليق بجلاله وكماله، ذكر أن الحمد له على خلقه جميع الموجودات، وبين قدرته على الإماتة والإحياء بقوله: (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ)، ذكر هنا أدلة باهرة، وحججا ظاهرة على البعث والإعادة، ومنها: خلقكم من التراب الذي لم يشمّ رائحة الحياة، ولا مناسبة بينه وبين ما أنتم عليه في ذاتكم وصفاتكم، ثم إبقاء نوعكم بالتوالد، فإذا مات الأب فام ابنه مقامه، لتبقى سلسلة الحياة متصلة بهذا النوع وبسائر الأنواع الأخرى بالازدواج والتوالد إلى الأجل الذي قدره الله لأمد هذه الحياة.
الإيضاح
(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) أي ومن حججه الدالة على أنه القادر على ما يشاء من إنشاء وإفناء، وإيجاد وإعدام: أن خلقكم من تراب بتغذيتكم إما بلحوم الحيوان وألبانها وأسمانها، وإما من النّبات والحيوان غذاؤه النبات، والنبات من التراب، فإن النواة لا تصير شجرة إلا بالتراب الذي ينضم إليه أجزاء مائية تجعلها صالحا للتغذية، ثم بعد إخراجكم منه إذا أنتم بشر تنتشرون في الأرض. تتصرفون فيها في أغراضكم المختلفة، وأسفاركم البعيدة، تكدحون وتجدّون لتحصيل أرزاقكم من فيض ربكم، وواسع نعمه عليكم.
(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) أي ومن آياته الدالة على البعث والإعادة: أن خلق لكم أزواجا من جنسكم لتأنسوا بها، وجعل بينكم المودة والرحمة لتدوم الحياة المنزلية على أتم نظام.
ونحو الآية قوله: « هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها ».
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي إن فيما سلف من خلقكم من تراب، وخلق أزواجكم من أنفسكم، وإبقاء المودة والرحمة - لعبرة لمن تأمل في تضاعيف تلك الأفعال المبنية على الحكم والمصالح، فهي لم تخلق عبثا، بل خلقت لأغراض شتى، تحتاج إلى الفكر حتى يصل إلى معرفتها ذوو الذّكن والعقل الراجح.
[سورة الروم (30): الآيات 22 الى 23]
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر دلائل وجوده بما ذكره في خلق الإنسان - أعقبه بذكر الدلائل في الأكوان المشاهدة، والعوالم المختلفة، وفى اختلاف ألوان البشر ولغاتهم التي لا حصر لها، مع كونهم من أب واحد وأصل واحد، وفيما يشاهد من سباتهم العميق ليلا، وحركتهم السريعة نهارا، في السعي على الأرزاق، والجدّ والكد فيها.
الإيضاح
(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ومن دلائل وجوده وآيات قدرته: خلقه السموات المزدانة بالكواكب، والنجوم الثوابت والسيارة المرتفعة السموك الواسعة الأرجاء، وخلق الأرض ذات الجبال والوديان، والبحار والقفار، والحيوان والأشجار.
(وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ) أي واختلاف لغاتكم اختلافا لا حدّ له، فمن عربية إلى فرنسية، إلى إنجليزية، إلى هندية، إلى صينية، إلى نحو ذلك مما لا يعلم حصره إلا خالق اللغات، واختلاف أنواعكم وأشكالكم اختلافا به أمكن التمييز بين الأشخاص في الأصوات والألوان، وهذا مما لا غني عنه في منازع الحياة ومختلف أغراضها، فكثيرا ما تميز الأشخاص بالأصوات، وبذا نعرف الصديق من العدو، فنتخذ ما يلزم من العدّة لكل منهما، كما نميزها بلغاتها، فنعرف من أي الأجناس هي.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) أي إن فيما ذكر لدلائل لائحة لأولى العلم الذين يفكرون فيما خلق الله، فيعلمون أنه لم يخلق الخلق عبثا، بل خلقه لحكمة بالغة فيها عبرة لمن تذكر.
(وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي ومن علامات قدرته نومكم بالليل واستقراركم فيه، حتى لا تكون حركة ولا حس، وسعيكم للأرزاق نهارا بمزاولة أسباب المعاش ووسائله.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) أي إن في فعل الله ذلك لعبرا وأدلة لمن يسمعون مواعظه فيتعظون بها، ويفهمون حججه عليهم، على أن صانع ذلك لا يعجزه بعث العالم وإعادته.
[سورة الروم (30): الآيات 24 الى 25]
وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر ما يعرض للأنفس من الأوصاف - ذكر ما يعرض للأكوان والآفاق ونشاهده رأي العين الفينة بعد الفينة، مما فيه العبرة لمن ادّكر، ونظر في العوالم نظرة متأمل معتبر في بدائع الأكوان، ليتوصّل إلى معرفة مدبرها وخالقها الذي أحسن كل شيء خلقه ثم هدى.
الإيضاح
(وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي ومن آياته الدالة على عظيم قدرته أنه يريكم البرق، فتخافون مما فيه من الصواعق، وتطمعون فيما يجلبه من المطر الذي ينزل من السماء، فيحيى الأرض الميتة التي لا زرع فيها ولا شجر.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي إن في ذلك الذي سلف ذكره لبرهانا قاطعا، ودليلا ساطعا، على البعث والنشور، وقيام الساعة، فإن أرضا هامدة لا نبات فيها ولا شجر يجيئها الماء فتهتز وتربو، وتنبت من كل زوج بهيج: لهى المثال الواضح، والدليل اللائح، على قدرة من أحياها على إحياء العالم بعد موته، حين يقوم الناس لرب العالمين.
(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) أي ومن الحجج الدالة على قدرته على ما يشاء قيام السماء والأرض بلا عمد، بل بإقامته وتدبيره فالأرض تجرى، والسحاب يجرى حولها، والهواء تبع لها، وهي والقمر والسيارات يجرين حول الشمس، والشمس ولواحقها يجرين حول كواكب أخرى، لا نعلم عنها إلا هذه الآثار العلمية الضئيلة.
وقصارى ذلك: إلى إمساك هذه العوالم، وإقامتها وتدبيرها وإحكامها من الآيات التي ترشد إلى إله مدبر لها.
(ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) أي ولا يزال الأمر هكذا حتى ينتهى أجل الدنيا، ويختل نظام العالم، فتبدل الأرض غير الأرض، وتدك الجبال دكا، وحينئذ تخرجون من قبوركم سراعا حينما يدعوكم الداعي.
ونحو الآية قوله: « يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا » وقوله: « فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ. فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ » وقوله: « إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً. فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ ».
[سورة الروم (30): الآيات 26 الى 27]
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
المعنى الجملي
بعد أن أقام الأدلة على الوحدانية وهي الأصل الأول، وعلى القدرة على الحشر، وهي الأصل الثاني - أعقب ذلك بهاتين الآيتين وجعلهما كالنتيجة لما سلف.
الإيضاح
(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) أي إن من في السموات والأرض من خلق الله مطيع له فيما أراد به، من حياة أو موت، من سعادة أو شقاء، من حركة أو سكون، إلى أشباه ذلك، وإن عصاه بقوله أو فعله فيما يكسبه باختياره، ويؤثره على غيره.
ثم كرر ذكر البعث والإعادة مرة أخرى لشدة إنكارهم له فقال:
(وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) أي وهو الذي يبدأ الخلق من غير أصل له، فينشئه بعد أن لم يكن شيئا، ثم يفنيه بعد ذلك، ثم يعيده كما بدأه، وذلك أسهل عليه على حسب ما يدور في عقول المخاطبين، من أن من فعل شيئا مرة كانت الإعادة أسهل عليه.
والخلاصة: إن الإعادة أسهل على الله من البدء بالنظر لما يفعله البشر مما يقدرون عليه، فإن إعادة شيء من مادته الأولى أهون عليهم من إيجاده ابتداء والمراد بذلك التقريب لعقول الجهلة المنكرين للبعث، وإلا فكل الممكنات بالنظر إلى قدرته سواء.
وقصارى ذلك: إنه أهون عليه بالإضافة إلى أعمالكم، وبالقياس إلى أقداركم.
روي عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله ﷺ: يقول الله تعالى « كذّبنى ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمنى ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي.
فقوله: لن يعيدنى كما بدأنى، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته، وإما شتمه إياي، فقوله: اتخذ الله ولدا، وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ».
(وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي وله الوصف البديع في السموات والأرض، وهو أنه لا إله إلا هو، ليس كمثله شيء، تعالى عن الشبيه والنظير.
(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي وهو العزيز الذي لا يغالب ولا يغلب، الحكيم في تدبير خلقه، وتصريف شئونه فيما أراد، وفق الحكمة والسّداد.
[سورة الروم (30): الآيات 28 الى 29]
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29)
تفسير المفردات
من أنفسكم: أي منتزعا من أحوال أنفسكم، التي هي أقرب الأمور إليكم وأعرفها عندكم، ملكت أيمانكم: أي مماليككم وعبيدكم، فيما رزقناكم: أي من العقار والمنقول، فأنتم فيه سواء: أي تتصرفون فيه كتصرفكم، تخافونهم: أي تخافون أن يستبدوا بالتصرف فيه، كخيفتكم أنفسكم: أي كما يخاف الأحرار بعضهم من بعض، نفصل الآيات: أي نبيتها بالتمثيل الكاشف للمعاني، فمن يهدى من أضل الله؟: أي لا أحد يهديهم، وما لهم من ناصرين: أي ليس لهم من قدرة الله منقذ ولا مجير.
المعنى الجملي
بعد أن بين القدرة على الإعادة بإقامة الأدلة عليها، ثم ضرب لذلك مثلا أعقب ذلك بذكر المثل على الوحدانية بعد إقامة الدليل عليها.
الإيضاح
(ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ؟) أي بين الله تعالى إثبات وحدانيته بما يكشفها من ذلك المثل المنتزع من أحوال أنفسكم وأطوارها التي هي أقرب الأمور إليكم، وبه يستبين مقدار ما أنتم فيه من الضلال بعبادة الأوثان والأصنام، فتسرعون إلى الإقلاع عن عبادة من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا.
هل أنتم أيها الأحرار تشركون معكم عبيدكم في أموالكم، فيساوونكم في التصرف فيها؟ لا، لا يتصرفون فيها إلا بإذنكم خوفا من لأئمة تلحقهم منكم، كما يخاف بعضكم بعضا، وإذا كنتم لا ترضون بذلك لأنفسكم وأنتم وهم عبيد الله، فكيف ترضون لرب الأرباب أن تجعلوا عبيده شركاء له؟
وهذا مثل ضربه الله للمشركين به، العابدين معه غيره، الجاعلين له شركاء، وهم معترفون بأن شركاءه من الأصنام والأوثان عبيده وملكه، إذ كانوا يقولون في التلبية والدعاء، حين أداء مناسك الحج: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك.
وخلاصة المثل: إن أحدكم يأنف أن يساويه عبيده في التصرف في أمواله، فكيف تجعلون لله الأنداد من خلقه؟.
(كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي ومثل هذا التفصيل البديع بضرب الأمثال الكاشفة للمعاني، المقربة لها إلى العقول، إذ تنقل المعقول إلى المحسوس التي هي به ألصق، ولإداركه أقرب - نفصل حججنا وآياتنا لقوم يستعملون عقولهم في تدبر الأمثال، واستخراج مغازيها ومراميها للوصول إلى الأغراض التي لأجلها ضربت، ولمثلها استعملت، فيستبين الرشد من الغي، والحق من الباطل، ولأمرمّا كثرت الأمثال في جلاء الحقائق، وإيضاح ما أشكل منها على الناظرين.
ثم بين أن المشركين إنما عبدوا غيره، سفها من أنفسهم وجهلا، لا ببرهان قد لاح لهم فقال:
(بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي ولكن الذين ظلموا أنفسهم فكفروا بالله، اتبعوا أهواءهم جهلا منهم لحق الله عليهم، فأشركوا الآلهة والأوثان في عبادته، ولو قلّبوا وجوه الرأي، واستعملوا الفكر والتدبر لربما ردّهم ذلك إلى معرفة الحق، ووصلوا إلى سبيل الرشد، ولكن أنّى لهم ذلك؟
(فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ؟) أي فمن يهدى من خلق الله فيه الضلال، وجعله كاسباله باختياره، لسوء استعداده وميله بالفطرة إليه، وعلم الله فيه ذلك؟
(وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي وليس لهم ناصر ينقذهم من بأس الله وشديد انتقامه إذا حل بهم، لأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
[سورة الروم (30): الآيات 30 الى 32]
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
تفسير المفردات
أقم: من أقام العود وقوّمه إذا عدّله والمراد الإقبال على دين الإسلام والثبات عليه، حنيفا: من الحنف وهو الميل، فهو مائل من الضلالة إلى الاستقامة، والفطرة: هي الحال التي خلق الله الناس عليها من القابلية للحق، والتهيؤ لإدراكه، وخلق الله: هو فطرته المذكورة أوّلا، القيم: أي المستوي الذي لا عوج فيه ولا انحراف، منبين إليه: أي راجعين إليه بالتوبة وإخلاص العمل، من قولهم: ناب نوبة ونوبا إذا رجع مرة بعد أخرى، واتقوه: أي خافوه، فرقوا دينهم: أي اختلفوا فيما يعبدونه على حسب اختلاف أهوائهم، شيعا: أي فرقا تشايع كل فرقة إمامها الذي مهد لها دينها وقرره ووضع أصوله.
المعنى الجملي
بعد أن عدد سبحانه البينات. والأدلة على وحدانيته، وأثبت الحشر وضرب لذلك المثل، وسلى رسوله ووطن عزيمته على اليأس من إيمانهم، لأن الله قد ختم على قلوبهم، فلا مخلص لهم مما هم فيه ولا ينقذهم من ذلك لا هو ولا غيره فلا تذهب نفسك عليهم حسرات - أعقب ذلك بأمره بالاهتمام بنفسه، وعدم المبالاة بأمرهم، وإقامة وجهه لهذا الدين غير ملتفت عنه يمنة ولا يسرة، فهو فطرة الله التي خلق العقول معترفة بها.
الإيضاح
(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا) أي فسدّد وجهك نحو الوجه الذي وجّهك إليه ربك لطاعته، وهو الدين القيم، دين الفطرة، ومل عن الضلال إلى الهدى.
(فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) أي الزموا خلقة الله التي خلق الناس عليها، فقد جعلهم بفطرتهم جانحين للتوحيد وموقنين به، لكونه موافقا لما يهدى إليه العقل، ويرشد إليه صحيح النظر، كما ورد في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم: « كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهوّدانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة جمعاء » (مستوية لم يذهب من بدنها شى ء) « هل تحسون فيها من جدعاء » (مقطوعة الأذن أو الأنف).
ثم علل وجوب الامتثال بقوله:
(لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) أي لا ينبغي أن تبدّل فطرة الله أو تغير، وهذا خبر في معنى النهى كأنه قيل: لا تبدّلوا دين الله بالشرك.
بيان هذا أن العقل الإنساني كصحيفة بيضاء، قابلة لنقش ما يراد أن يكتب فيها، كالأرض تقبل كل ما يغرس فيها، فهي تنبت حنظلا وفاكهة، ودواء وسمّا، والنفس يرد عليها الديانات والمعارف فتقبلها، والخير أغلب عليها من الشر، كما أن أغلب نبات الأرض يصلح للرعى، والقليل منه سمّ لا ينتفع به، ولا تغير بالآراء الفاسدة إلا بمعلم يعلمها ذلك كالأبوين اليهوديين أو النصرانيين، ولو ترك الطفل وشأنه لعرف أن الإله واحد ولم يسقه عقله إلى غير ذلك، فإن البهيمة لا تجدع إلا بمن يجدعها من الخارج، هكذا صحيفة العقل لا تغيّر إلا بمؤثّر خارجى يضلّها بعد علم.
(ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي ذلك الذي أمرتكم به من التوحيد هو الدين الحق الذي لا عوج فيه ولا انحراف.
(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ذلك لعدم تدبرهم في البراهين الواضحة الدالة عليه، ولو علموا ذلك حق العلم لا تبعوه، وما صدوا الناس عن الاقتباس من نوره، وما سدلوا الحجب التي تحجب عنهم ضياءه.
(مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ) أي فأقم وجهك أيها الرسول أنت ومن اتبعك، حنفاء لله منيبين إليه، وخافوه، وراقبوا أن تفرطوا في طاعته، وترتكبوا معصيته.
(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أي وداوموا على إقامتها، فهي عمود الدين، وهي التي تذكّر المؤمن ربه، وتجعله يناجيه في اليوم خمس مرات، وتحول بينه وبين الفحشاء والمنكر، لأنها تعوّد النفس الخضوع والإخبات له، ومراقبته في السر والعلن، كما جاء في الحديث: « اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ».
(وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) به غيره، بل أخلصوا له العبادة ولا تريدوا بها سواه، وحافظوا على امتثال أوامره، واجتناب نواهيه.
ثم بين صفات هؤلاء المشركين بقوله:
(مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعًا) أي من المشركين الذين بدلوا دين الفطرة وغيّروه، وكانوا في ذلك فرقا مختلفة كلها جانبت الحق، وركنت إلى الباطل، كاليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأوثان، وسائر الأديان الباطلة.
والخلاصة: إن أهل الأديان قبلنا اختلفوا فيما بينهم على مذاهب ونحل باطلة، كل منها تزعم أنها على شيء.
(كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) أي كل طائفة من هؤلاء الذين فارقوا دينهم الحق، وأحدثوا من البدع ما أحدثوا - فرحون بما هم به مستمسكون، ويحسبون أن الصواب لا يعدوهم إلى غيرهم من النحل والمذاهب الأخرى.
[سورة الروم (30): الآيات 33 الى 37]
وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)
المعنى الجملي
لما أرشد سبحانه إلى التوحيد، وأقام الأدلة عليه، وضرب له المثل أعقبه بذكر حال للمشركين يعرفون بها، وسيماء لا ينكرونها، وهي أنهم حين الشدّة يتضرعون إلى ربهم، وينيبون إليه، فإذا خلصوا منها رجعوا إلى شنشنتهم الأولى، وأشركوا به الأوثان والأصنام، فليضلوا ما شاءوا، فإن لهم يوما يرجعون فيه إلى ربهم، فيحاسبهم على ما اجترحوا من السيئات، وليتهم اتبعوا ذلك عن دليل، حتى يكون لهم شبه العذر فيما يفعلون، بل هو الهوى المطاع، والرأي المتّبع، ثم ذكر حال طائفة من المشركين دون سابقيهم، وهم من تكون عبادتهم لله رهن إصابتهم من الدنيا، فإن آتاهم ربهم منها رضوا، وإذا منعوا منها سخطوا وقنطوا، وقد كان عليهم أن يعلموا أن بسط النعمة وإقتارها بيده وحده، وقد جعل لذلك أسبابا متى سلكها فاعلها وصل إلى ما يريد، وليس علينا إلا أن تطمئن نفوسنا إلى ما يكون، فكله بقدر الله وقضائه، وعلينا أن نستسلم له، ونعمل ما طلب إلينا عمله من الأخذ من الأسباب والجد في العمل جهد الطاقة.
الإيضاح
(وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) أي وإذا مس هؤلاء المشركين الذين يجعلون مع الله إلها آخر - ضرّ فأصابهم جدب وقحط أخلصوا لربهم التوحيد، وأفردوه بالتضرع إليه واستغاثوا به منيبين إليه، تائبين إليه من شركهم وكفرهم.
(ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) أي ثم إذا كشف ربهم عنهم ذلك الضر وفرجه عنهم، وأصابهم برخاء وخصب وسعة، إذا جماعة منهم يشركون به فيعبدون معه الآلهة والأوثان.
والخلاصة: إنهم حين الضرر يدعون الله وحده لا شريك له، وإذا أسبغ عليهم نعمه إذا فريق منهم يشركون به سواه، ويعبدون معه غيره.
ثم أمرهم أمر تهديد كما يقول السيد لعبده متوعدا إذا رآه قد خالف أمره: اعصني ما شئت، قال:
(لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) أي فليجحدوا نعمى عليهم وإحساني إليهم كيف شاءوا، فإن لهم يوما نحاسبهم فيه، يوم يؤخذون بالنواصي، ويجرّون بالسلاسل والأغلال، ويقال لهم: ذوقوا ما كنتم تعملون.
ومثله الأمر بعده وهو:
(فَتَمَتَّعُوا) أي فتمتعوا بما آتيناكم من الرخاء، وسعة النعمة في الدنيا، فما هي إلا أو يقات قصيرة تمضى كلمح البصر.
ثم هددهم أشد التهديد بقوله:
(فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) إذا وردتم علي ما يصيبكم من شديد عذابى، وعظيم عقابي، على كفركم بي في الدنيا.
روي عن بعض السلف أنه قال: والله لو توعدنى حارس درب لخفت فيه، فكيف والمتوعّد هو الله الذي يقول للشىء كن فيكون؟.
ثم أنكر على المشركين ما اختلقوه من عبادة غيره بلا دليل، فقال:
(أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) أي أأنزلنا على هؤلاء الذين يشركون في عبادتنا الآلهة والأوثان كتابا فيه تصديق لما يقولون، وإرشاد إلى حقيقة ما يدّعون.
وإجمال القصد: إنه لم ينزّل بما يقولون كتابا ولا أرسل به رسولا، وإنما هو شيء افتعلوه اتباعا لأهوائهم.
ثم ذكر طبيعة الإنسان وجبلّته إلا من عصمه الله فقال:
(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) أيإن الإنسان قد ركّب في طبيعته الفرح والبطر حين تصيبه النعمة، كما حكى الله عنه: « لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ » وإذا أصابته شدة بجهله بسنن الحياة، وعصيانه أوامر الدين، قنط من رحمة الله وأيس منها، فهو كما قيل:
كحمار السوء إن أعلفته رمح الناس وإن جاع نهق
« إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ » فإنهم راضون بما قسمه لهم ربهم من خير أو شر، علما منهم أن الله حكيم، لا يفعل إلا ما فيه خير للعبد، وفى الحديث الصحيح: « عجبا للمؤمن لا يقضى الله له قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له ».
ثم أنكر عليهم ما يلحقهم من اليأس والقنوط لدى الضراء، فقال:
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ؟) أي ألم يشاهدوا ويعلموا أن الأمرين من الله، فما بالهم لم يشكروا في السراء، ويحتسبوا في الضراء، كما يفعل المؤمنون، فإن من فطر هذا العالم لا ينزل الشدة بعباده إلا لما لهم فيها من الخير كالتأديب والتذكير والامتحان، فهو كما يربى عباده بالرحمة يربيهم بالتعذيب فلو أنهم شكروه حين السراء، وتضرعوا إليه في الضراء، لكان خيرا لهم.
والخلاصة: إنه يجب عليهم أن ينيبوا إليه في الرخاء والشدة، ولا يعوقهم عن الإنابة إليه نعمة تبطرهم، ولا شدة تحدث في قلوبهم اليأس، بل يكونون في السراء والضراء منيبين إليه.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي إن في ذلك البسط على من بسط له والقدر على من قدر عليه - لدلالة واضحة لمن صدّق بحجج الله إذا عاينها.
[سورة الروم (30): الآيات 38 الى 40]
فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)
تفسير المفردات
حقه: هو صلة الرحم والبرّ به، والمسكين: هو المعدم الذي لا مال له، وابن السبيل: هو المسافر الذي احتاج إلى مال وعزّ عليه إحضاره من بلده، ووسائل المواصلات الحديثة الآن تدفع مثل هذه الحاجة، ربا: أي زيادة، والمراد بها الهدية التي يتوقع بها مزيد مكافأة، فلا يربو عند الله: أي فلا يبارك فيه، والمراد بالزكاة الصدقة، المضعفون: أي الذين يضاعف الله لهم الثواب والجزاء.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أنه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر - أردف ذلك ببيان أنه يحبّ الإحسان على ذوي القربى وذوي الحاجات من المساكين وأبناء السبيل، فإنه إذا بسط الرزق لم ينقصه الإنفاق، وإذا قدر لم يزده الإمساك:
إذا جادت الدنيا عليك فجدبها على الناس طرّا إنها تتقلّب
فلا الجود يفنيها إذا هي أقبلت ولا البخل يبقيها إذا هي تذهب
الإيضاح
(فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) أي أعط أيها الرسول ومن تبعك من المؤمنين: الأقارب الفقراء جزءا من مالك صلة للرحم، وبرا بهم لأنهم أحق الناس بالشفقة ومن ثم حكي عن أبي حنيفة أنه استدل بهذه الآية على وجوب النفقة على كل ذي رحم محرم ذكرا كان أو أنثى إذا كان فقيرا عاجزا عن الكسب.
وكذا المسكين الذي لا مال له إذا وقع في ورطة الحاجة، فيجب على من عنده مقدرة دفع حاجته، وسدّ عوزه.
ومثله المسافر البعيد عن ماله، الذي لا يستطيع إحضار شيء منه لانقطاع السبل به فيجب مساعدته بما يدفع خصاصته، حتى يصل إلى مأمنه، وسرعة طرق المواصلات الآن تدفع هذه الضرورة.
(ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي ذلك الإعطاء لمن تقدم ذكرهم، من فعل الخير الذي يتقبّله الله، ويرضى عن فاعليه، ويعطيهم جزيل الثواب، وأولئك قد ربحوا في صفقتهم، فأعطوا ما يفنى، وحصلوا على ما يبقى، من النعيم المقيم، والخير العميم.
وإنما كان هذا العمل خيرا، لما فيه من تكافل الأسرة الخاصة، وتعاونها في السراء والضراء، وتعاون الأسرة العامة، وهي الأمة الإسلامية جمعاء، كما جاء في الحديث: « المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا ».
ولا يخفى ما لذلك من أثر في تولد المحبة والمودة، وفى التكاتف لدفع عوادى الأيام، ومحن الزمان.
(وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ) أي ومن أهدى هدية يريد أن تردّ بأكثر منها، فلا ثواب له عند الله، وقد حرم الله ذلك على رسوله ﷺ على الخصوص، كما قال تعالى: « وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ » أي ولا تعط العطاء تريد أكثر منه.
روي عن ابن عباس أنه قال: الربا ربوان: ربا لا يصح وهو ربا البيع، وربا لا بأس به، وهو هدية الرجل يريد فضلها وإضعافها، ثم تلا هذه الآية.
وقال عكرمة: الربا ربوان: ربا حلال، وربا حرام فأما الربا الحلال: فهو الذي يهدى، يلتمس ما هو أفضل منه وعن الضحاك في هذه الآية: هو الربا الحلال الذي يهدى، ليثاب ما هو أفضل منه، لا له ولا عليه، ليس له أجر وليس عليه فيه إثم.
(وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) أي ومن أعطوا صدقة يبتغون بها وجه الله تعالى خالصا، فأولئك من الذين يضاعف لهم الثواب والجزاء، كما قال تعالى: « مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافًا كَثِيرَةً؟ ».
وجاء في الصحيح أن النبي ﷺ قال: « وما تصدّق أحد بعدل تمرة من كسب طيب إلا أخذها الرحمن بيمينه فيربيها لصاحبها كما يربّى أحدكم فلوّه أو فصيله حتى تصير التمرة أعظم من أحد (جبل) ».
ولما بين أنه لا زيادة إلا فيما يزيده، ولا خير إلا فيما يختاره أكد ذلك بقوله:
(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) أي الله الذي لا تصح العبادة إلا له، ولا ينبغي أن تكون لغيره، هو الذي خلقكم ولم تكونوا شيئا، ثم رزقكم ما به تقوم شئونكم في هذه الحياة، ثم يقبض أرواحكم في الدنيا، ثم يحييكم يوم القيامة للبعث.
ثم وبخ هؤلاء المشركين الذين يعبدون الآلهة والأصنام التي لا تخلق ولا ترزق ولا تحيى ولا تميت بقوله:
(هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ؟) أي هل من آلهتكم وأوثانكم الذين جعلتموهم شركاء لي في العبادة من يخلق أو يرزق أو ينشر الميت يوم القيامة؟.
وإجمال المعنى: إن شركاءكم لا يفعلون شيئا من ذلك، فكيف يعبدون من دون الله؟.
ثم برأ سبحانه نفسه من هذه الفرية التي افتروها، فقال:
(سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تنزه عن الشريك، فهو الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد.
[سورة الروم (30): الآيات 41 الى 42]
ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)
تفسير المفردات
البر: الفيافي والقفار، ومواضع القبائل، والبحر: المدن، والعرب تسمى الأمصار بحارا لسعتها كما قال سعد بن عبادة في عبد الله بن أبي بن سلول: ولقد أجمع أهل هذه البحيرة (المدينة) ليتوّجوه.
وقال ابن عباس: البر ما كان من المدن والقرى على غير نهر، والبحر ما كان على شط نهر.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن المشركين عبدوا مع الله سواه، وأشركوا به غيره، والشرك سبب الفساد، كما يرشد إلى ذلك قوله: « لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا » - أعقب ذلك ببيان أن الناس قد انتهكوا حرمات الله، واجترحوا المعاصي، وفشا بينهم الظلم والطمع، وأكل القوى مال الضعيف، فصب عليهم ربهم سوط عذابه، فكثرت الحروب، وافتنّ الناس في أدوات التدمير والإهلاك، فمن غائصات البحار تهلك السفن الماخرة فيها، إلى طائرات قاذفات للحمم والموادّ المحرقة، إلى مدافع تحصد الناس حصدا، إلى دبابات سميكة الدروع تهدّ المدن هدا وما الحرب القائمة الآن إلا مثال الوحشية الإنسانية، والمجازر البشرية التي سلط الله فيها العالم بعضه على بعض، فارتكب المظالم، واجترح المآثم، والإنسان في كل عصر هو الإنسان.
وكما أهلك الله الكافرين قبلهم بكفرهم وظلمهم، يهلك الناس بشؤم معاصيهم وفسادهم، فليجعلوا من سبقهم مثلا لهم، ليتذكروا عقاب الله وشديد عذابه للمكذبين.
الإيضاح
(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي ظهر الفساد في العالم بالحروب والغارات، والجيوش والطائرات، والسفن الحربية والغواصات، بما كسبت أيدي الناس من الظلم وكثره المطامع، وانتهاك الحرمات، وعدم مراقبة الخلاق، وطرح الأديان وراء ظهورهم، ونسيان يوم الحساب، وأطلقت النفوس من عقالها، وعاثت في الأرض فسادا، إذ لا رقيب من وازع نفسي، ولا حسيب من دين يدفع عاديتها، ويمنع أذاها، فأذاقهم الله جزاء بعض ما عملوا من المعاصي والآثام، لعلهم يرجعون عن غيهم، ويثوبون إلى رشدهم، ويتذكرون أن هناك يوما يحاسب الناس فيه على أعمالهم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فيخيّم العدل على المجتمع البشرى، ويشفق القوي على الضعيف، ويكون الناس سواسية في المرافق العامة، وحاج المجتمع بقدر الطاقة البشرية.
وبعد أن بين أن ظهور الفساد كان نتيجة أفعالهم أرشدهم إلى أن من كان قبلهم وكانت أفعالهم كأفعالهم، أصابهم بعذاب من عنده، وصاروا مثلا لمن بعدهم وعبرة لمن خلفهم، قال:
(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ؟) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين من قومك: سيروا في البلاد فانظروا إلى مساكن الذين كفروا بالله من قبلكم وكذبوا رسله، كيف أهلكناهم بعذاب منا، وجعلناهم عبرة لمن بعدهم؟.
ثم بين سبب ما حاق بهم من العذاب، فقال:
(كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) فما حل بهم من العذاب كان جزاء وفاقا لكفرهم بآيات ربهم، وتكذيبهم رسله.
[سورة الروم (30): الآيات 43 الى 45]
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (45)
تفسير المفردات
لا مرد له: أي لا يقدر أحد أن يردّه، يصّدّعون: أي يتصدعون ويتفرقون، كما قال متمّم بن نويرة من قصيدة يرثى بها أخاه مالكا:
وكنا كندماني جذيمة حقبة من الدهر حتى قيل لن نتصدعا [1]
فأصبحنا كأني ومالكا لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
يمهدون: من مهد فراشه إذا وطّأه حتى لا يصيبه ما ينغّص عليه مرقده من بعض ما يؤذيه، وتمهيد الأمور تسويتها وإصلاحها، وتمهيد العذر بسطه وقبوله، لا يحب الكافرين: أي إنه يبغضهم، وسيعاقبهم على ما فعلوا.
المعنى الجملي
بعد أن نهى الكافر عن بقائه على حاله التي هو عليها خيفة أن يحل به سوء العذاب - أردف ذلك أمر رسوله ومن تبعه بالثبات على ما هم عليه، بعبادتهم الواحد الأحد، قبل أن يأتي يوم الحساب، الذي يتفرق فيه العباد، فريق في الجنة، وفريق في السعير، فمن كفر فعليه وبال كفره، ومن عمل صالحا فقد أعد لنفسه مهادا يستريح عليه بما قدم من صالح العمل، وسينال من فضل ربه وثوابه ورضاه عنه ما لا يخطر له ببال، ولا يدور له في حسبان.
والكافر سيلقى في هذا اليوم العذاب والنكال، لأن ربه يبغضه ويمقته جزاء ما دسّى به نفسه من سيئ العمل.
الإيضاح
(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ) أي فاسلك أيها الرسول الكريم الطريق الذي رسمه لك ربك بطاعته، واتباع نهجه القويم، الذي لا عوج فيه ولا أمت، من قبل أن يجىء ذلك اليوم الذي لا راد له، وهو يوم الحساب الذي كتب الله مجيئه وقدّره، وما قدّر لا بد أن يكون.
ثم ذكر حال الناس يومئذ، فقال:
(يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) أي يومئذ يتفرق الناس بحسب أعمالهم، فريق في الجنة يؤتى ثمرة عمله، وفريق يزجى إلى النار بما اجترح من الآثام، وبما ران على قلبه مما كسبت يداه.
ثم بين أن ما ناله كل منهما من الجزاء كان نتيجة حتمية لعمله فقال:
(مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) أي من كفر بالله، ودسّى نفسه بما عمل من السيئات، واجترح من الآثام، فعليه وحده أوزار جحوده وكفره بنعم ربه، ومن عمل الصالحات، وأطاع الله فيما به أمر، وعنه نهى، فقد أعدّ لنفسه العدّة، ووطأ لنفسه الفراش حتى لا يقضّ عليه مضجعه، ويقع في عذاب السعير.
ثم بين العلة في تفرقهم، فقال:
(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ) أي إنهم يتفرقون ليجازى المؤمنين بالحسنى من فضله، فيكافئ الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى ما شاء الله من المنح والعطايا.
وذكر جزاء الكافرين بما يدل عليه قوله:
(إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) أي إنه يبغضهم، وذلك يستدعى عقابهم، ولا يخفى ما في ذلك من تهديد ووعيد.
[سورة الروم (30): آية 46]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)
المعنى الجملي
لما ذكر سبحانه أن الفساد ظهر في البر والبحر بسبب الشرك والمعاصي، نبههم إلى دلائل وحدانيته بما يشاهدونه أمامهم من إرسال الرياح وبالأمطار، فتحيا بها الأرض بعد موتها وجرى الفلك حاملة لما هم في حاجة إليه، مما فيه غذاؤهم، وعليه مدار حياتهم.
الإيضاح
(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي ومن الأدلة على وحدانيته تعالى، والحجج القائمة على أنه رب كل شيء، أنه يرسل الرياح من حين إلى آخر مبشرات بالغيث الذي به تحيا الأرض وينبت الثمر والزرع، فتأكلون منه مالذ وطاب، وتعيشون أنتم ودوابكم وأنعامكم فضلا من ربكم، وتجرى السفن ما خرة للبحار، حاملة للأقوات وأنواع الثمار، متنقلة من قطر إلى قطر، فتأتى بما في أقصى المعمور من الشرق إلى أقصاه في الغرب، والعكس بالعكس، فلا تحتجن الثمرات والأقوات في أماكنها، وتكون وقفا على قوم بأعيانهم.
(وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي وليعدّكم لشكره كفاء ما أسدى إليكم من نعمه الوفيرة، وخيراته العميمة التي لا تحصى، كما قال: « وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها ».
[سورة الروم (30): آية 47]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
المعنى الجملي
لما ذكر سبحانه البراهين الساطعة الدالة على الوحدانية والبعث والنشور، ولم يرعو بها المشركون، بل لجّوا في طغيانهم يعمهون، سلى رسوله ﷺ، فذكر له أنك لست أول من كذّب، فكثير ممن قبلك جاءوا أقوامهم بالبينات، فلم تغنهم الآيات والنذر، فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر، ونصرنا رسلنا ومن آمن بهم، فلا تبتئس بما كانوا يعملون، ولنجرينّ عليك وعلى قومك سنننا، ولننتقمنّ منهم، ولننصرنّك عليهم، فالعاقبة للمتقين.
الإيضاح
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) أي ولقد أرسلنا أيها الرسول رسلا من قبلك إلى أقوامهم الكافرين، كما أرسلناك إلى قومك عابدي الأوثان من دون الله، فجاءوهم بالحجج الواضحة على أنهم من عند الله، فكذبوهم كما كذبك قومك، وردّوا عليهم ما جاءوهم به من عنده، كما ردوا عليك ما جئتهم به، فانتقمنا من الذين اجترحوا الآثام، واكتسبوا السيئات من أقوامهم، ونجينا الذين آمنوا بالله وصدقوا رسله، ونحن فاعلوا ذلك بمجرمى قومك، وبمن آمن بك، سنة الله التي شرعها لعباده، ولن تجد لسنة الله تبديلا.
وهذا إخبار من الله سبحانه بأن نصره لعباده المؤمنين حق عليه، وهو لا يخلف الميعاد.
أخرج الطبراني وابن أبي حاتم وابن مردويه والترمذي عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « ما من مسلم يردّ عن عرض أخيه إلا كان حقا على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة » ثم تلا: وكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ »: ولا يخفى ما في هذا من الوعد والبشارة بالظفر على أعدائه، والوعيد والنكال، والخسران في المآل، لمن كذب به من قومه.
[سورة الروم (30): الآيات 48 الى 51]
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)
تفسير المفردات
تثير: أي تحرك، يبسط: أي ينشر، في السماء: أي في سمتها وجهتها، كسفا: أي قطعا، والودق: المطر، خلاله: واحدها خلل، وهو الفرجة بين الشيئين، لمبلسين: أي لآيسين.
المعنى الجملي
عود على بدء، بعد أن سلى رسوله ﷺ على ما يلاقيه من أذى قومه ببيان أنه ليس ببدع في الرسل، فكائن من رسول قبله قد كذّب، ثم دالت الدّولة على المكذبين، ونصر الله رسوله والمؤمنين، أعاد الكرة مرة أخرى، فأتبع البرهان بالبرهان لإثبات الوحدانية، وإمكان البعث والنشور بما يشاهد من الأدلة في الآفاق، مرشدة إلى قدرته، وعظيم رحمته، ثم بما يرى في الأرض الموات من إحيائها بالمطر، وهو دليل لائح يشاهدونه، ولا يغيب عنهم الحين بعد الحين، والفينة بعد الفينة، أفليس فيه حجة لمن اعتبر ومقنع لمن ادّكر؟.
الإيضاح
(اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) أي الله الذي يرسل الرياح فتنشئ سحابا فينشره ويجمعه جهة السماء، تارة سائرا، وأخرى واقفا، وحينا قطعا، فترى المطر يخرج من وسطه، فإذا أصاب به بعض عباده فرحوا به لحاجتهم إليه.
(وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ) أي وقد كانوا من قبل أن ينزل عليهم قانطين يائسين من نزوله، فلما جاءهم على فاقة وحاجة وقع منهم موقعا عظيما.
والخلاصة: إنهم كانوا محتاجين إليه قبل نزوله، ومن قبل ذلك أيضا، إذ هم ترقّبوه في إبّانه فتأخر، ثم مضت فترة فترقبوه فيها فتأخر، ثم جاء بغتة بعد اليأس والقنوط، وبعد أن كانت أرضهم هامدة أصبحت وقد اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي فانظر أيها الرسول أثر الغيث الذي أنبت به ما أنبت من الزرع والأشجار والثمار، وفيه الدليل الكافي على عظيم القدرة وواسع الرحمة.
وإذ قد ثبتت قدرته على إحياء الميت من الأرض بالغيث ثبتت قدرته على إحياء الأجسام بعد موتها وتفرقها وتمزقها إربا إربا، ومن ثم قال:
(إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى) أي إن ذلك الذي قدر على إحياء الأرض قادر على إحياء الأجسام حين البعث.
ثم أكد هذا بقوله:
(وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فلا يعجزه شيء، فإحياؤكم من قبوركم هيّن عليه، ونحو الآية قوله: « قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها. أَوَّلَ مَرَّةٍ ».
ثم ذمهم على تزلزلهم وسوء اضطرابهم، فإذا أصابهم الخير فرحوا به، وإن أصابهم السوء يئسوا وأبلسوا، وانقطع رجاؤهم من الخير، فقال:
(وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ) أي ولئن أرسلنا ريحا حارة أو باردة على الزرع الذي زرعوه وبما واستوى على سوقه، فرأوه قد اصفر بعد خضرته ونضرته - لظلّوا من بعد ذلك الاستبشار والرجاء يجحدون نعم الله السابقة عليهم.
ولا يخفى ما في ذلك من المبالغة في احتقارهم لتزلزلهم في عقيدتهم، إذ كان الواجب عليهم أن يتوكلوا على الله في كل حال، ويلجئوا إليه بالاستغفار إذا احتبس عنهم المطر، ولا يبأسوا من روح الله، ويبادروا إلى الشكر بالطاعة إذا أصابهم جل وعلا برحمته، وأن يصبروا على بلائه إذا اعترى زرعهم آفة ولا يكفروا بنعمائه، لكنهم قد عكسوا الأمر، وأبوا ما يجديهم، وأتوا بما يؤذيهم.
[سورة الروم (30): الآيات 52 الى 53]
فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه صنوف الأدلة، ثم ضرب المثل على توحيده ووجوب إرسال الرسل مبشرين ومنذرين، وصحة بعث الأجسام يوم القيامة، ووعد وأوعد بما لم يبق بعده مستزاد لمستزيد، ثم ما زادهم دعاء الرسول إلا إعراضا، ولا تكرار النصح إلا إصرارا وعنادا - أردف هذا تسليته على ما يراه من التمادي في الإعراض، وكثرة العناد واللجاج، فأبان أن هؤلاء كأنهم موتى، فأنّى لك أن تسمعهم، وكأنهم صمّ، فكيف يسمعون دعاءك حتى يستجيبوا لك؟ إنما الذي يستجيب من يؤمن بآيات الله، فهو إذا سمع كتابه تدبره وفهمه، فيخضع لك بطاعته، ويتذلل لمواعظ كتابه.
الإيضاح
(فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) أي إنك لا تقدر أن تفهم هؤلاء المشركين الذين قد ختم الله على أسماعهم، فسلبهم فهم ما يتلى عليهم من مواعظ تنزيله كما لا تقدر أن تفهم الموتى الذين سلبوا أسماعهم بأن تجعل لهم أسماعا، ولا تقدر أن تهدى من تصامّوا عن فهم آيات كتابه فتجعلهم يسمعونها ويفهمونها كما لا تقدر أن تسمع الصم - الدعاء إذا ولّوا عنك مدبرين.
ثم بين أن الهداية والضلالة بيده لا بيد الرسول، فقال:
(وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) أي ليس في طوقك أن تهدى من أضله الله، فتردّه عن ضلالته، بل ذلك إليه وحده، فإنه يهدى من يشاء، ويضل من يشاء، وليس ذلك لأحد سواه.
والخلاصة: إن هذا ليس من عملك، ولا بعثت لأجله.
ثم أكد ما سلف بقوله:
(إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) أي لا تسمع السماع الذي ينتفع به سامعه فيتّبعه، إلا من يؤمن بآياتنا، لأنه هو الذي إذا سمع كتاب الله تدبره وفهمه، وعمل بما فيه، وانتهى إلى حدوده التي حدها، فهو مستسلم خاضع له، مطيع لأوامره، تارك لنواهيه.
[سورة الروم (30): آية 54]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر دلائل الآفاق على وحدانيته أردفها دلائل الأنفس، فذكر خلق الأنفس، في أطوارها المختلفة من ضعف إلى قوة، ثم انتكاسها وتغيير حالها من قوة إلى ضعف، ثم إلى شيخوخة وهرم. وبين أنه العليم بها في مختلف أحوالها، القدير على تغييرها واختلاف أشكالها.
الإيضاح
(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً) يقول سبحانه محتجا على المشركين المنكرين للبعث: إن الذي خلقكم من نطفة وماء مهين، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة، ثم جعل لكم قوة على التصرف من بعد ضعف الصغر والطفولة، ثم أحدث لكم الضعف بالهرم والكبر، بعد أن كنتم أقوياء في شبابكم - قادر أن يعيدكم مرة أخرى بعد البلى، وبعد أن تكونوا عظاما نخرة.
والخلاصة: إن تنقل الإنسان في أطوار الخلق حالا بعد حال من ضعف إلى قوة، ثم من قوة إلى ضعف - دليل على قدرة الخالق الفعّال لما يشاء، الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يعجزه أن يعيدكم كرّة أخرى.
(يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) أي يخلق ما يشاء من ضعف وقوة، وشباب وشيب وهو العليم بتدبير خلقه، القدير على ما يشاء، لا يمتنع عليه شيء أراده، وهو كما يفعل هذا قادر على أن يميت خلقه ويحييهم إذا شاء:
[سورة الروم (30): الآيات 55 الى 57]
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)
تفسير المفردات
الساعة الأولى: يوم القيامة سميت بذلك لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات لدنيا، ما لبثوا: أي ما أقاموا بعد الموت، غير ساعة: أي غير قطعة قليلة من الزمان، يؤفكون: أي يصرفون عن الحق، المعذرة: العذر، يستعتبون: أي يطلب منهم إزالة عتب الله وغضبه عليهم بالتوبة والطاعة، فقد حق عليهم العذاب، يقال: استعتبني فلان فأعتبته: أي استرضاني فأرضيته.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف بدء النشأة الأولى، وذكر الإعادة والبعث، وأقام عليه الأدلة في شتى السور وضرب له الأمثال - أردف ذلك ذكر أحوال البعث وما يجرى فيه من الأفعال والأقوال من الأشقياء والسعداء ليكون في ذلك عبرة لمن يدّكر.
الإيضاح
(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) أي ويوم تجئ ساعة البعث، فيبعث الله الخلق من قبورهم، يقسم المجرمون الذين كانوا يكفرون بالله في الدنيا، ويكتسبون فيها الآثام، إنهم ما أقاموا في قبورهم إلا قليلا من الزمان، وهذا استقلال منهم لمدة لبثهم في البرزخ على طولها، وهم قد صرفوا في الآخرة عن معرفة مدة مكثهم في ذلك الحين.
(كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) أي كذبوا في قولهم ما لبثنا غير ساعة، كما كانوا في الدنيا يحلفون على الكذب وهم يعلمون. والكلام مسوق للتعجب من اغترارهم بزينة الدنيا وزخرفها، وتحقير ما يتمتعون به من مباهجها ولذاتها، كى يقلعوا عن العناد، ويرجعوا إلى سبل الرشاد، وكأنه قيل: مثل ذلك الكذب العجيب كانوا يكذبون في الدنيا اغترارا بما هو قصير الأمد من اللذات وزخارف الحياة.
ثم ذكر توبيخ المؤمنين لهم وتهكمهم بهم:
(وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) أي وقال الذين أوتوا العلم بكتاب الله والإيمان بالله لأولئك المنكرين: لقد لبثتم من يوم مماتكم إلى يوم البعث في قبوركم.
وفي هذا رد عليهم وعلى ما حلفوا عليه، وإطلاع لهم على الحقيقة.
ثم وصلوا ذلك بتقريعهم على إنكار البعث بقولهم:
(فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي فهذا هو اليوم الذي أنكرتموه في الدنيا، وزعمتم أنه لن يكون لتفريطكم في النظر وغفلتكم عن الأدلة المتظاهرة عليه.
ولما كانت الأدلة تترى على أن الدنيا دار عمل، وأن الآخرة دار جزاء، ذكر أن المعاذير لا تجدى في هذا اليوم، فلا يجابون إلى ما طلبوا من الرجوع إلى الدنيا، لإصلاح ما فسد من أعمالهم، فقال:
(فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أي ففي هذا اليوم لا تنفع هؤلاء المجرمين معاذيرهم عما فعلوا، كقولهم: ما علمنا أن هذا اليوم كائن، ولا أنا نبعث فيه، ولا هم يرجعون إلى الدنيا ليتوبوا، لأن التوبة لا تقبل حينئذ فالوقت وقت جزاء لا وقت عمل، وقد حقت عليهم كلمة ربهم « لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ » والخلاصة: إنهم لا يعاتبون على سيئاتهم، بل يعاقبون عليها.
ونحو الآية قوله: « وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ ».
[سورة الروم (30): الآيات 58 الى 60]
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر من الأدلة على الوحدانية والبعث ما ذكر، وأعاد وكرر، بشتى البراهين، وبديع الأمثال - أردف ذلك أنه لم يبق بعد هذا زيادة لمستزيد، وأن الرسول ﷺ قد أدى واجبه، وأن من طلب شيئا بعد ذلك فهو معاند مكابر، فإن من كذّب الدليل الواضح اللائح، لا يصعب عليه تكذيب غيره من الدلائل.
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفم طعم الماء من سقم
الإيضاح
(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) أي ولقد أوضحنا لهم الحق، وضربنا لهم الأمثال الدالة على وحدانية الخالق الرازق، وعلى البعث وصدق الرسول، ليستبينوا الحق ويتبعوه، لكنهم أعرضوا عن ذلك استكبارا وعنادا كما أشار إلى ذلك بقوله:
(وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ) أي والله لئن جئتهم بالآيات لا يؤمنون بها، بل يعتقدون أنها سحر مفترى، وما هي إلا أساطير الأولين.
ونحو هذا قوله: « إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ ».
(كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي كذلك يختم الله على قلوب الذين لا يعلمون حقيقة ما تأتيهم به من العبرة والعظات، والآيات البينات، فلا يفقهون الأدلة ولا يفهمون ما يتلى عليهم من آي الكتاب لسوء استعدادهم، ولما دسوابه أنفسهم من سوء القول والفعل، فهم في طغيانهم يعمهون.
ثم ختم السورة بأمر الرسول بالصبر على أذاهم، وعدم الالتفات إلى عنادهم، فقال:
(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) أي فاصبر أيها الرسول على ما ينالك من أذى المشركين، وبلغهم رسالة ربك، فإن وعده الذي وعدك من النصر عليهم والظفر بهم، وتمكينك وتمكين أصحابك وأتباعك في الأرض - حق لا شك فيه، وليكونن لا محالة.
(وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) أي ولا يحملنك الذين لا يوقنون بالميعاد ولا يصدقون بالبعث بعد الممات - على الخفة والقلق، فيثبطوك عن أمر الله والقيام بما كلفك به من تبليغ رسالته.
وفي هذا إرشاد لنبيه ﷺ، وتعليم له، بأن يتلقى المكاره بصدر رحب، وسعة حلم.
أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر والحاكم والبيهقي أن رجلا من الخوارج نادى عليا وهو في صلاة الفجر فقال: « وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ » فأجابه وهو في الصلاة: « فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ».
ولا عجب من صدور مثل هذا الجواب على البديهة من علي كرم الله وجهه، وهو مدينة العلم.
وصل ربنا على محمد وآله الكرام، واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
خلاصة ما احتوت عليه السورة الكريمة من الموضوعات
(1) إثبات النبوة بالإخبار بالغيب.
(2) البراهين الدالة على الوحدانية.
(3) الاعتبار بما حدث للمكذبين من قبلهم.
(4) الأدلة التي في الآفاق شاهدة على وحدانية الله وعظيم قدرته.
(5) الأدلة على صحة البعث.
(6) ضرب الأمثال على أن الشركاء لا يجدونهم فتيلا ولا قطميرا يوم القيامة.
(7) الأمر بعبادة الله وحده وهي الفطرة التي فطر الناس عليها.
(8) النهي عن اتباع المشركين الذين فرقوا دينهم بحسب أهوائهم.
(9) من طبيعة المشرك الإنابة إلى الله إذا مسه الضر، والإشراك به حين الرخاء.
(10) من دأب الناس الفرح بالنعمة والقنوط حين الشدة. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
(11) الأمر بالتصدق على ذوي القربى والمساكين وابن السبيل.
(12) الدلائل التي وضعها سبحانه في الأنفس شاهدة على وحدانيته.
(13) للخير والشر فائدة تعود إلى المرء يوم تجزى كل نفس بما كسبت.
(14) في النظر في آثار المكذبين عبرة لمن اعتبر.
(15) تسلية الرسول على عدم إيمان قومه بأنهم صم عمى لا يسمعون ولا يبصرون.
(16) بيان أن الكافرين يكذبون في الآخرة كما كانوا يكذبون في الدنيا.
(17) الإرشاد إلى أن الرسول قد بلغ الغاية في الإعذار والإنذار، وأن قومه قد بلغوا الغاية في التكذيب والإنكار.
(18) أمره ﷺ بإدامة التبليغ مهما لاقى من الأذى، فإن العاقبة والنصر له، والخذلان لمن كذب به.
هامش
- ↑ وجذيمة: هو جذيمة الأبرش، وكان ملكا في الحيرة، ونديماه مالك وعقيل، وبهما يضرب المثل في طول المنادمة، فقد نادماه أربعين سنة ما أعادا عليه حديثا كان قالاه من قبل.