→ سورة نوح | تفسير المراغي سورة الجن أحمد مصطفى المراغي |
سورة المزمل ← |
هي مكية، وآياتها ثمان وعشرون، نزلت بعد سورة الأعراف.
ووجه اتصالها بما قبلها من وجوه:
(1) أنه جاء في السورة السابقة: « اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ » وجاء في هذه السورة: « وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقًا ».
(2) أنه ذكر في هذه السورة شيء يتعلق بالسماء كالسورة التي قبلها.
(3) أنه ذكر عذاب من يعصى الله في قوله: « وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَدًا » وذكر هناك مثله في قوله: « أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نارًا ».
[سورة الجن (72): الآيات 1 الى 7]
بسم الله الرحمن الرحيم
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7)
شرح المفردات
النفر: ما بين الثلاثة والعشرة، والجن: واحدهم جني كروم ورومى، عجبا: أي عجيبا بديعا مباينا لكلام الناس في حسن النظم ودقة المعنى، والجد: العظمة يقال جدّ فلان في عيني: أي عظم، قال أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جدّ فينا: أي جلّ قدره وعظم، والسفيه: الجاهل، شططا: أي غلوّا في الكذب بنسبة الصاحبة والولد إليه، يعوذون: أي يلتجئون، وكان الرجل إذا أمسى يقفر قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، رهقا: أي تكبّرا، وأصل الرهق: الإثم وغشيان المحارم.
المعنى الجملي
اعلم أن الله سبحانه سمى سور كتابه بأسماء تبعث على النظر والاعتبار وتوجب التفكير، فسمى بالأنعام وبالحشرات كالنمل والنحل والعنكبوت وبما هو ألطف من ذلك كالنور، كما سمى ببعض الأنبياء، كيوسف ويونس وهود، وببعض الأخلاق كالتوبة، وببعض الكواكب العلوية كالشمس والقمر والنجم، وببعض الأوقات كالليل والفجر والضحى، وببعض المعادن كالحديد، وببعض الأماكن كالبلد، وببعض النبات كالتين وكل ذلك مما نراه.
وهنا سمى هذه السورة بعالم لا نراه وهو عالم الجن، وهو عالم لم يعرف في الإسلام إلا من طريق الوحي، وليس للعقل دليل عليه ولقد أصبحت هذه العوالم المستترة عنا الشغل الشاغل اليوم للعلماء والباحثين، فصار علماء أوربا يدرسون عالم الملائكة وعالم الجن وعالم الأرواح، ويطلعون على غوامض هذه العوالم، فتحدث الناس مع أرواح أصحابهم الذين ماتوا، واتصل العالم الإنسي بالعالم الجنى، وبعالم الأرواح الطاهرة وهم الملائكة وقد خطب السير أوليفر لودج من أشهر علماء الطبيعة في هذا العصر في بلاد الإنكليز في مجمع من كبار العلماء قال: إنه حادث الأموات، وإن هناك عقولا أسمى من عقولنا في عالم الأرواح، وإنهم يهتمون بنا، وإن إخواني من رجال الجماعة الروحية الذين ماتوا - كلمتهم بعد موتهم، وبرهنوا بأدلة قاطعة أنهم هم الذين يكلمونني، وقال: إن كل ما يقوله الأنبياء عن عالم الأرواح وعن الله فهو حق بلا تأويل.
وجاء في كتاب « إخوان الصفا » إن أرواح الأحياء بعد الموت هم الموسوسون إن كانوا أشرارا، وهم الملهمون الناس الخير إن كانوا أخيارا.
وقال شير محمد الهندي في كتابه في المجلس السابع: لقد جمعت بين ما جاء به الدين الإسلامي والكشف الحديث كقولهم: إن كل علم وكل خير وشر حاصل في الأفئدة منشؤه الأرواح الفاضلة والأرواح الناقصة، وهو بعينه ما جاء في الحديث: « في القلب لمّتان لمة من الملك ولمة من الشيطان » وهذا مصداق لقوله تعالى: « سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ». والعجب أن الفرنجة يكشفون هذا ولا يعلمون أنه مصداق دين الإسلام اهـ.
واعلم أن ما جاء في هذه السورة من السمعيات التي لا دليل عليها من العقل قد بقي في الإسلام حوالى أربعة عشر قرنا تتلقاه الأمة بالقبول جيلا بعد جيل دون بحث عن حقائقه حتى عنى علماء أوربا في العصر الحديث بالبحث عنه، فظهر لهم أن الأرواح الناقصة تسمع كلام الناس وتهتدى به، وأنها لا تعرف ما فوق طاقتها، فلا تهتدى بهدى الأرواح العالية فالنبي ﷺ مثلا قد ارتقى في العلم إلى حد لا يمكن الأرواح الناقصة أن تتعلم منه فما أشبه حالهم بحال الجهال الذين يسمعون من أبنائهم المتعلمين العلم ولا يفهمونه، وما مثل حال الأرواح الناقصة بعد الموت إلا مثل حالها المشاهدة في الدنيا، فإنا نرى الجهال لا يجلسون في مجالس العلم إلا قليلا حين يتنزل العلماء لإصلاح حالهم، ولا يظهر لهم إلا القليل من ثمرات العلم، فهم في الحياة الدنيا ممنوعون من السمع، وقد يشتد المنع إذا كان في السماع مفسدة كمعرفة الأسرار الحربية، والخطط السياسية التي ينبغي أن تبقى سرا مكتوما بين الدول، وهذا المنع الذي نشاهده أشبه بالمنع من استراق السمع، لأنه إنما كان لحفظ الدرجات، وهي المعارج لأربابها.
الإيضاح
(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ) أمر الله رسوله أن يظهر لأصحابه ما أوحى به إليه من قصص الجن، لما في علمه من فوائد ومنافع للناس، منها:
(1) أن يعلموا أنه كما بعث عليه الصلاة والسلام إلى الإنس فقد بعث إلى الجن.
(2) أن يعلموا أن الجن يستمعون كلامنا ويفهمون لغاتنا.
(3) أن يعلموا أن الجن مكلفون كالإنس.
(4) أن يعلموا أن المؤمن منهم يدعو غيره من قبيلته إلى الإيمان.
(5) أن تعلم قريش أن الجن على تمردها لما استمعت القرآن عرفت إعجازه وآمنت به.
وظاهر الآية يدل على أنه عليه الصلاة والسلام علم استماعهم له بالوحي لا بالمشاهدة وفى الصحيحين من حديث ابن عباس، ما قرأ رسول الله ﷺ على الجن ولا رآهم، وإنما انطلق بطائفة من الصحابة لسوق عكاظ، وقد حيل بين الجن والسماء بالشهب، فقالوا: ما ذاك إلا لشيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فمرّ من ذهب منهم إلى تهامة بالنبي ﷺ وهو يصلى الفجر بأصحابه بنخلة، فلما استمعوا له قالوا: هذا الذي حال بيننا وبين السماء، ورجعوا إلى قومهم وقالوا يا قومنا إلخ، فأنزل الله عليه: « قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ » الآيات، وقد كان ذلك قبل الهجرة بثلاث سنين.
وقد حكى الله عن الجن أشياء:
(1) (فَقالُوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآنًا عَجَبًا. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَدًا) أي قالوا لقومهم حين رجعوا إليهم كما جاء في قولهم: « فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ » إنا سمعنا كتابا بديعا يهدى إلى الحق وإلى الطريق المستقيم، فصدقنا به، ولن نعود إلى ما كنا عليه من الإشراك بالله.
(2) (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَدًا) أي وإنهم كما نفوا عن أنفسهم الإشراك بالله نزهوا ربهم عن الزوجة والولد، لأن الصاحبة تتخذ للحاجة إليها، ولأنها من جنس الزوج كما قال: « خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْها »، والولد للتكثر والاستئناس به، والحاجة إليه حين الكبر وبقاء الذكر والشهرة كما قال:
وكم أب علا بابن ذر اشرف كما علت برسول الله عدنان
والله سبحانه منزه عن ذلك، تعالى ربّنا علوا كبيرا.
والخلاصة - علا ملك ربنا وسلطانه أن يكون ضعيفا ضعف خلقه الذين يضطرهم الشهوة إلى اتخاذ صاحبة أو ملامسة يكون منها الولد.
(3) (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا) أي وإن الجهال من الجن كانوا يقولون قولا بعيدا عن الصواب، بنسبة الولد والصاحبة إليه تعالى.
(4) (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) أي وأنا كنا نظن أن لن يكذب أحد على الله تعالى، فينسب إليه الصاحبة والولد، ومن ثم اعتقدنا صحة قول السفيه، فلما سمعنا القرآن علمنا أنهم كانوا كاذبين، وهذا منهم بإقرار بأنهم إنما وقعوا في تلك الجهالات بسبب التقليد، وأنهم إنما تخلصوا منها الاستدلال والبحث.
(5) (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقًا) أي وأن رجالا من الإنس كانوا يستعيذون في الفقر برجال من الجن، فزادوا الجن بذلك طغيانا وغيّا، بأن أضلوهم حتى استعاذوا بهم.
وخلاصة ذلك - أنهم لما استعاذوا بالجن خوفا منهم ولم يستعيذوا بالله، استذلوهم واجترءوا عليهم وزادوهم ظلما.
(6) (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا) أي وأن الجن ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله رسولا إلى خلقه، يدعوهم إلى توحيده، والإيمان برسله واليوم الآخر.
[سورة الجن (72): الآيات 8 الى 17]
وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذابًا صَعَدًا (17)
شرح المفردات
لمسنا السماء: أي طلبنا خبرها كما جرت بذلك عادتنا، والحرس والحرس، واحدهم حارس، وهو الرقيب، شديدا: أي قويا، والسمع: الاستماع، والشهب: واحدها شهاب، وهو الشعلة المقتبسة من نار الكوكب، رصدا: أي أرصد له ليرمى به رشدا: أي خيرا وصلاحا، قددا: أي جماعات متفرقة وفرقا شتى، ويقال صار القوم قددا: إذا تفرقت أحوالهم، واحدها قدّة وهي القطعة من الشيء، هربا: أي هاربين إلى السماء، والمراد بالهدى القرآن، والبخس: النقص، والرهق الظلم والمكروه الذي يغشى المظلوم، القاسطون: أي الجائرون العادلون عن الحق، تحرّوا رشدا: أي قصدوا طريق الحق، حطبا: أي وقودا للنار، والطريقة: هي طريق الإسلام، غدقا: أي كثيرا، يسلكه: أي يدخله، صعدا: أي شاقا يعلو المعذب ويغلبه، يقال فلان في صعد من أمره: أي في مشقة، ومنه قول عمر: ما تصعّدنى شيء كما تصعّدنى في خطبة النكاح، أي ما شقّ علي، وكأنه إنما قال ذلك لأنه كان من عادتهم أن يذكروا جميع ما يكون في الخاطب من أوصاف موروثة ومكتسبة، فكان يشق عليه أن يقول الصدق في وجه الخاطب وعشيرته.
الإيضاح
(7) (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا) يخبر سبحانه عن مقال الجن حين بعث محمد ﷺ وأنزل عليه القرآن وحفظ منهم، إن السماء ملئت حراسا شدادا وشهبا تحرسها من سائر أرجائها وتمنعنا من استرق السمع كما كنا نفعل.
أخرج أحمد والترمذي والنسائي عن ابن عباس قال: كان للشياطين مقاعد في السماء يسمعون فيها الوحي، فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعا، فأما الكلمة فتكون حقا، وأما ما زادوا فيكون باطلا، فلما بعث رسول الله ﷺ منعوا مقاعدهم، فذكروا ذلك لإبليس، ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك، فقال لهم ما هذا إلا من أمر قد حدث في الأرض، فبعث جنوده فوجدوا رسول الله ﷺ قائما يصلى بين جبلين بمكة، فأتوه فأخبروه، فقال: هذا هو الحدث الذي حدث في الأرض.
(8) (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) أي وأنا كنا نقعد قبل ذلك فيها مقاعد خالية من الحرس والشهب، لنسترق السمع، فطردنا منها حتى لا نسترق شيئا من القرآن ونلقيه على ألسنة الكهان، فيلتبس الأمر ولا يدرى الصادق، فكان ذلك من لطف الله بخلقه، ورحمته بعباده، وحفظه لكتابه العزيز.
(فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهابًا رَصَدًا) أي فمن يرم أن يسترق السمع اليوم يجد له شهابا مرصدا لا يتخطاه ولا يتعداه، بل يهلكه ويمحقه.
وإنا لنؤمن بما جاء في الكتاب الكريم من أن الجن كانوا يسترقون السمع، ومنعوا من ذلك بعد بعثة النبي ﷺ، ولكن لا نعرف كيف كانوا يسترقون السمع، ولا نعرف كنه الحرس الذين منعوهم، ولا المراد بالشهب التي كانت رصدا لهم والجن أجسام نارية فكيف تحترق من الشهب.
ويرى قوم أن مقاعد السمع هي مواضع الشبه التي يوسوس بها الجن في صدور الناس، ليصدوهم عن اتباع الحق، والحرس: هي الأدلة العقلية التي نصبها سبحانه لهداية عباده، والشهب الأدلة الكونية التي وضعها في الأنفس والآفاق.
وعلى هذا يكون المعنى: إن القرآن الكريم بما نصب من الأدلة العقلية والأدلة الكونية حرس للدين من تطرق الشبه التي كان الشياطين يوسوسون بها في صدور الزائفين، ويحوكونها في قلوب الضالين، ليمنعوهم من تقبل الدين والاهتداء بهديه، فمن يكفر في إلقاء الشكوك والأوهام في نفوس الناس بعدئذ يجد البراهين التي تقتلعها من جذورها.
(9) (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا) أي وإن السماء لم تحرس إلا لأحد أمرين:
(ا) إما لعذاب يريد الله أن ينزله على أهل الأرض بغتة.
(ب) وإما لنبي مرشد مصلح.
وكأنهم يقولون: أعذابا أراد الله أن ينزله بأهل الأرض، بمنعه إيانا السمع من السماء ورجمه من استمع منا بالشهب، أم أراد بهم ربهم الهدى، بأن يبعث منهم رسولا مرشدا يهديهم إلى الحق وإلى طريق مستقيم؟.
(10) (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَدًا) أي وأنا منا المسلمون العاملون بطاعة الله، ومنا قوم دون ذلك، وأنا كنا أهواء مختلفة وفرقا شتى، فمنا المؤمن والفاسق والكافر كما هي الحال في الإنس.
(11) (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا) أي وأنا علمنا أن لن نعجز الله في الأرض أينما كنا في أقطارها، ولن نعجزه هربا إن طلبنا، فلا نفوته بحال.
والخلاصة - إن الله قادر علينا حيث كنا، فلا نفوته هربا.
(12) (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ، فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا) أي وأنا لما سمعنا القرآن الذي يهدى إلى الطريق المستقيم صدقنا به وأقررنا بأنه من عند الله، ومن يصدق بالله وبما أنزله على رسله فلا يخاف نقصا من حسناته، ولا ذنبا يحمل عليه من سيئات غيره قاله قتادة.
وقصارى ذلك - أنه ينال جزاءه وافرا كاملا.
(13) (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا) أي وأنا منا المؤمنون الذين أطاعوا الله وأخبتوا إليه وعملوا صالح الأعمال، ومنا الجائرون عن النهج القويم وهو الإيمان بالله وطاعته، ومن آمن بالله وأطاعه فقد سلك الطريق الموصل إلى السعادة، وقصد ما ينجيه من العذاب.
ثم ذم الجنّ الكافرين منهم فقالوا:
(وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا) أيوأما الجائرون عن سنن الإسلام فكانوا حطبا لجهنم توقد بهم، كما توقد بكفرة الإنس، وقد ذكر ثواب المؤمنين منهم بقوله: « فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ».
وإلى هنا انتهى كلام الجن ثم عاد إلى ذكر الموحى به إلى رسوله فقال:
(وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقًا) أي وأوحى إليه أنه لو استقام الإنس والجن على ملة الإسلام، لوسّعنا عليهم أرزاقهم، ولبسطنا لهم في الدنيا.
وإنما خص الماء الغدق بالذكر، لأنه أصل المعاش، وكثرته أصل السعة ومن ثم قيل حيثما كان الماء كان المال، وحيثما كان المال كانت الفتنة، ولندرة وجوده بين العرب، ومن ثمّ امتنّ الله على نبيّه بقوله: « إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ » على تفسير الكوثر بالنهر الجاري، ونحو الآية قوله: « وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ».
وسرّ هذا ما عرفت غير مرة من أن الخصب والسعة لا يوجدان إلا حيث نوجد الطمأنينة والعدل ويزول الظلم، وتكون الناس سواسية في نيل الحقوق، فلا ظلم ولا إرهاق، ولا محاباة ولا رشا في الأحكام.
ثم ذكر سبب البسط حينئذ فقال:
(لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) أي لنختبرهم أي لنعاملهم معاملة المختبر لنرى هل يشكروننا على هذه النعم، فإن وفّوها حقها كان لهم مني الجزاء الأوفى، وإن نكصوا على أعقابهم استدرجناهم وأمهلناهم، ثم أخذناهم أخذ عزيز مقتدر، كما قال: « وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ».
(وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذابًا صَعَدًا) أي ومن يعرض عن القرآن وعظاته، فلا يتبع أوامره ولا ينتهى عن نواهيه - يدخله في العذاب الشاق الذي يعلوه ويغلبه، ولا يطيق له حملا.
[سورة الجن (72): الآيات 18 الى 24]
وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلاَّ بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَدًا (23) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24)
شرح المفردات
المساجد: واحدها مسجد، موضع السجود للصلاة والعبادة، ويدخل فيها الكنائس والبيع ومساجد المسلمين، فلا تدعوا: أي فلا تعبدوا، يدعوه: أي يعبده، لبدا: (بكسر اللام وفتح الباء) أي جماعات، واحدها لبدة، والمراد متراكمين متزاحمين، ولا رشدا: أي ولا نفعا، ملتحدا: أي ملجأ يركن إليه، قال:
يا لهف نفسي ونفسى غير مجدية عنّى وما من قضاء الله ملتحد
بلاغا من الله: أي تبليغا لرسالاته.
الإيضاح
(وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) أي قل أوحى إلي أنه استمع نفر من الجن، وأن المساجد لله فلا تعبدوا فيها غير الله أحدا ولا تشركوا به فيها شيئا.
وعن قتادة: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله معبودات أخرى لهم، فأمرنا بهذه الآية أن نخلص لله تعالى الدعوة إذا دخلنا المساجد.
وقال الحسن: المراد بالمساجد كل موضع سجد فيه من الأرض سواء أعدّ لذلك أم لا، إذ الأرض كلها مسجد لهذه الأمة.
وكأنه أخذ ذلك مما في الحديث الصحيح « جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ».
(وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) أي ولما قام محمد ﷺ يعبد الله، كاد الجن يكونون جماعات بعضها فوق بعض تعجبا مما شاهدوا من عبادته، وسمعوا من قراءته، واقتداء أصحابه به قياما وركوعا وسجودا، إذ رأوا عالم يروا مثله، ولا سمعوا مثل ما سمعوا.
وقال الحسن وقتادة: إنه لما قام عبد الله بالرسالة يدعو الله وحده مخالفا للمشركين في عبادتهم الأوثان - كاد الكفار لتظاهرهم عليه وتعاونهم على عداوته يزدحمون متراكمين جماعات جماعات.
قال مقاتل: إن كفار مكة قالوا للنبي ﷺ: إنك جئت بأمر عظيم، وقد عاديت الناس كلهم فارجع عن هذا، فأنزل الله:
(قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا) أي قل لأولئك الذين كادوا يكونون عليك لبدا: إنما أعبد الله ربى ولا أشرك به في العبادة أحدا، وذلك ليس ببدع ولا مستنكر يوجب العجب والإطباق على عداوتي.
ثم بيّن أنه لا يملك من الأمر شيئا، فهو لا يستطيع هدايتهم ولا جلب الخير لهم فقال:
(قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا) أي قل أيها الرسول لأولئك المشركين الذين ردوا عليك ما جئتهم به من النصيحة: إني لا أملك لكم ضرا في دينكم ولا دنياكم، ولا نفعا أجلبه لكم، وإنما الذي يملك ذلك كله هو الله الذي له ملك كل شيء، وهو القادر على ذلك وحده وكأنه عليه السلام أمر أن يقول: ما أردت إلا نفعكم فقابلتمونى بالإساءة، وليس في استطاعتي النفع الذي أردت، ولا الضر الذي أكافئكم به، إنما ذان لله.
وفي هذا تهديد عظيم لهم وتوكل على الله عز وجل وأنه هو الذي يجزيه بحسن صنيعه ويجزيهم بسوء صنيعهم، وفيه إيماء إلى أنه لا يدع التبليغ لتظاهرهم عليه.
ثم بيّن عجزه عن شئون نفسه بعد عجزه عن شئون غيره فقال:
(قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ، وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا، إِلَّا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ) أي قل: إني لن يجيرنى من الله أحد من خلقه إن أراد بي سوءا، ولن ينصرنى منه ناصر، ولا أجد من دونه ملجأ ولا معينا، لكن إن بلغت رسالته وأطعته أجارنى.
والخلاصة - إني لن يجيرنى من الله أحد إن لم أبلغ رسالاته.
وبعدئذ بيّن جزاء العاصين لله ورسوله فقال:
(وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَدًا) أي ومن يعص الله فيما أمر به، ونهى عنه، ويكذب برسوله فإن له نارا يصلاها ما كثا فيها أبدا إلى غير نهاية، ولا محيد عنها ولا خروج منها.
ثم سلى رسوله وسرّى عنه وعيّرهم بقصور نظرهم عن الجن مع ادعائهم الفطنة، وقلّة إنصافهم ومبادهتهم بالتكذيب والاستهزاء، بدل مبادهة الجن بالتصديق والاستهداء فقال.
(حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا) أي ولا يزالون يستضعفون المؤمنين ويستهزئون بهم، حتى إذا رأوا ما يوعدون من فنون العذاب فيستبين لهم من المستضعفون؟ المؤمنون الموحدون لله تعالى، أم المشركون الذين لا ناصر لهم ولا معين؟.
وقصارى ذلك - إن المشركين لا ناصر لهم، وهم أقلّ عددا من جنود الله عز وجل.
ونظير الآية قوله: « حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ ».
[سورة الجن (72): الآيات 25 الى 28]
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
المعنى الجملي
أمر سبحانه رسوله أن يقول للناس: إنه لا علم له بوقت الساعة، ولا يدرى أقريب وقتها أم بعيد، وأنه لا يعلم شيئا من الغيب إلا إذا أعلمه الله به، وهو سبحانه يعلم أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم، ويعلم جميع الأشياء إجمالا وتفصيلا.
قال مقاتل: إن المشركين لما سمعوا قوله تعالى: « حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا » قال النضر بن الحارث: متى يكون هذا اليوم الذي توعدنا به؟ فأنزل الله تعالى: « قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ » إلى آخر الآيات.
الإيضاح
(قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا)؟ أمر الله رسوله أن يقول للناس: إن الساعة آتية لا ريب فيها، ولكن وقتها غير معلوم، ولا يدرى أقريب أم يجعل له ربي أمدا بعيدا؟ وقد كان ﷺ يسأل عن الساعة فلا يجيب عنها، « ولما تبدى له جبريل في صورة أعرابي كان فيما سأله أن قال: يا محمد أخبرني عن الساعة؟ قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل » ولما ناداه ذلك الأعرابي بصوت جهوري فقال « يا محمد متى الساعة؟ قال ويحك إنها كائنة فما أعددت لها؟ قال أما إني لم أعدّ لها كثير صلاة ولا صيام، ولكني أحب الله ورسوله، قال ﷺ فأنت مع من أحببت » قال أنس: فما فرح المسلمون بشىء فرحهم بهذا الحديث.
(عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) أي عالم ما غاب عن أبصار خلقه فلم يروه، وهذا لا يعلم به أحد إلا من ارتضى من الرسل صلوات الله عليهم، فإنه يطلعهم على ما شاء منه.
ونحو الآية قوله: « وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ ».
وفي الآية إيماء إلى إبطال الكهانة والتنجيم والسحر، لأن أصحابها أبعد الناس عن الارتضاء وأدخلهم في السخط وإلى أن من ادعى أن النجوم تدله على ما يكون من حياة أو موت أو غير ذلك فقد كفر بالقرآن، وفيها أيضا إبطال للكرامات، لأن من تضاف إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا رسلا، وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب.
وقال الرازي: المراد أنه لا يطلع على غيبه المخصوص وهو قيام الساعة، والذي يدل على ذلك أمور:
(1) أن أرباب الأديان والملل مطبقون على صحة علم التعبير وتفسير الرؤيا، وأن المعبّر قد يخبر عن الوقائع الآتية في المستقبل ويكون صادقا فيها.
(2) أن الكاهنة البغدادية التي نقلها السلطان سنجر بن ملك شاه من بغداد إلى خراسان وسألها عن أحوال آتية، ذكرت أشياء ثم وقعت وفق كلامها.
(3) أنا نشاهد في أصحاب الإلهامات الصادقة (وليس ذلك مختصا بالأولياء بل قد يكون في السحرة) من يكون صادقا في كثير من أخباره، وكذلك الأحكام النجومية قد تكون مطابقة موافقة لما سيكون في كثير من الأحيان، وإذا كان ذلك مشاهدا محسوسا، فالقول بأن القرآن يدل على خلافه مما يجر إلى الطعن في القرآن الكريم، فعلمنا أن التأويل الصحيح ما ذكرنا اه بتصرف.
(فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا) الرصد القوم يرصدون كالحرس، والراصد للشىء الراقب له، والترصد الترقب، والمراد بهم هنا الملائكة الحفظة أي فإنه يسلك من بين يدي من ارتضى من رسله، ومن خلفهم حفظة من الملائكة يحفظونهم من وساوس شياطين الجن وتخاليطهم حتى يبلغوا ما أوحى به إليهم، ومن زحمة شياطين الإنس حتى لا يؤذونهم ولا يضرونهم.
وعن الضحاك: ما بعث نبي إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين الذين يتشبهون بصورة الملك، فإذا جاء شيطان في صورة الملك قالوا هذا شيطان فاحذره، وإن جاءه الملك قالوا هذا رسول ربك.
والخلاصة - أنه يدخل حفظة من الملائكة يحفظون قواه الظاهرة والباطنة من الشياطين ويعصمونه من وساوسهم.
ثم علل هذا الحفظ بقوله:
(لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ) أي إنه يحفظ رسله بملائكته ليتمكنوا من أداء رسالاته، ويحفظوا ما ينزله إليهم من الوحي، ليعلم أن قد أبلغوا هذه الرسالات والمراد ليعلم الله ذلك منهم علم وقوع في الخارج كما جاء نحو هذا في قوله: « وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ ».
(وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا) أي وهو سبحانه قد أحاط علما بما عند الرصد من الملائكة، وأحصى ما كان وما سيكون فردا فردا، فهو عالم بجميع الأشياء منفرد بذلك على أتم وجه، فلا يشاركه في ذلك الملائكة الذين هم وسائط العلم.
والخلاصة - أن الرسول المرتضى يعلمه الله بوساطة الملائكة بعض الغيوب مما له تعلق برسالته، وهو سبحانه محيط علما بجميع أحوال أولئك الوسائط، وعالم بجميع الأشياء على وجه تفصيلى، فأين علم الوسائط من علمه؟
ما تضمنته هذه السورة
اشتملت هذه السورة على مقصدين:
(1) حكاية أقوال صدرت من الجن حين سمعوا القرآن كوصفهم له بأنه كتاب يهدى إلى الرشد، وأن الرب سبحانه تنزه عن الصاحبة والولد، وأنهم ما كانوا يظنون أن أحدا يكذب على الله، وأن رجالا من الإنس كانوا يستعيذون في القفر برجال من الجن، وأن الجن طلبوا خبر العالم العلوي فمنعوا، وأن الجن لا يدرون ما ذا يحل بالأرض من هذا المنع، وأن الجن منهم الأبرار ومنهم الفجار، ومنهم مسلمون وجائرون عادلون عن الحق.
(2) ما أمر النبي ﷺ بتبليغه إلى الخلق، ككونه لا يشرك بربه أحدا، وأنه لا يملك لنفسه ضرّا ولا نفعا، وأنه لا يمنعه أحد من الله إن عصاه، وأنه ﷺ لا يدرى متى يكون وقت تعذيبهم، فالعلم لله وحده.