→ سورة المعارج | تفسير المراغي سورة نوح أحمد مصطفى المراغي |
سورة الجن ← |
هي مكية، وعدد آيها ثمان وعشرون، نزلت بعد سورة النحل.
ووجه اتصالها بما قبلها:
(1) أنه قال في السورة السابقة: « إِنَّا لَقادِرُونَ. عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ » وذكر هنا قصة نوح المشتملة على إغراقهم إلا من قد آمن، وإبدالهم بمن هم خير منهم، فكأنها وقعت موقع الاستدلال على تلك الدعوى.
(2) تواخى مطلع السورتين في ذكر العذاب الموعود به الكفار.
[سورة نوح (71): الآيات 1 الى 4]
بسم الله الرحمن الرحيم
إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحًا إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)
المعنى الجملي
أخبر سبحانه أنه أرسل نوحا إلى قومه وأمره أن ينذرهم بأسه قبل حلوله بهم، فقال نوح: يا قوم إني نذير لكم، فعليكم أن تعبدوا الله وحده وتطيعوه، فإن فعلتم ذلك غفر لكم ذنوبكم ومدّ في أعماركم، ودرأ عنكم العذاب، وأمر الله إذا جاء لا يردّ ولا يدفع، فهو العظيم الذي قهر كل شيء، العزيز الذي دانت لعزته جميع المخلوقات.
الإيضاح
(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحًا إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي إنا أرسلنا نوحا رسولا إلى قومه وقلنا له: أنذرهم بأس الله وعذابه، قبل أن يغرقهم الطوفان.
ثم أخبر بأنه لما أمره بذلك امتثل الأمر.
(قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي قال نوح لقومه: إني أنذركم عذاب الله فاحذروا أن ينزل بكم على كفركم به.
ثم فصل ما أنذرهم به، فذكر ثلاثة أشياء:
(1) (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ) أي آمركم بعبادة الله وحده، والأمر بذلك يتناول جميع الواجبات والمندوبات من أفعال القلوب وأفعال الجوارح.
(2) (وَاتَّقُوهُ) أي وآمركم بتقواه وخوف عذابه، بأن تتركوا محارمه، وتحتنبوا مآثمه.
(3) (وَأَطِيعُونِ) أي وانتهوا إلى ما آمركم به واقبلوا نصيحتى لكم.
ولما كلفهم بهذه الثلاثة الأشياء وعدهم عليها بشيئين:
(1) (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أي إذا فعلتم ما أمركم به، وصدقتم ما أرسلت به إليكم - غفر لكم ذنوبكم وسامحكم فيما فرط منكم من الزلات.
وفي هذا وعد لهم بإزالة مضار الآخرة عنهم، وأمنهم من مخاوفها.
(2) (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي ويمدّ في أعماركم إلى الأمد الأقصى الذي قدره الله إذا آمنوا وأطاعوا وراء ما قدره لهم، على تقدير بقائهم على الكفر والعصيان.
واستدل العلماء بهذه الآية على أن الطاعة والبر وصلة الرحم يزاد بها في العمر حقيقة كما جاء في الحديث: « صلة الرحم تزيد في العمر »
ولا ريب أن التقوى والطاعة تؤثر هذا الأثر، إذ طهارة الأرواح، ونقاء الأشباح تطيل العمر، فبها يحفظ الأمن، وتكتسب الفضائل، وتجتلب المنافع المادية.
والخلاصة - إن الأجل أجلان على ما قاله الزمخشري وعبارته: فقد قضى الله مثلا أن قوم نوح إن آمنوا عمرهم ألف سنة، وإن بقوا على كفرهم أهلكهم على رأس تسعمائة سنة فقيل لهم آمنوا: يؤخركم إلى أجل مسمى، أي إلى وقت سماه الله وضربه أمدا تنتهون إليه، وهو الوقت الأطول، وهو تمام الألف اهـ.
ثم أخبر أنه إذا انقضى ذلك الأجل الأطول فلا بد من الموت فقال:
(إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي إن أجل الله الذي كتبه على خلقه في أم الكتاب إذا جاء لا يؤخر عن ميقاته لو كنتم من أهل العلم، لكنكم لستم من أهله، ولذا لم تسارعوا إلى العمل بما أمركم به.
وفي قوله لو كنتم تعلمون: زجر لهم عن حب الدنيا والتهالك عليها، والإعراض عن أوامر الدين ونواهيه، وكأنهم قد بلغ بهم الأمر إلى أنهم شاكون في الموت.
[سورة نوح (71): الآيات 5 الى 20]
قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِرارًا (6) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْرارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهارًا (12) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجًا (20)
شرح المفردات
ليلا ونهارا: أي دائما، جعلوا أصابعهم في آذانهم: أي سدوا مسامعهم، استغشوا ثيابهم: أي تغطوا بها لئلا يرونى كراهة النظر إلي، السماء: أي المطر كما جاء في قوله:
إذا نزل السماء بأرض قوم فحلّوا حيثما نزل السماء
مدرارا: أي متتابعا، جنات: أي بساتين، ترجون: أي تخافون، وقارا: أي عظمة وإجلالا، أطوارا: واحدها طور وهو الحال والهيئة، فطورا نطفة، وطورا علقة، وطورا عظاما، ثم تكسى العظام لحما، ثم تنشأ خلقا آخر، طباقا: أي بعضها فوق بعض، بساطا: أي منبسطة تتقلبون فيها، فجاجا: أي واسعة، واحدها فج، وهو الطريق الواسع قاله الفراء وغيره.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن نوحا أمر أن ينذر قومه قبل أن يحل بهم بأس ربهم، وعظيم بطشه، وأنه لبّى نداءه، فأنذرهم وأمرهم بتقواه وطاعته، ليغفر ذنوبهم، ويمدّ في أعمارهم - أردف ذلك بمناجاته لربه وشكواه إليه، أنه أنذرهم بما امره به، فعصوه وردّوا عليه ما أتاهم به من عنده، ولم يزدهم دعاؤه إلا إدبارا عنه، وهربا منه، وأنه كان يدعوهم تارة جهرة، وتارة سرّا، وأمرهم أن يطلبوا من ربهم مغفرة ذنوبهم، ليرسل المطر عليهم، ويمدهم بالأموال والبنين، ويجعل لهم الجنات والأنهار، ثم نبههم إلى عظمته تعالى، وواسع قدرته، ولفت أنظارهم إلى خلقه تعالى لهم أطوارا، وخلقه للسموات طباقا، وجعل القمر فيهن نورا، وجعل الشمس سراجا، وجعل الأرض كالبساط يتنقلون فيها من واد إلى واد، ومن قطر إلى قطر.
الإيضاح
(قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِرارًا) أي قال رب إني أنذرت قومي ولم أترك دعاءهم في ليل ولا نهار امتثالا لأمرك، وكلما دعوتهم ليقتربوا من الحق فرّوا منه، وحادوا عنه.
ثم أخبر عن أحوال أخرى لهم تدل على الفظاظة وجفاء الطبع فقال:
(وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبارًا) أي وإني كلما دعوتهم إلى الإقرار بوحدانيتك، والعمل لطاعتك، والبراءة من عبادة كل ما سواك، لتغفر لهم ذنوبهم - سدّوا مسامعهم حتى لا يسمعوا دعائى، وتغطّوا بثيابهم كراهة النظر إلي، وأكبّوا على الكفر والمعاصي، وتعاظموا عن الإذعان للحق، وقبول ما دعوتهم إليه من النصح.
ثم بين أنه ما ترك وسيلة في الدعوة إلا فعلها فقال:
(ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهارًا. ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرارًا) أي ثم إني كنت أسرّ لهم بالدعوة تارة، وأجهر لهم بها تارة أخرى، وطورا كنت أجمع بين الإعلان والإسرار.
والخلاصة - إنه عليه الصلاة والسلام لم يترك سبيلا للدعوة إلا فعلها، فاستعمل طرقا ثلاثة:
(1) بدأهم بالمناصحة في السر، فعاملوه بما ذكر في الآية من سدّ الآذان والاستغشاء بالثياب، والإصرار على الكفر، والاستعظام عن سماع الدعوة.
(2) جاهرهم بالدعوة، وأعلنهم على وجه ظاهر لا خفاء فيه.
(3) جمع بين الإعلان والإسرار.
ثم بين ما كان يقول لهم فقال:
(فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) أي فقلت لهم: سلوا ربكم غفران ذنوبكم، وتوبوا إليه من كفركم وعبادة ما سواه من الآلهة، ووحدوه وأخلصوا له العبادة.
(إِنَّهُ كانَ غَفَّارًا) لذنوب من أناب إليه وتاب منها، متى صدقت العزيمة، وخلصت النية، وصحت التوبة، فضلا منه وجودا، وإن كانت كزيد البحر.
ولما كان الإنسان مجبولا على محبة الخيرات العاجلة كما قال: « وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ » لا جرم أعلمهم أن إيمانهم بالله يجمع لهم إلى الحظ الأوفر في الآخرة، الخصب والغنى وكثرة الأولاد في الدنيا، ومن ثم وعدهم بخمسة أشياء:
(1) (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْرارًا) أي يرسل المطر عليكم متتابعا، فتزرعون ما تحبون، ويكثر الخصب والغلات النافعة لكم في معاشكم، من حبوب وثمار، وتحدث لكم طمأنينة وأمن وراحة لتوافر ما تشتهون، مما هو سبب السعادة والهدى.
(2) (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ) أي ويكثر لكم الأموال والخيرات على سائر ضروبها واختلاف ألوانها.
(3) (وَبَنِينَ) أي ويكثر لكم الأولاد فقد ثبت لدى علماء الاجتماع أن النسل لا يكثر في أمة إلا إذا استتب فيها الأمن، وارتفع منها الظلم، وساد العدل بين الأفراد، وتوافرت لهم وسائل الرزق.
وأصدق شاهد على هذا الأمة المصرية، فقد كانت في عصر المماليك في القرن السابع عشر الميلادي، أيام الظلم والعسف والجبروت، في فقر وضنك، وسلب ونهب، فتدهور عدد سكانها حتى بلغ الثلاثة الملايين.
ولما اعتلى عرش مصر « محمد علي » رأس الأسرة المالكة في مصر في أوائل القرن الثامن عشر، وساس البلاد بحكمته، وسعى جهد طاقته في تنظيم مرافقها من زراعة وصناعة ومعارف وعلوم، تكاثر النسل وما زال يزيد، ونهج أبناؤه وحفدته نهجه حتى بلغ عدده في عصرنا الحاضر نحو عشرين مليونا.
(4) (وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ) أي ويوجد لكم بساتين عامرة تأخذون من ثمارها ما به تنتفعون، ولن يطمع الناس في الفاكهة إلا إذا وجدت لديهم الأقوات، وكثرت الغلات.
(5) (وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهارًا) جارية بها يكثر الخصب والزرع بمختلف ألوانه وأشكاله.
لا جرم أن الأمة الكثيرة البساتين والمزارع، يعمها الرخاء، وتسعد في حياتها الدنيوية.
وعن الحسن أن رجلا شكا إليه الجدب فقال له: استغفر الله، وشكا إليه آخر الفقر وقلّة النسل فقال له: استغفر الله، وشكا إليه ثالث جفاف بساتينه. فقال له: استغفر الله، فقال له بعض القوم: أتاك رجال يشكون إليك أنواعا من الحاجة، فأمرتهم كلهم بالاستغفار، فقال: ما قلت من نفسي شيئا، إنما اعتبرت قول الله عز وجل حكاية عن نبيه نوح عليه الصلاة والسلام أنه قال لقومه: « اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ » الآية.
وبعد أن أدّبهم الأدب الخلقي بطلبه منهم تهذيب نفوسهم واتباعهم مكارم الأخلاق، شرع يؤدبهم الأدب العلمي بدراسة علم التشريح، وعلم النفس، ودراسة أحوال العوالم العلوية والسفلية فقال:
(ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقارًا. وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوارًا) أي مالكم لا تخافون عظمة الله وقد خلقكم على أطوار مختلفة، فكنتم نطفة في الأرحام، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظاما، ثم كسا عظامكم لحما، ثم أنشأكم خلقا آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين.
وقد ذكرت هذه الأطوار في سور كثيرة كسورة آل عمران وسورة المؤمنين وغيرهما.
وبعد أن ذكر النظر في الأنفس أتبعه بالنظر في العالم العلوي والسفلي فقال:
(أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقًا. وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجًا) أي ألم تروا كيف خلق السموات متطابقة بعضها فوق بعض، وجعل للقمر بروجا ومنازل وفاوت نوره، فجعله يزداد حينا حتى يتناهى، ثم يبتدئ ينقص حتى يستسر ليدل ذلك على مضي الشهور والأعوام، وجعل الشمس كالسراج يزيل ظلمة الليل.
ونحو الآية قوله: « هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ، ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ، يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ».
(وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتًا) أي والله أنبت أباكم آدم من الأرض كما قال: « إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ».
وقد يكون المعنى - إنه أنبت كل البشر من الأرض، لأنه خلقهم من النطف وهي متوالدة من الأغذية المتوالدة من النبات المتوالد من الأرض.
وجعلهم نباتا لأنهم ينمون كما ينمو النبات ويلدون ويموتون، وأيديهم وأرجلهم كأفرع النبات: وعروقهم المتشعبة في الجسم والتي يجرى فيها الدم وينتشر في الأطراف، تشبه ما في الشجر، وأحوالهم مختلفة كأحوال النبات، فمنه الحلو والمرّ والطيب والخبيث، واستعدادهم مختلف كاستعداد النبات، فلكل امرئ خاصة كما لكل نوع من النبات خاصة.
(ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجًا) أي ثم يعيدكم في الأرض كما كنتم ترابا، ويخرجكم منها متى شاء أحياء كما كنتم بشرا.
ثم أخذ يعدد النعم التي أعدها للإنسان في الأرض، وذكر أن الأرض مهيأة مسخرة لأمره كتسخير البساط للرجل يتقلب عليه كما يشاء، ويظهر مواهبه لاستخراج ما في بطنها من المعادن المختلفة، وخيراتها المنوعة فقال:
(وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطًا) أي والله بسط لكم الأرض ومهّدها، وثبتها بالجبال الراسيات.
ثم بين حكمة هذا فقال:
(لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجًا) أي لتستقروا عليها، وتسلكوا فيها، أين شئتم من نواحيها وأرجائها وأقطارها المختلفة.
وقصارى ما سلف - إن نوحا عليه السلام أمر قومه بالنظر في علوم الأنفس والآفاق من معدن ونبات وحيوان وإنسان وسماء وأرض وشموس وأقمار.
[سورة نوح (71): الآيات 21 الى 24]
قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالًا (24)
شرح المفردات
الخسار: الخسران، كبارا: أي كبيرا عظيما، لا تذرنّ: أي لا تتركنّ، ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر: أسماء أصنام كانوا يعبدونها.
المعنى الجملي
أخبر عن نوح أنه أعلم ربه وهو العليم الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة أنه مع ما استعمله من الوسائل والأساليب المختلفة المشتملة على الترغيب طورا والترهيب طورا آخر - كذبوه وعصوه واتبعوا أبناء الدنيا ممن غفل عن أمر ربه، ومتّع بمال وولد وقالوا: لا نترك آلهتنا التي عبدناها نحن وآباؤنا من قبل، ولا عجب فقد أضلت الأصنام خلقا كثيرا، فدعا عليهم: رب اخذل هؤلاء القوم الظالمين ولا تزدهم إلا ضلالا.
الإيضاح
(قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسارًا) أي قال نوح: رب إنهم عصونى فيما أمرتهم به، وأنكروا ما دعوتهم إليه، واتبعوا رؤساءهم الذين بطروا بأموالهم، واغتروا بأولادهم، فكان ذلك زيادة في خسرانهم وخروجا عن محجة الصواب، وبعدا من رحمة الله.
(وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا) أي مكرا كبيرا، فاحتالوا في الدين، وصدّوا الناس عنه بأساليب شتى، وأغروهم بأذى نوح عليه السلام.
(وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا) أي وقال بعضهم لبعض: لا تتركوا عبادة آلهتكم وتعبدوا رب نوح، ولا سيما هذه الأصنام التي هي أكبر المعبودات وأعظمها.
وقد انتقلت هذه الأصنام إلى العرب فيما بعد. أخرج البخاري وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال: صارت هذه الأوثان في العرب بعد فكان:
ودّ: لكلب.
سواع: لهذيل.
يغوث: لغطيف بالجرف عند سبأ يعوق: لهمدان.
نسر: لحمير آل ذي الكلاع.
وهناك أصنام أخرى لأقوام آخرين:
اللات: لثقيف بالطائف.
العزّى: لسليم وغطفان وجشم.
مناة: لخزاعة بقديد.
أساف: لأهل مكة.
نائلة: « «
هبل: « « وهو أكبر الأصنام وأعظمها عندهم ومن ثم كان يوضع فوق الكعبة.
وليس المراد أن أعيان هذه الأصنام صارت إليهم، بل المراد أنهم أخذوا هذه الأسماء وسموا بها أصنامهم.
(وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا) أي وقد ضل بعبادة هذه الأصنام التي استحدثت على صور هؤلاء النفر، كثير من الناس، فقد استمرت عبادتها قرونا كثيرة كما قال الخليل عليه الصلاة والسلام في دعائه: « واجنبنى وبني أن نعبد الأصنام. ربّ إنّهنّ أضللن كثيرا من النّاس ».
ثم دعا على قومه لتمردهم وعنادهم فقال:
(وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا) أي ولا تزد الظالمين لكفرهم بآياتك إلا ضلالا وطبعا على قلوبهم حتى لا يهتدوا إلى حق، ولا يصلوا إلى رشد.
وقصارى ما قاله عليه الصلاة والسلام - أن دعا عليهم بالخذلان، وأن دعا لنفسه بالنصر وظهور دينه كما جاء في قوله: « رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ ».
[سورة نوح (71): الآيات 25 الى 28]
مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصارًا (25) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبارًا (28)
شرح المفردات
مما خطيئاتهم: أي من أجل ذنوبهم وآثامهم، أغرقوا: أي بالطوفان، نارا: أي عذابا في القبر، ديّارا: أي أحدا، تبارا. أي هلاكا.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر مقالة نوح وشكواه إليه - أردفه بما جازاهم به من الغرق والعذاب، وأنهم لم يجدوا من يدفعهما عنهم، ثم أخبر بدعاء نوح على قومه، وعلل هذا بأنهم يضلون الناس وأنهم لو نسلوا لم يلدوا إلا الكفرة الفجرة، ثم دعا لنفسه ولوالديه ولمن دخل سفينته من المؤمنين والمؤمنات بالمغفرة، ودعا على قومه بالتبار والهلاك.
الإيضاح
(مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نارًا، فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصارًا) أي من أجل معاصيهم وذنوبهم أغرقهم الله بالطوفان، وسيعذبهم في قبورهم، ولا يجدون من آلهتهم أنصارا ولا أعوانا يدفعون عنهم ما كتب عليهم، وبذا ضلّ سعيهم، وخاب فألهم.
(وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّارًا) أي وقال نوح رب لا تدع على وجه الأرض منهم أحدا.
ثم بيّن علة هذا الدعاء بشيئين:
(1) (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ) أي إنك إن أبقيت منهم أحدا أضلوا عبادك الذين آمنوا بك.
(2) (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِرًا كَفَّارًا) أي وإنهم لا يلدون إلا الكفرة الفجرة.
وقد كان دعاؤه عليهم بعد حبرته لهم، وتمرّسه بأحوالهم، ومكثه بين ظهرانيهم ألف سنة إلا خمسين عاما.
روي أن الرجل منهم كان ينطلق بابنه إليه ويقول له: احذر هذا فإنه كذاب، وإن أبى أوصاني بمثل هذه الوصية، فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك.
وبعد أن دعا على الكفار، دعا لنفسه ولأبويه وللمؤمنين والمؤمنات بالمغفرة فقال.
(رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي رب استر على ذنوبى وعلى والدي وعلى من دخل مسجدى ومصلاى مصدقا بنبوّتى وبما فرضته علي، وعلى المصدّقين بوحدانيتك، والمصدقات بذلك من كل أمة إلى يوم القيامة.
ثم أعاد الدعاء على الكافرين مرة أخرى لغيظه منهم فقال:
(وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبارًا) أي ولا تزد الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم بك إلا خسرانا وبعدا من رحمتك.
وصلّ ربنا على محمد وآله، واغفر لي ولوالدي وللمؤمنين والمؤمنات.
مقاصد هذه السورة
اشتملت هذه السورة على مقصدين:
(1) دعوة نوح قومه إلى الإيمان وقد حوت:
(ا) طلب تركهم للذنوب، وأنهم إذا فعلوا ذلك أكثر الله لهم المال والبنين.
(ب) النظر في خلق السموات والأرض والأنهار والبحار.
(ح) النظر في خلق الإنسان وأنه بخلق في الأرض كما يخلق النبات، وأن الأرض مسخرة له يتصرف فيها كما يشاء.
(2) كفر قومه وعقابهم في الدنيا والآخرة.