الرئيسيةبحث

تفسير المراغي/سورة الواقعة




سورة الواقعة


هي مكية إلا قوله: « أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ. وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ » فمدنية، وآيها ست وتسعون، نزلت بعد طه.

ووجه مناسبتها ما قبلها:

(1) أن في كل منهما وصف القيامة والجنة والنار.

(2) أنه ذكر في السورة السابقة عذاب المجرمين ونعيم المتقين، وفاضل بين جنتى بعض المؤمنين وجنتى بعض آخر منهم، وبين هنا انقسام المكلفين إذ ذاك إلى أصحاب ميمنة وأصحاب مشأمة وسابقين.

(3) أنه ذكر في سورة الرحمن انشقاق السماء، وذكر هنا رجّ الأرض، فكأنّ السورتين لتلازمهما واتحادهما موضوعا سورة واحدة مع عكس في الترتيب، فقد ذكر في أول هذه ما في آخر تلك، وفى آخر هذه ما في أول تلك.

[سورة الواقعة (56): الآيات 1 الى 12]

بسم الله الرحمن الرحيم

إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْواجًا ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) والسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)

تفسير المفردات

وقعت: حدثت، والواقعة القيامة، لوقعتها: أي لوقوعها، كاذبة: أي كذب، ورجت: زلزلت وحركت تحريكا شديدا بحيث ينهدم ما فوقها من بناء وجبال، وبست: أي فتتت وصارت كالسويق الملتوت، من قولهم بس فلان السويق: أي لتّه، وهباء: أي غبارا، منبثا: أي متفرقا، أزواجا: أي أصنافا. قال الراغب: الزوج يكون لكل من القرينين الذكر والأنثى في الحيوانات المتزاوجة، ولكل قرينين منها ومن غيرها كالخف والنعل، ولكل ما يقترن بآخر مماثلا له أو مضادا اه والميمنة ناحية اليمين، والمشأمة ناحية الشمال والعرب يتيمنون بالميامن ويتشاءمون بالشمائل، والمراد أصحاب المرتبة السنية الرفيعة القدر، والسابقون: هم الذين سبقوا إلى الخيرات في الدنيا، والمقربون: هم أرباب الحظوة والكرامة عند ربهم.

المعنى الجملي

حين تقع الواقعة ويجىء يوم القيامة لا تكذب نفس على الله فتنكره، إذ تحقق بالمعاينة وشهده كل أحد، أما في الدنيا فما أكثر النفوس المكذبة به، المنكرة له.

لأنهم لم يذوقوا العذاب كما عاينه المعذبون في الآخرة.

ثم وصف هذه الواقعة بأنها تخفض أقواما وترفع آخرين، وأن الأرض حينئذ تزلزل فيندك ما عليها من جبال وأبنية، وأن الجبال تتفتت وتصير كالغبار المنتشر في الجو، وأن الناس إذ ذاك ينقسمون أفواجا ثلاثة: أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة والسابقون.

الإيضاح

(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ. لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) أي إذا قامت القيامة لا يكون لوقعتها ارتداد ولا رجعة كالحملة الصادقة من ذي سطوة قاهر قاله الحسن وقتادة وقد يكون المعنى - ليس في وقت وقوعها كذب، لأنه حق لا شبهة فيه.

ثم هوّل شأنها وعظم أمرها فقال:

(خافِضَةٌ رافِعَةٌ) أي هي خافضة لأقوام ورافعة لآخرين قاله ابن عباس، إذ الوقائع العظيمة شأنها الخفض والرفع كما يشاهد في تبدل الدول من ذل الأعزة وعزّ الأذلة.

وفي هذا إيماء إلى ما يكون يومئذ من حط الأشقياء إلى الدركات، ورفع السعداء إلى درجات الجنات، ومن ثم قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: خفضت أعداء الله إلى النار، ورفعت أولياءه إلى الحنة.

(إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) أي إذا وقعت الواقعة تزلزل الأرض زلزالا وتضطرب اضطرابا شديدا طولا وعرضا، فتندكّ الحصون والجبال، وتهدم البيوت والصياصي.

قال الربيع بن أنس: ترجّ بما فيها كرجّ الغربال بما فيه.

ونحو الآية قوله تعالى: « إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها » وقوله: « يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ».

(وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) أي وتفتت الجبال تفتتا، وصارت كثيبا مهيلا بعد أن كانت شامخة.

(فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) أي فصارت كالهباء المنبث الذي ذرته الريح وفرقته. وقال قتادة: صارت كيبيس الشجر الذي تذروه الرياح.

والخلاصة - إن الجبال تزول عن أماكنها حينئذ، وتنسف نسفا، وتكون كالعهن المنفوش.

(وَكُنْتُمْ أَزْواجًا ثَلاثَةً) أي وصرتم أصنافا ثلاثة، وكل صنف يذكر أو يوجد مع صنف آخر يسمى زوجا كالعينين والرجلين، فكل منهما يسمى زوجا، وهما معا زوجان، فهاهنا أزواج ثلاثة لا زوجان.

ثم فصل هذه الأزواج فقال:

(فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) أي فأصحاب الميمنة الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم، أي شيء هم في حالهم وصفتهم وسعادتهم؟ والمراد أنهم في حال هي الغاية في الحسن والكمال.

ولا يخفى ما في هذا من تفخيم شأنهم، وتعظيم أمرهم، وأنهم بلغوا حدا لا يقدر قدره من السعادة.

(وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) أي وأصحاب المشأمة الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار، أي شيء هم في حالهم؟ والمراد أنهم بلغوا الغاية في سوء الحال.

وقال المبرد: أصحاب الميمنة أصحاب التقدم، وأصحاب المشأمة أصحاب التأخر، والعرب تقول اجعلنى في يمينك، ولا تجعلنى في شمالك، أي اجعلنى من المتقدمين ولا تجعلنى من المتأخرين اهـ.

أخرج أحمد عن معاذ بن جبل « أن رسول الله ﷺ تلا هذه الآية ثم قبض بيديه قبضتين وقال هذه في الجنة ولا أبالى وهذه في النار ولا أبالى ».

(وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) أي والسابقون الذين يتقدمون غيرهم إلى الطاعات - هم الذين اشتهرت أحوالهم، وعرفت فخامة أمورهم، وقد يكون المعنى والسابقون إلى طاعة الله تعالى هم السابقون إلى رحمته سبحانه، فمن سبق في هذه الدنيا إلى فعل الخير كان في الآخرة من السابقين إلى دار الكرامة، فالجزاء من جنس العمل وكما تدين تدان.

وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ قال: « أتدرون من السابقون إلى ظل الله يوم القيامة؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال: الذين إذا أعطوا الحق قبلوه، وإذا سئلوه بذلوه، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم » أخرجه أحمد.

(أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ. فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي أولئك المتصفون بذلك الوصف الجليل (السبق) هم الذين نالوا حظوة عند ربهم، وهم في جنات النعيم، يتمتعون فيها بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

[سورة الواقعة (56): الآيات 13 الى 26]

ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا (25) إِلاَّ قِيلًا سَلامًا سَلامًا (26)

تفسير المفردات

الثلة: الجماعة قلّت أو كثرت، وقيل الجماعة الكثيرة من الناس كما قال:

وجاءت إليهم ثلّة خندفيّة بجيش كتيّار من السيل مزبد

موضونة من الوضن وهو: النسج، والولدان: واحدهم ولد، مخلدون: أي مبقون أبدا على هذه الصفة، أكواب: أي آنية لا عرا لها ولا خراطيم، أباريق: واحدها إبريق وهو إناء له خرطوم. قال عدي بن الرقاع:

ودعوا بالصّبوح يوما فجاءت به قينة في يمينها إبريق

كأس من معين: أي خمر جارية من العيون كما قال ابن عباس وقتادة، والمراد أنها لم تعصر كخمر الدنيا، لا يصدّعون عنها، أي لا يلحقهم صداع بسببها كما يحدث ذلك في خمر الدنيا، ولا ينزفون: أي ولا تذهب عقولهم بالسكر منها، يقال نزف الشارب إذا ذهب عقله، ويقال للسكران نزيف ومنزوف، يتخيرون: أي يختارون ويرضون، حور: واحدتهن حوراء: أي بيضاء، عين: واحدتهن عيناء: أي واسعة العينين، المكنون: المصون الذي لم تمسسه الأيدي وهو أصفى وأبعد من التغير قال:

قامت تراءي بين سجفي كلّة كالشمس يوم طلوعها بالأسعد

أو درّة صدفيّة غوّاصها بهج متى يرها يهلّ ويسجد

لغوا: أي هزاء لا خير فيه، ولا تأثيما: أي ما يقال حين سماعه وقعتم في الإثم.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أن الناس يوم القيامة أصناف ثلاثة: سابقون وأصحاب ميمنة وأصحاب مشأمة - أعقب ذلك بذكر ما يتمتع به السابقون من النعيم في فرشهم وطعامهم وشرابهم ونسائهم وأحاديثهم التي تدل على صفاء النفس، وأدب الخلق، وسمو العقل.

الإيضاح

(ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) أي هم جماعة كثيرة من سالفى الأمم وقليل من أمة محمد ﷺ، ويستأنس لهذا بقوله ﷺ: « نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ».

(عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) أي على سرر منسوجة بالذهب مشبكة بالدر والياقوت، قال الأعشى في وصف الدرع:

ومن نسج داود موضونة تسير مع الحي عيرا فعيرا

(مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ) أي متكئين على السرر ينظر بعضهم إلى وجوه بعض، فهم في صفاء وعيش رغد وحسن معاشرة، لا يوجد في نفوسهم من الشحناء والبغضاء ما يوجب الافتراق.

ثم ذكر ما هم فيه من ترف ونعيم، وأنهم مخدومون في شرابهم وطعامهم، مكفيون مئونة ما يريدون فقال:

(يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) أي يطوف عليهم غلمان وخدم على صفة واحدة لا يكبرون ولا يتغيرون، فهم دائما على الصفة التي تسر المخدوم إذا رأى الخادم.

(بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ. لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ) أي يطوفون عليهم بأداة الشراب كاملة من أكواب وأباريق وخمر تجرى من العيون ولا تعصر عصرا فهي صافية نقية لا تنقطع أبدا، وهم يطلبون منها ما يريدون، ولا صداع في شرابها، ولا ذهاب منها للعقل كما في خمور الدنيا.

روي عن ابن عباس أن في خمر الدنيا أربع خصال: السكر والصداع والقيء والبول، نزه الله خمر الجنة عنها ».

وبعد أن وصف الشراب وصف الطعام فقال:

(وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ. وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) أي ويطوفون بألوان من الفاكهة المختلفة المطاعم، يختارون منها ما تميل إليه نفوسهم، وبأنواع من لحوم الطير مما لذّ وطاب، فيأخذون منها ما يشتهون، وفيه يرغبون.

وبعد أن ذكر طعامهم وشرابهم أعقبه بذكر نسائهم فقال:

(وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) أي ويتمتعون بنساء بيض مشرقات الوجوه تبدو عليهم نضرة النعيم، وكأنهن اللآلئ صفاء وبهجة.

ثم ذكر السبب في متعتهم بكل هذا النعيم فقال:

(جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي جازاهم ربهم على ما عملوا، وأثابهم بما كسبوا في الدنيا، وزكّوا به أنفسهم من صالح الأعمال، ونصبوا له بأداء فروض دينهم على أتم الوجوه وأكملها، فهم كانوا قوّامين لليل، صوّامين للنهار « كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ. وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ. وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ » وبعد أن وصف النساء وصف حديثهم حينئذ فقال:

(لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا. إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا) أي لا يسمعون اللغو الهراء من الحديث، ولا هجر القول وما تتقزز منه النفوس الراقية، ذات الأخلاق العالية، ولكن يسمعون أطيب السلام، وسامى الكلام، مما يستساغ كما قال سبحانه: « تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ ».

[سورة الواقعة (56): الآيات 27 الى 40]

وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31) وفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكارًا (36) عُرُبًا أَتْرابًا (37) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)

تفسير المفردات

السدر: شجر النبق، مخضود: أي خضد شوكه أي قطع، والطلح: شجر الموز، منضود: أي نضد حمله من أسفله إلى أعلاه فليست له سوق بارزة، ممدود: أي منبسط ممتد لا يتقلص ولا يتفاوت، مسكوب: أي مصبوب يسكب لهم كما يشاءون بلا نصب ولا تعب، فرش: واحدها فراش كسرج وسراج، مرفوعة: أي عالية منضدة، عربا: واحدتهنّ عروب كصبر وصبور، أترابا: أي متساويات في السن واحدتهن ترب.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر حال السابقين وبين مالهم من نعيم مقيم، في جنات النعيم - أردف ذلك ذكر حال أصحاب اليمين، فبين أنهم في جنات يتخللها السدر المخضود، والموز المنضّد بعضه فوق بعض، والفاكهة الكثيرة التي لا تنقطع أبدا، ولا تمتنع عنهم متى شاءوا، وفيها فرش وثيرة مرتفعة عالية، ونساء حسان أبكار في سن واحدة.

الإيضاح

(وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) أي وأصحاب اليمين هم الغاية في فخامة شأنهم، ورفعة قدرهم، وعلوّ منزلتهم.

وقد جاء هذا الأسلوب في كلام العرب لإفادة المبالغة في مدح أو ذم فيقولون فلان ما فلان.

ثم فصل ما أبهم من حالهم بقوله:

(فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ. وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ. وَظِلٍّ مَمْدُودٍ. وَماءٍ مَسْكُوبٍ. وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) أي هم يتمتعون بجنات فيها السدر الذي قطع شوكه لا كسدر البرية في الدنيا، وفيها الموز الذي مليء ثمرا، فلا تظهر له سيقان، وفيها ظل ظليل يقيهم شديد الحر ووهج الشمس، وفيها ماء مصبوب لا يحتاج أهلها إلى تعب ونصب للحصول عليه، وفيها ضروب من الفاكهة التي لا تنقطع أبدا، ولا تمتنع عنهم في وقت، فهم يجدونها متى شاءوا وأحبوا.

ثم ذكر ما يمتعون به من الفرش فقال:

(وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) أي وهم يجلسون على فرش وثيرة عالية وطيئة لا تتعب الجالس عليها.

وبعدئذ ذكر ما يمتعون به من النساء فقال:

(إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً. فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكارًا. عُرُبًا أَتْرابًا. لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) أي إنا أعددناهن نساء أبكارا متحببات إلى أزواجهن، إذ هنّ يحسنّ التبعّل، كلهن في سن واحدة، لا تمتاز واحدة عن أخرى، وأعطيناهن لأصحاب اليمين.

وأعاد ذكر (لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) للتأكيد والتحقيق.

(ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) أي أصحاب اليمين جماعة من مؤمنى الأمم السالفة، وجماعة من مؤمنى أمة محمد ﷺ وإنما لم يقل في حق هؤلاء جزاء بما كانوا يعملون كما قال ذلك في حق السابقين إشارة إلى أن عملهم لقصوره عن عمل السابقين لم يعتبر اعتباره.

[سورة الواقعة (56): الآيات 41 الى 56]

وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُرابًا وَعِظامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)

تفسير المفردات

السموم: حر نار ينفذ في المسامّ، والحميم: الماء الشديد الحرارة، واليحموم: دخان أسود كما قال ابن عباس وابن زيد، لا بارد ولا كريم: أي لا هو بارد كسائر الظلال، ولا دافع أذى الحر لمن يأوى إليه، مترفين: أي منعمين مقبلين على لذات أنفسهم لا يلوون على شيء مما جاء به الرسل، يصرون: أي يقيمون ولا يقلعون، والحنث العظيم: أي الذنب العظيم وهو الشرك بالله وجعل الأوثان والأنداد أربابا من دون الله، والميقات: ما وقت به الشيء والمراد به يوم القيامة، وسمى به لأنه وقتت به الدنيا، وشجر الزقوم: شجر ينبت في أصل الجحيم، والهيم: واحدها أهيم وهو الجمل الذي يصيبه الهيام (بالضم) وهو داء يشبه الاستسقاء يصيب الإبل فتشرب حتى تموت أو تسقم سقما شديدا، والنزل: ما يقدم للضيف إذا نزل تكرمة له، ويوم الدين: يوم الجزاء.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر زوجين من الأزواج الثلاثة، وبين ما يلقاه كل منهم من عز مقيم، وشرف عظيم، في جنات ونعيم، في جملة شئونهم، في مآكلهم ومشاربهم وفرشهم وأزواجهم - أردف ذلك ذكر الزوج الثالث، وبين ما يلقاه من النكال والوبال وسوء الحال، فهو يتظلى في السموم، ويشرب ماء كالمهل يشوى الوجوه، ثم أعقبه بذكر السبب في هذا، بأنهم كانوا في دنياهم مترفين غارقين في ذنوبهم، منكرين هذا اليوم يوم الجزاء ثم أمره أن يخبرهم بأن هذا اليوم واقع حتما وأن مأكلهم سيكون من شجر الزقوم يملئون منه بطونهم، ثم يشربون ولا يرتوون كالإبل الهيم، وهذا ما أعد لهم من كرم وحسن وفادة في هذا اليوم.

الإيضاح

(وَأَصْحابُ الشِّمالِ، ما أَصْحابُ الشِّمالِ) أي أصحاب الشمال في حال لا يستطاع وصفها، ولا يقدر قدرها من نكال ووبال وسوء منقلب.

ثم فسر هذا المبهم بقوله:

(فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ. وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ. لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) أي هم في حرّ ينفذ في المسامّ، وماء متناه في الحرارة، وظل من دخان أسود، ليس بطيّب الهبوب، ولا حسن المنظر، لأنه دخان من سعير جهنم يؤلم من يستظل به.

قال ابن جرير: العرب تتبع هذه اللفظة (الكريم) في النفي فيقولون هذا الطعام ليس بطيب ولا كريم، وهذا اللحم ليس بسمين ولا كريم، وهذه الدار ليست بواسعة ولا كريمة اهـ.

وذكر السموم والحميم ولم يذكر النار، إشارة بالأدنى إلى الأعلى، فإن هواءهم إذا كان سموما، وماءهم الذي يستغيثون به حميما، مع أن الهواء والماء من أبرد الأشياء وأنفعها، فما ظنك بنارهم، فكأنه قال: إن أبرد الأشياء لديهم أحرها، فما بالك بحالهم مع أحرّها؟.

ونحو الآية قوله تعالى: « انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ. انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ. لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ. إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ.

كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ».

والخلاصة - إن السموم تضربهم فيعطشون، وتلتهم تارة أحشاءهم، فيشربون الماء فيقطّع أمعاءهم، ويريدون الاستظلال بظل، فيكون ظل اليحموم.

ثم ذكر السبب في تعذيبهم فقال:

(إِنَّهُمْ كانُواقَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ. وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ. وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُرابًا وَعِظامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ. أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ؟) أيإنهم كانوا في الدنيا منعمين بألوان من المآكل والمشارب، والمساكن الطيبة، والمقامات الكريمة، مهمكين في الشهوات، فلا جرم عذّبوا بنقائضها، إلى أنهم كانوا ينكرون هذا اليوم ويقولون: أنبعث نحن وآباؤنا الأولون ونعود كرّة أخرى، وقد صرنا أجسادا بالية، وعظاما نخرة؟.

والخلاصة - إنهم كانوا يمتّعون بوافر النّعم وجزيل المنن، وهم مع ذلك أصروا على كفرانهم، ولم يشكروا أنعم الله عليهم، فاستحقوا عقاب ربهم، وكانوا مكذبين بهذا اليوم، مستبعدين وقوعه، وركبوا رءوسهم فلم يلووا على شيء، وهاموا في أودية الضلالة، وساروا في سبيل الغواية، لا رقيب ولا حسيب.

وقد جرت سنة القرآن أن يذكر أسباب العقاب، ولا يذكر أسباب الثواب، لأن الثواب فضل، والعقاب عدل، والفضل إن ذكر سببه أو لم يذكر لا يتوهم في المتفضل به نقص ولا ظلم، أما العدل فإن لم يعلم سببه فربما يظن أنه ضرب من الظلم.

وقد ذكروا لاستبعاد هذا البعث أسبابا:

(1) الحياة بعد الموت.

(2) طول العهد بعد الموت حتى صارت اللحوم ترابا والعظام رفاتا.

(3) بلغ الأمر منهم أن قالوا متعجبين: أو يبعث آباؤنا الأولون؟

فرد الله عليهم كل هذا وأمر رسوله أن يجيبهم.

(قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ. لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) أي أجبهم أيها الرسول الكريم قائلا لهم: إن الأولين الذين تستبعدون بعثهم أشد الاستبعاد، والآخرين الذين تظنون أن لن يبعثوا - ليجمعون في صعيد واحد في ذلك اليوم المعلوم، ولا شك أن اجتماع عدد لا يحصى كثرة أعجب من البعث نفسه.

ونحو الآية قوله في سورة الصافات: « فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ. فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ ».

ثم بين ما يلقاه أولئك المكذبون من الجزاء في مآكلهم ومشاربهم فقال:

(ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ. لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ. فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ. فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ. فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) أي أيها الذين ضللتم فأصررتم على الذنب العظيم، إذ لم توحّدوا الله ولم تفعلوا ما يوجب تعظيمه، ثم كذبتم رسله، فأنكرتم البعث والجزاء في هذا اليوم - إنكم لآكلون من شجر الزقوم، فمالئون منها بطونكم، فشاربون بعد ذلك من ماء حارّ لغلبة العطش عليكم، ولكنه شرب لا يشفى الغليل، ومن ثم تشربون ولا ترتوون، فكأنكم الإبل التي أصيبت بداء الهيام، فلا يروى لها الماء غليلا.

وخلاصة ذلك - إنه لزيادة العذاب لا ترتوون من شرب هذا الماء المنتن الحار فلا تمسكوا عنه، بل يكون شربكم كشرب الإبل التي تشرب ولا تروى.

ثم بين أنه ليس هذا كل العذاب بل هو أوله وقطعة منه فقال:

(هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) أي هذا الزقوم المأكول، والحميم المشروب، أول الضيافة التي تقدم لهم كما يقدم للنازل مما حضر، فما بالك بهم بعد ما يستقر بهم المقام في النار؟.

ولا يخفى ما في هذا من التهكم بهم، والتوبيخ لهم كما قال:

وكنّا إذا الجبّار بالجيش ضافنا جعلنا القنا والمرهفات له نزلا

[سورة الواقعة (56): الآيات 57 الى 74]

نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61) ولَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجًا فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)

تفسير المفردات

تمنون: أي تقذفونه في الأرحام من النطف، تخلقونه أي تقدرونه وتصوّرونه بشرا سويا تام الخلق، قدرنا: أي قسمنا ووقتنا موت كل أحد بوقت، نبدل أمثالكم: أي نميتكم دفعة واحدة ونخلق أشباهكم، فيما لا تعلمون: أي من الخلق والأطوار التي لا تعهدونها، فلو لا تذكرون: أي فهلا تتذكرون ذلك، تحرثون: أي تبذرون حبه، وتعملون في أرضه، تزرعونه: أي تنبتونه وتجعلونه نباتا يرفّ، حطاما: أي هشيما متكسرا متفتتا لشدة يبسه بعد ما أنبتناه، تفكهون: أي تتعجبون من سوء حاله، مغرمون: أي معذبون مهلكون من الغرام وهو الهلاك قال:

إن يعذّب يكن غراما وإن يقسط جزيلا فإنه لا يبالي

محرومون: أي غير مجدودين، فليس لنا جدّ وحظ، المزن: السحاب واحدته مزنة، أجاجا: أي ملحا زعاقا لا يصلح لشرب ولا في زرع، لو لا: بمعنى هلا، وهي كلمة تفيد الحث على فعل ما بعدها، تورون: أي تقدحونها وتستخرجونها من الزناد، تذكرة: تذكيرا بالبعث، ومتاعا: أي منفعة، للمقوين: أي للمسافرين الذين يسكنون القواء: أي القفر والمفاوز، فسبح: أي تعجب من أمرهم، وقل: سبحان الله العظيم.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر الأزواج الثلاثة، وبين مآل كل منها، وفصل ما يلقاه السابقون وأصحاب الميمنة من نعيم مقيم، وذكر ما يلقاه أصحاب المشأمة من عذاب لازب في حميم وغساق، وذكر أن ذلك إنما نالهم، لأنهم أشركوا بربهم وعبدوا معه غيره وكذبوا رسله، وأنكروا البعث والجزاء - أردف ذلك إقامة الأدلة على الألوهية من خلق ورزق لطعام وشراب، وأقام الدليل على البعث والجزاء، ثم أثبت الأصل الثالث وهو النبوة فيما بعد.

الإيضاح

(نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ) أي نحن بدأنا خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا، أفليس الذي قدر على البداءة بقادر على الإعادة بطريق الأولى؟ فهلا تصدقون بالبعث. وفي هذا تقرير للمعاد، ورد على المكذبين به، المستبعدين له من أهل الزيغ والإلحاد، الذين قالوا: « أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُرابًا وَعِظامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ؟ ».

ثم أعاد الدليل فقال:

(أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ؟) أي أخبروني عما قذفتم به في الأرحام من النطف:ء أنتم تقدرونه بشرا سويا تام الخلق أم الله الخالق لذلك؟.

ولا شك أنهم لا يجدون إلا جوابا واحدا لا ثاني له.

والخلاصة - أخبروني أيها المنكرون قدرة الله على إحيائكم بعد مماتكم - عن النطف التي تمنون في أرحام نسائكم،ء أنتم تخلقونها أم نحن الخالقون لها؟.

(نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) أي نحن قسمنا الموت بينكم، ووقتنا موت كل واحد بميقات معيّن لا يعدوه بحسب ما اقتضته مشيئتنا المبنية على الحكم البالغة، وما نحن بعاجزين عن أن نذهبكم ونأتى بأشباهكم من الخلق، وننشئكم فيما لا تعلمون من الأطوار والأحوال التي لا تعهدونها.

والخلاصة - نحن قدرنا بينكم الموت لأن نبدل منكم أمثالكم بعد مهلككم، ونجىء بآخرين من جنسكم، فنجن نميت طائفة ونبدلها بطائفة أخرى قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل.

ثم ذكر دليلا آخر على البعث فقال:

(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) أي لقد علمتم أن الله أنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا، فخلقكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة، فهلا تتذكرون وتعرفون أن الذي قدر على هذه النشأة وهي البداية قادر على النشأة الأخرى وهي الإعادة بطريق الأولى كما قال: « وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ » وقال: « أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً؟ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى؟ ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى. فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى. أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟ ».

وفي الحديث « عجبا كل العجب للمكذب بالنشأة الأخرى وهو يرى النشأة الأولى وعجبا للمصدق بالنشأة الآخرة وهو يسعى لدار الغرور ».

ثم أردف ذلك دليلا آخر في الرزق في المطعوم فقال:

(أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ. أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) أي أخبروني عن الحرث الذي تحرثونه،ء أنتم تنبتونه أم نحن الذين ننبته؟ أيء أنتم تصيرونه زرعا أم نحن الذين نصيّره كذلك؟.

وروي عن حجر المنذرى أنه كان إذا قرأ (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) وأمثالها يقول: بل أنت يا رب.

(لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ. إِنَّا لَمُغْرَمُونَ. بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) أي نحن أنبتناه بلطفنا ورحمتنا، وأبقيناه لكم، ولو شئنا لأيبسناه قبل استوائه واستحصاده، فأصبح لا ينتفع به في مطعم ولا في غذاء، فصرتم تعجبون من سوء حاله إثر ما شاهدتم فيه من الخضرة والنضرة والبهجة والرّواء، وتقولون: حقا إنا لمعذبون مهلكون لهلاك أرزاقنا، لا بل هذا أمر قدر علينا لنحس طالعنا، وسوء حظنا.

والخلاصة - لو نشاء لجعلناه هشيما متكسرا لشدة يبسه، فأقمتم تعجبون مما نزل بكم، ويعجّب بعضكم بعضا لذلك وتقولون إنا لمعذبون، لا بل نحن محرمون غير مجدودين، لنحس طالعنا، وسوء حظنا.

ثم أعقبه بدليل آخر في المشروب فقال:

(أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ. أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) أي أفرأيتم أيها الناس الماء العذب الذي تشربونه،ء أنتم أنزلتموه من السحاب الذي فوقكم إلى قرار الأرض أم نحن منزلوه لكم؟.

(لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجًا فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ) أي لو نشاء لجعلناه ملحا زعاقا لا تنتفعون به في شرب ولا غرس ولا زرع، فهلا تشكرون ربكم على إنزاله المطر عذبا زلالا؟ « لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ. يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ».

أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر رضي الله عنه « أن النبي ﷺ كان إذا شرب الماء قال: الحمد لله الذي سقانا عذبا فراتا برحمته، ولم يجعله ملحا أجاجا بذنوبنا ».

(أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ. أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ) أي أفرأيتم النار التي تقدحونها وتستخرجونها من الزناد،ء أنتم أنشأتم شجرتها التي منها الزناد أم نحن المنشئون لها بقدرتنا؟.

وكانت العرب توقد النار بطريق احتكاك المرخ بالعفار (نوعان من الشجر) فيأتون بعود من العفار وبقطعة عريضة من المرخ يحفرون في وسطها حفرة ثم يضعون عود العفار في هذه الفجوة، ويأتي فتى من فتيان القبيلة ويحرك عود العفار فيها بالتوالي، ويأتي بعده آخر ويصنع صنيع سابقه، ولا يزالون يفعلون هكذا حتى تشتعل النار من كثرة الاحتكاك.

وهذه عملية شاقة عسرة، ومن ثم كان البيت في القبيلة إذا رأى النار موقدة استعار جذوة منها، وإلى هذا أشار في قوله سبحانه في قصص موسى « إِنِّي آنَسْتُ نارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ».

ثم بين منافع هذه النار فقال:

(نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعًا لِلْمُقْوِينَ) أي نحن جعلنا النار تبصرة في أمر البعث حيث علقنا بها أسباب المعاش لينظروا إليها، ويذكروا بها ما أوعدوا به لأن من أخرج النار من الشجر الأخضر المضادّ لها فهو قادر على إعادة ما تفرقت مواده، ومنفعة لمن ينزلون القواء والمفاوز من المسافرين، فكم من قوم سافروا ثم أرملوا فأجّجوا نارا فاستدفئوا وانتفعوا بها، وقد كان من لطف الله أن أودعها الأحجار، وخالص الحديد، فيتمكن المسافر من حملها في متاعه وبين ثيابه، وإذا احتاج إليها في منزله أخرج زنده وأورى، وأوقد نارا فطبخ بها واصطلى، واشتوى واستأنس بها، وانتفع بها في وجوه المنافع المختلفة.

وفي الحديث « المسلمون شركاء في ثلاثة: النار والكلإ والماء ».

وقد يكون المعنى: وجعلناها تذكرة وأنموذجا من نار جهنم لما في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة أنه ﷺ قال: « ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم ».

(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) الذي خلق هذه الأشياء بقدرته، فخلق الماء العذب البارد، ولو شاء لجعله ملحا كالبحار والمحيطات، وخلق النار وجعل فيها منافع للناس في معايشهم، وجعلها تبصرة لهم في معادهم.

[سورة الواقعة (56): الآيات 75 الى 82]

فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)

تفسير المفردات

لا أقسم: هذا قسم تستعمله العرب في كلامها، ولا مزيدة للتأكيد مثلها في قوله: « لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ »، ومواقع النجوم: مساقط كواكب السماء ومغاربها، مكنون: أي مصون عن التغيير والتبديل، المطهرون: أي المنزهون عن دنس الحظوظ النفسية، مدهنون: أي متهاونون كمن يدهن في الأمر: أي يلين جانبه ولا يتصلب فيه.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر الأدلة على الألوهية والبعث والجزاء - أعقب هذا بذكر الأدلة على النبوة وصدق القرآن الكريم، وأقسم على هذا بما يرونه في مشاهداتهم من مساقط النجوم، إنه لكتاب كريم لا يمسه إلا المطهرون، وأنه نزل من لدن حضرة القدس على يد جبريل عليه السلام، فكيف تتهاونون في اتباع أوامره، والانتهاء عن نواهيه، وتجعلون شكركم على هذا تكذيبكم بنعم الله وجزيل فضله عليكم؟.

الإيضاح

(فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) أي أقسم بمساقط النجوم ومغاربها، وإنما خص القسم بهذه الحال، لما في غروبها من زوال أثرها، والدلالة على وجود مؤثر دائم، ومن ثم استدل إبراهيم عليه السلام بالأفول على وجود الإله جلت قدرته.

وقد أقسم سبحانه بكثير من مخلوقاته العظيمة، دلالة على عظم مبدعها، فأقسم بالشمس والقمر، والليل والنهار، ويوم القيامة، والتين والزيتون، كما أقسم بالأمكنة فأقسم بطور سينين ومكة المكرمة.

ويرى أبو مسلم الأصفهاني وشرذمة من المفسرين: أنّ لا ليست مزيدة والكلام على ظاهره المتبادر منه، والمعنى: لا أقسم بهذه: إذ الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم ما، فضلا عن هذا القسم العظيم.

(وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) أي وإن هذا القسم عظيم لو تعلمون ذلك.

وفي هذا تفخيم للمقسم به، لما فيه من الدلالة على عظيم القدرة، وكمال الحكمة، وفرط الرحمة، ومن مقتضيات رحمته، ألا يترك عباده سدى.

ثم ذكر سبحانه المقسم عليه فقال:

(إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) أي إن هذا القرآن جم المنافع، كثير الفوائد، فقد اشتمل على ما فيه صلاح البشر في دنياهم وآخرتهم.

قال الأزهري: الكريم اسم جامع لما يحمد، والقرآن كريم يحمد، لما فيه من الهدى والبينات، والعلم والحكمة، فالفقيه يستدل به ويأخذ منه، والحكيم يستمد منه ويحتج به، والأديب يستفيد منه ويتقوى به، فكل عالم يطلب أصل علمه منه اهـ.

(فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) أي في لوح محفوظ مصون عن غير المقرّبين من الملائكة الكرام.

(لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) أي لا يمس هذا اللوح إلا المنزهون عن دنس الأرجاس والحظوظ النفسية وقد يكون المراد: لا ينزل به إلا المطهرون وهم الملائكة الكرام، أو لا يمس هذا القرآن إلا المطهرون من الحدث الأصغر والحدث الأكبر، والمراد بذلك النهى: أي لا ينبغي أن يمس القرآن إلا من هو على طهارة.

أخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن المنذر والحاكم عن عبد الرحمن بن زيد قال: كنا مع سلمان الفارسي فانطلق إلى حاجة فتوارى عنا ثم خرج إلينا، فقلنا لو توضأت فسألناك عن أشياء من القرآن، فقال: سلونى فإني لست أمسه، إنما يمسه المطهرون، ثم تلا (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ).

وقد ذهب جمهور العلماء إلى منع المحدث عن مس المصحف، وبذلك قال على وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشافعي.

وروي عن ابن عباس والشعبي في جماعة منهم أبو حنيفة أنه يجوز للمحدث مسه، يراجع شرح المنتقى للشوكاني.

وقال الحسين بن الفضل: المراد أنه لا يعرف تفسيره وتأويله إلا من طهره الله من الشرك والنفاق.

(تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي وهو منزل نجوما من لدن رب العالمين، فليس بالسحر ولا الكهانة ولا الشعر، وهو الحق الذي لا مرية فيه، وليس وراءه شيء نافع.

وبعد أن بين مزاياه وأنه من لدن عليم خبير ذكر أنه لا ينبغي التهاون في أوامره ونواهيه، بل ينبغي التمسك به فقال:

(أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) أي أفبهذا القرآن تتهاونون، وتمالثون من يتكلم منه، ولا تظهرون له المخالفة وعدم الرضا؟.

قال البقاعي: فهو على هذا إنكار على من سمع أحدا يتكلم في القرآن بما لا يليق به، ثم لا يجاهره بالعداوة. وابن العربي الطائي صاحب كتاب الفصوص، وابن الفارض صاحب التائية أول من صوّبت إليهما هذه الآية، فإنهما تكلما في القرآن على وجه يبطل الدين أصلا ورأسا ويحلّه عروة عروة، فهما من أضر الناس على هذا الدين، ومن يتأول لهما أو ينافح عنهما أو يعتذر لهما أو يحسن الظن بهما مخالفا إجماع الأمة - فهو أعجب حالا منهما، فإن مراده إبقاء كلامهما الذي لا أفسد للاسلام منه من غير أن يكون لإبقائه مصلحة ما بوجه من الوجوه اه بتصرف.

(وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) أي وتجعلون الشكر على هذا أنكم تكذبون بمن منح هذا الرزق، فتنسبونه إلى الأنواء وتقولون مطرنا بنوء كذا، دون أن تقولوا أفاض الله علينا الرزق من لدنه، ومنحنا الفضل برحمته.

والخلاصة - إنكم تضعون الكذب مكان الشكر، وهذا على نحو ما جاء في قوله تعالى: « وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً » أي لم يكونوا يصلون، لكنهم كانوا يصفرون ويصفّقون مكان الصلاة.

قال القرطبي: وفى هذا بيان لأن ما يصيب العباد من خير فلا ينبغي أن يروه من قبل الوسائط التي جرت العادة بأن تكون أسبابا، بل ينبغي أن يروه من قبل الله تعالى، ثم يقابلونه بالشكر إن كان نعمة، وبالصبر إن كان مكروها، تعبدا له وتذللا اهـ.

[سورة الواقعة (56): الآيات 83 الى 96]

فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)

تفسير المفردات

لو لا: حرف يفيد الحث على حصول ما بعده على سبيل الاستحسان أو الوجوب، والحلقوم: مجرى الطعام، ونحن أقرب إليه منكم: أي علما وقدرة، مدينين: أي محاسبين مجزيين، أو مملوكين مقهورين من قولهم دان السلطان الرعية إذا استذلهم واستعبدهم، والروح: الاستراحة، ريحان: أي رزق، من المكذبين الضالين: هم أصحاب الشمال، فنزل: أي فجزاؤه نزل، وتصلية جحيم: أي إدخال في النار، حق اليقين: أي حق الخبر اليقين الذي لا شك فيه.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه جحود الكافرين بآياته وتكذيبهم رسوله وكتابه، وقولهم فيه: إنه سحر أو افتراء، واعتقادهم أن رزقهم من الأنواء - أردف ذلك توبيخهم على ما يعتقدون، فإنه إذا كان لا بد للفعل من فاعل، وقد جحدتم الله وكذبتم رسوله فالفاعل لهذا كله أنتم، لأن الخالق إما الله وإما أنتم، فإذا نفيتم الله فأنتم الخالقون، وإذا فلما ذا لا ترجعون الروح لميتكم وهو يعالج سكرات الموت، فإن كنتم صادقين فارجعوها، الحق أنكم لا تعقلون الدليل والبرهان، بل لا تفهمون إلا المحسوسات، فلمّا لم تروا الفاعل كذبتم به، وهذا من شيمة الجهال، إذ للعلم وسائل عديدة، فليس عدم رؤية الشيء دليلا على عدم وجوده.

ثم بين حال المتوفى، ومن أي الأزواج الثلاثة هو، فإن كان من السابقين فله روح واطمئنان نفس، علما منه بما سيلقاه من الجزاء، ورزق طيب في جنات النعيم فيرى فيها ما تلذ الأنفس، وتقرّ به الأعين، وإن كان من أصحاب اليمين فتسلم عليه الملائكة، وتعطيه أمانا من ربه، وإن كان من أصحاب الشمال فضيافته ماء حميم وعذاب في النار أبدا.

ثم بين لرسوله ﷺ أن الخبر الذي أخبر به هو الحق اليقين، وعليه أن ينزّه ربه العظيم عن كل ما لا يليق به.

الإيضاح

(فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ. وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ. وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) أي فهلا إذا بلغت النفوس عند خروجها من أجساد موتاكم حلا قيمهم وأنتم ومن حضركم من أهليكم تنظرون إليهم، ورسلنا الذين يقبضون أرواحهم أقرب إليهم منكم ولكن لا تبصرون - وجواب لو لا هو ما سيأتي بعد وهو (ترجعونها).

وخلاصة المعنى - إذا لم يكن لكم خالق وأنتم الخالقون، فهلا ترجعون النفوس إلى أجسادها حين خروجها من حلاقيمها؟

ثم كرر الحث والتحضيض مرة أخرى فقال:

(فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ. تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي فهلا ترجعون النفس التي قد بلغت الحلقوم إلى مكانها الأول، ومقرها من الجسد، إن كنتم غير مصدقين أنكم تبعثون وتحاسبون وتجزون.

وبعد أن ذكر حال المحتضرين في الدنيا أردفها ذكر حالهم بعد الوفاة وقسمهم أزواجا ثلاثة فقال:

(1) (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ. فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) أي فإن كان المتوفّى من الذين قرّبهم ربهم من جواره في جناته، لفعله ما أمر به، وتركه ما نهى عنه، فراحة واطمئنان لنفسه، ورزق واسع من عنده، وتبشره الملائكة بجنات النعيم، وقد جاء في حديث البراء بن عازب: « إن ملائكة الرحمة تقول: أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب، كنت تعمرينه، فاخرجى إلى روح وريحان، ورب غير غضبان ».

(2) (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ. فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) أي وإن كان المتوفّى من أصحاب اليمين فتبشره الملائكة وتقول له: سلام لك من إخوانك أصحاب اليمين.

ونحو الآية قوله: « إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ. نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ».

(3) (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ. فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) أي وإن كان المتوفى من المكذبين بالحق، الضالين عن الهدى، فيقدم ضيافة له ماء حميم يصهر به ما في بطنه والجلود، ويدخل في النار التي تغمره من جميع جهاته.

(إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) أي إن هذا الذي ذكر في هذه السورة من أمر البعث الذي كذبوا به، ومن قيام الأدلة عليه، ومن حال المقربين وأصحاب اليمين، وحال المكذبين الضالين - لهو حق الخبر اليقين الذي لا شك فيه، لتظاهر الأدلة القاطعة عليه، كأنه مشاهد رأي العين.

(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) أي فبعد أن استبان لك الحق، وظهر لك اليقين، فنزه ربك عما لا يليق به، مما ينسبه الكفار إليه، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

أخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه عن عقبة بن عامر الجهني قال: « لما نزلت على رسول الله ﷺ فسبّح باسم ربّك العظيم » قال اجعلوها في ركوعكم ولما نزلت « سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى » قال اجعلوها في سجودكم ».

والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

خلاصة موضوعات هذه السورة

(1) اضطراب الأرض وتفتت الجبال حين قيام الساعة.

(2) إن الناس عند الحساب أزواج ثلاثة، وذكر مآل كل زوج منها.

(3) اجتماع الأولين والآخرين في هذا اليوم.

(4) إقامة الأدلة على وجود الخالق.

(5) إقامة البرهانات على البعث والنشور والحساب.

(6) إثبات أن هذه الأخبار حق لا شك فيها.

(7) تبكيت المكذبين على إنكار الخالق.

تفسير المراغي
مقدمة التفسير | الفاتحة | البقرة | آل عمران | النساء | المائدة | الأنعام | الأعراف | الأنفال | التوبة | يونس | هود | يوسف | الرعد | إبراهيم | الحجر | النحل | الإسراء | الكهف | مريم | طه | الأنبياء | الحج | المؤمنون | النور | الفرقان | الشعراء | النمل | القصص | العنكبوت | الروم | لقمان | السجدة | الأحزاب | سبأ | فاطر | يس | الصافات | ص | الزمر | غافر | فصلت | الشورى | الزخرف | الدخان | الجاثية | الأحقاف | محمد | الفتح | الحجرات | ق | الذاريات | الطور | النجم | القمر | الرحمن | الواقعة | الحديد | المجادلة | الحشر | الممتحنة | الصف | الجمعة | المنافقون | التغابن | الطلاق | التحريم | الملك | القلم | الحاقة | المعارج | نوح | الجن | المزمل | المدثر | القيامة | الإنسان | المرسلات | النبأ | النازعات | عبس | التكوير | الانفطار | المطففين | الانشقاق | البروج | الطارق | الأعلى | الغاشية | الفجر | البلد | الشمس | الليل | الضحى | الشرح | التين | العلق | القدر | البينة | الزلزلة | العاديات | القارعة | التكاثر | العصر | الهمزة | الفيل | قريش | الماعون | الكوثر | الكافرون | النصر | المسد | الإخلاص | الفلق | الناس | خاتمة التفسير | فهارس الأجزاء