→ سورة الكهف | تفسير المراغي سورة مريم أحمد مصطفى المراغي |
سورة طه ← |
☰ جدول المحتويات
- [سورة مريم (19): الآيات 1 الى 11]
- [سورة مريم (19): الآيات 12 الى 15]
- [سورة مريم (19): الآيات 16 الى 21]
- [سورة مريم (19): الآيات 22 الى 26]
- [سورة مريم (19): الآيات 27 الى 33]
- [سورة مريم (19): الآيات 34 الى 40]
- قصص إبراهيم عليه السلام
- [سورة مريم (19): الآيات 41 الى 50]
- قصص موسى عليه السلام
- [سورة مريم (19): الآيات 51 الى 53]
- قصص إسماعيل عليه السلام
- [سورة مريم (19): الآيات 54 الى 55]
- قصص إدريس عليه السلام
- [سورة مريم (19): الآيات 56 الى 57]
- [سورة مريم (19): آية 58]
- جزاء خلف هؤلاء ممن ضل وغوى
- [سورة مريم (19): الآيات 59 الى 60]
- [سورة مريم (19): الآيات 61 الى 63]
- [سورة مريم (19): الآيات 64 الى 65]
- [سورة مريم (19): الآيات 66 الى 72]
- [سورة مريم (19): الآيات 73 الى 76]
- [سورة مريم (19): الآيات 77 الى 80]
- [سورة مريم (19): الآيات 81 الى 87]
- [سورة مريم (19): الآيات 88 الى 95]
- [سورة مريم (19): الآيات 96 الى 98]
- خلاصة لما حوته السورة الكريمة من المقاصد
هي مكية إلا آيتي 58، 71 فمد نيتان، وآيها ثمان وتسعون.
ومناسبتها لسورة الكهف اشتمالها على نحو ما اشتملت عليه من أعاجيب القصص كقصة ولادة يحيى، وقصة ولادة عيسى عليهما السلام.
[سورة مريم (19): الآيات 1 الى 11]
بسم الله الرحمن الرحيم
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)
تفسير المفردات
زكريا (يمد ويقصر) من ولد سليمان بن داود عليهم السلام وكان نجارا، نادى ربه: أي دعاه، خفيا: أي مستورا عن الناس لم يسمعه أحد منهم، وهن العظم: ضعف ورقّ من الكبر إذ قد بلغ خمسا وسبعين سنة أو ثمانين، واشتعل الرأس شيبا: أي صار الشيب كالنار والشعر كأنه الحطب، ولقوتها وشدّتها أحرقت الرأس نفسه، شقيا. يقال شقى بكذا: أي تعب فيه ولم يحصّل مقصوده منه، والمراد أنه خائب غير مستجاب الدعوة، الموالي: هم عصبة الرجل، من ورائي: أي من بعدي، ويقال رجل عاقر وامرأة عاقر إذا كانا عقيمين، وليا: أي ولدا من صلبي، ويعقوب: هو يعقوب بن إسحق بن إبراهيم وكان متزوجا أخت مريم بنت عمران من ولد سليمان عليه السلام، رضيا: أي مرضيا عندك قولا وفعلا، سميا: أي شريكا له في الاسم فلم يسمّ أحد بهذا الاسم قبله، وهذا دليل على أن الأسماء السّنع - الشريفة - جديرة بالأثرة وإياها كانت العرب تنتحى في التسمية كما قال قائلهم في المدح:
سنع الأسامي مسبلي أزر حمر تمسّ الأرض بالهدب
أنى: أي كيف، عتيا من عتا يعتو: أي يبست مفاصله وعظامه، شيئا: أي موجودا، آية: علامة، سويا: أي سوي الخلق سليم الجوارح ليس به بكم ولا خرس، المحراب: المصلّى، أوحى: أي أومأ وأشار، سبّحوا: أي صلوا، بكرة وعشيا أي صلاة الفجر وصلاة العصر.
المعنى الجملي
روى محمد بن إسحاق في السيرة من حديث أم سلمة، وأحمد بن حنبل عن ابن مسعود في قصة الهجرة إلى أرض الحبشة من مكة - أن جعفر بن أبي طالب قرأ صدر هذه السورة على النجاشي وأصحابه.
الإيضاح
(كهيعص) تقدم الكلام في المراد من أوائل السور، وأن المختار أن المقصود بها التنبيه كحروف التنبيه التي تقع أول الكلام نحو ألا ويا وغيرهما، وتقرأ بأسمائها فيقال (كاف. ها. يا. عين. صاد).
(ذكر رحمت ربك عبده زكريا. إذ نادى ربه نداء خفيا) أي مما نقصّ عليك ذكر رحمة ربك عبده زكريا حين دعا ربه دعاء خفيا مستورا عن أعين الناس.
وإنما أخفى دعاءه، لأنه أدل على الإخلاص، وأبعد من الرياء، وأقرب إلى الخلاص من لائمة الناس، على طلب الولد وقت الكبر والشيخوخة.
وقصارى ذلك - إن في هذه السورة ذكر الرحمة التي رحم الله بها عبده زكريا حين أسرّ بدعائه إليه.
ثم فصّل كيفية دعائه بقوله:
(قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا. وإني خفت الموالى من ورائى وكانت امرأتي عاقرا) أورد زكريا عليه السلام قبل سؤاله أمورا ثلاثة، كل منها يستحق الرحمة والشفقة:
(1) ضعفه ظاهرا وباطنا، وأثر الأول قد ظهر في العظام التي هي حاملة سائر الأعضاء، ومتى وصل إليها الضعف كان ضعف ما عداها أولى وأجدر، وأثر الثاني واضح باستيلاء الشيب على الرأس واضطرامه في السواد كما قال ابن دريد:
أما ترى رأسي حاكى لونه طرّة صبح تحت أذيال الدجى
واشتعل المبيضّ في مسودّه مثل اشتعال النار في جمر الغضا
(2) إنه ما ردّ دعاؤه ولا خاب استعطافه حينا من الدهر، بل كان كلما دعا استجيب له، وهو في هذه الحال أجدر بالإجابة لضعفه وشيخوخته، وفى هذا إشارة إلى لطف الله به، وعظيم فضله عليه، مدى حياته.
وقد روى التاريخ أن معن بن زائدة أتاه سائل فقال من أنت؟ قال أنا الذي أحسنت إليه حين كذا، قال مرحبا بمن توسل بنا إلينا وقضى حاجته.
(3) إن في إجابة الطلب منفعة دينية، إذ أنه خاف أن الموالي أي الورثة الذين يخلفونه في إقامة الشعائر الدينية - لا يؤدون ما يجب عليهم نحو الدين من نشره وتبليغه الناس وعبادة الله كما أمر، والذبّ عنه إذا جد الجدّ، ووجب الدفاع عنه، فقد أثر عنهم أنهم كانوا من شرار بني إسرائيل، فخافهم ألا يحسنوا خلافته في أمته، لا في الدين ولا في المال، ولا في السياسة التي تتبع في إدارة شؤونها.
وقد عرف زكريا عليه السلام ببعض الأمارات أن عصبته وهم إخوته وبنو عمه ربما استمروا على عادتهم في الشر والفساد فخافهم على الدين أن يغيّروه، وألا يحسنوا الخلافة على أمته، فطلب عقبا من صلبه يقتدى به في إحيائه، وينهج نهجه فيه فقال:
(فهب لي من لدنك وليا. يرثنى ويرث من آل يعقوب [1] واجعله رب رضيا) أي أعطني من واسع فضلك، وعظيم جودك وعطائك، لا بطريق الأسباب العادية ولدا من صلبى، يرث الحبورة مني، ويرث من بنى ماثان ملكهم (قال الكلبي كان بنو ماثان رؤس بني إسرائيل وملوكهم، وكان زكريا رئيس الأحبار يومئذ) ويكون برا تقيا مرضيا عندك وعند خلقك، تحبه ويحبونه لدينه وخلقه ومحاسن شيمه.
ونحو الآية قوله في سورة آل عمران حكاية عنه « قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة » وقوله في سورة الأنبياء « وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرنى فردا وأنت خير الوارثين ».
ثم أخبر سبحانه أنه أجاب دعاءه وتولى تسمية الولد بنفسه فقال:
(يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا) أي فاستجاب دعاءه وقال: يا زكريا إنا نبشرك بهبتنا لك غلاما اسمه يحي ى (معرّب يوحنا، ففي إنجيل متى أنه يدعى يوحنا المعمداني لأنه كان يعمّد الناس في زمانه) لم يسم أحد من قبله بمثل اسمه.
ثم ذكر جواب زكريا عند هذه البشرى مظهرا التعجب مما سمع:
(قال رب إني يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا؟) أي ومن أي وجه يكون لي ذلك وامرأتي عاقر لا تحبل، وقد ضعفت من الكبر عن مباضعة النساء، أبأن تقوّيني على ما ضعفت عنه من ذلك، وتجعل زوجي ولودا وأنت القادر على ما تشاء، أم بأن أتزوج زوجا غير تلك العاقر؟
وخلاصة ذلك - إنه يستثبت ربه الخبر عن الوجه الذي يكون من قبله الولد الذي بشره به، لا إنكار منه لذلك وكيف يكون منه الإنكار لذلك وهو المبتدئ مسألة ربه به بقوله: فهب لي من لدنك وليا.
وإجمال المعنى - إنه تعجب حين أجيب إلى ما سأل وبشّر بالولد، وفرح فرحا شديدا وسأل عن الوجه الذي يأتيه منه الولد، مع أن امرأته عاقر لم تلد من أول عمرها، والآن قد كبرت وهو قد كبر وعتا: أي يبس عظمه ونحل ولم يبق له قدرة على قربان النساء، وكأنّه يقول: إني حين كنت شابا وكهلا لم أرزق الولد لاختلال أحد السببين وهو عقم المرأة، أفحين اختل السببان أرزقه؟
(قال كذلك) أي قال الله تعالى: الأمر كما قلت، فسنهب لك الولد مع ما أنتما عليه من العقم والشيخوخة.
ثم علل هذا بقوله:
(قال ربك هو على هين) أي قال ربك الذي عوّدك الإحسان: خلق ولد منكما على هذه الحال هيّن، فإني إذا أردت شيئا كان دون توقف على الأسباب العادية التي رسمتها للحمل والولادة.
ثم ذكر له ما هو أعجب مما سأل عنه فقال:
(وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا) أي وليس خلق الغلام الذي وعدتك أن أهبه لك مع كبر سنك وعقم زوجك بأعجب من خلق البشر جملة من العدم، فإن خلق آدم ما هو إلا أنموذج لسائر أفراد الجنس، مستتبع لجريان آثاره عليه، فإبداعه عليه السلام على هذا النمط إبداع لجميع أفراد ذريته، والقادر على خلق الذوات والصفات من العدم المحض يكون أجدر بالقدرة على تبديل الصفات بخلق الولد من الشيخ والشيخة.
وخلاصة ذلك - أن من قدر على خلق الذوات والصفات والآثار من العدم، أجدر به أن يكون قادرا على تبديل الصفات، فيعيد إليه وإلى زوجه القوة وسائر الوسائل التي بها يمكن أن ينشأ منهما الولد كما قال « فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه ».
ثم أخبر سبحانه أن زكريا تاقت نفسه إلى سرعة وجود المبشّر به، ليطمئن قلبه بما وعد به كما قال إبراهيم من قبله « رب أرنى كيف تحى الموتى قال أولم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي » فقال حاكيا عنه:
(قال رب اجعل لي آية) أي قال رب اجعل لي علامة تدلنى على تحقق المسئول في زمن معين، إذ كانت البشارة غير مقيدة بوقت، والحمل خفي في مبدئه ولا سيما ممن انقطع حيضها لكبرها - إلى أنه أراد أن يطلعه على ذلك ليتلقى تلك النعمة الجليلة بالشكر حين حدوثها.
ثم بين أنه أجابه إلى ما طلب فقال:
(قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا) أي علامتك على وجود المبشر به وحصول الحمل، ألا تقدر على تكليم الناس بكلامهم المعروف في محاوراتهم وثلاث ليال وأنت صحيح، سوي الخلق، سليم الجوارح، ليس بك علة ولا مرض؟.
وجاء في سورة آل عمران « قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا ».
(فخرج على قومه من المحراب) أي فخرج غبّ إعلام الله له بهذه الآية على قومه من المحراب (وهو المسمى عند أهل الكتاب بالمذبح وهو مقصورة في مقدّم المعبد لها باب يصعد إليه بسلم ذي درج قليلة يكون من فيه محجوبا عمن في المعبد) ممتقع اللون منطلق اللسان بذكر الله منحبسه عن كلام الناس (وقد كانوا ينتظرون أن يفتح لهم الباب، إذ كان من عادتهم أن يصلوا معه صلاتى الغداة والعشى في محرابه) فقالوا مالك يا نبي الله؟.
(فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا) أي فأومأ إليهم وأشار كما جاء في الآية الأخرى « إلا رمزا » أي سبحوا الله ونزهوه عن الشريك والولد، وعن كل نقص طرفى النهار.
وقد كان أخبرهم بما بشر به قبل وجود الآية، فلما تعذّر عليه الكلام أشار إليهم بحصول ما بشّر به من ذلك الأمر العجيب في مجرى العادة فسرّوا به.
فلما ولد وبلغ سنا يؤمر فيه مثله قلنا:
[سورة مريم (19): الآيات 12 الى 15]
يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
تفسير المفردات
الكتاب: هو التوراة، والقوة: الجد والاجتهاد، والحكم والحكمة: الفقه في الدين، وحنانا: أي عطفا على الناس، وزكاة: أي طهارة من الذنوب والآثام، تقيا: أي مطيعا لأمر ربه، منتهيا عما نهى عنه، وبرا بوالديه: أي كثير البر والإحسان إليهما، جبارا: أي متعاليا عن قبول الحق والإذعان له، عصيا: أي مخالفا أمر مولاه، سلام: أي أمان من الله عليه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه دعاء زكريا ربه أن يهبه غلاما سريا، وذكر أنه أجاب طلبه وجعل لذلك أمارة يعلم منها وقت الحمل به - ذكر هنا أنه بعد أن ظهر ذلك المولود إلى عالم الوجود وترعرع ونما، أمره بالجد والعمل لطاعته، وجعله برّا بوالديه، لا يعصى أوامر ربه، ولا يتعالى عن قبول الحق.
الإيضاح
(يا يحيى خذ الكتاب بقوة) أي خذ التوراة التي هي نعمة الله على بني إسرائيل بجدّ واجتهاد، وحرص على العمل بها.
ثم وصفه الله بصفات كلها مناهج للخير ووسائل للطاعة فقال:
(1) (وآتيناه الحكم صبيا) أي وأعطيناه الحكمة والفقه في الدين والإقبال على الخير وهو صغير لم يتم سبع سنين، روى أن الغلمان قالوا له يوما: هيّا بنا نلعب، قال: ما للعب خلقنا اذهبوا بنا نصلي.
(2) (وحنانا من لدنا) أي وجعلناه ذا حنان وشفقة على الناس وحسن نظر فيما وليه من الحكم فيهم، وقد وصف الله نبيه محمدا ﷺ بمثل هذا في قوله « فبما رحمة من الله لنت لهم » وقوله « حريص عليكم بالمؤمنين رؤف رحيم » (3) (وزكاة) أي طهارة من الدنس وبعدا من اجتراح الذنوب والآثام.
(4) (وكان تقيا) أي مطيعا لما به أمر وعنه نهى، فلم يفعل معصية ولا همّ بها.
(5) (وبرا بوالديه) أيكثير البر بهما والإحسان إليهما والحدب عليهما بعيدا عن عقوقهما قولا وفعلا، وقد جعل الله طاعة الوالدين في المرتبة التي تلى مرتبة طاعته فقال: « وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ».
(6) (ولم يكن جبارا) أيلم يكن متكبرا على الناس، بل كان ليّن الجانب متواضعا لهم، وقد أمر الله نبيه محمدا ﷺ بمثل هذا في قوله: « واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين » ووصفه بقوله: « ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك » ومن ثم لما تجبر إبليس وتمرد صار مبعدا من رحمة ربه.
(7) (عصيا) أي مخالفا لما أمره ربه.
ثم ذكر سبحانه جزاءه على ما قدم من عمل صالح وأسلف من طاعة ربه فقال:
(وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا) أيوتحية من الله عليه أول ما يرى الدنيا، وأول يوم يرى فيه أمر الآخرة، وأول يوم يرى فيه الجنة والنار.
وإنما خص هذه المواضع الثلاثة، لأن العبد أحوج ما يكون إلى رضا ربه فيها لضعفه وحاجته وقلة حيلته، وافتقاره إلى رحمة ربه ورأفته به.
[سورة مريم (19): الآيات 16 الى 21]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجابًا فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَرًا سَوِيًّا (17) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا (19) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)
تفسير المفردات
انتبذت: أي اعتزلت وتنحّت، مكانا شرقيا: أي شرقى بيت المقدس، حجابا: أي ساترا تورات به منهم، روحنا: هو جبريل عليه السلام، سويا: أي سويّ الخلق كامل البنية، أعوذ: أي أعتصم وألتجئ، تقيا: أي مطيعا، لأهب لك: أي لأكون سببا في هبته، غلاما: أي ولدا ذكرا، زكيا: أي طاهرا من الأدناس والأرجاس، أنى: أي كيف يكون ذلك؟ آية: أي علامة على قدرة خالقكم، مقضيا: أي محتوما قد تعلق به قضاؤنا الأزلي.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر قصص زكريا عليه السلام وأنه أوجد منه في حال كبره وعقم زوجه ولدا زكيا مباركا - أردف ذلك بذكر قصص مريم وأنه أنجب منها ولدا من غير أب، وبين القصصين مناسبة ظاهرة، ومن ثم ذكرهما مقترنين في سورة آل عمران وهنا وفى الأنبياء، وبدأ بقصة يحيى لأن خلق الولد من شخصين فانيين أقرب إلى مناهج العادات من خلق الولد بلا أب، ثم ثنّى بقصة عيسى لأنها أغرب من تلك.
ومن حسن طرق التعليم والتفهيم التدرج بالانتقال من الأقرب منالا إلى أصعب منه، وهكذا صعدا.
الإيضاح
(واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا) أيواتل أيها الرسول في كتاب الله الذي أنزله إليك بالحق، قصص مريم بنة عمران حين اعتزلت من أهلها وانفردت عنهم إلى مكان شرقى بيت المقدس لتتخلى للعبادة.
وعن ابن عباس أنه قال: إني لأعلم خلق الله لأي شيء اتخذ النصارى المشرق قبلة، لقول الله عز وجل: « إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا » فاتخذوا ميلاد عيسى عليه السلام قبلة؟.
(فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا) أيفاتخذت من دون أهلها سترا يسترها عنهم وعن الناس، فأرسلنا إليها جبريل عليه السلام فجاءها بصورة رجل معتدل الخلق ليعلمها بما يريد بها من الكرامة بولادة عيسى عليه السلام من غير أب، إذ ربما يشتبه عليها الأمر فتقتل نفسها أسى وغما، وإنما مثّل لها بهذا المثال، لتأنس بكلامه، وتتلقى منه ما يلقى إليها من كلماته، ولأنّه لو بدا لها على الصورة الملكية لنفرت منه ولم تستطع محاورته.
ثم حكى عنها سبحانه ما قالته حينئذ فقال:
(قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا) أيفلما رأته فزعت منه وقالت: إني أستجير بالرحمن منك أن تنال مني ما حرّم الله عليك إن كنت ذا تقوى له، تتقى محارمه، وتجتنب معاصيه، فمن يتق الله يجتنب ذلك.
وإجمال المعنى - إنه لما تبدى لها في صورة البشر وهي في مكان منفرد، وبينها وبين قومها حجاب خافته وظنت أنه يريدها على نفسها فقالت: إني أعوذ بالله منك إن كنت تخافه - وقد فعلت المشروع في الدفع وهو أن يكون بالهوينى والأسهل فالأسهل.
وخلاصة ذلك - إن الاستعاذة لا تؤثر إلا في التقى، لأن الله تعالى يخشى في حال، دون حال، فهو كقوله: « وذروا ما بقى من الربا إن كنتم مؤمنين » أي إن الإيمان يوجب ذلك.
فلما علم جبريل خوفها:
(قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا) أيفقال الملك مجيبا لها ومزيلا لما حصل عندها من الخوف على نفسها: لست ممن تظنين، ولا يقع مني ما تتوهمين من الشر، ولكني رسول ربك بعثني إليك، لأهب لك غلاما طاهرا مبرّأ من العيوب، وقد أضاف الهبة إلى نفسه من قبل أنها جرت على يده بأن نفخ في جيبها بأمر الله.
ولما عجبت مريم مما سمعت:
(قالت إني يكون لي غلام ولم يمسسنى بشر ولم أك بغيا) أي قالت لجبريل: من أي وجه يكون لي غلام، ولست بذات زوج، ولا يتصور مني الفجور؟.
(قال كذلك قال ربك هو على هين) أي قال الملك مجيبا لها عما سألت: إن الله قد قال: إنه سيوجد منك غلام وإن لم تكونى ذات بعل، ولا تقترفين فاحشة، فإنه تعالى على ما يشاء قدير، ولا يمتنع عليه فعل ما يريده، ولا يحتاج في إنشائه إلى الموادّ والآلات.
ونحو الآية قوله في سورة آل عمران: « كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ».
(ولنجعله آية للناس) أي وفعلنا ذلك لنجعل خلقه برهانا على قدرتنا، فقد خلقنا أباهم آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلقنا عيسى من أنثى فحسب، وخلقنا بقية الذرية من ذكر وأنثى، وإلى الأولين أشار القائل:
ألا رب مولود وليس له أب وذي ولد لم يلده أبوان
(ورحمة منا) أي ورحمة من الله لعباده، إذ بعثه نبيا يدعوا إلى عبادته وتوحيده.
(وكان أمرا مقضيا) أي قد قضاه الله في سابق علمه، ومضى به حكمه، فلا يغير.
ولا يبدّل: « ما يبدل القول لدى وما أنا بظلام للعبيد ».
[سورة مريم (19): الآيات 22 الى 26]
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكانًا قَصِيًّا (22) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)
تفسير المفردات
فانتبذت: أي فاعتزلت، قصيا: أي بعيدا من أهلها وراء الجبل، فأجاءها المخاض: أي فألجأها واضطرها، والمخاض: الطلق حين تحرك الولد للخروج من البطن والنسي: (بفتح النون وكسرها) الشيء الحقير الذي من شأنه أن ينسى ولا يذكر ولا يتألم لفقده كالوتد والحبل، والمنسى: ما لا يخطر بالبال لتفاهته، والسري: السيد الشريف، والهز: تحريك الشيء بعنف أو بدونه، تساقط: أي تسقط، ورطبا: أي بسرا ناضجا جنيا: أي صالحا للاجتناء، فقولي: أي أشيرى إليهم. قال الفرّاء: العرب تسمى كل ما أفهم الإنسان شيئا - كلاما بأى طريق كان، إلا إذا أكد بالمصدر فيكون حقيقة في الكلام كقوله: « وكلم الله موسى تكليما » صوما: أي صمتا.
الإيضاح
(فحملته فانتبذت به مكانا قصيا) أي فلما قال لها جبريل ما قال: استسلمت لقضاء الله، فنفخ جبريل في جيب درعها (الفتحة التي من الأمام في القميص) فدخلت النفخة في جوفها فحملته قاله ابن عباس، وقال غيره: نفخ في كمها، والقرآن قد أثبت النفخ فقال: فنفخنا فيها من روحنا » ولم يعين موضع النفخ فلا نجزم بشىء من ذلك إلا بالدليل القاطع، وحينئذ اعتزلت بالذي حملت وهو عيسى عليه السلام مكانا قاصيا عن الناس.
والقرآن الكريم لم يعين مدة الحمل (ولا حاجة إليها في العبرة) فنقول إنها كانت كما يكون غيرها من النساء إلا إذا ثبت غيره، وكذلك لا حاجة إلى تعيين سنها حينئذ، إذ لا يتعلق به كبير فائدة.
وإنما اتخذت المكان البعيد حياء من قومها وهي من سلائل بيت النبوة، ولأنها استشعرت منهم اتهامها بالريبة، فرأت أن لا تراهم وأن لا يروها.
(فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا) أي فألجأها وجع الولادة وألم الطلق أن تستند إلى جذع النخلة للتشبث به، لسهولة الولادة، وتمنت أن لو كانت ماتت قبل هذا الوقت الذي لقيت فيه ما لقيت، حياء من الناس وخوفا من لأئمتهم، أو كانت شيئا لا يعتد به ولا يخطر ببال أحد من الناس.
(فناداها من تحتها: ألا تحزنى قد جعل ربك تحتك سريا) أي فناداها عيسى عليه السلام كما قال الحسن البصري وسعيد بن جبير، (وقد أنطقه الله حين وضعته تطييبا لقلبها، وإزالة للوحشة عنها حتى تشاهد بادى ذي بدء علوّ شأن ذلك المولود الذي بشرها به جبريل عليه السلام) ألا تحزنى فقد جعل ربك المحسن إليك، تحتك غلاما رفيع الشأن، سامى القدر ذا سخاء في مروءة.
(وهزى إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا) أي أميلى إليك جذع النخلة واجذبيه بتحريكه، يسقط عليك رطبا جنيا تأكلين منه ما تشائين.
وتلك آية أخرى لها إذ روى أنها كانت نخلة يابسة لا رأس لها ولا ثمر وكان الوقت شتاء، فأنزل الله لها رزقا فجعل للنخلة رأسا وخوصا وجعل لها ثمرا رطبا - وهذه رواية يعوزها الدليل.
وفي هذا إيماء وتنبيه إلى أن من يقدر أن يثمر النخلة اليابسة في الشتاء يقدر أن يجعلها تحمل من غير السنن العادية، وإلى أن السعي في الرزق مطلوب ولا ينافى التوكل، ولله در القائل:
ألم تر أن الله أوحى لمريم وهزّى إليك الجذع يسّاقط الرّطب
ولو شاء أحنى الجذع من غير هزّه إليها ولكن كل شيء له سبب
(فكلى واشربى وقرى عينا) أي فكلى من ذلك الرطب، واشربى من عصيره، وطيبى نفسا، وأبعدى عنك الأحزان، فإن الله قدير أن ينزّه ساحتك ويبعد عنك تخرّصات المبطلين الذين يتقيدون بالسنن التي جعلها الله الطريق للولادة في البشر، ويرشدهم إلى الوقوف على سريرة أمرك حتى يثبتوا لك القداسة والطهر.
(فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا) أي فإن رأيت أحدا من بنى آدم يسألك عن أمرك، وأمر ولدك وكيف ولدته، فأشيرى إليهم - إني أوجبت على نفسي لله صمتا ألّا أكلم اليوم أحدا، فإن كلامى يقبل الرد والجدل، ولكن يتكلم عنى ذلك المولود الذي لا يقبل كلامه الدفع والرد، وإني أنزّه نفسي عن مجادلة السفهاء، ولا أكلم إلا الملائكة أو أناجي الخالق.
وليس الصمت عن الكلام من شريعة الإسلام، فقد روى أن أبا بكر دخل على امرأة قد نذرت ألا تتكلم، فقال: إن الإسلام قد هدم هذا فتكلمى، وروى ابن أبي حاتم عن ابن مسعود أنه جاءه رجلان فسلم أحدهما ولم يسلم الآخر ثم جلسا، فقال القوم: ما لصاحبك لم يسلّم؟ قال إنه نذر صوما، لا يكلم اليوم إنسيا، فقال له ابن مسعود: بئس ما قلت، إنما كانت تلك المرأة قالت ذلك ليكون عذرا لها إذا سئلت، وكانوا ينكرون أن يكون ولد من غير زوج إلا زنا - فتكلّم، وأمر بالمعروف، وأنه عن المنكر، فإنه خير لك.
[سورة مريم (19): الآيات 27 الى 33]
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْك ِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبارَكًا أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31) وبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
تفسير المفردات
فريّا: أي عظيما خارقا للعادة، وهي الولادة بلا أب، من فرى الجلد أي قطعه على وجه الإفساد أو الإصلاح، ومنه في وصف عمر « فلم أر عبقريا يفرى فريّه » وفى المثل: جاء يفري الفري، وهارون هو أخو موسى عليه السلام، وقيل هو رجل صالح من بني إسرائيل، والأخت على هذا بمعنى المشابهة، وشبهوها به تهكما، أو لما رأوا من قبل من صلاحها، والمهد: الموضع يهيّأ للصبى ويوطّأ له والجمع مهود، والكتاب: الإنجيل، مباركا: نفّاعا للناس، أو ثابتا في دين الله، الجبار: المتعظم الذي لا يرى لأحد عليه حقا، والشقي: العاصي لربه.
الإيضاح
(فأتت به قومها تحمله قالوا: يا مريم لقد جئت شيئا فريا) أي إن مريم حين أمرت أن تصوم يومها، ولا تكلم أحدا من البشر، وأنها ستكفى أمرها ويقام بحجتها - سلمت أمرها إلى الله، واستسلمت لقضائه، فأخذت ولدها وأتت به قومها تحمله، فلما رأوها كذلك أعظموا ما رأوا، واستنكروا وقالوا يا مريم، لقد جئت أمرا عظيما منكرا.
ثم زادوا تأكيدا في توبيخها وتعييرها فقالوا:
(يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء، وما كانت أمك بغيا) أي يا من أنت من نسل هارون أخي موسى، كما يقال للتميمى يا أخا تميم، وللمصرى يا أخا مصر، أو يا من أنت شبيهة بذلك الرجل المسمى بهذا الاسم الذي كنت تتأسّين به في العبادة والزهد - ما كان أبوك بالفاجر وما كانت أمك بالبغي، فمن أين لك هذا الولد؟!.
أخرج أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وعبد بن حميد وابن أبي شيبة وغيرهم عن المغيرة بن شعبة قال « بعثني رسول الله ﷺ إلى أهل نجران فقالوا: أرأيت ما تقرءون (يا أخت هارون) وموسى قبل عيسى بكذا وكذا، قال فرجعت، فذكرت ذلك لرسول الله ﷺ فقال: ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم »
وهذا التفسير النبوي يغنى عن سائر ما روى عن السلف في ذلك.
(فأشارت إليه) أي فأشارت إلى عيسى أن كلّموه، وإنما اكتفت بالإشارة ولم تأمره بالنطق، لأنها نذرت للرحمن صوما عن الكلام، أو اقتصرت على ذلك للمبالغة في إظهار الآية العظيمة، وأن هذا المولود يفهم الإشارة، ويقدر على العبارة.
(قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا) أي قالوا لها، متهكمين بها، ظانين أنها تزدري بهم وتهزأ: كيف نكلم من هو صبى في المهد، ولم يعهد في مثله وهو لم يدرج بعد من حجر أمه أن يكلم أحدا؟.
روي أن عيسى لما سمع كلامهم أقبل عليهم وترك الرضاع وأشار بيمينه، ثم بدأ يتكلم فوصف نفسه بجملة صفات:
(1) (قال إني عبد الله) أي إني عبد الله الذي له صفات الكمال لا أعبد غيره، وفى هذا إيماء إلى أن من كان لا يتخذ إلها من دونه، ولا يستعبده شيطان ولا هوى.
(2) (آتاني الكتاب) أي سينزل علي الإنجيل.
(3) (وجعلنى نبيا) أي وسيجعلنى نبيا، وفى هذا براءة لأمه، لأن الله لا يصطفى لنبوته أولاد سفاح.
(4) (وجعلنى مباركا أين ما كنت) أي سيجعلنى نفاعا للناس هاديا لهم إلى سبيل الرشاد في أي مكان كنت، وقد جعل هذه الصفات كأنها حدثت له فعلا وهي لم تحصل بعد، من قبل أنها لما كانت واقعة حتما نزّلت منزلة ما قد حصل.
(5) (وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا) أي وأمرني بالصلاة، إذ في إقامتها وإدامتها على الوجه الذي سنه الدين - تطهير النفوس من الأرجاس ومنع لها عن ارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وأمرني بالزكاة بإعطاء جزء من المال للبائس والمحتاج، لما في ذلك من تطهير المال - ما دمت حيا في الدنيا.
(6) (وبرا بوالدتى) أي وجعلنى برا بوالدتي، مطيعا لها محسنا، وفى هذا رمز إلى نفى الريبة عنها، إذ لو لم تكن كذلك لما أمر الرسول المعصوم بتعظيمها.
(7) (ولم يجعلنى جبارا شقيا) أي ولم يجعلنى جبارا مستكبرا عن عبادته، ولا شقيا بعقوق والدتي وعدم البر بها.
(8) (والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا) أي والأمنة من الله علي، فلا يقدر أحد على ضرّى في هذه المواطن الثلاثة التي هي أشق ما تكون على العباد.
واعلم أن اليهود والنصارى ينكرون أن عيسى عليه السلام تكلم في المهد، واحتج النصارى على ذلك بأن هذا من الأحداث التي لو وجدت لتوافرت الدواعي على نقلها تواترا، لأنه من المناقب السامية، والفضائل التي لها الميزة العظمى بين الناس، ولما لم يعرف ذلك لدينا مع تتبعنا لفضائله، وشدة بحثنا عن الجليل والحقير من أحواله - علمنا أنه لم يوجد وأيضا فاليهود أظهروا عداوته حين ادعى النبوة، فلو أنه تكلم إذ ذاك لكانت عداوتهم له أشد، ولكان تحيلهم في قتله أعظم، ومن حيث لم يحصل شيء من هذا علمنا أنه لم يتكلم.
والمسلمون يقولون: كفى إثباتا لذلك نص القرآن القاطع - إلى أن العقل يرشد إليه، إذ لو لا كلامه الذي دلهم على براءة أمه من الزنا لما تركوا الحد عليها، وربما كان الحاضرون حين كلامه عددا قليلا ومن ثم لم يشتهر بينهم، وربما لم يحضر اليهود كلامه، ولم يسمعوا به.
[سورة مريم (19): الآيات 34 الى 40]
ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْرًا فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38) وأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40)
تفسير المفردات
قول الحق: أي قول الصدق الذي لا شبهة فيه، يمترون: أي يشكّون ويتنازعون، ما كان لله أن يتخذ من ولد. أي ما ينبغي ولا يصح أن يجعل له ولدا، صراط مستقيم: أي طريق لا يضل سالكه، الأحزاب: فرق النصارى الثلاث، مشهد: أي شهود وحضور، يوم عظيم: هو يوم القيامة، اليوم: أي في الدنيا، يوم الحسرة، هو يوم القيامة حين يندم الناس على ما فرّطوا في جنب الله، قضى الأمر: أي فرغ من الحساب.
الإيضاح
(ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون) أي ذلك الذي فصّلت نبوّته، وذكرت مناقبه وأوصافه، هو عيسى بن مريم، نقول ذلك قول الصدق الذي لا ريب فيه، لا كما يقول اليهود من أنه ساحر وحاشاه، ولا كما تقول طائفة من النصارى إنه ابن الله، ولا كما تزعم طائفة أخرى أنه هو الله، ويخلعون عليه من صفات الألوهية ما هو منه براء.
ثم أكد ما دل عليه سابق الكلام من كونه ابنا لمريم لا لغيرها بقوله:
(ما كان لله أن يتخذ من ولد) أي لا يليق بحكمة الله وكمال ألوهيته أن يتخذ الولد لأنه لو أراده لخلقه بقول « كن » فلا حمل ولا ولادة، ولأن الولد إنما يرغب فيه، ليكون حافظا لأبيه يعوله وهو حي، وذكرا له بعد الموت، والله تعالى لا يحتاج إلى شيء من ذلك لعالم كله خاضع له، لا حاجة له إلى ولد ينفعه، وهو حي أبدا.
ولما كان اتخاذ الولد من النقائص أشار إلى تنزيهه تعالى عن ذلك فقال:
(سبحانه) أي تنزه ربنا عن كل نقص من اتخاذ الولد أو غيره.
ثم ذكر علة هذا التنزيه وبيان الوجه فيه فقال:
(إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) أي إذا أراد شيئا فإنما يأمر به فيصير كما يشاء كما قال: « إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون » ومن كان هذا شأنه فكيف يتوهم أن يكون له ولد، لأن ذلك من أمارات النقص والاحتياج؟.
(وإن الله ربى وربكم فاعبدوه) أي ومما أمر به عيسى قومه وهو في مهده أن أخبرهم بقوله - إن الله ربى وربكم، وأمرهم بعبادته.
(هذا صراط مستقيم) أي هذا الذي أوصيتكم أن الله أمرني به هو الطريق المستقيم فمن سلكه نجا، ومن اتبعه اهتدى، لأنه هو الدين الذي أمر به أنبياءه، من خالفه ضل وغوى، وسلك سبيل الردى.
ثم أشار إلى أنه مع وضوح الأمر في شأن عيسى، وأنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه - اختلفوا فيه كما قال:
(فاختلف الأحزاب من بينهم) أي فاختلف قوم عيسى في شأنه فرقا ثلاثا.
فقالت اليعقوبية: (نسبة إلى عالم منهم يسمى يعقوب) هو الله هبط إلى الأرض ثم صعد إلى السماء، وقالت النسطورية (نسبة إلى عالم يسمى نسطور). هو ابن الله أظهره ما شاء ثم رفعه إليه. وقالت الملكانية (نسبة إلى الملك قسطنطين وكان فيلسوفا عالما) إنه عبد الله كسائر خلقه. وهذا الرأي هو الذي نصره الملك ونصره غيره من شيعته.
ثم توعد من كذب على الله وافترى وزعم أن له ولدا فقال:
(فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم) أي فعذاب شديد للكافرين من شهود ذلك اليوم وهو يوم القيامة، لشدة بأسه وعذابه، فالأيدي والأرجل والألسن تشهد على أصحابها، وقد أجل الله عقابهم إلى هذا اليوم حلما منه وثقة بقدرته عليهم، فهو لا يعجّل عقوبة من عصاه كما جاء في الصحيحين « إن الله ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته » ثم قرأ رسول الله ﷺ (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد)
وفي الصحيحين أيضا أن رسول الله ﷺ قال « لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله - إنهم يجعلون له ولدا وهو يرزقهم ويعافيهم ».
ثم عجب ربنا من قوة سمع الكفار وحذّة أبصارهم يوم القيامة وقد كانوا على الضد من هذا في الدنيا فقال:
(أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين) أي لئن كان هؤلاء الكفار الذين جعلوا لله أندادا وزعموا أن له ولدا - عميا في الدنيا عن إبصار الحق والنظر إلى حجج الله التي أودعها في الكون دالة على وحدانيته وعظيم قدرته وبديع حكمته، صما عن سماع آي كتبه وما دعتهم إليه الرسل مما ينفعهم في دينهم ودنياهم ويهديهم إلى الصراط المستقيم - فما أسمعهم يوم قدومهم على ربهم في الآخرة، وما أبصرهم حينئذ، حيث لا يجدى السماع والإبصار شيئا، ويعضّون على أناملهم حسرة وأسفا، ويتمنون على الله الأماني، فيودون الرجوع إلى الدنيا ليتداركوا ما فاتهم من صالح العمل، ولكن هيهات هيهات فقد فات الأوان.
صاح هل ريت أو سمعت براع ردّ في الضّرع ما قرى في الحلاب
ومن ثم لا يجاب لهم طلب، بل يقال لكل أفاك أثيم « خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه. ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه. إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ».
ثم أمر سبحانه نبيه أن ينذر قومه والمشركين جميعا فقال:
(وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون) أي وأنذر الناس جميعا يوم يتحسر الظالمون على ما فرّطوا في جنب الله حين فرغ من الحساب، وذهب أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار، ونودى كل من الفريقين لا خروج من هنا بعد اليوم، ولا موت بعد اليوم.
روى الشيخان والترمذي عن أبي سعيد قال: قال رسول الله ﷺ « يؤتى بالموت بهيئة كبش أملح (يخالط بياضه سواد) فينادى مناد يا أهل الجنة فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رأوه، ثم ينادى مناد يا أهل النار، فيشرئبون وينظرون، فيقول هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت وكلهم قد رأوه، فيذبح بين الجنة والنار، ثم يقول: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، ثم قرأ « وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون ».
وقوله إذ قضى الأمر أي إذ فرغ من الحكم لأهل النار بالخلود فيها، ولأهل الجنة بمقام الأبد فيها بذبح الموت.
وذبحه تصوير لأن كلّا من الفريقين يفهم فهما لا لبس فيه أنه لا موت بعد ذلك.
وقوله: وهم في غفلة: أي عن ذلك اليوم، وعن حسراته وأهواله، وقوله: وهم لا يؤمنون: أي وهم لا يصدّقون بالقيامة والبعث ومجازاة الله لهم على سييء أعمالهم بما أخبر أنه مجازيهم به.
ثم سلى رسوله وتوعد المشركين فقال:
(إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون) أي لا يحزنك أيها الرسول تكذيب المشركين لك فيما أتيتهم به من الحق، فإن إلينا مرجعهم ومصيرهم ومصير الخلق أجمعين، ونحن وارثو الأرض ومن عليها من الناس بعد فنائهم، ثم نجازى كل نفس بما عملت حينئذ، فنجازى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، لا ظلم اليوم، إن الله سريع الحساب.
قصص إبراهيم عليه السلام
[سورة مريم (19): الآيات 41 الى 50]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطًا سَوِيًّا (43) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45) قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
تفسير المفردات
واذكر في الكتاب: أي اتل في هذه السورة، صدّيقا: أي مبالغا في الصدق لم يكذب قط، صراطا سويا: أي طريقا مستقيما موصلا إلى نيل السعادة، وليا: أي قرينا تليه ويليك في العذاب، أراغب أنت عن آلهتي: أي أكاره لها، لأرجمنك: أي لأشتمنك باللسان أو لأرجمنك بالحجارة، مليّا: أي دهرا طويلا. قال مهلهل:
فتصدعت صمّ الجبال لموته وبكت عليه المرملات مليّا
حفيا: أي مبالغا في برّى وإكرامى يقال: حفى به إذا اعتنى بإكرامه، شقيا: أي خائب المسعى، لسان صدق: أي ثناء حسنا.
المعنى الجملي
اعلم أن المقصد من هذه السورة إثبات الوحدانية والنبوة والبعث، والمنكرون للتوحيد فريقان: فريق أثبتوا معبودا سوى الله حيا عاقلا وهم النصارى. وفريق أثبتوا معبودا هو جماد ليس بحي ولا عاقل وهم عبدة الأصنام. والفريقان وإن اشتركا في الضلال، فضلال الفريق الثاني أشد، ومن ثم قدم الكلام في النصارى على الكلام في عبدة الأصنام. وذكر قصص إبراهيم أوّلا لأنه أبو العرب وكانوا مقرين بعلوّ شأنه، معترفين بدينه كما قال « ملة أبيكم إبراهيم » إلى أنه تعالى نبههم إلى أن الطريق التي جروا عليها وهي التقليد بنحو قولهم « إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون » تخالف طريق الاستدلال التي سار عليها أبوهم إبراهيم في حجاجه مع أبيه آزر.
الإيضاح
(واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا إذ قال لأبية يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا؟) أيواتل أيها الرسول على قومك الذين يعبدون الأصنام ما كان من خبر إبراهيم خليل الرحمن الذين هم من ذريته ويدّعون أنهم على ملته (وهو الصّدّيق النبي). حين نهى قومه عن عبادتها وقال لأبيه: ما الذي حبّب إليك أن تعبد ما لا يسمع ثناءك على حين عبادتك له، ولا يبصر خشوعك وخضوعك بين يديه، ولا ينفعك فيدفع عنك ضرا إذا استنصرت به؟.
وقد سلك عليه السلام في دعوته أجمل الآداب في الحجاج، واحتج بأروع البرهانات ليرده عن غيه، ويقفه على طريق الهدى والرشاد، فاستهجن منه أن يعبد ما يستخفّ به كل ذي لبّ، ويأبى الركون إليه كل ذي عقل، فالعبادة هي الغاية القصوى في التعظيم، فلا يستحقها إلا الخالق الرازق، المحيي المميت، المثيب المعاقب، لا الأصنام التي لا تسمع الأصوات، ولا تنظر الأشياء، وتعجز عن جلب المنافع، ودفع المضار.
وقصارى ما قال - إن الإنسان السميع البصير يأنف أن يعبد نظيره، فكيف تعبد ما خرج عن الألوهية بفقره وضعفه واحتياجه إلى من يصنعه، وعن الإنسانية بفقد العقل، وعن الحيوانية بفقد الحواس.
أما كان لك عبرة في حاجته وفقده السمع والبصر؟.
(يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا) أي يا أبى إني وإن كنت من صلبك، وتراني أصغر منك لأني ولدك، فاعلم إني قد اطّلعت من العلم على ما لم تعلمه أنت ولا اطلعت عليه، فاتبعني أهدك طريقا مستقيما لا زيغ فيه، يوصلك إلى نيل المطلوب، وينجيك من كل مرهوب.
وفي قوله: قد جاءني إيماء إلى أن هذه المحاورة كانت بعد أن نبّىء، ولم يعين ما جاءه ليشمل كل ما يوصّله إلى الجنة ونعيمها، ويبعد به عن النار وعذابها.
(يا أبت لا تعبد الشيطان) أي لا تطع الشيطان في عبادة هذه الأصنام، فإنه هو الداعي إلى عبادتها والموسوس بها.
ونحو الآية قوله: « ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين » وقوله: « إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا ».
ثم بين سبب النهي عن طاعته بقوله:
(إن الشيطان كان للرحمن عصيا) أي إن الشيطان عاص مستكبر عمن شملته رحمتك، وعمّته نعمتك، ولا ريب في أن من أطاع العاصي يكون عاصيا وجديرا بأن تسترد منه النعم، وحقيقا بأن تنزل عليه النقم.
ثم حذره من سوء عاقبة ما هو فيه من عبادة الأصنام فقال:
(يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن) أي يا أبى إني أخاف لمحبتى لك، وغيرتى عليك، أن يصيبك عذاب من الرحمن على شركك وعصيانك.
(فتكون للشيطان وليا) أي قرينا وتابعا له في النار.
وقصارى ذلك - إني أخاف أن تكون تابعا للشيطان في الدنيا، فيمسّك عذاب من الرحمن في العقبى.
ولما دعا إبراهيم أباه إلى التوحيد، وذكر الدلائل على فساد عبادة الأوثان، وأردف ذلك بالوعظ واللطف، قابله أبوه بجواب هو على الضد من ذلك.
(قال أراغب أنت عن آلهتى يا إبراهيم؟) أي أتكره آلهتي، ولا ترغب في عبادتها يا إبراهيم؟.
(لئن لم تنته لأرجمنك واهجرنى مليا) أي لئن لم تنته عما أنت فيه من النهي عن عبادتها والدعوة إلى ما دعوتنى إليه، لأرجمنك بالحجارة، فاحذرنى وابعد عنى بالمفارقة من الدار والبلد دهرا طويلا.
وقد قابل الأب رفق الابن بالعنف، فلم يقل يا بني كما قال الابن يا أبت، وقابل وعظه بالسفاهة، إذ هدده بالشتم أو بالضرب بالحجارة بقوله: لئن لم تنته لأرجمنك.
وفي ذلك تسلية للنبي ﷺ وتأسية له بإبراهيم فيما كان يلقى من الأذى من قومه ويقاسيه منهم ومن عمه أبى لهب من العنت والمكروه.
ولما سمع إبراهيم عليه السلام كلام أبيه أجابه بأمرين:
(1) (قال س لام عليك) أيسلمت مني لا أصيبك بمكروه ما لم أومر فيك بشىء، وهذا جواب الحليم للسفيه، وفيه توديع ومتاركة ومقابلة للسيئه بالحسنة، وزاد على ذلك أن قال:
(2) (سأستغفر لك ربى) أي سأطلب لك من ربى الغفران، بأن يوفقك للهداية، وينير بصيرتك لقبول الحق، ويرشدك إلى ما فيه الخير. ونحو الآية قوله: « واغفر لأبي إنه كان من الضالين ».
وقصارى دعائه - رب اهد أبي، وأخرجه من الضلال. وإنما استغفر له، لأنه كان قد وعده أن يؤمن كما قال: « وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ».
ثم ذكر أنه محبب إلى ربه فإذا هو استغفر له أجاب طلبه فقال:
(إنه كان بى حفيا) أي إنه سبحانه للطفه بي، وإنعامه علي، عوّدنى الإجابة، فإذا أنا استغفرت لك أغاثك بجوده وكرمه، وغفر لك ذنوبك إن تبت إليه وأنبت ثم بين ما بيّت النية عليه، وعزم على إنفاذه فقال:
(وأعتزلكم وما تدعون من دون الله) أي وأتباعد عنك وعن قومك وعما تعبدون من الأوثان والأصنام، وأفر بديني وأتشاغل بعبادة ربى الذي ينفعنى ويضرنى، إذ لم تؤثر فيكم نصائحي.
وقد روى أنه عليه السلام هاجر إلى بلاد الشام، وفى هجرته هذه تزوج سارّة.
(وادعوا ربى) أي وأعبده سبحانه وحده، وأجتنب عبادة غيره من المعبودات.
(عسى ألا أكون بدعاء ربى شقيا) أي لعلى لا أكون بدعاء ربى المنعم علي خائب المسعى، كما خبتم أنتم وشقيتم بعبادة تلك الأوثان التي لا تجيب دعاءكم ولا تنفعكم ولا تضركم.
وقد حقق ما عزم عليه، فحقق الله رجاءه، وأجاب دعاءه فقال:
(فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب، وكلا جعلنا نبيا) أي فلما اعتزل إبراهيم أباه وقومه لم يضره ذلك لا في دين ولا دنيا، بل نفعه إذ أبدله بهم من هم خير منهم ووهبه بنين وحفدة هم آباء الأنبياء من بني إسرائيل ولهم الشأن الخطير، والقدر العظيم، فقد وهبه إسحاق وولد لإسحاق يعقوب وقاما مقامه بعد موته وورثا منه النبوة. أما إسماعيل فتولى الله تربيته بعد نقله رضيعا إلى المسجد الحرام فأحيا تلك المشاعر العظام، ومن ثم أفرده بالذكر بقوله: « واذكر في الكتاب إسماعيل » الآية.
ثم صرح بما وهب لأولاده جزاء على هجرته بقوله:
(وكلا جعلنا نبيا) أي وجعلنا لكل منهما نسلا وعقبا من الأنبياء أقر الله بهم عينيه في حياته.
(ووهبنا لهم من رحمتنا) أي وآتينا هم من فضلنا الديني والدنيوي ما لم نؤته أحدا من العالمين، فآتيناهم النسل الطاهر، والذرية المباركة، وإجابة الدعاء، واللطف في القضاء، والبركة في المال والأولاد إلى نحو أولئك من خيري الدنيا والآخرة.
(وجعلنا لهم لسان صدق عليا) فمحامدهم مذكورة في جميع الأزمان، سطّرها الدهر على صفحاته، استجابة لدعوته عليه السلام بقوله: « واجعل لي لسان صدق في الآخرين » قال ابن جرير وإنما قال عليّا، لأن جميع الملل والأديان تثنى عليهم وتمدحهم، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وقد اجتمعت لإبراهيم خلال لم تجتمع لسواه:
(1) إنه اعتزل قومه حبا في الله، فآتاه الله من هم خير منهم، فوهب له إسماعيل وإسحاق ويعقوب.
(2) إنه تبرأ من أبيه حين تبين منه أنه عدو لله، لا جرم سماه الله أبا المسلمين بقوله: « ملة أبيكم إبراهيم ».
(3) إنه تلّ ولده للجبين، ليذبحه إطاعة لأمر الله ففداه الله بذبح عظيم.
(4) إنه أسلم نفسه للنار ابتغاء رضوان الله فكانت عليه بردا وسلاما.
(5) إنه أشفق على هذه الأمة فقال: « ربنا وابعث فيهم رسولا منهم » فأشركه الله في الدعاء وفى الصلوات الخمس - وصل على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم.
(6) إنه عادى كل الخلق في الله فقال: « فإنهم عدو لي إلا رب العالمين » فاتخذه الله خليلا كما أخبر بذلك الكتاب: « واتخذ الله إبراهيم خليلا ».
(7) إن الله مدحه بقوله: « وإبراهيم الذي وفى » لا جرم جعل موطىء قدميه مباركا كما قال: « واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ».
قصص موسى عليه السلام
[سورة مريم (19): الآيات 51 الى 53]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصًا وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53)
تفسير المفردات
مخلصا: أي مختارا مصطفى، وقربناه: أي تقريب تشريف وتكريم، والطور: هو الجبل الذي بين مصر ومدين، ونجيا: أي مناجيا مكلّما لله بلا واسطة.
الإيضاح
(واذكر في الكتاب موسى) أي واتل أيها الرسول على قومك ما اتصف به موسى عليه السلام من صفات الجلال والكمال التي سأقصها عليك، ليستبين لك علو قدره وعظيم شأنه، وتلك هي:
(1) (إنه كان مخلصا) أي إن الله أخلصه واصطفاه، وأبعد عنه الرجس، وطهّره من الذنوب والآثام كما جاء في الآية الأخرى: « إني اصطفيتك على الناس برسالاتى وبكلامى ».
(2) (وكان رسولا نبيا) أي إن الله أرسله إلى الخلق داعيا ومبشرا ونذيرا، والرسول هو من أرسله الله إلى الناس ومعه كتاب فيه شريعته التي أرسله بها كموسى عليه السلام، والنبي هو الذي ينبىء عن الله ويخبر قومه عنه، وليس معه كتاب كيوشع عليه السلام.
(3) (وناديناه من جانب الطور الأيمن) أي وكلمناه من الجانب الأيمن للطور أي الذي عن يمين موسى حين أقبل من مدين متوجها إلى مصر، وأنبأناه بأنه رسولنا، ثم واعدناه إليه بعد إغراق آل فرعون، ورحمنا بني إسرائيل بإنزال الكتاب عليهم.
(4) (وقربناه نجيا) أي وقربناه تقريب تشريف وإجلال حين مناجاته لنا وقد مثل حاله عليه السلام بحال من قربه الملك لمناجاته، واصطفاه لمصاحبته، ورفع الوسائط بينه وبينه.
وقصارى ذلك - إنه تجاوز العالم المادي، وانغمس في العالم الرّوحى، فقرب من ربه وارتقت نفسه حتى بلغت أقصى مناها، واستعدت للاطلاع على عالم الملكوت، ورؤية ما غاب عن عالم المادة.
(5) (ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا) أي ووهبنا له من رحمتنا معاضدة أخيه ومؤازرته، إجابة لدعوته عليه السلام بقوله: « واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي » وحققنا ما طلبه له، وجعلناه نبيا: « قال قد أوتيت سؤلك يا موسى » قال بعض السلف: ما شفع أحد في أحد في الدنيا أعظم من شفاعة موسى في هرون أن يكون نبيا، قال ابن عباس: كان هرون أكبر من موسى بأربع سنين.
قصص إسماعيل عليه السلام
[سورة مريم (19): الآيات 54 الى 55]
واذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)
المعنى الجملي
قدم الكلام في موسى على الكلام في إسماعيل ليكون الحديث عن يعقوب وبنيه في نسق واحد دون فاصل بينهما، وإسماعيل هو إسماعيل بن خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، وقد أثنى عليه ربه بما هو أهله ووصفه بصفات هي مفخرة البشر ومنتهى السموّ والفضل في هذه الدنيا.
الإيضاح
(واذكر في الكتاب إسماعيل) أي اتل أيها الرسول على قومك صفات أبيهم إسماعيل، علّهم يهتدون بهديه، ويحتذون حذوه، ويتخلقون بمثل ما له من مناقب وفضائل منها:
(1) (إنه كان صادق الوعد) فما وعد عدة إلا وفّى بها، حتى وعد أباه بالصبر على الذبح فقال: « ستجدني إن شاء الله من الصابرين » فصدق في ذلك ووفّى بما قال وامتثل حتى جاءه الفداء.
وصدق الوعد من الصفات التي حث عليها الدين، وشدد فيها أيّما تشديد فقال تعالى: « يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون؟ »
وقال رسول الله ﷺ « آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف. وإذا اؤتمن خان »
وقد فقدت هذه الصفة من كثير من المسلمين، فلا تجد عالما ولا جاهلا إلا وهو بمنأى عنها ولا سيما التجار والصناع والعمال.
(2) (وكان رسولا نبيا) أي وكان رسولا إلى جرهم الذين حلّوا بمكة معه ومع أمه، وكان مرسلا من الله بتبليغ شريعة إبراهيم، فنبأ بها قومه وأنذرهم وخوفهم ومن هذا يعلم أن الرسول لا يجب أن ينزل عليه كتاب مستقل.
(3) (وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة) أي إنه بعد أن كمل نفسه اشتغل بتكميل أمته وأقرب الناس إليه، على نحو ما قاله لنبيه محمد ﷺ: « وأنذر عشيرتك الأقربين » وقال: « وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها » وقال: « قوا أنفسكم وأهليكم نارا ».
(4) (وكان عند ربه مرضيا) عمله، محمودا فيما كلفه به، غير مقصّر في طاعته، فاقتد أيها الرسول به، لأنه من أجلّ آبائك.
قصص إدريس عليه السلام
[سورة مريم (19): الآيات 56 الى 57]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْناهُ مَكانًا عَلِيًّا (57)
الإيضاح
(واذكر في الكتاب إدريس) بالثناء عليه، والنسابون يقولون: إنه جد أبى نوح عليه السلام، ويقولون: إنه أول من خط بالقلم وخاط الثياب ولبس المخيط، وكانوا قبله يلبسون الجلود، وأول من نظر في النجوم وتعلم الحساب. وجعل الله ذلك من معجزاته.
وإن تقادم العهد، وطول الزمن، وعدم وجود السند الصحيح الذي يعوّل عليه في الرواية، يجعلنا في شك من كل هذا، فعلينا أن نكتفى بما جاء به الكتاب الكريم في شأنه، وقد وصفه الله بجملة صفات كلها مفاخر ومناقب إعظام وإجلال:
(1) (إنه كان صديقا) تقدم القول في هذا.
(2) (نبيا) (3) (ورفعناه مكانا عليا) أي أعلينا قدره ورفعنا ذكره في الملأ، ونحو هذا قوله لنبيه محمد ﷺ: « ورفعنا لك ذكرك »
ويرى بعض الباحثين في الآثار المصرية أن إدريس تعريب لكلمة (أوزريس - أموريس) وهو الذي ألف له المصريون القدماء رواية خلّدت في بطون تواريخهم، ومنها أنه حصل بينه وبين أخيه تحاسد وشقاق أدى إلى قتله وتقطيعه إربا إربا، فجمعت امرأته تلك القطع وحفظتها وحنطتها، واتخذوه إلها بعد أن كان مصلحا عظيما.
وهذا القصص الخرافي جعل المصريين يعنون بتحنيط الموتى، وقد أفاد هذا العمل صناعة التحنيط ورقّاها حتى صارت مضرب الأمثال في الخافقين.
وقد كان الملك والدين في عهد تلك الدولة أمرا واحدا، فالملك يجمع بين شئون الدين والدنيا، فمن عصى الملك فقد عصى الله.
ويعتقدون أن أوزريس صعد إلى السماء وصار إلى العالم العلوي وله عرش عظيم في السماء، ويتمتع بأعظم الخيرات، وكل من حفظ جسمه ووزنت أعماله بعد الموت وحكم القضاة وهم اثنان وأربعون قاضيا بأن حسناته غلبت سيئاته - يلحق بأوزريس وهذا النبي الذي جعلوه إلها بعد ذلك هو الذي علمهم العلوم والمعارف وينسبون الفضل في ذلك إليه.
وقد ارتقت الأمة المصرية في العلوم والمعارف إلى حد لم تصل إليه أمة أخرى لا في القديم ولا في الحديث، وخدمت النوع البشرى خدمة جليلة، فارتفاع إدريس إلى السماء راجع إلى رقى تعاليمه وانتفاع أمته بها، فالنبي بأمته، ومن ثم تجد آثار أمته بادية للعيان، بعد أن كانت خافية عن الأنظار.
وبعد أن ذكّر الله أولئك المرسلين أخذ يعدد مناقبهم ويذكر صفاتهم فقال:
[سورة مريم (19): آية 58]
أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)
تفسير المفردات
إسرائيل: يعقوب عليه السلام، واجتباه. اصطفاه واختاره، والسجّد، واحدهم ساجد، والبكي: وأحدهم باك، يقال: بكى يبكى بكاء، وبكيا: قال الخليل: إذا قصرت البكاء فهو مثل الجزن: أي لا صوت معه كما قال الشاعر:
بكت عيني وحق لها بكاها وما يغنى البكاء ولا العويل
المعنى الجملي
بعد أن أفرد الله كل رسول من رسله العشرة الذين سبق ذكرهم بالثناء عليه بما هو جدير به - أردفه بذكر بعض ما جازاهم به من النعم، فقد هداهم إلى سبل الخير واصطفاهم من سائر خلقه.
الإيضاح
(اولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين) أي هؤلاء النبيون الذين قصصت أنباءهم عليك أيها الرسول هم الذين أنعم الله عليهم بما خصصهم به من مزيد القرب منه، وعظيم المنزلة لديه، وهداهم إلى سبيل الرشاد، ورفع ذكرهم بين العباد.
(من ذرية آدم) أبى البشر الأول.
(وممن حملنا مع نوح) أي ومن ذرية من حملنا مع نوح أبى البشر الثاني في الفلك كإبراهيم خليل الرحمن.
(ومن ذرية إبراهيم) وهم إسحاق ويعقوب وإسماعيل.
(وإسرائيل) أي ومن ذرية إسرائيل أي يعقوب عليه السلام، وهم: موسى وهارون وزكريا وعيسى وأمه مريم.
(وممن هدينا واجتبينا) أي ومن جملة من هديناهم إلى سبيل الحق، واجتبيناهم للنبوة والكرامة.
(إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا) أي إذا تتلى على هؤلاء الأنبياء الذين أنعم الله عليهم أدلة الله وحججه التي أنزلها عليهم في كتبه - خروا لله سجدا استكانة له وتذللا، وخضوعا لأمره وانقيادا له، وهم باكون خشية منه وحذرا من عقابه.
قال صالح المرّي: قرأت القرآن على رسول الله ﷺ في المنام فقال: يا صالح هذه القراءة فأين البكاء؟
وفي الحديث « اتلوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا »
وعن ابن عباس: إذا قرأتم سجدة سبحان فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا، فإن لم تبك عين أحدكم فليبك قلبه ».
وقصارى ذلك - إنه سبحانه أبان علوّ أمرهم في الدين والنسب والقرب منه.
جزاء خلف هؤلاء ممن ضل وغوى
[سورة مريم (19): الآيات 59 الى 60]
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحًا فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)
تفسير المفردات
الخلف: (بسكون اللام) عقب السوء، ويقال لعقب الخير والصدق خلف (بفتح اللام)، أضاعوا الصلاة: أي تركوها بتاتا، اتبعوا الشهوات: أي انهمكوا في المعاصي واللذات، غيّا: أي ضلالا، والمراد يلقون جزاءه في نار جهنم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه حزب السعداء وهم الأنبياء ومن تبعهم بإحسان ممن قاموا بحدود الدين فاتبعوا أوامره وأدّوا فرائضه وتركوا نواهيه - أردف هذا ذكر من خلفهم ممن أضاعوا واجباته، وأقبلوا على شهوات الدنيا ولذاتها، وأعقب هذا بذكر ما ينالهم من النكال والوبال في الآخرة إلا من تاب وأناب، فإن الله يقبل توبته، ويحسن عاقبته، ويجعله من ورثة جنة النعيم، ولا ينقصه شيئا من جزاء أعماله. قال مجاهد: نزلت هذه الآية في قوم من هذه الأمة يتراكبون في الطرق كما تراكب الأنعام، لا يستحيون من الناس، ولا يخافون من الله في السماء.
وأخرج أحمد وابن حبان والحاكم في جماعة آخرين عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله ﷺ وتلا هذه الآية قال: « يكون خلف من بعد ستين سنة أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا، ثم يكون خلف يقرؤن القرآن لا يعدو تراقيهم، ويقرأ القرآن ثلاثة: مؤمن، ومنافق، وفاجر ».
وأخرج أحمد والحاكم وصححه عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله ﷺ قال: « سيهلك من أمتي أهل الكتاب وأهل اللبن قلت يا رسول الله ما أهل الكتاب؟ قال: قوم يتعلمون الكتاب يجادلون به الذين آمنوا. قلت وما أهل اللبن؟ قال: قوم يتبعون الشهوات، ويضيعون الصلوات ».
الإيضاح
(فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات) أي فجاء من بعد الأنبياء الذين ذكروا - خلف سوء خلفوهم في الأرض كاليهود والنصارى ومن على شاكلتهم من أهل الضلال، إذ تركوا الصلوات المفروضة عليهم، وآثروا شهواتهم على طاعة الله، فانكبوا على شرب الخمور، وشهادة الزور، ولعب الميسر، وإتيان الفاحشة خفيّة وعلانية.
ثم ذكر عاقبة أعمالهم، وسوء مآلهم فقال:
(فسوف يلقون غيّا) أي شرا وخسرانا، لإهما لهم أداء واجبات الدين، وانهما كهم في المعاصي والآثام.
(إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة) أي لكن من أنابوا إلى ربهم، وأقلعوا عن ذنبهم، وآمنوا بالله ورسوله وأطاعوه فيما أمر به وأدّوا فرائضه، فأولئك يدخلهم ربهم جناته، ويغفر لهم حوباتهم، فالتوبة تجبّ ما قبلها كما جاء في الحديث « التائب من الذنب كمن لا ذنب له ».
(ولا يظلمون شيئا) أي ولا ينقصون شيئا من ثواب أعمالهم، إذ أفعالهم السابقة ذهبت هباء، وصارت نسيا منسيا بكرم اللطيف الخبير، وعظيم حلمه على عباده.
ولما ذكر أن التائب يدخل الجنة وصف هذه الجنة بأمور فقال:
[سورة مريم (19): الآيات 61 الى 63]
جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْوًا إِلاَّ سَلامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63)
تفسير المفردات
جنات عدن: أي جنات إقامة، وهذا وصف لها بالدوام، بالغيب: أي وهي غائبة عنهم، وعده، أي ما وعد به من الجنات: مأتيا، أي يأتيه من وعد به لا محالة، لغوا أي فضولا من الكلام لا طائل تحته، سلاما: أي سلاما من الله أو من الملائكة.
المعنى الجملي
لما ذكر أنه سبحانه يدخل التائبين الجنة - وصف هذه الجنة بجملة أوصاف كلها غاية في تعظيم أمرها، وشريف قدرها، وجليل خطرها.
الإيضاح
أوصاف هذه الجنة:
(1) (جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا) أي هذه الجنات هي جنات إقامة دائمة لا كجنات الدنيا، وقد وعد بها المتقين وهي غائبة عنهم لم يشاهدوها، ووعد الله لا يخلف، فهم آتوها لا محالة.
(2) (لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما) أي لا يسمع المتقون فيها فضول القول وما لا طائل تحته، ولكن يسمعون تسليم الملائكة عليهم بما يشعرهم بالأمان والاطمئنان، وهما منتهى السعادة، والدنيا لا طمأنينة فيها ولا استقرار، فلا سعادة فيها ولا نعيم، ومن ثم طلب إلينا أن ندعو في الصلاة بالأمان ونقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
ولا شك أن تكرار هذه العبارة في الصلوات يحدث في النفس أثرا إذا أدركت مغزاها، ويشعر بأن الله لم يخلق العالم إلا لغاية واحدة وهي الطمأنينة، ولا تكون إلا إذا أمن المرء الفقر والمرض والشيخوخة، وإني لنا بذلك في الدنيا؟ وإنما تكون الطمأنينة لعباده المتقين في الآخرة، وهذا المعنى هو الذي تترجم عنه الجملة (السلام عليكم) أي إن الأمان سيحققه الله لكم، بأن يأمن يعضكم بعضا في الدنيا وفى الآخرة بالخروج من جميع المآزق.
وهذا الدعاء أمنية من أماني النفوس، لا تتحقق إلا إذا أمن الإنسان العذاب والعقاب، وانتهى الحساب، وارتفع السوء كالمرض والموت والفقر والذل يوم القيامة.
(3) (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا) أي ولهم ما يشتهون من المطاعم والمشارب في قدر وقت البكرة ووقت العشى من نهار أيام الدنيا: أي إن الذي بين غدائهم وعشائهم في الجنة قدر ما بين غداء أحدنا في الدنيا وعشائه.
وخلاصة ذلك - إنه لا بكرة في الجنة ولا عشى، إذ لا ليل ولا نهار، وإنما يؤتون بأرزاقهم في مقدار طرفى النهار كما كانوا في الدنيا ولما ذكر أن هذه الجنة تخالف جنات الدنيا - ذكر الدواعي التي توجب استحقاقها فقال:
(تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا) أي هذه الجنة التي وصفت بهذه الصفات الشريفة، نورثها عبادنا المتقين الذين يطيعون الله في السر والعلن، ويحمدونه على السراء والضراء، والمراد أننا نجعلها ملكا لهم كملك الميراث الذي هو أقوى تمليك.
وجاء بمعنى الآية قوله: « قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون » إلى أن قال: « أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون »
[سورة مريم (19): الآيات 64 الى 65]
وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
تفسير المفردات
التنزل: النزول وقتا غب وقت، ما بين أيدينا: أي ما قدامنا من الزمان المستقبل، وما خلفنا: أي من الزمان الماضي، وما بين ذلك: هو الزمان الحاضر، نسيّا: أي تاركا لك، واصطبر عليها: أي اثبت لشدائد العبادة وما فيها من المشاق كما تقول للمبارز: اصطبر لقرنك أي اثبت له فيما يورد عليك من حملاته، سميّا: أي مثلا ونظيرا.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر قصص الأنبياء عليهم السلام تثبيتا له ﷺ وأعقبه بذكر ما أحدثه الخلف بعدهم، وذكر جزاء الفريقين، أعقب ذلك بقصص تأخر نزول جبريل على النبي ﷺ إذا زعم المشركون أن الله ودّعه وقلاه، وقد رد عليهم زعمهم وأبان لهم أن الأمر على غير ما زعموا.
روى « أن جبريل عليه السلام احتبس عنه ﷺ أياما حين سئل عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والروح، ولم يدر عليه الصلاة والسلام كيف يجيب؟
فحزن واشتد عليه ذلك، وقال المشركون إن ربه ودّعه وقلاه، فلما نزل قال له عليه السلام يا جبريل احتبست عنى حتى ساء ظنى، واشتقت إليك، فقال إني إليك لأشوق، ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت، وإذا حبست احتبست، وأنزل الله هذه الآية »
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ لجبريل « ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟ فنزلت هذه الآية إلى آخرها ».
الإيضاح
(وما نتنزل إلا بأمر ربك) أي وما تنزل الملائكة بالوحي على الرسل وقتا بعد وقت إلا بأمر الله على ما تقتضيه حكمته، وتدعو إليه مصلحة عباده، ويكون فيه الخير لهم في دينهم ودنياهم.
ثم علل الملك ذلك بقوله:
(له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك) أي إنه تعالى هو المدبر لنا في جميع الأزمنة مستقبلها وماضيها وحاضرها.
وقصارى ذلك - إن أمرنا موكول إلى الله تعالى يتصرف فينا بحسب مشيئته وإرادته لا اعتراض لأحد عليه، فلا ننتقل من مكان إلى مكان، ولا ننزل في زمان دون زمان إلا بإذنه عز وجل.
(وما كان ربك نسيا) أي إنه تعالى لإحاطة علمه بملكه، لا يطرأ عليه غفلة ولا نسيان حتى يغفل عنك وعن الإيحاء إليك، وإنما كان تأخير الوحي لحكمة علمها جل شأنه.
أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والطبراني في جماعة آخرين عن أبي الدرداء مرفوعا قال « ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرمه فهو حرام، وما سكت عنه فهو عافية، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئا ثم تلا: وما كان ربك نسيا ».
ثم أقام الدليل على ما تقدم بقوله:
(رب السماوات والأرض وما بينهما) فلا يجوز عليه النسيان، فإن من بيده ملكوت كل شيء، كيف يتصور أن تحوم حوله الغفلة والنسيان.
ثم بين ما ينبغي لرسوله أن يفعله بعد أن عرف هذا فقال:
(فاعبده واصطبر لعبادته) أي وإذ قد علمت أنه الرب المسيطر على ما في السموات والأرض وما بينهما، القابض على أعنّتهما، فاعبده ودم على مشاقّ العبادة وشدائدها، وإياك أن يصدّك عنها ما يحدث من إبطاء الوحي وتقوّل المشركين الخرّاصين عن سببه:
ثم أكد الأمر بالعبادة بقوله:
(هل تعلم له سميا؟) أي هل تعلم له شبيها ومثلا يقتضى العبادة لكونه منعما متفضلا بجليل النعم وحقيرها، ومن ثم يجب تعظيمه غاية التعظيم بالاعتراف بربوبيته، والخضوع لسلطانه؟.
[سورة مريم (19): الآيات 66 الى 72]
وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70) وإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72)
تفسير المفردات
يذكر: أي يتذكر ويتفكر، لنحشرنهم: أي لنجمعنهم، جثيا: واحدهم جاث وهو البارك على ركبتيه، شيعة: أي جماعة تعاونت على الباطل وتشايعت عليه. عتيا: أي تكبرا ومجاوزة للحد، صليّا: أي دخولا فيها من صلّى بالنار إذا قاسى حرها، واردها: أي مارّ عليها، حتما: أي واجبا، مقضيا: أي قضى بوقوعه البتة.
المعنى الجملي
بعد أن أمر سبحانه بالعبادة والمصابرة عليها على ما فيها من مشاق وشدائد - أبان فائدة ذلك وهي أنها تنجيهم يوم الحشر يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وهو يوم لا ريب فيه ولا وجه لإنكاره، فإن إعادة الإنسان أهون من بدئه، ثم ذكر ما يلقاه الكافرون يومئذ من الذل والهوان، ثم أردف ذلك ببيان أن جميع الخلائق ترد على النار ولا ينجو منها إلا من اتقى ربه وأخلص في عمله.
روى الكلبي أنها نزلت في أبي بن خلف أخذ عظما باليا فجعل يفتّه بيده ويذريه في الريح ويقول: زعم فلان أنا نبعث بعد أن نموت ونكون مثل هذا، إن هذا لن يكون أبدا.
الإيضاح
(ويقول الإنسان ا اذا ما مت لسوف أخرج حيا) أي ويقول الكافر الذي لا يصدّق بالبعث بعد الموت متعجّبا مستبعدا: أأخرج حيا مرة أخرى فأبعث بعد الموت والبلى؟ وأسند القول إلى الكفرة جميعا وإن لم يقل هذه المقالة إلا بعضهم، من حيث رضاهم عن هذا المقال وسكوتهم عن إنكاره كما سلف لك من قبل.
ثم أقام الدليل على صحة ذلك بقوله:
(أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا؟) أي أولا يتفكر الإنسان المجترئ على ربه، المنكر لتلك الإعادة بعد الفناء، وللإحياء بعد الممات، أن الله خلقه من قبل مماته، فأنشأه بشرا سويا من غير شيء، فليعتبر بذلك وليعلم أن من أنشأه كذلك لا يعجز عن إحيائه بعد مماته، وإيجاده بعد فنائه.
ونحو الآية قوله تعالى: « وإن تعجب فعجب قولهم: ا اذا كنا ترابا ا انا لفى خلق جديد » وقوله: « وضرب لنا مثلا ونسى خلقه قال من يحى العظام وهي رميم؟ قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم » وقوله: « وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه » وفى الحديث القدسي: يقول الله تعالى: كذّبنى ابن آدم ولم يكن له أن يكذبنى، وآذاني ابن آدم ولم يكن له أن يؤذينى، أما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدنى كما بدأنى، وليس أول الخلق بأهون علي من آخره، وأما أذاه إياي فقوله: إن لي ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ».
ولما قرر القضية وأقام عليها الدليل أردفها بالتهديد من وجوه فقال:
(1) (فو ربك لنحشرنهم والشياطين) أقسم الرب بذاته الكريمة أنه حاشرهم جميعا وشياطينهم الذين كانوا يعبدونهم من دون الله.
وفي قسمه على جمعهم وسوقهم إلى المحشر دون القسم على بعثهم، تنبيه إلى أن ذلك غني عن الإثبات بعد أن أقام البرهان على إمكانه، وإنما الذي يحتاج إلى ذلك ما بعده من الشدائد والأهوال.
روي أن الكافرين يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين كانوا يغوونهم، كلّ منهم مع شيطانه.
(2) (ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا) أي ثم لنحضرنهم بعد طول الوقوف حول جهنم من خارجها - جاثين على ركبهم إهانة لهم، أو لعجزهم عن القيام لما حل بهم من المكاره والأهوال.
(3) (ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا) أي لنأخذن من كل جماعة منهم من هو أشد على الرحمن الذي غمر هم بإحسانه - تكبرا ومجاوزة للحدود التي سهّا لخلقه وقصارى ذلك - إن الله تعالى يحضرهم أولا حول جهنم، ثم يميز بعضهم عن بعض، فمن كان أشدهم تمردا في كفره، خص بعذاب أعظم، فعذاب الضالّ المضلّ فوق عذاب من يضلّ بالتبع لغيره.
(ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا) أي ثم لنحن العالمون بظواهر أعمالهم وبواطنها، وبما اجترحوا من السيئات، وبما دسّوا به أنفسهم من الموبقات، من هم أولى بجهنم دخولا واحتراقا، فنبدأ بهم أولا ثم بمن يليهم.
وخلاصة هذا - إنهم جميعا يستحقون العذاب، لكنا ندخلهم في جهنم بحسب عتيّهم وتجبرهم في كفرهم.
ثم خاطب سبحانه الناس جميعا فقال:
(وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا) أي وما أحد منكم أيها الناس إلا يدنو من جهنم ويصير حولها، قد قضى ربك بذلك وجعله أمرا محتوما مفروغا منه.
روى السدي عن ابن مسعود قال: « يرد الناس جميعا الصراط، ويقومون حول النار، ثم يصدرون عن الصراط بأعمالهم، فمنهم من يمر مثل البرق، ومنهم من يمر مثل الريح، ومنهم من يمر مثل الطير، ومنهم من يمر كأجود الخيل، ومنهم من يمر كأجود الإبل، ومنهم من يمر كعدو الرجل... » في حديث طويل، وقال رسول الله ﷺ: « يرد الناس كلهم النار ثم يصدرون بأعمالهم »
. (ثم ننجى الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا) أي إذا مر الخلائق كلهم على النار وسقط فيها من سقط من الكفار والعصاة على قدر ما اجترحوا من الآثام والذنوب - نجى الله المتقين منها بحسب أعمالهم، وترك الكافرين جاثين على الركب كما جاءوا.
[سورة مريم (19): الآيات 73 الى 76]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثًا وَرِءْيًا (74) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
تفسير المفردات
بينات: أي ظاهرات الإعجاز، مقاما: أي مكانا ومنزلا، نديّا: أي مجلسا ومجتمعا، ومثله النادي وقيل هو المجلس الذي يجتمع فيه لحادثة أو مشورة، ومنه دار الندوة التي كان المشركون يتشاورون فيها في أمورهم، والقرن: أهل كل عصر، والأثاث: متاع البيت من الفرش والثياب وغيرها ولا واحد له، والرئى المنظر والمراد به النضارة والحسن، فليمدد: أي فليمهله بطول العمر والتمكن من سائر التصرفات، جندا: أي أنصارا، والباقيات الصالحات: أي الطاعات التي تبقى آثارها، مردّا: أي مرجعا وعاقبة.
المعنى الجملي
بعد أن أقام سبحانه الحجة على مشركي قريش المنكرين للبعث بعد الفناء، وللعودة إلى حياة أخرى - أتبعه بذكر شبهة أخرى قالوها وعارضوا بها حجة الله التي يشهد بصحتها كل منصف، ويعتقدها من له أدنى مسكة من عقل.
تلك أنهم قالوا: لو كنتم على الحق وكنا على الباطل لكان حالكم في الدنيا أحسن وأطيب من حالنا، من قبل أن الحكيم لا يجدر به أن يوقع المخلصين من أوليائه في الذل والمهانة، وأعداءه في العز والراحة، لكنا نجد الأمر على العكس من هذا، فإنا نحن الذين يمتعون برفاهية العيش والرخاء والنعيم، وأنتم في ضنك وفقر وخوف وذل، فهذا دليل على أنا على الحق وأنتم على الباطل.
وقد رد الله عليهم مقالتهم بأن الكافرين قبلكم وكانوا أحسن منكم حالا، وأكثر مالا، قد أبادهم الله وأهلكهم بعذاب الاستئصال، فدل هذا على أن نعيم الدنيا لا يرشد إلى محبة الله لمن أوتوه، ولا إلى أنهم مصطفون له من بين خلقه.
روي أن قائل هذه المقالة النضر بن الحرث ومن على شاكلته من قريش، للمؤمنين من أصحاب النبي ﷺ وكانوا في خشونة من العيش وفى رثاثة من الثياب، وهم كانوا يرجّلون شعورهم ويلبسون فاخر الثياب.
ثم أمر الله رسوله ﷺ أن يجيب هؤلاء المفتخرين بحظوظهم الدنيوية ببيان مآل الفريقين يوم القيامة، وأن ما كان للمشركين في الدنيا من المال وسعة الرزق فإنما ذلك استدراج وإمهال من الله لهم، ثم يلقون النكال والوبال في جهنم وبئس القرار.
الإيضاح
(وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا؟) أي وإذا تتلى على المشركين آياتنا واضحات الدلالة قالوا مفتخرين على المؤمنين، ومحتجين على صحة ما هم عليه من الباطل، أي الفريقين منا ومنكم أوسع عيشا، وأنعم بالا، وأفضل مسكنا، وأحسن مجلسا، وأجمع عددا؟ أنحن أم أنتم؟ فكيف نكون ونحن بهذه المثابة على باطل، وأولئك المستخفّون المستترون في دار الأرقم ابن أبي الأرقم ونحوها من الدور على الحق؟
ونحو الآية قوله تعالى « وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه ».
وقد رد الله عليهم شبهتهم بقوله:
(وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورءيا) أي وكم من أمة من المكذبين قد أهلكناهم بكفرهم وقد كانوا أحسن من هؤلاء أموالا وأثاثا ومناظر ذات جمال وزخرف.
وخلاصة هذا - إن كثيرا ممن كانوا أعظم منكم نعمة في الدنيا كعاد وثمود وأضرابهم من الأمم العاتية قد أهلكهم الله، فلو صدق ما تدّعون من أن النعمة في الدنيا تدل على الكرامة عند الله، ما أهلك أحدا من المتنعمين بها.
وفي هذا تهديد ووعيد لا يخفى، وكأنه قد قيل: فليرتقب هؤلاء، فسيحلّ بهم مثل ما حل بمن قبلهم من المثلات.
ثم أمر عز اسمه نبيه أن يجيب هؤلاء المفتخرين بقوله:
(قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا. حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المدّعين أنهم على الحق، وأنكم على الباطل: إن ما افتخرتم به من زخرف الدنيا وزينتها لا يدل على حسن الحال في الآخرة، فقد جرت سنة الله بأن من كانوا منهمكين في الضلالة، مرخين لأنفسهم الأعنّة، في سلوك المعاصي والآثام، يبسط لهم نعيم الدنيا، ويطيب عيشهم فيها، ويمتعهم بأنواع اللذات، ولا يزال يمهلهم استدراجا لهم إلى أن يشاهدوا ما وعدوا به رأي العين، إما عذابا في الدنيا كما حصل يوم بدر، وإما مجىء الساعة وهم بها مكذبون، وعن الاستعداد لها مفرّطون، وإذ ذاك يعلمون من هو شر من الفريقين مكانا، وأن الأمر على عكس ما كانوا يقدّرون، وسيرون أنهم شر مكانا وأضعف جندا وأقل ناصرا من المؤمنين، وهذا رد على قولهم (أى الفريقين خير مقاما وأحسن نديا).
وقصارى ذلك - إن من كان في الضلالة فسنة الله أن يمدّ له ويستدرجه ليزداد
إثما، ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر، إما بعذاب في الدنيا يأتيه من حيث لا يحتسب، وإما بعذاب في الآخرة لا قبل له بدفعه، وحينئذ يعلم أنه كان في ضلال مبين، ويندم، ولات ساعة مندم.
ندم البغاة ولات ساعة مندم والبغي مرتع مبتغيه وخيم
ولا يجد عن النار محيصا ولا مهربا.
(ويزيد الله الذين اهتدوا هدى) أي ويزيد الله الذين اهتدوا إلى الإيمان هدى بما ينزل عليهم من الآيات، عوضا مما منعوا من زينة الدنيا كرامة لهم من ربهم، كما بسط للضالين فيها لهوانهم عليه.
ومجمل هذا - إن من كان في الضلالة من الفريقين يمهله الله وينفّس له في حياته ليزداد في الإثم والغي ويجمع له عذاب الدارين، ومن كان في الهداية منهما يزيد الله في هدايته ويجمع له خيري السعادتين.
(والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا) أي والطاعات التي بها تنشرح الصدور، وتستنير القلوب، وتصل إلى القرب من الله، ونيل رضوان - خير عند ربك منفعة وعاقبة مما منع به أولئك الكفرة من النعم الفانية التي يفخرون بها من مال وولد وجاه ومنافع تحصل منها، فإن عاقبة الأولين السعادة الأبدية، وعاقبة أولئك الحسرة الدائمة والعذاب المقيم.
وخلاصة هذا - إن الطاعات التي يبقى ثوابها لأهلها خير عند ربهم جزاء وخير عاقبة من مقامات هؤلاء المشركين بالله وأنديتهم التي بها يفخرون على أهل الإيمان في الدنيا.
[سورة مريم (19): الآيات 77 الى 80]
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْدًا (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْدًا (80)
تفسير المفردات
أطلع الغيب؟ من قولهم اطلع الجبل إذا ارتقى إلى أعلاه: أي أظهر له علم الغيب؟ عهدا: أي عملا صالحا، كلا: كلمة زجر وتنبيه إلى الخطأ، سنكتب ما يقول: أي سنظهر له أنا كتبنا، ونمد له من العذاب: أي سنطيل له العذاب الذي يستحقه ونرثه ما يقول: أي نسلب ذلك منه بموته ونأخذه أخذ الوارث ما يرثه، والمراد بما يقول مدلوله ومصداقه، وهو ما أوتيه في الدنيا من المال والولد، فردا: أي لا يصحبه مال ولا ولد.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه الدلائل على صحة البعث، ثم أورد شبه المنكرين له وأجاب عنها بما فيه مقنع لكل ذي لب - قفّى على ذلك بذكر مقالتهم التي قالوها استهزاء وطعنا في القول بالحشر والبعث.
أخرج البخاري ومسلم والترمذي والطبراني وابن حبان عن خبّاب بن الأرت قال: « كنت رجلا قينا (حدادا) وكان لي على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه فقال لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقلت لا والله لا أكفر بمحمد ﷺ حتى تموت ثم تبعث، قال فإني إذ متّ ثم بعثت جئتنى ولى ثمّ مال وولد فأعطيك، فأنزل الله تعالى: أفرأيت الآية ».
الإيضاح
(أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا) أي انظر إلى حال هذا الكافر، وأعجب من مقالته الشنيعة، وجرأته على الله، إذ قال لأعطينّ في الآخرة مالا وولدا.
ولما كان ما ادعاه لا يحصل له العلم له إلا بأحد أمرين - الاطلاع على الغيب أو اتخاذ العهد - ولم يحصل له واحد منهما، فتكون دعوى لا برهان عليها، وهذا ما عناه سبحانه بقوله:
(أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا؟) أي إن ما ادعى أنه سيكون، لا يعلم إلا بأحد الأمرين: إما علم الغيب، وإما عهد من عالم الغيب، فبأيهما هو قد وصل إليه؟.
وقصارى ذلك - أو قد بلغ من عظم شأنه أن ارتقى إلى علم الغيب الذي انفرد به الواحد القهار، أم أعطاه الله عهدا موثقا وقال له: إن ذلك كائن لا محالة؟.
ثم زاد في تأكيد خطئه وهدده بقوله:
(كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا) أي ليس الأمر كذلك، ما اطلع على الغيب، فعلم صدق ما يقول وحقيقة ما يذكر، ولا اتخذ عند الرحمن عهدا موثّقا بذلك، بل كذب وكفر بربه، وسنظهر له أننا كتبنا قوله، ونزيده من العذاب في جهنم بقيله الكذب والباطل في الدنيا زيادة على كفره بالله وتكذيبه برسوله.
(ونرثه ما يقول ويأتينا فردا) أي ونسلبه ما عنده من المال والولد ونأخذه منه أخذ الوارث ما يرث، ويأتينا إذ ذاك فردا لا يصحبه مال ولا ولد مما كان له في الدنيا.
[سورة مريم (19): الآيات 81 الى 87]
واتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْدًا (85) ونَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْدًا (87)
تفسير المفردات
العز: المنعة والقوة، سيكفرون: أي سيجحدون، ضدّا: أي أعداء وأعوانا عليهم والأزّ والهز والاستفزاز: شدة الإزعاج والمراد الإغراء على المعاصي والتهييج لها بالتسويلات، وتحبيب الشهوات، فلا تعجل عليهم: أي فلا تطلب الاستعجال بهلاكهم، الوفد والوفود والأوفاد: واحدهم وافد، وهم القوم يقدمون على الملوك يستنجزون الحوائج، والمراد يقدمون مكرمين مبجلين ركبانا إلى الرحمن: أي إلى دار كرامته وهي الجنة، وردا: أي مشاة مهانين باستخفاف واحتقار كأنهم نعم تساق إلى الماء، والمراد بالعهد شهادة أن لا إله إلا الله، والتبري من الحول والقوة، وعدم رجاء أحد إلا الله.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر إنكار المشركين للبعث مع قيام الدليل على إمكانه بما يشاهد من أمر الخلق في النشأة الأولى - أردف ذلك الرد على عبّاد الأصنام الذين اتخذوا أصنامهم آلهة ليعتزوا بهم يوم القيامة عند ربهم، ويكونوا شفعاء لهم لديه، فبيّن أنهم سيكونون لهم أعداء، وأنه ما جرّأهم على تلك الغواية إلا وسوسة الشيطان لهم، ثم طلب إلى رسوله ألا يستعجل المشركين فإنما هي أنفاس معدودات ثم يهلكون، ثم ذكر ما يحوط المؤمنين من الكرامة حين وفودهم إلى ربهم. وما يحيق بالمشركين من الإهانة حين يردون عليه.
الإيضاح
(واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا) أي واتخذ المشركون من قومك أيها الرسول - آلهة يعبدونهم من دون الله، ليعتزوا بهم ويجعلوهم شفعاء عند ربهم يقربونهم إليه (كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا) أي ليس الأمر كما ظنوا وأمّلوا في أنها تنقذهم من عذاب الله وتنجيهم منه، بل ستجحد الآلهة عبادتهم إياهم وينطق الله من لم يكن ناطقا منهم، فيقولون ما عبدتمونا كما قال سبحانه: « وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك، فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون » وقال: « إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا » وقال حاكيا عنهم: « ما كانوا إيانا يعبدون » ويكونون أعداء لهم وأعوانا عليهم إذ يلعنونهم ويتبرءون منهم.
وبعد أن ذكر سبحانه ما لهؤلاء الكفار مع آلهتهم في الآخرة، ذكر ما لهم مع الشياطين في الدنيا، وأنهم يتولّونهم وينقادون لهم فقال:
(ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا) أي ألم تعلم أنا سلطنا الشياطين على الكافرين ومكناهم من إضلالهم، فهم يغرونهم بالمعاصي، ويهيجونهم على الوقوع فيها.
وخلاصة ما سلف - تعجيب رسوله ﷺ مما حكته الآيات السالفة عن هؤلاء الكفرة من تماديهم في الغي، وانهما كهم في الضلال، وتصميمهم على الكفر بدون رادع ولا زاجر، ومدافعتهم للحق مع وضوحه، وتنبيه له إلى أن ذلك إنما كان بإضلال الشياطين وإغوائهم، لا لقصور في التبليغ.
وفي هذا تسلية للرسول ﷺ وتهوين للأمر على نفسه.
(فلا تعجل عليهم) بأن تطلب إهلاكهم وإبادتهم بعذاب الاستئصال حتى تطهر الأرض من خبائث أعمالهم.
ثم علل هذا النهى بأن حين هلاكهم قريب فقال:
(إنما نعد لهم عدا) أي إنه لم يبق لهم إلا أيام وأنفاس قليلة نعدّها عدا، وعن ابن عباس أنه كان إذا قرأ هذه الآية بكى وقال: آخر العدد خروج نفسك. آخر العدد فراق أهلك، آخر العدد دخول قبرك - وعن ابن السماك أنه كان عند المأمون فقرأ الآية ثم قال: إذا كانت الأنفاس بالعدد، ولم يكن لها مدد، فما أسرع ما تنفذ:
إن الحبيب من الأحباب مختلس لا يمنع الموت بواب ولا حرس
وكيف يفرح بالدنيا ولذتها فتى يعدّ عليه اللفظ والنفس
وقد أفصح عن هذا شاعر مصر أحمد بك شوقى فقال:
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوانى
ثم بين سبحانه ما سيظهر في ذلك اليوم من الفصل بين المتقين والمجرمين في كيفية الحشر فقال:
(يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا) أي واذكر أيها الرسول لقومك، يوم نحشر المتقين إلى دار الكرامة ركبانا، كما يفد الوافدون على أبواب الملوك، ينتظرون إكرامهم وإنعامهم.
وقد أثر عن علي أنه قال: والله ما يحشر الوفد على أرجلهم، ولا يساقون سوقا، ولكنهم يؤتون بنوق لم ير الخلائق مثلها. وعليها رحال الذهب. وأزمّتها الزبرجد، فيركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة - وهذا تمثيل لحالهم في عزهم وعظمتهم وإكرام ربهم لهم.
(ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا) أي ونسوق الكافرين بالله إلى جهنم مشاة قد تقطعت أعناقهم من العطش، فهم كالدواب التي ترد الماء.
(لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا) أي لا يملك العباد الشفاعة إلا من اتخذ عهدا عند الله، بأن أعد لها عدّتها فكان في الدنيا هاديا مصلحا، فيكون في الآخرة شافعا مشفّعا، لا جرم أن ينالها في الآخرة على مقدار هدايته في الدنيا، فالشفاعة حينئذ لا تكون إلا للأنبياء والعلماء والشهداء على مقدار أتباعهم.
روي أن ابن مسعود قرأ هذه الآية ثم قال: أتّخذ عند الله عهدا، فإن الله يقول يوم القيامة: من كان له عند الله عهد فليقم، قالوا يا أبا عبد الرحمن فعلّمنا، قال: قولوا « اللهمّ فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، إني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا ألا تكلنى إلى عمل يقربنى من الشر ويباعدنى من الخير، وإني لا أثق إلا برحمتك، فاجعل لي عندك عهدا تؤديه إلي يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد ».
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ « من أدخل على مؤمن سرورا فقد سرّنى، ومن سرنى فقد اتخذ عند الرحمن عهدا، فلا تمسه النار، إن الله لا يخلف الميعاد »
وأخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: « من جاء بالصلوات الخمس يوم القيامة قد حافظ على وضوئها ومواقيتها وركوعها وسجودها لم ينتقص منها شيئا جاء وله عند الله عهد أن لا يعذبه، ومن جاء قد انتقص منها شيئا فليس له عند الله عهد، إن شاء رحمه وإن شاء عذبه ».
[سورة مريم (19): الآيات 88 الى 95]
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَدًا (91) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْدًا (95)
تفسير المفردات
جئتم: أي فعلتم والإدّ: (بالكسر والفتح) المنكر العظيم، والإدة: الشدة يقال أدّنى الأمر وآدنى: أثقلنى وعظم علي، والتفطر: التشقق، وتخر: تسقط وتنهدم، دعوا: أي نسبوا وأثبتوا، قال شاعرهم:
إنا بنى نهشل لا ندّعى لأب عنه ولا هو بالأبناء يشرينا
عبدا: أي منقادا خاضعا كما يفعل العبيد، أحصاهم: عدّهم وأحاط بهم، وعدهم عدّا: أي عد أشخاصهم، فردا: أي منفردا لا شيء معه من الأنصار والأتباع.
المعنى الجملي
بعد أن ردّ على عبدة الأوثان، وأثبت لهم بقاطع الأدلة أنهم في ضلالهم يعمهون، وأنهم عن الحق معرضون - أردف ذلك الرد على من أثبت له الولد كاليهود الذين قالوا عزير ابن الله، والنصارى الذين قالوا المسيح ابن الله، والمشركون الذين قالوا الملائكة بنات الله، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
الإيضاح
(وقالوا اتخذ الرحمن ولدا. لقد جئتم شيئا إدا.) أي وقال الكافرون بالله: إن للرحمن ولدا، لقد جئتم أيها القائلون بمقالكم هذا شيئا منكرا عظيما يدل على الجرأة على الله وكمال القحة عليه سبحانه، وإنه ليغضبه أشد الغضب، ويسخطه أعظم السخط.
(تكاد السماوات يتفطرن منه) أي إن السموات، تكاد تتشقق منه لشدة هوله، وعظم شأنه، وكما لا ينفع مع الشرك إحسان المشرك. نرجو أن يغفر الله ذنوب الموحدين.
(وتنشق الأرض) أي تخسف بهم.
(وتخر الجبال هدا) أي تسقط وتنهد هدا، فتنطبق عليهم، روى عن ابن عباس أنه قال: إن الشرك فزعت منه السموات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلا الثقلين، وكادت تزول منه، لعظمة الله وكماله.
وقصارى ذلك - إن هذه الكلمة الشنعاء لو صوّرت بصورة محسوسة لم تتحملها هذه الأجرام العظام، وتفرقت أجزاؤها من شدتها.
وفي ذلك تنبيه إلى غضب الله تعالى على قائل هذه الكلمة، وأنه لو لا حلمه سبحانه لهلك.
ثم بين علة ذلك فقال:
(أن دعوا للرحمن ولدا) أي من أجل أنهم نسبوا إلى الله اتخاذ الولد.
ثم نفى ذلك عن نفسه بقوله:
(وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا) أي وما يليق به اتخاذ الولد، لأن ذلك يقتضى التجانس بينهما وأن يكون كل منهما حادثا، ولأن الولد إنما يكون للسرور به، والاستعانة به حين الحاجة، وللذكر الجميل، إلى نحو أولئك من المقاصد التي يتنزه عنها ربنا جل وعلا.
ثم زاد الإنكار توكيدا فقال:
(إن كل من في السماوات والأرض إلا آتى الرحمن عبدا) أي ما من أحد من الملائكة والإنس والجن إلا وهو مملوك له سبحانه، ينقاد لحكمه، ويلتجىء إليه حين الحاجة، ويخضع له خضوع العبد لسيده.
(لقد أحصاهم) أي لقد حصرهم وأحاط بهم، فهم تحت أمره وتدبيره، يعلم ما خفي من أحوالهم وما ظهر، لا يفوته شيء منها.
(وعدهم عدا) أي وعدّ أشخاصهم وأنفاسهم وأفعالهم وأقوالهم، فكل شيء عنده بمقدار، عالم الغيب والشهادة.
(وكلهم آتيه يوم القيامة فردا) أي وكل امرئ منهم يأتيه يوم القيامة وحيدا منفردا عن الأهل والأنصار، منقطعا إليه تعالى، محتاجا إلى معونته ورحمته.
[سورة مريم (19): الآيات 96 الى 98]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
تفسير المفردات
الود: المودة والمحبة، بلسانك: أي بلغتك، واللّدّ: واحدهم ألد، وهو الشديد الخصومة، وركزا: أي صوتا خفيّا.
المعنى الجملي
بعد أن فصّل سبحانه أحوال الكافرين في الدنيا والآخرة، وبالغ في الرد عليهم - ختم السورة بذكر أحوال المؤمنين، وبين أنه سبحانه سيغرس محبتهم في قلوب عباده، وبعد أن استقصى في السورة دلائل التوحيد والنبوة والحشر ورد فيها على فرق المبطلين بين أنه يسر ذلك بلسان نبيه ﷺ ليبشر به المتقين، وينذر به قوما من المشركين ذوي الجدل والمماراة.
الإيضاح
(إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا) أي إن الذين آمنوا بالله وصدّقوا برسله وبما جاءوهم به من عنده وعملوا به فأحلوا حلاله وحرموا حرامه، سيجعل لهم الله محبة في قلوب عباده المؤمنين.
وأخرج البخاري ومسلم والترمذي في جمع كثير عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: « إذا أحب الله تعالى عبدا يقول لجبريل: إني قد أحببت فلا نا فأحبه، فينادى في السماء، ثم تنزل له المحبة في الأرض، فذلك قول الله تعالى (ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات) الآية ».
وأخرج ابن مردويه والديلمي عن البراء قال: قال رسول الله ﷺ لعلي كرم الله وجهه: « قل اللهم اجعل لي عندك عهدا، واجعل لي في صدور المؤمنين ودا، فأنزل الله سبحانه الآية ».
وكان هرم بن حيّان يقول: ما أقبل عبد بقلبه إلى الله إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه، حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم.
وخلاصة ذلك - سيجعل الله للمؤمنين الذين يعملون الصالحات مودة في القلوب يزرعها لهم من غير تودد منهم، ولا تعرّض للأسباب التي يكتسب بها الناس مودات القلوب من قرابة أو صداقة أو اصطناع معروف.
وقد خصهم الله بهذه الكرامة كما: قذف الرعب في قلوب أعدائهم منهم إعظاما لهم وإجلالا لمكانهم.
ثم ذكر الحكمة في إنزال القرآن بلغة العرب فقال:
(فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا) أي فإنما سهلنا نزول القرآن بلغتك العربية لتقرأه على الناس وتبشر به من اتقى عقاب الله، فأدى فرائضه واجتنب نواهيه، بأن له الجنة، وتنذر به من عصاه من قريش، وهم أهل اللدد والجدل بالهوى ممن لا يقبل حقا، ولا يحيد عن باطل.
وقصارى ذلك - بلّغ هذا المنزّل وبشر به وأنذر فإنما أنزلناه بلسانك العربي المبين، ليسهل على الناس فهمه ثم ختم السورة بتلك العظة البالغة فقال:
(وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا؟) أي وقد أهلكنا كثيرا من الأمم قبل هولاء المعاندين، حين سلكوا في خلافي مسلك هؤلاء، وركبوا معاصي، فهل تحس منهم أحدا فتراه وتعاينه أو تسمع له صوتا؟ لا - إنهم بادوا وخلت منهم الديار، وأقفرت المنازل، وصاروا إلى دار لا ينفع فيها إلا صالح العمل، وإن قومك لصائرون إلى مثل ما صاروا إليه، إن لم يعاجلوا التوبة قبل الهلاك.
وفي هذا وعد لرسول الله ﷺ بالنصر والغلبة على هؤلاء المشركين، ووعيد لأولئك الكافرين الجاحدين، وحث له على التبشير والإنذار.
وقصارى ذلك - إنا أهلكنا هم، فلم نبق منهم أحدا تراه، ولا تسمع له صوتا خفيا ولا ظاهرا.
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد سيد المرسلين.
خلاصة لما حوته السورة الكريمة من المقاصد
(1) دعاء زكريا ربه أن يهب له ولدا سريا مع ذكر الأسباب التي دعته إلى ذلك (2) استجابة الله دعاءه وبشارته بولد يسمى يحيى لم يسمّ أحد من قبله بمثل اسمه.
(3) تعجب زكريا من خلق ذلك الولد من أبوين: أمّ عاقر وأب شيخ هرم.
(4) طلبه العلامة على أن امرأته حامل.
(5) إيتاء يحيى النبوة والحكم صبيا.
(6) ما حدث لمريم من اعتزالها لأهلها، وتمثل جبريل لها بشرا سويا، والتجائها إلى الله أن يدفع عنها شر هذا الرجل، وإخباره لها أنه ملك لا بشر.
(7) حملها بعيسى عليه السلام وانتباذها مكانا قصيا حتى لا يراها الناس وهي على تلك الحال.
(8) نداء عيسى لها حين الولادة، وأمرها بهزّ النخلة حتى تساقط عليها رطبا جنيا.
(9) مجيئها بعيسى ومقابلتها لقومها وهي على تلك الحال وقد انهال عليها اللوم والتعنيف بأنها فعلت ما لم يسبقها إليه أحد من تلك الأسرة الشريفة التي اشتهرت بالصلاح والتقوى.
(10) كلام عيسى وهو في المهد تبرئة لأمه ووصفه نفسه بصفات الكمال من النبوة والبركة والبر بوالديه وأنه لم يكن جبارا متكبرا على خالقه.
(11) اختلاف النصارى في شأنه.
(12) قصص إبراهيم عليه السلام مع أبيه آزر ووصفه له بالجهل وعدم التأمل في المعبودات التي يعبدها من دون الله ثم تحذيره إياه بسوء مغبة أعماله، وردّ أبيه عليه مهددا متوعدا (13) هبة الله له إسحاق ويعقوب، وإيتاؤهما الحكم والنبوة.
(14) قصص موسى ومناجاته ربه في الطور، والامتنان عليه بجعل أخيه هارون وزيرا ونبيا.
(15) قصص إسماعيل ووصف الله له بصدق الوعد وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.
(16) قصص إدريس عليه السلام ووصف الله له بأنه صديق نبي رفيع القدر، عظيم المنزلة عند ربه.
(17) مجىء خلف من بعد هؤلاء الأنبياء أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات.
(18) وعد الله لمن تاب وآمن وعمل صالحا بجنات لا لغو فيها ولا تأثيم.
(19) إن جبريل لا ينزل إلى الأنبياء إلا بإذن ربه.
(20) إنكار المشركين للبعث استبعادا له، ورد الله عليهم بأنه خلقهم من قبل ولم يكونوا شيئا.
(21) الإخبار بأن الله يحشر الكافرين يوم القيامة مع قرنائهم من الشياطين ثم يحضرهم حول جهنم جثيا، ثم بدئه بمن هو أشد جرما والله أعلم بهم.
(22) الإخبار بأن جميع الخلق ترد على النار ثم ينجى الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا.
(23) بيان أن المشركين كانوا إذا سمعوا القرآن فخروا على المؤمنين بأنهم خير منهم مجلسا وأكرم منهم مكانا.
(24) تهديدهم بأنه أهلك كثيرا ممن كان مثلهم في العتو والاستكبار، وأكثر أثاثا ورياشا.
(25) بيان أن الله يمد للظالم ويمهله، ليجترح من السيئات ما شاء ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر.
(26) النعي على المشركين باتخاذ الشركاء، وأنهم يوم القيامة سيكونون لهم أعداء.
(27) نهى النبي ﷺ عن طلب تعجيل هلاك المشركين، إذ أن حياتهم مهما طالت فهي محدودة معدودة.
(28) التفرقة بين حشر المتقين إلى دار الكرامة، وسوق المجرمين إلى دار الخزي والهوان.
(29) النعي الشديد على من ادعى أن لله ولدا.
(30) بيان أن الله قد أنزل كتابه بلسان عربي مبين، ليبشر به المتقين، وينذر به الكافرين ذوي اللدد والخصومة.
هامش
- ↑ هو يعقوب بن ماثان وأخوه عمران بن ماثان والد مريم.