الرئيسيةبحث

تفسير المراغي/سورة الحشر




سورة الحشر


هي مدنية، وعدة آيها أربع وعشرون نزلت بعد سورة البيّنة.

ومناسبتها ما قبلها من وجوه:

(1) إن في آخر السالفة قال: « كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي » وفى أول هذه قال: « فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ».

(2) إن في السابقة ذكر من حادّ الله ورسوله، وفى أول هذه ذكر من شاقّ الله ورسوله.

(3) إن في السالفة ذكر حال المنافقين واليهود وتولى بعضهم بعضا، وفى هذه ذكر ما حل باليهود، وعدم غناء تولى المنافقين إياهم. « روى أن بني النضير كانوا قد صالحوا رسول الله ﷺ على ألا يكونوا عليه ولا له، فلما ظهر يوم بدر قالوا هو النبي الذي نعت في التوراة، لا نردّ له راية، فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة فحالفوا عليه قريشا عند الكعبة، فأخبر جبريل النبي ﷺ بذلك فأمر بقتل كعب فقتله محمد بن سلمة غيلة وهو عروس، وكان عليه الصلاة والسلام قد اطلع منهم على خيانة حين أتاهم يستعينهم في دية المسلمين من بنى عامر عند منصرفه من بئر معونة، إذ همّوا بطرح حجر عليه فعصمه الله.

وبعد أن قتل كعب بأشهر تهيأ المسلمون لقتالهم وساروا مع رسول الله ﷺ واستعمل على المدينة عبد الله بن أم مكتوم حتى إذا نزل في بني النضير وجدهم ينوحون على كعب، وقالوا ذرنا نبكى شجونا، ثم ائتمر أمرك، فقال: اخرجوا من المدينة، فقالوا الموت أقرب إلينا من ذلك، فتنادوا بالحرب، ودس المنافقون عبد الله بن أبي وأضرابه إليهم ألا يخرجوا من الحصن، فإن قاتلوكم فنحن معكم، وإن أخرجتم لنخرجنّ معكم، فحصنوا الأزقة وحاصروهم إحدى وعشرين ليلة، وقذف الله الرعب في قلوبهم وأيسوا من نصر المنافقين فطلبوا الصلح، فأبى إلا الجلاء على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاءوا من متاعهم، فجلوا إلى الشام، إلى أريحا وأذرعات، إلا أهل بيتين منهم هما آل أبى الحقيق وآل حيي بن أخطب، فإنهم لحقوا بخيبر، ولحقت طائفة بالحيرة، وقبض النبي ﷺ أموالهم وسلاحهم، فوجد خمسين درعا وخمسين بيضة ».

[سورة الحشر (59): الآيات 1 الى 5]

بسم الله الرحمن الرحيم

سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2) وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4) ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5)

شرح المفردات

الذين كفروا: هم بنو النّضير (بزنة أمير) قبيلة عظيمة من اليهود كبنى قريظة، والحشر: إخراج جمع من مكان إلى آخر، ولأول الحشر: أي في أول حشرهم، أي جمعهم وإخراجهم من جزيرة العرب ونفيهم إلى بلاد الشام، وآخر حشر: إجلاء عمر إياهم من خيبر إلى الشام، والحصون: واحدها حصن وهو القصر الشاهق والقلعة المشيدة، مانعتهم حصونهم من الله: أي مانعتهم من بأسه وعقابه، فأتاهم الله: أي جاءهم عذابه، من حيث لم يحتسبوا: أي من حيث لم يخطر لهم ببال، وقذف الشيء: رميه بقوة، والمراد هنا إثباته وركزه في قلوبهم، والرعب: الخوف الذي يملأ الصدر يخربون: أي يهدمون، فاعتبروا: أي فاتعظوا، والاعتبار: النظر في حقائق الأشياء وجهات دلالتها، ليعرف بالنظر فيها شيء آخر من جنسها، وأجليت القوم عن منازلهم: أي أخرجتهم منها، وجلوا: خرجوا، وقد فرقوا بين الإجلاء والإخراج من وجهين: أن الأول لا يكون إلا لجماعة، والثاني: يكون لواحد ولجماعة، وأن الأول ما كان مع الأهل والولد والثاني يكون مع بقائهما، واللينة: النخلة ما لم تكن عجوة.

المعنى الجملي

علمت مما سلف أن اليهود نقضوا عهد رسول الله ﷺ وظاهروا المشركين اتكالا على مساعدة المنافقين لهم ومناعة حصونهم، فتهيأ رسول الله ﷺ وسار لقتالهم، فلما علموا بقدومه حصنوا الأزقة فحاصرهم عليه الصلاة والسلام عدة أيام وألقى الله الرعب في قلوبهم، فطلبوا الصلح فأبى إلا الجلاء وأخرجهم من حصونهم بعد تخريبها بأيديهم وأيدي المؤمنين، ولو لا جلاؤهم لعذبهم في الدنيا بالقتل والأسر، ولهم في الآخرة عذاب شديد، وما كان ذلك إلا بإذن الله وتقديره للأمور وفقالحكمة والمصلحة.

الإيضاح

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي إن جميع ما في السموات والأرض من الأشياء يقدسه سبحانه ويمجده، إما باللسان أو بالقلب أو بدلالة الحال لانقياده لتصريفه له كيف شاء لا معقّب لحكمه.

ونحو الآية قوله تعالى: « تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ».

ثم بين بعض آثار عزته، وأحكام حكمته فقال:

(هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) أي هو الذي أجلى بني النضير من المدينة بقوة عزته، وعظيم سلطانه، وكان هذا أول مرة حشروا فيها وأخرجوا من جزيرة العرب لم يصبهم الذل قبلها، لأنهم كانوا أهل عزة ومنعة، وآخر حشر لهم إجلاء عمر رضي الله عنه لهم من خيبر إلى الشام.

ثم بيّن فضل الله على المؤمنين، ونعمته عليهم في إخراج عدوهم من ديارهم ولم يكن ذلك منتظرا فقال:

(ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) أي ما خطر لكم ذلك أيها المؤمنون ببال، لشدة بأسهم ومنعتهم، وقوة حصونهم، وكثرة عددهم وعددهم.

وفي ذكر هذا تعظيم للنعمة، فإن النعمة إذا جاءت من حيث لا ترتقب كانت مكانتها في النفوس أعظم، وكانت بها أشد سرورا وابتهاجا.

والمسلمون ما ظنوا أن يبلغ الأمر بهم إلى إخراج اليهود من ديارهم، ويتخلصوا من مكايدهم وأشراكهم التي ما فتئوا ينصبونها للمؤمنين، وبذا قضى الله عليهم قضاءه الذي لا مردّ له، وصدق الله (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي).

ثم ذكر ما جرّأهم على مشاكسة النبي ﷺ وتأليب المشركين عليه فقال:

(وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ) أي وظن بنو النضير أن حصونهم المنيعة القوية تمنعهم من أن ينالهم عدو بسوء، فلا يستطيع جيش مهما أوتى من بأس أن يصل إليهم بأذى، فاطمأنوا إلى تلك القوة، وأوقدوا نار الفتنة بين الرسول ﷺ والمشركين، طمعا في القضاء عليه، بعد أن أصبحت له الزعامة الدينية والسياسية في المدينة، وسيكون في ذلك القضاء عليهم لو صبروا، وقد غبروا دهرا وهم أصحاب السلطان فيها، لأنهم من وجه أهل كتاب، ومن وجه آخر هم أرباب النفوذ المالى فيها، وأصحاب الثروة والجاه العريض.

ثم أكد ما سلف وقرره بقوله:

(فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) أي فجاءهم بأس الله وقدرته الذي لا تدفع من حيث لم يخطر ذلك لهم ببال، وصدق فيهم ما قيل: قد يؤتى الحذر من مأمنه.

فأجلاهم النبي ﷺ من المدينة، فذهبت طائفة منهم إلى أذرعات من أعالى الشام، وطائفة إلى خيبر على أن يأخذوا معهم ما حملت إبلهم.

ثم بين أسباب هذا الاستسلام السريع، والنزول على حكم الرسول على مناعة الحصون وكثرة العدد والعدد فقال:

(وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) أي بثّ في قلوبهم الهلع والخوف حين جاء رسول الله ﷺ وأصحابه إليهم، فلم يستطيعوا إلى المقاومة سبيلا.

ومما كان له بالغ الأثر في هذا الخوف قتل رئيسهم كعب بن الأشرف غيلة، وما رأوه من كذب وعد عبد الله بن أبي رأس المنافقين في نصرتهم، وإرسال المدد إليهم، وتغريره بهم، وتوسيع مسافة الخلف بينهم وبين الرسول، فهم قد أوقدوا نارا كانوا هم حطب لهيبها، وفتحوا ثغرة برءوسهم قد سدّوها، ووقعوا في حفرة هم الذين كانوا قد حفروها، فابتلعتهم لا إلى رجعة.

ثم بين مدى ما لحقهم من الهلع والجزع، وكيف حاروا في الدفاع عن أنفسهم فقال:

(يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) أي يخربون بيوتهم بأيديهم ليسدوا بما نقضوا منها من الخشب والحجارة أفواه الأزقة حتى لا يدخلها العدو، وحتى لا تبقى صالحة لسكنى المؤمنين بعد جلائهم، ولينقلوا بعض أدواتها التي تصلح للاستعمال في جهات أخرى كالخشب والعمد والأبواب، ويخربها المؤمنون من خارج ليدخلوها عليهم، ويزيلوا تحصنهم بها، وليتسع مجال القتال، ويكون في ذلك عظيم التنكيل والغيظ لهم.

ثم ذكر ما يجب أن يجعله العاقل نصب عينيه من عظة واعتبار فقال:

(فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) أي فاتعظوا يا ذوي البصائر السليمة، والعقول الراجحة، بما جرى لهؤلاء من أمور عظام، وبلاء ما كان يخطر لهم ببال، بأسباب تحار في فهمها العقول، ولا يصل إلى كنه حقيقتها ذوو الآراء الحصيفة، وابتعدوا عن الكفر والمعاصي التي أوقعتهم في هذه المهالك، فالسعيد من وعظ بغيره، وإياكم والغدر، والاعتماد على غير الله، فما اعتمد أحد على غيره إلا ذلّ.

ثم بين أن الجلاء الذي كتب عليهم كان أخف من القتل والأسر فقال:

(وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ) أي ولو لا أن الله قدّر جلاءهم من المدينة، وخروجهم من أوطانهم على هذا الوجه المهين، لعذبهم في الدنيا بما هو أفظع منه من قتل وأسر كما فعل مع المشركين في وقعة بدر، وكما فعل مع بنى قريظة في سنة خمس للهجرة، كفاء غدرهم وخيانتهم، وتأليب المشركين على المؤمنين، والسعي في إطفاء نور الإسلام حتى لا تقوم لهم قائمة - إلى ما أعد لهم من عذاب مقيم، ونكال وجحيم، حين تقوم الساعة، وتجازى كل نفس بما كسبت.

ثم بين السبب فيما حل بهم وذكر علته فقال:

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أي إنه إنما فعل ذلك بهم، وسلط عليهم رسوله وعباده المؤمنين، لأنهم خالفوا الله ورسوله، وكذبوا بما أنزله على رسله المتقدمين من البشارة بمحمد ﷺ، فهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.

ثم ذكر مآل من يعادى الله ورسوله فقال:

(وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي ومن يعاد الله فإن الله يعاقبه أشد العقاب، وينزل به الخزي والهوان في الدنيا، والنكال السرمدي في الآخرة.

ثم ذكر أن كل شيء بقضاء الله وقدره فقال:

(ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ) أي أي شيء قطعتموه من النخل أو أبقيتموه كما كان ولم تتعرضوا له بشىء فذلك بأمر الله الذي بلّغه إليكم رسوله لتطهر البلاد من شرورهم.

روي أنه عليه الصلاة والسلام حين أمر بقطع نخلهم وحرقه قالوا: يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض، فما بال قطع النخل وتحريقها، وكان في أنفس المؤمنين من ذلك شيء فقالوا لنسألنّ رسول الله ﷺ، هل لنا فيما قطعنا من أجر؟ وهل علينا فيما تركنا من وزر؟ فأنزل الله الآية:

(وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) أي فعل ذلك ليعزّ المؤمنين، وليخزى الفاسقين، ويذلهم ويزيد غيظهم، ويضاعف حسرتهم، بنفاذ حكم أعدائهم في أعزّ أموالهم.

والخلاصة - إنكم بأمر الله قطعتم، ولم يكن ذلك فسادا بل نعمة من الله، ليخزيهم ويذلهم بسبب فسقهم وخروجهم من طاعة الله ومخالفة أمره ونهيه.

[سورة الحشر (59): الآيات 6 الى 7]

وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7)

شرح المفردات

قال المبرد: يقال فاء يفىء إذا رجع، وأفاءه الله إليه: أي رده وصيره إليه، والفيء شرعا: ما أخذ من أموال الكفار من غير قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب كأموال بني النضير، ويقال وجف الفرس والبعير يجف وجفا ووجيفا: إذا أسرع، وأوجفه صاحبه إذا حمله على السير السريع والركاب: ما يركب من الإبل، واحدتها راحلة، ولا واحد لها من لفظها، والعرب لا تطلق لفظ الراكب إلا على راكب البعير، ويسمون راكب الفرس فارسا، يسلط رسله: أي على أعدائه من غير قتال ولا مصاولة بل بإلقاء الرعب في القلوب، فيكون الفيء للرسول يصرفه في مصارفه التي ستعلمها بعد، من أهل القرى: أي من أهل البلدان التي تفتح هكذا بلا قتال، ولذي القربى: أي بنى هاشم وبنى المطلب، قال المبرد: الدّولة (بالضم) الشيء الذي يتداوله القوم بينهم يكون كذا مرة وكذا أخرى، والدّولة (بالفتح) انتقال حال سارّة من قوم إلى قوم، أي فالأولى اسم لما يتداول من المال، والثانية اسم لما ينتقل من الحال، آتاكم: أي أعطاكم، وما نهاكم عنه. أي ما منعكم عن فعله.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه ما حلّ ببني النضير من العذاب العاجل كتخريب بيوتهم بأيديهم وتحريق نخيلهم وتقطيعها، ثم إجلائهم من بعد ذلك عن الديار إلى الشام دون أن يحملوا إلا القليل من المتاع - ذكر هنا حكم ما أخذ من أموالهم، فجعله فيئا لله ورسوله ينفق منه على أهله نفقة سنة ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدّة في سبيل الله، ولا يقسم بين المقاتلة كالغنيمة، لأنهم لم يقاتلوا لأجله.

روي أن الصحابة رضي الله عنهم طلبوا من الرسول ﷺ أن يقسم الفيء بينهم كما قسم الغنيمة في بدر وغيرها بينهم، فبين سبحانه الفرق بين الأمرين، بأن الغنيمة تكون فيما أتعبتم أنفسكم في تحصيله وأوجفتم عليه الخيل والركاب، والفيء فيما لم تتحملوا في تحصيله تعبا، وحينئذ يكون أمره مفوّضا إلى الرسول يضعه حيث يشاء.

الإيضاح

(وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) أي ما صيره الله إلى رسوله من أموال بني النضير فهو لله ورسوله، ولا يجعل غنيمة للجيش يقسم تقسيم الغنائم، لأنه لم تقاتل فيه الأعداء بالمبارزة والمصاولة، بل نزلوا على حكم الرسول فرقا ورعبا، ولهذا يصرف في وجوه البر والمنافع العامة التي ذكرها الله في هذه الآيات.

أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم عن عمر بن الخطاب قال: « كانت أموال بني النضير مما أفاء الله تعالى على رسوله خاصة، فكان ينفق على أهله منها نفقة سنة، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدّة في سبيل الله تعالى ».

(وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) أي ولكن جرت سنة الله أن يسلط رسله على من يشاء من أعدائه ويقذف الرعب في قلوبهم، فيستسلمون لهم بلا قتال ولا مصاولة، كما سلط محمدا ﷺ على هؤلاء فنزلوا على حكمه دون اقتحام مضايق الخطوب، ولا مقاومة شدائد الحروب، فلا حق للمقاتلة في الفيء بل يكون أمره مفوضا إلى الرسول يصرفه كيف شاء، ولا يقسمه تقسيم الغنائم.

(وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيفعل ما يشاء كما يشاء، تارة على ما يعهد من السنن وأخرى على غير ما يعهد منها كما جرى لبني النضير من استسلامهم بلا قتال على مناعة حصونهم وكثرة عددهم وعددهم من سلاح وكراع، وما كان المسلمون يظنون أن هذا سيكون.

وبعد أن أتمّ الكلام في إجلاء بني النضير وفيئهم أعقبه بالكلام في حكم ما أفاء الله على رسوله من قرى الكفار عامة فقال:

(ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) أي ما رده الله إلى رسوله من كفار أهل القرى كقريظة والنّضير وفدك وخيبر، فيصرف في وجوه البر والخير ولا يقسم تقسيم الغنائم، بل يعطى للرسول ولذوي قرباه من مؤمنى بنى هاشم وبنى المطلب، ولليتامى الفقراء، وللمساكين ذوي الحاجة والبؤس، ولابن السبيل الذي انقطع عنه ماله، ولا يمكن أن يصل إليه لبعد الشّقّة وانقطاع طرق المواصلات، وقد كان ذلك حين كانت طرق الوصول شاقة، لكنها الآن سهلة وهي على أساليب شتى، فيمكن المرء أن يطلب ما شاء بحوالة على أي مصرف في أي بلد على سطح الكرة الأرضية، ومن ثم فهذا النوع لا يوجد الآن.

ثم علل هذا التقسيم بقوله:

(كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) أي وإنما حكمنا بذلك وجعلناه مقسما بين هؤلاء المذكورين، لئلا يأخذه الأغنياء ويتداولوه فيما بينهم، ويتكاثروا به، كما كان ذلك دأبهم في الجاهلية، ولا يصيب الفقراء من ذلك شيء.

(وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) أي وما أعطاكم الرسول من الفيء وغيره فخذوه فهو لكم حلال، وما نهاكم عنه فابتعدوا عنه ولا تقربوه، فإن الرسول لا ينطق عن الهوى كما قال سبحانه: « وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ».

أخرج الشيخان وأبو داود والترمذي في جماعة عن ابن مسعود قال: « لعن الله تعالى الواشمات [1] والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله، فبلغ ذلك امرأة من بنى أسد يقال لها أم يعقوب كانت تقرأ القرآن فقالت بلغني أنك لعنت كيت وكيت، فقال: ما لي لا ألعن من لعن رسول الله ﷺ وهو في كتاب الله عز وجل، فقالت: لقد قرأت ما بين لوحى المصحف فما وجدته، قال إن كنت قرأته فقد وجدته، أما قرأت قوله تعالى: « وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا » قالت بلى، قال: فإنه ﷺ قد نهى عنه ».

وعن أبي رافع أن رسول الله ﷺ قال: « لا ألفينّ أحدكم متكئا على أريكته يأتيه أمر مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا أدرى، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه ».

ثم حذرهم من مخالفة أوامر الله ونواهيه فقال:

(وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي واتقوا الله فامتثلوا أوامره، واتركوا نواهيه، فإنه شديد العقاب لمن عصاه، وخالف أمره وأباه، وارتكب ما عنه زجره ونهاه، ورسوله ترجمان عما يريده الله لخير عباده وسعادتهم في الدنيا والآخرة.

[سورة الحشر (59): الآيات 8 الى 10]

لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10)

شرح المفردات

التبوّء: النزول في المكان، ومنه المباءة للمنزل، والمراد من الدار المدينة، والمراد بالحاجة الحسد والغيظ، وأوتوا: أي أعطى المهاجرون دون الأنصار، ويؤثرون: أي يقدمون ويفضلون، والخصاصة: الحاجة من خصاص البيت وهو ما يبقى بين عيدانه من الفرج وكذا كل خرق في منخل أو باب أو سحاب أو برقع، والشح: اللؤم وهو أن تكون النفس كزّة حريصة على المنع، قال شاعرهم:

يمارس نفسا بين جنبيه كزّة إذا همّ بالمعروف قالت له مهلا

قال الراغب: البخل: المنع، والشح: الحال النفسية التي تقتضى ذلك، وغلّا أي حسدا وبغضا.

المعنى الجملي

بعد أن بين مصارف الفيء فيما سلف، وذكر أنه لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين - ذكر هنا أنه أراد بهم فقراء المهاجرين الذين لهم هذه الصفات السامية، والمناقب الرفيعة، ثم مدح الأنصار ساكني المدينة وبالغ في مدحهم فذكر لهم هذه الفضائل:

(1) إنهم يحبون المهاجرين.

(2) إنهم ليس في قلوبهم حقد ولا حسد لهم.

(3) إنهم يفضلونهم على أنفسهم ويعطونهم ما هم في أشد الحاجة إليه، وما ذاك إلا لأن الله عصمهم من الشح المردي والبخل المهلك، الذي يدسى النفوس ويمنعها من اكتساب الخير وعمل البر.

ثم ذكر أن التابعين لهم إحسان، وهم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة، يدعون لأنفسهم ومن سبقهم من المؤمنين بالمغفرة، ويطلبون من الله ألا يجعل في قلوبهم حقدا وحسدا لهم.

الإيضاح

(لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أي إنه أراد بهؤلاء الأربعة السالفين فقراء المهاجرين الذين اضطرهم كفار مكة إلى الخروج من ديارهم وترك أموالهم طلبا لمرضاة ربهم ونيلا لثوابه ونصرة لله ورسوله، وإعلاء لشأن دينه.

(أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) أي هؤلاء هم الصادقون في إيمانهم، إذ قد فعلوا ما يدل على الإخلاص فيه والرغبة الصادقة من نيل المغفرة والكرامة عند ربهم، فهم قد أخرجوا من ديارهم، وهي العزيزة على النفوس، المحببة إلى القلوب.

بلادي وإن جارت علي عزيزة وأهلي وإن ضنوا علي كرام

وتركوا الأموال والمال شقيق الروح، وكثيرا ما يقتل المرء في سبيل الذّود عنه، وانتزاعه من أيدي غاصبيه، وما فعلوا ذلك إلا لإعلاء منار الدين، ورفعة شأنه، وذيوع ذكره، فحقّ لهم من ربهم النعيم المقيم، وجزيل الثواب بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، كفاء ما قاموا به من جليل الأعمال، وعظيم الخلال.

روي أن الرجل منهم كان يعصب الحجر على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع، وكان الرجل يتخذ منهم الحفيرة في الشتاء ماله دثار غيرها.

وعن سعيد قال: قال

رسول الله ﷺ « بشّروا صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة، يدخلون الجنة قبل الناس بنصف يوم، وذلك خمسمائة سنة » أخرجه أبو داود.

ثم مدح سبحانه الأنصار وأثنى عليهم حين طابت نفوسهم عن الفيء إذ جعل للمهاجرين دونهم فقال:

(وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) أي والذين سكنوا المدينة، وأشربت قلوبهم حب الإيمان من قبل هجرة أولئك المهاجرين، لهم صفات كريمة، وشيم جليلة تدل على كرم النفس، ونبل الطباع، فهم:

(1) يحبون المهاجرين ويتمنون لهم من الخير ما يتمنون لأنفسهم، وقد آخى رسول الله بينهم وبينهم، وأسكن المهاجرين في دور الأنصار معهم، ونزل بعض الأنصار عن بعض نسائهم للمهاجرين، طيّبة بذلك نفوسهم، قريرة به أعينهم.

روى أحمد عن أنس قال: « قال المهاجرون: يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم حسن مواساة في قليل، ولا حسن بذل في كثير، لقد كفونا المئونة، وأشركونا في المهيأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله، قال لا، ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم ».

وقال عمر: وأوصى الخليفة بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم، ويحفظ لهم كرامتهم. وأوصى بالأنصار خيرا، الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبل، أن يقبل من محسنهم، وأن يعفو عن مسيئهم.

(2) لا يطمحون إلى شيء مما أعطيه أولئك المهاجرون من الفيء وغيره.

روى « أن رسول الله ﷺ قال للأنصار: إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم، فقالوا أموالنا بيننا قطائع، فقال رسول الله ﷺ أو غير ذلك؟ قالوا وما ذاك يا رسول الله؟ فقال: هم قوم لا يعرفون العمل فتكفونهم وتقاسمونهم التمر، فقالوا نعم يا رسول الله ».

(3) يقدمون ذوي الحاجة على أنفسهم، ويبدءون بسواهم قبلهم، حتى إن من كان عنده امرأتان ينزل عن إحداهما ويزوجها واحدا من المهاجرين.

أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة قال: « أتى رجل رسول الله ﷺ فقال: أصابنى الجهد، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئا، فقال عليه الصلاة والسلام: ألا رجل يضيف هذا الرجل الليلة رحمه الله؟ فقال أبو طلحة أنا يا رسول الله، فذهب إلى أهله فقال لامرأته أكرمى ضيف رسول الله ﷺ، قالت والله ما عندي إلا قوت الصبية، قال إذا أراد الصبية العشاء فنوّميهم، وتعالى فأطفئى السراج ونطوى الليلة لضيف رسول الله ففعلت، ثم غدا الرجل على رسول الله ﷺ فقال عليه الصلاة والسلام: لقد عجب الله الليلة من فلان وفلانة وأنزل فيهما (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) ».

ثم بين سوء عاقبة الشح فقال:

(وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي ومن يحفظوا أنفسهم من الحرص على المال والبخل به فأولئك هم الفائزون بكل مطلوب، الناجون من كل مكروه.

أخرج الترمذي وأبو يعلى وابن مردويه عن أنس مرفوعا « لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان نار جهنم في جوف عبد أبدا، ولا يجتمع الإيمان والشح في قلب عبد أبدا ».

وأخرج أحمد والبخاري في الأدب ومسلم والبيهقي عن جابر عن عبد الله أن رسول الله ﷺ قال: « اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح قد أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم ».

وروى الأموى عن ابن مسعود أن رجلا أتاه فقال: إني أخاف أن أكون قد هلكت، قال وما ذاك؟ قال: سمعت الله يقول (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) وأنا رجل شحيح لا أكاد أخرج من يدي شيئا فقال ابن مسعود: ليس ذاك الذي ذكر الله تعالى، إنما الشح أن تأكل مال أخيك ظلما، ولكن ذلك البخل، وبئس الشيء البخل - ففرق بين الشح والبخل.

وليس المراد من تقوى الشحّ الجود بكل ما يملك، فقد روى أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ قال: « برئ من الشح من أدى الزكاة، وقرى الضيف، وأعطى في النائبة ».

(وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) أي والتابعون للفريقين بالإحسان إلى يوم القيامة يقولون: ربنا اغفر لنا ذنوبنا، واغفر لإخواننا في الدين الذين سبقونا بالإيمان.

قال ابن أبي ليلى: الناس على ثلاث منازل: المهاجرين، والذين تبوءوا الدار والإيمان، والذين جاءوا من بعدهم، فاجتهد ألا تخرج من هذه المنازل.

وفي هذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، لأنه جعل لمن بعدهم حظا في الفيء ما أقاموا على محبتهم وموالاتهم والاستغفار لهم، ومن أبغضهم أو أبغض واحدا منهم أو اعتقد فيهم شرا فلا حق له في الفيء.

وإنما بدءوا في الدعاء بأنفسهم لقوله ﷺ: « ابدأ بنفسك ثم بمن تعول ».

(وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي ويدعون الله ألا يجعل في قلوبهم حسدا وحقدا للمؤمنين جميعا.

والحقد والحسد هما رأس كل خطيئة، وينبوع كل معصية، فهما يوجبان سفك الدماء والبغي والظلم والسرقة، وسائر أنواع الفجور.

ونحو الآية قوله في سورة براءة « وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ »

وفي الآية إيماء إلى وجوب محبة من تقدمهم من المؤمنين ومراعاة حقوقهم لإخوّتهم في الدين والسبق بالإيمان.

(رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي ربنا إنك عظيم الرأفة بعبادك، كثير الرحمة لهم، فأجب دعاءنا.

وفي الآية حثّ على الدعاء للصحابة، وصفاء القلوب من بغض أحد منهم.

وعن ابن عمر أنه سمع رجلا وهو يتناول بعض المهاجرين فقرأ عليه: « لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ » ثم قال: هؤلاء المهاجرون، أفمنهم أنت؟ قال لا، ثم قرأ عليه « وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ » الآية، ثم قال هؤلاء الأنصار فأنت منهم؟

قال لا، ثم قرأ عليه: « وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ » الآية، ثم قال: أفمن هؤلاء أنت؟ قال أرجو، قال: ليس من هؤلاء من سبّ هؤلاء.

[سورة الحشر (59): الآيات 11 الى 17]

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17)

شرح المفردات

نافقوا: أي أظهروا غير ما أضمروا، وبالغوا في إخفاء عقائدهم، والإخوان: الأصدقاء واحدهم أخ، والأخ من النسب جمعه إخوة، لننصرنكم: أي لنعاوننكم، ليولنّ الأدبار: أي ليفرّن هار بين، أشد رهبة في صدورهم من الله: أي إنهم يخافونكم في صدورهم أشد من خوفهم لله، لا يفقهون: أي لا يعلمون عظمته تعالى حتى يخشوه حق خشيته، جميعا: أي مجتمعين، محصنة: أي بالدروب والخنادق وغيرها، جدر: أي حيطان واحدها جدار، بأسهم: أي حربهم، وشتى: أي متفرقة، واحدها شتيت، وبال أمرهم: أي سوء عاقبتهم، من قولهم: كلأ وبيل: أي وخيم سيىء العاقبة.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه ما حدث لبني النضير من الاستسلام خوفا ورهبة، لما قذفه في قلوبهم من الرعب، ثم ذكر مصارف الفيء التي تقدمت - أردفه بذكر ما حصل من مناصحة المنافقين عبد الله بن أبي ابن سلول ورفقته لأولئك اليهود، وتشجيعهم لهم على الدفاع عن ديارهم ومحاربتهم رسول الله ﷺ بما قصه الله علينا وفصّله أتمّ تفصيل، ليكون في ذلك عبرة لنا وإنا لنشاهد كل يوم أن الناس يضل بعضهم بعضا ويغوونهم ثم يتركونهم في حيرة من أمرهم لا يجدون لهم مخلصا مما وقعوا فيه.

أخرج ابن إسحق وابن المنذر وأبو نعيم عن ابن عباس: أنها نزلت في رهط من بنى عوف، منهم عبد الله بن أبي ابن سلول، ووديعة بن مالك، وسويد وداعس بعثوا إلى بني النضير بما قصه الله علينا في كتابه.

الإيضاح

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا). تقدم أن قلنا في غير موضع إن مثل هذا الأسلوب (أَلَمْ تَرَ) يراد به التعجيب من حال المحدّث عنه، وأن أمره غاية في الغرابة، وموضع للدهشة والحيرة.

فهؤلاء قوم من منافقى المدينة لهم أقوال تخالف ما يبطنون، منهم عبد الله بن أبي وشيعته رأوا رسول الله ﷺ شرع يحاصر بني النضير ويقاتلهم، فأرسلوا إليهم يقولون لهم: إنا قادمون لمساعدتكم بخيلنا ورجلنا، ولا نسلمكم لمحمد أبدا فجدّوا في قتالهم، ولا تهنوا في الدفاع عن دياركم وأموالكم، حتى إذا اشتد الحصار، وأوغل المسلمون في الدخول في ديارهم، وتحريق نخيلهم، وهدم بيوتهم رأى بنو النضير أن تلك الوعود كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، وأنهم بين أمرين:

(1) الاستسلام وقبول حكم محمد عليهم.

(2) إفناؤهم وتخريب ديارهم.

وقد أدخل الله الرعب في قلوبهم، فاختاروا الدنيّة، وقبلوا الجلاء عن الديار واستبان لهم أن المنافقين كانوا كاذبين لا عهود لهم ولا وعود، كما هو دأبهم في كل زمان ومكان.

وبعد أن كذبهم على سبيل الإجمال كذبهم تفصيلا ليزيد تعجيب المخاطب حالهم، وليبين له مبلغ خبث طويّتهم، وشدة جبنهم، وفزعهم من القتال، وأن هذه الوعود أقوال كاذبة لا كتها ألسنتهم وقلوبهم منها براء فقال:

(لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ، وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) أي لئن أخرج بنو النضير من ديارهم فأجلوا عنها لا يخرج معهم المنافقون الذين وعدوهم بالخروج من ديارهم، ولئن قاتلهم محمد ﷺ لا ينصرونهم، ولئن نصروهم ليولّن الأدبار منهزمين عن محمد وأصحابه، هاربين منهم خاذلين لهم، ثم لا ينصر الله بني النضير.

وهذا إخبار بالغيب، ودليل من دلائل النبوة، ووجه من وجوه الإعجاز، فإنه قد كان الأمر كما أخبر الله قبل وقوعه.

والخلاصة - إن بني النضير أخرجوا فلم يخرج معهم المنافقون، وقوتلوا فما نصروهم، ولو كانوا قد نصروهم لتركوا النصرة وانهزموا وتركوا أولئك اليهود في أيدي الأعداء.

ثم ذكر السبب في عدم نصرتهم لليهود والدخول مع المؤمنين في قتال فقال:

(لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ) أي إنهم يخافونكم أشد مما يخافون الله، ومن ثمّ لم يجرءوا على الدخول معكم في قتال، وأسلموا اليهود يحكم عليهم الرسول بما يشاء.

ثم ذكر سبب الرهبة لهم من دون الله فقال:

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) أي وكانت هذه الرهبة لكم في صدورهم أشد من رهبتهم لله من أجل أنهم لا يفقهون قدر عظمته تعالى، فهم لذلك يستخفّون بمعاصيه ولا يرهبون عقابه قدر رهبتهم لكم.

ونحو الآية قوله: « إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ».

ثم أكد جبن اليهود والمنافقين وشديد خوفهم منهم فقال:

(لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ) أي إن هؤلاء اليهود والمنافقين قد ألقى الرعب في قلوبهم، فلا يواجهونكم بقتال مجتمعين، لأن الخوف والهلع بلغا منهم كل مبلغ، بل يقاتلونكم في قرى محصنة بالدروب والخنادق ونحوها، ومن وراء الجدر والحيطان وهم محاصرون.

ثم بين أن من أسباب هذا الجبن والخوف - التخاذل وعدم الاتحاد حين اشتداد الخطوب فقال:

(بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) أي بعضهم عدوّ لبعض، فلا يمكن أن يقاتلوا عدوا لهم وهم في تخاذل وانحلال، ومن ثم استكانوا وذلوا.

وفي هذا عبرة للمسلمين في كل زمان ومكان، فإن الدول الإسلامية ما هدّ كيانها، وأضعفها أمام أعدائها إلا تخاذلها أفرادا وجماعات، وانفراط عقد وحدتها، ومن ثم طمع الأعداء في بلادهم ودخلوها فاتحين وأذاقوا أهلها كؤوس الذل والهوان وفرّقوهم شذر مذر، وجعلوهم عبيدا أذلاء في بلادهم والتهموا ثرواتهم، ولم يبقوا لهم إلا النّفاية وفتات الموائد. ولله الأمر من قبل ومن بعد، وعسى الله أن يأتي بالفتح أو نصر من عنده، فيستيقظ المسلمون من سباتهم، ويثوبوا إلى رشدهم، فيستعيدوا سابق مجدهم، وتدول الدولة لهم:

فيوما لنا ويوما علينا ويوما نساء ويوما نسرّ

ثم زاد ما سلف توكيدا فقال:

(تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) أي إنك أيها الرسول إذا رأيتهم مجتمعين خلتهم متفقين وهم مختلفون غاية الاختلاف، لما بينهم من إحن وعداوات، فهم لا يتعاضدون ولا يتساندون ولا يرمون عن قوس واحدة.

وفي هذا تشجيع للمؤمنين على قتالهم، وحثّ للعزائم الصادقة على حربهم، فإن المقاتل متى عرف ضعف خصمه ازداد نشاطا وازدادت حميّته وكان ذلك من أسباب نصرته عليه.

ثم بين أسباب النفرة وانحلال الوحدة فقال:

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) أي ذلك التفرق من جراء أن أفئدتهم هواء، فهم قوم لا يفقهون سر نظم هذه الحياة، ولا يعلمون أن الوحدة هي سر النجاح، ومن ثم تخاذلوا وتفرقت كلمتهم، واختلف جمعهم، واستهان بهم عدوهم، ودارت عليهم الدائرة.

ثم أرشد إلى أن هؤلاء ليسوا ببدع في الكافرين، بل قد سبقهم غيرهم ممن كان حقه أن يكون عبرة لهم فقال:

(كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) أي مثل بني النضير مثل اليهود من بنى قينقاع الذين كانوا حول المدينة وغزاهم النبي ﷺ يوم السبت في شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة وأجلاهم إلى أذرعات بالشام، وذاقوا سوء عاقبة كفرهم إثر عصيانهم قبل وقعة بني النضير التي كانت سنة أربع للهجرة.

والخلاصة - إنهم قد كانت لهم أسوة ببني قينقاع، فجروحهم لا تزال دامية، وآثار خذلانهم لا تزال بادية للعيان، وقد كان من حق ذلك أن يكون عبرة ماثلة لهم ولكنهم قوم لا يفقهون ولا يعتبرون بالمثلات التي يرونها رأي العين.

(وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) لا يقادر قدره، ولا يعرف كنهه سوى علام الغيوب.

ثم ضرب لليهود والمنافقين مثلا آخر أشد نكالا وأوجع إيلاما فقال:

(كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) أي مثل هؤلاء المنافقين الذين وعدوا اليهود من بني النضير النصرة إن قوتلوا، أو الخروج معهم إن أخرجوا، ومثل بني النضير في غرورهم بوعودهم وإسلامهم إياهم في أشد حاجتهم إليهم وإلى نصرتهم - كمثل الشيطان الذي غرّ إنسانا ووعده النصرة عند الحاجة إليه إذا هو كفر بالله واتبعه وأطاعه، فلما احتاج إلى نصرته أسلمه وتبرأ منه وقال: إني أخاف الله رب العالمين إذا أنا نصرتك، لئلا يشركنى معك في العذاب.

والخلاصة - إن مثل اليهود في اغترارهم بمن وعدوهم النصرة من المنافقين بقولهم لهم: لئن قوتلتم لننصرنكم، ولما جدّ الجدّ واشتد الحصار والقتال تخلّوا عنهم وأسلموهم للهلكة - كمثل الشيطان إذ سوّل للإنسان الكفر والعصيان، فلما دخل فيه تبرأ منه وتنصل وقال: « إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ ». ولا تجد مثلا أشد وقعا على النفوس، ولا أنكى جرحا في القلوب من هذا المثل، لمن اعتبر وادّكر، ولكنهم قوم لا يعقلون.

ثم ذكر عاقبة الناصح والمنصوح فقال:

(فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها، وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) أي فكان عاقبة الآمر بالكفر والداخل فيه - الخلود في النار أبدا، وهكذا جزاء الظالمين لأنفسهم بالكفر كيهود بني النضير والمنافقين الذين وعدوهم بالنصرة.

[سورة الحشر (59): الآيات 18 الى 20]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20)

شرح المفردات

ما قدمت: أي أي شيء قدمت، وغد: هو يوم القيامة سمى بذلك لقربه، فكل آت قريب كما قال: وإن غدا لناظره قريب. نسوا الله: أي نسوا حقه فتركوا أوامره، ولم ينتهوا عن نواهيه، فأنساهم أنفسهم: أي أنساهم حظوظ أنفسهم فلم يقدموا لها خيرا ينفعها.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر المضلين من المنافقين، وبيّن أن ما يقولون غير ما يبطنون، وأن مثلهم كمثل الشيطان في الإغواء والإضلال، ثم أعقبه بذكر الضالين من بني النضير وكيف خدعوا بتلك الوعود الخلّابة التي كانت عليهم وبالا ونكالا، وكان فيها سوء حالهم في دنياهم ودينهم - شرع ينصح المؤمنين بلزوم التقوى، وأن يعملوا في دنياهم ما ينفعهم في أخراهم حتى ينالوا الثواب العظيم، والنعيم المقيم، وألا ينسوا حقوق الله، فيجعل الرين على قلوبهم، فلا يقدموا لأنفسهم ما به رشادهم وفلاحهم.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ) فافعلوا ما به أمر، واتركوا ما عنه نهى وزجر (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) أي ولتنظروا ماذا قدمتم لآخرتكم مما ينفعكم يوم الحساب والجزاء، يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكنهم من توقع العذاب حيارى.

(وَاتَّقُوا اللَّهَ) تكرير للتوكيد، لما يستدعيه الحال من التنبيه والحث على التقوى التي هي الزاد في المعاد.

ثم وعد وأوعد وبشر وأنذر فقال:

(إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي إنه تعالى عليم بأحوالكم لا يخفى عليه شيء من شئونكم، فراقبوه في جليل أعمالكم وحقيرها، واعلموا أنه سبحانه سيحاسبكم على النقير والقطمير، والقليل والكثير، ولا يفوته شيء من ذلك.

ثم ضرب لهم الأمثال تحذيرا وإنذارا فقال:

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) أي ولا يكن حالكم كحال قوم تركوا العمل بحقوق الله التي أوجبها على عباده، فران على قلوبهم وأنساهم العمل الصالح الذي ينجيهم من عقابه، فضلوا ضلالا بعيدا، فجازاهم بما هم له أهل، وما هم مستحقون، جزاء وفاقا لما دسّوا به أنفسهم وأوقعوها في المعاصي والآثام، ومن ثم حكم عليهم بالهلاك فقال:

(أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي أولئك هم الذين خرجوا من طاعة الله فاستحقوا عقابه يوم القيامة.

ونحو الآية قوله تعالى: « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ».

خطب أبو بكر فقال: أما تعلمون أنكم تغدون وتروحون لأجل معلوم؟ فمن استطاع أن يقضى الأجل وهو في عمل الله عز وجل فليفعل، ولن تنالوا ذلك إلا بتوفيق الله عز وجل، إن قوما جعلوا آجالهم لغيرهم فنهاكم الله عز وجل أن تكونوا أمثالهم فقال: « وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ » أين من تعرفون من إخوانكم؟ قدموا على ما قدّموا في أيام سلفهم، وخلوا بالشّقوة والسعادة، أين الجبارون الأولون الذين بنوا المدائن، وحصنوها بالحوائط؟ قد صاروا تحت الصخر والآبار، هذا كتاب الله لا تفنى عجائبه، فاستضيئوا منه ليوم ظلمة، واستضيئوا بسنائه وبيانه. إن الله أثنى على زكريا وأهل بيته فقال تعالى: « إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ » لا خير في قول لا يراد به وجه الله، ولا خير في مال لا ينفق في سبيل الله، ولا خير فيمن يغلب جهله حلمه، ولا خير فيمن يخاف في الله لومة لائم.

ثم وازن بين من يعمل الحسنات، ومن يجترم السيئات فقال:

(لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) أي لا يستوي الذين نسوا الله فاستحقوا الخلود في النار، والذين اتقوا الله فاستحقوا الخلود في الجنة.

ونحو الآية قوله تعالى: « أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ » وقوله: « أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ؟ ».

ثم بين عدم استوائهما فقال:

(أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) أي أصحاب الجنة هم الفائزون بكل مطلوب، الناجون من كل مكروه.

وفي هذا تنبيه إلى أن الناس لفرط غفلتهم وقلة تفكرهم في العاقبة، وتهالكهم على إيثار العاجلة، واتباعهم للشهوات الفانية، كأنهم لا يعرفون الفرق بين الجنة والنار، وشاسع البون بين أصحابهما، وأن الفوز لأصحاب الجنة، فمن حقهم أن يعلموا ذلك بعد أن نبّهوا له، كما تقول لمن عقّ أباه: هو أبوك - تجعله كأنه لا يعرف ذلك فتنبهه إلى حق الأبوة الذي يقتضى البر والعطف.

[سورة الحشر (59): الآيات 21 الى 24]

لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)

تفسير المفردات

خاشعا: أي منقادا متذللا، متصدعا: أي متشققا، خشية الله: أي خوفه وشديد عقابه، الغيب: ما غاب عن الحسّ من العوالم التي لا نراها، والشهادة: ما حضر من الأجرام المادية التي نشاهدها، القدوس: أي المنزه عن النقص، السلام: أي الذي سلم الخلق من ظلمه، إذ جعلهم على نظم كفيلة برقيهم، المؤمن: أي واهب الأمن فكل مخلوق يعيش في أمن فالطائر في جوّه، والحية في وكرها، والسمك في البحر تعيش كذلك، ولا يعيش قوم على الأرض ما لم يكن هناك حراس يحرسون قراهم وإلا هلكوا، العزيز: أي الغالب على أمره، الجبار: أي الذي جبر خلقه على ما أراد وقسرهم عليه، المتكبر: أي البليغ الكبرياء والعظمة، سبحان الله عما يشركون: أي تنزه ربنا عما يصفه به المشركون، الخالق: أي المقدر للأشياء على مقتضى الحكمة، والبارئ: أي المبرز لها على صفحة الوجود بحسب السنن التي وضعها والغرض الذي خلقت له، المصوّر: أي الموجد للأشياء على صورها ومختلف أشكالها كما أراد، الأسماء الحسنى: أي الأسماء الدالة على محاسن المعاني التي تظهر في مظاهر هذا الوجود، فنظم هذه الحياة وبدائع ما فيها دليل على كمال صفاته، وكمال الصفة يرشد إلى كمال الموصوف.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر فرق المضلين من المنافقين، والضالين من اليهود وغيرهم، وأمر عباده المؤمنين بالتقوى، استعدادا ليوم القيامة - ذكر هنا أن لهم مرشدا عظيما وإماما هاديا هو القرآن الذي يجب أن تخشع لهيبته القلوب، وتتصدع لدى سماع عظاته الأفئدة. لما فيه من وعد ووعيد، وبشارة وإنذار، وحكم وأحكام، فلو أنا ألهمنا الجبل عقلا وفهمه وتدبر ما فيه لخشع وتصدع من خوف الله عز وجل، فكيف بكم أيها البشر لا تلين قلوبكم، ولا تخشع وتتصدع من خشيته؟ وقد فهمتم عن الله أمره، وتدبرتم كتابه.

وبعد أن وصف القرآن بالعظم أتبعه بوصف عظمة المنزّل للقرآن ذي الأسماء الحسنى الذي يخضع له ما في السموات والأرض وينقادون لحكمه، وأمره ونهيه.

الإيضاح

(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) أي لو جعل في الجبل عقل كما جعل فيكم أيها البشر، ثم أنزل عليه القرآن لخشع وخضع وتشقق من خشية الله.

وهذا تمثيل لعلوّ شأن القرآن وقوة تأثير ما فيه من المواعظ والزواجر، وفيه توبيخ للانسان على قسوة قلبه وقلة تخشعه حين قراءة القرآن وتدبر ما فيه من القوارع التي تذل لها الجبال الراسيات.

(وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) أي وهذه الأمثال التي أودعناها القرآن وذكرناها في مواضعها التي ضربت لأجلها، واقتضاها الحال من نحو قوله: « وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ، وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ، وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ » وقوله: « ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً » وقوله: « وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى » الآية - جعلناها تبصرة وذكري لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد فمن الناس من وفقه الله واهتدى بها إلى سواء السبيل، وفاز بما يرضى ربه عنه، ومنهم من أعرض عنها ونأى، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، وأدخله في سقر، وما أدراك ما سقر، لا تبقى ولا تذر.

ثم وصف سبحانه نفسه بجليل الصفات، التي هي سر العظمة والجلال، لخالق الأرض والسموات فقال:

(هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) أي إنه لا ربّ غيره، ولا إله في الوجود سواه، فكل ما يعبد من دونه من شجر أو حجر أو صنم أو ملك فهو باطل، وهو يعلم جميع الكائنات الشاهدة لنا والغائبة عنا، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السموات، وهو ذو الرحمة الواسعة الشاملة لجميع المخلوقات، فهو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما.

(هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي هو الله المالك لجميع الأشياء، المتصرف فيها بلا ممانعة ولا مدافعة، المنزه عن كل عيب ونقص، الذي أمن خلقه أن يظلمهم، وهو الرقيب عليهم كما قال « وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ » وقال: « أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ » والذي عز كل شيء فقهره، وغلب الأشياء بعظمته وجبروته، فلا تليق الجبرية إلا له ولا التكبر إلا لعظمته كما ورد في الصحيح: « العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعيى واحدا منهما عذبته » تنزه ربنا عما يقوله المشركون من الصاحبة والولد فهو الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد.

(هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) أي هو الله الخالق لجميع الأشياء المبرز لها إلى عالم الوجود على الصفة التي أرادها كما قال: « فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ »، وله الصفات الحسنى التي وصف بها نفسه لا يشركه فيها أحد سواه.

(يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تقدم الكلام في هذا في مثل قوله: « تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ».

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي وهو الشديد الانتقام من أعدائه، الحكيم في تدبير خلقه، وصرفهم فيما فيه صلاحهم، فهو كامل القدرة كامل العلم.

اللهم وفقنا للهدى والرشاد في يوم المعاد.

خلاصة ما حوته هذه السورة الكريمة من المقاصد والأغراض

(1) تنزيه الله لنفسه من كل نقص.

(2) ذكر غلبة الله ورسوله لأعدائه.

(3) تقسيم الفيء الذي أخذ من بني النضير مع ذكر المصارف التي يوضع فيها.

(4) أخلاق المنافقين المضلين، وأخلاق أهل الكتاب الضالين مع ضرب المثل لهم.

(5) ذكر نصائح للمؤمنين.

(6) إعظام شأن القرآن وإجلال قدره.

(7) وصف الله سبحانه نفسه بأوصاف الجلال والكمال.

هامش

  1. الوشم: غرز الإبرة في عضو من الجسم ثم حشوه بالكحل، والمستوشمة: التي تطلب فعل ذلك، والمتنمصة: هي التي تنتف الشعر من الوجه وغيره، والمتفلجة: هي التي تتكلف تفريج ما بين الثنايا بطرق صناعية.
تفسير المراغي
مقدمة التفسير | الفاتحة | البقرة | آل عمران | النساء | المائدة | الأنعام | الأعراف | الأنفال | التوبة | يونس | هود | يوسف | الرعد | إبراهيم | الحجر | النحل | الإسراء | الكهف | مريم | طه | الأنبياء | الحج | المؤمنون | النور | الفرقان | الشعراء | النمل | القصص | العنكبوت | الروم | لقمان | السجدة | الأحزاب | سبأ | فاطر | يس | الصافات | ص | الزمر | غافر | فصلت | الشورى | الزخرف | الدخان | الجاثية | الأحقاف | محمد | الفتح | الحجرات | ق | الذاريات | الطور | النجم | القمر | الرحمن | الواقعة | الحديد | المجادلة | الحشر | الممتحنة | الصف | الجمعة | المنافقون | التغابن | الطلاق | التحريم | الملك | القلم | الحاقة | المعارج | نوح | الجن | المزمل | المدثر | القيامة | الإنسان | المرسلات | النبأ | النازعات | عبس | التكوير | الانفطار | المطففين | الانشقاق | البروج | الطارق | الأعلى | الغاشية | الفجر | البلد | الشمس | الليل | الضحى | الشرح | التين | العلق | القدر | البينة | الزلزلة | العاديات | القارعة | التكاثر | العصر | الهمزة | الفيل | قريش | الماعون | الكوثر | الكافرون | النصر | المسد | الإخلاص | الفلق | الناس | خاتمة التفسير | فهارس الأجزاء