→ سورة ق | تفسير المراغي سورة الذاريات أحمد مصطفى المراغي |
سورة الطور ← |
هي مكية وآيها ستون، نزلت بعد الأحقاف، ومناسبتها لما قبلها:
(1) إنه قد ذكر في السورة السابقة البعث والجزاء والجنة والنار، وافتتح هذه بالقسم بأن ما وعدوا من ذلك صدق وأن الجزاء واقع.
(2) إنه ذكر هناك إهلاك كثير من القرون على وجه الإجمال، وهنا ذكر ذلك على وجه التفصيل.
[سورة الذاريات (51): الآيات 1 الى 14]
بسم الله الرحمن الرحيم
والذَّارِياتِ ذَرْوًا (1) فَالْحامِلاتِ وِقْرًا (2) فَالْجارِياتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْرًا (4) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (6) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (11) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)
تفسير المفردات
الذاريات: الرياح تذرو التراب وغيره: أي تفرقه، والوقر: حمل البعير وجمعه أوقار: أي أثقال، والحاملات وقرا: هي الرياح الحاملات للسحاب المشبع ببخار الماء، واليسر: السهولة، والجاريات يسرا: هي الرياح الجارية في مهابّها بسهولة، والمقسمات أمرا: هي الرياح التي تقسم الأمطار بتصريف السحاب، وما توعدون: هو البعث والحشر للحساب والجزاء، والدين: الجزاء، وواقع: أي حاصل، والحبك: الطرق واحدها حبيكة، مختلف: أي متناقض مضطرب في شأن الله، فبينا تقولون إنه خالق السموات تقولون بصحة عبادة الأوثان معه، وفى شأن الرسول فتارة تقولون إنه مجنون وتارة تقولون إنه ساحر، وفى شأن الحشر فتارة تقولون لا حشر ولا بعث، وأخرى تقولون: الأصنام شفعاؤنا عند الله يوم القيامة، يؤفك عنه من أفك: أي يصرف عن القول المختلف: أي بسببه من صرف عن الإيمان، والخرّاصون: أي الكذابون من أصحاب القول المختلف، في غمرة: أي في جهل يشملهم ويغمرهم شمول الماء الغامر، ساهون: أي غافلون عما أمروا به، أيان يوم الدين: أي متى يوم الجزاء: أي متى حصوله، يفتنون: أي يحرقون، وأصل الفتن: إذابة الجوهر ليعرف غشه، فاستعمل في الإحراق والتعذيب، فتنتكم: أي عذابكم المعدّ لكم.
المعنى الجملي
هاهنا أمور يجمل بك أن تتفهمها:
(1) بعد أن بين الحشر بدلائله وقال: « ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ » ثم أصروا على ذلك غاية الإصرار لم يبق إلا اليمين فقال « وَالذَّارِياتِ ذَرْوًا -... إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ ».
(2) إن الأيمان التي حلف بها الله تعالى في كتابه كلها دلائل على قدرته أخرجها في صورة الأيمان، كما يقول القائل للمنعم عليه: وحق نعمك الكثيرة إني لا أزال أشكرك، فيذكر النعم وهي سبب لدوام الشكر ويسلك بها مسلك القسم، وجاءت الآية هكذا مصدّرة بالقسم، لأن المتكلم إذا بدأ كلامه به علم السامع أن هاهنا كلاما عظيما يجب أن يصغى إليه، فإذا وجّه همه لسماعه خرج له الدليل والبرهان المتين في صورة اليمين.
(3) في السور التي أقسم الله في ابتدائها بغير الحروف المقطعة كان القسم لإثبات أحد الأصول الثلاثة: الوحدانية والرسالة والحشر وهي التي يتم بها الإيمان، فأقسم لإثبات الوحدانية في سورة الصافات فقال: « إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ » وأقسم في سورتى النجم والضحى لإثبات الرسالة فقال في الأولى: « وَالنَّجْمِ إِذا هَوى. ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى » وقال في الثانية: « وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى » وأقسم في سور كثيرة على إثبات البعث والجزاء.
(4) في السورة التي أقسم فيها لإثبات الوحدانية أقسم بالساكنات فقال: « وَالصَّافَّاتِ صَفًّا » وفى السور التي أقسم فيها لإثبات الحشر أقسم بالمتحركات فقال: « وَالذَّارِياتِ ذَرْوًا - وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا - وَالنَّازِعاتِ غَرْقًا - وَالْعادِياتِ ضَبْحًا » لأن الحشر فيه جمع وتفريق، وهو بالحركة أليق.
(5) كانت العرب تحترز عن الأيمان الكاذبة وتعتقد أنها تدع الديار بلاقع، وقد جرى النبي ﷺ على سننهم، فحلف بكل شريف ولم يزده ذلك إلا رفعة وثباتا، وكانوا يعلمون أنه لا يحلف إلا صادقا، وإلا أصابه شؤم الأيمان، وناله المكروه في بعض الأيمان.
الإيضاح
(وَالذَّارِياتِ ذَرْوًا، فَالْحامِلاتِ وِقْرًا، فَالْجارِياتِ يُسْرًا، فَالْمُقَسِّماتِ أَمْرًا. إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) أقسم سبحانه بالرياح وذروها التراب، وحملها السحاب، وجريها في الهواء بيسر وسهولة، وتقسيمها الأمطار، إن هذا البعث لحاصل، وإن هذا الجزاء لا بد منه في ذلك اليوم، يوم يقوم الناس لرب العالمين.
وهنا أقسم سبحانه بالرياح وأفعالها، لما يشاهدون من آثارها ونفعها العظيم لهم فهي التي ترسل الأمطار مبشرات برحمته، ومنها تسقى الأنعام والزروع، وبها تنبت البساتين والجنات وتصير الأرض القفر مروجا، وعليها يعتمدون في معاشهم، فآثارها واضحة أمامهم، ولا عجب أن تكون لها المنزلة العظمى في نفوسهم.
وأفعال الرياح تخالف ناموس الجاذبية، فإن ما على الأرض منجذب إليها، واقع عليها، ولكن هذه الرياح تتصرف تصرفا عجيبا تابعا لسير الكواكب، فبجريها وجرى الشمس تؤثر في أرضنا وهوائها بنظام محكم، فما ذرت الرياح التراب، ولا حملت السحاب، ولا قسمت المطر على البلاد إلا بحركات فلكية منتظمة، من أجل هذا جعل ذلك براهين على البعث والإعادة.
(وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ، إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ، يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) أي والسماء ذات الجمال والبهاء، والحسن والاستواء، إنكم أيها المشركون المكذبون للرسول، لفى قول مختلف مضطرب، لا يلتئم ولا يجتمع، ولا يروج إلا على من هو ضالّ في نفسه، لأنه قول باطل يصرف بسببه من صرف عن الإيمان برسول الله ﷺ وبما جاء به.
والخلاصة - قسما بالسماء وزينتها وجمالها، إن أمركم في شأن محمد وكتابه لعجب عاجب، فهو متناقض مضطرب، فحينا تقولون هو شاعر، وحينا آخر تقولون هو ساحر، ومرة ثالثة تقولون هو مجنون، وبينا تقولون عن القرآن إنه سحر إذا بكم تقولون إنه شعر أو إنه كهانة.
(قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ) أي قتل الكذابون من أصحاب القول المختلف الذين هم في جهل عميق وغفلة عظيمة عما أمروا به.
وهذا دعاء عليهم يراد به في عرف التخاطب لعنهم، إذ من لعنه الله فهو بمنزلة الهالك المقتول، وقد جاء في القاموس: قتل الإنسان ما أكفره: أي لعن، وقاتلهم الله، أي لعنهم (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) أي يسألك المشركون استهزاء فيقولون: متى يوم الجزاء، وقد كان لهم من أنفسهم لو تدبروا ما يدفعهم إلى الاعتقاد بمجىء هذا اليوم، فإن أحدا منهم لا يترك عبيده وأجراءه في عمل دون أن يحاسبهم وينظر في أحوالهم، ويحكم بينهم في أقوالهم وأفعالهم، فكيف يترك أحكم الحاكمين عبيده الذين أبدع لهم هذا الكون وهيأ لهم كل ما يحتاجون إليه - سدى ويوجدهم عبثا؟.
ثم أجاب عن هذا السؤال وذكر أنه يكون يوم القيامة فقال:
(يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) أي يوم الجزاء هو يوم نعذب الكفار وتقول لهم الخزنة:
(ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) أي ذوقوا هذا العذاب الذي كنتم تستعجلون وقوعه استهزاء وتظنون أنه غير كائن.
[سورة الذاريات (51): الآيات 15 الى 23]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (22) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)
تفسير المفردات
في جنات وعيون: أي في بساتين تجرى من تحتها الأنهار، محسنين: أي مجوّدين لأعمالهم، والهجوع: النوم ليلا والهجعة النومة الخفيفة، والأسحار: واحدها سحر وهو السدس الأخير من الليل، حق: أي نصيب وافر يوجبونه على أنفسهم تقربا إلى ربهم وإشفاقا على عباده، والسائل: هو المستجدى الطالب العطاء، والمحروم: هو المتعفف الذي يحسبه الجاهل غنيا فيحرم الصدقة من أكثر الناس، آيات: أي دلائل على قدرته تعالى من وجود المعادن والنبات والحيوان، والدحو في بعض المواضع والارتفاع في بعضها الآخر عن الماء، واختلاف أجزائها في الكيفيات والخواص. للموقنين: أي للموحدين الذين سلكوا الطريق الموصل إلى معرفة الله، فهم نظارون بعيون باصرة، وأفهام نافذة، وما توعدون: أي والذي توعدونه من خير أو شر.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر حال المغترين الذين أنكروا يوم الدين، وكذبوا بالبعث والنشور، وأنكروا نبوة محمد ﷺ وعبدوا مع الله غيره من وثن أو صنم - أردف ذلك ذكر حال المتقين وما يتمتعون به من النعيم المقيم في جنات تجرى من تحتها الأنهار، جزاء إحسانهم في أعمالهم، وقيامهم بالليل للصلاة، والاستغفار بالأسحار، وإنفاقهم أموالهم للفقراء والمساكين، ونظرهم في دلائل التوحيد التي في الآفاق والأنفس، وتفكيرهم في ملكوت السموات والأرض مصدقين قوله تعالى: « سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ».
ثم أقسم برب السماء والأرض إن ما توعدون من البعث والجزاء حق لا شك فيه، كما لا شك في نطقكم حين تنطقون.
الإيضاح
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) أي إن الذين اتقوا الله وأطاعوه واجتنبوا معاصيه، في بساتين وجنات تجرى من تحتها الأنهار، قريرة أعينهم بما آتاهم ربهم، إذ فيه ما يرضيهم ويغنيهم ويفوق ما كانوا يؤملون.
ثم ذكر الثمن الذي دفعوه لنيل هذا الأجر العظيم فقال:
(إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ) أي إنهم كانوا في دار الدنيا يفعلون صالح الأعمال، خشية من ربهم وطلبا لرضاه، ومن ثم نالوا هذا الفوز العظيم، والمكرمة التي فاقت ما كانوا يؤملون ويرجون.
ونحو الآية قوله: « كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ »، ثم فصل ما أحسنوا فيه فقال:
(كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) أي كانوا ينامون القليل من الليل ويتهجدون في معظمه، قال ابن عباس: ما تأتى عليهم ليلة ينامون حتى يصبحوا إلا يصلون فيها شيئا إما من أولها أو من وسطها، وقال الحسن البصري: كابدوا قيام الليل، فلا ينامون من الليل إلا أقله، وربما نشطوا فجدّوا إلى السحر. وعن أنس قال: كانوا يصلون بين المغرب والعشاء.
(وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) أي فهم يحيون الليل متهجدين، فإذا أسحروا أخذوا في الاستغفار كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم.
ولما ذكر أنهم يقيمون الصلاة ثنى بوصفهم بأداء الزكاة والبر بالفقراء فقال:
(وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) أي وجعلوا في أموالهم جزءا معينا ميزوه وعزلوه للطالب المحتاج، والمتعفف الذي لا يجد ما يغنيه، ولا يسأل الناس، ولا يفطنون إليه ليتصدقوا عليه.
أخرج ابن جرير وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ « ليس المسكين الذي تردّه التمرة والتمرتان والأكلة والأكلتان، قيل فمن المسكين؟ قال الذي ليس له ما يغنيه، ولا يعلم مكانه فيتصدق عليه، فذلك المحروم ».
وبعد أن ذكر أوصاف المتقين بين أنه قد لاحت لهم الأدلة الأرضية والسماوية التي بها أخبتوا إلى ربهم وأنابوا إليه فقال:
(وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ) أي وفى الأرض دلائل على وجود الخالق وعظيم قدرته، استبانت لمن فكر وتدبر في هذا الكون وبديع صنعه، مما يشاهد من صنوف النبات والحيوان، والمهاد والجبال، والقفار والبحار إلى نحو أولئك مما بهر المخلوقات كما قال: « وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ».
فالموقنون كلما رأوا آية عرفوا وجه تأويلها فازدادوا إيقانا، وخصهم بالذكر لأنهم هم الذين يعترفون بذلك، ويتدبرونه فينتفعون به.
(وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ؟) أي أفلا تنظرون نظر من يعتبر في اختلاف الألسنة والألوان، والتفاوت في العقول والأفهام، واختلاف الأعضاء، وتعدد وظائف كل منها على وجه يحار فيه اللّبّ، ويدهش منه العقل؟
وخلاصة ما سلف - إنّ الله تعالى وصف المتقين بأنهم مجدّون في العبادة البدنية وفى بذل المال للمستحقين من ذوي الحاجة والبائسين، والإيمان بالله والعلم بقدرته بالنظر في الآفاق والأنفس.
(وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) أي وفى السماء أسباب رزقكم من النيّرين (الشمس والقمر) والكواكب والمطالع والمغارب التي بها تختلف الفصول فتنبت الأرض أنواع النبات وتسقى بماء الأمطار التي تحملها السحب وتسوقها الرياح لأسباب فلكية وطبيعية أوضحها علماء الفلك وعلماء الطبيعة. وكذلك ما توعدون من خير وشر، قاله مجاهد.
ثم أقسم ربنا بعزته وجلاله إن البعث لحق فقال:
(فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) أقسم ربنا جلت قدرته بجلاله وكبريائه: إن ما وعدكم به من أمر القيامة والبعث والجزاء حق لا مرية فيه، فلا تشكّوا فيه كما لا تشكون في نطقكم حين تنطقون، وهذا كما يقول الناس: إن هذا لحق كما أنك ترى وتسمع.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال فيها: بلغني أن رسول الله ﷺ قال « قاتل الله قوما أقسم لهم ربهم ثم لم يصدقوا ».
عن الأصمعي قال: أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابي على قعود فقال ممن الرجل؟ قلت من بنى أصمع، قال من أين أقبلت؟ قلت من موضع يتلى فيه كلام الرجل؟ قلت من بنى أصمع، قال من أين أقبلت؟ قلت من موضع يتلى فيه كلام الرحمن، قال: اتل علي فتلوت والذّاريات فلما بلغت: وفى السّماء رزقكم قال حسبك، فقام إلي ناقته فنحرها ووزعها وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى، فلما حججت مع الرشيد طفقت أطوف فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق فالتفتّ فإذا بالأعرابي قد نحل واصفر فسلم علي واستقرأ السورة، فلما بلغت الآية صاح وقال لقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، ثم قال: وهل غير هذا؟ فقرأت: فوربّ السّماء والأرض إنّه لحقّ. فصاح وقال: يا سبحان الله، من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف، لم يصدقوه حتى حلف (قالها ثلاثا) وخرجت معها نفسه.
وإنما قصصت عليك هذا القصص لما فيه من أدب بارع وظرف وحسن فهم من ذلك الأعرابي لكتاب الله، ولك بعد ذلك أن تصدقه أو تتشكك فيه، فكم للأصمعى من مثله، فهو الأديب البارع، والراوية الحافظ، فلا يعجزه أن يصنعه ويصنع أمثاله.
[سورة الذاريات (51): الآيات 24 الى 30]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلامًا قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)
تفسير المفردات
الضيف: لفظ يستعمل للواحد والكثير، المكرمين: أي عند إبراهيم إذ خدمهم هو وزوجه وعجل لهم القرى وأجلسهم في أكرم موضع، قوم منكرون: أي قوم لا عهد لنا بكم من قبل، وقد قال ذلك إبراهيم عليه السلام للتعرف بهم كما تقول لمن لقيته وسلم عليك: أنا لا أعرفك، تريد عرّف لي نفسك وصفها، فراغ إلى أهله: أي ذهب إليهم خفية من ضيفه، سمين: أي ممتلىء بالشحم واللحم، فقربه إليهم: أي وضعه لديهم، فأوجس منهم خيفة: أي أضمر في نفسه الخوف منهم، امرأته هي سارّة لما سمعت بشارتهم له، صرّة: أي صيحة، فصكت وجهها: أي ضربت بيدها على جبهتها وقالت: يا ويلتا، عجوز عقيم: أي أنا كبيرة السن لا ألد.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه إنكار قومه للبعث والنشور حتى أقسم لهم بعزته أنه كائن لا محالة - سلى رسوله فأبان له أنه ليس ببدع في الرسل، وأن قومه ليسوا ببدع في الأمم، وأنهم إن تمادوا في غيهم وأصروا على كفرهم ولم يقلعوا عماهم عليه، فسيحل بهم مثل ما حل بمن قبلهم من الأمم الخالية.
وذكر إبراهيم من بين الأنبياء لكونه شيخ المرسلين، وكون النبي ﷺ على سننه كما قال تعالى: « ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ » ولأن العرب كانت تجلّه وتحترمه وتدعى أنها على دينه.
وأتى بالقصص بأسلوب الاستفهام تفخيما لشأن الحديث كما تقول لمخاطبك هل بلغك كذا وكذا، وأنت تعلم أنه لم يبلغه، توجيها لأنظاره حتى يصغى إليه ويهتم بأمره، ولو جاء على صورة الخبر لم يكن له من الروعة والجلال مثل ما كان وهو بهذه الصورة، وتنبيها إلى أن الرسول لم يعلم به إلا من طريق الوحي.
الإيضاح
(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ. إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلامًا قالَ سَلامٌ؟) أي هل عندك نبأ بما حدث بين إبراهيم وضيوفه من الملائكة الذين وفدوا عليه وهم ذاهبون في طريقهم إلى قوم لوط، فسلموا عليه فرد عليهم التحية بأحسن منها.
ثم أراد أن يتعرف بهم فقال:
(قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) أي إنكم قوم لا عهد لنا بكم من قبل فعرفونى أنفسكم - من أنتم؟
واستظهر بعض العلماء أن هذه مقالة أسرّها في نفسه أو لمن كان معه من أتباعه وجلسائه من غير أن يشعرهم بذلك، لأن في خطاب الضيف بنحو ذلك إيحاشا له، إلى أنه لو كان أراد ذلك لكشفوا له أحوالهم، ولم يتصد لمقدمات الضيافة، ثم ذكر أنه أسرع في قرى ضيوفه فقال:
(فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ. فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ) أي فذهب خفية مسرعا وقدم لضيوفه عجلا سمينا أنضجه شيّا، كما جاء في سورة هود « فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ » أي مشوى على الرضف.
(قالَ أَلا تَأْكُلُونَ؟) أي قال مستحثا لهم على الأكل: ألا تأكلون؟ وفى هذا تلطف منه في العبارة وعرض حسن، وقد انتظم كلامه وعمله آداب الضيافة، إذ جاء بطعام من حيث لا يشعرون، وأتى بأفضل ماله، وهو عجل فتي مشوى، ووضعه بين أيديهم، ولم يضعه بعيدا منهم حتى يذهبوا إليه، وتلطف في العرض فقال: ألا تأكلون؟
(فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) أي فأعرضوا عن طعامه ولم يأكلوا فأضمر في نفسه الخوف منهم، ظنا منه أن امتناعهم إنما كان لشرّ يريدونه، فإنّ أكل الضيف أمنة ودليل على سروره وانشراح صدره، وللطعام حرمة، وفى الإعراض عنه وحشة موجبة لسوء الظن، وقد جاء في سورة هود: « فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ».
ثم ذكر أنهم طمأنوه حينئذ فقال:
(قالُوا لا تَخَفْ) منا إنا رسل ربك، وجاء في الآية الأخرى: « قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ ».
(وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) أي فبشروه بإسحاق بن سارّة كما جاء في سورة هود: « فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ » وجاءت البشارة بذكر لأنه أسرّ للنفس، وأقر للعين، ووصفه بالعلم لأنه الصفة التي يمتاز بها الإنسان الكامل، لا الصورة الجميلة ولا القوة ولا نحوهما.
ثم أخبر عما حدث من امرأته حينئذ فقال:
(فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) أي فأقبلت امرأته سارّة حين سمعت بشارتهم (كانت في ناحية من البيت تنظر إليهم) وهي تصرخ صرخة عظيمة وضربت بيديها على جبيتها وقالت: أنا عجوز عقيم فكيف ألد؟ وجاء في الآية الأخرى: « قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخًا » فأجابوها عما قالت:
(قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) أي قالوا لها: مثل الذي أخبرناك به قال ربك، فنحن نخبرك عن الله، والله قادر على ما تستبعدين، وهو الحكيم في أفعاله، العليم الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
والخلاصة - إنها استبعدت الولادة لسببين: كبر السن والعقم، وقد كانت لا تلد في عنفوان شبابها والآن قد عجزت وأيست، فأجدر بها الآن ألا تلد، فكأنها قالت: ليتكم دعوتم دعاء قريبا من الإجابة، ظنا منها أن ذلك منهم كما يصدر من الضيف من الدعوات الطيبات كما يقول الداعي: أعطاك الله مالا، ورزقك ولدا، فردوا عليها بأن هذا ليس منا بدعاء، وإنما ذلك قول الله تعالى.
قد تمّ ما أردنا تصنيفه في تفسير هذا الجزء بمدينة حلوان من أرباض القاهرة كورة الديار المصرية في اليوم العاشر من شهر ربيع الثاني من سنة خمس وستين وثلاثمائة بعد الألف من هجرة سيد ولد عدنان.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
[تتمة سورة الذاريات]
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة الذاريات (51): الآيات 31 الى 37]
قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37)
تفسير المفردات
الخطب: الشأن الخطير، أي فما شأنكم الذي أرسلتم لأجله سوى البشارة، إلى قوم مجرمين: هم قوم لوط، من طين: أي من طين متحجر وهو السجيل، مسومة: أي معلّمة من السّومة وهي العلامة، للمسرفين: أي المجاوزين الحد في الفجور، من المؤمنين: أي ممن آمن بلوط، غير بيت: أي غير أهل بيت، والمراد بهم لوط وابنتاه آية: أي علامة دالة على ما أصابهم من العذاب.
المعنى الجملي
تقدم أن قلنا غير مرة إن الذين قسموا القرآن إلى أجزائه الثلاثين نظروا إلى العدّ اللفظي ولم يعنوا بالنظر إلى الترتيب المعنوي، ومن ثم تجد جزءا قد انتهى وبدىء بآخر أثناء القصة كما هنا.
فبعد أن بشر الملائكة إبراهيم عليه السّلام بالغلام - سألهم ما شأنكم وما الذي جئتم لأجله؟ قالوا إنا أرسلنا إلى قوم لوط، لنهلكهم بحجارة من سجيل بها علامة تدل على أنها أعدت لإهلاكهم، ثم نأمر من كان فيها من المؤمنين بالخروج من القرية حتى لا يلحقهم العذاب الذي سيصيب الباقين، وسنترك فيها علامة تدل على ما أصابهم من الرجز، جزاء فسوقهم وخروجهم من طاعة ربهم.
الإيضاح
(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) أي قال إبراهيم لهؤلاء الملائكة: ما شأنكم؟ وفيم أرسلتم؟ وجاء في سورة هود: « فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ. إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ. يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ».
فأجابوه عما سأل:
(قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ. لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ. مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ) أي قالوا له: إنا أرسلنا إلى قوم لوط بالعذاب لإجرامهم، وسنلقى عليهم حجارة من طين مطبوخ كالآجرّ وهي في الصلابة كالحجارة، وفيها علامات أعدت لهلاك المسرفين.
ولما أراد سبحانه أن يهلك المجرمين ميّز عنهم المؤمنين وأبعدهم منهم كما قال:
(فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي بعد أن ذهبت رسلنا إلى قوم لوط ووقعت بينهم وبينهم محاورات لم يدع الحال إلى ذكرها هنا - أخرجوا من كان في القرى من المؤمنين تخليصا لهم من العذاب، ولم يجدوا فيها سوى بيت واحد أسلم وجهه لله ظاهرا وباطنا، وانقاد لأوامره واجتنب نواهيه، وهو بيت لوط ابن أخي إبراهيم عليه السّلام.
عن سعيد بن جبير قال: كانوا ثلاثة عشر.
قال أبو مسلم الأصفهاني: الإسلام الاستسلام لأمر الله والانقياد لحكمه، فكل مؤمن مسلم، ومن ذلك قوله تعالى: « قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا ».
وقد أوضح الحديث الشريف الفرق بينهما، فجاء في الصحيحين وغيرهما من طرق عدة « أن رسول الله ﷺ سئل عن الإسلام فقال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسوله، وتقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتحج البيت، وتصوم رمضان. وسئل عن الإيمان؟ فقال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالقدر خيره وشره ».
(وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ) أي وجعلناها عبرة بما أنزلنا بها من العذاب والنكال وحجارة السجيل، وخسف الأرض بهم حتى صارت قريتهم بحيرة منتنة خبيثة وهي بحيرة طبرية، لتكون ذكرى لن يخشى الله ويخاف عذابه.
وفي الآية إيماء إلى أن الكفر متى غلب، والفسق إذا انتشر، لا تنفع معه عبادة المؤمنين، أما إذا كان أكثر الخلق على الطريقة المستقيمة وفيهم شرذمة يسيرة يسرقون ويفجرون، فإن الله لا يأخذ الكثرة الصالحة بذنب العدد القليل من الفاجرين.
[سورة الذاريات (51): الآيات 38 الى 46]
وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمًا فاسِقِينَ (46)
تفسير المفردات
بسلطان مبين: أي بحجة واضحة هي معجزاته الظاهرة كاليد والعصا، والركن: ما يركن إليه الشيء ويتقوّى به، والمراد هنا جنوده وأعوانه ووزراؤه كما جاء في سورة هود « أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ »، فأخذناه: أي أخذ غضب وانتقام، نبذناهم: أي طرحناهم، في اليمّ: أي في البحر، مليم: أي آت بما يلام عليه، والعقيم: أي التي لا خير فيها ولا بركة، فلا تلقح شجرا ولا تحمل مطرا، سميت عقيما لأنها أهلكتهم وقطعت دابرهم، الرميم: البالي من عظم ونبات وغير ذلك، فعتوا: أي فاستكبروا عن الامتثال، والصاعقة: نار تنزل بالاحتكاكات الكهربية، منتصرين: أي ممتنعين من عذاب الله بغيرهم ممن أهلكهم، فاسقين: أي خارجين من طاعة الله، متجاوزين حدوده.
المعنى الجملي
بعد أن ذكرما كان من قوم لوط من الفسوق والعصيان، وما أصابهم من الهلاك جزاء وفاقا لما اجترحوا من السيئات تسلية لرسوله على ما يرى من قومه - عطف على ذلك قصص جمع آخرين من الأنبياء لقوا من أقوامهم من الشدائد مثل ما لقى هذا الرسول الكريم، فحقت على أقوامهم كلمة ربهم ونزل بهم عذاب الاستئصال وصاروا كأمس الدابر عبرة ومثلا للآخرين، فذكر أنه أرسل موسى إلى فرعون بشيرا ونذيرا فأبى واستكبر واعتزّ بقوته وجنده، وقال أنا ربكم الأعلى، فأغرق هو وقومه في البحر.
وأرسل شعيبا إلى عاد فكذبوه فأهلكهم بريح صرصر عاتية. وأرسل صالحا إلى ثمود فكذبوه فأخذتهم الصاعقة ولم تبق منهم أحدا، وبعث نوحا إلى قومه فلم يستجيبوا لدعوته فأخذهم الطوفان وهم ظالمون.
الإيضاح
(وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ. فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) أي وفى قصص موسى عبرة لقوم يعقلون، إذ أرسلناه إلى فرعون بحجج ظاهرة، وآيات باهرة، فأعرض ونأى، وكذب ما جاء به، معتزا بجنده وقوته وجبروته، وقال حينا تحقيرا لشأن موسى: « إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ » وقال حينا آخر: « إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ ». وما مقصده من هذا إلا صرفهم عن النظر والتأمل فيما جاء به من الآيات، خوفا على ملكه أن ينهار، وعلى دولته أن يلحقها الدمار، وإبقاء على ما له من النفوذ والسلطان في البلاد.
ثم ذكر جزاءه هو وقومه على ما صنع فقال:
أَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ) أيفألقينا فرعون وجنوده في البحر وهو آت بما يلام عليه من الكفر والطغيان.
وفي هذا إيماء إلى عظمة القدرة على إذلال الجبابرة وسوء عاقبتهم، جزاء عتوهم واستكبارهم وعصيانهم أمر خالقهم.
ثم ذكر قصص عاد فقال:
(وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ، ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) أي وفى عاد آية لكل ذي لبّ، إذ أرسلنا عليهم ريحا صرصرا عاتية لم تبق منهم ديّارا ولا نافخ نار، ولا تركت شيئا من الأبنية والعروش إلا جعلته كالشيء الهالك البالي.
وبعدئذ ذكر قصص ثمود فقال:
(وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ،... فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) أي وفى ثمود عظة لمن تدبر وفكر في آيات ربه، إذ قال لهم نبيهم: « تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ » ثم يحل بكم من العذاب ما لا قبل لكم به، فكذبوه واستكبروا وعتوا عن أمر ربهم، فأرسل عليهم صاعقة من السماء أهلكتهم جميعا وهم ينظرون إليها - جزاء ما اكتسبت أيديهم من الآثام، وارتكاب الخطايا والأوزار.
(فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ. وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ) أي فما استطاعوا هربا ولم يجدوا مفرّا ولا نصيرا يدفع عنهم عذاب الله.
ثم ذكر موجزا لقصص قوم نوح فقال:
(وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمًا فاسِقِينَ) أي وأهلكنا قوم نوح بالطوفان قبل هؤلاء، بسبب فسقهم وفجورهم وانتهاكهم حرمات الله.
[سورة الذاريات (51): الآيات 47 الى 51]
وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)
تفسير المفردات
الأيد والآد: القوة، لموسعون: أي لذو سعة يخلقها وخلق غيرها من الوسع بمعنى الطاقة، فرشناها: أي بسطناها ومهدناها من مهدت الفراش إذا بسطته ووطّأته، وتمهيد الأمور: تسويتها وإصلاحها، ومن كل شيء: أي ومن كل جنس من الحيوان، زوجين: أي ذكر وأنثى، ففروا إلى الله: أي اعتصموا بحبل الله وأقروا بوحدانيته، إني لكم منه نذير مبين: أي إني لكم من عقابه منذر ومخوّف.
المعنى الجملي
بعد أن أثبت الحشر وأقام الأدلة على أنه كائن لا محالة - أرشد إلى وحدانية الله وعظيم قدرته، فبين أنه خلق السماء بغير عمد، وبسط الأرض ودحاها، لتصلح لسكنى الإنسان والحيوان، وخلق من كل نوع من أنواع الحيوان زوجين ذكرا وأنثى، ليستمر بقاء الأنواع إلى أن يشاء الله فناء العالم، ثم أمرهم أن يعتصموا بحبل الله وأنذرهم شديد عقابه، وحذرهم أن يجعلوا مع الله ندّا وشريكا.
الإيضاح
(وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) أي ولقد بنينا السماء ببديع قدرتنا، وعظيم سلطاننا، وإنا لقادرون على ذلك لا يمسنا نصب ولا لغوب.
وفي ذلك تعريض باليهود الذين قالوا: أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام واستراح في اليوم السابع مستلقيا على عرشه.
(وَالْأَرْضَ فَرَشْناها) أي ومهدنا الأرض، وجعلناها صالحة لسكنى الإنسان والحيوان، وجعلنا فيها الأرزاق والأقوات، من الحيوان والنبات وغيرهما مما يكفل بقاءهما إلى حين، ووضعنا فيها من المعادن في ظاهرها وباطنها ما فيه زينة لكم، فتبنون المساكن من حجارتها، وتتخذون الحلي من ذهبها وفضتها وأحجارها الكريمة، وتصنعون آلات الحرب والسفن والطائرات من حديدها ومعادنها الأخرى.
وفي الآية إشارة إلى أن دحو الأرض كان بعد خلق السماء، لأن بناء البيت يكون قبل الفرش، وهذا ما يثبته العلم الحديث الآن، وقد تقدم ذكر ذلك غير مرة.
ثم مدح سبحانه نفسه على ما صنع فقال:
(فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) أي فنعم ما فعلنا، وما أجمل ما خلقنا، مما فيه عظة لمن يتذكر ويتدبر.
(وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي وإنا خلقنا لكل ما خلقنا من الخلق ثانيا له، مخالفا له في مبناه والمراد منه، وكل منهما زوج للآخر، فخلقنا السعادة والشقاوة، والهدى والضلال، والليل والنهار، والسماء والأرض، والسواد والبياض - لتتذكروا وتعتبروا فتعلموا أن الله ربكم الذي ينبغي لكم أن تعبدوه وحده لا شريك له - هو الذي يقدر على خلق الشيء وخلافه، وابتداع زوجين من كل شيء لا ما لا يقدر على ذلك.
(فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ) أي فالجئوا إلى الله واعتمدوا عليه في جميع أموركم، واتبعوا أوامره، واعملوا على طاعته، ثم علل الأمر بالفرار إليه بقوله:
(إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي إني لكم نذير من الله أنذركم عقابه، وأخوّفكم عذابه الذي أحله بهؤلاء الأمم التي قص عليكم قصصها، وإني مبيّن لكم ما يجب عليكم أن تحذروه.
ثم ذكر أعظم ما يجب أن يفر المرء منه، وهو الشرك فقال:
(وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ) أي ولا تجعلوا مع معبودكم الذي خلقكم معبودا آخر سواه، فإن العبادة لا تصلح لغيره.
ثم علل هذا النهى بقوله:
(إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي إني لكم نذير ومخوف من عقابه على عبادتكم غيره.
ونحو الآية قوله تعالى: « فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ، فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ».
[سورة الذاريات (51): الآيات 52 الى 60]
كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
تفسير المفردات
فتول عنهم: أي أعرض عن جدلهم، وذكّر: أي دم على التذكير والموعظة، إلا ليعبدون: أي إلا لآمرهم بعبادتي لا لاحتياجى إليهم، المتين: أي الشديد القوة، ذنوبا: أي نصيبا من العذاب، وأصل الذنوب: الدلو العظيمة الممتلئة ماء، أصحابهم: أي نظرائهم، فويل للذين كفروا: أي هلاك لهم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن هؤلاء المشركين في قول مختلف مضطرب لا يلتئم بعضه مع بعض فبينما هم يقولون: خالق السموات والأرض هو الله إذا بهم يعبدون الأصنام والأوثان، وطورا يقولون: محمد ساحر، وطورا آخر يقولون هو كاهن إلى نحو ذلك.
قفي على ذلك بأن ذكر أن قومه ليسوا بدعا في الأمم، فكما كذبت قريش نبيها فعلت الأمم التي كذبت رسلها، فأحل الله بهم نقمته كقوم نوح وعاد وثمود، ثم عجّب من حالهم وقال: أتواصى بعضهم مع بعض بذلك؟ ثم قال: لا بل هم قوم طغاة متعدّون حدود الله، لا يأتمرون بأمره ولا ينتهون بنهيه، ثم أمر رسوله أن يعرض عن جدلهم ومرائهم، فإنه قد بلّغ ما أمر به ولم يقصّر فيه، فلا يلام على ذلك، وأن يذكّر من تنفعه الذكرى ولديه استعداد لقبول الإرشاد والهداية، ثم أردف هذا أن ذكر أنه ما خلق الجن والإنس إلا ليأمرهم ويكلفهم بعبادته، لا لاحتياجه إليهم في تحصيل رزق ولا إحضار طعام، فالله هو الرزاق ذو القوة. ثم ختم السورة بتهديد أهل مكة بأنه سيصيبهم من العذاب مثل ما أصاب من قبلهم من الأمم السالفة، فأولى لهم ألا يستعجلوه بقولهم: « مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ »، فقد حقت عليهم كلمة ربك في اليوم الذي يوعدون، وسيقع عليهم من العذاب ما لا مردّ له، ولا يجدون له دافعا.
الإيضاح
(كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) أي كما كذبك قومك من قريش وقالوا ساحر أو مجنون - فعلت الأمم التي كذبت رسلها من قبلهم وقالوا مثل مقالتهم، فهم ليسوا ببدع في الأمم، ولا أنت ببدع في الرسل، فكلهم قد كذّبوا وأوذوا فصبروا حتى أتاهم نصر الله.
وفي هذا تسلية لرسوله ﷺ على احتمال الأذى والإعراض عن جدلهم، فإنهم قد أبطرتهم النعمة وغرّهم الإمهال، فلا تجدى فيهم العظة ولا تنفعهم الذكرى.
ثم تعجب من إجماعهم على إنكار نبوة محمد ﷺ فقال: (أَتَواصَوْا بِهِ؟) أي أأوصى أولهم آخرهم بتكذيب محمد ﷺ فقبلوا ذلك منهم؟
ثم عدل عن أنّ الذي جمعهم على هذا القول هو التواصي، إلى أن الذي جمعهم على ذلك هو الطغيان فقال:
(بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) أي بل الذي جمعهم على ذلك هو الطغيان وتجاوز حدود الدين والعقل، فقال متأخرهم مثل مقالة متقدمهم.
ثم سلى رسوله بقوله:
(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) أي فأعرض عنهم أيها الرسول، ولا تأسف على تخلفهم عن الإسلام فإنك لم تأل جهدا في الدعوة، وهم ما زادوا إلا عتوا واستكبارا، وطغيانا وإعراضا.
(وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) أي دم على العظة والنصح، فإن الذكرى تنفع من في قلوبهم استعداد للهداية والرشاد.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي وجماعة من طريق مجاهد عن علي كرم الله وجهه قال: لما نزلت « فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ » لم يبق منا أحد إلا أيقن بالهلكة، إذ أمر النبي ﷺ أن يتولى عنا، فنزلت « وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ » فطابت أنفسنا.
وبعد أن بين حالهم في التكذيب ذكر سوء صنيعهم حيث تركوا عبادة الذي خلقهم للعبادة بقوله:
(وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أي وما خلقتهم إلا ليعرفونى، إذ لو لا خلقهم لم يعرفوا وجودى ولا توحيدى، يرشد إلى ذلك ما جاء في الحديث القدسي « كنت كنزا مخفيا فأردت أن أعرف، فخلقت الخلق فبى عرفونى » قاله مجاهد، وروى عنه أيضا أن المعنى: إلا لآمرهم وأنهاهم، ويدل عليه قوله: « وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهًا واحِدًا لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ » واختاره الزجاج، ويرى جمع من المفسرين أن المعنى: إلا ليخضعوا لي ويتذللوا، فكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء الله، متذلل لمشيئته، منقاد لما قدره عليه، خلقهم على ما أراد، ورزقهم كما قضى، لا يملك أحد منهم لنفسه نفعا ولا ضرا.
وهذه الجملة مؤكدة للأمر بالتذكير وفيها تعليل له، فإن خلقهم لما ذكر يدعوه إلى تذكيرهم ويوجب عليهم التذكر والاتعاظ.
ثم ذكر أن شأنه مع عبيده ليس كشأن السادة مع عبيدهم فقال:
(ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) أي إننى ما أريد أن أستعين بهم لجلب منفعة ولا دفع مضرة، فلا أصرّفهم في تحصيل الأرزاق والمطاعم كما يفعل الموالي مع عبيدهم.
ثم علل هذا بقوله:
(إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) أي إنه تعالى غير محتاج إليهم بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، لأنه خالقهم ورازقهم، وهو ذو القدرة والقوة الغالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
روى أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ « يقول الله تعالى: يا ابن آدم تفرّغ لعبادتى أملأ صدرك غنى وأسدّ فقرك، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلا ولم أسدّ فقرك ».
ولما أقسم سبحانه على الصدق في وعيدهم - أخبر بإيقاع هذا الوعيد بهم يوم القيامة فقال:
(فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ) أي فإن للذين ظلموا أنفسهم باشتغالهم بغير ما خلقوا له من العبادة، وإشراكهم بالله عز وجل وتكذيبهم رسوله نصيبا من العذاب مثل نصيب نظرائهم من الأمم السالفة التي كذبت رسلها.
(فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) أي فلا يطلبوا مني أن أعجل بالإتيان به، فإني لا أخاف الفوت، ولا يلحقنى عجز، وهذا جواب عن قولهم: « فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ».
ونحو الآية قوله: « أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ».
(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) أي فويل لهم من حلول ذلك العذاب الذي وعدوه يوم القيامة حين لا تغنى نفس عن نفس شيئا ولا هم ينصرون.
خلاصة ما تضمنته السورة الكريمة
(1) دلائل البعث من العجائب الطبيعية والعلوم النفسية.
(2) جزاء المتقين بما يلقونه من النعيم يوم القيامة.
(3) أخبار الأمم السالفة التي كذبت رسلها.
(4) تسلية النبي ﷺ على ما يلقاه من أذى قومه.
(5) الفرار إلى الله من هذه الدنيا المحفوفة بالمخاطر.
(6) النهي عن الإشراك بالله.
(7) إخبار رسوله بأن قومه ليسوا ببدع في التكذيب بك فقد كذب رسل من قبلك.
(8) أمره ﷺ بالإعراض عنهم، وتذكير من تنفعه الذكرى من المؤمنين.
(9) إخباره بأن الله ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه.
(10) وعيد الكافرين بأن العذاب سيحل بهم يوم القيامة.
(11) إن المشركين سينالهم نصيب من العذاب مثل نصيب نظرائهم من المكذبين.