→ سورة قريش | تفسير المراغي سورة الماعون أحمد مصطفى المراغي |
سورة الكوثر ← |
☰ جدول المحتويات
هي مكية، وآياتها سبع، نزلت بعد سورة التكاثر.
ووجه مناسبتها لما قبلها:
(1) أنه لما قال في السورة السابقة: « أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ » ذم في هذه من لم يحضّ على طعام المسكين.
(2) أنه قال في السورة السابقة: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ »
وهنا ذم من سها عن صلاته.
(3) أنه هناك عدّد نعمه على قريش وهم مع ذلك ينكرون البعث ويجحدون الجزاء وهنا أتبعه بتهديدهم وتخويفهم من عذابه.
[سورة الماعون (107): الآيات 1 الى 7]
بسم الله الرحمن الرحيم
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7)
شرح المفردات
أرأيت: أي هل عرفت وعلمت والمراد بذلك تشويق السامع إلى تعرّف ما يذكر بعده مع تضمنه التعجب منه، كما تقول: أرأيت فلانا ماذا صنع، وأ رأيت فلانا كيف عرّض نفسه للمخاطر - أنت في كل ذلك تريد بعث المخاطب على التعجب مما فعل، والدين: هو الخضوع لما وراء المحسوس من الشؤون الإلهية التي لا يمكن الإنسان أن يعرف حقيقتها، وإنما يجد آثارها في الكون باعثة على الإذعان والتصديق، كوجود الله ووحدانيته، وبعثه الرسل مبشرين ومنذرين، والتصديق بحياة أخرى يعرض الناس فيها على ربهم للجزاء، يدعّ اليتيم: أي يدفعه ويزجره زجرا عنيفا كما جاء في قوله: « يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا » يحض: أي يحث ويدعو الناس إلى ذلك، يراءون: أي يفعلون بقدر ما يرى الناس أنهم يفعلون ذلك من غير أن تستشعر قلوبهم خشية الله بها وحقيقة الرياء طلب ما في الدنيا بالعبادة وطلب المنزلة في قلوب الناس، ويكون فعل ذلك على ضروب (1) بتحسين السمت مع إرادة الجاه وثناء الناس.
(2) بلبس الثياب القصار أو الخشنة ليأخذ بذلك هيبة الزهاد في الدنيا.
(3) بإظهار السخط على الدنيا، وإظهار التأسف على ما يفوته من فعل الخير.
(4) بإظهار الصلاة والصدقة، أو بتحسين الصلاة لرؤية الناس له.
والماعون: ما جرت العادة بأن يسأله الفقير والغنى كالقدر والدلو والفأس.
وقال جار الله: ولا يكون الرجل مرائيا بإظهار العمل الصالح إن كان فريضة، فمن حق الفرائض الإعلان بها وتشهيرها لقوله عليه الصلاة والسلام: « ولا غمّة في فرائض الله » لأنها أعلام الإسلام، وشعائر الدين، ولأن تاركها يستحق الذم والمقت، فوجب إماطة التهمة بالإظهار، وإن كان تطوعا فحقه أن يخفى، لأنه مما لا يلام بتركه ولا تهمة فيه، فإن أظهره قاصدا الاقتداء به كان جميلا، وإنما الرياء أن يقصد بالإظهار أن تراه الأعين فيثنى عليه بالصلاح، وعن بعضهم أنه رأى رجلا في المسجد قد سجد سجدة الشكر وأطالها فقال: ما أحسن هذا لو كان في بيتك؟
وإنما قال هذا لأنه توسم فيه الرياء والسمعة.
على أن اجتناب الرياء صعب إلا على المرتاضين بالإخلاص، ومن ثم قال رسول الله ﷺ: « الرياء أخفى من ديب النملة السوداء في الليلة الظلماء على المسح الأسود » ا هـ.
المسح: كساء خشن من صوف يلبسه الزهاد.
الإيضاح
(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) أي هل عرفت ذلك الذي يكذب بما وراء إدراكه من الأمور الإلهية، والشئون الغيبية، بعد أن ظهر له بالدليل القاطع، والبرهان الساطع، فإن كنت لا تعرفه بذاته، فاعرفه بصفاته وهي:
(1) (فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) أي فذلك المكذب بالدين هو الذي يدفع اليتيم ويزجره زجرا عنيفا إن جاء يطلب منه حاجة، احتقارا لشأنه وتكبرا عليه.
(2) (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) أي ولا يحث غيره على إطعامه، وإذا كان لا يحث غيره على ذلك ولا يدعو إليه، فهو لا يفعله بالأولى.
وفي هذا توجيه لأنظارنا إلى أنا إذا لم نستطع مساعدة المسكين كان علينا أن نطلب من غيرنا معونته ونحثه على ذلك كما تفعل جماعات الخير: « الجمعيات الخيرية ».
وقصارى ما سلف - إن للمكذب بالدين صفتين: أولاهما أن يحتقر الضعفاء ويتكبر عليهم. وثانيتهما أن يبخل بماله على الفقراء والمحاويج، أو يبخل بسعيه لدى الأغنياء، ليساعدوا أهل الحاجة ممن تحقق عجزهم عن كسب ما ينقذهم من الضرورة، ويقوم لهم بكفاف العيش.
وسواء أكان المحتفر للحقوق، البخيل بالمال والسعي لدى غيره مصليا أو غير مصلّ فهو في وصف المكذبين، ولا تخرجه صلاته منهم، لأن المصدق بشىء لا تطاوعه نفسه على الخروج مما صدّق به، فلو صدّق بالدين حقا لصار منكسرا متواضعا لا يتكبر على الفقراء ولا ينهر المساكين ولا يزجرهم فمن لم يفعل شيئا من ذلك فهو مراء في عمله، كاذب في دعواه، ومن ثم قال سبحانه:
(فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) أي فعذاب لمن يؤدى الصلاة بجسمه ولسانه من غير أن يكون لها أثر في نفسه، ومن غير أن تؤتى ثمرتها التي شرعت لأجلها، لأن قلبه غافل عما يقوله اللسان، وتفعله الجوارح، فيركع وهو لاه عن ركوعه، ويسجد وهو لاه عن سجوده، ويكبر وهو لا يعى ما يقول وإنما هي حركات اعتادها، وكلمات حفظها، لا تدرك نفسه معناها، ولا تصل إلى معرفة ثمرتها.
(الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ) أي إنهم يفعلون أفعالا ظاهرة بقدر ما يرى الناس، دون أن تستشعر قلوبهم بها، أو تصل إلى معرفة حكمها وأسرارها.
(وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) أي ويمنعون ما لم تجر العادة بمنعه مما يسأله الفقير والغنى، وينسب منعه إلى لؤم الطبع وسوء الخلق كالقدر والفأس، والقدوم ونحو ذلك.
قال الأستاذ الإمام: فأولئك الذين يصلّون، ولا يأتون من الأعمال إلا ما يرى للناس، مما لا يكلفهم بذل شيء من مالهم، ولا يخشون منه ضررا يلحق بأبدانهم، أو نقصا يلمّ بجاههم، ثم يمنعون ما عونهم، ولا ينهضون بباعث الرحمة إلى سدّ حاجة المعوزين، وتوفير ما يكفل راحتهم وأمنهم وطمأنينتهم - لا تنفعهم صلاتهم، ولا تخرجهم عن حد المكذبين بالدين، لا فرق بين من وسموا أنفسهم بسمة الإسلام أو غيره، فإن حكم الله واحد، لا محاباة فيه للأسماء المنتحلة، التي لا قيمة لها إلا بمعانيها الصحيحة المنطبقة على مراده تعالى من تحديد الأعمال وتقرير الشرائع.
فخاصة المصدّق بالدين التي تميزه عن سواه من المكذبين هو العدل والرحمة وبذل المعروف للناس، وخاصة المكذب التي يمتاز بها عن المصدقين هي احتقار حقوق الضعفاء وقلة الاهتمام بمن تلذعهم آلام الحاجة، وحب الأثرة بالمال، والتعزز بالقوة، ومنع المعروف عمن يستحقه من الناس.
فهل للمسلمين الذين يزعمون أنهم يؤمنون بمحمد ﷺ وبما جاء به أن يقيسوا أحوالهم وما يجدونه من أنفسهم بما يتلون في هذه السورة الشريفة؟ ليعرفوا هل هم من قسم المصدقين أو المكذبين؟ وليقلعوا عن الغرور برسم هذه الصلاة التي لا أثر لها إلا في ظواهر أعضائهم، وبهذا الجوع الذي يسمونه صياما ولا أثر له إلا في عبوس وجوههم، وبذاذة ألسنتهم، وضياع أوقاتهم في اللهو والبطالة، ويرجعوا إلى الحق من دينهم، فيقيموا الصلاة، ويحيوا صورتها بالخشوع للعلي الأعلى فلا يخرجون من الصلاة إلا وهم ذاكرون أنهم عبيد لله يلتمسون رضاه في رعاية حقوقه بما يراه، ويجعلوا من الصوم مؤدبا للشهوة، ومهذّبا للرغبة، رادعا للنفس عن الأثرة، فلا يكون في صومهم إلا الخير لأنفسهم ولقومهم، ثم يؤدون الزكاة المفروضة عليهم، ولا يبخلون بالمعونة فيما ينفع الخاصة والعامة ا هـ والله أعلم.