→ سورة الأنعام | تفسير المراغي سورة الأعراف أحمد مصطفى المراغي |
سورة الأنفال ← |
☰ جدول المحتويات
- [سورة الأعراف (7): الآيات 1 الى 3]
- [سورة الأعراف (7): الآيات 4 الى 5]
- [سورة الأعراف (7): الآيات 6 الى 9]
- [سورة الأعراف (7): آية 10]
- [سورة الأعراف (7): الآيات 11 الى 18]
- [سورة الأعراف (7): الآيات 19 الى 25]
- مغزى هذا القصص
- [سورة الأعراف (7): الآيات 26 الى 27]
- [سورة الأعراف (7): الآيات 28 الى 30]
- [سورة الأعراف (7): الآيات 31 الى 32]
- [سورة الأعراف (7): آية 33]
- [سورة الأعراف (7): آية 34]
- [سورة الأعراف (7): الآيات 35 الى 36]
- [سورة الأعراف (7): الآيات 37 الى 39]
- [سورة الأعراف (7): الآيات 40 الى 41]
- [سورة الأعراف (7): الآيات 42 الى 43]
- [سورة الأعراف (7): الآيات 44 الى 47]
- [سورة الأعراف (7): الآيات 48 الى 49]
- [سورة الأعراف (7): الآيات 50 الى 51]
- [سورة الأعراف (7): الآيات 52 الى 53]
- [سورة الأعراف (7): آية 54]
- [سورة الأعراف (7): الآيات 55 الى 56]
- [سورة الأعراف (7): الآيات 57 الى 58]
- إعادة الموتى
- قصص نوح عليه السلام
- [سورة الأعراف (7): الآيات 59 الى 64]
- قصص هود عليه السلام
- [سورة الأعراف (7): الآيات 65 الى 72]
- قصص صالح عليه السلام
- [سورة الأعراف (7): الآيات 73 الى 79]
- قصص لوط عليه السلام
- [سورة الأعراف (7): الآيات 80 الى 84]
- [سورة الأعراف (7): الآيات 85 الى 87]
- [تتمة سورة الأعراف]
- [سورة الأعراف (7): الآيات 88 الى 89]
- [سورة الأعراف (7): الآيات 90 الى 93]
- [سورة الأعراف (7): الآيات 94 الى 95]
- [سورة الأعراف (7): الآيات 96 الى 100]
- [سورة الأعراف (7): الآيات 101 الى 102]
- قصص موسى عليه السلام
- [سورة الأعراف (7): الآيات 103 الى 112]
- فذلكة في السحر وضروبه
- [سورة الأعراف (7): الآيات 113 الى 116]
- [سورة الأعراف (7): الآيات 117 الى 122]
- [سورة الأعراف (7): الآيات 123 الى 126]
- [سورة الأعراف (7): الآيات 127 الى 129]
- [سورة الأعراف (7): الآيات 130 الى 133]
- [سورة الأعراف (7): الآيات 134 الى 136]
- [سورة الأعراف (7): آية 137]
- [سورة الأعراف (7): الآيات 138 الى 141]
- [سورة الأعراف (7): الآيات 142 الى 145]
- [سورة الأعراف (7): الآيات 146 الى 147]
- [سورة الأعراف (7): الآيات 148 الى 149]
- [سورة الأعراف (7): الآيات 150 الى 151]
- [سورة الأعراف (7): الآيات 152 الى 153]
- [سورة الأعراف (7): آية 154]
- [سورة الأعراف (7): الآيات 155 الى 157]
- [سورة الأعراف (7): آية 158]
- [سورة الأعراف (7): آية 159]
- [سورة الأعراف (7): آية 160]
- [سورة الأعراف (7): الآيات 161 الى 162]
- [سورة الأعراف (7): الآيات 163 الى 166]
- [سورة الأعراف (7): الآيات 167 الى 171]
- [سورة الأعراف (7): الآيات 172 الى 174]
- [سورة الأعراف (7): الآيات 175 الى 177]
- [سورة الأعراف (7): الآيات 178 الى 179]
- [سورة الأعراف (7): آية 180]
- [سورة الأعراف (7): الآيات 181 الى 186]
- [سورة الأعراف (7): آية 187]
- عمر الدنيا
- أشراط الساعة وأماراتها
- المهدي المنتظر
- [سورة الأعراف (7): آية 188]
- [سورة الأعراف (7): الآيات 189 الى 193]
- وأخبار أهل الكتاب ثلاثة أقسام:
- [سورة الأعراف (7): الآيات 194 الى 198]
- [سورة الأعراف (7): آية 199]
- [سورة الأعراف (7): الآيات 200 الى 202]
- [سورة الأعراف (7): آية 203]
- [سورة الأعراف (7): الآيات 204 الى 206]
- خلاصة ما اشتملت عليه السورة من الأغراض والمقاصد
آيها ست ومائتان، وهي مكية، وقد روى أنها نزلت قبل سورة الأنعام، وأنها نزلت مثلها دفعة واحدة، لكن سورة الأنعام أجمع لما اشتركت فيه السورتان، وهو: أصول العقائد وكليات الدين التي قدمنا القول فيها، وهي كالشرح والبيان لما أوجز في الأنعام، ولا سيما عموم بعثة النبي ﷺ وقصص الرسل قبله وأحوال أقوامهم، وقد اشتملت سورة الأنعام على بيان الخلق كما قال: « هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ » وبيان القرون كما قال: « كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ » وعلى ذكر المرسلين وتعداد الكثير منهم، وجاءت هذه مفصلة لذلك، فبسطت فيها قصة آدم، وفصلت قصص المرسلين وأممهم وكيفية هلاكهم أكمل تفصيل.
[سورة الأعراف (7): الآيات 1 الى 3]
بسم الله الرحمن الرحيم
المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ (3)
تفسير المفردات
(المص) هذه حروف تكتب بصورة كلمة من ذوات الأربعة الأحرف، لكنا نقرؤها بأسماء هذه الأحرف فنقول: ألف. لام. ميم. صاد.
وحكمة افتتاح هذه السورة وأمثالها بأسماء الحروف التي ليس لها معنى مفهوم غير مسماها الذي تدل عليه - تنبيه السامع إلى ما سيلقى إليه بعد هذا الصوت من الكلام حتى لا يفوته منه شيء فكأنه أداة استفتاح بمنزلة ألا وها التنبيه.
وبالاستقراء نرى أن السور التي بدئت بها وبذكر الكتاب، هي التي نزلت بمكة لدعوة المشركين إلى الإسلام وإثبات النبوة والوحي، وما نزل منها بالمدينة كالزهراوين البقرة وآل عمران، فالدعوة فيه موجهة إلى أهل الكتاب، وهكذا الحال في السور: مريم والعنكبوت والروم وص ون، فإن ما فيها يتعلق بإثبات النبوة والكتاب كالفتنة في الدين بإيذاء الضعفاء لإرجاعهم عن دينهم بالقوة القاهرة، والإنباء بقصص فارس والروم ونصر الله للمؤمنين على المشركين، وكان هذا من أظهر المعجزات الدالة على نبوة محمد ﷺ.
ويرى بعض العلماء أنها أسماء للسور، والأسماء المرتجلة لا تعلّل، كما يرى آخرون أن الحكمة في ذكرها بيان إعجاز القرآن بالإشارة إلى أنه مركب من هذه الأحرف المفردة التي يتألف منها الكلام العربي ومع ذلك لا يستطيعون أن يأتوا بمثله، ليؤديهم النظر إلى أنه ليس من كلام البشر، بل من كلام خالق القوى والقدر والحرج: الضيق من عاقبة المخالفة، والذكرى: التذكر النافع والموعظة المؤثرة، وولاية الله لعباده:
تولى أمورهم فبما لا يصل إليه كسبهم من هدايتهم ونصرهم على أعدائهم، وشرعه لهم عبادته وبيان الحرام والحلال، و(ما) في قوله قليلا ما - حرف يؤكد معنى القلة، وتذكرون: أصله تتذكرون حذفت منه إحدى التاءين.
الإيضاح
(كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أي هذا القرآن كتاب أنزل إليك من عند ربك، ووصفه بالإنزال من عنده تعالى - دال على عظيم قدره وقدر من أنزل إليه.
(فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) أي لا يضق صدرك من الإنذار به وإبلاغه من أمرت بإبلاغه إليهم، واصبر لأمري فيما حمّلتك من عبء النبوة كما صبر أولو العزم من الرسل فإن الله معك.
وقد كلف ﷺ هداية الثقلين وكان من المتوقع أن يلقى أشد الإيذاء والمقاومة والطعن والإعراض، وتلك أمور توجب ضيق الصدر كما قال في سورة الحجر: « وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ » وقال في سورة النحل: « وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ، وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ » وقال في سورة هود: « فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ، إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ».
ويراد بالنهي عن مثل هذا الأمر الطبيعي - الاجتهاد في مقاومته والتسلي عنه بوعد الله، والتأسى بمن سبقه من الرسل أولى العزم صلوات الله عليهم أجمعين.
(لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) والمراد بالمؤمنين هنا من كتب الله لهم الإيمان، سواء أكانوا مؤمنين حين نزول هذه السورة أم لا.
والخلاصة - إنه أنزل إليك الكتاب لتنذر به قومك وسائر الناس، وتذكر به أهل الإيمان ذكرى نافعة مؤثرة.
(اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) أي قل لهم أيها الرسول: اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم وخالقكم ومدبر أموركم، فهو وحده الذي له الحق في شرع الدين لكم وفرض العبادات عليكم، وتحليل ما ينفعكم وتحريم ما يضركم، إذ هو العليم بما فيه الفائدة أو الضر لكم.
(وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) أي ولا تتخذوا من أنفسكم ولا من الشياطين الذين يوسوسون لكم - أولياء تولونهم أموركم وتطيعونهم فيما يرومون منكم من ضلال التقاليد والابتداع في الدين، فيضعوا لكم أحكام الحرام والحلال زاعمين أنهم أعلم منكم، فيجب عليكم تقليدهم، ولا أولياء ينجونكم من الجزاء على ذنوبكم وجلب النفع لكم أو رفع الضر عنكم، زاعمين أنهم يقربونكم إلى الله زلفى، أو يشفعون لكم عنده في الآخرة.
والخلاصة - إن الله وحده هو الذي يتولى أمر العباد بالتدبير، والخلق والتشريع، وله وحده الخلق والأمر، وبيده النفع والضر.
(قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ) أي إنكم تتذكرون قليلا لا كثيرا ما يجب أن يعلم للرب سبحانه، وما يحظر أن يشرك معه فيه غيره، وقد يكون المراد قليلا ما تتعظون بما توعظون به، فترجعون عن تقاليدكم وأهوائكم إلى ما أنزل إليكم من ربكم.
وفي هذا إيماء إلى النهي عن طاعة الخلق في أمر الدين غير ما أنزل الله من وحيه كما فعل أهل الكتاب في طاعة أحبارهم ورهبانهم فيما أحلوا لهم وزادوا على الوحي من العبادات، وما حرموا عليهم من المباحات كما جاء في قوله: « اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْبابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ » فكل من أطاع أحدا في حكم شرعي لم ينزله الله فقد اتخذه ربا.
واتباع الرسول ﷺ فيما صح عنه من بيان الدين - داخل في عموم ما أنزل إلينا على رسوله، لأنه تعالى أمرنا باتباعه وطاعته وأخبرنا أنه مبين لما نزل إليه كما قال: « وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ » وقد صح في الحديث أنه ﷺ قال: « إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشىء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشىء من رأيى فإنما أنا بشر » رواه مسلم عن رافع بن خديج في مسألة تأبير النخل (تلقيح النخلة بطلع الذكر).
[سورة الأعراف (7): الآيات 4 الى 5]
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتًا أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (5)
تفسير المفردات
(كَمْ) اسم يفيد التكثير، والقرية: تطلق على الموضع الذي يجتمع فيه الناس وعلى الناس معا، وتطلق على كل منهما كما جاء في قوله: « وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ » أي أهل القرية، والقرية هنا تصلح لأن يراد بها القوم أنفسهم، وأن يراد بها المكان لأنه يهلك كما يهلك أهله، والبيات: الإغارة على العدو ليلا والإيقاع به على غرّة، والبأس: العذاب والقائلون: هم الذين ينامون استراحة وسط النهار أي حين القائلة يقال: قال يقيل قيلا وقيلولة، والدعوى: ما يدعيه الإنسان، وتطلق على القول أيضا.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه فيما سلف أنه أنزل الكتاب إلى الرسول ﷺ لينذر به الناس ويكون موعظة وذكرى لأهل الإيمان، وأنه طلب إليه أن يأمر الناس باتباع ما أنزل إليهم من ربهم وألا يتبعوا من دونه أحدا يتولونه في أمر التشريع - أردف هذا التخويف من عاقبة المخالفة لذلك ولما يتبعه من أصول الدين وفروعه، والتذكير بما حل بالأمم قبلهم بسبب إعراضهم عن الدين وإصرارهم على أباطيل أوليائهم.
الإيضاح
(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتًا أَوْ هُمْ قائِلُونَ) أي وكثير من القرى أهلكناها لعصيانها رسلها فيما جاءوها به من عند ربها، وكان هلاكها إما حين البيات ليلا كقوم لوط، وإما حين القائلة وهم آمنون نهارا كقوم شعيب، وكلا الوقتين وقت دعة واستراحة لم تكن تنتظر فيه كل منهما هلاكا ولا عذابا، فلا يجمل بالعاقل أن يأمن غدر الليالي ولا خدع الأيام ولا يغتر بالرخاء فيعدّه علامة على أنه مستحق له فهو مظنة الدوام.
وفي ذلك تعريض بغرور كفار قريش بقوتهم وثروتهم وعزهم وعصبيتهم، وأن ذلك من دلائل رضا الله عنهم كما قال تعالى حكاية عنهم: « وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلادًا وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ».
(فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) أي فما كان دعاؤهم واستغاثتهم حين جاءهم العذاب إلا أن اعترفوا بظلمهم فيما كانوا عليه، وشهدوا ببطلانه، تحسرا وندامة وطمعا في الخلاص ولكن إني ينفع الندم، وقد أزفت الآزفة، ليس لها من دون الله كاشفة؟.
وفي الآية من العبرة - أن كل مذنب يقع عليه عقاب ذنب فعله في الدنيا، يعترف بجرمه ويندم على ما قرط منه إذا هو علم أنه سبب العقاب، وقلما يشعر المرء بعقاب في الدنيا على الذنوب، لأنه يأتي على التراخي غالبا فالأمراض التي تتولد من شرب الخمر كأمراض القلب والكبد والجهاز التناسلى وضعف النسل واستعداده للأمراض إلى نحو ذلك من الأمراض الجسدية والعقلية تحصل ببطء، وقلما يعرفها غير الأطباء ومن ثم لا يشعر بها السكارى وإنما يشعرون بما يعقب الشرب من صداع وغثيان يسهل عليهم احتماله وترجيح لذة النشوة عليه.
إلى أنه لو علمها بعد فقلما يفيد علمه بها شيئا بعد بلوغ تأثيرها هذه الدرجة في السكر حتى تحمله على التوبة، إذ داء الخمار يزمن، وحب السكر يضعف الإرادة.
وعقاب الأفراد على الذنوب في الدنيا لا يطرد، كما يطرد في الأمم، فعقابها في الدنيا على ما تجترح - حتم لا شبهة فيه، ولكن له آجال ومواقيت أطول مما يكون في الأفراد، ويختلف باختلاف أحوال الأمة في القوة والضعف، فأمة نشأ فيها الظلم والطغيان وعدمت الثقة بين أفرادها واختل نظام الأمن فيها وكثر فيها الفسق والفجور - تسوء حالها وتنحلّ قواها وتتفكك روابط الألفة والمودة بين أفرادها وتضعف منعتها، فتحسب أهلها جميعا وقلوبهم شتى، ولا يزال أمرها يأخذ في التدهور والفساد حتى يستولى عليها العدو القاهر ويمتص ثروتها ويجعل أهلها أذلة مستضعفين، وقلما تشعر أمة بعاقبة ذنوبها قبل وقوع العقوبة، كما لا يجديها نفعا أن يقول حكماؤها: يا ويلنا إنا كنا ظالمين. وربما عمها الجهل، وران على قلوبها الفساد، فلا تشعر بأن ما حل بها إنما كان جزاء وفاقا، ونكالا من الله على ما قدمت من عمل، واقترفت من إثم، فترضى باستذلال الغاصب كما رضيت من قبل بما اجترحت من الآثام والذنوب وقد يكون ذلك سبيلا لا نقراضها بما يعقبه الفسق والفجور من قلة النسل، ولا سيما إذا فشا الزنا والسكر، أو تبقى فيها بقية تدّغم في الكثرة الغالبة، فلا تعد أمة على سبيل الاستقلال، وربما توالت عليها المصايب والآثام حتى تضيق بها ذرعا فتطلب لها مخرجا وترجع إلى الوراء لتبحث عن أسبابها فلا تجدها إلا في أنفسها كما يرشد إلى ذلك قوله تعالى: « وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ».
وإذا أرادت لها علاجا وتمنت لها دواء من دائها الدوي وتلفتت يمنة ويسرة سرا وعلانية لم تجده إلا ما وصفه الكتاب الكريم: « إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ » ولن يكون ذلك إلا بالإقلاع عما ترتكب من الجرائم والتوبة الصادقة والعمل الطيب الذي به تصلح القلوب وتستقيم الأمور، وهاكم ما قاله العباس عم النبي ﷺ حين توسل به عمر والصحابة بتقديمه لصلاة الاستسقاء لما انقطع الغيث وعم الجدب: اللهم إنه لا ينزل بلاء إلا بذنب، ولا يرفع إلا بتوبة.
وفي هذا عبرة أيّما عبرة للشعوب الإسلامية التي ثلّت عروشها، وخوت صروح عظمتها، وقد كانت أجدر بهدى القرآن، ولكن إني لها بذلك، وقد هجره الخاصة وتبعهم العامة، إذ جهلوا أحكامه وحكمه، حتى لقد بلغ الأمر بنابتتها، ألا ترى سببا لركود ريحها إلا اتباع القرآن والعمل بهذا الدين « كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا ».
[سورة الأعراف (7): الآيات 6 الى 9]
فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9)
المعنى الجملي
بعد أن أمر سبحانه الرسل في الآية السالفة بالتبليغ وأمر الأمم بالقبول والمتابعة، وذكّرهم بعذاب الأمم التي عاندت الرسل في الدنيا - قفّى على ذلك بذكر العذاب الآجل يوم القيامة، وأنه في ذلك اليوم يسأل كل إنسان عن عمله.
الإيضاح
(فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) الذين أرسل إليهم: هم جميع الأمم الذين بلغتهم دعوة الرسل، فيسأل تعالى كل فرد منهم في الآخرة عن رسوله إليه وعن تبليغه لآياته، ويسأل المرسلين عن تبليغهم وإجابة أقوامهم لهم وعما عملوا من إيمان وكفر؟ وقد فصل هذا الإجمال في آيات أخرى كقوله: ا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا؟ »
وقوله: « وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ » وقوله في سورة الحجر: « فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ ».
قال ابن عباس: نسأل الناس عما أجابوا المرسلين، ونسأل المرسلين عما بلّغوه والمراد بالسؤال حينئذ تقريع الكفار وتوبيخهم.
ولا مخالفة بين هذه الآية التي تثبت السؤال العام وبين قوله تعالى: « فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ » وقوله: « وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ » لأن ليوم القيامة مواقف متعددة والسؤال والجواب والاعتذار يكون في بعضها دون بعض.
وقال الرازي: إنهم لا يسألون عن الأعمال لأن الكتب قد أحصتها، لكنهم يسألون عن الدواعي التي دعتهم إلى الأعمال وعن الصوارف التي صرفتهم عنها ا هـ.
يريد أنهم يسألون عن الموانع التي حالت بينهم وبين عمل ما طلب منهم عمله، أو فعل ما طلب إليهم تركه.
(فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ) القصّ تتبع الأثر إما بالعمل كما في قوله حكاية عن أم موسى « وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ » وإما بالقول كما في قوله: « نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ».
أي فلنقصن على الرسل وعلى أقوامهم الذين أرسلوا إليهم كل ما وقع من الفريقين قصصا بعلم منا محيط بكل ما كان منهم، فلا يعزب عنا مثقال ذرة، وقد روى عن ابن عباس أنه يوضع الكتاب يوم القيامة فيتكلم بما كانوا يعملون.
(وَما كُنَّا غائِبِينَ) عنهم في وقت من الأوقات ولا حال من الأحوال، بل كنا معهم نسمع ما يقولون ونبصر ما يعملون، ونحيط علما بما يسرون وما يعلنون، كما قال تعالى: « وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ، وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ».
وفي هذا إيماء إلى أن السؤال لم يكن للاستعلام والاستبانة لشيء مجهول عنه تعالى، بل للإعلام والإخبار بما حدث منهم توبيخا لهم وتأنيبا على إهمالهم.
وهذا القصص هو الذي يكون به الحساب ويتلوه الجزاء، وقد دل عليه الكتاب الكريم في مواضع عدة، ودلت عليه السنة فمن ذلك ما رواه ابن عمر قال: قال النبي ﷺ: « كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع يسأل عن الناس، والرجل راع يسأل عن أهله، والمرأة تسأل عن بيت زوجها، والعبد يسأل عن مال سيده »
وما رواه المقدام قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « لا يكون رجل على قوم إلا جاء يقدمهم يوم القيامة، بين يديه راية يحملها وهم يتبعونه، فيسأل عنهم ويسألون عنه »
وما رواه الترمذي عن أبي برزة الأسلمى مرفوعا: « لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن عمره فيم أفناه، وعن علمه فيم عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه؟ »
وروى الحاكم وابن ماجه حديث شدّاد بن أوس مرفوعا: « الكيّس من دان - حاسب - نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ».
(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) الوزن عمل يراد به تعرف مقدار الشيء بالميزان والقسطاس وقد يطلق كل من الميزان والقسطاس على العدل كقوله: « اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ » وقوله في الرسل: « وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ».
أي والوزن في ذلك اليوم الذي يسأل الله فيه الرسل والأمم، ويقص عليهم كل ما كان منهم - هو الحق أي الذي تعرف به حقائق الأمور وما يستحقه كل أحد من ثواب وعقاب.
(فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي فمن رجحت موازين أعماله بالإيمان وكثرة الحسنات فأولئك هم الفائزون بالنجاة من العذاب، والحائزون للنعيم في دار الثواب.
(وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) أي ومن خفت موازين أعماله بسبب كفره وكثرة ما اجترح من السيئات، فأولئك الذين خسروا أنفسهم، إذ حرموها السعادة التي كانت مستعدة لها لو لم يفسدوا فطرتها بالكفر والمعاصي وإصرارهم على ذلك إلى نهاية أعمارهم.
والخلاصة - إن المؤمنين على تفاوت درجاتهم في الأعمال هم المفلحون، فمن مات مؤمنا فهو مفلح وإن عذّب على بعض ذنوبه بمقدارها، وإن الكافرين على تفاوت دركاتهم هم في خسران عظيم.
وهناك فريق ثالث استوت حسناتهم وسيئاتهم وهم أصحاب الأعراف وسيأتي ذكرهم بعد.
وقد اختلف العلماء في الوزن والموازين، هل المراد بها ظهور العدل التام في تقدير الجزاء على الأعمال التي تصلح الأنفس وتزكيها أو تفسدها وتدسّيها بذلك قال مجاهد والضحاك والأعمش، أو أن هناك وزنا حقيقيا حكمته إظهار علم الله تعالى بأعمال عباده وعدله في جزائهم عليها، وبهذا قال الجمهور. قال أبو إسحاق الزجاج: أجمع أهل السنة على الإيمان بالميزان وأن أعمال العباد توزن يوم القيامة، وأن الميزان له لسان وكفّتان ويميل بالأعمال.
وقال القرطبي: التي توزن هي الصحائف التي تكتب فيها الأعمال.
والحق أن التي توزن هي الأعمال.
فقد أخرج أبو داود والترمذي عن جابر مرفوعا: « توضع الموازين يوم القيامة فتوزن الحسنات والسيئات، فمن رجحت حسناته على سيئاته مثقال حبة دخل الجنة، ومن رجحت سيئاته على حسناته مثقال حبة دخل النار، قيل ومن استوت حسناته وسيئاته؟ قال أولئك أصحاب الأعراف ».
والذي عليه المعول في الإيمان بعالم الغيب: أن كل ما ثبت من أخباره في الكتاب والسنة فهو حق لا ريب فيه، فنؤمن به ولا نحكّم رأينا في كيفيته، فنؤمن بأن في الآخرة وزنا للأعمال بميزان يليق بعالم الآخرة توزن به الأعمال والإيمان والأخلاق، ولا نبحث عن صورته وكيفيته.
وإذا كان العلم الحديث كشف موازين للحر والبرد واتجاه الرياح والأمطار، أفيعجز القادر على كل شيء عن وضع موازين للأعمال النفسية والبدنية التي سماها الدين الحسنات والسيئات، بما تحدثه في الأنفس من الأخلاق والصفات الثابتة فيها؟
[سورة الأعراف (7): آية 10]
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ (10)
تفسير المفردات
مكناكم في الأرض، أي جعلنا لكم فيها أمكنة تتبوءونها وتتمكنون من الإقامة فيها، والمعايش واحدها معيشة: وهي ما تكون به العيشة والحياة الجسمانية الحيوانية من المطاعم والمشارب وغيرها، وهي ضربان:
(1) ما يحصل بخلق الله ابتداء كالثمار وغيرها.
(2) ما يحدث بالا كتساب.
وكلاهما إنما يحصل بفضل الله وإقداره وتمكينه، فيكون الكل إنعاما من الله، وذلك مما يوجب طاعته.
المعنى الجملي
بعد أن بين فيما سلف أن واضع الدين هو الله فيجب اتباعه دون ما يأمر به غيره من الأولياء والشفعاء، وقفّى على ذلك بذكر عذاب الدنيا بقوله: وكم من قرية أهلكناها، وذكر عذاب الآخرة بقوله: فلنسألن الذين أرسل إليهم، وبقوله: والوزن يومئذ الحق، أردف ذلك بذكر نعمه على عباده بتمكينهم في الأرض وخلق أنواع المعايش فيها، مع بيان أن كثرة النعم توجب عليهم الطاعة له.
الإيضاح
(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) أي ولقد جعلنا لكم فيها أوطانا تتبوءونها وتستقرون فيها وجعلنا لكم فيها معايش تعيشون بها أيام حياتكم من مطاعم ومشارب نعمة مني عليكم، وإحسانا مني إليكم، وأنشأنا لكم فيها ضروبا شتى من المنافع التي تعيشون بها عيشة راضية: من نبات وأنعام وطير وسمك ومياه عذبة وأشربة مختلفة الطعوم والروائح، ووسائل مختلفة للتنقل والارتحال من جهة إلى أخرى تتقدم بتقدم العلم
والاختراع من طيارات وسيارات وقطر ريّة وسفن بحرية، وسبل متعددة لمداواة المرضى بالعقاقير المختلفة على يد نطس الأطباء إلى نحو ذلك.
وكل ذلك يقتضى منكم الشكر الكثير ولكن الشكر من العباد قليل كما قال: « وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ » ومن ثم عقّب هذا بقوله:
(قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ) أي وأنتم قليلو الشكر على هذه النعم التي أنعمت بها عليكم، لا كثيروه كثرة تناسب كثرة الانتفاع بها فقد عبدتم سواي، واتخذتم الأولياء والشفعاء من دوني.
وشكر النعمة يكون بمعرفة المنعم بها ثم حمده والثناء عليه بما هو له أهل، ثم التصرف فيها بما يحبه ويرضاه، وتحقيق الأغراض التي أسداها لأجلها.
فهذه النعم المعيشية ما خلقت إلا لحفظ الحياة الجسمانية للأفراد والجماعات، والاستعانة بذلك على حفظ الحياة الروحية التي بها تزكو الأنفس، وتستعد للحياة الأخرى الأبدية التي فيها النعيم المقيم والسعادة المستقرة إلى غير نهاية.
[سورة الأعراف (7): الآيات 11 الى 18]
ولَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُمًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)
تفسير المفردات
الخلق: التقدير، يقال خلق الخياط الثوب: أي قدّره قبل قطعه، وخلق الله الخلق: أوجدهم على تقدير أوجبته الحكمة، والهبوط: الانحدار والسقوط من مكان إلى ما دونه أو من منزلة إلى ما دونها، فهو إما حسي وإما معنوى، والتكبر: جعل الإنسان نفسه أكبر مما هي عليه، والصغار: الذلة والهوان، وأنظره: أخره، والإغواء: الإيقاع في الغواية: وهي ضد الرشاد، وذأم الشيء: عابه، ودحر الجند العدو، طرده وأبعده.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه عباده في الآية السابقة بنعمه عليهم بالتمكين في الأرض وخلق أنواع المعايش فيها - قفّى على ذلك ببيان أنه خلق النوع الإنساني مستعدا للكمال وأنه قد تعرض له وسوسة من الشيطان تحول بينه وبين هذا الكمال الذي يبتغيه.
الإيضاح
(وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) الخطاب لبنى آدم أي ولقد خلقنا مادة هذا النوع من الصلصال والحمأ المسنون أي من الماء والطين اللازب، فمنه خلق الإنسان الأول، ثم جعلنا من تلك المادة صورة بشر سوي قابل للحياة.
وقد يكون المعنى - إنا قدرنا إيجادكم تقديرا ثم صورنا مادتكم تصويرا، وذلك شامل لخلق آدم وخلق مجموع الناس، إذ أن كل فرد يقدر الله خلقه ثم يصور المادة التي يخلقه منها في بطن أمه.
(ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) أي وبعد أن سويناه ونفخنا فيه من روحنا وصار مستعدا لأن يكون خليفة في الأرض، وعلمناه الأسماء كلها، قلنا لجماعة الملائكة اسجدوا لآدم.
(فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) أي فسجد الملائكة جميعا إلا إبليس فإنه أبي واستكبر، وهو من الجن لا منهم.
وهذا السجود سجود تكريم وتعظيم من الله لآدم لا سجود عبادة، فقد قامت الدلائل القاطعة على أنه لا معبود إلا الله وحده.
(قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) لا هنا مزيدة للتأكيد بدليل قوله في آية أخرى: « ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ » أي قال له تعالى: ما منعك من امتثال أمري، فرفضت أن تسجد لآدم مع الساجدين.
وقد تكون (لا) غير زائدة والمنع بمعنى الحمل والاضطرار، وعليه فالمعنى - ما حملك ودعاك إلى ألا تسجد.
وخلاصة ذلك - أي شيء عرض لك فحملك على ألا تكون مع الملائكة في امتثال أمري بالسجود؟.
ثم ذكر سببا يبرر به امتناعه عن السجود.
(قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) أي إن الذي حملنى على ذلك إني خير منه إذ أنك خلقتنى من النار وخلقته من الطين، والنار خير من الطين وأشرف، والشريف لا يعظّم من دونه ولو أمره بذلك ربه.
ولا شك أن في هذا ضروبا من الجهالة وأنواعا من الفسوق والعصيان تتجلى لك فيما يلي:
(ا) اعتراضه على مولاه وخالقه بما تضمنه جوابه.
(ب) احتجاجه عليه بما يؤيد به اعتراضه، والمؤمن المذعن لأمرر به يعلم أن لله الحجة البالغة، والحكمة الكاملة، فيما يفعل ويأمر وينهي.
(ح) إنه جعل امتثال الأمر موقوفا على استحسانه له وموافقته لهواه، وهذا رفض لطاعة الخالق وترفّع عن مرتبة العبودية، والمرءوس في الدنيا إذا لم يطع أمر الرئيس إلا فيما يوافق هواه، صار الأمر فوضى والعاقبة وخيمة، فلا يصلح عمل ولا يتم الفوز والنجاح.
وقد روى أبو نعيم في الحلية عن جعفر الصادق أن رسول الله ﷺ قال: « أول من قاس أمر الدين برأيه إبليس، قال الله تعالى له اسجد لآدم قال أنا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين » قال جعفر: فمن قاس أمر الدين برأيه قرنه الله يوم القيامة بإبليس.
(د) استدلاله على خيريته بالمادة التي منها التكوين، وخيرية الموادّ بعضها على بعض أمور اعتبارية تختلف فيها الآراء ولا تثبت بالبرهان، إلى أن كثيرا من الموادّ النفسية خسيسة الأصل، ألا ترى أن أصل المسك الدم، والماس من (الكربون) الذي هو أصل الفحم، إلى أن الملائكة خلقوا من النور وهو قد خلق من النار، والنور خير من النار، وهم قد سجدوا امتثالا لأمر ربهم.
(ه) إن جميع الأحياء النباتية والحيوانية التي في هذه الأرض إما من الطين مباشرة أو بالواسطة وهي خير ما فيها، وليس للنار شيء من هذه المزايا ولا ما يقرب منها.
(ز) إنه قد جهل ما خص به آدم من استعداده العلمي والعملي أكثر من سواه، ومن تشريفه بأمر الملائكة بالسجود له، فكان بذلك أفضل منهم، وهم أفضل من إبليس بعنصر الخلقة وبالطاعة لربهم.
وكل ما قدمنا مبنى على أن الأمر بالسجود أمر تكليف، وأنه قد وقع حوار بين الله وإبليس.
ويرى كثير من العلماء أن القصة بيان لغرائز البشر والملائكة والشيطان، إذ جعل الملائكة وهم المدبرون لأمور الأرض بإذن ربهم - مسخرين لآدم وذريته، وجعل هذا النوع مستعدا للانتفاع بالأرض كلها بعلمه بسنن الله فيها وعمله بهذه السنن، فالانتفاع بمائها وهوائها ومعادنها ونباتها وحيوانها وكهربائها ونورها، وبذلك ظهرت حكمة الله تعالى وآياته فيها كما اصطفى بعض أفراده وخصهم بوحيه ورسالته وجعلهم مبشرين بدينه وهديه، وجعل الشيطان عاصيا متمردا على الإنسان وعدوا له وجعل النفوس البشرية وسطا بين النفوس الملكية المفطورة على طاعة الله تعالى وإقامة سننه في صلاح الخلق، وبين روح الجن الذين يغلب على شرارهم (وهم الشياطين) التمرد والعصيان.
كما أنه تعالى آتى الإنسان إرادة واختيارا إن شاء صعد إلى أفق الملائكة، وإن أراد هبط إلى أفق الشياطين.
(قالَ فَاهْبِطْ مِنْها) أي اهبط من الجنة التي خلقك الله فيها وكانت على مرتفع من الأرض حين كانت قريبة العهد بالظهور في وسط الماء، فخير ما يصلح منها لسكنى الإنسان مرتفعاتها.
وقيل هي جنة الجزاء التي أسكنه الله فيها بعد خلقه في الأرض، ويرشد إلى هذا ما جاء في سورتى البقرة وطه من أمره بالهبوط وأمر آدم وزوجه بذلك بعد قوله: « اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ».
(فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) أي فما ينبغي لك أن تتكبر في هذا المكان المعدّ للكرامة والتعظيم.
(فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) أي فاخرج من هذا المكان، فإنك من ذوي الذلة والهوان، وقد أظهر حقيقتك الامتحان، ودل على أنك من الأشرار لا الأخيار.
وفي هذا إيماء إلى أنه تعالى جازاه بضد ما أراد، فقد أراد أن يرفع نفسه عن منزلتها فجوزى بالهبوط منها إلى ما دونها، وجاء في بعض الآثار: « إن الله تعالى يحشر المتكبرين يوم القيامة في أحقر الصور، إذ يطؤهم الناس بأرجلهم، كما أنه يبغّضهم إلى الناس في الدنيا، فيحتقرونهم ولو في أنفسهم ».
(قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي قال رب أمهلني إلى يوم يبعث آدم وذريته فأكون أنا وذريتى أحياء ما داموا أحياء، وأشهد انقراضهم وبعثهم.
وقد أراد بذلك أن يجد فسحة في الإغواء فيأخذ بالثأر، ثم هو مع ذلك ينجو من الموت إذ لا موت بعد البعث.
(قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) أي قال سبحانه: إني أجبتك إلى ما طلبت، لما في ذلك من الحكمة التي أنا بها عليم.
وظاهر الآية يدل على أنه تعالى جعله من المنظرين إلى يوم يبعثون، لكن جاء في سورة الحجر: « قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ، إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ » فهذا يدل على أن النظرة إلى وقت النفخة الأولى بالصور، وهي النفخة التي يموت فيها أهل الأرض جميعا دفعة واحدة، لا إلى وقت النفخة الثانية وهي التي بها يبعثون، وورد أن بينهما أربعين سنة.
والنفخة الأولى تسمى نفخة الفزع لقوله تعالى في سورة النمل: « وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ » ونفخة الصعق لقوله في سورة الزمر: « وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ ».
روى أبو هريرة أن النبي ﷺ سأل جبريل عن هذه الآية: من الذين لم يشأ الله أن يصعقوا؟ قال: هم شهداء الله عز وجل، أي هم حججه على خلقه بحسن سيرتهم واستقامتهم في الدنيا وهم يشهدون في الآخرة بضلال كل من خالف هديهم وسنتهم، ويدخل في هؤلاء النبيون والصديقون، فكل نبي شهيد على قومه كما قال تعالى: « فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ، وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيدًا » وكذلك كل صدّيق شهيد.
والخلاصة - إن إبليس يموت عقب النفخة الأولى التي يتلوها حراب هذه الأرض كما قال في سورة الحاقة: « فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ. وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً ».
ولا يبقى إلى يوم البعث، إلا إذا قلنا إن يوم البعث ويوم القيامة يطلقان تارة على ما يشمل زمن مقدماتهما، وتارة أخرى على زمن الغاية وحدها.
(قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) صراط الله المستقيم: هو الطريق الذي يصل سالكه إلى السعادة التي أعدها سبحانه لمن زكّى نفسه بهدى الدين الحق الذي يكمّل الفطرة كما جاء في الخبر: « كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجّسانه ».
أي قال إبليس: فبإغوائك إياي من أجل آدم وذريته، أقسم لأقعدنّ لهم على صراطك المستقيم، فأصدنهم عنه وأقطعنّه عليهم بأن أزيّن لهم طرقا أخرى أشرعها لهم من جوانب هذا الطريق حتى يضلّوا عنه، وهذا ما عناه سبحانه بقوله:
(ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) أي ثم لا أدع جهة من الجهات الأربع إلا هاجمتهم منها مترصّدا لهم كما يقعد قطّاع الطريق للسابلة.
وخلاصة ذلك - لأسوّلنّ لهم ولأصلنهم قدر المستطاع، وقد ضرب لذلك المثل بحال العدو يأتي عدوه من أي جهة أمكنته ويفترص الفرصة إذا سنحت له.
(وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) أي ولا تجد أكثرهم مطيعين لك، شاكرين لنعمك عليهم، في عقولهم ومشاعرهم ومعايشهم وفى كل ما يهديهم إلى تكميل فطرتهم من تعاليم رسلك لهم، بل الأقلون منهم هم الذين يتبعون ذلك، وقد قال إبليس ذلك عن ظن فأصاب لقوله تعالى: « وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ».
وروي عن ابن عباس في تفسير الجهات الأربع: من بين أيديهم أي أشككهم في آخرتهم، ومن خلفهم أي أرغبهم في دنياهم، وعن أيمانهم أي أشبه عليهم أمر دينهم، وعن شمائلهم أي أستنّ لهم المعاصي، ولا تجد أكثرهم شاكرين أي موحدين وفى رواية أخرى عنه من بين أيديهم - أي من قبل الدنيا، ومن خلفهم أي من قبل الآخرة، وعن أيمانهم أي من قبل حسناتهم، وعن شمائلهم أي من قبل سيئاتهم.
والرواية الثانية تخالف الأولى في تفسير ما بين الأيدي: هل المراد منه ما هو حاضر أو ما هو مستقبل، وفى تفسير الخلف: هل المراد منه ما يتركه المرء ويتخلف عنه وهو الدنيا، أو هو ما وراء حياته الحاضرة وهو الآخرة، واللفظ محتمل لكلا التأويلين.
روى أحمد وأبو داود والنسائي من حديث ابن عمر قال: لم يكن رسول الله ﷺ يدع هؤلاء الدعوات: « اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفى وعن يمينى وعن شمالى ومن فوقى، وأعوذ بك أن أغتال من تحتى ».
(قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُمًا مَدْحُورًا) أي قال اخرج من الجنة وأنت مذموم مهان من الله وملائكته ومطرود من جنته.
(لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) أي أقسم إن من يتبعك من بنى آدم فيما تزيّنه له من الشرك والفجور، ويصدق ظنك عليه ليكونن معك في جهنم دار العذاب، ولأملأنها منك وممن تبعك منهم أجمعين.
وفي قوله منهم إشارة إلى أن الملء يكون من بعضهم، فإن بعض من يتبعه في بعض المعاصي من المؤمنين الموحدين يغفر الله لهم ويعفو عنهم.
ونحو الآية قوله في سورة ص: « لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ».
وقد استثنى في سورتى الحجر وص من إغوائه عباده المخلصين، فقال في الأولى: « إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ » وقال في الثانية: « قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ».
وقد علمت أن المراد من هذا بيان طبيعة البشر وطبيعة الشيطان واستعدادهما واختيارهما في أعمالهما كما هو رأى بعض العلماء، وأيد ذلك الحافظ ابن كثير.
[سورة الأعراف (7): الآيات 19 الى 25]
وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (24) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (25)
تفسير المفردات
أصل الوسوسة: الصوت الخفي المكرر، ومنه قيل لصوت الحلي وسوسة، ووسوسة الشيطان للبشر: ما يجدونه في أنفسهم من الخواطر الرديئة التي تزيّن لهم ما يضرهم في أبدانهم أو أرواحهم، وروى الشيء: غطّى وستر، والسوءة: ما يسوء الإنسان أن يراه غيره من أمر شائن وعمل قبيح؟ وإذا أضيفت إلى الإنسان أريد بها عورته الفاحشة، لأنه يسوءه ظهورها بمقتضى الحياء الفطري. من الخالدين: أي الذين لا يموتون أبدا، وقاسمهما: أي أقسم وحلف لهما، ودلّى الشيء تدلية: أرسله إلى أسفل رويدا رويدا، والغرور: الخداع بالباطل، طفقا: أي أخذا وشرعا، يخصفان: أي يرقعان ويلزقان ورقة فوق ورقة من قولهم: خصف الإسكافي النعل: إذا وضع عليها مثلها.
المعنى الجملي
لا يزال الحديث متصلا في الكلام في النشأة الأولى للبشر وفى شياطين الجن، وقد ذكرت تمهيدا لهداية الناس بما يتلوها من الآيات في وعظ بنى آدم وإرشادهم إلى ما به تكمل فطرتهم، وفى ذلك امتنان عليهم وذكر لكرامة أبيهم.
الإيضاح
(وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) الجنة: هي التي خلق فيها آدم، فآدم خلق من الأرض في الأرض.
وقد تكررت هذه القصة في سبعة مواضع من الكتاب العزيز، ولم يرد في موضع منها أن الله رفعه إلى الجنة التي هي دار الجزاء، وإن كان الجمهور على أنها جنة الجزاء على الأعمال. ويردّه أنه كلّف فيها ألا يأكل من تلك الشجرة، ولا تكليف في دار الجزاء، ولأنه نام فيها، وأخرج منها، ودخل عليه إبليس، ولا نوم في الجنة، ولا خروج بعد الدخول، ولا يمكن دخول الشيطان فيها بعد الطرد والإخراج.
والآية تدل على أن آدم كان له زوج في الجنة، وفى التوراة (إن الله ألقى على آدم سباتا انتزع في أثنائه ضلعا من أضلاعه، فخلق منه حواء امرأته، وأنها سميت امرأت لأنها من امرئ أخذت) وليس في القرآن ما يدل على هذا، وما روى من ذلك مأخوذ من الإسرائيليات، وما روى في الصحيحين عن أبي هريرة من قوله ﷺ « فإن المرأة خلقت من ضلع أعوج » فهو من باب التمثيل على حد قوله: « خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ » والدليل على ذلك قوله بعد: « فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم بزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرا » فإنه لا شك أن المراد منه - لا تحاولوا تقويم النساء بالشدة والغلظة في المعاملة.
(فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما) أي فكلا من ثمارها من أي مكان أردتما.
(وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) النهي عن قرب الشيء أبلغ أثرا من النهي عن الشيء نفسه، إذ أنه يقتضى البعد عن موارد الشبهات التي تغرى به كما جاء في الحديث: « ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعى يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه ».
وقد أبهم سبحانه هذه الشجرة، ولو كان في تعيينها خير لنا لعيّنها، وقد علل القرآن النهي عنها، بأنهما إذا اقتربا منها كانا من الظالمين لأنفسهما بفعلهما ما يعاقبان عليه ولو بالحرمان من رغد العيش وما يعقبه من التعب والمشقة.
(فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما) أي زين لهما ما يضرهما ويسوءهما إذا هما رأيا ما يؤثران ستره وألا يرى مكشوفا، والأرجح أن هذه الوسوسة كانت بأن تمثل الشيطان لآدم وزوجه وكلمهما.
(وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) أي وقال لهما فيم وسوس به: ما نهاكما ربكما عن الأكل من هذه الشجرة إلا لأحد أمرين كراهة أن تكونا بالأكل منها كالملكين فيما أوتى الملائكة من الخصائص والمزايا: كالقوة وطول البقاء وعدم التأثر بتأثيرات الكون المؤلمة المتعبة، أو كراهة أن تكونا من الخالدين في الجنة، أي الذين لا يموتون البتة والخلاصة - إنه أوهمهما أن الأكل من هذه الشجرة إما أن يعطى الآكل صفات الملائكة وغرائزهم، أو يقتضى الخلود في الحياة وفى الآية إيماء إلى تفضيل الملائكة على آدم، وخصصه بعضهم بملائكة السماء والعرش والكرسي من العالين والمقرّبين، دون ملائكة الأرض المسخرين لتدبير أمورها وإحكام نظامها.
(وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) أي وأقسم إنه ناصح لهما فيما رغبهما فيه من الأكل من الشجرة، وأكد ذلك بأشد المؤكدات وأغلظها، إذ كان عندهما محل الظّنة في نصحه، لأن الله أخبرهما أنه عدو لهما.
(فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ) أي فما زال يخدعهما بالترغيب في الأكل من هذه الشجرة والقسم على أنه ناصح لهما حتى أسقطهما وحطهما عما كانا عليه من سلامة الفطرة وطاعة البارئ لهما بما غرهما به وزين لهما، وقد اغترا به وانخدعا بفسمه وصدّقا قوله اعتقادا منهما أن أحدا لا يحلف بالله كاذبا.
ويرى بعض العلماء أن الغرور كان بتزيين الشهوة، فإن من غرائز الشر وطبائعهم كشف المجهول والرغبة في الممنوع، فقد نفخ الشيطان في نار هذه الشهوات الغريزية وأثار النفس إلى مخالفة النهى حتى نسى آدم عهد ربه، ولم يكن له من قوة العزم ما يكفه عن متابعة امرأته، ويعتصم به من تأثير شيطانه كما قال في سورة طه، « وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا » وجاء في الصحيح عن أبي هريرة: « ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها » أي لأنها هي التي زينت له الأكل من الشجرة، وقد فطرت المرأة على تزيين ما تشتهيه للرجل ولو بالخيانة له.
(فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) أي فلما ذاقا ثمرة الشجرة ظهرت لكل منهما سوءته وسوءة صاحبه وكانت مستورة عنهما، فدبت فيها شهوة التناسل بتأثير الأكل من الشجرة، فنبهتهما إلى ما كان خفيا عنهما من أمرها، فخجلا من ظهورها وشعرا بالحاجة إلى سترها، وشرعا يلزقان ويربطان على أبدانهما من ورق أشجار الجنة العريض ما يسترها.
والخلاصة - إن الشيطان لما وسوس لهما بقوله: ما نهاكما ربكما إلخ ولم يقبلا منه ما قال - لجأ إلى اليمين كما دل على ذلك قوله: وقاسمهما، فلم يصدقاه أيضا، فعدل بعد ذلك إلى الخداع كما أشار إلى ذلك بقوله: فدلاهما بغرور أي إنه شغلهما بتحصيل اللذات فجعلاها نصب أعينهما ونسيا النهى كما يدل على ذلك قوله: « فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ».
وقد عاتبه الله على تركه التحفظ والحيطة والتدبر في عواقب الأمور فقال:
(وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ؟) أي وناداهما ربهما معاتبا لهما وموبّخا لهما وقال: ألم أنهكما عن أن تقربا هذه الشجرة وأقل لكما إن الشيطان ظاهر العداوة لكما، فإن أطعتماه أخرجكما من الجنة حيث العيش الرغد إلى حيث الشقاء في العيش والتعب والنصب في الحياة.
ونحو الآية قوله في سورة طه: « فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى ».
(قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي قالا ربنا إننا ظلمنا أنفسنا بطاعتنا للشيطان ومعصيتنا لأمرك وقد أنذرتنا، وإن لم تغفر لنا ما ظلمنا به أنفسنا وترحمنا بالرضا عنا وتوفيقنا إلى الهداية وترك الظلم، وبقبول توبتنا إذا نحن أنبنا إليك، وإعطائنا من فضلك فوق ما نستحق - لنكونن من الخاسرين لأنفسنا وللفوز والفلاح بتزكيتها.
والخلاصة - إن الظفر بالمقصود والفوز بالسعادة لا ينالهما بمغفرتك ورحمتك إلا من ينيب إليك ويتبع سبيلك، ولا ينالهما من يصرّ على ذنبه ويحتج على ربه كما فعل الذي أبي واستكبر فكان من الخاسرين.
ونحو الآية قوله في سورة البقرة: « فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ».
(قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) يرى كثير من سلف الأمة أن هذا الخطاب لآدم وحواء، وإبليس عليه اللعنة، أي اهبطوا من هذه الجنة بعضكم عدو لبعض أي إن الشيطان عدو للإنسان، فعلى الإنسان ألا يغفل عن عداوته ولا يأمن وسوسته وإغواءه كما جاء في قوله: « إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا، إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ ».
وهذا الإخراج من ذلك النعيم عقاب على تلك المعصية التي بها ظلما أنفسهما، وقد قضت به سنة الله في الخلق، إذ جعله أثرا طبيعيا للعمل السيء مترتبا عليه، أما العقاب الأخروي على عصيان الرب فقد غفره الله له بالتوبة التي أذهبت أثره من النفس وجعلتها محلا لاصطفائه كما قال في سورة طه: « وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى. ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى ».
(وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) أي ولكم في الأرض استقرار وبقاء إلى زمن مقدر في علم الله وهو الأجل الذي به تنتهى فيه أعماركم وتقوم فيه القيامة، كما أن لكم فيها متاعا تنتفعون به في معيشتكم.
ونحو الآية قوله: « وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ ».
ثم فصل هذا القول المجمل:
(قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ) أي في هذه الأرض التي خلقتم منها تحيون مدة العمر المقدّر لكل منكم وللنوع بأسره، وفيها تموتون حين انتهائه، ومنها تخرجون بعد موتكم كلكم، وحين ما يريد المولى أن يبعثكم من مرقدكم للنشأة الآخرة.
ونحو الآية قوله تعالى في سورة طه: « مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى ».
مغزى هذا القصص
قص الله سبحانه علينا خبر النشأة الأولى ليرشدنا إلى ما فطرنا عليه، وإلى ما يجب علينا من شكره وطاعته، ويبين لنا أنه خلق الإنسان ليكون خليفة في الأرض، وجعله مستعدا لعلم كل شيء فيها وتسخير ما فيها من القوى لمنافعه وليهدينا إلى أنه كان في نشأته الأولى في جنة النعيم وراحة البال، وقد جعله مستعدا للتأثر بالأرواح الملكية التي تجذبه إلى الحق والخير، والأرواح الشيطانية التي تجذبه إلى الباطل والشر، وعاقبة التأثر الأول سعادة الدارين، ونتيجة الثاني الشقاء فيهما، وهو أيضا محتاج إلى الوحي لإرشاده وهدايته، فعلينا أن نعرف غرائزنا ونربّي أنفسنا على أن نتذكر عهد الله إلينا بأن نعبده وحده ولا نعبد معه أحدا سواه، ولا ننساه فنسى أنفسنا ونغفل عن تزكيتها ونتركها كالريشة في مهابّ أهواء الشهوات ووساوس شياطين الضلالات.
وعلينا أن نعرف أن آدم لم يكن نبيا ورسولا عند بدء خلقه ولا موضعا للرسالة في ذلك الحين، بل أنكر بعضهم أن يكون رسولا مطلقا، وقال إن أول الرسل نوح عليه السلام كما تدل على ذلك الآيات الواردة في الرسل والأحاديث الصحيحة، وما ورد في هذه القصة من التفسير بالمأثور فأكثره مدخول مأخوذ من الإسرائيليات عن زنادقة اليهود الذين دخلوا في الإسلام للكيد له، وكان الرواة ينقلون عن الصحابي أو التابعي ما مصدره من الإسرائيليات فيغتر به بعض الناس فيظنون أنه لا بد له من أصل مرفوع إلى النبي ﷺ لأنه لا يعرف بالرأي.
[سورة الأعراف (7): الآيات 26 الى 27]
يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباسًا يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27)
تفسير المفردات
الريش: لباس الحاجة والزينة، ولباس التقوى: ما يلبس من الدروع والجواش والمغافر وغيرها مما يتّقى به في الحرب، والفتنة: الابتلاء والاختبار، من قولهم: فتن الصائغ الذهب أو الفضة إذا عرضهما على النار ليعرف الزّيف من النّضار، والقبيل: الجماعة كالقبيلة، وقيل القبيلة: من كان لهم أب واحد، والقبيل أعم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أنه أمر سبحانه آدم وحواء بالهبوط إلى الأرض وجعل الأرض مستقر لهما، وذكر أن الشيطان عدو لهما - ذكر هنا أنه أنزل له ولبنيه كل ما يحتاجون إليه في دينهم ودنياهم كاللباس الذي يسترون به عوراتهم ويتخذونه للزينة، واللباس الذي يستعملون في الحرب كالمغافر والجواشن ونحوها فعليكم أن تشكروه تعالى على هذه المنن العظام، وتعبدوه وحده لا شريك له.
الإيضاح
(يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباسًا يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا) نادى الله بنى آدم وامتن عليهم بما أنعم عليهم من اللباس على اختلاف درجاته وتعدد أنواعه، من الأدنى الذي يستر العورة عن أعين الناس إلى الأعلى من أنواع الحلل التي تشبه ريش الطير في وقاية البدن من الحر والبرد، إلى ما فيها من الزينة والجمال.
والخلاصة - إنه يقول: يا بني آدم، بقدرتنا قد أنزلنا عليكم من سمائنا لتدبير أموركم لباسا يوارى سوءاتكم، وريشا تتزينون به في المجالس والمجتمعات، وهو أعلى اللباس وأكمله، وما دون ذلك وهو ما يقى الحر والبرد.
ومعنى إنزال ما ذكر من السماء - إنزال مادته من القطن والصوف والوبر والحرير وريش الطير وغيرها مما ولدته الحاجة وافتنّ الناس في استعماله، بعد أن تعلموا وسائل صنعه بما أوجد فيهم من الغرائز والصفات التي بها غزلوا ونسجوا وحاكوا ذلك على ضروب شتى وخاطوه على أشكال لا حصر لها ولا عد، ولا سيما في هذا العهد الذي رقيت فيه الصناعات إلى أقصى مدى وأبعد غاية.
ولا شك أن امتنانه علينا بلباس الزينة دليل على إباحتها والرغبة في استعمالها، فالإسلام دين الفطرة وليس فيه ما يخالف ما تدعو إليه الحاجة.
وحب الزينة من أقوى غرائز البشر الدافعة لهم إلى إظهار سنن الله في الخليقة.
(وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) المشهور من كلام التابعين أن لباس التقوى لباس معنوى لاحسى، فقد قال ابن زيد: لباس هو التقوى وعن ابن عباس: إنه الإيمان والعمل الصالح، فإنهما خير من الريش واللباس. وروى عن زيد بن علي بن الحسين: أنه لباس الحرب كالدّرع والمغفر والآلات التي يتّقي بها العدو، واختاره أبو مسلم الأصفهاني، ويدل عليه قوله تعالى: « سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ. وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ ».
(ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي ذلك الذي تقدم ذكره من النعم بإنزال الملابس من آيات قدرته ودلائل إحسانه وفضله على بنى آدم.
وهذه النعم تؤهلهم لتذكّر ذلك الفضل والقيام بما يجب عليهم من الشكر، والابتعاد من فتنة الشيطان وإبداء العورات أو الإسراف في استعمال الزينة إلى نحو ذلك.
(يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) من سنن العربية تكرار النداء في مقام التذكير والوعظ: أي لا تغفلوا يا بني آدم عن أنفسكم فتمكنوا الشيطان من وسوسته لكم والتحيل في خداعكم وإيقاعكم في المعاصي، كما وسوس لأبويكم آدم وحواء فزّين لهما معصية ربهما فأكلا من الشجرة التي نهاهما عنها، وكان ذلك سببا في خروجهما من الجنة التي كانا يتمتعان بنعيمها، ودخولهما في طور آخر يكابدان فيه شقاء المعيشة وهمومها.
(يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما) أي إنه أخرجهما من الجنة وكان سببا في نزع ما اتخذاه لباسا لهما من ورق الجنة لأجل أن يريهما سوءاتهما.
وفي ذلك إيماء إلى أنهما كانا يعيشان عريانين، لأنه ليس في الأرض ثياب تصنع، وليس هناك إلا أوراق الأشجار، وعلماء الماديّات والآثار يحكمون حكما جازما بأن البشر قبل اهتدائهم إلى الصناعات كانوا يعيشون عراة، ثم اكتسوا بورق الشجر وجلود الحيوان التي يصطادونها، ولا يزال المتوحشون منهم إلى الآن يعيشون كذلك.
(إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) أي إن إبليس وجنوده من شياطين الجن يرونكم ولا ترونهم، والضرر إذا جاء من حيث لا يرى كان خطره أشد، ووجوب العناية باتقائه أعظم، كما يرى ذلك في بعض الأوبئة التي ثبت وجودها في هذا العصر بالمجهر (التليسكوب) فإنها تنفذ إلى الأجسام بنقل الذباب أو البعوض أو مع الطعام أو الشراب أو الهواء، فتتوالد وتنمو بسرعة، وقد تسبّب للإنسان أمراضا مستعصية العلاج كالحمى الصفراء (الملاريا) والتيفود والتيفوس والسل والسرطان إلى نحو أولئك.
وفعل جنة الشياطين في أرواح البشر كفعل هذه الجنة التي يسميها الأطباء (الميكروبات) في الأجسام، فكلاهما يؤثر من حيث لا يرى فيتقّى، والثانية تتقى بالأخذ بنصائح الأطباء واستعمال الوسائل العلاجية الواقية.
والوقاية منها ضربان:
(1) اتخاذ الأسباب التي تمنع مجيئها من الخارج كالذي تفعله الحكومات في المحاجر الصحية في الثغور ومداخل البلاد.
(2) تقوية الأبدان بالأغذية الجيدة والنظافة التامة لتقوى على مقاومة هذه الجنّة والفتك بها إذا وصلت إليها، كما يتقى وصول العثّ إلى الصوف بمنع وصول الغبار إليه أو بوضع الدواء الذي يسمى (النفتالين) إذ يقتله برائحته.
والأولى تتقى أيضا بإرشاد طب الأنفس والأرواح الذي يهدى إلى الوقاية من فتك جنة الشياطين فيها بالوسوسة وتزيين الأباطيل والشرور المحرمة في هذا الطب لضررها، فمداخلها في أنفسهم وتأثيرها في خواطرهم كدخول تلك الجنّة في أجسادهم وتأثيرها في أعضائهم من حيث لا ترى.
والوقاية منها على ضربين:
(1) بتقوية الأرواح بالإيمان بالله وصفاته وإخلاص العبادة له والتخلق بالأخلاق الكريمة وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فتبتعد تلك الأرواح الشيطانية عنها ولا تستطيع القرب منها.
(2) بمعالجة هذا الوسواس بعد طروئه كما يعالج المرض بعد حدوثه بالأدوية التي تقتله وتمنع امتداد ضرره.
والخلاصة - إن هذه الجملة (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) جاءت تعليلا للنهى عن تمكين الشيطان مما يبغى من الفتنة، وتأكيدا للتحذير منه وتذكيرا بشديد عداوته وضرره (والضرر إذا جاء من حيث لا يرى كان شديد الأثر عظيم الخطر).
ثم زاد في التحذير من الشيطان وبين شديد عداوته للانسان فقال:
(إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) أي إن سنتنا جرت بأن يكون الشياطين الذين هم شرار الجن أولياء لشرار الإنس وهم الكفار الذين لا يؤمنون بالله تعالى وملائكته إيمان إذعان تزكو به نفوسهم، لما بينهما من التناسب والتشاكل واكتساب الكفار لولاية الشياطين جاءت بسبب استعدادهم لقبول وسوستهم وإغوائهم وعدم احتراسهم من الخواطر الرديئة، كاكتساب ضعفاء البنية للأمراض باستعدادهم لها وعدم احتراسهم من أسبابها كتناول الأطعمة والأشربة الفاسدة والوجود في جو مملوء بالجراثيم القتالة بعدم تعرضه للشمس والنور والهواء المتجدد
[سورة الأعراف (7): الآيات 28 الى 30]
وإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)
تفسير المفردات
الفاحشة: الفعلة المتناهية في القبح، والمراد بها هنا طواف أهل الجاهلية عراة كما ولدتهم أمهاتهم ويقولون: لا نطوف بيت ربنا في ثياب عصيناه بها، والقسط: الاعتدال في جميع الأمور، وهو الوسط بين الإفراط والتفريط، وإقامة الشيء: إعطاؤه حقه وتوفيته شروطه كإقامة الصلاة وإقامة الوزن بالقسط، والوجه: قد يطلق على العضو المعروف من الإنسان كما في قوله « فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ » وقد يطلق على توجه القلب وصحة القصد كما في قوله: « فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا »
المعنى الجملي
بعد أن بين عزّ اسمه أنه جعل الشياطين قرناء للكافرين مسلّطين عليهم متمكنين من إغوائهم - ذكر هنا أثر ذلك التسليط عليهم، وهو الطاعة لهم في أقبح الأشياء مع عدم شعورهم بذلك القبح.
الإيضاح
(وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها) أي وإذا فعل الذين لا يؤمنون بالله ممن جعلوا الشياطين أولياء لهم - قبيحا من الأفعال كتعرّيهم حين الطواف بالبيت، فلامهم الناس على ذلك، قالوا وجدنا آباءنا يفعلون كما نفعل، فنحن نقتدى بهم ونستنّ بسنتهم، والله أمرنا بذلك فنحن نتبع أمره فيه. وقد رد الله عن الأمر الثاني بأمر رسوله أن يدحضه بقوله:
(قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) أي إن هذا الفعل من الفحشاء والله بكماله منزه أن يأمر بها وإنما يأمر بها الشيطان كما جاء في قوله: « الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ ».
ثم ردّ عليهم الوجه الأول ووبخهم على تقليد الآباء والأجداد بقوله:
(أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟) أي إنكم باتباعكم للآباء والأجداد في الآراء والشرائع غير المسندة إلى الوحي تقولون على الله ما لا تعلمون أنه شرعه لعباده.
والخلاصة - إنهم في عملهم الفاحشة استندوا إلى أمرين: أمر الله بهما، وتقليد الآباء والأجداد، وقد رد الله عليهما في كل منهما فرد على الأول ببيان أن الله لا يأمر بفاحشة، وأن الذي يأمر بذلك إنما هو الشيطان. ورد على الثاني بأن التشريع لا يعلم إلا بوحي من عنده إلى رسول يؤيده بالآيات البينات وهو لم ينزل عليهم به، فقولهم هذا إنما هو اتباع للأهواء فيما هو قبيح تنفر منه الطباع السليمة، وتستنقصه العقول الراجحة الحكيمة.
وبعد أن أنكر عليهم أن يكونوا على علم بأمر الله فيما فعلوا - بين ما يأمر به من محاسن الأعمال ومكارم الأخلاق والخصال بقوله لرسوله:
(قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) أي قل لهم: إنما أمرني ربى بالاستقامة والعدل في الأمور كلها.
(وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي وقل لهم: أمرني ربى بالقسط، فأقسطوا وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد، أي أعطوا توجهكم إلى الله تعالى حقه من صحة النية وحضور القلب وصرف الشواغل عند كل مسجد تعبدونه فيه، سواء كانت العبادة طوافا أو صلاة أو ذكرا، وادعوه وحده مخلصين له الدين، ولا تتوجهوا إلى غيره من عباده المكرمين كالملائكة والأنبياء والصالحين زعما منكم أنهم يشفعون لكم عند ربكم ويقربونكم إليه زلفى، وقد جعلتم هذا من الدين افتراء على الله وقولا عليه بغير علم.
وبعد أن أبان أصل الدين ومناط الأمر والنهي فيه - ذكرنا بالبعث والجزاء على الأعمال فقال:
(كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ. فَرِيقًا هَدى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) أي كما بدأكم ربكم خلقا وتكوينا بقدرته تعودون إليه يوم القيامة وأنتم فريقان:
(1) فريق هداه الله في الدنيا ببعثة الرسل فاهتدى بهديهم وأقام وجهه له وحده في العبادة ودعاه مخلصا له الدين لا يترك به أحدا.
(2) فريق حق عليهم الضلالة لاتباعهم إغواء الشيطان وإعراضهم عن طاعة بارئهم.
وكل فريق يموت على ما عاش عليه ويبعث على ما مات عليه، وإنما حقت على الفريق الثاني الضلالة، لأنهم اقترفوا أسبابها فوجدت نتائجها ومسبباتها، لا أنها جعلت غرائز لهم فكانوا عليها مجبورين، يرشد إلى ذلك قوله:
(إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) أي إنهم حين أطاعوا الشياطين فيما زيّنوا لهم من الفواحش والمنكرات، فكأنهم ولّوهم أمورهم من دون الله الذي يأمر بالعدل والإحسان وينهى عن الفحشاء والمنكر، وهم مع عملهم هذا يحسبون أنهم مهتدون فيما تلقّنهم الشياطين من الشبهات، كجعل التوجه إلى غير الله والتوسل إليه في الدعاء مما يقربهم إلى الله زلفى، قياسا على الملوك الجاهلين الذين لا يقبلون الصفح عن مذنب إلا بوساطة بعض المقربين عنده.
والكثير من أهل الضلال يحسبون أنهم مهتدون، وهم ما بين كافر جحود للحق كبرا وعنادا كأعداء الرسل في عصورهم وحاسديهم على ما آتاهم الله من فضله كما حكى سبحانه عن فرعون وملئه « وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا » وكالكبراء من قريش أمثال أبي جهل والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث في جميع كثير منهم وهم الذين قال الله فيهم: « فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ » وهؤلاء هم الأقلون عددا - وكافر بالتقليد واتباع نزغات الشيطان، أو باتباع الآراء الخاطئة والنظريات الفاسدة، وهم الذين قال الله فيهم: « قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا » وهؤلاء هم جمهرة الناس في جميع الأمم.
وذهب كثير من العلماء إلى أن من بذل جهده في البحث والنظر في الحق، ثم اتبع ما ظهر له أنه الحق بحسب ما وصلت إليه طاقته، وكان مخالفا في شيء منه لما جاءت به الرسل - لا يدخل في مدلول هذه الآية ونحوها، بل يكون معذورا عند الله لقوله تعالى: « لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَها ».
[سورة الأعراف (7): الآيات 31 الى 32]
يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه في الآية السالفة أنه أمر عباده بالعدل في كل الأمور واتباع الوسط منها - طلب إلينا أن نأخذ الزينة في كل مجتمع للعبادة، فنستعمل الثياب الحسنة في الصلاة والطواف ونحو ذلك، كما أباح لنا أن نأكل ونشرب مما خلق الله بشرط ألا نسرف في شيء من ذلك.
أخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير قال: كان الناس يطوفون بالبيت عراة ويقولون: لا نطوف في ثياب أذنبنا فيها، فجاءت امرأة فألقت ثيابها فطافت ووضعت يدها على قبلها وقالت:
اليوم يبدو بعضه أو كله فما بدا منه فلا أحلّه
فنزلت هذه الآية.
الإيضاح
(يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) الزينة ما يزين الشيء أو الشخص، وأخذها التزين بها، والمراد بالزينة هنا الثياب الحسنة كما يدل على ذلك سبب نزول الآيات، وأقلّ هذه الزينة ما يدفع عن المرء أقبح ما يشينه بين الناس وهو ما يستر عورته، وهو الواجب لصحة الصلاة والطواف، وما زاد على ذلك من التجمل بزينة اللباس عند الصلاة ولا سيما صلاة الجمعة والعيد فهو سنة لا واجب.
ويرى بعض العلماء وجوب الزينة للعبادة عند كل مسجد بحسب عرف الناس في تزينهم في المجامع والمحافل، ليكون المؤمن حين عبادة ربه مع عباده المؤمنين في أجمل حال لا تقصير فيها ولا إسراف.
أخرج الطبراني والبيهقي عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال: « إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه، فإن الله عز وجل أحق من تزيّن له، فإن لم يكن له ثوبان فليتّزر إذا صلى، ولا يشتمل أحدكم في صلاته اشتمال اليهود ».
وأخرج الشافعي وأحمد والبخاري عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: « لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء ».
وعلى الجملة فالزينة تختلف باختلاف حال الإنسان في السعة والضيق، فمن عنده ثوب واحد يستر جميع بدنه فليستر به جميع بدنه وليصلّ به، فإن لم يستر إلا العورة كلها أو الغليظة منها وهي السوءتان فليستر به ما يستره، ومن وجد ثوبين أو أكثر فليصلّ بهما.
وهذا الأمر بالزينة عند كل مسجد أصل من الأصول الدينية والمدنية عند المسلمين وكان سببا في تعليم القبائل المتوحشة القاطنة في الكهوف والغابات أفرادا وجماعات لبس الثياب عند دخولها في حظيرة الإسلام، وكانوا قبل ذلك يعيشون عراة الأجسام رجالا ونساء حتى ذكر بعض المنصفين من الإفرنج أنّ لانتشار الإسلام في إفريقية منّة على أوربا بنشره للمدنية بين أهلها، إذ ألزمهم ترك العري وأوجب لبس الثياب فكان ذلك سببا في رواج تجارة المنسوجات.
وبهذا نقل الإسلام أمما وشعوبا كثيرة من الوحشية إلى الحضارة الراقية.
(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) أي خذوا زينتكم عند المساجد وأداء العبادات، وكلوا واشربوا من الطيبات، ولا تسرفوا فيها، بل عليكم بالاعتدال في جميع ذلك، لأن الله الخالق لهذه النعم لا يحب المسرفين فيها، بل يعاقبهم على هذا الإسراف بمقدار ما ينشأ عنه من المضارّ والمفاسد، لأنهم قد خالفوا سنن الفطرة وجنوا على أنفسهم في أبدانهم وأموالهم، وجنوا على أسرهم وأوطانهم، إذ هم أعضاء في جسم الأسرة والأمة.
روى النسائي وابن ماجه أن النبي ﷺ قال: « كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا في غير مخيلة (كبر وإعجاب بالنفس) ولا سرف، فإن الله يحب أن يرى أثر نعمه على عبده ».
وعن ابن عباس أنه قال: كل ما شئت، واشرب ما شئت، والبس ما شئت إذا أخطأتك اثنتان: سرف أو مخيلة.
والإسراف: تجاوز الحد في كل شيء، والحدود منها:
(1) طبيعي كالجوع والشّبع والظمأ والرّي، فمن أكل إذا أحس بالجوع أو كف عن الأكل إذا شعر بالشبع وإن كان يستلذ الاستزادة، أو شرب إذا شعر بالظمأ واكتفى بما يزيله ولم يزد على ذلك لم يكن مسرفا في أكله وشربه، وكان طعامه وشرابه نافعين له.
(2) اقتصادي وهو أن تكون النفقة على نسبة معينة من دخل الإنسان بحيث لا تستغرق كسبه.
(3) شرعي فإن الشارع حرم من الطعام الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله، وحرم من الشراب الخمر، وحرم من اللباس الحرير الخالص، أو الغالب على الرجال دون النساء، وحرم الأكل والشرب في أوإني الذهب والفضة وعدّه من السرف المنهي عنه، فهذه الأشياء لا يباح استعمالها إلا لضرورة تقدر بقدرها.
والمعول عليه في الإنفاق في كل طبقة عرف المعتدلين فيها، فمن تجاوز طاقته مباراة لمن هم أغنى منه وأقدر كان مسرفا، وكم جرّ الإسراف إلى خراب بيوت عامرة ولا سيما في المهور وتجهيز العرائس وحفل العرس والمأتم و(الزار).
ثلاثة تشقى بها الدار العرس والمأتم والزار
وهذا السرف كبير الضرر عظيم الخطر على الأمم أكثر من ضرره على الأفراد ولا سيما في البلاد التي تاني إليها أنواع الزينة من البلاد الأجنبية عنها، إذ تذهب الثروة إلى غير أهلها، وربما ذهبت إلى من يستعين بها على استذلالهم والعدوان عليهم والخلاصة - إن الطعام والشراب من ضرورات الحياة الحيوانية، ولكن ضل في ذلك فريقان:
(ا) فريق البخلاء والغلاة في الدين تركوا الأكل والشرب من الطيبات المستلذة، إما بخلا وشحا أو تحرجا وتأثما، إما دائما أو في أوقات مخصوصة من السنة (ب) فريق المترفين الذين أسرفوا في اللذات البدنية وجعلوها جلّ همهم، فهم يأكلون ويشربون ويتمتعون كما تتمتع الأنعام، وليس لهم غاية يقفون عندها، أو نهاية ينتهون إليها.
(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) إخراج الله للزينة خلق موادها وتعليم طرق صنعها بما أودع في فطرهم من حبها والميل إلى الافتنان في استعمالها، إذ خلقهم مستعدين لإظهار آياته في جميع ما خلق في هذا العالم الذي يعيشون فيه، بما أودع في غرائزها من الميل إلى البحث في كشف المجهول والاطلاع على خفايا الأمور، فهم لا يدعون شيئا عرفوه بحواسهم أو عقولهم حتى يبحثوه من طرق شتى وأوجه لا نهاية لها، ولن تنتهي بحوثهم ما دام الإنسان على ظهر البسيطة.
وغريزة حب الزينة وحب التمتع بالطيبات كانت من أهم الأسباب في اتساع أعمال الفلاحة والزراعة ورقي ضروب الصناعة، واتساع وسائل العمران، ومعرفة سنن الله وآياته في الأكوان، وهما لا يذمّان إلا بالإسراف فيهما والغفلة عن شكر المنعم بهما.
والخلاصة - إن الدين لم يحرمهما إلا إذا كانا عائقين عن الكمال الروحي والكمال الخلقي، وإنه لم يجعل تركهما قربة إلى الله كما جرى على ذلك الوثنيون من البراهمة وغيرهم وقلّدهم في ذلك بعض المسلمين وصاروا يبثون في الأمم الإسلامية تعاليم تقضي بأن روح الدين ومخ العبادة في التقشف وحرمان النفس من التمتع بلذات الحياة، وقد بين الله وجه الصواب في ذلك بقوله لرسوله:
(قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي قل أيها الرسول لأمتك: إن الزينة والطيبات من الرزق للذين آمنوا في الحياة الدنيا ويشاركهم فيها غيرهم تبعا لهم وإن لم يستحقها مثلهم، وهي خالصة لهم يوم القيامة.
وقصارى ذلك - إن الدين يورث أهله سعادة الدنيا والآخرة جميعا كما يدل على ذلك قوله: « وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى » وقوله: « وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقًا ».
ذاك أن المؤمن يزداد علما وإيمانا بربه وشكرا له كلما عرف شيئا من سننه وآياته في نفسه أو في غيرها من الكائنات، ومن أهم أركان الشكر استعمال النعمة فيما وهبها المنعم لأجله من شكر الجوارح كشكر اللسان بالثناء عليه وشكر سائر الأعضاء كذلك ففي حديث أبي هريرة عند أحمد والترمذي والحاكم « الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر » والسر في هذا أن الأكل والشرب من الطيبات بدون إسراف هما قوام الحياة والصحة، وهما الدعامتان اللتان يتوقف عليهما القيام بجميع الأعمال الدينية والدنيوية من عقلية وبدنية، ولهما التأثير العظيم في جودة النسل الذي به يكثر سواد الأمة.
والملابس الجيدة النظيفة لها فوائد:
(1) حفظ الصحة.
(2) كرامة من يتجمل بها في نفوس الناس.
(3) إظهار نعمة الله على لابسها، والمؤمن يثاب بنيته على كل ما هو محمود من هذه الأمور بالشكر عليها.
روى أبو داود عن أبي الأحوص قال: « أتيت رسول الله ﷺ في ثوب دون فقال: ألك مال؟ قلت نعم: قال من أي المال؟ قلت قد آتاني الله من الإبل والغنم والخيل والرقيق. قال: فإذا آتاك الله فلير أثر نعمته عليك وكرامته لك ».
وأخرج الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله ﷺ « إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده ».
وقد كانت العرب تحرم زينة اللباس في الطواف تعبدا، وتحرّم الادّهان ونحوه حال الإحرام بالحج كذلك، وتحرم من الأنعام والحرث ما ذكر في سورة الأنعام، وحرم أهل الكتاب كثيرا من الطيبات.
فجاء الدين الإسلامي الجامع بين مصالح الدنيا ومصالح الآخرة والمطهّر للنفوس والمهذب للأخلاق، فأنكر هذا التحكم المخالف لسنن الفطرة وبين أن هذا التحريم لم يكن إلا من وساوس الشيطان ولم يوح به الله إلى أنبيائه ورسله المصطفين الأخيار.
(كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي إن هذا التفصيل لحكم الزينة والطيبات الذي ضل فيه كثير من الأمم والأفراد ما بين إفراط وتفريط - لا يعقله إلا الذين يعلمون سنن الاجتماع وطبائع البشر ومصالحهم، ونحن قد فصلناه على لسان هذا النبي الأمي الذي لم يكن يعرف شيئا من تاريخ البشر في أطوار بداوتهم وأطوار حضارتهم قبل أن ننزلها عليه، فكان ذلك آية دالة على نبوته، إذ ما كان لمثله أن يعلمها إلا بالوحي من عندنا، ولو لا الكتاب الكريم لما خرجت العرب من ظلمات الوثنية والجهالة إلى ذلك النور الذي صلحت به وأصلحت أمما كثيرة بالدين والفنون والآداب وما أحيت من علوم الأوائل.
ولكن وا أسفا قد أضحى المسلمون من أجهل الشعوب بسنن الله في الأكوان وبالعلوم والمعارف اللازمة لتقدم الحضارة والمدنية، وأصبحوا في مؤخرة الأمم وصاروا مضرب الأمثال في التأخر والخمول والكسل، وبذا استكانوا وذلوا وصاروا أفقر الأمم وأضعفهم وأقلهم خدمة لدينهم، وخالفوا ما رسمه لهم ذلك الدين من أن لهم زينة الدنيا وطيباتها وسعادتها وملكها، وأن عليهم أن يشكروا الله على ما يؤتيهم من ذلك، وأن عليهم أن يقوموا بما يرضيه من اتباع الحق والعدل وكل ما تقتضيه خلافتهم في الأرض.
ولقد بلغ الجهل بكثير منهم أن ظن و(بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) أن دين الإسلام هو سبب ضعف المسلمين وجهلهم وذهاب ملكهم، ولكن كتاب الله وسنة رسوله وتاريخ هذه الأمة شاهد صدق على فساد هذه القضية وتزييف تلك الدعوى، فليس لها من دعائم تستند إليها، وتقف بها على رجليها.
[سورة الأعراف (7): آية 33]
قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33)
تفسير المفردات
الفواحش: واحدها فاحشة، وهي الخصلة التي يقبح فعلها لدى أرباب الفطر السليمة والعقول الراجحة، ويطلقونها أحيانا على الزنا والبخل والقذف بالفحشاء والبذاء المتناهي في القبح. والإثم لغة: القبيح الضار، وهو شامل لجميع المعاصي كبائرها كالفواحش وصغائرها كالنظر بشهوة لغير الحليلة، والبغي: تجاوز الحد: وقد قالوا بغى الجرح: إذا تجاوز الحد في الفساد، ومنه قوله تعالى: « فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ».
المعنى الجملي
بعد أن أنكر - تقدست أسماؤه - في الآية السالفة على المشركين وغيرهم من أرباب الملل الأخرى تحريم زينة الله التي أخرجها لعباده والطيبات من الرزق - ذكر هنا أصول المحرمات التي حرمها على عباده لضررها، وجميعها من الأعمال الكسبية لا من المواهب الخلقية، ليستبين للناس أن الله لم يحرم على عباده إلا ما هو ضار لهم.
الإيضاح
(قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين وغيرهم ممن ظلموا أنفسهم وافتروا على الله الكذب فزعموا أن الله حرم على عباده ما أخرج لهم من الطيبات كما حرم عليهم الزينة: ما حرم ربى في كتبه على ألسنة رسله إلا هذه الأنواع الست الآتية لما لها من شديد الضرر وعظيم الخطر على أنفسهم وعلى الأمة جمعاء، ومن ثم جعل تحريمها دائما لا يباح بحال، وهي:
(1 - 2) الفواحش الظاهرة والباطنة وتقدم بيانها وشرحها في سورة الأنعام وهي إحدى الوصايا العشر التي ذكرت هناك (3) الإثم أي ما يوجب الإثم والذم - وعطفه على ما قبله من عطف العام على الخاص.
(4) البغي وهو الإثم الذي فيه تجاوز لحدود الحق أو اعتداء على حقوق الأفراد أو جماعاتهم، ومن ثم قرن بالعدوان في قوله: « تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ».
وقيد البغي بكونه بغير الحق، لأن تجاوز الحدود المعروفة قد يكون فيما لا ظلم فيه ولا فساد ولا هضم لحقوق الأفراد والجماعات كما في الأمور التي ليس لهم فيها حقوق أو التي تطيب أنفسهم فيها عن بعض حقوقهم فيبذلونها عن رضى وارتياح لمصلحة لهم يرجونها ببذلها.
(5) الشرك بالله وهو أقبح الفواحش، فلا تقوم عليه حجة من عقل ولا برهان من وحي، وسميت الحجة سلطانا لأن لها سلطانا على العقل والقلب وفي هذا إيماء إلى أن أصول الإيمان لا تقبل إلا بوحي من الله يؤيده البرهان كما قال « وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ ». كما أن فيه إرشادا إلى عظم شأن الدليل والبرهان في الدين، حتى كأنّ من جاء بالبرهان على الشرك يصدق، وهذا من فرض المحال مبالغة في فضل الاستدلال كما قال « أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ».
(6) القول على الله بغير علم، وهو من أسس المحرمات التي حرمت على ألسنة الرسل جميعا، إذ هو منشأ تحريف الأديان المحرفة، وسبب الابتداع في الدين الحق، وقد انتشر الابتداع بين أهله وتحكمت بينهم الأهواء واتبعوا سنن من قبلهم كما جاء في الحديث: « لتتّبعنّ سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضبّ لتبعتموهم قلنا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ » رواه الشيخان
ورأس البلية في هذا الابتداع القول في الدين بالرأي، فما من أحد يبتدع أو يتبع مبتدعا إلا استدل على بدعته بالرأي، وقد ظهرت مبادئ هذه البدع والأهواء في القرون الأولى قرون العلم بالسنة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما زال أمرها يستفحل حتى وصلت إلى ما نراه الآن.
وما شرع من اجتهاد الرأي في حديث معاذ وغيره فهو خاص بالقضاء لا بأصول الدين وعباداته، فقد أكمل الله دينه فلم يترك فيه نقصا يكمله غيره بظنه ورأيه بعد وفاة رسوله، وليس لقاض ولا مفت أن يسند رأيه الاجتهادي إلى الله فيقول هذا حكم الله وهذا دينه، بل يقول هذا مبلغ اجتهادي، فإن كان صوابا فمن توفيق الله وإلهامه، وإن كان خطأ فمنى ومن الشيطان.
والخلاصة - إنه لا ينبغي لأحد أن يحرّم شيئا تحريما دينيا على عباد الله أو يوجب عليهم شيئا إلا بنص صريح عن الله ورسوله، ومن تهجم على ذلك فقد جعل نفسه شريكا لله، ومن تبعه في ذلك فقد جعله رباله، ومن ثم كان فقهاء الصحابة والتابعين يتحامون القول في الدين بالرأي.
وقد أنكر الله على من نسب إلى دينه تحليل شيء أو تحريمه من عنده بلا برهان فقال: « وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ».
[سورة الأعراف (7): آية 34]
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34)
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه جماع المحرمات على بنى آدم لما فيها من المفاسد والمضارّ للأفراد والمجتمع إثر بيان المباحات من الزينة والطيبات من الرزق بشرط عدم الإسراف فيها - ذكر هنا حال الأمم في قبول هذه الأصول أوردها، والسير على منهاجها بعد قبولها أو الزيغ عنها.
الإيضاح
(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) أي قل أيها الرسول لقومك ولغيرهم: لكل أمة أمد مضروب لحياتها مقدّر لها بحسب السنن التي وضعها الخالق لوجودها.
وهذا الأجل على ضربين: أجل لوجودها في الحياة الدنيا، وأجل لعزها وسعادتها بين الأمم.
(فالأول) أجل لأمة بعث فيها رسول لهدايتها فردوا دعوته كبرا وعنادا واقترحوا عليه الآيات فأعطوها مع إنذارهم بالهلاك إذا لم يؤمنوا فاستمروا في تكذيبهم فأخذهم ربهم أخذ عزيز مقتدر، كما حدث لقوم نوح وعاد وثمود وفرعون وإخوان لوط وغيرهم.
وهذا النوع من الهلاك كان خاصا بأقوام الرسل أولى الدعوة الخاصة بأقوامهم، وقد انتهى ذلك ببعثة النبي ﷺ الذي خاطبه الله بقوله: « وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ».
وقد مضت سنة الله في الأمم أن الذين يقترحون الآيات لا يؤمنون بها، ومن ثم لم يعط الله تعالى رسوله شيئا مما كانوا يقترحونه عليه.
(والثاني) أجل مقدر لحياة الأمم سعيدة عزيزة باستقلالها ومكانتها بين الأمم وهذا منوط بسنن الله في الاجتماع البشرى وعوامل الرقى والعمران.
وأسباب انتهاء هذا الاجتماع لا تعدو مخالفة ما أرشدت إليه الآيات السالفة كإسراف في الزينة أو إسراف في التمتع بالطيبات، أو باقتراف الفواحش والآثام والبغي على الناس، أو بالتوغل في خرافات الشرك والوثنية، أو بالكذب على الله بإرهاق الأمة بما لم يشرعه الله لها من الأحكام.
فالأمم التي ترتكب هذه الضلالات والمفاسد يسلبها الله سعادتها ويسلط عليها من يستذلها كما قال تعالى: « وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ».
وهاكم شاهد صدق على ما نقول: إن الأمم التي كان لها شأن يذكر في التاريخ كالرومان والفرس والعرب والترك وغيرهم ممن سلب ملكهم كله أو بعضه - لم يكن لذلك من سبب سوى ما أسلفنا.
وهذا الضرب من الأجل وإن عرفت أسبابه، لا يمكن أن يحدّ بالسنين والأيام، ولكن الله يعلم تحديده بما أوجده من الأسباب التي تنتهى بمسبباتها، وبالمقدمات التي تترتب عليها نتائجها، كما قال:
(فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) الساعة لغة: أقل مدة من الزمن أي فإذا جاء الوقت الذي وقّته الله لهلاكهم وحلول العقاب بهم لا يتأخرون عنه بالبقاء في الدنيا أقل تأخر، كما أنهم لا يتقدمون أيضا عن الوقت الذي جعله لهم وقتا للفناء والهلاك.
وفي الآية إيماء إلى أن الأمة قد تملك طلب تأخير الهلاك قبل مجيئه أي قبل أن تغلبها على إرادتها أسباب الهلاك، بأن تترك الفواحش والآثام والظلم والبغي والإسراف المفسد للأخلاق وخرافات الشرك المفسدة للعقول وتترك البدع في التحريم والتحليل بما لم يخاطب به المولى عباده، بأن يقوم فيها جماعة من المصلحين، فيرشدوها إلى تغيير ما بأنفسها من الفساد، فيغيّر الله ما بها.
وهذا من استيخار الهلاك أو منعه عنها قبل مجىء أجلها.
وتأثير الفسق والفساد في الأمم يشبه تأثيره في الأفراد، فكما أن الأطباء متفقون على أن السكر من أسباب الأمراض البدنية والعقلية التي تفضى إلى الموت، وعلى أن تأثيره في البدن القوي دون تأثيره في البدن الضعيف، وعلى أن القليل منه يبطىء تأثير ضرره عن تأثير ضرر الكثير منه - كذلك أطباء الاجتماع متفقون على أن الإسراف في الفسق والترف مفسد للأمم، وأن الظلم والبغي والغلوّ في المطامع من أسباب الهلاك والدمار، ولكن قد يكون لدى بعضها ما تقاوم به تأثير هذه الأدواء الاجتماعية كالنظام ومراعاة سنن الاجتماع حتى في إخفاء الظلم وإتقان الوسائل والأسباب في إلباس العدل وإبراز إفسادها في صورة الإصلاح وإيجاد أنصار من المظلومين يساعدون في بقاء هذا الظلم، وإقناع الكثير منهم بأن هذا خير لهم وأبقى، غير أن كل هذا لا يمنع انتقام الله منهم، وإنما يؤخره على مقتضى سننه في عباده، ولا يمنعه عنهم إلا الرجوع إلى الحق والاعتدال والصلاح والإصلاح.
والأجل المقدّر بمقتضى نظام الخلق هو الذي يسميه العلماء بالعمر الطبيعي فالطبيب إذا فحص الجسم ورأى أعضاءه الرئيسية ومقدار مناعتها أمكنه أن يقدر له مدة معينة من الحياة إذا عاش بنظام واعتدال بحسب ما وضعه الله من السنن، فإذا هو قتل أو غرق قبل انتهاء العمر المقدر له يقال مات قبل انتهاء عمره الطبيعي أو التقديري ولكن مات بأجله الحقيقي عند الله.
وما ورد من أن الدعاء وصلة الرحم يطيلان العمر، فإنما ذلك بالنسبة للأجل التقديري أو الطبيعي الذي هو مظهر سنن الله في الأسباب والمسببات، فإن الدعاء الذي منشؤه قوة الإيمان بالله والرجاء في معونته وتوفيقه للمؤمن فيما يعجز عن أسبابه، من أسباب طول العمر، وكذلك صلة الرحم من أهم أسباب هناء العيش، وهناؤه من أهم العوامل في إطالة العمر.
كما دلت التجارب على أن الهموم والأكدار خصوصا ما كان منها داخليا كقطيعة الأرحام واليأس من روح الله ومعونته مما يضعف قوى النفس ويهرم الجسم قبل إبّان هرمه، وقد عرف هذه الحقيقة ذلك الشاعر الحكيم حين قال:
والهمّ يخترم الجسيم نحافة ويشيب ناصية الصبي ويهرم
ومثلها في ذلك قلة الغداء الذي يحتاج إليه البدن أو كثرته، والإسراف في كل لذة، والسكنى في الأمكنة التي لا يدخلها ضوء الشمس ولا يتخللها الهواء بالقدر الذي يقتل الجراثيم.
والأمم العريقة في المدنية والحضارة والعالمة بالسنن الإلهية في الصحة والسقم، والقوة والضعف، تحصى دائما عدد المرضى والموتى وتضع لذلك نسبا حسابية تعرف بها متوسط الآجال في كل منها.
وكذلك قد ثبت ثبوتا لا ريب فيه أن من أسباب قلة الوفيّات تحسين وسائل المعيشة والاعتدال فيها، وتوقى الأمراض باجتناب أسبابها المعروفة قبل وقوعها ومعالجتها بعد حدوثها.
وكل ما يقع فالعلم الإلهي قد سبق به وكتاب الله وسنة رسوله يؤيدان ذلك أتم التأييد.
وخلاصة معنى الآية - إن لكل أمة أجلا لا يتأخرون عنه إذا جاء، ولا يتقدمون عليه أيضا، فيهلكوا قبل مجيئه. ونحو الآية قوله: « ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ ».
[سورة الأعراف (7): الآيات 35 الى 36]
يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر جلت أسماؤه أن لكل أمة أجلا لا تعدوه - حكى هنا ما خاطب به كل أمة على لسان رسولها وبيّنه لها من أصول الدين الذي شرعه لهدايتها وتكميل فطرتها، وأرشدها إلى أنها إن كانت مطيعة تتقى الله فيما تأتى وتذر، وتصلح أعمالها فلا يحصل لها في الآخرة خوف ولا حزن، وإن هي تمردت واستكبرت وكذبت الرسل كانت عاقبتها النار، وبئس القرار.
الإيضاح
(يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي يا بني آدم إن يأتكم رسل من أبناء جنسكم من البشر يتلون عليكم آياتي التي أنزلها عليكم لبيان ما آمركم به من صالح الأعمال وترك ما أنهاكم عنه من الشرك والرذائل وقبيح الأعمال - فمن اتقى منكم ما نهيته عنه وأصلح نفسه بفعل ما أوجبته عليه فلا خوف عليهم من عذاب الآخرة، ولا هم يحزنون حين الجزا على ما فاتهم.
وحكمة كون الرسول منهم أنه أقطع لعذرهم وأظهر في الحجة عليهم، إذ معرفتهم بأحواله تبين لهم أن المعجزات التي ظهرت على يديه إنما هي بقدرة الله لا بقدرته إلى ما في ذلك من حصول الألفة، فالجنس يألف الجنس ويركن إليه، ومن ثم قال: « وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكًا لَجَعَلْناهُ رَجُلًا ».
(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) والاستكبار عن قبول الآيات: رفضها كبرا وعنادا لمن جاء بها كما حدث من رؤساء قريش حين استكبروا أن يكون محمد ﷺ إماما لهم، إذ رأوا أنفسهم أحق بالرياسة منه، لأنهم أكثر منه مالا وأعز نفرا.
والمعنى - إن الذين كذبوا بآياتنا المنزلة على أحد من رسلنا واستكبروا عن اتباع من جاء بها حسدا له على الرياسة وتفضيلا لأنفسهم عليه، أو لقومهم على قومه فأولئك أصحاب النار يخلدون فيها أبدا.
والخلاصة - إن جميع الرسل قد بلّغوا أممهم أن اتقاءهم لما يفسد فطرتهم من الشرك والمعاصي، وإصلاح أنفسهم بالطاعة يوجب الأمن وعدم الخوف مما يتوقع وعدم الحزن على ما وقع منهم في الدار الأولى، وأن تكذيب ما جاءوا به من الآيات والاستكبار عن اتباعها يترتب عليه المكث في نار جهنم خالدين فيها أبدا كفاء ما فعلوا من التمرد وعصيان أوامر الديان.
[سورة الأعراف (7): الآيات 37 الى 39]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعًا قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر في الآية السابقة عاقبة المكذبين بآياته المستكبرين عن قبولها والإذعان لها - ذكر هنا أن من أشدهم ظلما من يتقولون على الله الكذب، فينسبون إليه ما لم يقله - كمن يثبت الشريك لله سواء كان صنما أو كوكبا، أو يضيف إليه أحكاما باطله، أو يكذّب ما قاله كمن ينكر أن القرآن نزل من عند الله على رسوله محمد ﷺ.
الإيضاح
(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) أي لا أحد أظلم ممن افترى الكذب على الله بأن أوجب على عباده من العبادات ما لم يوجبه، أو حرم عليهم من الدين ما لم يحرمه، أو عزا إلى دينه أحكاما لم تنزل على رسله.
(أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) المنزلة عليهم سواء أكان بالقول أو بما هو أدل منه كالاستهزاء بها أو الاستكبار عن اتباعها أو بتفضيل غيرها عليها بالعمل بها.
(أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) المراد بالنصيب هنا ما قدر لهم من خير أو شر وسعادة أو شقاء، والمراد من الكتاب كتاب المقادير الذي كتب الله فيه نظام العالم كله، ومنها أعمال الاحياء الاختيارية وما يبعث عليها من الأسباب والدواعي وما يترتب عليها من المسببات كالسعادة والشقاء والصحة والمرض إلى نحو ذلك.
والمعنى - إن هؤلاء المفترين يصيبهم نصيبهم مما كتب لهم وقدر من الأرزاق والآجال، فهم مع ظلمهم وافترائهم على الله لا يحرمون مما قدر لهم إلى انقضاء آجالهم.
ونحو الآية قوله تعالى: « كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ » وقوله: « نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ ».
(حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ) الرسل هنا هم الملائكة الموكلون بالتوفي أي قبض الأرواح من الأجساد، أي إنهم ينالهم نصيبهم الذي كتب لهم مدة حياتهم حتى إذا ما انتهى بانتهاء آجالهم وجاءتهم رسلنا يقبضون أرواحهم.
(قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟) أي سألهم رسل الموت حين التوفي على سبيل الزجر والتوبيخ: أين الشركاء الذين كنتم تعبدونهم في الدنيا من دون الله لقضاء الحاجات ودفع المضرات؟ فلتدعوهم لينجوكم مما أنتم فيه من شدة وعذاب.
(قالُوا ضَلُّوا عَنَّا) ضلو: أي غابوا وذهبوا، لا ندري أين مكانهم، أي غابوا عنا فلا نرجو منهم النفع ولا دفع الضر.
(وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) أي واعترفوا على أنفسهم بأنهم كانوا بدعائهم إياهم وعبادتهم لهم كافرين، إذ هم قد زعموا أنهم عنده تعالى كأعوان الأمراء والسلاطين، وحاش لله أن يتخذ الأعوان والمساعدين، فالله غنى بعلمه المحيط وقدرته الكاملة عن أن يحتاج إلى الأعوان، فإنما يحتاج إليها من يجهل أمور الناس ويعجز عن معرفة أحوالهم.
وخلاصة هذا - زجر الكافرين عما هم عليه من الكفر وحملهم على النظر والتأمل في عواقب أمورهم، والتحذير من التقليد الذي سيرديهم في الهاوية.
(قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ) أي تقول ملائكته بأمره يوم القيامة لهؤلاء الكافرين: ادخلوا بين أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس، أي أمم تقدم زمانهم على زمانكم.
وفي هذا إيماء إلى أنه تعالى لا يسوق الكفار بأجمعهم إلى النار دفعة واحدة، بل يدخلهم فوجا فيكون منهم سابق ومسبوق، ويشاهد الداخل من الأمة في النار من سبقه.
(كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) أي كلما دخلت جماعة منهم في النار ورأت ما حل بها من الخزي والنكال - لعنت أختها في الدين والملة، إذ هي قد ضلت باتباعها والاقتداء بها في كفرها كما قال: « ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ».
والخلاصة - إن المشركين يلعنون المشركين، واليهود تلعن اليهود، والنصارى تلعن النصارى، وهكذا القول في سائر الديانات الضالة كالمجوس والصابئة.
(حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعًا قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ: رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ) اداركوا، أي تلاحقوا وأدرك بعضهم بعضا واستقر معه، وضعفا أي مثلا أي حتى إذا تتابعوا واجتمعوا كلهم فيها، قالت أخرى كل منهم وهم أتباعهم وسفلتهم لأولاهم منزلة وهم القادة والرؤساء: ربنا هؤلاء أضلونا عن الحق باتباعنا لهم وتقليدنا إياهم فيما كانوا عليه من أمر الدين وسائر أعمالنا، فأعطهم ضعفا من عذاب النار لإضلالهم إيانا فوق العذاب على ضلالهم في أنفسهم حتى يكون عذابهم ضعفين: ضعفا للضلال وضعفا للإضلال.
ومعنى قوله لأخراهم أي في شأنهم ولأجل ضلالهم، وليس المراد أنهم ذكروا هذا القول لأولاهم، لأنهم ما خاطبوهم، بل خاطبوا الله جلت قدرته بهذا الكلام.
(قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) أي يقول الله تعالى لهم: لكل منهم ضعف من العذاب بإضلاله فوق عذابه على ضلاله، ولكنكم لا تعلمون عذابهم، فإن العذاب روحى ونفسى، والأول أنكى وأشد ألما، فالرئيس العزيز في قومه إذا دخل السجن مع السّفلة وأوشاب الناس لا يكون ألمه كألمهم، وإن كان يشركهم فيما يأكلون ويشربون وفى جميع ما يعملون، إذ يشعر بعذاب النفس وقهر الذل مما لا يشعر به الآخرون، وإن كانوا يظنون أن عقوبتهما واحدة في ألمها كما هي في صورتها.
ونحو الآية قوله في الآية الأخرى: « لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ».
(وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) أي إذا كان الأمر كما ذكرتم من أننا أضللناكم فما كان لكم علينا أدنى فضل تطلبون به أن يكون عذابكم دون عذابنا مع أن الذنب واحد وقد اعترفتم بتلبسكم بالضلال المقتضى له، فذوقوا العذاب بكسبكم له مهما يكن سببه.
وقد جاء في سورة الصافات: « وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ. قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ. قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ. وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طاغِينَ. فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ. فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ. فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ ».
[سورة الأعراف (7): الآيات 40 الى 41]
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)
تفسير المفردات
المراد بالآيات هنا: الآيات الدالة على أصول الدين وأحكام الشرع كالأدلة على وجود الله ووحدانيته، والأدلة على النبوة والبعث يوم القيامة، والجمل: هو البعير البازل أي الذي طلع نابه، وسمّ الخياط: ثقب الإبرة، وأصل الإجرام: قطع الثمرة من الشجرة، ثم استعمل في كل إفساد كإفساد الفطرة بالكفر وما يترتب على ذلك من الخرافات والمعاصي، والمهاد: الفراش، والغواشي: واحدها غاشية، وهي ما يغشى الشيء أي يغطّيه ويستره كاللحاف ونحوه.
المعنى الجملي
هذا من تتمة ما سلف من وعيد الكفار وجزاء المكذبين بالقرآن المستكبرين عن الإيمان، بين به أنهم خالدون في النار، وأنهم يلاقون فيها من الشدائد والأهوال ما لا يدرك العقل حقيقة كنهه، وأن هذا كفاء ظلمهم لأنفسهم واستكبارهم عن طاعة ربهم واتباع أوامره.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) أي إن الذين كذبوا بأدلتنا ولم يتبعوا رسلنا وتكبروا عن التصديق بما جاءوا به، وأنفوا من الانقياد لها لا تفتح لأرواحهم إذا خرجت من أجسادهم أبواب السماء، ولا يصعد لهم في حياتهم قول ولا عمل، لأن أعمالهم خبيثة، وإنما يرفع إلى الله الكلم الطيب والعمل الصالح كما قال: « إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ».
(وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) العرب تضرب المثل لما لا يكون بنحو قولهم: لا أفعله حتى يشيب الغراب، وحتى يبيض القار، وحتى يدخل الجمل في سم الخياط، وهم يريدون بذلك أنهم لا يفعلونه أبدا، والمراد هنا أن هؤلاء لا يدخلون الجنة بحال.
(وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) أي ومثل هذا الجزاء نجزى به كل من صار الإجرام وصفا لهم - لامن أجرموا جرما بثورة غضب أو نزوة شهوة - ثم لا يلبثون أن يندموا على ما فرط منهم كما قال تعالى في وصف المؤمنين: « ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ » وقال أيضا: « وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ».
(لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) أي لهم من نار جهنم فرش من تحتهم، ولهم من فوقهم منها لحف تعطّيهم، والمراد أنها محيطة بهم مطبقة عليهم كما قال: « إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ » وقال: « وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ » وقال: « لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ».
(وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) أي ومثل هذا الجزاء نجزى به الظالمين لأنفسهم وللناس، والآيتان تدلان على أن المجرمين والظالمين الراسخين في صفتى الإجرام والظلم هم الكافرون كما قال: « وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ » والمؤمنون لا يكونون كذلك بحال.
[سورة الأعراف (7): الآيات 42 الى 43]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
تفسير المفردات
الوسع: ما يقدر عليه الإنسان حال السعة والسهولة، لا حال الضيق والشدة، والنزع: قلع الشيء من مكانه، والغل: الحقد من عداوة أو حسد، أورثتموها، أي صارت إليكم بلا منازع كما يصير الميراث إلى أهله.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عز اسمه وعيد أهل الكفر والمعاصي - أردفه وعد أهل الطاعات وقد جرت سنة القرآن بالجمع بينهما، فيبدأ بأحدهما لمناسبة سياق الكلام قبله ثم يقفوه بالآخر.
الإيضاح
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ - لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَها - أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي والذين صدقوا الله ورسوله وأقروا بما جاءهم به من وحيه وتنزيله وشرائع دينه وعملوا ما أمرهم به واجتنبوا ما نهاهم عنه - هم أهل الجنة دون سواهم، وهم يخلدون فيها أبدا لا يخرجون منها ولا يسلبون نعيمها.
ومعنى قوله: (لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَها) أننا لا نفرض على المكلف إلا ما يكون في وسعه وما لا يشق عليه أداؤه ولا يضيق به ذرعا - وقد جاءت هذه الجملة أثناء الكلام للتنبية إلى أن العمل الصالح الذي يوصل إلى الجنة سهل غير صعب، وميسور لا عسر فيه ولا مشقة.
(وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) أي وأذهبنا ما كان في قلوب هؤلاء الذين ذكرت صفتهم من حقد وضغن مما يكون عادة في الدنيا. فهم لا يدخلون الجنة وفى قلوبهم أدنى عداوة أو بغضاء مما يكون من أسباب تنغيص النعيم فيها، حال كون الأنهار تجرى من تحتهم فيرونها وهم في غرفات قصورهم تتدفق في جنانها وبساتينها، فيزدادون حبورا وسرورا لا تشوب صفاءهم شائبة كدر.
روى ابن أبي حاتم عن الحسن البصري قال: بلغني أن النبي ﷺ قال: « يحبس أهل الجنة بعد ما يجوزون الصراط حتى يؤخذ لبعض من بعض ظلاماتهم في الدنيا، فيدخلون الجنة وليس في قلوب بعضهم على بعض غلّ ».
وروي عن قتادة أن عليا كرم الله وجهه قال: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله فيهم « وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوانًا ».
(وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللَّهُ) أي وقالوا شاكرين لله بألسنتهم معبّرين عن غبطتهم وبهجتهم: الحمد لله الذي هدانا في الدنيا للإيمان الصحيح والعمل الصالح الذي كان جزاؤه هذا النعيم، وما كان من شأننا ولا مقتضى فكرنا أن نهتدى إليه بأنفسنا لو لا أن هدانا الله إليه بتوفيقه إيانا لاتباع رسله ومعونته لنا عليها ورحمته الخاصة بنا - إلى هدايته التي فطرنا عليها وهداية ما خلق لنا من المشاعر والعقل.
(لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ) أي إنهم قالوا حين رأوا ما وعدهم به الرسل عيانا لقد جاءت رسل ربنا بالحق، وهذا مصداق ما وعدنا به في الدنيا على التوحيد وصالح العمل.
(وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ونادتهم الملائكة قائلين لهم: تلكم هي الجنة التي وعدتم بوراثتها جزاء صالح أعمالكم.
أخرج ابن جرير عن السدي قال: ليس من مؤمن ولا كافر إلا وله في الجنة والنار منزل مبين، فإذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ودخلوا منازلهم رفعت الجنة لأهل النار فنظروا إلى منازلهم فيها فقيل هذه منازلكم لو عملتم بطاعة الله، ثم يقال: يا أهل الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون، فيقتسم أهل الجنة منازلهم.
وأخرج سعيد بن منصور والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: « ما منكم من أحد إلا وله منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار، فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله، فذلك قوله: « أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ ».
وفي الآية دلالة واضحة على أن الجنة تنال بالعمل، وفى معناها آيات وأحاديث كثيرة.
أما حديث أبي هريرة الذي رواه الشيخان « لن يدخل أحدا عمله الجنة - قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال ولا أنا إلا أن يتغمدّنى الله بفضله ورحمته » فيراد منه أن عمل الإنسان مهما كان عظيما فلا يستحق به الجنة لذاته لو لا رحمة الله وفضله، حين جعل هذا الجزاء العظيم على ذلك العمل القليل، فدخول الجنة بالعمل دخول بفضل الله ورحمته، ومن ثم قال بعده « فسدّدوا وقاربوا » أي لا تبالغوا ولا تغلوا في دينكم ولا تتكلفوا من العمل ما لا طاقة لكم به.
[سورة الأعراف (7): الآيات 44 الى 47]
ونادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)
تفسير المفردات
الوعد خاص بما كان في الخير، أو يشمل الخير والشر وهو الصحيح، والوعيد خاص بالشر أو السوء، فتسمية ما كان لأهل النار وعدا إما من قبيل التهكم أو للمشاكلة، والتأذين: رفع الصوت بالإعلام بالشيء، واللعنة: الطرد والإبعاد مع الخزي والإهانة، وصدّ عن الشيء: أعرض عنه، وعوجا: أي ذات عوج أي غير مستوية ولا مستقيمة حتى لا يسلكها أحد، والعوج (بفتح العين) مختص بالمرئيات (وبكسر العين) مختص بما ليس بمرئي كالرأي والقول، والحجاب هو السور الذي بين الجنة والنار كما قال في سورة الحديد: « فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ » والأعراف واحدها عرف (بزنة قفل) وهو أعلى الشيء وكل مرتفع من الأرض وغيرها، ومنه عرف الديك والفرس والسحاب، والسيما والسيمياء: العلامة، وصرفت أي حوّلت. والتلقاء: جهة اللقاء، وهي جهة المقابلة، يقال فلان تلقاء فلان إذا كان حذاءه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه وعيد الكفار وثواب أهل الإيمان - عقب ذلك ببيان بعض ما يكون بين الفريقين فريق أهل الجنة وفريق أهل السعير من المناظرة والحوار بعد استقرار كل منهما في داره.
وفيها دليل على أن الدارين في أرض واحدة يفصل بينهما سور لا يمنع إشراف أهل الجنة وهم في أعلى عليين على أهل النار وهم في هاوية الجحيم، وأن بعضهم يخاطب بعضا بما يزيد أهل الجنة عرفانا بقيمة النعمة، ويزيد أهل النار حسرة وشقاء على ما كان من التفريط في جنب الله.
وهذا التخاطب لا يقتضى قرب المكان على ما هو معهود في الدنيا، فعالم الآخرة عالم تغلب فيه الروحانية على ظلمة الكثافة الجسدية، فيمكن الإنسان أن يسمع من بعيد المسافات، ويرى من أقاصى الجهات.
وإن ماجدّ الآن من المخترعات والآلات التي يتخاطب بها الناس من شاسع البلاد وتفصل بينهما ألوف الأميال إما بالإشارات الكتابية كالبرق - التلغراف اللاسلكى والسلكى - وإما بالكلام اللساني كالمسّرة - التليفون اللاسلكى - والسلكى ليقرّب هذا أتم التقريب، ويزيدنا فهما له.
وقد تم لهم الآن أن يروا صورة المتكلم بالتليفون مطبوعة على الآلة التي بها الكلام وأن ينقلوا الصور من أقصى البلدان إلى أقصاها بهذه الآلة (التليفزيون).
الإيضاح
(وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟) أي إن أصحاب الجنة حين استقرارهم في الجنة واستقرار
أهل النار في النار - إذا ما وجهوا أبصارهم إليهم يسألونهم سؤال افتخار على حسن حالهم وسؤال تهكم وتذكير بجناية أهل النار على أنفسهم بتكذيب الرسل، وسؤال تقرير لهم بصدق ما بلّغهم الرسل من وعد ربهم لمن آمن واتقى بجنات النعيم قائلين لهم: قد وجدنا ما وعدنا ربنا على ألسنة رسله من النعيم والكرامة حقا لا شبهة فيه، وها نحن أولاء: نستمتع بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر - فهل وجدتم ما أوعدكم ربكم من الخزي والنكال حقا؟
(قالُوا نَعَمْ) أي وجدنا ما أوعدنا به ربنا حاكما بلّغنا على ألسنة الرسل.
(فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) أي فكان ردف السؤال والجواب وقيام الحجة عليهم - أن أذّن مؤذن قائلا: لعنة الله على الظالمين لأنفسهم الجانين عليها بما أوجب حرمانها من النعيم المقيم، وهذا المؤذن إما مالك خازن النار، وإما ملك غيره يأمره الله بذلك.
ثم بين المراد من الظالمين فقال:
(الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجًا) أي إنهم هم الذين يعرضون عن سلوك سبيل الله الموصلة إلى مرضاته وثوابه، ويمنعون الناس عن سلوكها، ويبغونها معوجّة حتى لا يسلكها أحد.
وبغي الظالمين وطلبهم اعوجاج السبيل يجىء على ضروب شتى:
(1) تدسية أنفسهم بالظلم العظيم وهو الشرك فيشوبون التوحيد بشوائب الوثنية في العبادة والدعاء ويشركون مع الله غيره على أنه شفيع عنده ووسيلة إليه، وهو ما نهى الله عنه بقوله: « وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ » وقوله تعالى « حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ».
(2) ظلمهم لها بالابتداع، إذ يبغونها عوجا بما يزيدون في الدين من البدع المحدثات التي لم يرد بها كتاب ولا سنة، ومستندهم في ذلك تأويلات جدلية ومحاولات للتوفيق بين الدين والفلسفة في الاعتقاديات، أو زيادات في العبادات والشعائر كحفل الموالد وترتيلات الجنائز وأذكار المآذن، أو تحريم ما لم يحرمه الله من الطيبات من الرزق، أو تحليل ما حرم الله كبناء المساجد على القبور وإيقاد المصابيح والشموع وغيرها عليها.
(3) ظلمهم لها بالزندقة والنفاق، إذ يبغونها عوجا بالتشكيك فيها بضروب من التأويل يقصد بها بطلان الثقة بها والصد عنها.
(4) ظلمهم لها في الأحكام فيبغونها عوجا بترك الحق، وإقامة ميزان العدل، والمساواة بين الناس بالقسط.
(5) ظلمهم لها بالغلوّ فيها بجعل يسرها عسرا وسعتها ضيقا بزيادتهم على ما شرعه الله من أحكام العبادات والمحظورات والمباحات، مما نزل في كتابه وصح من سنة رسوله.
(وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ) وهم على ضلالهم وإضلالهم كافرون بالآخرة كفرا متأصلا في نفوسهم، فلا يخافون عقابا على جرمهم، ولا ذما ولو ما على إنكارهم يوم البعث والجزاء.
والخلاصة - إنهم جمعوا بين الصد عن سبيل الله وبغيها عوجا، وإنكار البعث والجزاء.
(وَبَيْنَهُما حِجابٌ) أي وبين الفريقين فريقى أهل الجنة وأهل النار حجاب يفصل كلا منهما من الآخر ويمنعه من الاستطراق إليه.
وهذا الحجاب هو السور الذي سيأتي ذكره في سورة الحديد بقوله: « يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ، قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا، فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ » الآية
(وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ) أي وعلى أعالى ذلك السور رجال يرون أهل الجنة وأهل النار جميعا قبل الدخول فيها، فيعرفون كلا منهما بسيماهم التي وصفهم الله بها في نحو قوله: « وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ. ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ. تَرْهَقُها قَتَرَةٌ. أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ».
وهؤلاء الرجال هم طائفة من الموحدين قصرت بهم سيئاتهم عن الجنة، وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار، جعلوا هناك حتى يقضى بين الناس، فبينماهم كذلك إذ يطلع عليهم ربهم فيقول: قوموا ادخلوا الجنة فإني قد غفرت لكم، أخرجه أبو الشيخ والبيهقي وغيرهما عن حذيفة، وفى رواية عنه: « يجمع الله الناس ثم يقول لأصحاب الأعراف: ما تنتظرون؟ قالوا ننتظر أمرك فيقال: إن حسناتكم تجاوزت بكم النار أن تدخلوها، وحالت بينكم وبين الجنة خطاياكم فادخلوها بمغفرتي ورحمتي ».
(وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أي ونادى أصحاب الأعراف أصحاب الجنة قائلين لهم: سلام عليكم، وهذا السلام إما تحية ودعاء وإما إخبار بالسلامة من المكروه والنجاة من العذاب، هذا إن كان قبل دخول الجنة، فإن كان بعدها فهو تحية خالصة تدخل في عموم قوله تعالى « لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا. إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا ».
(لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ) أي نادوهم مسلّمين عليهم حال كونهم لم يدخلوها بعد وهم طامعون في دخولها، لما بدا لهم من يسر الحساب.
وقد جاء في الآثار أن الناس يكونون في الموقف بين الخوف والرجاء، لا تطمئن قلوب أهل الجنة حتى يدخلوها.
روى أبو نعيم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لو نادى مناديا أهل الموقف ادخلوا النار إلا رجلا واحدا لرجوت أن أكون ذلك الرجل، ولو نادى ادخلوا الجنة إلا رجلا واحدا لخشيت أن أكون ذلك الرجل.
(وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي وكلما وقعت أبصار أصحاب الأعراف على أهل النار تضرعوا إلى الله تعالى ألا يجعلهم مثلهم، والمقصود من الآية الإنذار والتخويف ليتبصر المرء في عاقبة أمره، فيفوز بالثواب المقيم في جنات النعيم.
وفي التعبير بصرف الأبصار وتحويلها إيماء إلى أنهم يوجهون أبصارهم إلى أصحاب الجنة بالقصد والرغبة ويلقون إليهم السلام، ويكرهون رؤية أهل النار، فإذا حوّلت أبصارهم إليهم عن غير قصد ولا رغبة، بل بصارف يصرفهم إليها، قالوا ربنا لا تجعلنا معهم حيث يكونون، وفى ذلك من استعظام حال الظالمين، واستفظاع مآلهم وشناعة أمرهم ما لا يخفى.
وعن سعيد بن جبير أن ابن مسعود رضي الله عنه قال « يحاسب الله الناس يوم القيامة، فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة، ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار، ثم قرأ قول الله « فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ » الآيتين، ثم قال: إن الميزان يخف بمثقال حبة ويرجح. ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف، فوقفوا على الصراط، ثم عرض أهل الجنة وأهل النار، فإذا نظروا إلى أهل الجنة قالوا: سلام عليكم، وإذا صرفت أبصارهم إلى يسارهم رأوا أهل النار فقالوا (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) تعوّذوا بالله من منازلهم. قال: « فأما أصحاب الحسنات فإنهم يعطون نورا يمشون به بين أيديهم وبأيمانهم، ويعطى كل عبد يومئذ نورا وكل أمة نورا، فإذا أتوا على الصراط سلب الله نور كل منافق ومنافقة. فلما رأى أهل الجنة ما لقي المنافقون قالوا « رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا » وأما أصحاب الأعراف فإن النور كان في أيديهم فلم ينزع من أيديهم، فهنالك يقول الله تعالى (لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ) فكان الطمع دخولا ».
قال سعيد: فقال ابن مسعود: على أن العبد إذا عمل حسنة كتب له بها عشر، وإذا عمل سيئة لم تكتب إلا واحدة ثم قال: هلك من غلب وحدانه أعشاره. ا هـ.
[سورة الأعراف (7): الآيات 48 الى 49]
وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)
الإيضاح
(وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) هذا نداء آخر من بعض أصحاب الأعراف لبعض المستكبرين الذين كانوا يعتزّون في الدنيا بغناهم وقوتهم، ويحتقرون ضعفاء المؤمنين لفقرهم وضعف عصبيتهم أو لحرمانهم من عصبية تمنعهم وتذود عنهم، ويزعمون أن من أغناه الله وجعله قويا في الدنيا فهو الذي يكون له نعيم الآخرة كما قال تعالى « وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ. وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلادًا وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ».
ومن هؤلاء زعماء قريش وطغاتها الذين قاوموا الإسلام في مكة واضطهدوا أهله كأبى جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل.
والسيما التي يعرفونهم بها هي سواد الوجوه، ورزقة العيون، وتشويه الخلق واختار أبو مسلم أنهم يعرفونهم بسيماهم الخاصة التي كانوا عليها في الدنيا، وقيل بسيما المستكبرين إذ قد جاء في الأثر ما يدل على أن لمن تغلب عليهم رذيلة خاصة - علامة تدل عليهم فيعرفون بها فقد روى البخاري « يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة، وعلى وجه آزر قترة وغبرة فيعرفه فيشفع له، فلا تقبل شفاعته، ثم يمسخه الله ذئبا منتنا ليزول عن إبراهيم خزيه » فمسخه ذئبا مناسب لحماقته ونتن الشرك.
والخلاصة - إنهم نادوهم قائلين لهم: ما أغنى عنكم جمعكم للمال ولا استكباركم على المستضعفين والفقراء من أهل الإيمان، إذ لم يمنع عنكم العقاب، ولا أفادكم شيئا من الثواب.
ثم وجّه إليهم سؤال توبيخ وتأنيب بحضرة هؤلاء المستضعفين فقيل لهم:
(أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ؟) أي وقالوا لهم مع الإشارة إلى أولئك المستضعفين الذين كانوا يضطهدونهم ويعذبونهم في الدنيا كصهيب الرومي وبلال الحبشي وآل ياسر، والتهكم من خزيهم وفوز من كانوا يحتقرونهم: أهؤلاء الذين حلفتم في الدنيا إن رحمة الله لن تنالهم؟ إذ لم يعطوا في الدنيا مثل ما أعطيتم من الأتباع والأشياع وكثرة المال.
(ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) أي قال الله تعالى لأصحاب الأعراف بعد أن يحبسوا على الأعراف، وينظروا إلى الفريقين ويعرفوهم بسيماهم ويقولوا ما يقولون ادخلوا الجنة لا خوف عليكم مما يكون في مستقبل أمركم، ولا أنتم تحزنون مما ينغّص عليكم حاضركم.
وفائدة هذه المقالة بيان أن الجزاء على قدر الأعمال، وأن أحدا لا يسبق عند الله إلا بسبقه في العمل، ولا يتخلف عنده إلا بتخلفه فيه، وليرغب السامعون في حال السابقين، وليعرفوا أن كل أحد يعرف في ذلك اليوم بسيماه التي يوسم بها، سواء أكان من أهل الخير أم من أهل الشر، فيزيد المحسن في إحسانه ويرتدع المسيء عن إساءته، وليعلموا أن العصاة يوبخهم كل أحد حتى أقل الناس عملا.
[سورة الأعراف (7): الآيات 50 الى 51]
وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه مقال أهل الجنة لأهل النار ومقال أصحاب الأعراف لأهل النار - أردف ذلك ما قال أهل النار لأهل الجنة - وطلبهم منهم بعض ما عندهم من نعم الله عليهم.
الإيضاح
(وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ) إفاضة الماء: صبه ثم استعملت في الشيء الكثير فيقال: فاض الرزق والخير، وأفاض عليه النعم، وقالوا أعطاه غيضا من فيض أي قليلا من كثير، وما رزقهم الله يشمل الطعام والأشربة غير الماء.
والمعنى - إن أهل النار يستغيثون بأهل الجنة ويطلبون منهم أن يفيضوا عليهم من النعم الكثيرة التي يتمتعون بها من شراب وطعام.
وعن ابن عباس « ينادى الرجل أخاه فيقول: يا أخي أغثنى فإني قد احترقت فأفض علي من الماء، فيقال: أجبه فيقول: إن الله حرمهما على الكافرين ».
وعن أبي الدرداء « إن الله يرسل على أهل النار الجوع حتى يزداد عذابهم فيستغيثون فيغاثون بالضّريع (نبات رطبه يسمى شبرقا، ويابسه يسمى ضريعا لا تقر به دابة لنتن ريحه) لا يسمن ولا يغني من جوع، ثم يستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصة، ثم يذكرون الشراب ويستغيثون فيدفع إليهم الحميم والصديد بكلاليب الحديد فيقطع ما في بطونهم ويستغيثون إلى أهل الجنة، فيقول أهل الجنة: إن الله حرمهما على الكافرين ».
وهذا طلب منهم مع علمهم باليأس من إجابته، إذ هم يعرفون دوام عقابهم وأنه لا يفتر عنهم أبدا، ولكن اليأس من الشيء قد يطلبه كما قالوا في أمثالهم (الغريق يتعلق بالزبد).
(قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ. الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) التحريم المنع وهو إما تحريم تكليف كتحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وإما تحريم قهر كتحريم الجنة وما فيها على الكافرين في مثل هذه الآية.
والمعنى - إن أهل الجنة قالوا جوابا عن هذا الاستجداء: إن الله قد حرم ماء الجنة ورزقها على الكافرين، كما حرم عليهم دخولها، فلا سبيل لإفاضة شيء منهما عليهم وهم في النار، إذ ليس لهم إلا ماؤها الحميم وطعامها من الضريع والزقوم.
وقد وصف أهل الجنة الكافرين بأنهم هم الذين كانوا السبب في هذا المنع والحرمان، إذ جعلوا ديدنهم أعمالا لا تزكّى الأنفس ولا تجعلها أهلا للتشريف والكرامة، بل هي إما لهو يشغل الإنسان عن الجدّ والأعمال المفيدة، وإما لعب لا يقصد منه فائدة صحيحة فهو كأعمال الأطفال، وقد غرتهم الحياة الدنيا بشهواتها ولذاتها من الحرام والحلال، أما أهل الجنة فقد سعوا لها سعيها، وعلموا أن الدنيا مزرعة الآخرة، ومن ثم لم يكن من قصدهم من التمتع بنعم الله إلا الاستعانة بها على ما يرضيه من إقامة الحق والعدل، والاستعداد لحياة أبدية لا نهاية لها.
والخلاصة - إن الدنيا شغلتهم بزخارفها العاجلة وشهواتها الباطلة، فعزّتهم وضرتهم، وهي من شأنها أن تغرّ وتضر وتمرّ.
ثم ذكر عاقبة أمرهم فقال:
(فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا) أي فاليوم نعاملهم معاملة الشيء المنسي الذي لا يبحث عنه أحد، كما جعلوا هذا اليوم منسيا، والمراد من النسيان عدم إجابة دعائهم وتركهم في النار.
(وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) أي وكما كانوا منكرين أن الآيات من عند الله إنكارا مستمرا، ورفضوا ما جاءت به رسله ظلما وعلوا.
والخلاصة - فاليوم نتركهم في العذاب كما تركوا العمل في الدنيا للقاء الله يوم القيامة، وكما كانوا بآيات الله وحججه التي احتج بها عليهم الأنبياء والرسل يجحدون ولا يصدّقون بشىء منها.
[سورة الأعراف (7): الآيات 52 الى 53]
ولَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (53)
تفسير المفردات
الكتاب هو القرآن الكريم، والتفصيل جعل المسائل المراد بيانها مفصولا بعضها من بعض بما يزيل اشتباهها وينظرون أي ينتظرون، وتأويله أي عاقبته، والحق هو الأمر الثابت، والخسران: الغبن، وضل عنهم، أي غاب عنهم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أحوال أهل الجنة وأهل النار وأهل الأعراف وذكر الحوار الذي كان بين هذه الفرق الثلاثة على وجه يحمل الناظر فيها على الحذر والاحتراس والتأمل في العواقب، لعله يرعوى عن غيه ويهتدى إلى سبيل رشده، عقّب ذلك بذكر حال الكتاب الكريم وعظيم فضله وجليل منفعته، وأنه حجة الله على البشر كافة، وأنه أزاح به علل الكفار وأبطل معاذيرهم، ثم بذكر حال المكذبين وما يكون منهم يوم القيامة من الندم والحسرة وتمنى العودة إلى الدنيا لإصلاح أعمالهم.
الإيضاح
(وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ، هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي ولقد جئنا هؤلاء القوم بكتاب كامل البيان وهو القرآن، فصلنا آياته تفصيلا على علم منا بما يحتاج إليه المكلفون من العلم والعمل، تزكية لنفوسهم وتطهيرا لقلوبهم، وجعلناه سبب سعادتهم في معاشهم ومعادهم، وهدى ورحمة لمن يؤمن به إيمانا يبعثه على العمل بما أمر به، والانتهاء عما نهى عنه.
انظر إليه تجده قد أوضح أصول الدين العامة بما لا يطلب معه زيادة لمستزيد، فنعى على المقلدين الأخذ بآراء من تقدمهم من آبائهم ورؤسائهم دون بحث ولا تمحيص في مثل قوله: « إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ » وكرر القول ببطلان التقليد وضلال المقلدين، وحث على النظر والاستدلال والاعتماد على البرهان في مثل قوله: « قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ » وبهذا كان الإسلام دين العقل والفطرة، وينبوع الهدى والحكمة والرحمة.
وحين وجد الناس افتنّوا في الشرك، وفرقوا بين توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية فظنوا أن الإيمان بوحدة الرب خالق الكون - كاف في الإيمان ولا يضر التوجه إلى غيره من المقربين بالدعاء وطلب ما يعجز المرء عن نيله من طريق الأسباب، ظنا منهم أن التوسل به إليه وشفاعته عنده مما يرضيه - أبطل هذه الشبهات، وأزال هذه التعلات وبسط ذلك كل البسط. وأطنب فيه أيّما إطناب. إلى نحو ذلك من مسائل تبصّر المرء في دينه ودنياه. وتعرفه مبدأه ومنتهاه.
(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) أي هل ينتظرون إلا عاقبة ما وعدوا به على ألسنة الرسل من الثواب والعقاب، أي ليس أمامهم شيء ينتظرونه في أمره إلا وقوع تأويله وهو وقوع ما أخبر به من أمر الغيب الذي يقع في المستقبل في الدنيا ثم في الآخرة مما وعد به المؤمنين من نصر وثواب، والكافرين من خذلان وعقاب.
روي عن الربيع بن أنس أنه قال: لا يزال يقع من تأويله أمر حتى يتم تأويله يوم القيامة حين يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار فيتم تأويله يومئذ.
(يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ) أي يأتي تأويله ونهايته يوم القيامة وتزول كل شبهة فيقول الذين نسوه من قبل أي تركوه وجعلوه كالشيء المنسى وأعرضوا عنه فلم يهتدوا به: قد جاءت رسل ربنا بالحق، أي قد تبين أنهم قد جاءوا بما هو متحقق ثابت، فتمارينا فيه وأعرضنا عنه حتى حق علينا الجزاء.
ثم ذكر حالهم في ذلك اليوم وتلهفهم على النجاة فيتمنون إما شفاعة الشافعين أو رجوعهم إلى الدنيا ليصلحوا أعمالهم فقال:
(فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا، أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ؟) أي إنهم يتمنون الخلاص بكل وسيلة ممكنة، إما بشفاعة الشفعاء، وإما بالرجوع إلى الدنيا ليعملوا فيها غير ما كانوا يعملون في حياتهم الأولى فيكونوا أهلا لمرضاة ربهم.
وإنما تمنّوا الشفعاء وتساءلوا عنهم، من حيث كان من أسس الشرك أن النجاة عند الله إنما تكون بوساطة الشفعاء، وعند ما يستبين لهم الحق الذي جاءت به الرسل وهو أن النجاة إنما تكون بالإيمان الصحيح والعمل الصالح يتمنون لو يردون إلى الدنيا ليعملوا بما أمرهم به الرسل.
(قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي هم قد غبنوا أنفسهم حظوظها وباعوا نعيم الآخرة الدائم بالخسيس من عرض الدنيا الزائل، ويومئذ يغيب عنهم ما كانوا يفترون من خبر الشفعاء ومقالاتهم التي كانوا يقولونها كقولهم في معبوداتهم « هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ ».
وخلاصة ذلك - إنهم قد خسروا أنفسهم بتدنيسها بالشرك والمعاصي وعدم تزكيتها بالفضائل والأعمال الصالحة، فخسروا حظوظهم فيها.
[سورة الأعراف (7): آية 54]
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54)
تفسير المفردات
الرب: هو السيد والمالك والمدبر والمربي، والإله: هو المعبود الذي يدعى لكشف الضر أو جلب النفع ويتقرب إليه بالأقوال والأعمال التي يرجى أن ترضيه، والله: اسم الخالق الخلق أجمعين، ولا يثبت الموحّدون ربا سواه، وأكثر المشركين يقولون إنه أكبر الأرباب أو رئيسهم وأعظم الآلهة، وكان مشركو العرب لا يثبتون ربا سواه، وإنما يعبدون آلهة تقربهم إليه، والسموات والأرض: يراد بهما العالم العلوي والعالم السفلي، واليوم: الزمن الذي يمتاز عن غيره بما يحدث فيه كامتياز اليوم المعروف بما يحده من النور والظلام، وامتياز أيام العرب بما كان يقع فيها من الحرب والخصام، وليست هذه الأيام الستة من أيام الأرض وهي التي مجموع ليلها ونهارها أربع وعشرون ساعة، فإن هذه إنما وجدت بعد خلق هذه الأرض، فكيف يعدّ خلقها بأيام منها، ولأن الله تعالى يقول « وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ » ويقول في وصف يوم القيامة « فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ » والعرش لغة: كل شيء له سقف، ويطلق على هودج للمرأة يشبه عريش الكرم، وعلى سرير الملك وكرسيه في مجلس الحكم والتدبير، والاستواء لغة: استقامة الشيء واعتداله، واستوى الملك على عرشه أي ملك، وثلّ عرشه أي هلك، وغشّى الشيء الشيء: ستره وغطاه، وأغشاه إياه: جعله يغشاه أي يغطّيه ويستره، ومنه إغشاء الليل النهار، وحثيثا أي مسرعا، من قولهم فرس حثيث السير أي سريعه، بأمره أي بتدبيره وتصرفه. مسخرات أي مذلّلات خاضعات لتصرفه، منقادات لمشيئته والخلق: التقدير والمراد هنا الإيجاد بقدر تبارك الله: تعاظمت بركاته والبركة: الخير الكثير الثابت.
المعنى الجملي
علمت مما سلف من قبل أن الأسس التي عنى القرآن الكريم بشأنها هي التوحيد والنبوة والمعاد والقضاء والقدر، وإثبات المعاد موقوف على إثبات الوحدانية لله والعلم الشامل والقدرة التامة، ولما بسط القول فيما سلف في أمر المعاد وبين فئات الناس في ذلك اليوم وما يدور من حوار بين أصحاب النار وأصحاب الجنة - قفّى على ذلك بذكر الخلق والتكوين وبيان مقدوراته تعالى وعظيم مصنوعاته، لتكون دليلا على الربوبية والألوهية وأنه لا معبود سواه.
الإيضاح
(إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) يخاطب سبحانه الناس كافة بأن ربكم واحد وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ودبّر أمورهما فيجب عليكم أن تعبدوه وحده، إذ لا إله لكم غيره.
وقد جاء في معنى الآية قوله في سورة حم السجدة « قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدادًا ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ. فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها، وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظًا، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ »
وقوله في سورة الأنبياء: « أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقًا فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ، أَفَلا يُؤْمِنُونَ؟ ».
وبالتأمل في هذه الآيات نستخلص منها الأمور الآتية:
(1) إن المادة التي خلقت منها السموات والأرض كانت دخانا أي مثل الدخان.
(2) إن هذه المادة الدخانية كانت واحدة ثم فتق الله رتقها أي التئامها بأن فصل بعضها من بعض، فخلق منها هذه الأرض والسموات السبع.
(3) إن خلق الأرض كان في يومين، وأن تكون اليابسة والجبال الرواسي فيها وأنواع النبات والحيوان كان في يومين آخرين تتمة أيام أربع.
(4) إن جميع الأحياء النباتية والحيوانية خلقت من الماء.
(5) إن اليوم الأول من أيام خلق الأرض هو الزمن الذي كانت فيه كالدخان حين فتقت من رتق المادة العامة التي خلق منها كل شيء سواء أكان ذلك بواسطة أم بدونها.
(6) إن اليوم الثاني هو الزمن الذي كانت فيه مائية بعد أن كانت بخارية أو دخانية.
(7) إن اليوم الثالث هو الزمن الذي تكونت فيه اليابسة ونتأت منها الرواسي فتماسكت بها (8) إن اليوم الرابع هو الزمن الذي ظهرت فيه أجناس الأحياء من الماء وهي النبات والحيوان.
(9) إن السماء - العالم العلوي بالنسبة إلى أهل الأرض - قد سوّيت أجرامها من مادتها الدخانية في يومين آخرين أي زمنين شبيهين بالزمنين اللذين خلق فيهما جرم الأرض.
وما استنبط من هذه الآيات يوافق ما أقره علماء الفلك في العصر الحديث، فقد قالوا: إن المادة التي خلقت منها الأجرام السماوية وخلقت منها الأرض كانت سديما، وكانت واحدة رتقا ثم انفصل بعضها من بعض، وكانت مؤلفة من أجزاء دقيقة متحركة تجمّع بعضها إلى بعض، بمقتضى قانون الجاذبية فتكون منها كرة عظيمة تدور على محورها واشتعلت من شدة الحركة فكانت ضياء ونورا تصحبه حرارة شديدة، وهذه الكرة العظيمة في عالمنا هي التي نسميها بالشمس والكواكب الدراري التابعة لها فيما نرى ونشاهد ومنها أرضنا، انفتقت من رتقها وانفصلت من جرمها وكانت مشتعلة مثلها وتدور على محاورها.
ثم إن الأرض تحولت من طور الغازية المشتعلة إلى طور المائية بنظام مقدر في أزمنة طويلة، إذ كان الأكسجين والإيدروجين وهما العنصران اللذان يتكون منهما الماء يرتفعان في الجو لخفتهما فيبردان فيكونان نحارا فماء وما زال أمرها كذلك حتى غلب عليها طور المائية.
ثم تكونت اليابسة في هذا الماء بسبب حركة أجزاء المادة وتجمع بعضها مع بعض بنسب ومقادير مختلفة، ثم تولدت فيها المعادن على أنواع شتى، وما زالت تبرد قشرتها الظاهرة وتجفّ شيئا فشيئا حتى صلحت لتوالد النبات والحيوان فوجدت فيها الأحياء النباتية ثم الحيوانية.
ولا شك أن هذه الأقوال إن صحت كانت بيانا لما أجمل في الكتاب الكريم وإن لم تصح فالقرآن لا يناقض شيئا منها، ولكنها أقرب النظريات إلى سنن الكون وصفة عناصره البسيطة وحركتها، وتعتبر تفصيلا لخلق العالم أطوارا بسنن ثابتة وتقدير منظم.
وقد أرشد الكتاب الكريم إلى مثل هذه الحقائق في نحو قوله: « إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ » وقوله حكاية عن رسوله نوح ﷺ مخاطبا قومه: « ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقارًا. وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوارًا، أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقًا. وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا. وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجًا ».
فهذه الحقائق العلمية التي بينهما القرآن ولم يكن أحد من المخاطبين في عصر التنزيل يعرفها - من أكبر الأدلة على إعجازه وأنه من كلام العليم الخبير بكل شيء لا من كلام البشر.
وهذا النظام والتدريج في الخلق من الدلائل على الإرادة والاختيار والحكمة ووحدانية الخالق، فإن ما لا نظام فيه قد يظن أن وجوده أمر اتفاقي أو من فعل الكثير لا من فعل الواحد، فإنك ترى الفرق واضحا بين كومة من الحصى تراها في الصحراء وبين حصن مشيد فيه جميع العدد والآلات المعدة للقتال.
وما ورد في الأخبار مما يدل على أن هذه الأيام الستة هي من أيام دنيانا كحديث أحمد ومسلم عن أبي هريرة قال « أخذ رسول الله ﷺ بيدي فقال: « خلق الله عز وجل التربة يوم السبت وخلق الجبال فيها يوم الأحد وخلق الشجر فيها يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الرواسي يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل » فهو من الإسرائيليات التي لم يصح فيها حديث مرفوع - إلى أن هذا الحديث مردود من جهة متنه لمخالفته لنص كتاب الله، ومن جهة سنده لأنه مروي عن حجاج بن محمد الأعور عن ابن جريج وقد اختلط عقله في آخر عمره، ومن ثم قال الحافظ ابن كثير بعد أن أورد الحديث في تفسيره: وفيه استيعاب الأيام السبعة والله تعالى قال: « فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ » ولهذا تكلم البخاري وغير واحد من الحفاظ فيه وجعلوه من رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار وليس مرفوعا ا هـ.
(ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) أي إنه تعالى قد استوى على عرشه بعد تكوين هذا الملك يدبر أمره ويصرّف نظامه بحسب تقديره الذي اقتضته حكمته.
وفي معنى الآية قوله في سورة يونس: « إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ».
واستواؤه تعالى على العرش: هو استقامة أمر السموات والأرض وانفراده بتدبيرهما، والإيمان بذلك غير موقوف على معرفة حقيقة ذلك التدبير ولا معرفة صفته ولا كيف يكون، فالصحابة رضوان الله عليهم والأئمة من بعدهم لم يشتبه أحد منهم فيه، وقد أثر عن ربيعة شيخ الإمام مالك أنه سئل عن قوله: « اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ » كيف استوى؟ فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق.
وقال الحافظ ابن كثير: مذهب السلف الصالح مالك والأوزاعي والثّورى واللّيث ابن سعد والشافعي وأحمد وإسحق بن راهويه وغيرهم من أئمة المسلمين قديما وحديثا إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه. وقال نعيم بن حماد شيخ البخاري: من شبّه الله بخلقه كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه، فمن أثبت ما وردت به الآثار الصريحة والأخبار الصحيحة على الوجه الذي يليق بجلال الله ونفى عن الله النقائص فقد سلك سبيل الهدى ا هـ.
(يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا) أي إنه تعالى جعل الليل وهو الظلمة يغشى النهار وهو ضوء الشمس على الأرض أي يتبعه ويغيب على المكان الذي كان فيه ويستره حال كون الطلب حثيثا أي بسرعة، المراد أنه يعقبه سريعا كالطالب له لا يفصل بينهما شيء.
ويظهر ذلك الطلب السريع أتم الظهور بما أثبته العلم حديثا من كروية الأرض وأنها تدور على محورها حول الشمس، فيكون نصفها مضيئا بنورها دائما ونصفها الآخر مظلما دائما، وقد قال بهذا القول كثير من علماء الإسلام كالغزالي والرازي وابن تيمية وابن القيم وغيرهم.
وهذه الجملة كالدليل على ما قبلها، فإنه بعد أن أخبر عباده باستوائه على العرش وتدبيره لجميع المخلوقات - أراهم ذلك عيانا فيما يشاهدونه منها ليضم العيان إلى الخبر وتزول الشبه - إلى ما في تعاقب الليل والنهار من المنافع العظيمة والفوائد الجليلة، إذ بتعاقبهما الحياة وتكمل المنفعة والمصلحة.
(وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) أي وخلق هذه الأشياء حال كونها مذللات خاضعات لتصرفه منقادات لحكمه.
(أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) أي ألا إن الله الخلق، فهو الخالق المالك لذوات المخلوقات وله فيها الأمر أي التصرف والتدبير، إذ هو المالك لها لا شريك له في ملكه.
ومن هذا التدبير ما سخر له الملائكة من نظام العالم وتنفيذ سننه في خلقه، كما جاء في قوله: « فَالْمُدَبِّراتِ أَمْرًا » ومن ذلك الوحي الذي ينزل به الملائكة على الرسل كما جاء في قوله: « اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ ».
وفي معنى الآية قوله: « إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ » وقوله: « فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ » وقوله: « لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ » وجاءت هذه الجملة توكيدا لما قبلها لبيان أنه هو الذي خلق السموات والأرض وهو الذي دبرهما وصرفهما بحسب إرادته.
(تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي تعالى الله بوحدانيته وألوهيته، وتعظم بالتفرد بربوبيته، وأن كل ما في هذا العالم من الخيرات الكثيرة والنعم العظيمة فهو منه، فيجب على عباده أن يشكروه عليها ويعبدوه دون غيره مما عبدوه معه وليس له من الخلق ولا من الأمر شيء.
[سورة الأعراف (7): الآيات 55 الى 56]
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
تفسير المفردات
التضرع: التذلل، وهو إظهار ذل النفس من قولهم ضرع فلان لفلان وتضرّع له: إذا أظهر الذل في معرض السؤال، والخفية: ضد العلانية من أخفيت الشيء أي سترته، والاعتداء: تجاوز الحدود، ومحبة الله للعمل: ثوابه عليه، ومحبته للعامل: رضاه عنه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عز اسمه الأدلة على توحيد الربوبية - قفّى على ذلك بالأمر بتوحيد الإلهية بإفراده تعالى بالعبادة، وروحها ومخّها الدعاء والتضرع له.
الإيضاح
(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً) أي ادعوا ربكم ومتولى أموركم حال كونكم متضرعين مبتهلين إليه مخفين دعاءكم.
وفي هذا إيماء إلى أن الدعاء في الخفية إن لم يكن واجبا فهو مندوب على الأقل، ويدل على ذلك وجوه:
(1) إنه تعالى أثنى على زكريا فقال: « إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا » أي إنه أخفاه عن العباد وأخلصه لله وانقطع به إليه.
(2) روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كنا مع النبي ﷺ في سفر فجعل الناس يجهرون بالتكبير فقال رسول الله ﷺ « أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم » رواه مسلم.
(3) روى أنه عليه الصلاة والسلام قال: « دعوة في السر تعدل سبعين دعوة في العلانية » وقال: « خير الذكر الخفي، وخير الرزق ما يكفى ».
(4) روى عن الحسن البصري أنه قال: إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل ليصلى الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزّور وما يشعرون به، ولقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعلموه في السر فيكون علانية أبدا، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت، إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله تعالى يقول: « ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً » ا هـ.
(5) إن النفس شديدة الرغبة في الرياء والسمعة، فإذا رفع المرء صوته بالدعاء امتزج الرياء به، فلا يبقى فيه فائدة البتة، ومن ثم كان الأولى الإخفاء ليبقى مصونا عن الرياء.
وفصّل بعض العلماء فقال: إن التضرع بالجهر المعتدل يحسن في حال الخلوة والأمن من رؤية الناس للداعى ومن سماعهم لصوته، فلا جهره يؤذيهم، ولا الفكر فيهم يشغله عن التوجه إلى الرب وحده، أو يفسد عليه دعاءه بحب الرياء والسمعة، ويحسن الإسرار في حال اجتماع الناس في المساجد والمشاعر وغيرها إلا ما ورد فيه رفع الصوت من الجميع كالتلبية في الحج وتكبير العيدين.
وإذ كان الليل سترا ولباسا شرع فيه الجهر في قراءة الصلاة - إلى أنه يطرد الوسواس، ويقاوم فتور النّعاس ويعين على تدبر القرآن، وبكاء الخشوع للرحمن، لدى المتهجدين في خلواتهم.
(إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) أي المتجاوزين ما أمروا به، ونحو الآية قوله: « تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها، وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ».
وللاعتداء في الدعاء مظاهر شتى:
(1) اعتداء خاص بالألفاظ كالمبالغة في رفع الصوت والتكلف في صيغ الدعاء.
(2) اعتداء خاص بالمعنى وهو طلب غير المشروع من وسائل المعاصي ومقاصدها كضرر العباد وطلب إبطال سنن الله في الخلق، أو تبديلها كطلب النصر على الأعداء مع ترك وسائله كأنواع السلاح والعتاد، وطلب الغنى بلا كسب، وطلب المغفرة مع الإصرار على الذنب مع أن الله يقول « فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا. وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ».
(3) اعتداء بالتوجه فيه إلى غير الله ليشفع له عنده، وهذا شر أنواع الاعتداء كما قال « فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا » ومن طلب ذلك من غير الله فقد اتخذه إلها، لأن الإله هو المعبود كما روى أحمد عن النعمان بن بشير أن النبي ﷺ قال « الدعاء هو العبادة » وروى الترمذي عن أنس مرفوعا « الدعاء مخ العبادة » وروى عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ « سلوا الله لي الوسيلة، قالوا وما الوسيلة؟ قال: القرب من الله عز وجل، ثم قرأ « يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ » وابتغاء ذلك يكون بدعائه وعبادته بما شرعه على لسان رسوله دون غيره.
وقد جاءت آيات كثيرة في الإنكار على المشركين دعاء غير الله وكونه عبادة له وشركا بالله، ولكن مدعي العلم الذين يقولون على الله: يقولون لا بأس بدعاء الأولياء والصالحين عند قبورهم والتضرع والخشوع لهم، ويكون توسلا بهم إلى الله ليقربوهم منه بشفاعتهم، لا عبادة لهم. وقد علمت أن التوسل إنما هو التقرب إلى الله بما يرتضيه وبما شرعه من عبادته دون غيرها، وآيات الكتاب الكريم صريحة في ذلك.
نعم إن طلب الدعاء من المؤمنين مشروع من الأحياء لا من الأموات، ويسمى ذلك توسلا لأنه قد شرعه الله كما توسل عمر والصحابة بالعباس بصلاة الاستسقاء وما بعدها من الدعاء.
وما ذم الله المشركين إلا لأنهم أشركوا مع الله غيره في الدعاء، وهم كانوا يؤمنون بالله وبعضهم كان يؤمن باليوم الآخر، ولكن طرأ عليهم الشرك الذي أحبط أعمالهم، وهكذا يحبط إيمان من أشرك من المسلمين بدعاء غير الله.
(وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) أي ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاح الله لها بما خلق فيها من المنافع وما هدى الناس إليه من استغلالها والانتفاع بتسخيرها لهم وامتنانه بذلك في مثل قوله « وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ».
وهذا الإفساد شامل لإفساد النفوس بالقتل وقطع الأعضاء، وإفساد الأموال بالغصب والسرقة، وإفساد الأديان بالكفر والمعاصي، وإفساد الأنساب بالإقدام على الزنا، وإفساد العقول بشرب المسكر ونحوه.
والخلاصة - إن الإفساد شامل لإفساد العقول والعقائد والآداب الشخصية والاجتماعية والمعايش والمرافق من زراعة وصناعة وتجارة ووسائل تعاون بين الناس.
وإصلاح الله تعالى لحال البشر كان بهداية الدين وإرسال الرسل، وتمم ذلك ببعثة خاتم الأنبياء والمرسلين الذي كان رحمة للعالمين، فبه أصلحت عقائد البشر، وهذبت أخلاقهم وآدابهم بما جمع لهم فيها من مصالح الروح والجسد، وما شرع لهم من التعاون والتراحم، وبما حفظ لهم من العدل والمساواة، وبما شرع لهم من الشورى المقيدة بقاعدة درء المفاسد وحفظ المصالح، وبذا امتاز به دينهم عن بقية الأديان.
انظر إلى الأمم ذوات الحضارة والمدنية ترها أصلحت كل شيء من معدن ونبات وحيوان، ولكنها عجزت عن إصلاح نفس الإنسان، ومن ثم تحوّل كل ما هدوا إليه من وسائل العمران إلى إفساد نوع الإنسان، وتعادت الشعوب وتنازعت على الملك والسلطان، وأباحت الكفر والعصيان، وبذل الثروة في سبيل التنكيل بالخصوم والجناية على الأعداء ولو بالجناية على أنفسهم، وما الحروب القائمة في مشارق الأرض ومغاربها بين الدول الكبرى والتي أكلت الحرث والنسل وأزهقت أرواح الملايين من الناس بين حين وآخر إلا شاهد صدق على ما نقول.
وبعد أن بين في الآية الأولى شرط الدعاء أعاد الأمر به إيذانا بأن من لا يعرف أنه محتاج إلى رحمة ربه مفتقر إليها، ولا يدعو ربه تضرعا وخفية ولا يخاف من عقابه ولا يطمع في غفرانه بكون أقرب إلى الإفساد منه إلى الإصلاح فقال:
(وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا) الخوف توقع مكروه يحصل بعد، والطمع توقع محبوب يحصل كذلك أي ادعوه خائفين من عقابه على مخالفتكم لشرعه المصلح لأنفسكم وأجسامكم، طامعين في رحمته وإحسانه في دنياكم وآخرتكم.
ودعاء المولى حين الشعور بالعجز والافتقار إليه مما يقوّى الأمل بالإجابة، ويحول بينها وبين اليأس إذا تقطعت الأسباب، وجهلت وسائل النجاح.
والدعاء مخ العبادة ولبّها، وإجابته مرجوّة متى استكملت شرائطها وآدابها، فإن لم تكن بإعطاء الداعي ما طلبه فربما كانت بما يعلم الله أنه خير له منه.
ثم بين فائدة الدعاء وعلّل سبب طلبه فقال:
(إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أي إن رحمته تعالى قريبة من المحسنين أعمالهم، لأن الجزاء من جنس العمل كما قال « هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ ».
فمن أحسن في عبادته نال حسن الثواب، ومن أحسن في الدعاء أعطى خيرا مما طلبه، أو مثل ما طلبه.
وقد طلب الله الإحسان في كل شيء يهدى إليه دين الفطرة، وحرم الإساءة في كل شيء وجعل جزاءها من جنسها كما قال: « لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ».
وقال ﷺ « إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبحة، وليحدّ أحدكم شفرته وليرح ذبيحته » رواه مسلم.
ومن هذا تعلم أنه طلب الإحسان إلى الحيوان والرفق به حين ذبحه حتى لا يتعذب، كما حرم أكل الموقوذة وهي التي تضرب بغير محدد حتى تنحل قواها وتموت. وطلب الإحسان في قتال الأعداء، لأنه في حكم الضرورات التي تقدر بقدرها ويتقّى ما يمكن الاستغناء عنه كما قال: « فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ».
فقد طلب إلينا في هذه الآية أن نضرب رقاب الأعداء حين قتالهم، لأنه أسرع إلى قتلهم وأبعد عن تعذيبهم بمثل ضرب الرءوس وتقطيع الأعضاء، حتى إذا ظهر لنا عليهم الغلب بالإثخان فيهم أمرنا بترك القتل وأن نعمد إلى الأسر وبعد ذلك إما أن نمن على الأسرى بالعتق، أو نفاديهم بمن أسرمنا.
[سورة الأعراف (7): الآيات 57 الى 58]
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحابًا ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
تفسير المفردات
الريح: الهواء المتحرك، والرياح عند العرب أربع بحسب مهابّها من الجهات الأربع: الشّمال والجنوب، وسميا كذلك باسم الجهة التي يهبان منها. والصّبا أو القبول وهي الشرقية وقد ينسبونها إلى نجد كما ينسبون الجنوب إلى اليمن والشمال إلى الشام. والدّبور، وهي الغربية. والريح التي تنحرف عن الجهات الأصلية فتكون بين اثنتين منها يسمى النّكباء. قال الراغب: كل موضع ذكر الله فيه إرسال الريح بلفظ الواحد كان للعذاب وكل موضع ذكر فيه بلفظ الجمع كان للرحمة، وفى الخبر « إنه ﷺ كان يجثو على ركبتيه حين هبوب الرياح ويقول: اللهم اجعلها لنا رياحا ولا تجعلها ريحا، اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك ».
وبشرا: مخفف بشرا واحدها بشير: كغدر جمع غدير، والرحمة هنا المطر، وأقلّت: رفعت قال في المصباح: كل شيء حملته فقد أقللته، والسحاب: الغيم واحده سحابة، والثقال منه: المشبعة ببخار الماء، وسقناه: سيرناه، والبلد والبلدة: الموضع من الأرض عامرا كان أو خلاء، وبلد ميت: أرض لا نبات فيها ولا مرعى، والثمرات واحدها ثمرة، والثمرة واحدة الثمر: وهو الحمل الذي تخرجه الشجرة سواء أكل أولا، فيقال ثمر الأراك وثمر النخل والعنب، والنكد كل شيء خرج إلى طالبه بتعسر يقال رجل نكد (بفتح الكاف وكسرها) وناقة نكداء: خفيفة الدر صعبة الحلب، والتصريف: تبديل الشيء من حال إلى حال، ومنه تصريف الرياح.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عز اسمه تفرده بالملك والملكوت وتصرفه في العالم العلوي والسفلى وتدبيره الأمر وحده، وطلب إلينا أن ندعوه متضرعين خفية وجهرا، ونهانا عن الإفساد في الأرض بعد إصلاحها، وأبان لنا أن رحمته قريب من المحسنين - قفّى على ذلك بذكر بعض ضروب من رحمته، إذ أرسل إلينا الرياح وما فيها من منافع للناس - فبها ينزل المطر الذي هو مصدر الرزق وسبب حياة كل حي في هذه الأرض، وفى ذلك عظيم الدلالة على قدرته تعالى على البعث والنشور.
الإيضاح
(وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحابًا ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) أي إن ربكم المدبّر لأمور الخلق، هو الذي يرسل الرياح بين يدي رحمته: أي بين الأمطار وأمامها حال كونها مبشرات بها، فينشىء بها سحابا ثقالا لكثرة ما فيها من الماء، حتى إذا أقلتها ورفعتها إلى الهواء ساقها لإحياء بلد ميت قد عفت مزارعه، ودرست مشاربه، وأجدب أهله.
ونحو الآية قوله: « وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحابًا فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ ».
(فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ) أي فأنزلنا بالسحاب الماء، إذ قد ثبت أنه حينما يسخن الهواء القريب من سطوح البحار وغيرها بتأثير الحرارة، يرتفع في الجو ويبرد لوصوله إلى منطقة باردة، أو لا متزاجه بتيار من الهواء البارد، فإذا برد تكاثف منه بخار الماء وتكوّن السحاب، فالسحاب ناشىء من تكاثف بخار الماء من الهواء في الطبقات العالية من الجو، وهو لا يكون ثابتا في مكان، بل يسير في اتجاه أفقى مدفوعا بقوة الريح، ويتراوح بعده عن الأرض بين ميل وعشرة أميال، ويكون معتما مشبعا بالماء إذا كان قريبا من سطح الأرض، وهو الذي ينشأ عنه المطر لتجمع قطيرات الماء التي فيه بعضها مع بعض بتأثير البرودة، فتتكوّن قطيرات كبيرة تسقط من خلاله نحو الأرض لثقلها بحسب سنة الله في جاذبية الثقل كما قال تعالى في سورة الروم: « اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ - المطر - يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ » وفى سورة النور « أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي - يسوق - سَحابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكامًا - مجتمعا - فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ » والمراد بالسماء السحاب، إذ هي لغة: كل ما علا الإنسان وأظله.
وقد أثبت العلم ودلت المشاهدة أن سكان الجبال الشامخة يبلغون في العلو حذاء السحاب المطر أو يتجاوزونه إلى ما فوقه فيكون دونهم كما شاهد ذلك بعض النازلين في بعض الفنادق في جنيف بسو يسرا.
(فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي فأخرجنا بالماء أنواع الثمار على اختلاف طعومها وألوانها وروائحها، فتخرج كل أرض أنواعا مختلفة منها تدل على قدرة الله وعلمه ورحمته وفضله كما قال: « وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ، وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ».
وبعد أن ذكّرهم بهذه الآيات قفّى على ذلك بما يزيل إنكارهم للبعث فقال:
(كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى) أي ومثل هذا الإخراج لأنواع النبات من الأرض الميتة بإحيائها بالماء نخرج الموتى من الناس وغيرهم، إذ القادر على هذا قادر على ذلك.
(لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) هذا الشّبه فيزول استبعادكم للبعث بنحو قولكم « مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟ » وقولكم « أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُرابًا وَعِظامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ » وقولكم « أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُرابًا ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ».
فأمثال هذه المقالات الدالة على إنكار خروج الحي من الميت تزول إذا أنتم تذكرتم خروج النبات الحي من الأرض الميتة، إذ لا فارق بين حياة النبات وحياة الحيوان، فكل منهما خاضع لقدرة الإله القادر على كل شيء.
والحياة في عرف المخاطبين كانت تعرف بالتغذي والنمو في النبات والحس والحركة في الحيوان.
وما يقوله علماء الطبيعة الآن من أن الحي لا يولد إلا من حي سواء في ذلك الحيوان والنبات، فالنبات الذي يخرج في الأرض الفقراء بعد سقيها بالماء لا بد أن تكون له بذور فيها حياة كامنة لا تظهر إلا بالماء - فمثل هذه الحياة لم يكن معروفا عند واضعى اللغة، على أنه لا ينفى صحة خروج النبات الحي من الأرض الميتة، إذ لو لا تغذى البذور والجذور بمواد الأرض الميتة بسبب الماء لما نبتت.
والقرآن الكريم قد حدثنا بأن الأرض تفنى بتفرق مادتها ثم يعيدها الله كما بدأها فقال « إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا. وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا. فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا » فهذه الرجة هي التي سميت في الآيات الأخرى بالقارعة والصاخة، إذ ربما يقرعها كوكب ويصطدم بها فتتفتت جبالها وتكون كالهباء المتفرق في الجو المسمى بالسديم.
إعادة الموتى
جاء في الكتاب الكريم قوله: « كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ » وقوله: « كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ » وقوله: « قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ».
فأثبت في هؤلاء الآيات الإعادة وشبهها بالبدء، وهو تشبيه في جملة ذلك لا في تفصيله، فإنه كما خلق جسد الإنسان الأول خلقا ذاتيا مبتدأ ونفخ فيه الروح - يخلق أجسام أفراد الإنسان خلقا ذاتيا معادا، ثم ينفخ فيها أرواحها التي كانت بها أناسي في الحياة الدنيا، فما الأجساد إلا كالسكن للأرواح.
وليس بالبعيد على خالق العالم كله أن يعيد أجساد ألوف الملايين دفعة واحدة ولا سيما بعد أن أثبت العلم أنه يمكن تحليل بعض المواد المؤلفة من عناصر مختلفة، ثم إعادة تركيبها، وقد كان لتقدم الإنسان في العصر الحديث ومعرفته لكثير من ظواهر الكون أثر عظيم في تعرفنا لكثير من أخبار عالم الغيب وسهولة إدراك العقول لها، ومن ثم قال كثير من علماء العصر الحديث: ليس في العالم شيء مستحيل.
ولا يراد بحشر الأجساد حشرها بأعيانها لأجل وقوع الجزاء عليها، ألا ترى أن العلماء يقولون: إن الأجساد تتجدد في قليل من السنين. ومع ذلك لا يعتقد أحد من القضاة أن العقاب يسقط عن الجاني بانحلال أجزاء بدنه التي زاول بها الجناية وتبدل غيرها بها، فحقيقة الإنسان لا تتغير بهذا التبدل، إذ ليس هذا إلا كتبدل الثياب ونحوها، إذ المستحق للثواب والعقاب هو الروح، لأن مبنى الطاعة والعصيان الإدراكات والإرادات والأفعال والحركات.
والخلاصة - إن الإنسان الحقيقي هو الذرة التي تحل في القلب وفيها تحل الروح وتكسبها الحياة وتسرى منها إلى الهيكل الجسماني، فهذا الهيكل هو آلة قضاء أعمال تلك الذرة في هذا الكون واكتساب العلوم والمعارف، وهي مع الروح الحالّ فيها هما المخاطبان بالتكليف، وهما المعادان والمنعّمان والمعذبان إلى نحو ذلك.
وبعد أن ضرب الله إحياء البلاد بالمطر مثلا لبعث الموتى - ضرب اختلاف نتاج البلاد مثلا لما في البشر من اختلاف الاستعداد لكل من الهدى والكفر والرشاد والغي فقال:
(وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا) قوله والذي خبث أي والبلد الذي خبث لا يخرج نباته إلا نكدا، وأصل النكد هو العسر الممتنع من إعطاء الخير بخلا.
والمعنى - إن الأرض منها الطيبة الكريمة التربة التي يخرج نباتها بسهولة وينمى بسرعة ويكون كثير الغلّة طيب الثمرة، ومنها الخبيثة التربة كالخرّة - الحجرية - والسّبخة التي لا يخرج نباتها على قلته وخبثه إلا بعسر وصعوبة.
قال ابن عباس: هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر أي للبر والفاجر ا هـ أي إنه تعالى شبههما بالأرض الخيّرة والأرض السبخة، وشبه نزول القرآن بنزول المطر، فالأرض الخيّرة يحصل فيها بنزول المطر أنواع الأزهار والثمار، والأرض السبخة إن نزل عليها المطر لا تنبت من النبات إلا النذر القليل، فكذلك الروح الطيب النقي من شوائب الجهل ورذائل الأخلاق إذ اتصل به نور القرآن ظهرت فيه أنواع الطاعات والأخلاق الحميدة، والروح الخبيث الكدر وإن اتصل به نور القرآن لا يظهر فيه من المعارف وجميل الأخلاق إلا النذر القليل.
روى أحمد والشيخان والنسائي من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: قال ﷺ: « مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير، أصاب أرضا فكان منها نقيّة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب التي لا تشرب ولا تنبت - أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى منها إنما هي قيعان - أرض مستوية - لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به »
وقد فسر النبي ﷺ القسم الأول وهو الذي نفع وانتفع بالهادي والمهتدى، وفسر القسم الثالث وهو الذي لم ينفع ولم ينتفع بالجاحد وسكت عن القسم الثاني وهو الذي نفع غيره بعلمه ولم ينتفع به هو، لأن له أحوالا كثيرة فمنه المنافقون ومنه المفرطون في دينهم، والمشاهدة تدل على أن الطيبي الأخلاق يفعلون الخير والبر بلا تكلف، وأن الخبيثين لا يفعلون الخير ولا يؤدون الواجب إلا نكدا بعد إلحاف أو إيذاء حين الطلب أو إدلاء إلى الحكام.
(كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) أي مثل ذلك التصريف البديع نرّدد الآيات الدالة على القدرة الباهرة، ونكررها لقوم يشكرون نعمنا باستعمالها فيما تتم حكمتنا، وبذا يستحقون منا المزيد ويكافئون بالثواب عليها.
وختم هذه الآية بالشكر، إذ كان موضوعها الاهتداء بالعلم والعمل والإرشاد، والآية التي قبلها بالتذكر لما كان موضوعها الاعتبار والاستدلال.
قصص نوح عليه السلام
[سورة الأعراف (7): الآيات 59 الى 64]
لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحًا إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)
تفسير المفردات
اليوم هنا: يوم القيامة، والملأ: أشراف القوم لأنهم يملئون العيون بهجة ورواء بتأنقهم في زيّهم وتجميل منظرهم، والنصح: الإرشاد إلى المصلحة مع خلوص النية
من شوائب المكر، والذكر: الموعظة، وعلى رجل أي على لسانه، منكم أي من جنسكم، والفلك: السفينة، وعمين واحدهم عم: وهو ذو العمى، أو هو خاص بعمى القلب والبصيرة، والأعمى أعمى البصر كما قال زهير:
وأعلم علم اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عمي
المعنى الجملي
بعد أن ذكر - عظمت آلاؤه - الإنسان ومعاده وأن مردّه إلى الله في يوم تجازى فيه كل نفس بما كسبت - قفّى على ذلك بذكر قصص الأنبياء مع أممهم وإعراضهم عن دعوتهم، ليبين للرسول أن الإعراض عن قبول دعوة الأنبياء ليس ببدع في قومك، بل سبق به أقوام كثيرون، وفى ذلك تسلية له ﷺ - إلى ما فيه من التنبيه إلى أن الله لا يهمل أمر المبطلين، بل يمهلهم، وتكون العاقبة للمتقين، ومن العظة والاعتبار بما حل بمن قبلهم من النكال والوبال كما قال « لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ».
الإيضاح
(لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحًا إِلى قَوْمِهِ) أقسم ربنا جل ثناؤه للمخاطبين بهذه الآية من أهل مكة ومن جاورهم من العرب بأنه سبحانه أرسل نوحا إلى قومه منذرا لهم بأسه، ومخوّفهم سخطه، على عبادتهم غيره، وقد كانوا ينكرون الرسالة والوحي، إذ ليس عندهم من علوم الرسل والأمم شيء إلا ما يتلقونه من اليهود والنصارى في بلاد العرب والشام.
ونوح أول رسول أرسله الله إلى قومه المشركين كما هو رأى كثير من المحققين كما ثبت في حديث الشفاعة وغيره.
(فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) أي فدعا من كفر منهم إلى عبادة الله تعالى وحده، إذ ليس لهم إله غيره يتوجهون إليه في عبادتهم بدعاء يطلبون به ما لا يقدرون عليه بكسبهم، فرهم هو الخالق لكل شيء وبيده ملكوت كل شيء، وهو الإله الحق الذي يجب أن تتوجه إليه القلوب بالدعاء وغيره.
ثم ذكر السبب في الأمر بعبادته وحده، وترك أدنى شوائب الشرك، مثبتا للبعث والجزاء فقال:
(إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي إني أخاف عليكم عذاب يوم شديد هو له وهو يوم البعث والجزاء إذا لم تمتثلوا ما أمرتكم به.
(قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي قال له أشراف قومه: إنا لنراك في ضلال بيّن عن الحق بنهيك لنا عن عبادة آلهتنا: ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وهم شفعاؤنا عند الله ووسيلتنا إليه، فببركتهم يتقبّل منا صالح أعمالنا، ويعطينا سؤلنا، لما كانوا عليه من الصلاح والتقوى، ونحن لا نستطيع أن نوجه إليه دعواتنا دون وساطتهم، لما نجترحه من السيئات التي تبعدنا عن حظيرة ذلك القدس الأعظم.
وخلاصة مقالهم - أنت في غمرة من الضلال أحاطت بك، فجعلتك لا تجد إلى الصواب سبيلا.
(قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي قال نوح مجيبا لهم: يا قوم لم آمركم بما أمرتكم به من توحيد الله وإخلاص الطاعة له دون الآلهة والأنداد خروجا مني عن محجة الحق، وضلالا عن سبيل الرشاد، ولكني رسول من رب العالمين إليكم، أهديكم بأتباعي إلى ما يوصلكم إلى السعادة في دنياكم وآخرتكم، وأنقذكم من الهلاك الأبدى بالشرك بالله والمعاصي المدنسة للأنفس والمفسدة للأرواح.
ومن رحمة ربكم بكم ألا يدعكم في عمايتكم وشرككم الذي ابتدعتموه بجهلكم حتى يبين لكم الحق من الباطل على يد رسول من لدنه يسلك بكم السبيل السوي الموصل إلى النجاة.
(أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي) أي أرسلنى إليكم لأبلغكم ما طلب إلى تبليغه من التوحيد والإيمان واليوم الآخر والوحي والرسالة والملائكة والجنة والنار والآداب والمواعظ والأحكام العامة من عبادات ومعاملات إلى نحو ذلك.
(وَأَنْصَحُ لَكُمْ) بتحذيركم عقاب الله على كفركم به وتكذيبكم لي وردكم نصحي.
روى مسلم وأبو داود والنسائي عن تميم الداري أن رسول الله ﷺ قال: « الدين النصيحة، قلنا لمن يا رسول؟ قال: لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ».
(وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي وأنا في هذا التبليغ وذلك النصح على علم من الله أوحاه إلي لا تعلمون منه شيئا، كما إني أعلم من الله وشئونه ما لا تعلمون في نظام هذا العالم وما ينتهى إليه، كما أعلم ما بعده من أمر الآخرة والحساب والجزاء - فإذا نصحت لكم وأنذرتكم عاقبة شرككم من إنزال العذاب بكم في الدنيا إذا جحدتم وعاندتم، فإنما أنصح لكم عن علم يقينى لا تعلمونه.
(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي أكذبتم وعجبتم من أن جاءكم ذكر وموعظة من ربكم على لسان رجل منكم، ليحذّركم عاقبة كفركم ويعلمكم بما أعدّ لكم من العذاب على ذلك ولتتقوا بهذا الإنذار ما يسخط ربكم عليكم بالشرك في عبادته، والإفساد في أرضه، وليعدّكم بالتقوى لرحمته التي ترجى لكل من أجاب الدعوة واتقى.
وفي قوله: على رجل منكم، بيان لشبهتهم على الرسالة وهي أن الرسول بشر مثلهم، فكأنهم كانوا يرون أن الاشتراك في البشرية والصفات العامة يقتضى التساوي في جميع الخصائص والمزايا ويمنع الانفراد بشىء منها، والمشاهدة أكبر برهان على بطلان هذه القضية، فالتفاوت في الغرائز والصفات الفاضلة والاختلاف في القوى العقلية والمعارف والأعمال الكسبية - جدّ عظيم في البشر، وليس في الأنواع الأخرى ما يشبه الإنسان في ذلك - إلى أنه لو فرض التساوي بينهم، فهل هذا يمنع أن يختص الله بعض عباده بما هو فوق المعهود في الغرائز والمكتسب بالتعلم؟ كلا، إنه تعالى قدير على ذلك، وقد قضت به مشيئته، ونفذت به قدرته.
(فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) أي فكذبه جمهورهم وأصرّوا على ذلك وخالفوا أمر ربهم ولجّوا في طغيانهم يعمهون، فأنجيناه من الغرق والذين سلكهم معه في الفلك من المؤمنين: « وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ » وقد جاءت القصة مفصلة في سورة هود، قيل كانت عدتهم ثلاث عشرة: نوح وبنوه الثلاثة سام وحام ويافث وأزواجهم وستة ممن كانوا آمنوا به.
(وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمًا عَمِينَ) أي وأغرقنا من كذب بآياتنا بالطوفان بسبب تكذيبهم، وما كان ذلك التكذيب إلا لعمى بصائرهم الذي حال بينهم وبين الاعتبار بالآيات وفهمهم للدلائل الدالة على وحدانية الله وقدرته على إرسال الرسل وحكمته في ذلك، والثواب والعقاب في يوم الجزاء، يوم يحشر الناس لرب العالمين، « يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكنهم من شدة العذاب حيارى ».
قصص هود عليه السلام
[سورة الأعراف (7): الآيات 65 الى 72]
وإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُودًا قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (66) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72)
تفسير المفردات
الأخ هنا: الأخ في النسب، وتقول العرب في أخوة الجنس يا أخا العرب، والسفاهة: خفة العقل، والآلاء واحدها ألى: وهي النعمة، والرجس: العذاب، والغضب: الانتقام، والمجادلة: المماراة والمخاصمة، والسلطان: الحجة والدليل، والدابر: الآخر، ويراد به الاستئصال أي أهلكناهم جميعا.
المعنى الجملي
أخرج ابن إسحق من طريق الكلبي قال: إن عادا كانوا أصحاب أوثان يعبدونها - اتخذوها على مثال ود وسواع ويغوث ونسر، فاتخذوا صنما يقال له صمود وآخر يقال له الهتار، فبعث الله إليهم هودا وكان من قبيلة يقال لها الخلود، وكان من أوسطهم نسبا وأصبحهم وجها، فدعاهم إلى عبادة الله وأمرهم أن يوحّدوه، وأن يكفوا عن ظلم الناس فأبوا ذلك وكذبوه: « وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟ ».
وكانت منازلهم بالأحقاف - الرمل - فيما بين عمان إلى حضرموت باليمن، وكانوا مع ذلك قد أفسدوا في الأرض كلها وقهروا أهلها بفضل قوتهم التي آتاهم الله ا هـ.
الإيضاح
(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُودًا) أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم في النسب هودا، والحكمة في كون رسول القوم منهم أن يفهمهم ويفهم منهم، وأن يكونوا أقرب إلى إجابة دعوتهم لمعرفتهم شمائله وأخلاقه.
(قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) أي قال هود لهم: يا قوم أفردوا العبادة لله ولا تجعلوا معه إلها غيره.
(أَفَلا تَتَّقُونَ) ربكم وتبتعدون عما يسخطه من الشرك والمعاصي لتنجوا من عقابه؟ وجاء في سورة هود: « أَفَلا تَعْقِلُونَ ».
وقد يكون قال لهم هذا وذاك في وقت واحد أو يكون قد قال لهم هذا مرة وذاك أخرى.
(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ) أي قال الملأ الذين جحدوا توحيد الله وأنكروا رسالة هود إليهم: إنا لنراك في ضلال عن الحق والصواب بتركك ديننا وعبادة آلهتنا الذين اتخذت لهم الأمة الصور والتماثيل تخليدا لذكراهم والتقرب بشفاعتهم إلى ربنا وربهم.
ووصف الملأ هنا بالكفر دون ملأ قوم نوح، لأن منهم من كان قد آمن.
(وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ) في قيلك إني رسول من رب العالمين، وفى قولهم هذا إيماء إلى تكذيبهم كل رسول، إذ هم قد عبروا عن أصحاب هذه الدعوى بالكاذبين وجعلوه واحدا منهم.
(قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي ليس بي أي ضلالة عن الحق والصواب كما تدّعون، ولكني رسول من رب العالمين أرسلنى إليكم، لأبلغكم رسالات ربى وأؤديها إليكم، والله أعلم حيث يجعل رسالته، فلا يختار لها إلا من عرفوا برجحان العقل وحصافة الرأي وكمال الصدق.
ثم بين وظيفة الرسول وحاله عليه السلام فيما بلغ فقال:
(أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ) أي أبلغكم ما أرسلت به من التكاليف، وإني ناصح لكم فيما أبلغكموه وأدعوكم إليه، أمين فيما أبلغ عن الله، فلا أكذب عليه في وحيه إلي.
وفي إجابة هؤلاء الأنبياء لأقوامهم بتلك الإجابة الصادرة عن الحكمة والإغضاء عما قالوا من وصفهم إياهم بالسفاهة والضلالة - أدب حسن وخلق عظيم وتعليم لعباده كيف يقابلون السفهاء، وكيف يغضون عن قالة السوء التي تصدر عنهم.
(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ؟) أي أكذّبتم وعجبتم أن أنزل ربكم وحيه بتذكيركم وعظتكم على ما أنتم عليه مقيمون من الضلالة على لسان رجل منكم لينذركم بأسه ويخوفكم عقابه؟
(وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً) أي واذكروا فضل الله عليكم ونعمته، إذ جعلكم ورثة قوم نوح وزادكم بسطة في خلق أبدانكم - وقد كانوا طوال الأجسام أقوياء الأبدان - واتقوا الله في أنفسكم واحذروا أن يحل بكم من العذاب مثل ما حل بهم، فيهلككم ويبدل منكم غيركم، سنته فيهم وقد جاء في سورة هود والشعراء وفصلت ما يدل على ما كان لهم من قوة وجبروت وبطش شديد.
(فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي فاذكروا نعم الله وفضله عليكم، واشكروه على ذلك بإخلاص العبادة له وترك الإشراك به، وهجر الأوثان والأصنام
لعلكم تفوزون بما أعده للشاكرين لنعمه، الراجين للمزيد منها، وتدركون الخلود والبقاء والنعيم الأبدى في دار القرار.
ثم ذكر ما ردوا به عليه فقال:
(قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) يقال: جاء يعلم الناس كيف يحاربون، وذهب يقيم قواعد العمران، على معنى شرع يفعل ذلك.
والمعنى - أجئتنا لأجل أن نعبد الله وحده، ونترك ما كان يعبد آباؤنا معه من الأولياء والشفعاء وهم الوسيلة عنده، وهم الذين يقربوننا إليه زلفى، وهل يقبل الله عبادتنا مع ذنوبنا إلا بهم ولأجلهم.
وبعد أن استنكروا التوحيد واحتجوا عليه بما لا يصلح عقلا ولا شرعا أن يكون حجة من تقليد الآباء والأجداد استعملوا الوعيد فقالوا:
(فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي فجئنا بما تعدنا به من العذاب على ترك الإيمان بك، والعمل بما جئت به من التوحيد، وإخلاص العبادة لله وحده - إن كنت صادقا في قولك ووعيدك.
فأجابهم هود على مقالتهم بقوله:
(قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ) أي قال هود لقومه: قد قضى عليكم ربكم مالك أمركم بعذاب وطرد من رحمته، وقد كان عذابهم ريحا صرصرا ذات صوت شديد عاتية تنزع الناس من الأرض ثم ترميهم بها صرعى « كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ » أي قد قلع من منابته، وزال من أماكنه.
(أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ؟) أي أتخاصمونني في أسماء وضعتموها أنتم وآباؤكم الذين قلدتموهم على غير علم ولا هدى منكم ولا منهم لمسميات اتخذوها فاتخذتموها آلهة زاعمين أنها تقربكم إلى الله زلفى وتشفع عنده لكم، ما أنزل الله من حجة ولا برهان يصدق زعمكم بأنه رضى أن تكون واسطة بينه وبينكم، وكيف وهو الواحد الأحد الذي يصمد إليه عباده في العبادة، وطلب مالم يمكنهم بالأسباب العادية.
والخلاصة - إنه هو الذي يتوجه إليه وحده، ولا يشرك معه أحد من خلقه كما قال إبراهيم: « إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ».
وكل ما يتعلق بعبادة الله لا يعلم إلا بوحي منه ينزله على رسله؟ إذ لا يعلم إلا من عباده المبلغين عنه.
(فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) أي فانتظروا نزول العذاب الذي طلبتموه بقولكم (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) إني معكم من المنتظرين لنزوله بكم، وفصل قضائه فينا وفيكم، وإننى لموقن بذلك وأنتم مرتابون.
(فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ) أي فلما جاء أمرنا ووقع ما وقع - أنجينا هودا والذين آمنوا به وبما دعا إليه من توحيد الله وهجر الأوثان - برحمة عظيمة منا، واستأصلنا دابر الذين جحدوا بآياتنا ولم نبق منهم أحدا بريح صرصر عاتية: « تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ ».
قصص صالح عليه السلام
[سورة الأعراف (7): الآيات 73 الى 79]
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحًا قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)
تفسير المفردات
ثمود: قبيلة من العرب كانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى، سميت باسم جدهم ثمود بن عامر بن إرم بن سام بن نوح وأخوّة صالح لهم: أخوة في النسب كأخوة هود لقومه، والبينة: المعجزة الظاهرة الدلالة، واذكروا أي تذكروا، وبوأكم في الأرض أي أنزلكم فيها وجعلها مباءة لكم، والأرض: أرض الحجر بين الحجاز والشام، والنحت: نحر الشيء الصّلب، والعيث والعثى: الفساد، استكبروا: عتوا وتكبروا، وعقروا الناقة: نحروها، وأصل العقر الجرح، وعقر الإبل: قطع قوائمها، وكانوا يفعلون ذلك بها قبل نحرها لتموت في مكانها ولا تنتقل، وعتوا: تمردوا مستكبرين، التمرد، والامتناع إما عن عجز وضعف، ومنه عتا الشيخ عتيا: إذا أسنّ وكبر، وإما عن قوة كعتو الجبارين والمستكبرين، ويقولون نخلة عاتية: إذا كانت عالية يمتنع جناها على من يريدها إلا بمشقة التسلق والصعود، الرجفة: المرة من الرجف وهو الحركة والاضطراب، يقال رجف البحر: إذا اضطربت أمواجه ورجفت الأرض: زلزلت واهتزت، ورجف القلب والفؤاد من الخوف، ودار الرجل: ما يسكنها هو وأهله، ويطلق على البلد وهو المراد هنا، وجثم الناس: قعدوا لا حراك بهم، قال أبو عبيدة: الجثوم للناس والطير كالبروك للإبل.
الإيضاح
(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحًا) أي ولقد أرسلنا إلى بنى ثمود أخاهم صالحا.
(قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) أي قال صالح لثمود: يا قوم اعبدوا الله وحده لا شريك له، فما لكم من إله تعبدونه سواه.
(قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي قد جاءتكم حجة وبرهان على صدق ما أقول وحقيقة ما أدعو إليه من إخلاص التوحيد له وإفراده بالعبادة دون سواه.
وفي قوله: من ربكم، إيماء إلى أنها ليست من فعله، ولا مما ينالها كسبه، وهكذا سائر ما يؤيد به الله الرسل من خوارق العادات.
وهذه المقالة كانت لهم بعد نصحهم وتذكيرهم بنعم الله وتكذيبهم له كما جاء في سورة هود من قوله: « هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها » إلى آخر الآيات.
(هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً) أضاف الناقة إلى الله تعظيما لشأنها، ولأنها لم تأت بنتاج معتاد وأسباب معهودة، ومن ثم كانت آية. وأي آية؟.
وإنما استشهد صالح على صحة نبوته بالناقة، لأنهم سألوه إياها آية دالة على صدق دعوته وصحة نبوته.
ثم ذكر ما يترتب على كونها آية أنه لا ينبغي التعرض لها فقال:
(فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي إن الأرض أرض الله والناقة ناقة الله فاتركوها تأكل ما تأكل في أرض ربها، وليس لكم أن تحولوا بينها وبينها، ولا تتعرضوا لها بسوء في نفسها ولا في أكلها، فإنكم إن فعلتم ذلك أخذكم عذاب أليم، وقد وصف في سورة هود العذاب بالقريب وهو أنه يقع بعد ثلاثة أيام من مسهم إياها بالسوء، وكذلك كان، وجاء في سورة القمر: « وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ ».
وجاء تفسير هذا في سورة الشعراء: « هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ » أي إن الماء الذي كانوا يشربون منه قسمة بينهم وبين الناقة، إذ كان ماء قليلا، فكانوا يشربونه يوما وتشرب هي يوما، وقد روى عن ابن عباس أنهم كانوا يستعيضون عن الماء يوم شربها بلبنها.
ثم ذكّرهم بنعم الله عليهم وبوجوب شكرها بعبادته تعالى وحده فقال:
(وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتًا) أي وتذكروا نعم الله عليكم وإحسانه إليكم، إذ جعلكم خلفاء لعاد في الحضارة والعمران والقوة والبأس وأنزلكم منازلهم تتخذون من سهولها قصورا زاهية، ودورا عالية، بما ألهمكم من حذق في الصناعة، فجعلكم تضربون اللبن وتحرقونه آجرا (الطوب المحرق) وتستعملون الجص وتجيدون هندسة البناء ودقة النجارة، وتنحتون من الجبال بيوتا، إذ علمكم صناعة النحت، وآتاكم القوة والجلد.
روي أنهم كانوا يسكنون الجبال في الشتاء لما في البيوت المنحوتة من القوة، فلا تؤثر فيها الأمطار والعواصف، ويسكنون السهول في باقى الفصول للزراعة والعمل.
(فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) أي وتذكروا هذه النعم العظام، واشكروها له بتوحيده وإفراده بالعبادة، ولا تتصرفوا فيها تصرف كفران وجحود بفعل ما لا يرضى الله الذي خلقها لكم، فما بالكم بالكفر والعثى في الأرض بالفساد.
(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ: أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ؟)
قد جرت سنة الله أن يكون الفقراء المستضعفون أسرع الناس إلى إجابة دعوة الأنبياء والرسل، وإلى كل دعوة لإصلاح، فإنه لا يثقل عليهم أن يكونوا تابعين لغيرهم، وأن يكفر بها أكابر القوم وأغنياؤهم المترفون، إذ يشق عليهم أن يكونوا مرءوسين لسواهم، كما يصعب عليهم الامتناع عن الإسراف في الشهوات، والوقوف عند حدود الاعتدال.
وعلى هذا السنن سار الملأ من قوم صالح إذ قالوا للمؤمنين منهم: أتعلمون أن صالحا رسول من عند الله؟ ومرادهم بهذا التهكم والاستهزاء بهم.
(قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ) أي إنا بما أرسل به صالح من الحق والهدى مصدّقون ومقرون بأنه من عند الله، وأن الله أمر به، وعن أمر الله دعانا صالح.
وفي جوابهم هذا دون أن يقولوا - نعم، أو نعلم أنه مرسل منه، أو إنا برسالته عالمون - إيماء إلى أنهم علموا بذلك علما يقينيا إذ عانيا له السلطان على عقولهم وقلوبهم وما كل من يعلم شيئا يصل علمه إلى هذه المرتبة، بل من الناس من يعلم الشيء بالبرهان لكنه يجحده ويحاربه وهو موقن به حسدا لأهله، أو استكبارا عنه كما قال تعالى: « وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ».
(قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) أي قال الذين استكبروا عن أمر الله وأمر رسوله صالح: إنا بالذي صدقتم به من نبوة صالح وإن الذي جاء به هو الحق - جاحدون منكرون لا نصدق به ولا نقر.
وإنما لم يقولوا إنا بالذي أرسل به صالح كافرون - لأن ذلك يتضمن إثبات الرسالة فلو قالوه لكان شهادة منهم على أنفسهم بجحود الحق على علمهم به استكبارا وعنادا.
ثم ذكر ما فعلوه مما يدل على كفرهم بآيات ربهم فقال:
(فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) أي فعقر أولئك المستكبرون الناقة، ونسب الفعل إليهم جميعا والفاعل واحد منهم كما جاء في سورة القمر: « فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ »
وجاء في حديث البخاري مرفوعا « فانتدب لها رجل ذو عزه ومنعة في قومه كأبى زمعة »
لأنهم لما اتفقوا عليه ورضوا به صاروا كأنهم فعلوه جميعا.
وفي ذلك تهويل وتفظيع لأمرهم، وأن أضراره ستصيبهم جميعا، ومثل هذا من الأعمال ينسب إلى الأمة في جملتها، وتعاقب عليه جميعها كما قال: « وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ».
(وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) أي وتمردوا وتجبروا عن اتباع الحق الذي بلّغهم صالح إياه، وهو ما سلف ذكره.
روى أحمد والحاكم عن جابر قال: « لما مر رسول الله ﷺ بالحجر قال: لا تسألوا الآيات فقد سألها قوم صالح، وكانت الناقة ترد من هذا الفجّ وتصدر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم، وكانت تشرب يوما ويشربون لبنها يوما، فعقروها فأخذتهم صيحة أخمد الله من تحت أديم السماء منهم إلا رجلا واحدا كان في حرم الله - وهو أبو رغال - فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه ».
(وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) الوعد يكون في الخير والشر أي قالوا له: ائتنا بما وعدتنا به من عذاب الله ونقمته، إن كنت رسولا إلينا، وتدّعى أن وعيدك تبليغ عنه، فالله ينصر رسله على أعدائه، فعجّل ذلك لنا.
(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) وفى سورة هود « فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ » وفى سورة حم السجدة « فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ » وفى سورة الذاريات « فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ » والمراد بالجميع الصاعقة، فإن لنزولها صيحة شديدة القوة ترجف من هولها الأفئدة وتضطرب الأعصاب، وربما اضطربت الأرض وتصدع ما فيها من بنيان.
وقد علم أن سبب حدوثها اتصال كهربائية الأرض بكهربائية الجو التي يحملها السحاب، فتحدث صوتا كالصوت الذي يحدث باشتعال قذائف المدافع، وهذا الصوت هو المسمى بالرعد.
وتحدث الصاعقة تأثيرات عظيمة كصعق الناس والحيوان وهدم المباني أو تصديعها وإحراق الشجر ونحو ذلك، وقد هدى العلم إلى الطريق في اتقاء أضرارها بالمباني العظيمة بوضع ما يسمونه (مانعة الصواعق).
وقد يجوز أن الله سبحانه جعل هلاكهم في وقت ساق فيه السحاب المشبع بالكهرباء إلى أرضهم بحسب السنن المعروفة، وقد يجوز أن الله قد خلق تلك الصاعقة لأجلهم على سبيل خرق العادة، وأيهما كان قد وقع، فقد صدق الله رسوله وحدث ما أنذرهم به.
(فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) أي لم يلبثوا أن سقطوا مصعوقين جثثا هامدة حين نزلت بهم الصيحة في أرضهم.
(فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) أي قال لهم صالح بعد أن جرى عليهم ما جرى مغتما متحسرا كما يقول المتحسر على من مات جانيا على حياته بالتفإني في شهواته: ألم أنهك عما يوردك ريب المنون. ألم أحذرك تلك العاقبة الوخيمة التي لم تتداركها قبل وقوعها، فماذا أفعل، إذ فضلت لذة الساعات والأيام، على عيش هنىء يدوم عشرات الأعوام.
وروى مثل هذا مرفوعا عن النبي ﷺ من ندائه بعض قتلى قريش ببدر بعد دفنهم في القليب (البئر غير المبنية): « يا فلان بن فلان، وفلان بن فلان: أيسرّكم أنكم أطعتم الله ورسوله فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟. قال راوي الحديث أبو طلحة الأنصاري: قال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ أو فيها - فقال رسول الله ﷺ « والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم » رواه البخاري وغيره من طريق قتادة عن أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه، ثم قال: قال قتادة أحياهم الله حتى أسمعهم قوله ﷺ توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما ا هـ.
قال العلماء ومثل هذا مما اختص به الأنبياء وبهذا الحديث ونحوه مما ورد من حياة الأنبياء والشهداء في البرزخ، يستدل زوار الأضرحة والقبور الذين يدعون أصحابها لقضاء حاجاتهم ويقولون: إن كل من دعا ميتا من الصالحين يسمع منه ويقضى حاجته، قياسا على ذلك، مع علمهم بأن الأمور الغيبية يقتصر فيها على ما سمع عن الأنبياء ولا يدخلها باب القياس.
قصص لوط عليه السلام
[سورة الأعراف (7): الآيات 80 الى 84]
وَلُوطًا إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)
تفسير المفردات
لوط: هو لوط بن حاران ابن أخي إبراهيم عليه السلام، ولد في (أور الكدانيين) في الطرف الشرقي من جنوب العراق وكانت تسمى أرض بابل، وكان قد سافر بعد موت والده مع عمه إبراهيم ﷺ إلى ما بين النهرين وكان يسمى جزيرة قورا، وهناك كانت مملكة أشور، ثم أسكنه إبراهيم شرقى الأردن لجودة مراعيها، وكان في ذلك المكان المسمى بعمق السديم بقرب البحر الميت أو بحر لوط، قرى خمس، سكن لوط في إحداها المسماة بسدوم، وكانت تعمل الخبائث ولا يوجد الآن ما يدل على موضعها بالتحديد، وبعض الناس يقول: إن البحر قد غمرها ولا دليل لهم على ذلك.
الإيضاح
(وَلُوطًا إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ؟) أي واذكر لوطا حين قال لقومه موبّخا لهم: أتفعلون تلك الفعلة التي بلغت الغاية في القبح والفحش.
(ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) أي ما عملها أحد قبلكم في أي زمان، بل هي من مبتدعاتكم في الفساد، فأنتم فيها أسوة وقدوة، فتبوءون بإثمها وإثم من اتبعكم فيها إلى يوم القيامة.
وفي هذا بيان لأن ما اجترحوه من السيئات مخالف لمقتضيات الفطرة، ومن ثم لم تتطلع إليه نفوس أحد من البشر قبلهم، إلى ما فيه من مخالفة لهدى الدين.
(إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ) يراد بالإتيان الاستمتاع الذي عهد بمقتضى الفطرة بين الزوجين، وداعيته الشهوة وقصد النسل.
وقد سجل عليهم هنا أنهم يبتغون الشهوة وحدها، فهم أخس من سائر أفراد الحيوان، لأن الذكور منها تطلب الإناث بدافع الشهوة والنسل الذي يحفظ النوع، ألا ترى أن الطيور والحشرات تبدأ حياتها الزوجية ببناء الأعشاش في أعلى الأشجار أو الوكن في قلل الجبال أو الأحجار في باطن الأرضين، ولكن هؤلاء المجرمين لا غرض لهم إلا إرضاء شهواتهم، ومن يقصد اللذة وحدها دون النسل أسرف فيها وانقلب نفعها ضرا وصار خيرها شرا.
وفي هذا مزيد تقريع وتوبيخ لهم كأن ذلك لا ينبغي أن يصدر من أحد.
وفي قوله: من دون النساء، إيماء إلى أنهم تجاوزوا النساء اللاتي هن محل الاشتهاء عند ذوي الفطر السليمة إلى غيرهن.
(بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) أي إنكم لا تأتون هذه الفاحشة ثم تندمون على ما فعلتم، بل أنتم قوم مسرفون فيها وفى سائر أعمالكم ولا تقفون فيها عند حد الاعتدال، وقد جاء في سورة النمل: « بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ » أي أنتم ذوو سفه وطيش، وفى سورة العنكبوت « أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ».
وفي كل هذا دليل على أنهم كانوا مسرفين في لذاتهم، متعدين حدود العقل والفطرة، لا يعقلون ضرر ما يفعلون بجنايتهم على النسل والصحة والآداب العامة، فهم لو عقلوا ذلك لاجتنبوها، ولو كان لديهم شيء من الفضيلة لا نصرفوا عنها.
(وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) أي وما كان جواب قومه عن هذا الإنكار وتلك النصيحة شيئا من الحجج المقنعة أو الأعذار المسكنة لثورة الغضب، بل كان جوابهم الأمر بإخراجه هو ومن آمن معه من قريتهم، وما حجتهم على تبرير ما عزموا عليه إلا أن قالوا إن هولاء أناس يتطهرون ويتنزهون عن مشاركتهم في فسوقهم ورجسهم، فلا سبيل إلى معاشرتهم ولا مساكنتهم، لما بينهم من الفوارق في الصفات والأخلاق.
وهذا الجواب منهم يدل على منتهى السخرية والتهكم، والافتخار بما كانوا فيه من القذارة، كما يقول الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظوهم: أبعدوا عنا هذا المتقشف، وأريحونا من هذا المتزهد.
وقد بلغ من قحتهم وفجورهم أن يفعلوا الفاحشة ويفخروا بها ويحتقروا من يتنزه عنها، وهذا أسفل الدركات، ولا يهبط إليه إلا من لا يؤمن بالله واليوم الآخر.
(فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) يقال غبر أي بقي، وغبر: ذهب وهلك، أي فأنجيناه وأهل بيته الذين آمنوا معه إلا امرأته، فإنها لم تؤمن به، بل خانته بولاية قومه الكافرين، فكانت من جماعة الهالكين أو الباقين الذين نزل بهم العذاب في الدنيا، وبعده عذاب الآخرة.
(وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَرًا) الإمطار حقيقة في المطر مجاز فيما يشبهه في الكثرة من خير وشر مما يجىء من السماء أو من الأرض أي وأرسلنا عليهم مطرا عجيبا أمره وهو الحجارة التي رجموا بها، وجاء في سورتى هود والحجر إنها حجارة من سجيل مسوّمة أي معلمة ببياض في حمرة.
وقد يكون سبب إمطار الحجارة عليهم إرسال إعصار من الريح حمل تلك الحجارة وألقاها عليهم، أو أن تلك الحجارة من بعض النجوم المحطّمة التي يسميها علماء الفلك الحجارة النيزكية وهي بقايا كوكب محطم تجذبه الأرض إليها إذا صار بالقرب منها، وهي تحترق غالبا من سرعة الجذب وشدته، وهي الشهب التي ترى بالليل، فإذا سلم منها شيء من الاحتراق ووصل إلى الأرض ساخ فيها وكان لسقوطه صوت شديد، وقد وجد الناس بعض هذه الحجارة ووضعوها في دور الآثار.
(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) أي فانظر أيها المعتبر هذا القصص وتأمله حق التأمل، لتعلم عقاب الأمم على ذنوبها في الدنيا قبل الآخرة.
وهذا العقاب أثر طبيعي لذلك، فإنك ترى الترف والفسق يفسدان أخلاق الأمم ويذهبان ببأسها ويفرّقان كلمتها ويجعلانها شيعا وأحزابا متعادية، فيسلط الله عليها من يستذلها ويسلبها استقلالها، ويسخرها لمنافعه، ولا يزال بها هكذا حتى تنقرض وتكون من الهالكين.
وقد يكون هلاكها بسنن الله في الأرض من إرسال الجوائح كالزلازل والمواد المصطهرة التي تقذفها البراكين من الأرض، أو بالأوبئة والأمراض الفتاكة، أو بالثورات والفتن والحروب ونحو ذلك مما يكون سببا في انقراض الأمم وفنائها
وخلاصة القول في تحريم هذه الفاحشة:
(1) إنها مفسدة للشبان بالإسراف في الشهوات.
(2) إنها مفسدة للنساء اللواتي ينصرف أزواجهن عنهم ويقصرون فيما يجب عليهن من إحصانهن.
(3) قلة النسل فإن من لوازم ذلك الرغبة عن الزواج والرغبة في إتيان الأزواج في غير مأتى الحرث.
وفي الحياة الزوجية الشرعية إحصان كل من الزوجين للآخر بقصر لذة الاستمتاع عليه وجعل ذلك وسيلة للحياة الوالدية التي تنمو بها الأمة ويحفظ بها النوع البشرى من الزوال.
[سورة الأعراف (7): الآيات 85 الى 87]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْبًا قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87)
تفسير المفردات
يقال بخسه حقه أي نقصه، والإفساد: شامل لإفساد نظام الاجتماع بالظلم وأكل أموال الناس بالباطل، وإفساد الأخلاق والآداب: بارتكاب الإثم والفواحش، وإفساد العمران بالجهل وعدم النظام، وإصلاحها: هو إصلاح حال أهلها بالعقائد الصحيحة والأعمال الصالحة المزكّية للأنفس، والأعمال المرقية للعمران المحسّنة لأحوال المعيشة، والصراط: الطريق، وتوعدون: تخوّفون الناس. وروى عن ابن عباس أنهم كانوا يجلسون في الطريق فيقولون لمن أتى إليهم إن شعيبا كذاب، فلا يفتنّنكم عن دينكم، فكثّركم أي بما بارك في نسلكم.
المعنى الجملي
شعيب نبي من أنبياء العرب، وفى التوراة إن اسمه رعوئيل فقد جاء في سفر الخروج أن حمى موسى كان يدعى رعوئيل. (رعو: صديق، وئيل: الله) أي صديق الله أي الصادق في عبادته، وفى موضع آخر من سفر الخروج إن موسى كان يرعى غنم يثرون حميه كاهن مدين، ويثرون لقب وظيفته، وهو من نسل إبراهيم.
وفي الفصل الخامس من سفر التكوين إن زوجة إبراهيم قطورة ولدت له ستة أولاد منهم مدان أو مدين أو مديان (معناه خصام) وكانت أرضهم تمتد من خليج العقبة إلى موآب وطور سينا، وفى رواية إنها كانت تمتد من شبه جزيرة سينا إلى الفرات.
وقال الآلوسي: ومدين وسمع مديان علم لابن إبراهيم الخليل عليه السلام ثم سميت به القبيلة.
الإيضاح
(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْبًا قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) نقدم مثل هذا في قصة صالح عليه السلام، ولكن هناك بيّن الآية بأنها الناقة، ولم يذكر هنا ولا في أي سورة أخرى آية معينة لشعيب عليه السلام، ولكن لا بد أن تكون له آية تدل على صدقه، وتقوم بها الحجة عليهم.
فقد روى الشيخان من حديث أبي هريرة أن النبي ﷺ قال « ما من الأنبياء نبي إلا أعطى من الآيات ما مثلها آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة » أي إن كل نبي مرسل أعطاه الله من الآيات الدالة على صدقه وصحة دعوته ما شأنه أن يؤمن البشر على مثله.
والبينة كل ما يتبين به الحق، فتشمل المعجزات الكونية والبراهين العقلية، والأمم القديمة لم تكن تدعن إلا لخوارق العادات.
وبعد أن أتى شعيب صلوات الله عليه بالمعجزات القاطعة للعذر ومكابرة الحق رتب على ذلك قوله:
(فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) وقد ثنى بالأمر بإيفاء الكيل والميزان إذا باعوا، والنهي عن بخس الناس أشياءهم إذا اشتروا بعد أن أمرهم بتوحيد الله، لأن ذلك كان فاشيا فيهم أكثر من سائر المعاصي ومن ثم اهتم به كما اهتم لوط بنهي قومه عن الفاحشة السوءى التي كانت فاشية فيهم، فقد كانوا من المطففين الذين إذا اكتالوا على الناس أو وزنوا عليهم لأنفسهم ما يشترون من المكيلات والموزونات يستوفون حقهم أو يزيدون عليه وإذا كالوهم أو وزنوهم ما يبيعون لهم يخسرون الكيل والميزان أي ينقصونه فيبخسونهم أشياءهم وينقصونهم حقوقهم.
والبخس يشمل نقص المكيل والموزون وغيرهما من المبيعات كالمواشى والأشياء المعدودة، ويشمل البخس في المساومة والغش والحيل التي تنتقص بها الحقوق، وفى الحقوق المعنوية كالعلوم والفضائل.
وقد فشاكل من هذين النوعين في هذا العصر، فكثير من التجار باخسون مطففون فيما يبيعون وما يشترون، وكثير من المشتغلين بالعلوم والآداب والسياسة بخّاسون لحقوق بنى جلدتهم، مدّعون للتفوق عليهم، منكرون لما خص الله به سواهم من المزايا والخصائص حسدا عليهم وبغيا.
وقد روى أن قوم شعيب كانوا إذا دخل عليهم الغريب يأخذون دراهمه ويقولون هذه زيوف فيقطعونها ثم يشترونها منه بالبخس أي بالنقصان.
(وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) أي إنه تعالى أصلح حال البشر بنظام الفطرة ومكّنهم في الأرض، بما آتاهم من القوى العقلية وقوة الجوارح، وبما أودع في خلق الأرض من سنن حكيمة، وقوانين مستقيمة، وبما بعث به الرسل من المكملات لنظام الفطرة من آداب وأخلاق ونظم في المعاملات والاجتماع، وبما أرشد إليه المصلحين من العلماء والحكماء الذين يأمرون بالقسط، ويهدون الناس إلى ما فيه صلاحهم في دينهم، والعاملين من الزراع والصناع والتجار أهل الأمانة والاستقامة الذين ينفعون الناس في دنياهم.
فعليكم ألا تفسدوا فيها ببغى ولا عدوان على الأنفس والأعراض والأخلاق بارتكاب الإثم والفواحش، ولا تفسدوا فيها بالفوضى وعدم النظام وبث الخرافات والجهالات التي تقوّض نظم المجتمع، وقد كانوا من المفسدين للدين والدنيا كما يستفاد من هذه الآية وما بعدها.
(ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي ذلكم الذي تقدم من الأمر والنهي خير لكم في دينكم ودنياكم، فإن ربكم لا يأمر إلا بالنافع ولا ينهى إلا عن الضار.
وإنما يكون ذلك خيرا لكم إن كنتم مؤمنين بوحدانية الله وبرسوله وبما جاءكم من شرع وبما آتاكم به من هدى، فالإيمان يقتضى الامتثال والعمل بما جاء به الرسول من عند الله وإن خالف النفس والهوى.
والمؤمن الموحّد لا يخضع إلا لربه، وإنما يطيع رسوله لأنه مبلّغ عنه كما قال: « مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ »
وفي حديث أحمد بن خديج أن النبي ﷺ قال: « إنما أنا بشر مثلكم، إذا أمرتكم بشىء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر ».
هذا، والبشر لم يصلوا في عصر من العصور إلى عشر ما وصلوا إليه في هذا العصر من العلم بالمنافع والمضار ومعرفة المصالح والمفاسد في المعاملات والآداب، ومع هذا فإن العلم وحده لم يغنهم شيئا، فكثرت في البلاد الجرائم من قتل وسلب وإفساد زرع وفسق وفجور ونحو ذلك مما كان سببا في تدهور نظم المجتمعات.
فخير وسيلة لإصلاح الأمم تربية. الأحداث والنابتة تربية دينية بإقناعهم بمنافع الفضائل كالصدق والأمانة والعدل، وإقناعهم بمضار الرذائل، لأن الوازع النفسي أقوى من الوازع الخارجي.
(وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجًا) أي ولا تقعدوا بكل طريق تخوّفون من آمن بالقتل، وقد روى عن ابن عباس أن بلادهم كانت خصبة وكان الناس يمتارون منهم، فكانوا يقعدون على الطريق ويخوفون الناس أن يأتوا شعيبا ويقولون لهم إنه كذاب فلا يفتننكم عن دينكم.
وقد رتب سبحانه هذه الأوامر والنواهي بحسب الترتيب الزمنى، فوجهت الدعوة أولا إلى أقرب الناس في بلده، ثم إلى الأقرب فالأقرب من الذين يزورون أرضهم، وقد كان الأقربون دارا هم الأبعدين استجابة له، وحين رأوا غيرهم يقبل دعوته ويهتدى بها شرعوا يصدون الناس عنه فلا يدعون طريقا توصل إليه إلا قعد بها من يتوعد سالكيها إليه، ويصدونهم عن سبيل الله التي يدعوهم إليها، ويطلبون بالتمويه والتضليل أن يجعلوا استقامتها عوجا، وهداها ضلالا.
والخلاصة - إنه نهاهم عن أشياء ثلاثة:
(1) قعودهم على الطرقات التي توصل إليه مخوّفين من يجيئه ليرجع عنه قبل أن يراه ويسمع دعوته.
(2) صدهم من وصل إليه وآمن به بصرفه عن الثبات على الإيمان والاستقامة على الطريق الموصلة إلى سعادة الدارين.
(3) ابتغاؤهم جعل سبيل الله المستقيمة معوجّة بالطعن وإلقاء الشبهات المشككة فيها أو المشوهة لها، وهم بعلمهم هذا ارتكبوا ضلالتين: التقليد والعصبية للآباء والأجداد، وضلالة الغلو في الحرية الشخصية التي أباحت لهم الطعن في الأديان حتى بلغوا في ذلك حد الطغيان.
(وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ) أي وتذكروا الزمن الذي كنتم فيه قليلى العدد فكثركم الله بما بارك في نسلكم، واشكروا له ذلك بعبادته وحده، واتباع وصاياه في الحق، والإعراض عن الفساد في الأرض. وقد روى أن مدين بن إبراهيم تزوج بنت لوط فولدت فرمى الله في نسلها البركة والنماء فكثروا.
وقد يكون المعنى - إذ كنتم مقلين فقراء فجعلكم مكثرين موسرين - أو المراد: إذ كنتم أذلة قليلى العدد فأعزكم بكثرة العدد والعدد.
(وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) من الأمم والشعوب المجاورة لكم كقوم نوح وعاد وثمود، وكيف أهلكهم الله بفسادهم وبغيهم في الأرض، فاعتبروا بما حل بهم، واحذروا أن يصيبكم مثل ما أصابهم.
(وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ)، حكم الله بين عباده ضربان:
(1) حكم شرعي يوحيه إلى رسله، وعليه جاء قوله في سورة المائدة بعد الأمر بالوفاء بالعقود وإحلال بهيمة الأنعام: « إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ ».
(2) حكم فعلى يفصل فيه بين الخلق بمقتضى سننه فيهم كقوله في آخر سورة يونس: « وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ ».
والمعنى - وإن كان جماعة منكم صدقوا بالذي أرسلت به من إخلاص العبادة لله وترك معاصيه من ظلم الناس وبخسهم في المكاييل والموازين، واتبعوني في كل ذلك، وجماعة أخرى لم يصدّقونى وأصروا على شركهم وإفسادهم - فاصبروا على قضاء الله الفاصل بيننا وبينكم وهو خير من يفصل، وأعدل من يقضى، لتنزهه عن الباطل والجور، وليعتبر كفاركم بعاقبة من قبلهم وسيحل بهم مثل ما حل بأولئك بحسب السنن التي قدرها العليم الحكيم، ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا.
اللهم وفقنا للسير على سنن العدل والرشاد، واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وكان الفراغ من مسودة هذا الجزء في الثامن عشر من رجب المعظم سنة ثنتين وستين وثلاثمائة هجرية.
وصل ربنا على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[تتمة سورة الأعراف]
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة الأعراف (7): الآيات 88 الى 89]
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89)
المعنى الجملي
هذه الآيات من تتمة قصص شعيب ذكر فيها جواب الملإ من قومه عما أمرهم به: من عبادة الله وحده، وإيفاء الكيل والميزان، وعدم الفساد في الأرض، وعما ختم به حديثه من التهديد والإنذار بقوله: فاصبروا حتى يحكم الله بيننا. وتولى الرد عليه أشراف قومه كما هو الشأن في بحث كبريات المسائل ومهامّ الأمور.
الإيضاح
(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) أي قال أشراف قومه الذين استكبروا عن الإيمان وعن اتباع ما أمرهم به وما نهاهم عنه: قسما لنخرجنك يا شعيب أنت ومن آمن معك - من بلادنا كلها - بغضا لكم ودفعا لفتنتكم، أو لترجعن إلى ديننا ومعتقداتنا التي ورثناها عن آبائنا، وتدخلنّ في زمرتنا وتندمجنّ في غمارنا.
والخلاصة - ليكونن أحد الأمرين: إخراجكم من البلاد، أو عودتكم في الملة، فاختاروا لأنفسكم ما ترونه أرفق بكم وأوفق لكم.
وشعيب عليه السلام لم يكن قبل النبوة على ملة أخرى غير ملة قومه، فساغ لهم أن يطالبوه بالعود إلى ملتهم، وكونه لم يشاركهم في شركهم ولا بخس الناس أشياءهم - أمر سلبى لا يعدّه به جمهورهم خروجا عنهم - فلا منافاة بين هذا وعصمة الأنبياء عن الكفر.
(قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) أي أتأمروننا أن نعود في ملتكم وتهدوننا بالنفي من أوطاننا، والإخراج من ديارنا إن لم نفعل ولو كنا كارهين لكل من الأمرين؟.
إنكم لقد جهلتم أن الدين عقيدة وأعمال يتقرّب بها إلى الله الذي شرعها لتكميل الفطرة البشرية، كما جهلتم أن حب الوطن لا يبلغ منزلة حب الدين لدي ولدي قومي، فظنتم في وفيمن آمن معى أننا نؤثر التمتع بالإقامة في الوطن، على مرضاة الله بالتوحيد المطهّر من أدران الخرافات، وبالفضائل المهذبة للنفوس والمرقّية لها في معارج الكمال حتى تتم لنا سعادة الدنيا والآخرة.
فللدين منزلة في النفوس لا تسمو إليها منزلة أخرى، فإن تمكن صاحبه من إقامته في وطنه وإصلاح أهله به فهم أحق به، وإن فتن في دينه فيه كان تركه واجبا عليه، فإن لم يخرج منه شعيب ومن آمن معه إخراجا وهم كارهون، كما أخرج خاتم النبيين مع صحبه السابقين الأولين إلى الإسلام - خرجوا مهاجرين كما فعل إبراهيم عليه السلام - كما حكى الله عنه: « وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ».
وقد أوجب الله الهجرة على من يستضعف في وطنه، فيمنع من إقامة دينه فيه، فإن لم يفعل ذلك دخل تحت وعيد قوله: « إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ؟ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ - قالُوا: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها؟ فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيرًا. إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا. فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ».
ثم بين أحق الأمرين بالرفض وأجدرهما بالبغض متعجبا من كلامهم فقال:
(قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها) أي ما أعظم افتراءنا على الله إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وهدانا الصراط المستقيم باتباع ملة إبراهيم.
وإذا كان اتباع ملتكم يعدّ افتراء على الله، لأنه قول عليه لا علم لنا به بوحي ولا برهان من العقل، فكيف بمن يفترى عليه ويضل عن صراطه على علم؟، فالكفر بالحق وغمطه بعد العلم به هو شر أنواع الكفر، والافتراء على الله فيه أفظع ضروب الافتراء التي لا تقبل فيها الأعذار بحال.
وفي قوله إذ نجانا أي نجا أصحابي منها فهو تغليب بإدخاله في زمرتهم، أو نجاني من الانتماء إلى هذه الملة التي ما كنت أو من بعقيدتها ولا أعمل بعمل أهلها، ولم أهتد بعقلي ورأيى إلى ملة خير منها فوقفت موقف الحيرة في شأنها، كما جاء في خطاب النبي ﷺ قوله: « وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى » وقوله: « وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا ».
(وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا) يقولون ما يكون لي أن أفعل كذا على معنى أنه غير مستطاع لي ولا جار على السنن المعقولة.
أي ليس من شأننا أن نعود فيها في حال من الأحوال إلا حال مشيئة ربنا المتصرف في جميع شئوننا، فهو وحده القادر على ذلك، لا أنتم ولا نحن، لأنا موقنون بأن ملتكم باطلة، وملتنا هي الحق التي بها صلاح حال البشر وعمران الأرض.
وهذه الجملة رفضن آخر للعود إلى ملتهم مؤكد أبلغ التأكيد، مؤيس لهم من عودته ومن آمن معه إلى ملتهم، فبعد أن نفى وقوع العود منهم باختيارهم نفاه نفيا مؤكدا بأنه ليس من شأنهم ولا يجىء من قبلهم بحال من الأحوال كالترغيب والترهيب بالرجاء في المنافع والخوف من المضار كالإخراج من الديار، إلا حالا واحدة وهي مشيئة الله ومشيئته تجرى بحسب علمه وحكمته في خلقه، وسنته في خلقه أن ينصر أهل الحق على أهل الباطل ما داموا ناصرين له وقائمين بما هداهم إليه منه.
وخلاصة ذلك - لا تطمعوا أن يشاء ربنا الحفي بنا عودتنا في ملتكم بعد إذ نجانا منها بفضله، فما كان الله ليدحض حجته ويغيّر سنته.
(وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا) فهو سبحانه يعلم كل حكمة ومصلحة، ومشيئته تجرى على موجب الحكمة، فكل ما يقع فهو مشتمل عليها، وفى هذا إيماء إلى عدم الأمن من مكر الله سبحانه: « فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ ».
(عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا) أي إلى الله وحده وكلنا أمورنا مع قيامنا بكل ما أوجبه علينا من الحفاظ على شرعه ودينه، فهو الذي يكفينا تهديدكم وما ليس في استطاعتنا من جهادكم: « وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ » إذ من شروط التوكل الصحيح القيام بالأحكام الشرعية ومراعاة السنن الكونية والاجتماعية، فمن يترك العمل بالأسباب فهو الجاهل المغرور لا المتوكل المأجور، كيف وقد قال النبي ﷺ لمن سأله أيترك ناقته سائبة ويتوكل على الله؟ « اعقلها وتوكل » رواه الترمذي.
وقال تعالى مخاطبا رسوله بعد أن أمره بمشورة أصحابه في غزوة أحد: « فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ » وإنما يكون العزم بعد الأخذ بالأسباب فقد لبس من يومئذ درعين وأعدّ العدة لقتال أعدائه، ورتب الجيوش بحسب القوانين المعروفة في ذلك العصر.
وخلاصة رد شعيب على الملأ من قومه - إنه عجب من تهديدهم وإنذارهم، وأقام الأدلة على امتناع عودهم إلى ملة الكفر باختيارهم، وعدم استطاعة أحد إجبارهم عليه غير الله الفعال لما يريد. ثم ثنى بذكر توكله على الله الذي يكفى من توكل عليه ما أهمّه مما هو فوق كسبه واختياره، ثم ثلث بالدعاء الذي لا يكون مرجو الإجابة إلا بعد القيام بعمل ما في الطاقة من الأعمال الكسبية مع التوكل على الله فقال:
(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) الفتح إزالة الأغلاق والأشكال، وهو قسمان: حسي يدرك بالبصر كفتح العين والقفل والكلام الذي يكون من القاضي، ومعنوى يدرك بالبصيرة كفتح أبواب الرزق والمغلق من مسائل العلم والنصر في وقائع الحرب والمبهم من قضايا الحكم، ويقال فتح الله عليه إذا جدّ وأقبلت عليه الدنيا، وفتح الله عليه: نصره، وفتح الحاكم بينهم وما أحسن فتاحته أي حكمه كما قال شاعرهم:
ألا أبلغ بنى وهب رسولا بأني عن فتاحتهم غني
ويقال بينهم فتاحات أي خصومات، وولّي الفتاحة أي القضاء، وعن ابن عباس: ما كنت أدري ما قوله تعالى: « رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا » حتى سمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها: تعالى أفاتحك، وقالت أعرابية لزوجها: بيني وبينك الفتاح.
والمعنى - ربنا احكم بيننا وبين قومنا بالحق الذي مضت به سنتك في التنازع بين المرسلين والكافرين، وبين المحقين والمبطلين، وأنت خير الحاكمين لإحاطة علمك بما يقع به التخاصم، وتنزهك عن اتباع الظلم، واتباع الهوى في الحكم.
[سورة الأعراف (7): الآيات 90 الى 93]
وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93)
تفسير المفردات
الرجف: الحركة والاضطراب، والمراد بها الزلزلة، ومنه: « يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ » وغنى بالمكان يغنى: كرضى يرضى، إذا نزل به وأقام فيه، والأسى: شدة الحزن.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه جواب الملأ من قوم شعيب وطلبهم منه العود إلى ملتهم وبين يأسهم منه بما كان من جوابه لهم الدال على ثباته في مقارعتهم وأنه دائب النصح والتذكير لهم، علّهم يرعون عن غيّهم.
ذكر هنا أنهم حذّروا من آمن منهم بالويل والثبور وعظائم الأمور، إذ سيلحقهم الخسار في دينهم والخسار في دنياهم، لعل ذلك يثنيهم عن عزيمتهم ويردّهم إلى الرشاد من أمرهم بحسب ما يزعمون، فكانت عاقبة ذلك أن أصبحوا كأمس الدابر وأصبحت ديارهم خرابا يبابا لا أنيس فيها ولا جليس.
الإيضاح
(وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ: لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخاسِرُونَ) أي وقال الكافرون من قوم شعيب وهم الملأ الذين جحدوا آيات الله وكذبوا رسوله وتمادوا في غيّهم لآخرين منهم: لئن اتبعتم شعيبا فيما يقول، وأجبتموه إلى ما يدعوكم إليه من توحيد الله وأقررتم بنبوته، إنكم إذا لخاسرون في فعلكم وترككم ملتكم التي أنتم عليها مقيمون، إلى دينه الذي يدعوكم إليه.
وعمموا الخسران ليشمل خسران الشرف والمجد إذ بإيثاركم ملته على ملة آبائكم وأجدادكم تعترفون بأنهم كانوا ضالين ومعذّبين عند الله وخسران الثروة والربح بما تحترفونه من تطفيف الكيل والميزان وبخس الغرباء أشياءهم لابتزاز أموالهم.
ووصف الملأ - أولا بالاستكبار - لأنه هو الذي جرأهم على تهديده وإنذاره بالإخراج من القرية وإشعاره بأنهم أرباب السلطان فيها، وثانيا: بالكفر لأنه هو الحامل على الإغواء وصدهم عن الإيمان والأخذ بما جاء به، ثم عللوا لهم صدهم بأن في ذلك لهم مصلحة أيّما مصلحة وفائدة أيّما فائدة.
والخلاصة - إنه تعالى وصفهم أولا بالضلال ثم وصفهم ثانيا بالإغواء والإضلال ثم ذكر عاقبة أمرهم وما أصابهم من نكال فقال:
(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) أي فأخذتهم الزلزلة فأصبحوا في دارهم منكبّين على وجوههم ميتين، وقد عبر عنه هنا بالرّجفة، وفى هود بالصيحة كعذاب ثمود، وستعلم هناك وجه الجمع بينهما.
وقد بيّن سبحانه في سورة الشعراء أن الله أرسل شعيبا إلى أصحاب الأيكة وهم إخوة مدين في النسب، أخرج ابن عساكر عن ابن عباس في قوله: « كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ » قال كانوا أصحاب غيضة بين ساحل البحر ومدين - وفى ذلك دليل على أن الله أرسله إلى أهل مدين وإلى من اتصل بهم إلى ساحل البحر، وأن حال الفريقين في الكفر والمعاصي كانت واحدة، وكان ينذرهم متنقلا بينهم.
وكان عذاب مدين بالصيحة والرّجفة المصاحبة لها، وعذاب أصحاب الأيكة بالسّموم والحر الشديد وقد انتهى ذلك بظلة من السحاب فزعوا إليها ينبردون بظلها فأطبقت عليهم فاختنقوا بها أجمعون.
(الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا، الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ) جاءت هذه الجملة بيانا من الله لما انتهى إليه أمرهم وكيف كانت عاقبة عملهم فكأن سائلا سأل عما آل إليه تهديدهم لشعيب وقومه بقولهم: « لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا » وقولهم لقومهم: « لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخاسِرُونَ » فأجاب عن الأول جوابا مناقضا له بقوله: الذين كذبوا شعيبا إلخ. أي الذين كذبوا شعيبا وأنذروه بالإخراج من قريتهم قد هلكوا وهلكت قريتهم فحرموها كأن لم يقيموا ولم يعيشوا فيها بحال، وأجاب عن الثاني بقوله: الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين: أي الذين كذبوا وزعموا أن من يتبعه يكون خاسرا - كانوا هم الخاسرين لما كانوا موعودين به من سعادة الدنيا والآخرة، دون الذين اتبعوه فإنهم كانوا هم الفائزين المفلحين.
وفي الآية إيماء إلى أن الحريص على التمتع بالوطن والاستبداد فيه على أهل الحق تكون عاقبته الحرمان الأبدى منه، كما أن الحريص على الربح بأكل أموال الناس بالباطل ينتهى بالحرمان منه ومن غيره.
(فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ: يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ) أي فأدبر شعيب عنهم وخرج من بين أظهرهم حين أتاهم عذاب الله، وقال حزنا عليهم: يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربى وأدّيت إليكم ما بعثني به إليكم. وقد تقدم مثل هذا في قصة صالح، وقد اتحد إعذار الرسولين لاتحاد حال القومين.
(فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) أي فكيف أحزن على قوم جحدوا وحدانية الله وكذبوا رسوله وأتوجع لهلاكهم بعد أن أعذرت إليهم وبذلت جهدى في سبيل هدايتهم ونجاتهم فاختاروا ما فيه هلاكهم، وإنما يأسى من قصّر فيما يجب عليه من النصح والإنذار.
[سورة الأعراف (7): الآيات 94 الى 95]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (95)
تفسير المفردات
القرية: المدنية الجامعة لزعماء الأمة ورؤسائها (العاصمة) والبأساء: الشدة والمشقة كالحرب والجدب وشدة الفقر، والضراء: ما يضر الإنسان في بدنه أو نفسه أو معيشته، والأخذ بها: جعلها عقابا لهم، والتضرع: إظهار الضراعة أي الضعف والخضوع، وعفوا: كثروا ونموا، من قولك: عفا النبات والشعر إذا كثر، وبغتة: فجأة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه حال الأمم السابقة مع أنبيائها وبين ما في قصصهم من العظة والعبرة فقد كانت العاقبة في كل حال للمتقين، والدائرة تدور على المبطلين، أشار هنا إلى سنة الله في الأمم التي تكذب رسلها أن ينزل بها البؤس وشظف العيش وسوء الحال في دنياهم ليتضرعوا إلى ربهم وينيبوا إليه بالإقلاع عن كفرهم والتوبة من تكذيب أنبيائهم، وفى هذا من التحذير لقريش والتخويف لهم ما لا يخفى.
ثم ذكر أنه بدل الرخاء بالبؤس ليعتبروا ويشكروا، لكنهم لم يفعلوا فأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
الإيضاح
(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) أي إن سنتنا قد جرت (ولا مبدل لها) أننا إذا أرسلنا نبيّا في قوم وكذبوه أنزلنا بهم الشدائد والمصائب لنعدّهم ونؤهلهم للتضرع والإخلاص في دعائنا بكشفها، وقد ثبت بالتجارب لدى علماء الأخلاق أن الشدائد تربى الناس وتصلح فساد أحوالهم، فالمؤمن قد يشغله هناء العيش عن حاجته إلى ربه، لكن الشدائد تذكره به، والكافر بالنعم قد يعرف قيمتها له بفقدها، وتنبهه الشدائد والأهوال إلى وجود الرّب الخالق المدبر لأمور الخلق وتذكره الأهوال بمصدر هذا النظام في الكون.
(ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ) أي ثم أعطينا بدل ما كانوا فيه من البلاء والمحنة، الرخاء والسعة.
(حَتَّى عَفَوْا) أي حتى كثر عددهم ونموا، إذ أن الرخاء مما يكون سببا في كثرة النسل وبه تتم النعمة في الدنيا على الموسرين، ومن هذه الحسنات ما حدث لقوم هود من النعم التي بطروا بها وذكرهم هود بها في قوله: « وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً، فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ » وكذا ما قاله صالح لقومه: « وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ » (وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ) أي وقالوا قولا يدل على أنهم لا يعتبرون بأحداث الزمان. قالوا قدمس آباءنا من قبلنا ما يسوء وما يسر، وما نحن إلا مثلهم فيصيبنا مثل ما أصابهم، والدهر بالناس قلّب. وتلك عادة الدهر بأبنائه، فلا الضراء عقاب على ذنب يرتكب، ولا السراء جزاء على صالحات تكتسب.
وخلاصة هذا - إنهم لم يفهموا السنن التي وضعها المولى سبحانه في أسباب السعادة والشقاء في البشر والتي أرشد إليها قوله: « إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ » ومن ثم لم يتذكروا ولم يعتبروا حين ذكرهم رسولهم، بل أعرضوا ونأوا.
(فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي فكان عاقبة أمرهم أن أخذناهم بالعذاب فجأة وهم لا شعور لديهم بما سيحل بهم، إذ هم قد جهلوا سنن الله التي وضعها في شئون الاجتماع، فلاهم اهتدوا إليها بعقولهم، ولا هم صدقوا الرسل فيما أنذروهم به، وجاء بمعنى الآية قوله تعالى في سورة الأنعام: « فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ ».
فالكافرون إذا مسهم الشر يئسوا وابتأسوا، وإذا مسهم الخير بطروا واستكبروا وبغوا في الأرض وأهلكوا الحرث والنسل، والمؤمنون بالله وما جاء به رسله تكون الشدائد والمصايب تربية لهم وتمحيصا.
ولما ترك المسلمون هدى القرآن في حكوماتهم ومصالحهم العامة، في أعمال الأفراد سلبهم الله ما أعطاهم من أنواع العلم والحكمة واتبعوا سنن من قبلهم شبرا بشبر وذراعا بذراع، فاتبعوا أهل الكتاب في خرافاتهم وحفلهم وتقليد آبائهم وأجدادهم وطلب النفع والضر من دجّالى الأحياء وقبور الأموات، فغشيهم الجهل، والنابتة منهم قلدوا الإفرنج في الفسق والفجور وشر ما وصلوا إليه في طور فساد حضارتهم وقلدوهم حتى فيما لا يوافق أحوالهم وبلادهم ومصالحهم.
وهكذا ضلت الفئتان عن هدي القرآن، وأضاعتا ما بقي من ملك الإسلام.
[سورة الأعراف (7): الآيات 96 الى 100]
ولَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتًا وَهُمْ نائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100)
تفسير المفردات
بركات السماء: تشمل معارف الوحي العقلية ونفحات الإلهام الربانية، والمطر ونحوه مما يوجب الخصب والخير في الأرض، وبركات الأرض: الخصب والمعادن ونحوهما، والبأس: العذاب وبياتا: أي وقت بيات وهو الليل، والضحى: انبساط الشمس وامتداد النهار ويسمى به الوقت، ويلعبون: أي يلهون من فرط غفلتهم، المكر: التدبير الخفي الذي يفضى بالممكور به إلى ما لا يحتسب، وهداه السبيل وهداه إليه وهداه له: أي دلّه عليه وبيّنه له.
المعنى الجملي
بعد أن بين عز اسمه أخذه لأهل القرى الذين كذبوا رسلهم، وكفروا بما جاءوا به وظلموا أنفسهم وظلموا الناس بما افتنّوا فيه من أفانين الشرك والمعاصي كما حكى الله في محاورتهم لرسلهم وإجابة الرسل لهم بما سلف ذكره.
ذكر هنا لأهل مكة ولسائر الناس ما كان يكون من إغداق نعمه تعالى عليهم لو آمنوا بالرسل واهتدوا بهديهم واعتبروا بسنة الله في الأمم من قبلهم، فإن سنته تعالى في الأمم واحدة لا تبديل فيها ولا تحويل.
الإيضاح
(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي ولو أن أهل مكة ومن حولهم من أهل القرى آمنوا بما دعاهم إليه خاتم الرسل صلوات الله عليه من عبادته تعالى وحده واتّقوا ما نهاهم عنه من الشرك والفساد في الأرض بارتكاب الفواحش والآثام - لفتحنا عليهم أنواعا من بركات السماء والأرض لم يعهدوها من قبل، فتكون لهم أبواب نعم وبركات غير التي عهدوا في صفاتها ونمائها وثباتها وأثرها فيهم، فأنزلنا عليهم الأمطار النافعة التي تخصب الأرض وتكسب البلاد رفاهية العيش، وآتيناهم من العلوم والمعارف وفهم سنن الكون ما لم يصل إلى مثله البشر من قبل.
والخلاصة - إنهم لو آمنوا لو سعنا عليهم الخير من كل جانب ويسرناه لهم بدل لما أصابهم من عقوبات بعضها من السماء وبعضها من الأرض.
والقاعدة التي أقرها القرآن الكريم أن الإيمان الصحيح ودين الحق سبب في سعادة الدنيا، ويشارك المؤمنين في المادي منها الكفار كما قال تعالى: « فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ » أي إن ذلك الفتح كان ابتلاء واختبارا لحالهم، وكان من أثره فيهم البطر والأشر بدلا من الشكر لمولى النعم فكان نقمة لا نعمة، وفتنة لا بركة، ولكن المؤمنين إذا فتح الله عليهم كان أثره فيهم شكر الله عليه والاغتباط بفضله واستعماله في سبيل الخير دون الشر وفى الإصلاح دون الإفساد، ويكون جزاؤهم على ذلك زيادة النعم في الدنيا وحسن الثواب عليها في الآخرة.
(وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي ولكنهم لم يؤمنوا ولم يتقوا بل كذبوا فأخذناهم بما كانوا يعملون من أعمال الشرك والمعاصي التي تفسد نظم المجتمع البشرى.
وذلك الأخذ بالشدة أثر لازم لكسبهم المعاصي بحسب السنن التي وضعها المولى في الكون ويكون فيه العبرة لأمثالهم إن كانوا يعقلون هذه النواميس العامة التي لا نبديل فيها ولا تغيير.
ثم عجب من حالهم وذكر من غفلتهم فقال:
(أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتًا وَهُمْ نائِمُونَ؟) أي أجهل أهل مكة وغيرهم من أهل القرى الذين بلغتهم الدعوة والذين ستبلغهم ما نزل بمن قبلهم وغرّهم ما هم فيه من نعمة فأمنوا أن يأتيهم عذابنا وقت بياتهم وهم نائمون؟.
(أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ؟) أي أو أمن أهل القرى أن يأتيهم عذابنا في وقت الضحى وهم منهمكون في أعمالهم التي كأنها لعب أطفال لعدم الفائدة التي تترتب عليها.
والخلاصة - إنه تعالى خوّفهم نزول العذاب بهم في أوقات الغفلات، إما حين النوم وإما وقت الضحى، إذ يكثر فيه تشاغل الناس باللذات.
(أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ؟) أي أكان سبب أمنهم إتيان بأسنا بياتا أو ضحى وهم غافلون عن مكر الله بهم بإتيانهم ببأسنا من حيث لا يحتسبون ولا يقدرون؟ إن كان الأمر كذلك فقد خسروا أنفسهم فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
وإذا كانت الآية ناطقة بأن أمن الصالح المتعبد من مكر الله جهلا يورث الخسر فما بال من يأمن مكر الله وهو مسترسل في معاصيه اتكالا على عفوه ومغفرته ورحمته؟
وقد كان النبي ﷺ يكثر من الدعاء بقوله: « اللهم يا مقلّب القلوب والأبصار ثبّت قلبي على دينك ».
وذكر سبحانه أن الراسخين في العلم يدعونه فيقولون: « رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ».
وكما أن الأمن من مكر الله خسران ومفسدة، فاليأس من رحمة الله كذلك فكلاهما مفسدة تتبعها مفاسد.
(أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ؟) أي أكان ما ذكر آنفا مجهولا لأهل القرى وأنه هو سنة الله ولم يتبين لأولئك الذين يرثون الأرض من بعد أهلها قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل أن شأننا فيهم كشأننا فيمن سبقهم فهم خاضعون لمشيئتنا، فلو نشاء أن نعذبهم بسبب ذنوبهم لعذبناهم كما أصبنا أمثالهم ممن قبلهم بمثلها وأهلكناهم كما أهلكناهم، فإن لم نهلكهم بالعذاب نطبع على قلوبهم فلا يسمعون الحكم
والنصائح سماع تفقه وتدبر « وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ » إذ أن قلوبهم فد ملئت بمعتقدات وشهوات تصرفها عن غيرها فجعلتهم من « بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ».
وقد كان في مثل هذا القصص عبرة للمسلمين أيّما عبرة، فكتابهم يقصّ عليهم قصص الأمم قبلهم ويبين لهم أن ذنوب الأمم لا تغفر كذنوب الأفراد وسنته فيها لا تتبدل ولا تتحول فكان عليهم أن يتقوا كل ما قصه من ذنوب الأمم التي هلك بها من قبلهم وزالت بها الدّولة لأعدائهم، ولكنهم قصّروا في وعظ الأمة بها وإنذارهم عاقبة الإعراض عنها وترك الإعراض عن تدبرها، وكان عليهم أن يعتبروا بقول النبي ﷺ: « شيبّتنى هود وأخواتها »
وقوله تعالى: « أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ، أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ».
[سورة الأعراف (7): الآيات 101 الى 102]
تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102)
تفسير المفردات
العهد: الوصية. والوصية تارة يراد بها إنشاؤها وإيجادها، وأخرى يراد بها ما يوصى به، ويقال عهدت إليه بكذا أي وصيته بفعله أو حفظه، وهو إما أن يكون بين طرفين وهو المعاهدة، وإما من طرف واحد بأن يعهد إليك بشىء أو تلزم بشىء، والميثاق: هو العهد الموثّق بضرب من ضروب التوكيد.
وقال الراغب: عهد الله تارة يكون بما ركزه في عقولنا، وتارة يكون بما أمرنا به في الكتاب وألسنة رسله، وتارة بما نلتزمه وليس بلازم في أصل الشرع كالنذور وما يجرى مجراها ا هـ.
والفسوق: الخروج عن كل عهد فطرى وشرعي بالنكث والغدر وغير ذلك من المعاصي، ووجدنا الأولى بمعنى: ألفينا. والثانية بمعنى: علمنا.
المعنى الجملي
هذا خطاب وجه إلى النبي ﷺ تسلية وتثبيتا له على الصبر على دعوته بتذكيره بما في قصص أولئك الرسل مع أقوامهم من وجوه العبر والموعظ، وبيان أن ما يلاقيه منهم من ضروب العناد والاستكبار والإيذاء ليس بدعا بين الأمم، بل ذلك طريق سلكه كثير من الأمم المجاورة لهم كعاد وثمود وأصحاب الأيكة وغيرهم ممن تقدم ذكرهم، وقصصهم يدور على ألسنتهم بحكم الجوار لهم وطروق أرضهم في حلهم وترحالهم في رحلتي الشتاء والصيف.
الإيضاح
(تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها) أي تلك القرى التي بعد عهدها، وطال الأمد على تاريخها وجهل قومك حقيقة حالها نقص عليك بعض أنبائها مما فيه العبرة لقومك ولك.
والمراد بها القرى المعهودة في هذا القصص، والحكمة في تخصيصها بالذكر أنها كانت في بلاد العرب وما جاورها، وكان أهل مكة وغيرهم ممن وجّهت إليهم الدعوة أول الإسلام يتناقلون بعض أخبارها وهي جميعا طبعت على غرار واحد في تكذيب الرسل والمماراة فيما جاءوا به من النذر فحل بهم النكال بعذاب الاستئصال، فالعبرة في جميعها واحدة، ومن ثم فصلها من قصة موسى الآتية لأن قومه آمنوا به وإنما كذب فرعون وملؤه فعذبوا.
(وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) أي ولقد جاء أهل تلك القرى رسلهم بالبينات الدالة على صدق دعوتهم وبالآيات التي اقترحوها عليهم لإقامة حجتهم، فجاء كل رسوله قومه بما أعذر به إليهم، ولكن لم يكن من شأنهم أن يؤمنوا بعد مجىء البينات بما كذبوا به من قبل مجيئها حين بدء الدعوة إلى التوحيد وعبادة الله وحده بما شرعه وترك الشرك والمعاصي.
ذاك أن شأن المكذبين عنادا أو تقليدا أن يصروا على التكذيب بعد إقامة البينة، إذ لا قيمة لها في نظرهم، فهم إما جاحدون معاندون ضلوا على علم، وإما مقلدون يأبون النظر والفهم.
وفي معنى الآية قوله في سورة يونس: « ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ».
(كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ) أي مثل ما ذكر من عناد هؤلاء وإصرارهم على الضلال وعدم تأثير الدلائل والبينات في عقولهم يكون الطبع على قلوب من ران الكفر على قلوبهم وصار العناد ديدنهم سنة الله في أخلاق البشر وأحوالهم، إذ هم يأنسون بالكفر وأعماله وتستحوذ أوهامه على عقولهم ويملأ حب الشهوات أفئدتهم فلا يقبلون بحثا ولا فيما هم عليه نقدا، فما مثلها إلا مثل السكة التي طبعت على طابع خاص أثناء صهر معدنها، وإذابته ثم جمدت فلا تقبل بعد ذلك نقضا ولا شكلا آخر.
وفي الآية تسلية للنبي ﷺ وإعلام له بأن أهل مكة قد وصلوا إلى حال من الجمود والعناد وفساد الفطرة وإهمال النظر والعقل لا تؤثر فيها البينات وإن وضحت، ولا الآيات وإن اقترحت.
وقد كانوا يقترحون عليه الآيات، وكان يتمنى أن يؤتيه الله ما اقترحوا منها حرصا على إيمانهم، حتى بيّن الله له طباعهم وأخلاقهم ليعرف مبلغ أمرهم في قبول دعوته وأنه لا أمل له فيهم بحال.
(وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ) أي وما وجدنا لأكثر أولئك الأقوام عهدا ما يفون به سواء كان عهد الفطرة التي فطر الله الناس عليها - إذ قد فطر الله أنفس البشر على الشعور بسلطان غيبى فوق جميع القوى، وعلى إيثار الحسن واجتناب غيره وعلى حب الكمال وكراهة النقص - أم كان العهد الذي أخذه ربهم عليهم وهم في الأصلاب أنه ربهم ومليكهم وأنه لا إله إلا هو، وأقروا بذلك وشهدوا على أنفسهم به وخالفوه وتركوه وراء ظهورهم وعبدوا معه غيره بلا دليل ولا حجة من عقل ولا شرع.
وقد جاء في صحيح مسلم: « يقول الله: إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم »
وفي الصحيحين: « كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ».
(وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) أي وإننا وجدنا أكثرهم خارجين على كل عهد فطرى وشرعي وعرفى، فهم ناكثون غادرون للعهود مرتكبون أفانين المعاصي.
وفي التعبير بالأكثر إيماء إلى أن بعضهم قد آمن والتزم كل عهد عاهده الله عليه أو تعاهد عليه مع الناس.
وهذا من دأب القرآن في تحقيق الحقائق على وجه الصدق بحيث لا تشوبها شبهات المبالغة بما يسلب أحدا حقه أو يعطى أحدا حق غيره.
قصص موسى عليه السلام
[سورة الأعراف (7): الآيات 103 الى 112]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (107) ونَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ (110) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112)
تفسير المفردات
موسى: هو موسى بن عمران (بكسر العين) وأهل الكتاب يقولون: (عمرام) بفتح أوله، وإنما سمى موسى لأنه ألقى بين ماء وشجر، فالماء بالقبطية (مو) والشجر: (سى) وذلك أن أمه وضعته بعد ولادته في تابوت: (صندوق) وأقفلته إقفالا محكما وألقته في (نهر النيل) خوفا من فرعون وحكومته أن يعلموا به فيقتلوه، إذ كانوا يذبحون ذكور بني إسرائيل عند ولادتهم ويتركون نساءهم.
وفرعون لقب لملوك مصر القدماء كلقب قيصر لملوك الروم وكسرى لملوك الفرس.
والراجح لدى كثير ممن يعنون بالتاريخ المصري القديم أن فرعون موسى هو الملك منفتاح وكان يلقب بسليل الإله. (رع) أي الشمس وقد كتب بجانب هيكله الذي بدار الآثار المصرية الآية الكريمة: « فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ».
والملأ أشراف القوم، وظلموا بها: جحدوا بها وكفروا، وحقيق: أي جدير وخليق به، يقولون أنت حقيق بكذا كما يقول: أنت جدير به وخليق به، والنزع: إخراج الشيء من مكانه، وتأمرون: أي تشيرون في أمره، يقولون: مرنى بكذا على معنى: أشر علي وأدل برأيك، وأرجئ: أي أرجئ أمره وأخره ولا تفصل فيه بادى الرأي، وفى المدائن أي مدائن ملكت، وحاشرين أي جامعين سائقين السحرة منها، وعليم: أي بفنون السحر، ماهر فيها.
المعنى الجملي
هذه هي القصة السادسة من قصص الأنبياء التي ذكرت في هذه السورة وفيها من الإيضاح والتفصيل ما لم يذكر في غيرها، لأن معجزات موسى كانت أقوى من معجزات غيره ممن سبق ذكرهم، وجهل قومه كان أفحش. وقد ذكرت قصته في عدة سور مكية بين مطولة ومختصرة، وذكر اسمه في سور كثيرة زادت على مائة وثلاثين مرة وسر هذا: أن قصته أشبه قصص الرسل بقصص النبي ﷺ إذ أنه أوتى شريعة دينية دنيوية، وكوّن الله تعالى به أمة عظيمة ذات ملك ومدنية.
الإيضاح
(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها) أي ثم بعثنا من بعد أولئك الرسل موسى بالمعجزات التي تدل على صدقه فيما يبلغه عنا إلى فرعون وأشراف قومه فظلموا أنفسهم وقومهم بالكفر بها كبرا وجحودا فكان عليهم إثم ذلك وإثم قومهم الذين حرموا من الإيمان باتباعهم لهم، وقال: « إلى فرعون وملئه » ولم يقل فرعون وقومه لأن الملك ورجال الدولة هم الذين كانوا مستعبدين لبني إسرائيل وبيدهم أمرهم وليس لسائر المصريين من الأمر شيء لأنهم كانوا مستعبدين أيضا، ولكن الظلم كان على بني إسرائيل الغرباء أشد، ولو آمن فرعون وملؤه لآمن سائر المصريين لأنهم كانوا تبعا لهم، وقد كان موسى مرسلا إلى قومه بني إسرائيل قصدا وإلى فرعون وملئه وسيلة.
(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) أي فانظر أيها الرسول كيف كان عاقبة فرعون وملئه المفسدين في الأرض بالظلم واستعباد البشر حين جحدوا آيات الله وكفروا بها.
وفي هذا تشويق وتوجيه للنظر إلى ما سيقصه الله تعالى من عاقبة أمرهم، إذ نصر رسوله موسى وهو واحد من شعب مستضعف مستعبد لهم، على فرعون وملئه وهم أعظم أهل الأرض قوة وصولة بأن أبطل سحرهم وأقنع علماءهم وسحرتهم بصحة رسالته وكون آياته من عند الله، ثم نصره بإرسال أنواع العذاب على البلاد ثم بإنقاذ قومه وإغراق فرعون ومن تبعه من ملئه وجنوده. وهذه عبرة قائمة على وجه الدهر وحجة على أن الغلب ليس للقوة المادية فحسب، كما يقوله المغرورون بعظمة الأمم الظالمة في الغرب لمن استضعفتهم من أهل الشرق.
وبعد التشويق والتنبيه المتقدم، قص الله تعالى ما كان من أولئك القوم في مبدأ أمرهم حتى انتهوا إلى تلك العاقبة.
(وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) أي إن موسى ﷺ بلّغ فرعون أنه رسول من رب العالمين كلهم: أي سيدهم ومالكهم ومدبر جميع أمورهم، فهو لا يقول على الله إلا الحق، إذ لا يمكن أن يبعث الله رسولا يكذب عليه وهو الذي بيده ملكوت كل شيء، فهو معصوم من الكذب والخطأ في التبليغ.
والخلاصة - إن كلامه اشتمل على عقيدة الوحدانية، وهي أن للعالمين ربا واحدا وعلى عقيدة الرسالة المؤيدة منه تعالى بالعصمة في التبليغ والهداية.
ثم ذكر بعد هذا أن الله أيده ببينة تدل على صدقه في دعواه فقال:
(قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي قد جئتكم ببرهان من ربكم شاهد على صدق ما أقول.
وفي قوله: من ربكم إيماء إلى أنهم مربوبون وأن فرعون ليس ربا ولا إلها، وإلى أن البينة ليست من كسب موسى ولا مما يستقل به عليه السلام. ثم رتب على مجيئه بالبينة طلبه منه أن يرسل معه بني إسرائيل أي يطلقهم من أسره ويعتقهم من رقه وقهره ليذهبوا معه إلى دار غير داره ويعبدوا فيها ربهم وربه.
ثم حكى سبحانه ما قاله فرعون حينئذ:
(قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي قال فرعون لموسى إن كنت قد جئت مؤيدا بآية من عند من أرسلك كما تدّعى فأتنى بها وأظهرها لدي إن كنت ممن يقول الصدق ويلتزم قول الحق.
ثم ذكر أن موسى أجابه إلى ما طلبه فقال:
(فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ، وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) أي فلم يلبث موسى أن ألقى عصاه التي كانت بيمينه أمام فرعون فإذا هي ثعبان - ذكر الحيات - مبين، أي ظاهر بيّن لا خفاء في كونه ثعبانا حقيقيا يسعى وينتقل من مكان إلى آخر وتراه الأعين من غير أن يسحرها ساحر فيخيل إليها أنها تسعى، وقوله: ونزع يده، أي أخرجها من جيب قميصه بعد أن وضعها فيه بعد إلقاء العصا فإذا هي بيضاء ناصعة البياض تتلألأ لكل من ينظر إليها.
وقد ذكر رواة التفسير بالمأثور روايات غاية في الغرابة في وصف الثعبان ليس لها سند يوثق به وما هي إلا إسرائيليات تلقفها المفسرون من أهل الكتاب الذين كانوا يكيدون للإسلام وللعرب كروايات وهب بن منبّه وهو فارسى الأصل أخرج كسرى والده إلى بلاد اليمن فأسلم في زمن النبي ﷺ وكان ابنه من بعده يختلف إلى بلاده بعد فتحها، ومثله روايات كعب الأحبار الإسرائيلي، وقد كان كلاهما كثير الرواية للغرائب التي لا يعرف لها أصل معقول ولا منقول، وقومهما كانوا يكيدون للمسلمين الذين فتحوا بلاد الفرس وأجلوا اليهود من الحجاز، ألا ترى أن قاتل الخليفة الثاني فارسى مرسل من جماعة سرية لقومه، وقتلة الخليفة الثالث كانوا مفتونين بدسائس عبد الله بن سبأ اليهودي.
ويرى المحققون من أعلام المسلمين أن الفتن السياسية والأكاذيب التي حدثت في الرواية في الصدر الأول يرجع أمرها إلى جماعة السبئيين وجماعات الفرس التي كانت تزوّد هؤلاء الوضاعين بأسلحة من الغش والتدليس ليفسد الإسلام على أهله، ولو لا أن قيض الله للاسلام جماعة من أهل التحقيق أخرجوا البهرج والزيوف وألقوه وراءهم ظهريا وأبقوا الجيّد الذي لا لبس فيه ولا شك في صحة روايته لكان خطبهم قد استفحل في الإسلام وأفسدوا كثيرا منه على أهله، ولكن الله قد حفظ الحنيفية لأهلها بيضاء نقية سمحة لا عنت فيها ولا إرهاق.
ثم حكى ما قاله قومه بعد أن رأوا من موسى ما رأوا.
(قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ، يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ) أي قال الأشراف من قوم فرعون وهم أهل مشورته ورؤساء دولته: إن هذا لساحر عليم: أي ماهر في فنون السحر قد وجه كل همه لسلب ملككم منكم وإخراجكم من أرضكم بسحره، إذ به يستميل الشّعب وينتزع منكم الملك، ثم يخرج الملك وعظماء رجاله من البلاد حتى لا يناوئوه في شئون الملك واستعادته منه.
وقد أبان هذا المعنى بوضوح بقوله في سورة يونس حكاية عنهم من مراجعتهم لموسى وأخيه: « قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ ».
ولم يكن هذا القول منهم إلا صدى لما قاله فرعون وقد حكاه الله عنه في سورة الشعراء بقوله: « قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ، يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ » وقد ردّدوه بعده وصار بعضهم يلقيه إلى بعض كما هي عادة الناس في ترديد كلام الملوك والرؤساء إظهارا للموافقة عليه وتعميما لتبليغه، وبعد أن أتموا مقالتهم موافقين ما قاله فرعون تشاوروا في أمره بماذا يحتالون لإطفاء نوره وإخماد نار دعوته متخوّفين أن يستميل الناس بسحره، فاتفقت كلمتهم على ما حكاه الله عنهم بقوله:
(قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) أي قال الملأ لفرعون حين استشارهم بقوله: فماذا تأمرون؟ أخّر الفصل في أمره وأمر أخيه وأرسل في مدائن ملكك جماعات من رجال شرطتك وجندك جاشرين: أي جامعين لك السحرة منها وسائقيهم إليك.
وقد كان السحر في زمانهم غالبا كثيرا ظاهرا، ومن ثمّ خيّل إلى كثير منهم أن ما جاء به موسى من قبيل ما تشعبذ به سحرتهم فلهذا جمعوا له السحرة ليعارضوه بنظير ما أراهم من البينات كما حكى الله عن فرعون حيث قال: « أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى، فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكانًا سُوىً. قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى، فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى ».
(يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) أي فإن ترسلهم يأتوك بكل ساحر مجيد لفنون السحر ماهر فيها فيكشفوا لك حقيقة ما جاء به موسى فلا يفتنّ به أحد.
وإنما قال في المدائن لأن السحر من العلوم التي توجد في المدائن الجامعة المأهولة بدور العلم والصناعة، وإنما نصحوه بإحضار السحرة الماهرين، لأنهم الجديرون أن يأتوا موسى بمثل ما أتى به من الأمر العظيم.
فذلكة في السحر وضروبه
السحر أعمال غريبة وحيل تخفى حقيقتها على جماهير الناس لجهلهم لأسبابها، وقد كان فنا من الفنون التي يتعلمها قدماء المصريين في مدارسهم الجامعة مع كثير من العلوم الكونية، واقتفى أثرهم في ذلك البابليون والهنود وغيرهم ولا يزال يؤثر عن الوثنيين من الهنود أعمال غريبة مدهشة من السحر اهتم بعض الإنكليز وغيرهم بالبحث بن حقيقة أمرها فعرفوا بعضا وجهلوا تعليل الأكثر.
وهو لا يروج إلا بين الجاهلين وله مكانة عظيمة في القبائل الهمجية، والبلاد ذات الحضارة تسميه بالشّعوذة والاحتيال والدجل، وهو أنواع ثلاثة:
(1) ما بعمل بأسباب طبيعية من خواص المادة معروفة للساحر مجهولة عند من يسحرهم بها كالزئبق الذي قيل إن سحرة فرعون وضعوه في حبالهم وعصيّهم كما سنذكره بعد، ولو ادعى علماء الطبيعة والكيمياء في هذا العصر السحر في أواسط إفريقيا وغيرها من البلاد التي يروج فيها السحر لأروهم العجب العجاب من غرائب الكهرباء وغيرها حتى لو ادّعوا فيهم الألوهية لخضعوا لهم فضلا عن النبوة والولاية.
(2) الشعوذة التي ملاك أمرها خفة اليدين في إخفاء بعض الأشياء وإظهار بعض وإراءة بعضها بغير صورها وغير ذلك مما هو معروف في هذه البلاد وغيرها من البلاد المتمدينة.
(3) ما يكون مداره على تأثير الأنفس ذات الإرادة القوية في الأنفس الضعيفة القابلة للأوهام والانفعالات التي يسميها علماء النفس: (بالأنفس الهستيرية) وأصحاب هذا النوع يستعينون على أعمالهم بأرواح الشياطين ومنهم من يكتب الأوفاق والطلسمات للحب والبغض إلى نحو ذلك.
ومن ذلك ما استحدث في هذا العصر من التنويم المغناطيسي.
وعلى الجملة فالسحر صناعة تتلقى بالتعليم كما ثبت بنص الكتاب الكريم.
وبالاختبار الذي لم يبق فيه شك بين العلماء في هذا العصر.
قال أبو بكر الرازي المعروف بالجصاص وهو من فقهاء الحنفية في القرن الرابع:
زعموا أن النبي ﷺ سحر وأن السحر عمل فيه حتى قال فيه: (إنه يخيّل إلي إني أقول الشيء وأفعله، ولم أقله ولم أفعله وإن امرأة يهودية سحرته في جفّ طلعة: (وعاء طلع النخل) ومشط ومشاطة حتى أتاه جبريل عليه السلام فأخبره أنها سحرته في جفّ طلعة وهو تحت راعوفة البئر [1]. فاستخرج وزال عن النبي ﷺ ذلك العارض.
إلى أن قال: ومثل هذه الأخبار من وضع الملحدين تلعبا بالحشو الطّغام واستجرارا لهم إلى القول بإبطال معجزات الأنبياء عليهم السلام والقدح فيها، وأنه لا فرق بين معجزات الأنبياء وفعل السحرة وأن جميعه من نوع واحد. والعجب ممن يجمع بين تصديق الأنبياء عليهم السلام وإثبات معجزاتهم وبين التصديق بمثل هذا من فعل السحرة مع قوله تعالى: « وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى » فصدّق هؤلاء من كذبه الله وأخبر ببطلان دعواه وانتحاله، وجائز أن تكون المرأة اليهودية بجهلها فعلت ذلك ظنا منها بأن ذلك يعمل في الأجساد وقصدت به النبي عليه الصلاة والسلام فأطلع الله نبيه على موضع سرها وأظهر جهلها فيما ارتكبت وظنت ليكون ذلك من دلائل نبوته، لا أن ذلك ضره، وخلط عليه أمره، ولم يقل كل الرواة إنه اختلط عليه أمره، وإنما هذا اللفظ زيد في الحديث ولا أصل له ا هـ.
[سورة الأعراف (7): الآيات 113 الى 116]
وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف أنهم طلبوا إليه تأخير الفصل في أمره حتى يحضر السحرة ليفسدوا عليه أعماله ويبينوا خبىء حيله - ذكر هنا أن السحرة جاءوا وطلبوا المثوبة من فرعون إن هم نفذوا ما طلبه فأجابهم إلى ذلك ففعلوا أفاعيلهم السحرية التي أوقعت الرهب في قلوب المشاهدين.
الإيضاح
(وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ) أي وجاء السحرة الذين حشرهم أعوان فرعون وشرطته إليه، وحين جاءوا قالوا لفرعون: هل لنا من أجر كفاء ما نقوم به من العمل العظيم الذي يتم به الغلب على موسى.
(قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) أي قال فرعون مجيبا لهم إلى ما طلبوا: نعم إن لكم أجرا عظيما على ما تقومون به من ذلك العمل الجليل، وأنتم مع ذلك تكونون من المقرّبين منا فتجمعون بين المال والجاه وذلك منتهى ما تطمعون فيه من نعيم الدنيا وسعادتها.
(قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) أي قال السحرة لموسى بعد عدة فرعون لهم: إما أن تلقى ما عندك أولا، وإما أن نلقى ما عندنا وفى هذا التخيير منهم له - دليل على اعتدادهم بسحرهم وثقتهم بأنفسهم وعدم المبالاة بعمله، ولو لا ذلك لما خيروه. إذ المتأخر في العمل يكون أبصر بما تقتضيه الحال بعد وقوفه على منتهى جهد خصمه.
(قالَ أَلْقُوا) أي قال موسى عليه السلام وهو واثق بشأنه محتقر لهم غير مبال بهم: ألقوا ما أنتم ملقون وهو عليه السلام لم يأمرهم بفعل السحر ابتداء وإنما أمر بأن يتقدموه فيما جاءوا لأجله ولا بد لهم منه، وأراد بذلك التوسل إلى إظهار بطلان السحر لا إثباته وإلى بناء ثبوت الحق على بطلانه، ولم يكن هناك وسيلة للإبطال إلا ذلك، وقد صرح به فيما حكاه تعالى عنه: « قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ. وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ».
(فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) استرهبه أوقع في قلبه الرّهب والخوف، أي فلما ألقوا ما ألقوا من حبالهم وعصيّهم سحروا أعين النظارة ومنهم موسى عليه السلام كما جاء في سورة طه: « فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى » وجاءوا بسحر عظيم في مظهره كبير في تأثيره في أعين الناس.
قال ابن كثير أي خيلوا إلى الأبصار أن ما فعلوه له حقيقة في الخارج ولم يكن إلا مجرد صنعة وخيال.
قال ابن عباس رضي الله عنه: إنهم ألقوا حبالا غلاظا وخشبا طوالا فأقبلت يخيّل إليه من سحرهم أنها تسعى.
قال ابن اسحق: إن السحرة كانوا خمسة عشر ألف ساحر. وإن الحيات التي أظهروها بخيال سحرهم كانت كأمثال الجبال قد ملأت الوادي. وقال السدي: إن السحرة كانوا بضعا وثلاثين ألفا ا هـ.
وكل هذا مبالغات إسرائيلية وتهويلات لم يصح شيء منها وليس في التوراة ما يؤيدها.
وقال الجصاص في تفسيره: سحروا أعين الناس، يعني موّهوا عليهم حتى ظنوا أن حبالهم وعصيهم تسعى، كما قال: « يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى ».
فأخبر أن ما ظنوه سعيا منها لم يكن سعيا وإنما كان تخيلا. وقد قيل إنها كانت عصيا مجوّفة قد ملئت زئبقا وكذلك الحبال كانت معمولة من جلد محشوة زئبقا. وقيل حفروا قبل ذلك تحت المواضع أسرابا ملئوها نارا فلما طرحت عليه وحمى الزئبق حركها لأن من شأن الزئبق إذا أصابته النار أن يطير ا هـ.
فعلى هذا يكون سحرهم لأعين الناس عبارة عن هذه الحيلة الصناعية إذا صح خبرها. ويمكن أن تكون هناك حيلة أخرى كإطلاق أبخرة أثرت في الأعين فجعلتها تبصر ذلك، أو أن الحبال والعصى جعلت على صورة الحيات وحركت بمحركات خفية سريعة لا تدركها أبصار الناظرين.
[سورة الأعراف (7): الآيات 117 الى 122]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121)
رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (122)
تفسير المفردات
لقف الشيء وتلقفه: تناوله بحذق وسرعة، والمأفوك: المصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه، ومن ثم يقال للرياح التي عدلت عن مهابها مؤتفكة كما قال: « وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ » وقال: « قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ » أي يصرفون عن الحق في الاعتقاد إلى الباطل، وعن الصدق في المقال إلى الكذب، وعن الجميل في الفعل إلى القبيح، فالإفك يكون بالقول كالكذب وقد يكون بالفعل كعمل سحرة فرعون، وانقلبوا عادوا، وصاغرين أي أذلة بما رزئوا به من الخذلان والخيبة، وألقى السحرة ساجدين: أي خرّوا سجدا لأن الحق بهرهم واضطرهم إلى السجود.
الإيضاح
(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) أي أوحى الله إلى عبده ورسوله موسى عليه السلام في ذلك الموقف العظيم الذي قرن فيه بين الحق والباطل - أن يلقى ما في يمينه وهي عصاه فإذا هي تبتلع ما يلقون ويوهمون به أنه حق وهو باطل - قال ابن عباس فجعلت لا تمرّ بشىء من حبالهم ولا خشبهم إلا التقمته، فعرفت السحرة أن هذا شيء من السماء وليس بسحر فخروا سجدا و« قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ ».
ويرى جماعة من المفسرين أن لقفها لما يأفكون - هو أنها أتت عليه حتى أظهرت بطلانه وبيان حقيقة أمره في نفسه بسرعة، فإن كان إفكهم بما أحدثوه من التأثير في الأعين فلقفها إياه إزالته وإبطاله برؤية الحبال والعصي على حقيقتها، وإن كان تحريكا لها بمحركات خفية سريعة فكذلك وإن كان قد حصل بجعلها مجوفة محشوّة بالزئبق وتحريكه إياها بفعل الحرارة: (سواء كانت نارا أعدت لها أو الشمس حين أصابتها) فلقفها لذلك يكون بعمل من الحية أخرجت به الزئبق من الحبال والعصى فانكشفت به الحيلة ولو كانت قد ابتلعتها لبقى الأمر ملتبسا على الناس، إذ قصاراه أن كلا من السحرة وموسى قد أظهر أمرا غريبا ولكن أحد الفريقين كان أقوى من الآخر فأخفاه على وجه غير معلوم ولا مفهوم، وهذا لا ينافى كونهما من جنس واحد - ولكن زوال غشاوة السحر وتخييله حتى رأى الناس أن الحبال والعصى التي ألقاها السحرة ليست إلا حبالا وعصيا لا تسعى ولا تتحرك، وأن عصا موسى لم تزل حية تسعى هو الذي ماز الحق من الباطل وعرفت به الآية الإلهية والحيلة الصناعية وقد فعلت ذلك بسرعة ومن ثم عبر عنه باللقف، ولكن لا يعرف بما كان لها هذا التأثير؟ لأنها آية إلهية لا أمر صناعى حتى تدرك حقيقته.
(فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي فثبت الحق وفسد ما كانوا يعملون من الحيل والتخييل وذهب تأثيره، إذ تبين لمن شهده وحضره أن موسى رسول من عند الله يدعو إلى الحق وأن ما عملوه ما هو إلا إفك السحر وكذبه ومخايله.
(فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ) أي فغلب موسى فرعون وجموعه في ذلك الجمع العظيم الذي كان في عيد لهم ضربه موسى موعدا لهم كما جاء في سورة طه: « قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى » وعادوا من ذلك الحفل صاغرين أذلة بما رزئوا به من خيبة وخذلان.
(وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) أي وألقى السحرة حينما عاينوا عظيم قدرة الله ساقطين على وجوههم سجّدا لربهم، لأن الحق قد بهرهم واضطرهم إلى السجود، حتى كأن أحدا دفقهم وألقاهم.
والخلاصة - إن ظهور بطلان سحرهم وإدراكهم فجأة لآية موسى وعلمهم بأنها من عند الله لا صنع فيها لمخلوق ملأت عقولهم يقينا وقلوبهم إيمانا فكأنّ اليقين الحاكم
على الأعضاء والجوارح هو الذي ألقاهم على وجوههم سجدا لرب العالمين الذي بيده ملكوت كل شيء - وزالت من نفوسهم عظمة فرعون الدنيوية الزائلة - بعد أن ظهر لهم صغاره أمام هذه الآية فنطقوا بما حكى الله عنهم.
(قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ. رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) أي قالوا صدقنا بما جاءنا به موسى، وأن الذي علينا أن نعبده هو رب الإنس والجن وجميع الأشياء المدبر لها رب موسى وهارون.
[سورة الأعراف (7): الآيات 123 الى 126]
قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126)
تفسير المفردات
المكر: صرف الإنسان عن مقصده بحيلة، وهو نوعان: محمود ويراد به الخير.
ومذموم يقصد به الشر، وتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف أن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى والعكس بالعكس، والصلب الشد على خشبة ونحوها، وشاع في تعليق الشخص بنحو حبل في عنقه ليموت وهو المتعارف اليوم - ونقمت الشيء: إذا أنكرته إما باللسان وإما بالعقوبة كما قال تعالى « وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ » - « وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ » وأفرغ علينا: أي أفض علينا صبرا يغمرنا كما يفرغ الماء من القرب.
المعنى الجملي
في هذه الآية إخبار بما توعد به فرعون السحرة لما آمنوا بموسى عليه السلام وبما عزم عليه من التنكيل بهم وبما رد به السحرة عليه من استسلامهم لأمر الله لا لأمره ودعائهم ربهم بالتوفي على ملة الإسلام.
الإيضاح
(قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) آمنتم إما خبر يراد به التوبيخ، وإما استفهام يراد به الإنكار والتوبيخ: أي آمنتم به واتبعتموه مذعنين لرسالته قبل أن آذن لكم؟
(إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها) أي إن هذا الذي فعلتموه أنتم وهو - ليس إلا مكرا مكرتموه واتفاقا دبّرتموه من قبل بما أظهرتم من المعارضة والرغبة في الغلب عليه - مع إسرار اتباعه بعد ادعاء ظهور حجته كما جاء في سورة طه: « إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ » فأجمعتم كيدكم لنا في هذه المدينة لأجل أن تخرجو المصريين منها بسحركم، ويكون لكم فيها مع بني إسرائيل ما هو لنا الآن من الملك والرياسة والتصرف في البلاد.
وكل ذي لب وفطنة يعلم أن هذه مقالة لا نصيب لها من الصحة، ولا ظل لها من الحقيقة، فإن موسى إثر مجيئه من مدين دعا فرعون إلى الله وأظهر المعجزات الباهرة، فلم يكن من فرعون إلا أن أرسل في المدائن حاشرين ووعدهم بالعطاء الجزيل، وموسى لا يعرف منهم أحدا ولا رآه ولا اجتمع به وفرعون يعلم ذلك وإنما قال ذلك تسترا وتدليسا على رعاع دولته وجهلتهم كما قال تعالى « فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ ».
(فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ما أصنع بكم من العذاب جزاء على هذا المكر والخداع.
ثم بين ذلك بقوله:
(لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) أي قسما لأنكلنّ بكم أشد التنكيل، لأقطعن الأيدي والأرجل من خلاف ثم لأصلبنّ كل واحد منكم وهو على تلك الحال لتكونوا عبرة لمن تحدّثه نفسه بالكيد لنا والترفع عن الخضوع لعظمتنا.
والخلاصة - إن اتهامه السحرة بالتواطؤ مع موسى إثما كان تمويها على قومه المصريين، إذ خاف عاقبة إيمان الشعب بموسى فادّعى أنه لا ينتقم من السحرة إلا حبّا فيهم ودفاعا عنهم وإبقاء لاستقلالهم في وطنهم كما هو شأن كل رئيس أو ملك في شعب يخاف أن ينتقض عليه وتجتمع كلمته على اختيار زعيم آخر يقوم بدعوة دينية أو سياسية.
وعند ما سمع السحرة هذا التهديد والوعيد من ذلك الجبار المتكبر أجابوه.
(قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) أي إنهم لا يأبهون بقتلهم، لأنهم راجعون إلى ربهم راجون مغفرته ورحمته، فتعجيل القتل يكون سببا لقرب لقائه والتمتع بجزائه.
وقد يكون المعنى - إنا وإياك سننقلب إلى ربنا وما أنت بمخلّد بعدنا، فلئن قتلتنا فسيحكم الله بعدله بينك وبيننا.
إلى ديّان يوم الدين نمضى وعند الله تجتمع الخصوم
وفي هذا إيماء إلى تكذيبه في دعوى الربوبية وتصريح بإيثار ما عند الله على ما عنده من الشهوات الدنيوية الزائلة.
وما جاء في سورة الشعراء من قولهم: « قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ. إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ » يؤيد المعنى الأول.
(وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا) أي وما تعيب منا وما تنكر إلا خير الأعمال وأصل المفاخر وهو الإيمان بالله، ومثل هذا لا يمكن العدول عنه مرضاة لك ولا طلبا للزلفى إليك.
وفيه تيئيس له، وكأنهم قالوا لا مطمع لك في رجوعنا عن إيماننا، وإلى أن تهديدك لا يجدى فائدة.
وما ذكره السحرة من نقم فرعون منهم كان بالقول بالاستنكار التوبيخي لإيمانهم والتهمة فيه والوعيد عليه، وهل نفّذ الوعيد بالانتقام بالفعل؟ الظاهر نعم بدليل قوله « فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ » يعني فرعون وملأه.
وقد ختم سبحانه كلام السحرة بدعائهم بقولهم: « رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ » أي ربنا هب لنا صبرا واسعا تفرّغه علينا وأيّدنا بروحك حتى لا يبقى في قلوبنا شيء من خوف غيرك ولا من الرجاء في سوى فضلك، وتوفّنا إليك مذعنين لأمرك ونهيك مستسلمين لقضائك غير مفتونين بتهديد فرعون ولا مطيعين له في قوله ولا فعله. وقد ذكر المؤرخون قديما وحديثا أن المؤمنين بالله واليوم الآخر من كل ملة ودين يكونون أعظم شجاعة وأكثر صبرا على مشاق الحروب من غيرهم، ومن ثم يحرص زعماء الشعوب على بث النزعة الدينية بين رجالات الجيوش.
[سورة الأعراف (7): الآيات 127 الى 129]
وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (127) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)
المعنى الجملي
يخبر سبحانه عما تمالأ عليه فرعون وملؤه وما أضمروه لموسى وقومه من الأذى والبغض وما كان من تأثير جوابه في موسى وقومه لقد نصح موسى قومه ودار بينهم حوار قصه الله علينا في تلكم الآيات.
الإيضاح
(وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ؟) أي وقال الأشراف من قوم فرعون لفرعون: أتترك موسى وقومه أحرارا آمنين فتكون عاقبتهم أن يفسدوا عليك قومك بإدخالهم في دينهم، أو بجعلهم تحت سلطانهم ورياستهم ويتركك مع آلهتك فلا يعبدوك ولا يعبدوها فيظهر لأهل مصر عجزك وعجزها ولا يغيبنّ عنك إيمان السحرة فقد يكون مقدمة لما بعده.
والتاريخ المصري المستمدّ من العاديات المصرية يدل على أنه كان للمصريين آلهة كثيرة منها الشمس ويسمونها (رع) وفرعون عندهم سليل الشمس وابنها.
(قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) أي قال فرعون مجيبا للملأ: سنقتّل أبناء قومه تقتيلا كلما تناسلوا ونستبقى نساءهم أحياء كما كنا نفعل قبل ولادته حتى ينقرضوا ويعلموا أنا على ما كنا عليه من القهر والغلبة.
(وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) أي وإنا مستعلون عليهم بالغلبة والسلطان، قاهرون لهم كما كنا من قبل، فلا يقدرون على أذانا ولا الإفساد في أرضنا ولا الخروج من عبوديتنا، وقد جاء في سورة المؤمن « وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ، إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ ».
ولما سمع بنو إسرائيل هذا الوعيد خافوا من فرعون فطمأنهم موسى كما حكى الله عنه بقوله:
(قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) أي قال لهم يا قوم: اطلبوا معونة الله وتأييده على رفع ذلك الوعيد عنكم، واصبروا ولا تحزنوا، فإن الأرض (فلسطين) التي وعدكموها ربكم هي لله الذي بيده ملكوت كل شيء يورثها من يشاء من عباده لا لفرعون، فهي على مقتضى سننه دول وأيام، والعاقبة الحسنى لمن يتقون الله ويراعون سننه في أسباب إرث الأرض باتحاد الكلمة والاعتصام بالحق وإقامة العدل والصبر على الشدائد والاستعانة بالله لدى المكاره، ونحو ذلك مما هدت إليه التجارب ودلت عليه الشرائع.
والخلاصة - إن الأمر ليس كما قال فرعون، بل القهر والغلبة لمن صبر واستعان بالله، ولمن وعده الله تعالى توريث الأرض ونحن الموعودون بذلك، ولكن بشرط أن نقيم شرعه ونسير على سننه في الخلق.
وليس الأمر كما يظن فرعون وقومه من بقاء القوي على قوته، والضعيف على ضعفه اعتمادا على أن الآلهة ضمنت له بقاء ملكه وعظمته وجبروته.
لكن هذه الوصية وتلك النصائح لم تؤثر في قلوبهم ففزعوا من فرعون وقومه.
و(قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا) فقد كان بنو إسرائيل قبل مجىء موسى مستضعفين في يد فرعون يأخذ منهم إتاوات مختلفة، ويستعملهم في الأعمال الشاقة، ويمنعهم من الترف، ويقتل أبناءهم ويستحيى نساءهم، فلما بعث الله موسى لم يستطع أن ينقذهم من ظلم فرعون، إذ كان يؤذيهم ويظلمهم بعد إرساله كما كان يؤذيهم من قبل ذلك أو أشد.
ولما ذكروا ذلك لموسى أجابهم:
(قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) أي قال موسى إن رجائى من فضل الله أن يهلك عدوكم الذي ظلمكم ويجعلكم خلفاء في الأرض التي وعدكموها ومنعكم فرعون من الخروج منها، فينظر سبحانه كيف تعملون بعد استخلافه إياكم فيها - أتشكرون النعمة أم تكفرون؟ وتصلحون في الأرض أم تفسدون، ويكون جزاؤكم في الدنيا والآخرة وفق ما تعملون.
وعبر بالرجاء دون أن يجزم بذلك لئلا يتركوا ما يجب من العمل ويتكلوا على ذلك، أو لئلا يكذّبوه لأن أنفسهم قد ضعفت بما طال عليها من الذل والاستخذاء لفرعون وقومه واستعظامهم لقومه وملكه.
وقد جاء في الفصل السادس من سفر الخروج من التوراة: فقال الرب لموسى: ألا ترى ما أصنع بفرعون، إنه بيد قديرة سيطلقكم، وبيد قديرة سيطردكم من أرضه - وأعلمه بأنه أعطى إبراهيم وإسحق عهدا بأن يعطيهم أرض كنعان وأنه سمع أنين بني إسرائيل الذين استعبدهم المصريون فذكر عهده - ثم قال: لذلك قل لبني إسرائيل أنا الرب لأخرجنّكم من تحت أثقال المصريين، وأخلصنّكم من عبوديتهم، وأفدينّكم بذراع مبسوطة وأحكام عظيمة، وأتخذنّكم لي شعبا، وأكونن لكم إلها وتعلمون أننى أنا الرب إلهكم المخرج لكم من تحت أثقال المصريين وسأدخلنكم الأرض التي رفعت بدى مقسما أن أعطيها لإبراهيم وإسحق ويعقوب فأعطيها لكم ميراثا أنا الرب، فكلم موسى بذلك بني إسرائيل فلم يسمعوا لموسى لضيق أرواحهم وعبوديتهم الشاقة؟ ا هـ.
وعلينا أن نعرف أن جل ما كتبه المفسرون عن بني إسرائيل منقول مما سمعوه ممن أسلم منهم وليس كل من أسلم منهم كان حافظا ثقة صادقا في النقل، وإما مأخوذ من كتب غير موثوق بها ومن ثم كان أكثر ما كتبوه في التفسير منها مهوّشا مضطربا حجة لأهل الكتاب علينا.
وإذا كان هذا حال علمائنا في أخبارهم بعد انتشار العلوم في البلاد الإسلامية، فما بالك بأخبارهم لدى أهل مكة عند ظهور الإسلام ولم يكن في مكة كتاب يقرأ، ولا أحد يعرف القراءة والكتابة إلا ستة نفر من التجار يعرفونها معرفة ساذجة، لا تشفى غليلا، ولا تفيد في تحقيق حادثة ولا حل مشكلة.
فإني لمحمد بن عبد الله أن يعرف حقائق أخبارهم ومعرفة أحوالهم لو لا الوحي الإلهي والفيض الرباني من لدن عليم خبير.
[سورة الأعراف (7): الآيات 130 الى 133]
وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133)
تفسير المفردات
كثر استعمال الأخذ في العذاب كقوله « وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ » وآل فرعون: قومه وخاصته وأعوانه في أمور الدولة، وهم الملأ من قومه ولا يستعمل هذا اللفظ إلا فيمن يختص بالإنسان بقرابة قريبة كما قال عز اسمه « وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ » أو بموالاة ومتابعة في الرأي كما قال « أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ » والسنون، واحدها سنة: وهي بمعنى الحول ولكن أكثر ما تستعمل في الحول الذي فيه الجدب كما هنا بدليل نقص الثمرات، والمراد بالحسنة هنا: الخصب والرخاء، وبالسيئة: ما يسوءهم من جدب وجائحة أو مصيبة في الأبدان والأرزاق، ويطيروا يتشاءموا، وسر إطلاق التطير على التشاؤم أن العرب كانت تتوقع الخير والشر مما تراه من حركة الطير فإذا طارت من جهة اليمين تيمنت بها ورجت الخير والبركة، وإذا طارت من جهة الشمال تشاءمت وتوقعت الشر، ويسمى الطائر الأول السانح، والثاني البارح، وسموا الشؤم طيرا وطائرا والتشاؤم تطيرا. الطوفان لغة: ما طاف بالشيء وغشيه، وغلب في طوفان الماء سواء كان من السماء أو الأرض، والقمل (بضم القاف وتشديد الميم المفتوحة) هو السوس الذي يخرج من الحنطة، وقيل هو صغار الجراد، وقال الراغب: هو صغار الذباب، والدم: هو الرعاف وقيل هو دم كان يحدث في مياه المصريين.
المعنى الجملي
بعد أن حكى سبحانه وعد موسى لقومه بقوله - عسى ربكم أن يهلك عدوكم - ذكر هنا مبادئ الهلاك الموعود به بما أنزله على فرعون وقومه من المحق حالا بعد حال، إلى أن حل بهم عذاب الاستئصال، تنبيها للسامعين وزجرا لهم عن الكفر وتكذيب الرسل، حذر أن ينزل بهم من الشر مثل ما نزل بهؤلاء.
الإيضاح
(وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي إنه تعالى أخذ آل فرعون بالجدب وضيق المعيشة لعلهم يتذكرون ضعفهم أمام قوة الله وعجز ملكهم العالي الجبار وعجز آلهتهم، ليرجعوا عن ظلمهم لبني إسرائيل ويجيبوا دعوة موسى عليه السلام، إذ قد دلت التجارب على أن الشدائد ترقّق القلوب وتهذب الطباع، وتوجه النفوس إلى مناجاة الرب سبحانه والعمل على مرضاته والتضرع له دون غيره من المعبودات متى اتخذوها وسائل إليه وشفعاء عنده.
فإن لم تجد المصايب في تذكر المولى وبلغ الأمر بالناس أن يشركوا به حتى في أوقات الشدائد فهم في خسران مبين وضلال بعيد، وكذلك كان دأب آل فرعون بعد أن أنذرهم موسى عليه السلام.
ثم بيّن أن المصايب لم تفدهم ذكرى، بل زادتهم عتوا فقال:
(فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) أي فإذا جاءهم خصب وثمار ومواش وسعة في الرزق والعافية قالوا لنا هذه أي نحن المستحقون لها بما لنا من التفوق على الناس فبلادنا بلاد خصب ورخاء، وقد غاب عنهم أن يعلموا أن هذا من الله فعليهم أن يشكروه عليه ويقوموا بحق النعمة فيه - وإن أصابهم قحط وجدب ومرض وبلاء تشاءموا بموسى، وقالوا إنما أصابنا هذا الشر بشؤم موسى وقومه وغفلوا عن سيئات أنفسهم وظلمهم لقوم موسى توهما منهم أن ذلك حق من حقوقهم.
ومثل هذه المعاملة هي التي يحب أن يعامل بها الأجنبي في الوطن والدين كما هي الحال الآن في معاملة أهل المغرب للبلاد الشرقية المستعمرة لهم.
(أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي إن كل ما يصيبهم من خير أو شر فهو بقضاء الله وتقديره وهو الذي وضع لنظام الكون سننا تكون فيه المسببات وفق أسبابها، وبمقتضى هذه السنن والأقدار ينزل عليهم البلاء ويكون امتحانا واختبارا لهم ليتوبوا ويرجعوا عن ظلمهم وبغيهم على بني إسرائيل وعن طغيانهم وإسرافهم في جميع أمورهم، ولكن أكثرهم لا يعلمون حكمة تصرف الخالق في هذا الكون ولا أسباب الخير والشر، ولا أن كل شيء فيه جاء بمشيئته وتدبيره.
وبعد أن ذكر أن هذه الحسنات والسيئات لم تردعهم عما هم فيه من الطغيان - ذكر أنه أصابهم بضروب أخرى من العذاب وهي في أنفسها آيات بينات - وهم مع ذلك لم يرعوا عن كفرهم وعنادهم.
(وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) أي إنك إن جئتنا بكل نوع من أنواع الآيات التي يستدل بها على أنك محق في دعوتك، لأجل أن تسحرنا بها وتصرفنا بها بدقة ولطف عما نحن فيه من ديننا ومن تسخيرنا لقومك في خدمتنا، فما نحن بمصدقين لك ولا بمتبعين رسالتك.
(فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ) أي فأرسلنا عليهم عقوبة على جرائمهم تلك المصايب والنكبات، وهي آيات بينات على صدق رسالة موسى، إذ قد توعّدهم بوقوع كل واحدة منها على وجه التفصيل، لتكون دلالتها على صدقه واضحة لا تحتمل تأويلا بأنها وقعت لأسباب لا ارتباط لها برسالته، فاستكبروا عن الإيمان بها لرسوخهم في الإجرام والإصرار على الذنوب وإن كانوا يعتقدون صدق دعوته وصحة رسالته.
وقد عدد سبحانه هنا من الآيات خمسا وفى سورة الإسراء تسعا وهي:
(1) الطوفان فقد نزلت عليهم أمطار أغرقت أرضهم وأتلفت زرعهم وثمارهم، وجاء وصفها في التوراة ففي الفصل التاسع في سفر الخروج (ثم قال الرب لموسى:
بكّر في الغداة وقف بين يدي فرعون وقل له: كذا قال الرب إله العبرانيين: أطلق شعبى ليعبدوني، فإني في هذه المرة منزّل جميع ضرباتى على قلبك وعلى عبيدك وشعبك، لكي تعلم أنه ليس مثلى في جميع الأرض، وأنا الآن أمد يدي وأضربك أنت وشعبك بالوباء فتضمحل من الأرض، غير إني لهذا أبقيك لكي أريك فوتى ولكى يخبر باسمي في جميع الأرض، وأنت لم تزل مقاوما لشعبى، ها أنا ممطر في مثل هذا الوقت من غد بردا عظيما جدا لم يكن مثله في مصر منذ يوم أسست إلى الآن.
ثم ذكر فيها وقوع البرد مع نزول نار من السماء، ووصف عظمته وشموله لجميع بلاد مصر وأن فرعون طلب موسى وهارون واعترف لهما بخطئه وطلب مهما أن يشفعا إلى الرب ليكفّ هذه النكبة عن مصر ووعدهما بإطلاق بني إسرائيل وجاء في ختام هذا الفصل.
فخرج موسى من المدينة من لدن فرعون وبسط يديه إلى الرب فكفّت الوعود ولم يعد المطر يهطل على الأرض.
(2) الجراد وقد ذكر في التوراة بعد الطوفان، فقد جاء فيها (إن فرعون فسا قلبه فلم يطلق بني إسرائيل فأخبر الرب موسى فأمره بأن ينذره بإرسال الجراد عليهم فيأكل كل ما سلم من النبات والشجر ويملأ بيوته وبيوت عبيده وسائر بيوت المصريين ففعل - فرضى فرعون أن يذهب الرجال من بني إسرائيل ليعبدوا ربهم دون النساء والأولاد والمواشي، فرد موسى عصاه بأمر الرب على أرض مصر فأرسل الرب ريحا شرقية ساقت الجراد على أرض مصر فغطى جميع وجه الأرض حتى أظلمت الأرض وأكل عشبها وجميع ما تركه البرد من ثمر الشجر حتى لم يبق شيء من الخضرة في الشجر ولا في عشب الصحراء في جميع أرض مصر وجاء فيها: إن فرعون استدعى موسى وهارون واعترف لهما بخطئه وطلب منهما الصفح والشفاعة إلى الرب إلهما أن يرفع عنه هذه التّهلكة ففعلا فأرسل الله ريحا غربية فحملت الجراد كله فألقته في بحر القلزم.
(3) القمّل: وهو صغار الذباب - وقد جاء في التوراة - إن البعوض والذباب كان من الضربات العشر التي ضرب الرب بها فرعون وقومه ليرسلوا بني إسرائيل مع موسى ففي الفصل الثامن من سفر الخروج: إن موسى أنذر فرعون أن الذباب سيدخل بيوته وبيوت عبيده وسائر قومه فيفسدها ولا يدخل بيوت بني إسرائيل المقيمين في أرض جاسان وأن ذلك وقع وفسدت الأرض من تأثير الذباب.
(4) الضفادع: وفى سفر الخروج - وقال الرب لموسى: ادخل على فرعون وقل له كذا قال الرب - أطلق شعبى ليعبدوني وإن أبيت أن تطلقهم فهأنذا ضارب جميع تخومك بالضفادع فيفيض النهر ضفادع فتصعد وتنتشر في بيتك وفى مخدع فراشك وعلى سريرك وفى بيوت عبيدك وشعبك وفى تنانيرك ومعاجنك إلخ. وكذلك كان - وفيها: إن فرعون طلب من موسى أن يشفع له عند ربه برفع الضفادع فأجابه إلى ذلك قال: ففعل الرب كما قال موسى وماتت الضفادع من البيوت والأقبية والحقول فجمعوها أكواما وأنتنت الأرض منها.
(5) الدم: فقد كانت مياه المصريين تتحول إلى دم، وقد جاء في الفصل السابع من سفر الخروج: « إن الرب أمر موسى أن ينذر فرعون ذلك ففعل، ثم قال الرب لموسى قل لهرون: خذ عصاك ومد يدك على مياه المصريين وأنهارهم وخلجهم ومنافعهم وسائر مجامع مياههم فتصير دما، ويكون دم في جميع أرض مصر وفى الخشب وفى الحجارة » وفيها أن موسى وهارون فعلا ذلك وأن سمك النهر مات وأنتن النهر فلم يستطع المصريون أن يشربوا منه.
هذه هي الآيات الخمس التي أيد الله بها رسوله موسى عليه السلام وليس فيها ما ينفى ما في التوراة ولا ما يؤيدها، وعلينا أن نقف عند ما أثبته القرآن فحسب دون زيادة عليه.
[سورة الأعراف (7): الآيات 134 الى 136]
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (136)
تفسير المفردات
الرجز: العذاب الذي يضطرب له الناس في شئونهم ومعايشهم، وذلك شامل لكل نقمة وجائحة أنزلها الله على قوم فرعون كالخمس التي ذكرت قبل، والعهد: النبوة والرسالة، والنكث لغة: نقض ما غزل أو ما فتل من الحبال ثم استعمل في الحنث في العهود والمواثيق، واليمّ: البحر في اللغة المصرية الموافقة للغة العربية في كثير من مفرداتها مما يدل على أن أصل الأمتين واحد.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه الآيات الخمس التي سبق ذكرها بيّن هنا ما كان من أثرها في نفوس المصريين جميعا وطلبهم من موسى أن يرفع الله عنهم العذاب، فإذا هو فعل آمنوا به، ثم تبين نكثهم وخلفهم للوعد كل مرة حدث فيها الطلب حتى حل بهم عذاب الاستئصال بالغرق في البحر.
الإيضاح
(وَلَمَّا وَقَعَعَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي ولما وقع ذلك العذاب الذي ذكره في الآية السالفة اضطربوا وفزعوا أشد الفزع وقالوا حين نزول كل نوع بهم: يا موسى ادع لنا ربك وتوسّل إليه بعهده عندك ورسالته لك أن يكشف عنا هذا الرجز، ونحن نقسم لك لئن كشفته عنا لنؤمنن لك ولنرسلنّ معك بني إسرائيل. وفى التوراة: إن فرعون كان يقول لموسى حين نزول كل آية منها: ادع لنا ربك واشفع لنا عنده أن يرفع عنا هذه، ويعده بأن يرسل معه بني إسرائيل ليعبدوا ربهم ويذبحوا له ثم ينكث.
(فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) أي فلما كشفنا عنهم العذاب مرة بعد أخرى إلى أجل هم بالغوه ومنتهون إليه وهو الغرق الذي هلكوا فيه - إذا هم ينكثون عهدهم ويحنثون في قسمهم في كل مرة.
والخلاصة - إنه كشف العذاب عنهم إلى حين من الزمان هم واصلون إليه ولا بد فمعذبون فيه أو مهلكون وهو وقت الغرق كما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) أي فانتقمنا منهم عند بلوغ الأجل المضروب لهم بأن أغرقناهم في البحر، وذلك بسبب تكذيبهم بالآيات وعدم تفكرهم فيها حتى صاروا كالغافلين عنها.
والخلاصة - إنهم كانوا يظهرون الإيمان عند كل آية من آيات العذاب ثم يكذبون، حتى إذا انقضى الأجل المضروب لهم انتقمنا منهم بسبب أنهم كذبوا بها كلها وكانوا غافلين عما يعقبها من العذاب في الدنيا والآخرة، إذ كانت في نظر الكثير منهم من قبيل السحر والصناعة، ومن ثم كانوا يكابرون أنفسهم في كل آية منها ويحاولون أن يأتي سحرتهم وعلماؤهم بمثلها.
ومنهم من اهتدى إلى الحق وظهر له صدقه فآمن به جهرة ككبار السحرة، ومنهم من كتم إيمانه كالذي عارض فرعون وملأه بالحجة والبرهان في قتل موسى كما جاء في سورة غافر، ومنهم من جحد بها كبرا وعلوا في الأرض كفرعون وأكابر وزرائه ورؤسائه.
[سورة الأعراف (7): آية 137]
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137)
تفسير المفردات
مشارق الأرض ومغاربها: يراد بها جميع نواحيها والمراد بها أرض الشام، وتمام الشيء: وصوله إلى آخر حده، وكلمة الله: هي وعده لبني إسرائيل بإهلاك عدوهم واستخلافهم في الأرض: « عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ » والتدمير: إدخال الهلاك على السالم، والخراب على العامر، والعرش: رفع لنبأني والسقائف للنبات والشجر المتسلّق كعرائش العنب: ومنه عرش الملك.
المعنى الجملي
بعد أن بيّن سبحانه ما حل بالمصريين من الغرق عقوبة لهم على تكذيبهم بموسى بعد وجود الآية تلو الآية الدالة على صدقه - ذكر هنا ما فعله ببني إسرائيل من الخيرات إذ أصبحوا أعزة بعد أن كانوا أذلة، وملكوا الأرض المقدسة التي بارك الله فيها، وهي بلاد الشام.
الإيضاح
(وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها) أي وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون في مصر بقتل الأبناء واستحياء النساء وأخذ الجزية واستعمالهم في الأعمال الشاقة، الأرض التي باركنا فيها بالخصب والخير الكثير، مشارقها من حدود الشام، ومغاربها من حدود مصر تحقيقا لما وعدنا به: « وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ ».
وعن كعب الأحبار أنه قال: إن الله بارك في الشام من الفرات إلى العريش، ويؤيد ذلك قوله في إبراهيم عليه السلام: « وَنَجَّيْناهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ » وقوله: « وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها ».
(وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا) أي ونفذت كلمة الله ومضت على بني إسرائيل تامة كاملة بسبب صبرهم على الشدائد التي كابدوها من فرعون وقومه وقد كان وعد الله تعالى إياهم مقرونا بأمرهم بالصبر والاستقامة كما أمرهم نبيهم عليه السلام مبلّغا عن ربه « قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا » ومن قابل البلاء بالجزع وكله الله إليه، ومن قابله بالصبر ضمن الله له الفرج، وقد تم وعد الله تعالى لهم بذلك، ثم سلبهم تلك الأرض بظلمهم لأنفسهم وللناس ولم يكن من مقتضى الوعد أن يعودوا إليها مرة أخرى.
(وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) أي وخرّبنا ما كان يصنع فرعون وقومه من المباني والقصور التي كانوا يبنونها للمصريين، والمكايد السحرية والصناعية التي كان يصنعها السحرة لإبطال آياته والتشكيك فيها كما قال تعالى « إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ » وما كانوا يعرشون من الجنات والبساتين.
وأسباب هذا التدمير لتلك المصانع والعروش أمور:
(1) الآيات التي أيد الله تعالى بها موسى من الطوفان والجراد وغيرها، وسمتها التوراة: الضربات العشر.
(2) إنجاء بني إسرائيل وحرمان فرعون وقومه من استعبادهم في أعمالهم.
(3) هلاك من غرق من قوم فرعون وحرمان البلاد وسائر الأمة من ثمرات أعمالهم في العمران، وقد أنذرهم موسى عاقبة ذلك فكذبوا بالآيات وأصرّوا على الجمود والعناد فظلموا أنفسهم وما ظلمهم الله.
ووجه العبرة في هذه الآيات ما كان للايمان في قلب موسى وهارون من التأثير، إذ تصديا لأكبر ملك في أكبر دولة في الأرض استعبدت قومه في خدمتها عدة قرون، وما زال يكافحانه بالحجج والآيات حتى أظفرهما الله تعالى به وأنقذا قومهما من ظلمه، ولهذا يجدر ألا تستعظم قوة الدول الظالمة أمام قوة الحق كما قال: « إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ » وقال: وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ».
[سورة الأعراف (7): الآيات 138 الى 141]
وجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهًا كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139) قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)
تفسير المفردات
جاز الشيء وجاوزه وتجاوزه: عدّاه وانتقل عنه، والعكوف على الشيء: الإقبال عليه وملازمته تعظيما له، والأصنام واحدها صنم: وهو ما يصنع من الخشب والحجر أو المعدن مثالا لشيء حقيقي أو خيالى ليعظّم تعظيم العبادة وقد اتخذ بعض العرب في الجاهلية أصناما من عجوة التمر فعبدوها ثم جاعوا فأكلوها، والتمثال لا بد أن يكون مثالا لشيء حقيقي، وقد يكون للعبادة فيسمى صنما، وقد يكون للزينة الذي يكون على جدران بعض القصور أو أبوابها أو في حدائقها، وقد يكون للتعظيم غير الديني كالتماثيل التي تنصب لبعض الملوك وكبار العلماء والقواد للتذكير بتاريخهم وأعمالهم للاقتداء بهم.
والتعظيم الديني يكون الغرض منه التقرب من المعبود وطلب ثوابه بدفع ضرر أو جلب منفعة من طريق الغيب باعتقاد أن له سلطة غيبية أو تعظيم ما يذكر به من صورة أو تمثال أو قبر أو غير ذلك من آثاره لأجل التقرب إليه وقصد الانتفاع به في الأمور التي لا تنال بالأسباب العامة، وكل ذلك عبادة له ولله بالاشتراك، وهذا مظهر من مظاهر الشرك الجلى التي تعتبر كفرا مهما اختلفت تسميتها، والتبار والتّبر: الهلاك، والتتبير: الإهلاك والتدمير، فيقال تبّره: أهلكه ودمره، وباطل: أي هلك وزائل لا بقاء له، وبغى الشيء وابتغاه: طلبه.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أنواع نعمه على بني إسرائيل بأن أهلك عدوهم وأورثهم أرضهم وديارهم أتبع ذلك بالنعمة الكبرى عليهم وهي أنه جاوز بهم البحر آمنين، ثم ارتدوا وطلبوا من موسى أن يعمل لهم آلهة وأصناما. وفى هذا تسلية لرسول الله ﷺ عما رآه من اليهود بالمدينة فإنهم جروا معه على دأب أسلافهم مع أخيه موسى صلوات الله عليه، وإيقاظ المؤمنين ألا يغفلوا عن محاسبة أنفسهم ومراقبة نعم الله تعالى عليهم، فإن بني إسرائيل وقعوا فيما وقعوا فيه من جزاء غفلتهم عما من الله تعالى به عليهم من النعم.
الإيضاح
(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهًا كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) أي إنهم تجاوزوه بعناية الله وتأييده، فكأنه معهم بذاته فجاوزه مصاحبا لهم، فأتوا عقب تجاوزهم إياه ودخولهم في بلاد العرب من البحر الأسيوى على قوم يعبدون أصناما لهم: فقالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة حنينا منهم إلى ما ألفوا في مصر من عبادة المصريين وتماثيلها وأنصابها وقبورها.
وسر هذا الطلب أنهم لم يكونوا قد فهموا التوحيد الذي جاء به موسى كما فهمه من آمن من سحرة المصريين، إذ أن السحرة كانوا من العلماء فأمكنهم التمييز بين آيات الله التي لا يقدر عليها غيره والسحر الذي هو من صناعات البشر وعلومهم.
ولم يذكر القرآن شيئا يعيّن شأن هؤلاء القوم الذين أتى عليهم بنو إسرائيل.
والراجح أنهم من العرب الذين كانوا يقيمون بقرب حدود مصر روى عن قتادة أنهم من عرب لخم، وعن ابن جريج أن أصنامهم كانت تماثيل بقر من نحاس.
وقد جاء آخر الفصل الثالث عشر من سفر الخروج (وكان الرب يسير أمامهم نهارا في عمود من غمام ليهديهم الطريق، وليلا في عمود من نار ليضىء لهم ليسيروا نهارا وليلا، ولم يبرح عمود الغمام نهارا وعمود النار ليلا من أمام الشعب).
ثم جاء في الفصل الرابع عشر منه بعد ذكر إتباع فرعون ومن معه لبني إسرائيل (فانتقل ملاك الله السائر أمام عسكر بني إسرائيل فصار وراءهم وانتقل عمود الغمام من أمامهم فوقف وراءهم؟ ودخل بين عسكر المصريين، وعسكر بني إسرائيل، فكان من هنا غماما مظلما، وكان من هناك ينير الليل، فلم يقترب أحد الفريقين من الآخر طول الليل.
ولا شك أن هذا الطلب دليل على الضعف البشرى في كل زمان ومكان، فلا عجب أن روى عن بعض حديثى العهد من الصحابة بالإسلام مثل ما طلب بنو إسرائيل من موسى عليه السلام لما كان للوثنية في قلوبهم من التأثير.
روى أحمد والنسائي عن أبي واقد الليثي قال « خرجنا مع رسول الله ﷺ قبل حنين فمررنا بسدرة فقلت يا رسول الله اجعل لنا هذه ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط فقال (الله أكبر) هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى (اجْعَلْ لَنا إِلهًا كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) إنكم تركبون سنن من قبلكم ».
وللمسلمين عبرة في هذا فإن لهم الآن ذوات أنواط في بلاد كثيرة كشجرة الحنفي بمصر، وقد اجتثت أخيرا وشجرة (ست المنضورة) ونحو ذلك مما اتخذوه من القبور والأشجار والأحجار التي يعكفون عليها ويطوفون حولها ويقبّلونها ويتمرغون بأعتابها ويتمسحون بها خاشعين ضارعين راجين شفاء الأدواء والانتقام من الأعداء وحبل العقيم ورد الضالة وغير ذلك من النفع، وكشف الضر، وهذا مخالف لنصوص كتاب الله وسنة رسوله، إذ هذا عبادة وإن كانوا لا يسمونها بذلك، فلا فرق بينه وبين شرك الجاهلية (إلا بالتسمية) إذ حقيقة العبادة كل قول أو عمل يوجه إلى معظّم يرجى نفعه أو يخشى ضره وحده.
وقد أجابهم موسى عن طلبهم بقوله:
(إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) أي إنكم تجهلون مقام التوحيد، وما يجب من تخصيص الله بالعبادة بلا واسطة ولا مظهر من المظاهر كالأصنام والتماثيل والعجل أبيس والثعابين - فالله قد كرم البشر وجعلهم أهلا لمعرفته ودعائه ومناجاته بلا واسطة تقربه إليهم فإنه أقرب إليهم من حبل الوريد.
وبعد أن بيّن لهم جهلهم وسفههم، بيّن لهم فساد ما طلبوه عسى أن تستعد عقولهم لفهمه واستبانة قبحه فقال:
(إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي إن هؤلاء القوم الذين يعكفون على هذه الأصنام مقضي على ما هم فيه بالتبار بما سيظهر من التوحيد الحق في هذه الديار، وزائل ما كانوا يعملون من عبادة غير الله ذي الجلال، فإنما بقاء الباطل في ترك الحق له وبعده عنه.
وفي هذا بشارة منه عليه السلام بزوال الوثنية من تلك الأرض، وقد حقق الله ما قال:
(قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) أي قال لهم موسى: أأطلب لكم معبودا غير الله رب العالمين وخالق السموات والأرض، وقد فضلكم على العالمين بما جدد فيكم من التوحيد وهداية الدين، فماذا تبغون من عبادة غيره معه أو من دونه؟.
والخلاصة - إن موسى بدأ جوابه لقومه بإثبات جهلهم بربهم وبأنفسهم، وثنى ببيان فساد ما طلبوه وكونه عرضة للتبار والزوال لأنه باطل في نفسه، ثم انتقل إلى بيان أن العبادة لغير الله لا تصح البتة سواء أكان المعبود أفضل المخلوقات كالملائكة والنبيين أو أخسها كالأصنام ثم أنكر عليهم أن يكون هو الوساطة في هذا الجعل الذي دعا إليه الجهل، ليعلمهم أن طلب هذا الأمر المنكر منه عليه السلام جهل بمعنى رسالته، وأيد إنكاره لكلا الأمرين بما يعرفون من فضل الله عليهم بتفضيلهم على أهل زمانهم ممن كانوا أرقى منهم مدنية وحضارة وسعة ملك وسيادة على بعض الشعوب، وهم فرعون وقومه - برسالة موسى وهرون منهم وتجديد ملة إبراهيم فيهم وإيتائهما من الآيات ما تقدم ذكره.
ثم ذكر سبحانه منته على بني إسرائيل فقال:
(وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) أي واذكروا إذ أنجيناكم بإرسال موسى وبما أيدناه به من الآيات - من آل فرعون الذين كانوا يسومونكم سوء العذاب بجعلكم عبيدا مسخرين لخدمتهم، ويقتلون ما يولد لكم من الذكور ويستبقون نساءكم لتزدادوا ضعفا بكثرتهن، وفى ذلكم العذاب والإنجاء منه بفضل الله عليكم وتفضيله إياكم على غيركم من سكان مصر، وسكان الأرض المقدسة التي سترثونها - بلاء عظيم أي اختبار لكم من ربكم المدبّر لأموركم ليس هناك اختبار أعظم منه، فلا أجدر بالاعتبار والاستفادة من أحداث الزمان ممن يعطى النعمة بعد النقمة، وأحق الناس بمعرفة الله وإخلاص العبادة له من يرى في نفسه وفى الآفاق ما يوقن به أنه لا يمكن أن يكون فيه شركة لغير الله وإن أعجب العجب أن تطلبوا بعد هذا كله ممن رأيتم على يديه هذه الآيات أن يجعل لكم آلهة من أخس المخلوقات - تجعلونها واسطة بينكم وبين الله، وهو قد فضلكم عليها وعلى من يعبدونها ومن هم أرقى منهم.
[سورة الأعراف (7): الآيات 142 الى 145]
وواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقًا فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145)
تفسير المفردات
الميقات: الوقت الذي يقرر فيه عمل من الأعمال كمواقيت الحج، اخلفني: أي كن خليفتى، وجلا الشيء والأمر وانجلى وتجلى وجلّاه فتجلى: إذا انكشف ووضح بعد خفاء في نفسه أو على مجتليه وطالبه، والدكّ: الدق، والخرّ والخرور: السقوط من علو، والانكباب على الأرض كما قال « يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّدًا » وصعقا أي صاعقا صائحا مغشيا عليه، وأفاق: أي رجع إليه عقله وفهمه بعد ذهابهما بالغشيان. والاصطفاء: اختيار صفوة الشيء أي خالصه الذي لا شائبة فيه، بقوة أي بجد وعزيمة وحزم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عز اسمه ما أنعم به على بني إسرائيل من النجاة من العبودية ومن جعلهم أمة حرة مستقلة قادرة على القيام بما يشرعه الله لها من العبادات والأحكام - ذكر هنا بدء وحي الشريعة لموسى عليه السلام ممتنّا عليهم بما حصل لهم من الهداية بتكليم موسى وإعطائه التوراة، وفيها تفاصيل شرعهم وبيان ما يقرّبهم من ربهم من الأحكام. وقد روي أن موسى عليه السلام وعد بني إسرائيل وهو بمصر، إن أهلك الله عدوهم أتاهم بكتاب من عند الله فيه بيان ما يأتون وما يذرون، فلما هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب، فبينت هذه الآيات كيفية نزول هذا الكتاب وهو التوراة.
الإيضاح
(وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) أي ضرب الله تعالى موعدا لموسى لمكالمته وإعطائه الألواح المشتملة على أصول الشريعة ثلاثين ليلة، قيل هي شهر ذي القعدة وأتم الثلاثين ليلة بعشر ليال فتم الموعد بذلك أربعين ليلة صعد جبل سيناء في أوله وهبط في آخره، وروى عن أبي العالية أنه قال في بيان زمان الموعد: يعني ذا القعدة وعشرا من ذي الحجة فمكث على الطور ليلة وأنزل عليه التوراة في الألواح فقرّبه الرب نجيّا، وكلمه وسمع صريف القلم.
وجاء في التوراة من سفر الخروج (وقال الرب لموسى: اصعد إلي إلى الجبل وكن هناك فأعطيك لوحى الحجارة والشريعة والوصية التي كتبتها لتعليمهم، فقام موسى ويشوع خادمه، وصعد موسى إلى جبل الله تعالى. وأما الشيوخ فقال لهم اجلسوا هاهنا، وهوذا هارون وحور معكم، فمن كان صاحب دعوى فليتقدم إليهما، فصعد موسى إلى الجبل فغطى السحاب الجبل، وحل مجد الرب على جبل سيناء وغطاه السحاب ستة أيام وفى اليوم السابع دعى موسى من وسط السحاب وكان ينظر مجد الرب كنار آكلة على رأس الجبل أمام عيون بني إسرائيل، ودخل موسى في وسط السحاب وصعد إلى الجبل، وكان موسى في الجبل أربعين نهارا وأربعين ليلة).
وفي الفصل الرابع والثلاثين ما نصه (وقال الرب لموسى: اكتب لنفسك هذه الكلمات، قطعت عهدا معك ومع بني إسرائيل وكان هناك عند الرب أربعين نهارا وأربعين ليلة لم يأكل خبزا ولم يشرب ماء فكتب على اللوحين كلمات العهد الكلمات العشر).
(وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) أي وقال موسى حين أراد الذهاب لميقات ربه لأخيه هرون وكان الأكبر منه سنا: كن خليفتي في قومي وراقبهم فيما يأتون وما يذرون، وكانت الرياسة فيهم لموسى وكان هرون وزيره ونصيره بسؤاله لربه « وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي. وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي » وأصلح ما يحتاج إلى الإصلاح من أمور دينهم، ولا تتبع سبيل من سلك الإفساد في الأرض، واتباع سبيل المفسدين يشمل مشاركتهم في أعمالهم ومساعدتهم عليها ومعاشرتهم والإقامة معهم حال اقتراف الإفساد.
(وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) أي ولما جاء موسى للميقات الذي وقّت له للكلام وإعطاء الشريعة وكلمه ربه من وراء حجاب بغير واسطة ملك استشرفت نفسه للجمع بين فضيلتي الكلام والرؤية فقال: رب أرنى ذاتك المقدسة واجعل لي من القوة على حمل تجليك ما أقدر به على النظر إليك وكمال المعرفة بك.
(قالَ لَنْ تَرانِي) أي قال له: إنك لا تراني الآن ولا فيما يستقبل من الزمان، إذ ليس لبشر أن يطيق النظر إلي في الدنيا.
ثم أتى بما هو كالعلة لذلك (ليخفف عن موسى شدة وطأة الرد بإعلامه ما لم يكن يعلم من سننه) وهو أن شيئا في الكون لا يقوى على رؤيته كما جاء في حديث أبى موسى الذي رواه مسلم وهو قوله ﷺ « حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه (أنواره) ما انتهى إليه بصره من خلقه »
فقال:
(وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) أي فإن ثبت لدى التجلي وبقي مستقرا في مكانه فسوف تراني إذ هو مشارك لك في مادة هذا العالم الفاني، وإذا كان الجبل في قوته وثباته لا يستطيع أن يثبت ويستقر لأن مادته غير مستعدة لقوة تجلى خالقه وخالق كل شيء - فاعلم أنك لن تراني أيضا وأنت مشارك له في كونك مخلوقا من هذه المادة وخاضعا للسنن الربانية في ضعف استعدادها وقبولها للفناء.
وروي عن ابن عباس أنه قال: حين قال موسى لربه تبارك وتعالى: « أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ » قال له يا موسى إنك « لَنْ تَرانِي » يقول: ليس ترانى، لا يكون ذلك أبدا، يا موسى إنه لن يراني أحد فيحيا، قال موسى: رب أن أراك ثم أموت أحبّ إلي من ألا أراك ثم أحيا، فقال الله يا موسى انظر إلى الجبل الطويل العظيم الشديد « فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ » يقول فإن ثبت مكانه لم يتضعضع ولم ينهدّ لبعض ما يرى من عظمى « فَسَوْفَ تَرانِي » أنت لضعفك وذلتك، وإن الجبل تضعضع وانهدّ بقوته وشدته وعظمته فأنت أضعف وأذل.
(فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقًا) أي فلما تجلى ربه للجبل أقل التجلي وأدناه انهد وهبط وصار كالأرض المدكوكة أو الناقة الدكاء، وسقط موسى على وجهه مغشيا عليه كمن أخذته الصاعقة، والتجلي إنما كان للجبل دونه فما بالك لو كان له.
روي أنه ساخ: أي غاص في الأرض: أي أنه رجّ بالتجلى رجا، بست به حجارته بسا، وساخ في الأرض كله أو بعضه في أثناء ذلك حين صار ربوة دكاء وكان كالرمل المتلبد.
(فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) أي فلما أفاق من غشيه قال سبحانك: أي تنزيها لك وتقديسا عما لا ينبغي في شأنك مما سألت.
وأكثر المفسرين يجعلون وجه التنزيه والتوبة أنه سأل الرؤية بغير إذن من الله تعالى فتاب ورجع عما طلب.
قال مجاهد: « تُبْتُ إِلَيْكَ » أن أسألك الرؤية: « وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ » أي من بني إسرائيل، وفى رواية عن ابن عباس: وأنا أول المؤمنين أنه لا يراك أحد.
والخلاصة - إن موسى لما نال فضيلة التكليم بلا واسطة فسمع من عالم الغيب ما لم يسمع من قبل تاقت نفسه أن يمنحه الرب شرف رؤيته فطلب ذلك منه وهو يعلم أنه ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته التي منها كلامه، ولكن الله تبارك وتعالى قال له: « لَنْ تَرانِي » ولكى يخفف عليه ألم الرد أراه بعينه من تجليه للجبل ما فهم منه أن المانع من جهته لا من جانب الفيض الإلهي، حينئذ نزه الله وسبحه وتاب إليه من هذا الطلب، فبشره بأنه اصطفاه على الناس برسالته وبكلامه وأمره أن يأخذ ما أعطاه ويكون من الشاكرين له كما قال:
(قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي) أي اصطفيتك بتكليمى لك بلا توسط ملك وإن كان من وراء حجاب، وقد طلب موسى رفع هذا الحجاب لتحصل له الرؤيا مع الكلام.
(فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي فخذ ما أعطيتك من الشريعة وهي التوراة وكن من جماعة الشاكرين لنعمتى عليك وعلى قومك، بإقامتها بقوة وعزيمة والعمل بها، وأداء حقوق نعمى جميعها عليك، تنل المزيد من فضلى: « لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ».
وقد تقدم أن قلنا إن الوحي إلى الرسل أنواع ثلاثة بينهما الله بقوله: « وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ».
والخلاصة - إن إثبات الكلام والتكليم لله تعالى صريح في القرآن الكريم في آيات عدة لا تعارض بينها، وأما الرؤية ففيها آيات متعارضة كقوله تعالى « لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ » وقوله « لَنْ تَرانِي » وهما أصرح في النفي من دلالة قوله تعالى « وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ » على الإثبات فإن استعمال النظر بمعنى الانتظار كثير في القرآن وكلام العرب كقوله « هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ » وقوله: « ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً » وفى الأحاديث الصحيحة تصريح بإثبات الرؤية بحيث لا تحتمل تأويلا، والمرفوع منها مروى عن أكثر من عشرين صحابيا، ولم يرد في معارضتها شيء أصرح من حديث عائشة عن مسروق قال: قلت لعائشة رضي الله عنها يا أماه هل رأى محمد ﷺ ربه ليلة المعراج؟ فقالت: لقد قفّ شعرى مما قلت، أي أنت من: « ثلاث من حدّثكهن فقد كذب: من حدثك أن محمدا ﷺ رأى ربه فقد كذب، وفى رواية فقد أعظم الفرية ثم قرأت: « لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ - وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ » ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب، ثم قرأت « وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَدًا » ومن حدثك أنه كتم شيئا من الدين فقد كذب ثم قرأت: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ » قال مسروق: وكنت متكئا فجلست وقلت: ألم يقل الله: « وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى » فقالت أنا أول هذه الأمة سأل رسول الله ﷺ عن ذلك فقال: « إنما هو جبريل ».
ومن هذا تعلم أن عائشة تنفي دلالة سورة النجم على رؤية النبي ﷺ لربه بالحديث المرفوع، وتنفى جواز الرؤية مطلقا أو في هذه الحياة الدنيا بالاستدلال بقوله تعالى: « لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ » وقوله: « وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ » وهذا الاستدلال ليس نصا في النفي حتى يرجح على الأحاديث الصريحة في الرؤية وقد قال بها بعض علماء الصحابة.
والمثبتون للرؤية يقولون: إن استنباط عائشة إنما هو لنفى الرؤية في الدنيا فقط كما قال بذلك الجمهور، ولا تقاس شئون البشر في الآخرة على شئونهم في الدنيا، لأن لذلك العالم سننا ونواميس تخالف سنن هذا العالم ونواميسه حتى في الأمور المادية كالأكل والشرب، والمأكول والمشروب، فماء الجنة غير آسن فلا يتغير كماء الدنيا بما يخالطه أو يجاوره في مقره أو جوّه، قال ابن عباس: ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء.
وجمهرة المسلمين أن رؤية العباد لربهم في الآخرة حق وأنها أعلى وأكمل للنعيم الروحاني الذي يرتقي إليه البشر في دار الكرامة، وأنها أحق ما يصدق عليه
قوله ﷺ: « قال الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر »
وهي المعبر عنها بقولهم: إنها رؤية بلا كيف.
وبعد أن أخبر سبحانه في الآيات السالفة أنه منع موسى رؤيته في الدنيا وبشره بأنه اصطفاه على أهل زمانه برسالته وبكلامه أخبرنا فيما بعد بما أتاه يومئذ بالإجمال فقال:
(وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ) أي إننا أعطيناه ألواحا كتبنا له فيها أنواع الهداية والمواعظ التي تؤثّر في القلوب ترغيبا وترهيبا وتفصيلا لأصول الشرائع وهي أصول العقائد والآداب وأحكام الحلال والحرام والراجح أن هذه الألواح كانت أول ما أوتيه من وحي التشريع الإجمالى. أما سائر الأحكام التفصيلية من العبادات والمعاملات المدنية والحربية والعقوبات فكانت تنزل عليه وقت الحاجة كالقرآن.
وقد اختلفوا في عدد الألواح، فمن مقل قال إنها اثنان، ومن مكثر قال إنها عشرة أو سبعة.
وجاء في التوراة في شأن الألواح في سفر الخروج: « قال الرب لموسى اصعد إلى الجبل وكن هنا فأعطيك لوحي الحجارة والشريعة والوصية التي كتبتها لتعلّمهم الكلمات العشر » وجاء فيها أيضا: « ثم انثنى موسى ونزل من الجبل ولوحا الشهادة في يده. لوحان مكتوبان على جانبيهما، من هنا ومن هناك كانا مكتوبين، واللوحان هما صفة الله والكتاب كتابة الله منقوشة على اللوحين » وجاء فيها: « وقال الرب لموسى أكتب لك هذا الكلام لأني بحسبه عقدت عهدا معك ومع بني إسرائيل وأقام هناك عند الرب أربعين يوما وأربعين ليلة لم يأكل خبزا ولم يشرب ماء فكتب على اللوحين كلام العهد الكلمات العشر » ومن هذا تعلم أن ما كتبه المفسرون عن الإسرائيليات مخالفا لذلك فهو باطل، أراد به واضعوه الكذب والافتراء، فيجب علينا أن نمحص تلك الروايات ونحققها من كتبهم.
(فَخُذْها بِقُوَّةٍ) أي وكتبنا له في الألواح ما ذكر وقلنا له: هذه وصايانا وأصول شريعتنا وكلياتها، فخذها بقوة وجدّ وعزم، ذاك أنك ستكون بها شعبا جديدا بعادات جديدة وأخلاق جديدة مخالفة في جوهرها وصفاتها لما كان عليه من الذل والعبودية لدى فرعون وقومه، وما كان عليه من الشرك والوثنية التي ألفها وراضت نفسه لقبولها، فأنّي للقائد والمرشد أن يصلح ذلك الفساد ويرأب ذلك الصدع إذا لم يكن ذا عزيمة وقوة وبأس شديد وحزم في أوامره ونواهيه؟.
(وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) أي وأمر قومك بالاعتصام بهذه الموعظة والأحكام المفصلة في الألواح التي هي منتهى الكمال والحسن كالإخلاص لله في العبادة.
إذ يتحلى العقل وتتزكى النفس، مع ترك اتخاذ الصور والتماثيل لأنها ذرائع للشرك وسبب للوصول إليه.
(سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) أي إن لم تأخذوا ما آتيناكم بقوة وتتبعوا أحسنه كنتم فاسقين عن أمر ربكم فيحل بكم ما حل بالفاسقين من قوم فرعون الذين أنجاكم الله منهم، ونصركم عليهم وسيريكم ما حل بهم بعدكم من الغرق.
قال ابن كثير: أي سترون عاقبة من خالف أمري وخرج عن طاعتى كيف يصبر إلى الهلاك والدمار.
قال ابن جرير: وإنما قال (سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) كما يقول القائل لمن يخالفه: سأريك غدا ما يصير إليه حال من خالف أمري - على وجه التهديد والوعيد لمن عصاه خالف أمره.
وفي الآية عبرة لمن يقرؤها ويتدبر أمرها من وجوه:
(1) إن الشريعة يجب أن تتلقى بعزيمة وجدّ لتنفيذ ما بها من الإصلاح وتكوين لأمة تكوينا جديدا، ومظهر ذلك الرسول المبلغ لها والداعي إليها والمنفذ لها بقوله وعمله فهو الأسوة والقدوة، وهذه سنة الله في كل انقلاب، وتجديد اجتماعي وسياسى وإن لم يكن بهدى الله، فما بالك بالدين وهو أحوج ما يكون إلى إصلاح الظاهر والباطن، وقد أخذ سلفنا الصالح القرآن بقوة بالعمل بهداية دينهم لا بالتبرك بالمصاحف والتغني بالقرآن في المحافل، فسادوا جميع الأمم التي كانت لها القوة الحربية والصناعية والمالية والعددية، وسعدوا به في دنياهم وسيكونون كذلك في آخرتهم، وخلف من بعدهم خلف أعرضوا عنه وتركوا هدايته فشقوا في دنياهم وآخرتهم كما قال « يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ. الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ».
(2) إن شعب إسرائيل عظم ملكه حين أقام شريعته بقوة حتى إذا غلبه الغرور وظن أن الله ينصره لنسبه وأنه شعب الله ففسق وظلم أنزل الله به البلاء وسلط عليه البابليين فأزالوا ملكه، ثم ثاب إلى رشده فرحمه وأعاد إليه بعض ملكه، ثم ظلم وأفسد فسلط عليه النصارى فمزقوه كلّ ممزّق.
(3) إن المسلمين الذين اتبعوا سننهم اغتروا بدينهم كما اغتروا واتكلوا على لقب (الإسلام) ولقب (أمة محمد) ولم يثوبوا إلى رشدهم، فزالت دولتهم وذهب ريحهم وامتلك عدوهم ناصيتهم وجد في إفساد عقائدهم وأخلاقهم وإيقاع الشقاق فيما بينهم وتولى تربيتهم وتعليمهم كما يحب ويهوى، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
[سورة الأعراف (7): الآيات 146 الى 147]
سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (147)
تفسير المفردات
التكبر: التكثر من الكبر، وهو غمط الحق بعدم الخضوع له، ويصحبه احتقار الناس، فصاحبه يرى أنه أكبر من أن يخضع لحق أو يساوى نفسه بشخص، والرشد والرشد والرشاد كالسقم والسقم والسّقام: الصلاح والاستقامة، وضده الغي والفساد، والآيات الأولى: هي البينات والدلائل، والثانية هي الآيات المنزلة من حبث اشتمالها على الهداية وتزكية النفوس.
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه في الآيات السالفة ما لحق فرعون وقومه من الهلاك بسبب استكباره وظلمه وفساده في الأرض - ذكر هنا سنته تعالى في ضلال البشر بعد مجىء البينات وتكذيبهم لدعاة الحق والخير من الرسل وأتباعهم، وأبان أن السبب الأول لذلك هو التكبر، فإن من شأن الكبر أن يصرف أهله عن النظر والاستدلال على الحق والهدى، فهم يكونون دائما من المكذبين بالآيات الدالة عليه، ومن الغافلين عنه كما هي حال الملوك والرؤساء والزعماء الضالين كفرعون وملئه.
وفي هذا إيماء للنبي ﷺ بأن الطاغين المستكبرين من صناديد قومه لن ينظروا في دعوته ولا في آيات القرآن الدالة على وحدانية الله بما أقامته عليها من البراهين الكثيرة من آيات كونية، وآيات في الآفاق والأنفس.
وجملة الموانع الصادّة لهم عن اتباعه ترجع إلى التكبر، فإنهم بزعمهم يعتقدون أنهم سادة قريش وكبراؤها وأقوياؤها فلا ينبغي أن يتبعوا من دونهم سنا وقوة وثروة وعصبية.
الإيضاح
(سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) أي سأمنع قلوب المتكبرين عن طاعتى وعلى الناس بغير حق - فهم الأدلة والحجج الدالة على عظمتى وعلى ما في شرائعى من هدى وسعادة لهم كما قال « فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ » كما منعت فرعون وقومه عن فهم آيات موسى التي أوحيتها إليه، وقوله بغير الحق أي بتلبسهم بالباطل وانغماسهم فيه - إذ لا قيمة للحق فهم لا يبحثون عنه ولا يطلبونه، وقد تظهر لهم آياته ويجحدونها وهم بها موقنون كما قال تعالى في قوم فرعون « وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ».
ثم بين صفات المستكبرين وأحوالهم فقال:
(1) (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) أي إنهم إذا رأوا الآيات التي تدل على الحق وتثبته لا يستفيدون منها فائدة ما فلا يؤمنون بها، لأن كثرة الآيات وتعدد أنواعها إنما تفيد من تكون نفسه تواقة لمعرفة الحق لكنه يجهل الوصول إليه أو يشك في الطريق الموصلة إليه لتعارض الأدلة لديه لخفاء دلالتها أو لسوء فهمه لها، فإذا خفيت عليه دلالة بعضها فقد تظهر له دلالة غيره فتنكشف الحقيقة واضحة أمامه وتسفر له عن وجهها، وفى هذا إيماء إلى النبي ﷺ بأن الذين يقترحون عليه الآيات من قومه لا يقصدون استبانة الحق وإيضاحه بل يريدون إحداث الشغب والتعجيز، فإن هم أجيبوا إلى طلبهم لم يؤمنوا بما جئت به.
(2) (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا) أي وهم ينفرون من سبيل الهدى والرشاد وهي السبيل المعبّدة الواضحة، فإذا رأى أحدهم هذه السبيل لا يختارها لنفسه ولا يفضلها على ما هو عليه من سبيل الغي، وهذا منتهى ما يكون من الطبع على القلب والخروج عن جادّة العقل والفطرة، ومن الناس من يسلك هذه السبيل عن جهل فإذا رأى لنفسه مخرجا منها ارعوى وتركها واختار لنفسه سبيل الرشاد.
(3) (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا) أي إنهم إذا رأوا سبيل الغي والضلال هرعوا إليها وخبوا فيها وأوضعوا، بما تزينه لهم نفوسهم من سلوكها والسير فيها إلى آخر الحلبة، وهذه حال لهم شر من سابقتيها، وهؤلاء الذين اجتمعت لهم هذه الصفات هم الذين طبع الله على قلوبهم وختم على سمعهم وجعل على أبصارهم غشاوة، فسبيل الحق بغيضة إليهم، وطريقه مكروهة لديهم.
ثم علل ما سلف من صرفهم عن النظر في الآيات وعدم اعتبارهم بها فقال:
(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) أي إننا عاقبناهم على تكذيبهم بالآيات والغفلة عن النظر إلى الأدلة الموصلة إلى الحق فيما أمرنا به ونهينا عنه - بالختم على قلوبهم، والغشاوة على أعينهم حتى لا يجد الحق منفذا في الوصول إليها.
والخلاصة - إن الله لم يخلق هؤلاء مطبوعين على الغي والضلال طبعا، ولم يجبرهم إجبارا ويكرههم عليه إكراها، بل كان ذلك بكسبهم واختيارهم، إذ هم آثروا التكذيب بالآيات والصد عن السبل الموصلة إلى الرشاد وغفلوا عن النظر في أدلتها، لشغلهم بأهوائهم واتباع شهواتهم، وبذا لجوا في الطغيان، وتمادوا في العصيان، واحتقروا ما سوى ذلك مما يهدى عقولهم إلى صوب الحق وسلوك طريقه.
وأمثال هؤلاء هم الذين عناهم الله بقوله: « وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ ».
ولا شك أن كثيرا من المسلمين الذين تعلموا التعاليم الغربية ورأوا زخرف المدنية الأوربية وغرّهم بهرجها وخلبتهم زينتها تنطبق عليهم هذه الصفات، فهم يحتقرون هداية الدين الروحية وأوامره ونواهيه وسائر تعاليمه وما له من تأثير عظيم في النفوس وتوجيه لها إلى الخير، وصد لها عن الشر، والبعد عن الفواحش والمنكرات.
ذاك أنهم رأوا أنفسهم بعيدين عن الفنون والصناعات وزخرف الحياة الذي وصل فيه الغربيون إلى الغاية القصوى وهم عبيد شهواتهم منصرفون عن هداية الأديان إلى أبعد غاية فحدثتهم أنفسهم أن ينهجوا نهجهم ويسيروا على سنتهم، علّهم يصلون في ذلك إلى بعض ما وصلوا إليه، ولو ساغ لبني إسرائيل ألا يتبعوا موسى عليه السلام لأنه لم يكن عنده من زينة الدنيا ومن الفنون والصناعات ومن رائع المدينة مثل ما كان عند فرعون وقومه ولساغ لهم أن ينحدروا في تلك الهوّة ويقعوا في تلك الحفرة.
ولله في خلقه شئون وهو يصرف الأمور بيده وله الأمر من قبل ومن بعد.
(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي والذين كذبوا بآياتنا المنزلة بالحق والهدى على رسلنا، فلم يؤمنوا بها ولم يهتدوا بهديها، وكذبوا بما يكون في الآخرة من الجزاء على الأعمال من ثواب على الخير وعقاب على الشر - تحبط أعمالهم وتذهب سدى، لأنهم عملوا لغير الله وأتعبوا أنفسهم في غير ما يرضى الله، فتصير أعمالهم وبالا عليهم ولا يحزون إلا جزاء ما استمروا على عمله من الكفر والمعاصي، فأثّر في نفوسهم وأرواحهم حتى دسّاها وأفسدها، فقد مضت سننه تعالى بجعل الجزاء في الآخرة أثرا للعمل مرتبا عليه كترتيب المسبب على السبب، ولا يظلم ربك أحدا في جزائه مثقال ذرة.
[سورة الأعراف (7): الآيات 148 الى 149]
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149)
تفسير المفردات
الحلي (بالضم والتشديد) واحدها حلى (بالفتح والتخفيف). والعجل: ولد البقرة من العراب أو الجواميس كالحوار لولد الناقة والمهر لولد الفرس، والجسد: الجثة وبدن الإنسان والشيء الأحمر كالذهب والزعفران والدم الجاف، والخوار: صوت البقر كالرغاء لصوت الإبل، وسقط في يده وأسقط في يده (بضم أولهما على البناء للمفعول) أي ندم، ويقولون فلان مسقوط في يده وساقط في يده أي نادم. قال في العباب وتاج العروس: هذا نظم لم يسمع قبل القرآن ولا عرفته العرب، وذكرت اليد لأن الندم يحدث في القلب وأثره يظهر فيها بعضّها أو الضرب بها على أختها كما قال سبحانه في النادم « فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها » ولأن اليد هي الجارحة العظمى وربما يسند إليها ما لم تباشره كقوله تعالى « ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ ».
المعنى الجملي
بعد أن ذكر خبر مناجاة موسى لربه واصطفائه إياه برسالاته وبكلامه وأمره بأخذ الألواح بقوة - ذكر هنا ما حدث أثناء المناجاة من اتخاذ قومه بني إسرائيل عجلا مصوغا من الذهب والفضة، ثم عبادته من دون الله - لما رسخ في نفوسهم من فخامة المظاهر الوثنية الفرعونية في مصر - وقد ذكرت هذه القصة عقب تلك لما بينهما من العلاقات الظاهرة وللاشتراك في الزمن.
الإيضاح
(وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوارٌ) أي وصاغ بنو إسرائيل من بعد ما فارقهم موسى ماضيا إلى ربه لمناجاته وفاء للموعد الذي وعده إياه - من حلى القبط التي كانوا استعاروها منهم عجلا جسدا له خوار أي تمثالا له صورة العجل وبدنه وصوته ثم عبدوه.
والذي فعل ذلك كما سيأتي في سورة طه هو السامري، وكان رجلا مطاعا فيهم ذا منزلة واحترام، وإنما نسبه إليهم لأنه عمل برأى جمهورهم الذين طلبوا أن يجعل لهم إلها يعبدونه.
قال ابن كثير: وقد اختلف المفسرون في ذلك العجل هل صار لحما ودما له خوار أو استمر على كونه من ذهب إلا أنه يدخل فيه الهواء فيصوت كالبقر على قولين والله أعلم ا هـ.
ويرى الرأي الأول قتادة والحسن البصري في جماعة آخرين، وتعليل ذلك عندهم أن السامري رأى جبريل حين جاوز ببني إسرائيل البحر راكبا فرسا ما وطئ بها أرضا إلا حلت فيها الحياة واخضرّ نباتها فأخذ من أثرها قبضة فنبذها في جوف تمثال العجل فحلت فيه الحياة وصار يخور كما يخور العجل.
ويرى جماعة آخرون الرأي الثاني ويقولون: إن خواره كان بتأثير دخول الريح في جوفه وخروجها من فيه، ذاك أنه صنع تمثال عجل مجوّفا ووضع في جوفه أنابيب على طريق فنيّة مستمدة من دراسة علم الصوت وجعل وضعه على مهب أنابيب الرياح، فمتى دخلت الريح في جوف التمثال انبعث منه صوت يشبه خوار العجل.
وقال آخرون بل ذلك الخوار كان تمويها وعملا منه يشبه عمل: (الحواة) ذاك أنه جعل التمثال أجوف وجعل تحت المواضع الذي نصب فيه من ينفخ فيه من حيث لا يشعر الناس فسمعوا الصوت من جوفه كالخوار، والناس يفعلون مثل هذا في النافورات التي تجرى فيها المياه، وبهذا الطريق ونحوه ظهر الصوت من التمثال ثم ألقى في روع الناس أن هذا العجل إلههم وإله موسى فعبدوه كلهم إلا هارون كما قال الحسن.
فرد الله عليهم ضلالاتهم وأبان لهم فساد آرائهم وقرعهم على جهالاتهم فقال:
(أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا) أي ألم يروا أنه فاقد لما يعرف به الإله الحق من تكليمه لمن يختاره من البشر لرسالته لتعليم عباده ما يجب عليهم معرفته من صفاته وسبيل عبادته كما كلم رب العالمين موسى وألقى إليه الألواح التي فيها من الشرائع ما يزكّى النفوس وتقوم بها مصالح العباد وعليها سعادتهم في دنياهم وآخرتهم.
وخلاصة ذلك - إنه فاقد لأهم صفة من صفات الإله الحق وهي صفة الهداية والإرشاد للعباد بإنزال الرسل الذين يختارهم إلى الناس - ومرجعها صفة الكلام.
ثم أكد ما سلف وقرره بقوله:
(اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ) أي إنهم لم يتخذوه عن دليل وبرهان بل اتخذوه عن تقليد للمصريين إذ رأوهم يعبدون العجل: (أبيس) من قبل، وعن تقليد لما رأوه من العاكفين على أصنام لهم من بعد فعبدوه مثلهم.
وبهذا كانوا ظالمين لأنفسهم إذ هم يعملون ما يضرهم ولا ينفعهم بشىء.
(وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي ولما اشتد ندمهم وازدادت حسرتهم على ما فرط منهم في جنب الله وعلموا أنهم قد ضلوا ضلالا بعيدا بعبادة العجل قالوا إن ذنبنا لعظيم وإن جرمنا لكبير، وإنه لن يسعهم بعد هذا الذنب إلا رحمة الله التي وسعت كل شيء، ولئن لم يرحمنا ربنا بقبول توبتنا والتجاوز عن جريمتنا لنكونن من الذين خسروا سعادة الدنيا وهي الحرية والاستقلال في أرض الموعد، وخسروا سعادة الآخرة وهي دار الكرامة والنعيم المقيم وجنات النعيم.
[سورة الأعراف (7): الآيات 150 الى 151]
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفًا قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)
تفسير المفردات
الأسف: الحزن والغضب، ويقال أسف من باب تعب حزن وتلهف، وأسف كغضب وزنا ومعنى، ويعدّى بالهمزة فيقال: آسفته، ومن استعمال الأسف بمعنى الحزن قوله تعالى حكاية عن يعقوب « وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ » وبمعنى الغضب قوله: « فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ » وعجله: سبقه، وأعجله: استعجله، وألقى: طرح، والشماتة: الفرح بالمصيبة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر ما أحدثه السامري من اتخاذه العجل لبني إسرائيل وعبادتهم له ثم ندمهم على ما فرط منهم في جنب الله وطلبهم الرحمة من ربهم - ذكر هنا ما حدث من موسى من الأسى والحزن حين رأى قومه على هذه الحال من الضلال والغي، ومن التعنيف واللوم لهارون على السكوت على قومه حين رآهم في ضلالتهم يعمهون.
الإيضاح
(وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفًا) أي ولما رجع موسى من الطور إلى قومه غضبان على أخيه هرون، إذ رأى أنه لم يكن فيهم صليب الرأي قوي الشكيمة، نافذ الكلمة، حزينا على ما وقع منهم من كفر الشرك وإغضاب الله والتفريط في جنبه.
(قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي) أي بئس خلافة خلفتمونيها من بعد ذهابى عنكم إلى مناجاة ربى وقد كنت لقنتكم التوحيد، وكففتكم عن الشرك وبينت لكم فساده وسوء مغبته وحذرتكم صنيع القوم الذين كانوا يعكفون على أصنام لهم من تماثيل البقر.
وقد كان من الحق عليكم أن تقتفوا أثرى، وتتبعوا سيرتى بيد أنكم سلكتم ضد ذلك، فصنعتم صنما كأحد أصنامهم فعبده بعضكم ولم يردعكم عن ذلك باقيكم.
(أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ؟) قال صاحب الكشاف: المعنى أعجلتم عن أمر ربكم وهو انتظار موسى حافظين لعهده وما وصاكم به فبنيتم الأمر على أن الميعاد قد بلغ آخره ولم أرجع إليكم، فحدثتكم أنفسكم بموتى فغيّرتم كما غيرت الأمم بعد أنبيائهم.
وروي أن السامري قال لهم حين أخرج لهم العجل وقال: « هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى » إن موسى لن يرجع وإنه قد مات ا هـ.
(وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) أي وطرح الألواح من يديه وأخذ برأس أخيه يجره إليه بذؤابته ظنا منه أنه قد قصّر في ردعهم وتأنيبهم وكفّهم عن عبادة العجل كما فعل هو بتحريقه وإلقائه في اليم إن قدر، أو أن يتبعه إلى جبل الطور إن لم يستطع كما حكى الله تعالى عنه في سورة طه: « قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي؟ ».
ولا شك أن سياسة الأمم تختلف باختلاف أحوال رعاتها وسائسيها، فالقوي منهم الشديد الغضب للحق كموسى يشعر بما لا يشعر به من يغلب عليه الحلم ولين العريكة كهرون عليه السلام.
ثم ذكر سبحانه جواب هرون لموسى فقال:
(قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي) أي يا ابن أمي لا تعجل بلومي وتعنيفى وتظنن تقصيرى في جنب الله فإني لم آل جهدا في الإنكار على القوم والنصح لهم، لكنهم قد استضعفوني ولم يرعووا لنصحى ولم يمتثلوا لأمري بل أوشكوا أن يقتلوني.
(فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي فلا تفعل بي من اللوم والتقريع ما يجعل الأعداء يشمتون بي، ولا تجعلنى في زمرة القوم الظالمين لأنفسهم، وهم الذين عبدوا العجل فتغضب مني كما غضبت منهم وتؤاخذني كما اخذتهم فإني لست منهم في شيء.
وفي هذا دليل على أن هرون كان دون موسى في شدة العزيمة وقوة الإرادة وأخذ الأمور بالحزم، وهذا ما أطبق عليه المسلمون وأهل الكتاب.
ثم أبان سبحانه أثر هذا الاستعطاف في قلب موسى عليه السلام فقال:
(قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) أي قال رب اغفر لي ما فرط مني من قول وفعل فيهما غلظة وجفاء، واغفر له ما عساه يكون قد قصّر فيه من مؤاخذة القوم على ما اجترموه من الآثام خوفا مما توقعه من الإيذاء الذي قد يصل إلى القتل، وأدخلنا في رحمتك التي وسعت كل شيء واغمرنا بجودك وفضلك فأنت أرحم بعبادك من كل رحم.
والآية صريحة في براءة هرون من جريمة اتخاذ العجل وفى إنكاره على متخذيه وعابديه من قومه، وبهذا قد صححت ما وقع في التوراة التي بين يدي أهل الكتاب من نسبة اتخاذ العجل إلى هرون وجعله هو الفاعل لذلك كما جاء في الفصل الثاني والثلاثين من سفر الخروج قال:
ولما رأى الشعب أن موسى قد أبطأ في النزول من الجبل اجتمع الشعب على هرون وقالوا: قم فاصنع لنا آلهة تسير أمامنا، لأن موسى الرجل الذي كان قد أصعدنا من أرض مصر لا نعلم ما قد أصابه، فقال لهم هرون انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وائتوني بها فنزع كل الشعب أقراط الذهب التي كانت في آذانهم وأتوا بها إلى هرون، فأخذ ذلك من أيديهم وصوّره بالأزميل وصنعه عجلا مسبوكا فقالوا هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر، فلما نظر هرون بنى مذبحا أمامه ونادى هرون وقال: غدا عيد للرب فبكروا في الغد وأصعدوا محرقات وقدموا ذبائح سلامة، وجلس الشعب للأكل والشرب ثم قاموا للعب، فقال الرب لموسى: اذهب انزل، لأنه قد فسد شعبك الذي أصعدته من أرض مصر، زاغوا سريعا عن الطريق الذي أوصيتهم به صنعوا عجلا مسبوكا وسجدوا له وذبحوا له وقالوا: هذه آلهتك يا إسرائيل الذي أصعدتك من أرض مصر - ثم قال: وكان عند ما اقترب إلى المحلة أنه أبصر العجل والرقص فحمى غضب موسى وطرح اللوحين من يديه وكسرهما في أسفل الجبل، ثم أخذ العجل الذي صنعوا وأحرقه بالنار وطحنه حتى صار ناعما وذرّاه على وجه الماء وسقى بني إسرائيل وقال موسى لهرون: ماذا صنع بك هذا الشعب حتى جلبت عليه خطية عظيمة فقال هرون: لا يحمم غضب سيدي علي، أنت تعرف الشعب، إنه في شر، فقالوا اصنع لنا آلهة تسير أمامنا...
ثم ذكر طلب موسى من الرب أن يغفر لقومه، وأمر الرب إياهم أن يقتل كل واحد أخاه وكل واحد صاحبه، وكل واحد قريبه، وأن بنى لاوى فعلوا ذلك فقتل منهم في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف رجل - وقد تقدم ذكر ذلك في سورة البقرة.
[سورة الأعراف (7): الآيات 152 الى 153]
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)
تفسير المفردات
الغضب هنا: هو ما أمروا به من قتل أنفسهم، والذلة: هي ما يشعرون به من هوانهم على الناس واحتقارهم لهم، وقيل هي الذلة التي عرتهم عند تحريق إلاههم ونسفه في اليم نسفا مع عدم قدرتهم على دفع ذلك عنه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عتاب موسى لأخيه هارون عليهما السلام ثم استغفاره لنفسه وله - قفّى على ذلك بذكر ما استحقه القوم من الجزاء على اتخاذ العجل وهو مما أوحاه الله إلى موسى يومئذ.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي إن الذين بقوا على اتخاذ العجل واستمروا عليه كالسامري وأشياعه - سيصيبهم غضب من ربهم بألا يقبل توبتهم إلا إذا قتلوا أنفسهم، وذلة عظيمة في الحياة الدنيا بالخروج من الديار والغربة عن الوطن.
(وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) أي ومثل هذا الجزاء في الدنيا نجزى المفترين على الله في كل زمان إذا فضحوا بظهور افترائهم كما فضح هؤلاء.
قال الحسن البصري: إن ذل البدعة على أكتافهم وإن هملجت بهم البغال وطقطقت بهم البراذين.
وروي عن أبي قلابة أنه قرأ هذه الآية وقال هي والله لكل مفتر إلى يوم القيامة.
(وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أي والذين عملوا السيئات من الكفر والمعاصي ثم تابوا رجعوا من بعدها إلى الله بأن رجع الكافر عن كفره والعاصي عن عصيانه وأخلص الإيمان وزكاه بالعمل الصالح - إن ربك من بعد ذلك لغفور لهم ستار لذنوبهم رحيم بهم منعم عليهم.
وينتظم في هذا السلك متخذو العجل وسواهم من المجترحين للسيئات، عظمت ذنوبهم أو حقرت، لأن الذنوب وإن جلّت وعظمت فعفو الله وكرمه أعظم وأجل على شريطة التوبة والإنابة، وبدونها الطمع فيه طمع في غير مطمع، ألا ترى أن طمع الفساق في المغفرة بدون الإنابة إلى ربهم قد ذهب بكثير من حرمة الأوامر والنواهي من قلوبهم، وجعلهم يستحلون كثيرا من المحرمات، وكانوا شرا ممن قال الله فيهم: « وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً » ولم يكن طمعهم ثمرة إيمان وعمل صالح بل هي أماني جر إليها الحمق والغفلة عما يجب من تعظيم تلك الأوامر والنواهي: « إن الأماني والأحلام تضليل ».
[سورة الأعراف (7): آية 154]
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)
تفسير المفردات
السكوت في اللغة: ترك الكلام، نسب إلى الغضب على تصويره بصورة شخص ذي قوة ورياسة يأمر وينهى فيطاع، قال في الكشاف: هذا مثل كأن الغضب كان يغريه على ما فعل ويقول له قل لقومك كذا وألق الألواح وجرّ برأس أخيك إليك، فترك النطق بذلك وقطع الإغراء ا هـ. وفى نسختها أي ما نسخ وكتب منها فهي من النسخ كالخطبة من الخطاب، وهدى: بيان للحق، ورحمة بالإرشاد إلى ما فيه الخير والإصلاح، والرهبة: أشد الخوف.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر حال القوم وقسمهم قسمين: مصرّ على الذنب وعبادة العجل، وتائب منيب إلى ربه، وبين مآل كل من القسمين - ذكر هنا بيان حال موسى بعد أن سكنت سورة غضبه وهدأ روعه.
الإيضاح
(وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) أي ولما سكن غضب موسى باعتذار أخيه إليه ولجأ إلى رحمة ربه وفضله وجأر بالدعاء له أن يغفر له ولأخيه خطاياهما عاد إلى الألواح فأخذها، وفيها الهدى والرشاد من بارئ النسم لمن يرهب الله ويخشى عقابه ويرجو ثوابه.
[سورة الأعراف (7): الآيات 155 الى 157]
واخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
تفسير المفردات
يقال اختاره من الرجال وانتقاه: اصطفاه من بينهم، والرجفة: الصاعقة، والفتنة: الاختبار والامتحان مطلقا أو بالأمور الشاقة، والولي. المتولى أمور غيره القائم عليها، والحسنة في الدنيا: هي العافية وبسطة الرزق وعز الاستقلال والملك، وفى الآخرة دخول الجنة ونيل الرضوان، وهاد يهود وتهود: تاب ورجع إلى الحق فهو هائد وقوم هود، والنبي من النبأ: وهو الخبر المهم العظيم الشأن وفى لسان الشرع من أوحى الله إليه وأنبأه بما لم يكن يعلم بكسبه من خبر أو حكم به يعلم علما ضروريا أنه من الله عز وجل، والرسول: نبي أمره الله بتبليغ شرع ودعوة دين وبإقامته والعمل به ولا يشترط أن بكون كتابا يقرأ وينشر ولا شرعا جديدا يعمل به ويحكم بين الناس، بل قد يكون تابعا لشرع غيره كله كالرسل من بني إسرائيل الذين كانوا يتبعون التوراة عملا وحكما، والأمي: الذي لا يقرأ ولا يكتب نسبة إلى الأم، وأهل الكتاب يلقبون العرب بالأميين كما حكى الله عنهم: « ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ » والمعروف: ما تعرف العقول السليمة حسنه لموافقته للفطرة والمصلحة بحيث لا تستطيع أن ترده أو تعترض عليه إذا ورد به الشرع، والمنكر: ما تنكره القلوب وتأباه على الوجه المذكور، والطيب: ما تستطيبه الأذواق من الأطعمة وتستفيد منه التغذية النافعة، والخبيث من الأطعمة ما تمجّه الطباع السليمة كالميتة والدم المسفوح، أو تصد عنه العقول الراجحة لضرره في البدن كالخنزير الذي تتولد من أكله الدودة الوحيدة، أو لضرره في الدين كالذي يذبح للتقرب به إلى غير الله على سبيل العبادة، والخبيث من الأموال: ما يؤخذ بغير حق: كالرياء والرشوة والغلو والسرقة والغصب ونحو ذلك، والإصر: الثقل الذي يأصر صاحبه: أي يحبسه من الحركة لثقله، والأغلال: واحدها غل (بالضم) وهو الحديدة التي تجمع يد الأسير إلى عنقه ويقال لها جامعة أيضا، والتعزير: الإعانة والنصرة حتى لا يقوى عليه عدو.
الإيضاح
(وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا) أي وانتخب موسى واصطفى سبعين رجلا من خيار قومه للميقات الذي وقته الله تعالى له ودعاهم للذهاب معه إلى حيث يناجى ربه من جبل الطور.
(فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ) أي فلما أخذتهم رجفة الجبل وصعقوا قال موسى رب إننى أتمنى أن لو كانت سبقت مشيئتك أن تهلكهم من قبل خروجهم معى إلى هذا المكان فأهلكتهم وأهلكتنى معهم حتى لا أقع في شديد الحرج مع قومي فيقولوا قد ذهبت بخيارنا لإهلاكهم وإن لم تفعل فإني أسألك برحمتك ألا تفعل الآن.
وقد اختلف المفسرون في أن هذا هل كان بعد أن أفاق موسى من صعقة تجلى ربه للجبل عقب سؤاله الرؤية إذ كان معه شيوخ بني إسرائيل ينتظرونه مكان وضعهم فيه غير مكان المناجاة - أو كان بعد عبادة العجل حين ذهبوا للاعتذار وتأكيد التوبة وطلب الرحمة.
قال محمد بن إسحق: اختار موسى من بني إسرائيل سبعين رجلا الخيّر فالخيّر وقال انطلقوا إلى الله فتوبوا إليه مما صنعتم واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم، صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم، فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقّته ربه وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم، فقال له السبعون فيما ذكر لي حين صنعوا ما أمرهم به وخرجوا معه للقاء ربه: يا موسى اطلب لنا نسمع كلام ربنا فقال أفعل، فلما دنا موسى من الجبل وقع
عليه عمود الغمام حتى تغشى الليل كله ودنا موسى فدخل فيه وقال للقوم ادنوا، وكان موسى إذا كلمه الله وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بنى آدم أن ينظر إليه فضرب دونه بالحجاب ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا فسمعوه وهو يكلم موسى: يأمره وينهاه افعل ولا تفعل، فلما فرغ إليه من أمره وانكشف عن موسى الغمام، أقبل إليهم فقالوا لموسى: « لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً » فأخذتهم الرجفة وهي الصاعقة فأتلفت أرواحهم فماتوا جميعا، فقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول: « رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي » قد سفهوا، أتهلك من ورائي من بني إسرائيل ا هـ.
ولا شك أن هذه الرواية ونحوها مأخوذة عن الإسرائيليات وليس فيها شيء مرفوع إلى النبي ﷺ.
(أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) أي قال موسى لربه مستعطفا: لا تهلكنا بما فعل السفهاء منا من العناد وسوء الأدب أو من عبادة العجل.
وفي هذا إيماء إلى أن عقلاء بني إسرائيل وأصحاب الروية منهم لم يعبدوه إنما عبده السفهاء، وهم الأكثرون.
(إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) أي ما تلك الفعلة التي كانت سببا في أخذهم بالرجفة إلا محنة منك وابتلاء، جعلته سببا لظهور استعداد الناس وما طويت عليه سرائرهم من ضلال وهداية وما يستحقون عليه العقوبة أو المثوبة بحسب سنتك في خلقك بالعدل والحق، تضل بمقتضاها من تشاء من عبادك ولست بالظالم لهم في تقديرك، وتهدى من تشاء ولست بالمحابي لهم في توفيقك، فأمرهم دائر بين العدل والفضل.
(أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ) أي أنت المتولّى أمورنا والقائم علينا بما تكتسب نفوسنا، فاغفر لنا ما تترتب عليه المؤاخذة والعقاب من مخالفة سنتك.
والتقصير فيما يجب من ذكرك وشكرك وعبادتك، وارحمنا وأنت خير الغافرين حلما وكرما وجودا، فكل غافر سواك إنما يغفر لغرض كحب الثناء ودفع الضرر، وأنت تغفر لا لطلب عوض بل لمحض الفضل والكرم، وأنت خير الراحمين رحمة، وأوسعهم فيها فضلا وإحسانا، فرحمة من سواك نفحة مفاضة على قلوبهم من رحمتك.
(وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ) أي وأثبت لنا برحمتك وفضلك حياة طيبة في هذه الدنيا من عافية وبسطة في الرزق وتوفيق للطاعة، ومثوبة حسنة في الآخرة بدخول جنتك ونيل رضوانك، فهو بمعنى قوله فيما علّمنا من دعائه: « رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً ».
(إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) أي إنا تبنا مما فرط من سفهائنا من طلب الآلهة وعبادة العجل ومن تقصير عقلائنا في الإنكار عليهم - مستغفرين مسترحمين كما فعل من قبل آدم إذ تاب إليك من معصيته فتبت عليه واجتبيته فكانت تلك سنتك في ولده.
(قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ) أي قد كان من سبق رحمتى غضبى أن جعلت عذابى خاصا أصيب به من أشاء من الكفار والعصاة أما رحمتى فقد وسعت كل شيء في العالمين فهي من صفاتى التي قام بها أمر العالم منذ خلقته، والعذاب من أفعالى المترتبة على صفة العدل، ولو لا الرحمة العامة المبذولة لكل أحد لهلك كل كافر وعاص عقب كفره وفجوره « وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ ».
ثم ذكر من ستكتب لهم الرحمة فقال:
(فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) أي فأثبت رحمتى بمشيئتى للذين يتقون الكفر والمعاصي ويؤتون الصدقة التي تتزكى بها أنفسهم، وخص الزكاة بالذكر دون ما عداها من الطاعات، لأن النفوس شحيحة ففتنته تقتضى أن يكون المانعون للزكاة أكثر من التاركين غيرها من الطاعات، كما أن في ذلك إيماء إلى أن اليهود أشربوا في قلوبهم حب المال وفتنوا بجمعه ومنع بذله في سبيل الله، كما إني سأكتبها كتبة خاصة للذين يصدّقون بجميع آياتنا التي تدل على توحيدنا وصدق رسلنا تصديق إيقان مبنى على العلم الصحيح دون تقليد للآباء والأجداد.
(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ) أي إن كتابة الرحمة كتابة خاصة لمن يتصفون بالصفات الثلاث المتقدمة: وهم الذين يتبعون الرسول النبي الأمي وهو وصف خاص بمحمد ﷺ لا يشاركه فيه غيره من النبيين. فالأمية آية من آيات نبوته، فهو مع أميته قد جاء بأعلى العلوم النافعة التي بها يصلح ما فسد من عقائد البشر وأخلاقهم وآدابهم وأعمالهم، فغيّر نظم البشر في تلك الحقبة الطويلة وأثر في حياة الأمم التي حوله أكبر الأثر بما شهد له المنصفون في كل الأديان.
وقد وصف الله ذلك الرسول الذي أوجب اتباعه على كل من أدركه من بني إسرائيل بصفات:
(1) إنه نبي أمي.
(2) إنه هو (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) أي يجد الذين يتبعونه من بني إسرائيل وصفه مكتوبا في التوراة والإنجيل بحيث لا يشكّون أنه هو.
فقد جاء في الباب الثالث والثلاثين من سفر التثنية: « جاء الرب من سينا وأشرق لنا من ساعير واستعلى من جبال فاران ومعه ألوف الأطهار، في يمينه قبس من نار » فمجيئه من سينا إعطاؤه التوراة لموسى عليه السلام، وإشراقه من ساعير إعطاؤه الإنجيل لعيسى عليه السلام، واستعلاؤه من جبال فاران إنزاله القرآن، لأن فاران من جبال مكة.
وجاء في الباب الخامس عشر من إنجيل يوحنا: « فأما إذا جاء الفار قليط الذي أرسله أنا إليكم من الأب روح الحق الذي من الأب ينبثق فهو يشهد لي وأنتم تشهدون لأنكم معى من الابتداء » والفارقليط بالعبرية معناه أحمد - كما قال تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام: « مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ » وجاء في سفر التكوين: « فلا يزول القضيب من يهوذا والراسم من تحت أمره إلى أن يجىء الذي هو له وإليه تجتمع الشعوب » وفى هذا دلالة على مجىء محمد عليه السلام بعد تمام حكم موسى وعيسى، لأن المراد من الحاكم موسى لأنه ما جاء بعد يعقوب صاحب شريعة إلا هو، والمراد من الراسم عيسى وبعدهما ما جاء صاحب شريعة إلا محمد عليه الصلاة والسلام.
وعلى الجملة، فأهل الكتاب من اليهود والنصارى كانوا يتناقلون خبر بعثته ﷺ فيما بينهم ويذكرون البشارات من كتبهم، حتى إذا ما بعثه الله بالهدى ودين الحق آمن به كثيرون وكان علماؤهم يصرحون بذلك كعبد الله بن سلام وأصحابه من علماء اليهود وتميم الداري من علماء النصارى وغيرهم من الذين أسلموا في عصر النبي ﷺ.
وأما الذين استكبروا فكانوا يكتمون البشارات به في كتبهم ويؤولون كثيرا منها ويكتمونه عمن لم يطلع عليه، وقد قيّض الله عالما من علماء الهند يسمى الشيخ رحمة الله في القرن الماضي لتحقيق هذه البشارات في كتاب سماه: [إظهار الحق ] وتناول فيه مسائل غاية في الأهمية، ويجدر بمن يريد التوسع في هذه المسائل أن يطلع عليه وهو مطبوع متداول بين أيدي الناس.
(3، 4) إنه (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي لا يأمر إلا بالخير ولا ينهى إلا عن الشر كما قال عبد الله بن مسعود: إذا سمعت الله يقول « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا » فأرعها سمعك، فإنه خير تؤمر به أو شر تنتهى عنه ا هـ.
ومن أهم ما أمر به عبادة الله وحده لا شريك له، ومن أهم ما نهى عنه عبادة ما سواه كما هو شأن جميع الرسل في ذلك كما قال: « وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ».
(5، 6) إنه (يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) أي إنه يحل لهم ما تستطيبه الأذواق من الأطعمة وفيه فائدة في التغذية، ويحرّم عليهم ما تستقذره النفوس: كالميتة والدم المسفوح وما يؤخذ من الأموال بغير حق كالربا والرّشوة والغصب والخيانة.
(7) إنه (يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) أي إنه يضع عنهم التكاليف الشاقة كاشتراط قتل الأنفس في صحة التوبة والقصاص في القتل العمد أو الخطأ من غير شرع الدية وقطع الأعضاء الخاطئة وقطع موضع النجاسة من الثوب وتحريم السبت.
وقال ابن كثير: أي إنه جاء بالتيسير والسماحة كما ورد في الحديث: « بعثت بالحنيفية السمحة » وقال ﷺ لأميريه معاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري لما بعثهما إلى اليمن. « بشّروا ولا تنفّروا، ويسروا ولا تعسّروا، وتطاوعا ولا تختلفا ».
والخلاصة - إن بني إسرائيل كانوا قد أخذوا بالشدة في أحكام العبادات والمعاملات الشخصية والمدنية والعقوبات فكان مثلهم مثل من يحمل أثقالا يئطّ منها وهو موثق بالسلاسل والأغلال في عنقه ويديه ورجليه، وقد خفف المسيح عليه السلام عنهم بعض التخفيف في الأمور المادية، وشدد في الأحكام الروحية إلى أن جاءت الشريعة الوسطى السمحة التي بعث بها خاتم الرسل محمد صلوات الله عليه.
ثم بين سبحانه وتعالى كيفية اتباعه عليه الصلاة والسلام وعلو مرتبة متبعيه واغتنامهم مغانم الرحمة في الدارين إثر بيان نعوته الجليلة فقال:
(فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي إن الذين آمنوا بالرسول الأمي حين بعث - من قوم موسى ومن كل أمة، وعزروه بأن منعوه وحموه من كل من يعاديه مع التعظيم والإجلال، لا كما يحمون بعض ملوكهم مع الكره والاشمئزاز، ونصروه باللسان والسّنان، واتبعوا النور الأعظم الذي أنزل مع رسالته وهو القرآن، أولئك هم المفلحون الفائزون بالرحمة والرضوان دون سواهم من حزب الشيطان الذين خذلهم الله في الدنيا والآخرة.
[سورة الأعراف (7): آية 158]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)
الإيضاح
بعد أن حكى عز اسمه ما في التوراة والإنجيل من نعوته ﷺ وذكر شرف من يتبعه من أهلهما ونيلهما سعادة الدنيا والآخرة - قفى على ذلك ببيان عموم بعثته ﷺ ودعوة الناس كافة إلى الإيمان به وأمره بتبليغهم دعوته فقال:
(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) أي قل لجميع البشر من عرب وعجم إني رسول الله إليكم كافة لا إلى قومي خاصة فهو بمعنى قوله تعالى: « وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا » وقوله « وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ » أي وأنذر به كل من بلغه من النقلين، وقوله: « وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ».
وجاءت أحاديث صحيحة ناطقة باختصاصه ﷺ بالرسالة العامة كحديث جاء في الصحيحين وغيرهما من قوله ﷺ « أعطيت خمسا لم يعطهنّ أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلّ، وأحلّت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت لي الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة ».
ثم وصف الله تعالى نفسه بتوحيد الربوبية وتوحيد الإلهية وبالإحياء والإماتة فقال:
(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ) أي إن الله الذي أنا رسوله هو من له التصرف في السموات والأرض وتدبير العالم كله، إذ وحدة النظام في جملة المخلوقات وعدم التفاوت فيها دليل على وحدة مصدرها وتدبيرها، فهو المعبود وحده لا إله إلا هو.
وتوحيد الربوبية بالإيمان وتوحيد الألوهية بالإيمان والعمل: أي بعبادة الله وحده - هما أصل الدين والركن الأول في العقيدة. والركن الثاني الإيمان برسالة محمد ﷺ، والركن الثالث عقيدة البعث بعد الموت وهي تتضمن الإحياء والإماتة وتصرف الرب في خلقه.
وقد بنى على تقرر هذه الأمور الثلاثة الدعوة إلى الإيمان فقال:
(فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ) أي فآمنوا أيها الناس جميعا بالله الواحد في ربوبيته وألوهيته الذي يحيى كل ما تحلّه الحياة ويميت كل ما يعرض له الموت بعد الحياة، وهذا أمر مشاهد كل يوم.
وآمنوا برسوله النبي الأمي الذي بعثه في الأميين رسولا إلى الخلق أجمعين، يعلمهم الكتاب والحكمة ويطهرهم من خرافات الشرك والجهل والتفرق والتعادي ليكونوا بهدايته أمة واحدة يتحقق بها الإخاء البشرى العام، وقد بشر بهذا النبي الأنبياء صلوات الله عليهم، لأنه المتمم لما بعثوا به من هداية الناس.
(الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ) أي يؤمن بتوحيد الله وكلماته التشريعية التي أنزلها لهداية خلقه على ألسنة رسله وهي مظهر علمه ورحمته، وكلماته التكوينية التي هي مظهر إرادته وقدرته وحكمته.
وبعد أن أمرهم سبحانه بالإيمان أمرهم بالإسلام فقال:
(وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي واسلكوا طريقه، واقتفوا أثره في كل ما يأتي وما يذر من أمور الدين رجاء اهتدائكم بالإيمان وباتباعه إلى ما فيه سعادتكم في الدنيا والآخرة وتلك هي الثمرة التي تجنى منهما، فما آمن قوم بنبي إلا كانوا بعد الإيمان به خيرا مما كانوا قبله من العزة والكرامة في دنياهم وسعادتهم في آخرتهم بنيل رصوان ربهم والحظوة بالقرب منه.
وليس من التشريع الذي يجب فيه امتثال الأمر واجتناب النهى - ما لا تعلق له بحق الله ولا حق خلقه من جلب مصلحة أو دفع مفسدة كمسائل العادات والزراعات والصناعات والعلوم والفنون المبنية على التجارب وما جاء فيها من أمر ونهى فهو إرشاد لا تشريع - وقد ظن بعض الصحابة أن إنكار النبي ﷺ لبعض الأمور الدنيوية المبنية على التجارب من قبيل التشريع كامتناعهم عن تلقيح النخل حين نهاهم عنه فأشاص: (أي خرج ثمره شيصا رديئا) فراجعوه فأخبرهم أن ما قاله كان عن ظن ورأى، لا عن تشريع ووحي، وقال لهم: « أنتم أعلم بأمور دنياكم » والحكمة في ذلك تنبيه الناس إلى أن مثل هذه الأمور الدنيوية والمعاشية متروكة لمعارف الناس وتجاربهم.
[سورة الأعراف (7): آية 159]
وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)
المعنى الجملي
بعد أن بين عز اسمه كتابته للرحمة لمن يتبع محمدا ﷺ من قوم موسى ووصفهم بأنهم هم المفلحون - ذكر هنا حال خواص أتباع موسى عليه السلام الذين كانوا متبعين له حق الاتباع وعطفهم على المهتدين باتباع خاتم النبيين ﷺ.
الإيضاح
(وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) الأمة: الجماعة الكثيرة، ويهدون: يرشدون ويدلون، والعدل الحكم بين الناس بالحق - يقال هو يقضى بالحق ويعدل وهو حكم عادل أي ومن قوم موسى جماعة عظيمة يهدون الناس بالحق الذي جاءهم به من عند الله ويعدلون به دون غيره إذا حكموا بين الناس، فلا يتبعون هوى ولا يأكلون سحتا ولا رشى، وهؤلاء من كانوا في عصر موسى وممن بعد عصره حتى بعد ما ضاع أصل التوراة ووجدت النسخ المحرفة بعد السبي، فإن الأمم الكبيرة لا تخلو من أهل الحق والعدل.
ونحو الآية قوله: « وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِمًا ».
وقد ورد في خيار أهل الكتاب ثلاثة أنواع من الآيات:
(1) ما كان منها صريحا في الذين أدركوا النبي ﷺ وآمنوا به كقوله في سورة البقرة: « الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ».
(2) ما كان صريحا في الذين كانوا في عهد موسى عليه السلام واتبعوه أو اتبعوا من بعده من أنبيائهم إلى عهد البعثة العامة قبل بلوغ دعوتها كالآية التي نحن نفسرها.
(3) ما كان محتملا للقسمين كقوله « مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ».
[سورة الأعراف (7): آية 160]
وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)
تفسير المفردات
قطعناهم أي صيرناهم قطعا وفرقا كل فرقة منها سبط، والسبط: ولد الولد مطلقا، وقد يخص بولد البنت، وأسباط بني إسرائيل سلائل أولاده العشرة: أي ماعدا لاوى وسلائل ولدي ابنه يوسف وهما إفرايم ومنسى، إذ سلائل لاوى نيطت بها خدمة الدين في جميع الأسباط ولم تجعل سبطا مستقلا، والأمة: الجماعة التي تؤلف بين أفرادها رابطة خاصة أو مصلحة واحدة أو نظام واحد، والاستسقاء: طلب الماء للسقيا، والانبجاس والانفجار واحد، يقال: بجسه فانبجس وبجّسه فتبجس كما يقال فجره: أي شقه فانفجر، وقال الراغب: الانبجاس أكثر ما يقال فيما يخرج من شيء ضيق، والانفجار يستعمل فيه وفيما يخرج من شيء واسع، والغمام: السحاب مطلقا أو الأبيض منه أو الرقيق، والمنّ مادة بيضاء تنزل من السماء كالطلّ حلوة الطعم شبيهة بالعسل وإذا جفّت كانت كالصمغ. والسلوى: طير يشبه السّماني (السمان) لكنه أكبر منه.
المعنى الجملي
ذكر سبحانه في هذه الآية حالين من أحوال بني إسرائيل، أولاهما: أنه قسمهم اثنتي عشرة فرقة بعدد أسباطهم الاثني عشر، ثانيتهما: أنهم لما استسقوا موسى ضرب الحجر فانبجس منه اثنتا عشرة عينا بقدر عدد الأسباط وقد تقدم ذكر هاتين الواقعتين في سورة البقرة.
الإيضاح
(وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطًا أُمَمًا) أي وفرقنا قوم موسى الذين كان منهم أمة يهدون بالحق وبه يعدلون، ومنهم الظالمون والفاسقون، فجعلناهم اثنتي عشرة فرقة تسمى أسباطا: أي أمما وجماعات يمتاز كل منهم بنظام خاص في معيشته وبعض شئونه.
(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْنًا) أي وأوحينا إلى موسى. حين استسقاه قومه فاستسقى ربه لهم - أن اضرب بعصاك الحجر فضر به فنبعت منه عقب ضربه إياه اثنتا عشرة عينا من الماء بقدر عدد أسباطهم، وخص كل واحد بعين منها للزحام وحفظا للنظام.
وفي سفر العدد من التوراة أن عدد الرجال الصالحين للحرب من بني إسرائيل كان يزيد على ستمانة ألف من ابن عشرين فما فوق وعلى هذا فيكون عددهم جميعا يزيد على ألفى ألف (مليونين) وابن خلدون قال في مقدمته: إن هذا العدد لا يتصور بقاؤه في صحراء مجدبة قليلة المياه بحال فلا ينبغي للمؤرخين اعتماد هذا.
كذلك ما ورد من حجم الحجر وشكله ككون رأسه كرأس الشاة أو أكبر وكونه يوضع في الجوالق أو يحمل على ثور أو حمار فكل ذلك من الخرافات الإسرائيلية التي تلقاها المفسرون بالقبول على غرابتها.
(وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ) أي وسخرنا لهم الغمام يلقى عليهم ظله فيقيهم لفح الشمس من حيث لا يحرمون فائدة نورها وحرها المعتدل، ولو لا السحاب في التيه لأحرقتهم حرارتها إذ لم يكن هناك من الشجر ما يستظلون به.
(وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) فسهلنا عليهم الطعام والشراب على أحسن الوجوه وكان المن يقوم مقام الخبز عندهم ويكفى الألوف من الناس، وتقوم السّماني مقام اللحوم والطيور الأخرى.
(كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ)، أي وأنزلنا عليهم ما ذكر قائلين لهم كلوا من طيبات ما رزقناكم، وفى ذلك تنبيه وتذكير بما كان يجب عليهم من شكر هذه النعم.
(وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي وما ظلمونا بكفرهم بهذه النعم، بل ظلموا أنفسهم وأضروها بهذا الجحود والإنكار، وقد كان ذلك من دأبهم وعادتهم آنا بعد آن.
وقد جاء في الحديث القدسي الذي رواه مسلم عن أبي ذرّ مرفوعا « يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ».
ولا شك أن من ظلم نفسه كان لغيره أظلم، وإن كان ظلمه لنفسه مما يجهل أنه ظلم لها، إذ يتجلى له في صورة المنفعة وتكون عاقبته مضرة، وهكذا الحال في جميع الظالمين والمجرمين، فهم يظنون أنهم بظلمهم وإجرامهم ينفعون أنفسهم جهلا منهم للعواقب وقلة تدبر ما ينبغي أن يتفطّن له.
[سورة الأعراف (7): الآيات 161 الى 162]
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162)
الإيضاح
تقدم مثل هاتين الآيتين في سورة البقرة غير أن بين الموضعين فروقا:
(1) إنه قال هنا: اسكنوا القرية، وفى سورة البقرة: « ادْخُلُوا » والفائدة هنا أتم، لأن السكنى تستلزم الدخول دون العكس.
(2) إنه قال هنا: (وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ) وفى سورة البقرة، « فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا »، فجاء العطف هناك بالفاء لأن بدء الأكل يكون عقب الدخول كأكل الثمرات والفواكه التي تكون في كل ناحية من القرية - أما السكنى فأمر ممتد يكون الأكل في أثنائه لا عقبه، كما وصف هناك الأكل بالرغد وهو: الواسع الهنيء لأن الأكل في أول الدخول يكون ألذ وبعد السكنى والإقامة لا يكون كذلك.
(3) إنه قال هنا: (وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّدًا) وقدم هنا ما أخر هناك وأخر ما قدمه، والواو لا تدل على طلب ترتيب بين الأمرين، فالاختلاف في التعبير دالّ على عدم الفرق بين تقديم هذا وتأخير ذاك وبين عكسه، إذ لا فارق بين أن يدعوا بقولهم: (حِطَّةٌ) أي حط عنا أوزارنا وخطايانا الذي هو بمعنى قولنا اللهم غفرا - في حال التلبس بالتواضع والخضوع وتنكيس الرءوس شكرا لله على نعمه عند دخول القرية، وبين أن يبدءوا بتنكيس الرءوس والخضوع والتواضع ثم يدعوا بقولهم (حِطَّةٌ).
(4) إنه قال هنا: (سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) بدون واو، وهناك: « وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ » بالعطف والمعنى واحد وترك الواو أدل على أن الزيادة تفضل من الله ليست مشاركة للمغفرة فيما جعل سببا لها من الخضوع والسجود والاستغفار والدعاء بحط الأوزار.
(5) إنه قال هاهنا (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ): فزيد منهم على مثله في سورة البقرة.
ومعنى تبديلهم قولا غير الذي قيل لهم: أنهم عصوا بالقول والفعل وخالفوا الأمر مخالفة تامة لا تحتمل اجتهادا ولا تأويلا فلم يراعوا ظاهر مدلول اللفظ ولا الفحوى والمقصود منه، حتى كأن المطلوب منه غير الذي قيل لهم.
وما روى في الإسرائيليات من هذا التبديل من الألفاظ العبرانية أو العربية - فلا ثقة به، وإن خرّج بعضه في الصحيح والسنن موقوفا ومرفوعا كحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما - قيل لبني إسرائيل: (ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة فدخلوا يزحفون على أستاههم وقالوا: (حِطَّةٌ) حبة في شعيرة، إذ هو مروى من طريق هماّم بن منبّه أخي وهب وهما صاحبا الغرائب في الإسرائيليات، وأبو هريرة لم يصرح بسماعه من النبي ﷺ فيحتمل أنه سمعه من كعب الأحبار إذ ثبت أنه روي عنه.
(6) إنه قال هنا: (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ) وقال هناك « فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ » فالاختلاف بين الإنزال والإرسال وهو خلاف لفظى، وبين عليهم وعلى الذين ظلموا، وبين يظلمون ويفسقون، وفائدته بيان أنهم كانوا يجمعون بين الظلم الذي هو نقص للحق أو إيذاء للنفس أو للغير، والفسق الذي هو الخروج عن الطاعة، والرجز كما تقدم العذاب الذي تضطرب له القلوب أو يضطرب له الناس في شئونهم ومعايشهم.
والعبرة في هذا القصص أن نعلم أن الله يعاقب الأمم على ذنوبها في الدنيا قبل أن يعذبها في الآخرة، وأن نبتعد بقدر الطاقة عن الظلم والفسق، فقد عاقب الله بني إسرائيل بظلمهم ولم يحل دون عقابه ما كان لهم من فضائل ومزايا ككثرة الأنبياء فيهم وتفضيلهم على العالمين كما تقدم.
[سورة الأعراف (7): الآيات 163 الى 166]
وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذابًا شَدِيدًا قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166)
تفسير المفردات
القرية: هي أيلة، وقيل مدين، وقيل، طبريّة والعرب تسمى المدينة قرية، حاضرة البحر: أي قريبة منه على شاطئه، ويعدون في السبت: أي يتجاوزون حكم الله بالصيد المحرّم عليهم فيه، وحيتانهم: سمكهم، ويوم سبتهم: أي تعظيمهم للسبت يقال سبتت اليهود تسبت إذا عظّمت السبت بترك العمل فيه وتخصيصه للعبادة، وشرّعا: واحدها شارع كركّع وراكع: أي ظاهرة على وجه الماء، ونبلوهم: نختبرهم، وأمة منهم: أي جماعة منهم، والمعذرة: بمعنى العذر وهو التنصل من الذنب، فمعنى معذرة إلى ربكم: قيام منا بعذر أنفسنا إلى الله تعالى، ونسوا ما ذكروا به: أي تركوه ترك الناسي وأعرضوا عنه إعراضا تاما، والسوء. العمل الذي تسوء عاقبته، والبئيس: الشديد من البأس وهو الشدة، أو من البؤس وهو المكروه أو الفقر، والعتو: الإباء والعصيان، وخاسئين: أي أذلاء صاغرين.
المعنى الجملي
ذكرت هذه القصة في سورة البقرة إجمالا وهاهنا ذكرت تفصيلا، إذ كانت سورة الأعراف نزلت بمكة في أوائل الإسلام ولم يكن النبي ﷺ لقى أحدا من اليهود وقد كان أميالا يقرأ كتابا كما قال تعالى: « وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ » فكان ذلك أدل على الإعجاز.
الإيضاح
(وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ) الخطاب للنبي ﷺ والسؤال للتقرير المتضمن للتقريع والتوبيخ وبيان أن كفر أهل الكتاب بمحمد ﷺ وبمعجزاته ليس بدعا جديدا منهم، فإن أسلافهم أقدموا على هذا الذنب القبيح والمعصية الفاحشة واعتدوا هذا الاعتداء الشائن الذي قص الله خبره.
والمعنى - واسأل بني إسرائيل عن أهل المدينة التي كانت قريبة من البحر راكبة على شاطئه (إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) أي اسألهم عن حالهم حين كانوا يعتدون في السبت ويجاوزون حكم الله بالصيد فيه وقد نهوا عنه.
(إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا) أي يأتيهم السمك ظاهرا على وجه الماء يوم تعظيمهم للسبت بترك العمل والتفرغ للعبادة فيه ابتلاء من الله واختبارا لهم.
(وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ) أي لا تأتيهم يوم لا يسبتون كما كانت تأتيهم يوم السبت حذرا من صيدهم لاعتيادها أحوالهم قيل إنها اعتادت ألا يتعرض أحد لصيدها يوم السبت فأمنت وصارت تظهر فيه وتخفى في الأيام التي لا يسبتون فيها لما اعتادت من اصطيادها فيها، فلما رأوا ظهورها وكثرتها في يوم السبت أغواهم ذلك بالاحتيال على صيدها فيه.
(كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي مثل هذا البلاء بظهور السمك يوم السبت نبتليهم ونعاملهم معاملة المختبر لحال من يراد إظهار حاله ليترتب الجزاء على عمله بسبب فسقهم المستمر على أمر ربهم واعتدائهم حدود شرعه، فقد جرت سنة الله بأن من أطاعه سهل له أمور الدنيا وأجزل له الثواب في الآخرة، ومن عصاه: ابتلاه بأنواع المحن والبلاء.
(وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذابًا شَدِيدًا؟) أي واسألهم عن حال أهل تلك القرية حين قالت جماعة منهم هذه المقالة، وفى ذلك دلالة على أن الذين كانوا يعدون في السبت بعض أهل القرية لا جميعهم وأن أهلها كانوا فرقا ثلاثا:
(1) فرقة العادين في السبت التي أشير إليها في الآية الأولى.
(2) فرقة الواعظين لهؤلاء العادين لينتهوا عن عدوانهم ويكفّوا عنه.
(3) فرقة اللائمين للواعظين التي قالت لهم: لم تعظون قوما قد قضى الله عليهم بالهلاك بالاستئصال أو بعذاب شديد دون الاستئصال، أو المراد مهلكهم في الدنيا ومعذبهم في الآخرة.
(قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي قال الواعظون للائمين لهم: نعظكم عظة اعتذار نعتذر بها إلى ربكم عن السكوت على المنكر، فإذا طولبنا بإقامة فريضة النهي عن المنكر قلنا قد فعلنا فنكون بذلك معذورين - إلى أنا نرجو أن ينتغعوا بالموعظة فيحملهم ذلك على اتقاء الاعتداء الذي اقترفوه، إذ نحن لم نيأس من رجوعهم إلى الحق كما أنتم منهم يائسون.
(فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) أي إنهم لما تركوا ما ذكّرهم به الصالحون وأعرضوا عنه حتى صار كالمنسي في كونه لا تأثير له.
(أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ) أي أنجينا الذين ينهون عن العمل السيء وهما الفريقان الآخران.
(وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي وأخذنا الذين ظلموا أنفسهم بشديد العذاب بسبب تماديهم في الفسق حتى صار ديدنهم وهجّيراهم.
والخلاصة - إنه لما ذكّر المذكّرون ولم يتذكر المعتدون أنجينا الأولين وأخذنا الآخرين.
وقد جرت سنة الله بألا يؤاخذ الظالم في الدنيا بكل ما يقع منه من ظلم ولو كان قليلا في الصفة أو العدد كما يدل على ذلك قوله: « وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ » وقوله: « وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ » ولكنه يؤاخذ الأمم والشعوب في الدنيا قبل الآخرة بما يقع منها من ظلم يظهر أثره بالاستمرار عليه كما قال: « وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً » كما عاقب الله بني إسرائيل كافّة بتنكيل البابليين ثم النصارى بهم وسلبهم ملكهم حين عم فسقهم ولم يدفع ذلك وجود بعض الصالحين فيهم.
وعلى الجملة فالآية صريحة في هلاك الظالمين الفاسقين ونجاة الصالحين الذين نهوهم عن عمل السوء وارتكاب المنكر، وسكت عن الفرقة التي أنكرت على الواعظين وعظهم وإنكارهم، وهي ناجية أيضا لأنها كانت منكرة للمنكر مستقبحة له بدليل أنها تفعله، وإنما لم تنه عنه ليأسها من فائدة النهى واعتقادها أن القوم قد استحقوا عقاب الله بإصرارهم على الفسق فلا يفيدهم الوعظ وهذا رأي ابن عباس.
(فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) أي فلما تمردوا وتكبروا وأبوا أن يتركوا ما نهاهم عنه الواعظون قلنا لهم كونوا قردة صاغرين أذلاء بعداء عن الناس: أي تعلقت إرادتنا بأن يكونوا كذلك.
وهذا الجزاء تفصيل للعذاب البئيس الذي ذكر في الآية السالفة، وقيل إنه عذاب آخر، فقد عاقبهم أولا بالبؤس والشقاء في المعيشة، إذ من الناس من لا يربيه ولا يهذبه إلا الشدة والبؤس، ولما لم يزدهم البؤس إلا عتوّا وإصرارا على الفسق والظلم مسخهم مسخ خلق وجسم فكانوا قردة على الحقيقة وهذا ما يراه جمهرة العلماء، أو مسخ خلق ونفس فكانوا كالقردة في الطيش والشر والإفساد لما تصل إليه أيديهم وهذا رأى مجاهد قال: مسخت قلوبهم فلم يوفّقوا لفهم الحق.
وفي الآية إيماء إلى أن هذا المسخ كان لمخالفتهم الأوامر وتماديهم في العصيان ولم يكن لاصطياد الحيتان فحسب.
[سورة الأعراف (7): الآيات 167 الى 171]
وإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)
تفسير المفردات
قال سيبويه: أذّن: أعلم، وأذّن: نادى وصاح للإعلام ومنه « فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ » ومثله تأذن، ليبعثن: أي ليسلّطن، ويسومهم: يذيقهم ويوليهم، وقطعناهم: فرقناهم أمما: أي جماعات، دون ذلك: أي منحطون عنهم، وبلوناهم: امتحناهم، والحسنات النعم، والسيئات: النقم، والخلف: (بسكون اللام) يستعمل في الأشرار (وبالتحريك) في الأخيار، والكتاب: التوراة، والعرض (بالتحريك) متاع الدنيا وحطامها، والأدنى: أي الشيء الأدنى والمراد به الدنيا، ودرسوا ما فيه: أي قرءوه فهم ذاكرون له، ويمسكون: أي يتمسكون به ويعملون، ونتقنا الجبل: أي رفعناه كما روى عن ابن عباس، أو زلزلناه وهو مرفوع، يقال نتق السقاء: إذا هزه ونفضه ليخرج منه الزبد، أو اقتلعناه كما هو رأى كثير من العلماء، والظلة: كل ما أظلك من سقف بيت أو سماء أو جناح طائر والجمع ظلل وظلال.
المعنى الجملي
بعد أن بيّن سبحانه قبائح طائفة من اليهود وذكر عقابهم على ذلك بالمسخ قردة - ذكر هنا أنه كتب على اليهود جميعا الذلة والصغار إلى يوم القيامة عقابا على أفعالهم، وهذه سنة الله في عقاب الأمم التي تفسق عن أمره وتخالف أوامر دينه، وهي كما تنطبق على اليهود تنطبق على غيرهم من الأمم التي لا ترعوى عن غيها، بل تتمادى في فجورها وطغيانها وتسير قدما في غوايتها وضلالها.
الإيضاح
(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ) أي واذكر أيها الرسول إذ أعلم ربك هؤلاء القوم مرة إثر أخرى أنه قضى عليهم في علمه وفقا لما قامت عليه نظم الاجتماع، ليسلطن عليهم إلى يوم القيامة من يوقع بهم العقاب الشديد على ظلمهم وفسقهم وفسادهم في الأرض، والآية بمعنى قوله في سورة الإسراء « وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا » إلى أن قال: « وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا » أي وإن عدتم بعد عقاب المرة الآخرة إلى الإفساد عدنا إلى التعذيب والإذلال، وقد عادوا فسلط الله عليهم النصارى فسلبوا ملكهم الذي أقاموه بعد أن نجوا من سبى البابليين وقهرهم واستذلالهم إلى أن جاء الإسلام، فعاداه منهم الذين هربوا من الذل والنكال ولجئوا إلى بلاد العرب فعاشوا فيها آمنين أعزّاء لكنهم نكثوا العهد الذي أعطوه للنبي ﷺ وبه أمّنهم على أنفسهم وأموالهم وحرية دينهم فنصروا المشركين عليه فسلطه الله عليهم فقاتلهم ونصره عليهم فأجلى بعضهم وقتل بعضا وأجلى عمر البقية الباقية منهم إلى سورية ولما فتحها انتقل اليهود من حكم الروم الجائر إلى سلطة الإسلام العادلة ولكنهم فقدوا الملك والاستقلال في جميع الحالات.
(إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ) أي إن ربك سريع العقاب للأمم التي تفسق عن أمره وتفسد في الأرض، فلا يتخلف عقابه عنها كما يتخلف عن بعض الأفراد، يؤيد هذا قوله: « وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيرًا »
أي وإذا أردنا هلاك قرية من القرى أمرنا سادتها وكبراءها بالحق والعدل والرحمة فعصوا أمر ربهم وأفسدوا وظلموا في الأرض فحق عليهم القول بمقتضى سنته في خلقه فحل بهم الهلاك وخاق بهم النكال جزاء بما كانوا يعملون.
(وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن أقلع عن ذنبه، وأناب إليه، وأصلح ما كان قد أفسد في الأرض قبل أن يحل به عذابه.
والآية بمعنى قوله: « وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحًا ثُمَّ اهْتَدى ».
وقلما ذكر عذاب الفاسقين إلا قرنه بذكر الرحمة والمغفرة للمحسنين حتى لا ييأس صالح مصلح من رحمة ربه بذنب عمله بجهالة، ولا يأمن مفسد من عقابه اغترارا بعفوه وكمه وهو مصر على ذنبه.
وقد فصل سبحانه عقابهم فذكر بدء إذلالهم بإزالة وحدتهم وتمزيق جامعتهم فقال:
(وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا) أي وفرقنا بني إسرائيل في الأرض وجعلنا كل فرقة منهم في قطر من أقطارها فلا يخلو منهم قطر وليس لهم شوكة ولا دولة، وهذا من معجزات الكتاب الكريم.
(مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) أي منهم الصالحون كالذين نهوا من اعتدوا في السبت عن ظلمهم، والذين كانوا يؤمنون بالأنبياء من بعد موسى، والذين آمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام، ومنهم من دونهم في الصلاح لم يبلغوا مبلغهم، ومنهم الغلاة في الكفر والفسق كالذين كانوا يقتلون النبيين بغير حق، ومنهم السماعون للكذب الأكّالون للسحت والرشا لتبديل الأحكام والقضاء بغير ما أنزل الله كما هو شأن الأمم، فإنها تفسد تدريجا لا دفعة واحدة كما نشاهد ذلك في المسلمين.
(وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي وامتحناهم واختبرنا استعدادهم بالنعم التي تحسن في عيونهم وتقرّبها أفئدتهم، وبالنقم التي تسوءهم وإن كانت قد تحسن بالصبر عاقبتها لديهم، رجاء أن يرجعوا عن ذنبهم، وينيبوا إلى ربهم، فيعود إليهم فضله ورحمته.
(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ) أي نبتت من أولئك الذين منهم الصالح والطالح نابتة ورثوا التوراة: أي وقفوا على ما فيها وكانوا عالمين بأحكامها بعد أسلافهم والحال أنهم يؤثرون حطام الدنيا ومتاعها بما يأكلونه من السحت والرشا والاتجار بالدين والمحاباة في الحكم، ويقولون سيغفر لنا ولا يؤاخذنا بما فعلنا، فإننا أبناء الله وأحباؤه وسلائل أنبيائه وشعبه الذي اصطفاه من سائر البشر إلى نحو ذلك من الأماني والأضاليل، وهم والغون في خطاياهم مصرّون على ذنوبهم، فإن يأتهم عرض آخر مثل الذي أخذوه أولا بالباطل يأخذوه ولا يتعفّفوا عنه - وهم يعلمون أن الله إنما وعد بالمغفرة التائبين الذين يقلعون عن ذنبهم ندما وخوفا من ربهم ويصلحون ما كانوا قد أفسدوا.
ثم رد الله عليهم ما زعموه بقولهم: سيغفر لنا، وهم مقيمون على ظلمهم وفسادهم وحبهم للدنيا فقال:
(أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ) أي وقد أخذ الله العهد والميثاق عليهم في كتابه ألا يقولوا عليه غير الحق الذي بينه فيه، فمنعهم من تحريفه وتغيير الشرائع لأجل أخذ الرشا، وهم قد درسوا الكتاب وفهموا ما فيه فهم ذاكرون لما أخذ عليهم من تحريم أكل أموال الناس بالباطل والكذب على الله إلى نحو أولئك.
(وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي والدار الآخرة وما فيها من نعيم للذين يتقون المعاصي ما ظهر منها وما بطن - خير من حطام الدنيا الفاني الذي يؤخذ بالرّشا والسحت وغير ذلك، أفلا تعقلون ذلك وهو واضح لا يخفى على كل ذي عقل لم تطمسه الشهوات، ولم يعم بصيرته حطام الدنيا العاجل، وبذا يرجّح الخير على التسر والنعيم المقيم على المتاع الزائل.
وفي هذا إيماء إلى أن الطمع في متاع الدنيا هو الذي أفسد على بني إسرائيل أمرهم، واستحوذ عليهم حبّ العاجلة فأذهب عنهم رشدهم.
وفي هذا عبرة للمسلمين الذين سرى إليهم كثير من هذا الفساد وغلب عليهم الطمع وحب الدنيا وعرضها الزائل وهم قد درسوا كتابهم الكريم، لكن التحلي بلقب الإسلام والتعلل بأماني المغفرة مع الإصرار على الذنوب اتكالا على الشفاعات والمكفّرات - هو الذي غرّهم وجعلهم يتمادون في غيّهم وكتابهم ينهاهم عن الأماني والأوهام وكون الشفاعة لا تقع إلا بإذن الله لمن رضى عنه كما قال: « وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ».
(وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) أي والذين يستمسكون بأوامر الكتاب ويعتصمون بحبله في جميع شئونهم، ويقيمون الصلاة التي هي عماد الدين وركن منه متين كعبد الله بن سلام وأصحابه - لا نضيع أجرهم لأنهم قد أصلحوا أعمالهم، والله لا يضيع أجر المصلحين، وهي بمعنى قوله: « إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ».
ثم ختم سبحانه هذه القصة مذكّرا ببدء حالهم في إنزال الكتاب عليهم عقب بيان مخالفتهم لأمور دينهم والخروج عنه فقال:
(وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ) أي واذكر أيها الرسول إذ رفعنا جبل الطور فوقهم كما روى عن ابن عباس، أو اقتلعناه وجعلناه فوقهم كأنه غمامة وأيقنوا أنهم إن خالفوا أوامر دينهم وقع لا محالة عليهم.
ذاك أنه أخذ عليهم الميثاق ليأخذنّ الشريعة بقوة وعزم فخالفوا الميثاق فرفع فوقهم الطور وأوقع في قلوبهم الرعب خوف وقوعه بهم، فخرّ كل واحد منهم ساجدا لربه وقبل العمل بالميثاق.
روي أن بني إسرائيل أبوا أن يقبلوا التوراة، فرفع الجبل فوقهم وقيل لهم إن قبلتم العمل بها وإلا ليقعنّ عليكم، فوقع كل منهم ساجدا على حاجبه الأيسر وهو ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل فرقا من سقوطه، فلذلك لا ترى يهوديا يسجد إلا على حاجبه الأيسر ويقولون هي السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة حين امتثلنا ما أمرنا به ا هـ.
وفي الآية تعريض بأنهم إذا كانت حالهم في مبدإ أمرهم بمخالفتهم لكتابه ما عرفت - فلا عجب إذا آل أمرهم إلى ترك العمل به بعد طول الأمد وقساوة القلوب والأنس بالمعاصي والذنوب.
(خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) أي وقلنا لهم في هذه الحال: خذوا ما أعطيناكم من أحكام الشريعة بعزم واحتمال للمشاقّ والتكاليف.
(وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي واذكروا ما فيه من الأوامر والنواهي، فإن ذلك يعدّكم للتقوى ويجعلها مرجوة لكم، فإن قوة العزيمة في إقامة الدين تزكي النفوس وتهذب الأخلاق، كما أن التهاون فيها يدسّيها ويغريها على اتباع الشهوات « قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها ».
[سورة الأعراف (7): الآيات 172 الى 174]
وإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)
تفسير المفردات
الظهور: واحدها ظهر، وهو ما فيه العمود الفقرى لهيكل الإنسان الذي هو قوام بنيته فيصح أن يعبر به عن جملة الجسد، والذرية: سلالة الإنسان من الذكور والإناث، والشهادة تارة قولية كما قال: الُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا » الآية، وتارة تكون حالية كما قال: « ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ » أي حالهم شاهدة عليهم بذلك، لا أنهم قائلون ذلك.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه هدايته للبشر بإرسال الرسل وإنزال الكتب في قصة بني إسرائيل - قفّى على ذلك بذكر هدايته لهم بما أودع في فطرتهم وركّب في عقولهم من الاستعداد للإيمان به وتوحيده وشكره منذ النشأة الأولى - فهو سبحانه بعد أن أظهر تمادى هؤلاء اليهود في الغي بعد أخذ الميثاق الخاص الذي دل عليه قوله: (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) وقوله: « وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ » ذكر هنا أنهم نقضوا أيضا الميثاق العام الذي أخذه على بنى آدم جميعا وهم في صلب آدم وأشركوا بالله وقالوا: عزير ابن الله.
الإيضاح
(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا بَلى شَهِدْنا) أي واذكر أيها الرسول للناس كافة ما أخذه الله من ميثاق الفطرة على البشر عامة، إذ استخرج من بنى آدم ذريتهم بطنا إثر بطن، وخلقهم على فطرة الإسلام بما أودع في قلوبهم من غريزة الإيمان اليقيني بأن كل فعل لا بد له من فاعل وأن فوق كل العوالم القائمة على سنة الأسباب والمسببات سلطانا أعلى على جميع الكائنات هو المستحق للعبادة وحده، وأشهد كل واحد من هؤلاء الذرية الحادثة جيلا بعد جيل على نفسه بما أودعه في غريزته واستعداده قائلا لهم قول إرادة وتكوين لا قول وحي وتبليغ: ألست بربكم؟ فقالوا بلسان الحال لا بلسان المقال: بلى أنت ربنا المستحق وحدك للعبادة، فالكلام من قبيل التمثيل، وله نظائر في القرآن الكريم وأساليب العرب كقوله تعالى بعد ذكر خلق السماء: « فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ » وقوله: « إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » وقول بعض العرب: قال الجدار للوتد لم تشقني؟ قال سل من يدقني، فإن الذي ورائي ما خلاني ورائي: أي رأيي.
وقال ابن كثير في تفسير الآية: يخبر الله تعالى أنه استخرج ذرية بنى آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم وأنه لا إله إلا هو، كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه، قال تعالى: « فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ »
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ « كل مولود يولد على الفطرة »
وفي رواية: « على هذه الملة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تلد البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء »؟
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله ﷺ « يقول الله إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرّمت عليهم ما أحللت لهم » ا هـ.
وقال ابن القيم في كتاب الروح في سياق البحث في خلق الأرواح قبل الأجساد ما خلاصته: إن الله سبحانه استخرج صور البشر وأمثالهم، فميّز شقيّهم وسعيدهم ومعافاهم من مبتلاهم، والآثار متظاهرة به مرفوعة، وإن الله أقام عليهم الحجة حينئذ وأشهدهم بربوبيته واستشهد عليهم ملائكته كما تدل على ذلك الآية.
قال أبو إسحق: جائز أن يكون الله سبحانه جعل لأمثال الذر التي أخرجها فهما تعقل به كما قال: « قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ » وقد سخر مع داود الجبال تسبح معه والطير. وقال ابن الأنبارى: مذهب أهل الحديث وكبراء العلم في هذه الآية أن الله أخرج ذرية آدم من صلبه وأصلاب أولاده وهم في صورة الذر فأخذ عليهم الميثاق أنه خالقهم وأنهم مصنوعون له، فاعترفوا بذلك وفعلوا، وذلك بعد أن ركّب فيهم عقولا عرفوا بها ما عرض عليهم كما جعل للجبل عقلا حين خوطب، وكما فعل بالبعير لما سجد، وبالنخلة حتى سمعت وانقادت حين دعيت ا هـ.
وقال الحسن بن يحيى الجرجاني: إنه سبحانه قد أثبت الحجة على كل منفوس ممن يبلغ وممن لم يبلغ بالميثاق الذي أخذه عليهم، وزاد على من بلغ منهم الحجة بالآيات والدلائل التي نصبها في نفسه وفى العالم وبالرسل المنفذة إليهم مبشّرين ومنذرين، وبالمواعظ بالمثلات المنقولة إليهم أخبارها، غير أنه عز وجل لا يطالب أحد منهم بالطاعة إلا بقدر ما لزمه من الحجة، وركّب فيهم من القدرة، وآتاهم من الأدلة، وبيّن سبحانه ما هو عامل في البالغين الذين أدركوا الأمر والنهي، وحجب عنا علم ما قدره في عير البالغين، إلا أنا نعلم أنه عدل لا يجور في حكمه، وحكيم لا تفاوت في صنعه، وقادر لا يسئل عما يفعل، له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين ا هـ.
ثم بين سبحانه سبب هذا الإشهاد وعلته فقال:
(أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) أي إنا فعلنا هذا منعا لاعتذاركم يوم القيامة، بأن تقولوا إذا أشركتم إنا كنا عن هذا التوحيد غافلين، إذ لم ينبهنا إليه منبّه، ومآل هذا أنه لا يقبل منهم الاعتذار بالجهل لأنهم نهّوا بنصب الأدلة وجعلوا مستعدّين لتحقيق الحق وإبعاد الشرك عن قلوبهم.
(أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) أي أو تقولوا في ذلك اليوم: إن آباءنا اخترعوا الإشراك وسنّوه من قبل زماننا وكنا جاهلين ببطلان شركهم، فلم يسعنا إلا الاقتداء بهم ولم نهتد إلى التوحيد، أفتؤاخذنا فتهلكنا اليوم بالعذاب بما فعله المبطلون من آبائنا المضلين، فتجعل عذابنا كعذابهم، مع عذرنا بتحسين الظن بهم؟.
والخلاصة - إن الله لا يقبل منهم الاعتذار بتقليد الآباء والأجداد، إذ التقليد عند قيام الدلائل والقدرة على الاستدلال بها مما لا يركن إليه ولا ينبغي لعاقل أن يلجأ إليه، كما أن الاعتذار بالجهل بعد ما أقام عليهم من البينات الفطرية والعقلية مما لا يقبل.
(وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي ومثل ذلك التفصيل المستتبع للمنافع الجليلة - نفّصل لبنى آدم الآيات والدلائل ليستعملوا عقولهم في التبصر فيها والتدبر في أمرها، لعلهم يرجعون بها عن جهلهم وتقليد آبائهم وأجدادهم.
وفي الآية إيماء إلى أن من لم تبلغه بعثة رسول لا يعذر يوم القيامة في الشرك بالله تعالى ولا بفعل الفواحش والموبقات التي تنفر منها الفطر السليمة وتدرك ضررها العقول الحصيفة، بل يعذرون بمخالفة هداية الرسل فيما شأنه ألا يعرف إلا منهم وهو تفصيل العبادات وعالم الغيب وما سيكون في اليوم الآخر من أحوال العاصين وشئون النبيين والصديقين من عقاب وثواب وكنه ذلك على الحقيقة
[سورة الأعراف (7): الآيات 175 الى 177]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177)
تفسير المفردات
التلاوة: القراءة، والنبأ: الخبر الذي له شأن، وانسلاخه منها: كفره بها ونبذه لها من وراء ظهره، ويقال لكل من فارق شيئا بحيث لا تحدّثه نفسه بالرجوع إليه: انسلخ منه، وأتبعه: أدركه ولحقه، قال الجوهري يقال أتبعت القوم إذا سبقوك فلحقتهم، ومن الغاوين: أي الراسخين في الغواية بعد أن كان مهتديا، أخلد إلى الأرض. أي ركن إلى الدنيا ومال إليها واللهث (بالفتح) واللهاث (بالضم) التنفس الشديد مع إخراج اللسان ويكون لغير الكلب من شدة التعب والإعياء أو من العطش وللكلب في كل حال سواء أصابه ذلك أم لا، وتحمل عليه. أي تشدّ عليه وتطرده، وساء الشيء: يسوء فهو سىء إذا قبح، وساءه يسوءه مساءة، والمثل: الصفة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر تقدست أسماؤه أخذ العهد والميثاق على بنى آدم جميعا وأشهدهم على أنفسهم بأن الله ربهم لا يكون لهم العذر يوم القيامة في الإشراك بالله جهلا أو تقليدا - قفى على ذلك بضرب المثل للمكذبين بآياته المنزلة على رسوله بعد أن أيدها بالأدلة العقلية والكونية، وهو مثل من آتاه الله آياته فكان عالما بها قادرا على بيانها والجدل بها لكنه لم يؤت العمل مع العلم بل كان عمله مخالفا لعلمه فسلبها لأن العلم الذي لا يعمل به لا يلبث أن يزول فأشبه الحية تنسلخ من جلدها وتخرج منه وتتركه على الأرض.
الإيضاح
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها) أي واتل على اليهود ذلك النبأ العجيب، نبأ ذلك الذي آتيناه حجج التوحيد وأفهمناه أدلته حتى صار عالما بها فانسلخ منها وتركها وراءه ظهريا ولم يلتفت إليها ليهتدى بها، وفى التعبير بالانسلاخ إيماء إلى أنه كان متمكنا منها ظاهرا لا باطنا.
(فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) أي وبعد أن انسلخ منها باختياره لحقه الشيطان فأدركه وتمكن من الوسوسة له، إذ لم يبق لديه من نور البصيرة ولا أمارات الهداية ما يحول بينه وبين قبول وسوسته وسلوك فهمه، فصار من الضالين المفسدين.
والخلاصة - إنه أوتى الهدى فانسلخ منه إلى الضلال ومال إلى الدنيا فتلاعب به الشيطان وكانت عاقبته البوار والخذلان وخاب في الآخرة والأولى.
وفي الآية عبرة وموعظة للمؤمنين وتحذير لهم من اتباع أهوائهم حتى لا ينزلقوا في مثل تلك الهوة التي انزلق إليها صاحب المثل بحبه للدنيا وركونه إلى شهواتها ولذاتها.
(وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها) أي ولو أردنا أن نرفعه بتلك الآيات والعمل بها إلى درجات الكمال والعرفان لفعلنا، بأن نخلق له الهداية خلقا ونلزمه العمل بها طوعا أو كرها، إذ لا يعجزنا ذلك ولكنه مخالف لسنتنا.
(وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ) أي ولكنه ركن إلى الدنيا ومال إليها وجعل كل حظه من حياته التمتع من لذائذها الجسدية، ولم يوجّه إلى الحياة الروحية عزما، وركب رأسه فلم يراع الاهتداء بشىء مما آتيناه من آياتنا.
وقد قضت سنة الله في الإنسان أن يجعله مختارا في عمله المستعد له بحسب فطرته، ليكون جزاؤه كفاء ما قدمت يداه من خير أو شر، وأن يمتحنه بما خلق في هذه الأرض من زينة ومتعة كما قال: « إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا » ثم يوّلى كل امرئ منهم وجهة هو مولّيها فيختار منها ناحية بحسب استعداده وميله الفطري كما قال: « مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُومًا مَدْحُورًا، وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا. كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا » كما مضت سنته أيضا بأن جعل ميل الإنسان مع شهواته في جميع أعماله دون رعاية للفائدة يضله عن السبيل الموصلة إلى السعادة الأخروية وينحرف به إلى سبل الغواية المردية في التّهلكة كما قال تعالى مخاطبا داود عليه السلام: « وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ » وقال مخاطبا خاتم أنبيائه: « أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا؟ ».
وخلاصة ذلك - إن من شأن من يؤتى الآيات أن تسمو نفسه وتصعد في سلم الكمال لما فيها من الهداية إلى سبيل الخير الحاضّة على عمل النافع وما فيه فائدة روحية له، على شريطة أن يتلقاها بعزيمة ونية صادقة كما جاء في الحديث: « إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ».
أما من تلقاها بغير قصد أو بنية كسب المال والجاه وفى نفسه ما يصرفه عنها فلن يستفيد منها شيئا وسرعان ما ينسلخ منها.
(فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) أي إن هذا الرجل كالكلب في صفته هذه وهي أقبح حالاته وأخسها، فهو لإخلاده وميله إلى الدنيا واتباعه هواه يكون كذلك في أسوإ حال، فهو في همّ دائب وشغل شاغل في جمع عرض الدنيا وزخرفها، يعني بخسيس أموره وجليلها كشأن عبّاد الأهواء وطلاب الأموال ترى المرء منهم كاللاهث من الإعياء والتعب وإن كان ما يعني به حقيرا لا يتعب ولا يعيى، وتراه كلما أصاب سعة وبسطة في الدنيا زاد طمعا فيها كما قال الأول:
فما قضى أحد منها لبانته ولا انتهى أرب إلا إلى أرب
(ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي ذلك المثل البالغ الحد في الغرابة مثل هؤلاء القوم الذين جحدوا بآياتنا واستكبروا عنها جهلا بها وتقليدا للآباء والأجداد، فهم قد ظنوا أن إيمانهم بها يسلبهم العزة ويحط من أقدارهم ويحول بينهم وبين ما يتمتعون به من اللذات، فكان ذلك حجابا حائلا بينهم وبين النظر فيها نظر تبصر واستدلال، وإن كانوا نظروا إليها من تلك الناحية التي تروق لهم وهي: حرمانهم من التمتع بالحظوظ والشهوات، إلى ما فيها من الاعتراف بضلال السلف من الآباء والأجداد فما أشبه حالهم بحال من أوتى الآيات فانسلخ منها، وذلك ليس بعيب فيها بل العيب عليه باتباعه هواه الذي حرمه من الانتفاع بها.
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفمّ طعم الماء من سقم
(فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) أي فاقصص أيها الرسول الكريم قصص ذلك الرجل الذي تشبه حاله حال أولئك المكذبين بما جئت به من الآيات البينات رجاء أن يتفكروا فيه فيحملهم سوء حالهم وقبح مثلهم على إطالة التأمل والتفكر في المخلص مما هم فيه، والنظر في الآيات بعين البصيرة لا بعين الهوى والعداوة.
وفي الآية إيماء إلى تعظيم ضرب شأن تلك الأمثال في الإقناع وكونها أقوى أثرا من سوق الحجج والأدلة دون أن تكون هي من بينها - كما أن فيها رمزا إلى تعظيم شأن التفكر وأنه مبدأ العلم والسبيل للوصول إلى الحق، ومن ثم حث الله عليه في مواضع كثيرة من كتابه كقوله: « إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ » وقوله « كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ».
(ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) أي قبحت صفة أولئك القوم في الصفات، وساء مثلهم في الأمثال بإعراضهم عن التفكر في الآيات والنظر إليها نظر عداوة وبغضاء، وهم بعملهم هذا إنما يظلمون أنفسهم وحدها بحرمانها من الاهتداء بها وجعلها السبيل الموصلة إلى السعادة في الدنيا والآخرة.
ولم يعيّن الكتاب الكريم اسم من ضرب به المثل ولا جنسه ولا وطنه ولا جاء في السنة الصحيحة شيء من ذلك، فلا حاجة لنا في العظة إلى بيانه.
ولرواة التفسير بالمأثور روايات كثيرة في شأنه.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: هو رجل يدعى بلعم من أهل اليمن آتاه الله آياته فتركها، وأخرج عبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر عن عبد الله بن عمرو أنه هو أمية بن أبي الصلت الثقفي، وفى لفظ: نزلت في صاحبكم أمية بن أبي الصلت.
وأخرج ابن عساكر عن ابن شهاب قال قال أمية بن أبي الصلت:
ألا رسول لنا منا يخبّرنا ما بعد غايتنا من رأس نجرانا
قال: ثم خرج إلى البحرين وتنبأ رسول الله ﷺ فأقام أمية بالبحرين ثماني سنين، ثم قدم فلقى رسول الله ﷺ في جماعة من أصحابه فدعاه النبي ﷺ وقرأ عليه (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. يس. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) حتى فرغ منها فوثب أمية يجر رجليه فتبعته قريش تقول: ما تقول يا أمية قال أشهد إنه على الحق، قالوا فهل تتبعه؟ قال حتى أنظر في أمره، فخرج أمية إلى الشام وقدم بعد وقعة بدر يريد أن يسلم، فلما أخبر بقتلى بدر ترك الإسلام ورجع إلى الطائف فمات بها، قال ففيه أنزل الله: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها).
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن الشّعبى في هذه الآية: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها) قال: قال ابن عباس هو رجل من بني إسرائيل يقال له بلعم بن باعوراء، وكانت الأنصار تقول هو ابن الراهب الذي بنى له مسجد الشقاق، وكانت ثقيف تقول هو أمية بن أبي الصلت.
وذكر البستاني في دائرة المعارف العربية ملخص قصة بلعام ثم قال: وبعض مفسري الكتاب المقدس المدققين ذهب إلى أن قصة بلعام المدرجة في سفر العدد من الإصحاح 22 - 24 دخيلة، وعلى الجملة فهذه الروايات الإسرائيلية لا يعتدها كما لم يعتد بها ابن جرير.
[سورة الأعراف (7): الآيات 178 الى 179]
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179)
تفسير المفردات
الذرء: لغة الخلق، يقال ذرأ الله الخلق أي أوجد أشخاصهم، والخلق: التقدير أي إيجاد الأشياء بتقدير ونظام لا جزافا، والجن: الأحياء العاقلة المكلفة الخفيّة غير المدركة بالحواس، والقلب يطلق أحيانا على المضغة الصنوبريّة الشكل في الجانب الأيسر من جسد الإنسان - وأحيانا على العقل والوجدان الروحي الذي يسمونه أحيانا (بالضمير) وهو محل الحكم في أنواع المدركات والشعور الوجداني لما يلائم أو يؤلم وهو كثير بهذا المعنى في الكتاب الكريم: « سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ - قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ - أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ».
وسر استعمال القلب في هذا المعنى ما يراه الإنسان من انقباض أو انشراح حين الخوف والاشمئزاز أو حين السرور والابتهاج، والفقه: العلم بالشيء والفهم له، وفسره الراغب بالتوصل بعلم شاهد إلى علم غائب، وقد استعمله القرآن في مواضع كثيرة بمعنى دقة الفهم والتعمق في العلم ليترتب عليه أثره وهو الانتفاع به، ومن ثم نفاه عن الكفار والمنافقين لأنهم لم يدركوا كنهه المراد مما نفى فقهه عنهم فقاتتهم المنفعة مع العلم المتمكن من النفس.
المعنى الجملي
بعد أن أمر النبي ﷺ بأن يقص قصص المنسلخ عن آيات الله على أولئك الضالين الذين حالهم كحاله ليتفكروا فيه ويتركوا ما هم عليه من الإخلاد إلى الضلالة ويعودوا إلى حظيرة الحق - قفى على ذلك ببيان أن أسباب الهدى والضلال ينتهيان للمستعد لأحدهما إلى إحدى الغايتين بتقدير الله والسير على سنته في استعمال مواهبه وهداياته الفطرية من العقل والحواس في أحد السبيلين كما قال: « وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ » « إِمَّا شاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ».
الإيضاح
(مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي) أي من يوفقه الله لسلوك سبل الهداية باستعماله عقله وحواسه فيما خلقا له بمقتضى الفطرة وإرشاد الدين فهو المهتدى الذي شكر نعم الله عليه وأدى حقه عليه ففاز بسعادة الدنيا وسعادة الآخرة.
(وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي ومن يخذله ويحرمه التوفيق فيتبع شيطانه وهواه ويترك استعمال عقله وحواسه في فقه آياته وشكر ما أنعم به عليه، فهو الكفور الضال الذي خسر سعادة الدنيا وسعادة الآخرة، إذ هو قد خسر تلك المواهب التي كان بها إنسانا مستعد للسعادتين الدنيوية والأخروية.
ولا شك أن الهداية الإلهية نوع واحد وهو الإيمان الذي ثمرته العمل الصالح أما أنواع الضلال فلا حصر لها، يرشد إلى ذلك قوله تعالى في سورة الأنعام: (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ).
ثم فصل سبحانه ما أجمله في الآية السالفة مع بيان سببه فقال:
(وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) أي نقسم إنا قد خلقنا في العالم كثيرا من الجن والإنس لسكنى جهنم والمقام فيها، وخلقنا للجنة مثل ذلك بمقتضى استعداد الفريقين كما قال: « فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ » وقال: « فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ».
ثم بين سبب كونهم معدّين لجهنم وصفاتهم المؤهلة لذلك فقال:
(لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) أي إنهم لا يفقهون بقلوبهم ما تزكو به أنفسهم من توحيد الله المبعد لها عن الخرافات والأوهام وعن الذلة والصغار، فإن من يعبد الله وحده تسمو نفسه بمعرفته فلا تذل بدعاء غيره ولا الخوف منه ولا الرجاء فيه والاتكال عليه، بل يطلب من الله ما يحتاج إليه، فإن كان مما أقدر الله عليه خلقه بإعلامهم بأسبابه وتمكينهم منها طلبه بسببه مع مراعاة سننه في خلقه، وإن لم يكن كذلك توجه إلى الله لهدايته إلى العلم بما لم يعلم من سببه وإقداره على ما يقدر عليه من وسائله أو تسخير من شاء من خلقه لمساعدته عليه كالأطباء لمداواة الأمراض، وأقوياء الأبدان لرفع الأثقال، والعلماء الراسخين للفتوى في المسائل العلمية وحل إشكال ما غمض من حقيقتها، ولا يتوجه في طلبه إلى غير ما يعرف البشر من الأسباب المطّردة كالرّقى والعزائم والتبخيرات وكرامات الصالحين من الأحياء والأموات والدعاء إليهم بما يعدّ من العبادات فالله يقول: « فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا » ويقول: « بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ ».
كما لا يفقهون بقلوبهم الحياة الروحية واللذات المعنوية الموصلة إلى السعادة الأبدية: « يَعْلَمُونَ ظاهِرًا مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ ».
ولا يفقهون أن ترك الشرور والمنكرات والحرص على فعل الخيرات هو مناط السعادة في الدنيا والآخرة، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتربية البدنية الصحيحة.
ولا يفقهون سنن الله في الاجتماع وتأثير العقائد الدينية في جمع الكلمة وقوة الجماعة ولا سيما في عهد النبوات ورمن المعجزات، ولا يفقهون معنى الآيات الإلهية في الأنفس والآفاق ولا آياته التي يؤيد بها رسله من علمية وكونية وما أودعه منها كتابه.
(وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها) أي وكذلك لهم أبصار وأسماع لا يوجهونها إلى التأمل والتفكر فيما يرون من آيات الله في خلقه، وفيما يسمعون من آياته المنزلة على رسله ومن أخبار التاريخ الدالة على سنته تعالى في خلقه، فيهتدوا بكل منها إلى ما فيه سعادتهم في دنياهم وآخرتهم.
فالآذان إنما خلقت للإنسان ليستفيد من كل ما يسمع، والأبصار خلقت لينتفع بكل ما يبصر، وإنما يكون ذلك بتوجيه الإرادة إلى استعمال كل منهما فيما خلق له كما قال تعالى: أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إنّ في ذلك لآيات أفلا يسمعون. أولم يروا أنّا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون.
ولكن المسلمين وا أسفا أصبحوا أشد الناس إهمالا لاستعمال أسماعهم وأبصارهم
وأفئدتهم في النظر في آيات الله في الأنفس والآفاق، وصاروا أجهل الشعوب بالعلوم التي تعرف بها آياته في مشاعر الإنسان وانفعالاته النفسية وقواه العقلية، وآياته في الحيوان والنبات والجماد والهواء والماء والبخار وسنن النور والكهرباء والعلوم الفلكية.
ومن أصاب منهم حظا من معرفتها فإنما يعرفها للانتفاع بها في الحياة الدنيا من غير مراعاة أنها آيات دالة على أن لها ربّا خالقا مدبّرا عليما قديرا رحيما يجب أن يعبد وحده وأن يخشى ويحب فوق كل أحد، وأن تكون معرفته منتهى كل غاية من هذه الحياة.
(أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) أي أولئك الذين اتصفوا بما ذكر من الصفات: كالأنعام من إبل وبقر وغنم، فهم لا حظ لهم من عقولهم إلا استعمالها فيما يتعلق بمعيشتهم في هذه الحياة، بل هم أضل سبيلا منها، إذ هذه لا تجنى على أنفسها بتجاوز سنن الفطرة وحدود الحاجة الطبيعية في أكلها وشربها وجميع حاجاتها، لكن عبيد الشهوات يسرفون في كل ذلك إسرافا عظيما قد تتوالد منه الأمراض الكثيرة، كما قد يجاهدون هذه الشهوات جهادا يفرّطون فيه بحقوق البدن، فلا يعطونه ما يكفيه من الغذاء أو يقصرون في الحقوق الزوجية فيجنون على أشخاصهم أو على النوع كله بالتفريط كما يجنى عليهما عبيد الشهوات بالإفراط، وهداية الإسلام تحظر هذا وذاك وتوجب الأكل من الطيبات بشرط عدم الإسراف، ولو سلك الناس مسلك الاهتداء بالقرآن في فهم أسرار الخلق ومعرفة منافعه لاستفادوا السعادة في معاشهم والاستعداد لمعادهم، وأولئك هم الغافلون عما فيه صلاحهم في الحياتين.
وهم في الغفلة على درجات، فمنهم الغافلون عن آيات الله في الأنفس والآفاق التي تهدى العبد إلى معرفة ربه، والغافلون عن استعمال مشاعرهم وعقولهم في أفضل ما خلقت لأجله، والغافلون عن ضروريات حياتهم الشخصية والقومية والدينية.
والخلاصة - إن أهل النار هم الأغبياء الجاهلون الغافلون الذين لا يستعملون عقولهم في فقه حقائق الأمور، وأبصارهم وأسماعهم في استنباط المعارف واستفادة العلوم، ولا في معرفة آيات الله الكونية وآياته التنزيلية، وهما سبب كمال الإيمان والباعث النفسي على كمال الإسلام.
[سورة الأعراف (7): آية 180]
وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (180)
تفسير المفردات
الأسماء: واحدها اسم، وهو اللفظ الدالّ على الذات أو عليها مع صفة من صفاتها، والجنسي: مؤنث الأحسن، فادعوه بها. أي سمّوه ونادوه بها للثناء عليه أو للسؤال وطلب الحاجات، وذروا: اتركوا، والإلحاد: الميل عن الوسط حسا أو معنى، والأول هو الأصل فيه، ومنه لحد القبر: وهو ما يحفر في جانب القبر مائلا عن وسطه وألحد السهم الهدف: أي مال في أحد جانبيه ولم يصب وسطه، ومن الثاني ألحد فلان: مال عن الحق، سيجزون أي سيلقون جزاء عملهم.
المعنى الجملي
بعد أن بين عز اسمه في الآية السالفة أن المخلوقين لجهنم لم يستعملوا عقولهم ومشاعرهم في الاعتبار بالآيات والتفقه في تزكية أنفسهم بالعلم النافع، فأورثهم ذلك الإهمال الغفلة التامة عن صلاح أنفسهم بذكر الله وشكره والثناء عليه بما هو أهله من صفات الكمال - قفّى على ذلك بذكر الدواء لتلك الغفلة والوسائل التي تخرج إلى ضدها وهي ذكر الله ودعاؤه في السر والعلن بكرة وعشيا.
الإيضاح
(وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) أي ولله دون غيره جميع الأسماء الدالة على أحسن المعاني وأكمل الصفات، فاذكروه ونادوه بها إما للثناء عليه نحو: « اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ » ونحو: « هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ » وإما لدى السؤال وطلب الحاجات.
وللذكر فوائد: منها تغذية الإيمان، ومراقبة الله تعالى والخشوع له والرغبة فيما عنده، واحتقار آلام الدنيا، وقلة المبالاة بما يفوت المؤمن من نعيمها، ومن ثم
جاء في الحديث « من نزل به غمّ أو كرب أو أمر مهمّ فليقل لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم لا إله إلا الله رب السموات والأرض ورب العرش الكريم » رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي.
وروى الحاكم في المستدرك عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ لفاطمة « ما يمنعك أن تسمعى ما أوصيك به؟ أن تقولي إذا أصبحت وإذا أمسيت يا حي يا قيّوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأنى، ولا تكلنى إلى نفسي طرفة عين ».
وأسماء الله كثيرة، وكلها حسنى لدلالة كل منها على منتهى كمال معناه وتفضيلها على ما يطلق منها على المخلوقين: كالرحيم والحكيم والحفيظ والعليم.
وروى الشيخان من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ « إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة »
وفي رواية له: « إن لله تسعة وتسعين اسما من حفظها دخل الجنة، وإن الله وتر يحب الوتر »
وقد سرد الأسماء التسعة والتسعين الترمذي والحاكم من طريق الوليد بن مسلم قال: « هو الله الذي لا إله إلا هو: الرحمن الرحيم الملك. القدوس. السلام. المؤمن. المهيمن.
العزيز. الجبار. المتكبر. الخالق. البارئ. المصور. الغفّار. القهار. الوهاب. الرزاق. الفتاح.
العليم. القابض. الباسط. الخافض. الرافع. المعز. المذل. السميع. البصير. الحكم. العدل
اللطيف. الخبير. الحليم. العظيم. الغفور. الشكور. العلى. الكبير. الحفيظ.
المقيت. الحسيب. الجليل. الكريم. الرقيب. المجيب. الواسع. الحكيم. الودود.
المجيد. الباعث. الشهيد. الحق. الوكيل. القوى. المتين. الولي. الحميد. المحصى.
المبدئ. المعيد. المحيي. الميت. الحي. القيوم. الواجد. الماجد. الواحد. الصمد.
القادر. المقتدر. المقدم. المؤخر. الأول. الآخر. الظاهر. الباطن. الوالي. المتعالي.
البر. التواب. المنتقم. العفو. الرءوف. مالك الملك. ذو الجلال والإكرام.
المقسط. الجامع. الغنى. المغني. المانع. الضار. النافع. النور. الهادي. البديع.
الباقي. الوارث. الرشيد. الصبور ».
وقد اختلف المحدّثون في سرد هذه الأسماء هل هو مرفوع أو مدرج في الحديث من بعض الرواة؟ والثاني هو الراجح ومن ثم لم يخرّجه الشيخان لتفرد الوليد به واحتمال الإدراج كما قاله الحافظ ابن حجر في الفتح.
(وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) أي ادعوه أيها المؤمنون واتركوا جميع الذين يلحدون في أسمائه بالميل بألفاظها أو معانيها عن نهج الحق الوسط إلى متفرّق السبل من تحريف أو تأويل أو شرك أو تكذيب أو زيادة أو نقصان أو ما ينافى وصفها بالحسنى كأن يوصف بما لا يصح وصفه به أو تتأول أوصافه على ما لا يليق به.
ثم بين العلة في تركهم في خوضهم يلعبون فقال:
(سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي لأنهم سيلقون جزاء عملهم وتحل بهم العقوبة في الدنيا قبل الآخرة، فاجتنبوا إلحادهم كيلا يصيبكم مثل ما يصيبهم.
والإلحاد ضربان: إلحاد إلى الشرك بالله وهو ينافى الإيمان ويبطله، وإلحاد إلى الشرك بالأسباب كأن ينظر إليها مع الغفلة عن كونها من خلق الله وتسخيره أو يعتقد أنها مؤثرة بذاتها لا بفعله تعالى، وهذا يوهن عرا الإيمان ولا يبطله.
والخلاصة - إن الإلحاد في أسمائه الحسنى أقسام:
(1) تسميته تعالى بما لم يسمّ به نفسه في كتابه أو ما صح من حديث رسوله ﷺ فقد اتفق أهل الحق على أن أسماءه وصفاته تعالى توقيفية: أي تحتاج إلى إذن من الشارع لصحة إطلاقها عليه تعالى، وكل ما ورد في الكتاب والأحاديث الصحيحة دعاء ووصفا له وإخبارا عنه يصح إثباته له، ويمنع كل ما دلت على منعه، قال في الكشاف كقول أهل البدو: يا أبا المكارم، يا أبيض الوجه، يا سخي.
(2) ترك تسميته بما سمى به نفسه أو وصفها به أو ترك إسناد ما أسنده تعالى إلى نفسه من الأفعال بناء على أن ذلك لا يليق به تعالى أو أنه يوهم نقصا في حقه كأن هؤلاء الملحدين أعلم منه ومن رسوله ﷺ بما يليق به وما لا يليق.
(3) تغيير أسمائه بوضعها لغيره مما عبد من دونه كاللات والعزّى.
(4) تحريف أسمائه وصفاته تعالى عما وضعت له بضرب من التأويل، فقد ذهب جماعة من المسلمين إلى جعل الرب القدوس الذي ليس كمثله شيء - كرجل من خلقه لأنه تعالى وصف نفسه بصفات يدل مجموعها على ذلك: كالسمع والبصر والكلام والوجه واليد والرجل والضحك والرضا والغضب، وذهب آخرون إلى تأويل جميع صفاته تعالى حتى جعلوها كالعدم.
(5) إشراك غيره فيما هو خاص به من أسمائه باللفظ كاسم الجلالة (الله) والرحمن ورب العالمين، وما في معناه كرب السماء والأرض أو رب الكعبة أو رب البيت (الكعبة) كما قال: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ ».
(6) إشراك غيره في كمال أسمائه كمن يزعم أو يعتقد أن لغيره رحمة كرحمته ورأفة كرأفته وغير ذلك من معاني أسمائه كالمجيب مثلا كما قال تعالى: « وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ ».
وبعض الذين يدعون غير الله تعالى من الموتى يعتقدون أنهم أسرع وأقرب في إجابتهم من الله تعالى فيجمعون بذلك بين شركين: شرك دعاء غير الله مع اعتقاد إجابته للدعاء، وشرك الكفر به بتفضيل غيره عليه سبحانه في سرعة الإجابة مع أن الله يقول: « أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ » أي لا يجيب المضطر إلا هو فهو المستحق وحده للعبادة.
[سورة الأعراف (7): الآيات 181 الى 186]
وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)
تفسير المفردات
الاستدراج: إما مأخوذ من درج الكتاب والثوب وأدرجه: إذا طواه، وإما: من الدرجة وهي المرقاة، فعلى الأول سنستدرجهم: أي سنطويهم طي الكتاب ونغفل أمرهم كما قال: « وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا » وعلى الثاني سنأخذهم درجة بعد درجة بإدنائهم من العذاب شيئا فشيئا كالمراقى والمنازل في ارتقائها ونزولها، والإملاء: الإمداد في الزمن والإمهال والتأخير من الملوة والملاوة، وهي الطائفة الطويلة من الزمن، والملوان: الليل والنهار والكيد كالمكر: هو التدبير الذي يقصد به غير ظاهره بحيث ينخدع المكيد بمظهره فلا يفطن له حتى ينتهى إلى ما يسوءه، وأكثره احتيال مذموم، ومنه ما هو محمود يقصد به المصلحة: ككيد يوسف لأخذ أخيه الشقيق من إخوته لأبيه برضاهم ومقتضى شريعتهم، والمتين: القوى الشديد، والجنة (بالكسر) نوع من الجنون. والإنذار: التعليم والإرشاد المقترن بالتخويف من مخالفته، والملكوت: الملك العظيم، وملكوت السموات والأرض: مجموع العالم، والحديث: كلام الله وهو القرآن، والطغيان تجاوز الحد في الباطل والشر من الكفر والفجور والظلم: والعمه. التردد في الحيرة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنه ذرأ لجهنم كثيرا من الثقلين. الجن والإنس وأبان أهمّ أسباب ذلك، وهي أن هؤلاء أفسدوا فطرتهم بإهمال مواهبهم من العقل والحواس، ثم أرشدنا إلى ما يصلح الفطرة من دعائه بأسمائه الحسنى، قفّى على ذلك ببيان وصف أمة الإجابة وثنّى، بذكر المكذبين من أمة الدعوة، وثلّث بتفنيد ما عرض لهم من الشبهة، ثم أرشد إلى التفكر الموصّل إلى الفقه في الأمور ومعرفة الحقائق، وإلى النظر الهادي إلى الحجة، والبرهان الموصل إلى معرفة صدق الرسول، ثم ختمها ببيان عدم الطمع في هداية من قضت سنة الله بضلاله وتركه يعمه في طغيانه.
الإيضاح
(وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) أي وبعض ممن خلقنا جماعة كبيرة مؤلفة من شعوب وقبائل كثيرة، يهدون بالحق ويدلّون الناس على الاستقامة، وبالحق يحكمون في الحكومات التي تجرى بينهم ولا يجورون، فسبيلهم واحدة، لأن الحق واحد لا يتعدد، وهؤلاء هم أمة محمد عليه الصلاة والسلام.
أخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج في قوله تعالى « وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ » قال: ذكر لنا أن النبي ﷺ قال « هذه أمتي، بالحق يحكمون ويقضون، ويأخذون ويعطون ».
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة فيها قال: بلغنا أن النبي ﷺ كان يقول إذا قرأها. وهذه لكم وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ).
وأخرج أبو الشيخ عن علي بن أبي طالب قال: لتفترقنّ هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة، يقول الله (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) فهذه هي التي تنجو من هذه الأمة ا هـ.
(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) أي والذين كذبوا بآيات الله سندعهم يسترسلون في غيهم وضلالهم ولا يدرون شيئا من عاقبة أمرهم، لجهلهم سنن الله في المنازعة بين الحق والباطل وأن الحق يدفع الباطل، وما ينفع الناس يتغلّب على ما يضرهم كما قال تعالى بل نقذف بالحقّ على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق وقال: « فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ».
وقد صدق الله وعده، فقد كان كفار قريش وصناديدها يبالغون في عداوة النبي ﷺ، اغترارا بكثرتهم وثروتهم لا يعتدّون به ولا بغيره ممن آمن به أوّلا وأكثرهم من الضعفاء الفقراء، فما زالوا يتدرّجون في عداوتهم له وقتالهم إياه حتى أظهره الله تعالى عليهم في غزوة بدر فلم يعتبروا، ثم زادهم غرورا تغلّبهم عليه آخر معركة أحد حتى قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر - إلى أن كان الفتح الأعظم: فتح مكة فأظهر رسوله ﷺ ومن اتبعه عليهم من حيث لا يعلمون سنته تعالى.
وأثر عن عمر رضي الله عنه أنه قال لما حملت إليه كنوز كسرى: اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجا فإني سمعتك تقول (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ).
(وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) أي وأمهل هؤلاء المكذبين المستدرجين في العمر وأمدّ لهم في أسباب المعيشة والتدرب على الحرب بمقتضى سنني في نظام الاجتماع البشري كيدا لهم ومكرا بهم لا حبّا فيهم ونصرا لهم كما قال تعالى: « فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ، أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ، نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ » وروى الشيخان من حديث أبي موسى: « إن الله ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ».
وخلاصة ذلك - إن سنة الله قد مضت في الأمم والأفراد بأن يكون عقابهم بمقتضى الأسباب التي قام بها نظام الخلق، فالظالم إذا لم ينزل به العقاب عقب ظلمه ازداد بغيا وظلما ولا يحسب للعواقب حسابا فيسترسل في ظلمه إلى أن تحيق به عاقبة ظلمه في الدنيا يأخذ الحكام له أو بوقوعه في المصايب والمهالك، وله في الآخرة عذاب النار وبئس القرار.
(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ؟) أي أكذبوا الرسول ولم يتفكروا في حاله من بدء نشأته وفى حقيقة دعوته، ودلائل رسالته، وآيات وحدانية الله وقدرته على إعادة خلقه كما بدأهم؟ إنهم إن تفكروا في ذلك مليا أو شكوا أن يعرفوا الحق، وما الحق إلا أن صاحبهم ليس به جنة، وقد حكى الكتاب الكريم عنهم أنهم رموه بالجنون كقوله في كفار مكة: « أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ، أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ، أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ » وقوله: « وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ، لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ » وقوله: « وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ »
وروى ابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال: ذكر لنا أن النبي ﷺ قام على الصفا فدعا قريشا فخذا فخذا: يا بني فلان، يا بني فلان، يحذرهم بأس الله ووقائع الله إلى الصباح حتى قال قائلهم: إن صاحبكم هذا لمجنون: بات يهوّت (يصيح) حتى أصبح. فأنزل الله: « أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ ».
وقد جرت عادة الكفار أن يرموا رسلهم بالجنون، لأنهم ادعوا أن الله خصهم برسالته ووحيه على كونهم بشرا كغيرهم لا يمتازون من سائر الناس بزعمهم، ولأنهم ادعوا مالم يعهد له نظير عندهم، فقد حكى الله عن قوم نوح أنهم اتهموه بالجنون فقالوا: « إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ » وقال في شأنهم: « كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ » وقال حكاية عن فرعون في موسى عليه السلام: « قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ » وقد بين سبحانه ذلك على وجه عام فقال: « كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ».
(إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي إنه ليس بمجنون بل هو منذر ناصح ومبلّغ عن الله، فهو ينذركم ما يحل بكم من عذاب الدنيا والآخرة إذا لم تستجيبوا له، وقد دعاكم إلى ما فيه صلاحكم في الدنيا بجمع الكلمة وصلاح حال الفرد والمجتمع والسيادة على من سواكم وصلاحكم في الآخرة بلقاء ربكم وأنتم في جنات النعيم.
والتعبير عنه ﷺ (بِصاحِبِهِمْ) لتذكيرهم بأنهم يعرفونه من أول نشأته إلى أن تجاوز الأربعين من عمره، فما عليهم إلا أن يتفكروا في سيرته ليعلموا أنه ليس من دأبه الكذب ولا هو مما عهد عنه كما شهد بذلك بعض زعمائهم فقال، إن محمدا لم يكذب قط على أحد من الناس، أفيكذب على الله؟ ومن ثم قال تعالى في أولئك الزعماء: « فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ».
ولو تأمل مشركو مكة في نشأته ﷺ وما جرّبوا من أمانته وصدقه إلى أن اكتهل ثم تفكروا فيما قام يدعوهم إليه من توحيد الله وعبادته وحده، وما دعاهم إليه من إصلاح في حالهم الدينية والمدنية والاجتماعية لعلموا أن هذا كله لا يصدر من مجنون، بل الذي يقتضيه العقل ويسرع إليه الفكر أن هذا ليس من رأى ذلك النبي الأمي الناشئ بين الأميين، وأن ما أقامه من الحجج والبراهين العقلية والكونية على ما يدّعى لا يصدر ممن لم يناظر ولم يفاخر ولم يجادل أحدا فيما مضى، إن هو إلا وحي من الله ألقاه في روعه ونزل من لدنه على روح القدس، والله يختص بفضله ورحمته من يشاء وهو ذو الفضل العظيم.
(أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) أي أكذّبوا الرسول الذي علموا صدقه وأمانته وقالوا إنه مجنون، وهو الذي شهر لديهم بالروية والعقل، ولم ينظروا نظرة تأمل واستدلال في هذا الملكوت العظيم من السموات والأرضين، فيروا ذلك النظام البديع فيهما وفى كل ما خلق الله، وإن دق وصغر، إنهم لو تأملوا في كل ذلك لرأوا آثار قدرته وعلمه، وفضله ورحمته وأنه لم يخلق شيئا من ذلك عبثا، ولا ترك الناس سدى.
إن كل ذرة فيهما لدليل لائح على الصانع المجيد وسبيل واضح إلى التوحيد.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
إنهم لو نظروا في شيء من ملكوت السموات والأرض لاهتدوا بدلائله إلى تصديق الرسول ﷺ، كذلك لو نظروا في توقع قرب أجلهم، وقدومهم على ربهم بسوء عملهم، لا حتاطوا لأنفسهم، ورأوا أن من الحكمة أن يقبلوا إنذاره ﷺ لهم، فما جاءهم به لا ينكرون أنه خير لهم في الدنيا وخير لهم في الآخرة إذا صدق ما يقرره من أمر البعث والجزاء، وهو صدق وحق لا شك فيه.
(فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ؟) أي فبأي حديث بعد القرآن يؤمنون إذا لم يؤمنوا به، وهو أكمل كتب الله بيانا، وأقواها برهانا، فمن لم يؤمن به فلا مطمع في إيمانه بغيره.
(مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ) أي إن الله قد جعل هذا الكتاب أعظم أسباب الهداية للمتقين لا للجاحدين المعاندين وجعل الرسول المبلغ له أقوى الرسل برهانا وأكملهم عقلا، وأجملهم أخلاقا، فمن فقد الاستعداد للإيمان بهذا الكتاب وهذا الرسول فهو الذي أضله الله: أي هو الذي قضت سنته في خلق الإنسان وارتباط أعماله بأسباب تترتب عليها مسبباتها، بأن يكون ضالّا راسخا في الضلال، وإذا كان ضلاله بمقتضى تلك السنن فمن يهديه من بعد الله؟ ولا قدرة لأحد من خلقه على تغيير تلك السنن وتبديلها.
(وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي وهو جلت قدرته يترك هؤلاء الضالين في طغيانهم يترددون حيرة ولا يهتدون سبيلا للخروج مما هم فيه، بما كسبت أيديهم من الطغيان وتجاوز الحد في الظلم والفجور.
والخلاصة - إنه ليس معنى إضلال الله لهم أنه أجبرهم على الضلال، وأعجزهم بقدرته عن الهدى، فكان ضلالهم جبرا لا اختيارا، بل المراد أنهم لما مرنت قلوبهم على الكفر والضلال وأسرفوا فيهما حتى وصلوا إلى حد العمه في الطغيان، فقدوا بهذه الأعمال الاختيارية ما يضادها من الهدى والإيمان فأصبحت نفوسهم لا تستنير بالهدى وقلوبهم لا ترعوى لدى الذكرى: « كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ »
[سورة الأعراف (7): آية 187]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187)
تفسير المفردات
الساعة لغة: جزء قليل غير معين من الزمن، وعند الفلكيين: جزء من أربع وعشرين جزءا متساوية يضبط بآلة تسمى (الساعة) وقد كان ذلك معروفا عند العرب، فقد جاء في الحديث « يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة » وقد تطلق بمعنى الوقت الحاضر وبمعنى الوقت الذي تقوم فيه القيامة، وأكثر استعمال (ساعة) بدون أل في الكتاب الكريم بمعنى الساعة الزمانية، وبأل بمعنى الساعة الشرعية، وهي ساعة خراب العالم وموت أهل الأرض جميعا، وجاء المعنيان في قوله تعالى: « وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ. ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ » والغالب التعبير بيوم القيامة عن يوم البعث والحشر الذي يكون فيه الحساب والجزاء والتعبير بالساعة عن الوقت الذي يموت فيه الأحياء في هذا العالم ويضطرب نظامه، فالساعة مبدأ، والقيامة غاية، وأيان: بمعنى متى، فهي للسؤال عن الزمان، ومرساها: أي إرساؤها وحصولها واستقرارها، ويقال رسا الشيء يرسو: إذا ثبت وأرساه غيره، ومنه إرساء السفينة وإيقافها بالمرساة التي تلقى في البحر فتمنعها من الجريان كما قال تعالى: « بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها » وجلّى فلان الأمر تجلية: أظهره أتم الإظهار، ولوقتها: أي في وقتها كما يقال كتبت هذا لغرة رمضان: أي في غرته، وبغتة فجأة من غير توقع ولا انتظار، وحفي من قولهم: أحفى في السؤال ألحف، وهو حفّى عن الأمر: بليغ في السؤال عنه واستحفيته عن كذا: استخبرته على وجه المبالغة، وتحفى بك فلان: إذا تلطف بك وبالغ في إكرامك.
المعنى الجملي
بعد أن أرشد تعالت أسماؤه من كانوا في عصر التنزيل وعصر نزول السورة إلى النظر والتفكر في اقتراب أجلهم بقوله: « وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ » قفّى على ذلك بالإرشاد إلى النظر والتفكر في أمر الساعة التي ينتهى بها أجل جميع الناس.
والخلاصة - إن هذا كلام في الساعة العامة بعد الكلام في الساعة الخاصة بكل فرد وهي انتهاء أجله.
الإيضاح
(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) أي يسألونك أيها الرسول عن الساعة - يقولون متى إرساؤها واستقرارها، والسائلون هم قريش، لأن السورة مكية ولم يكن في مكة أحد من اليهود، وسؤالهم عن هذا الوقت استبعاد منهم لوقوعه وتكذيب بوجوده كما جاء حكاية عنهم: « وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ » وقال تعالى: « يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ، أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ».
وفي التعبير عن زمن وقوعها بالإرساء الدال على استقرار ما شأنه الحركة والاضطراب إيماء إلى أن قيام الساعة هو انتهاء أمر هذا العالم وانقضاء عمر هذه الأرض التي تدور بما فيها من العوالم المتحركة المضطربة.
(قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) أي قل لهم إن علم الساعة عند ربي وحده لا عندي ولا عند غيري من الخلق، وقد جاء بمعنى الآية قوله: إليه يردّ علم السّاعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها » وقوله « يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها. فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها؟ إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها ».
وفي قوله عند ربي إشارة إلى أن ما هو من شأن الرب لا يكون للعبد، فالله قد أعد نبيه ليكون منذرا ومبشرا، والإنذار إنما يكون بالساعة وأهوالها، لا للإخبار عن الغيوب بأعيانها وأوقاتها، إذ تحديد ذلك ينافى هذه الفائدة بل فيه مفاسد، إذ لو وقّت الرسول ميعاد الساعة بتاريخ معين لاستهزأ به المكذبون، ولألحوا في تكذيبه وازدادوا ارتيابا، حتى إذا ما وقع الأجل وقع المؤمنون في رعب عظيم ينغّص عليهم حياتهم ويشنج أعصابهم، فلا يستطيعون عملا ولا يسيغون طعاما ولا شرابا، وسخر الكافرون من المؤمنين، وقد حدث أن أخبر بعض رجال الكنيسة في أوربة أن القيامة ستكون في سنة كذا فهلعت القلوب، واختلت الأعمال، وأهمل أمر العيال، ولم تهدأ النفوس إلا بعد أن ظهر كذب النبأ.
والخلاصة - إنّ هناك حكمة بالغة في إبهام أمر الساعة للعالم، والساعة الخاصة بالأفراد والأمم والأجيال، يجعلها من الغيب الذي استأثر الله تعالى به.
(لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) أي لا يكشف حجاب الخفاء عنها، ولا يظهرها في وقتها المحدود عند الله تعالى إلا هو إذ لا وساطة بينه وبين عباده في إظهارها، ولا الإعلام بميقاتها، وإنما وساطة الرسل في الإنذار بها.
(ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ثقل وقتها وعظم أمرها في السموات والأرض على أهلهما من الملائكة والإنس والجن، لأن الله أنبأهم بأهوالها ولم يشعرهم بميقاتها، فهم دائما يتوقعون أمرا عظيما لا يدرون متى يفجؤهم وقوعه.
وقال السدي: خفيت في السموات والأرض فلا يعلم قيامها ملك مقرّب، ولا نبي مرسل. وقال ابن عباس ليس شيء من الخلق إلا يصيبه من ضرر يوم القيامة.
وروي عن ابن جريج أن ثقلها يكون يوم مجيئها (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) إلى نحو ذلك مما وصفه الله تعالى من أمر قيامها.
(لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) أي لا تأتيكم إلا فجأة وعلى حين غفلة بلا إشعار ولا إنذار، وقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة « ولتقومنّ الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وهو يليط - يطلي حجارته بجصّ ونحوه ليمسك الماء - حوضه فلا يسقى فيه، ولتقومنّ الساعة وقد رفع أحدكم أكلته إلى فيه فلا يطعمها » والمراد من كل هذا أنها تبغت الناس وهم منهمكون في أمور معايشهم، فيجب على المؤمنين أن يخافوا ذلك اليوم، وأن يحملهم ذلك على مراقبة الله تعالى في أعمالهم بأن يلتزموا فيها الحق ويتحرّوا الخير، ويتقوا الشر والمعاصي ولا يجعلوا حظهم من أمر الساعة، الجدل فيها وكثرة القيل والقال في شأنها وفى تعيين ميقاتها.
(يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) أي يسألونك كأنك حفي مبالغ في سؤال ربك عنها.
وقد يكون المعنى: يسألونك عنها كأنك حفي بهم، وبينك وبينهم مودة وكأنك صديق لهم، ويؤيد هذا ما روي عن ابن عباس قال: لما سأل الناس النبي ﷺ عن الساعة - سألوه سؤال قوم كأن محمدا حفي بهم، فأوحى الله إليه - إنما علمها عنده استأثر به فلا يطلع عليه ملكا مقرّبا ولا رسولا.
وما روي عن قتادة قال: قالت قريش لمحمد ﷺ: إن بيننا وبينك قرابة، فأشر إلينا متى الساعة؟
فقال الله عز وجل يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها ».
(قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ) هذا تكرار للجواب إثر تكرير السؤال مبالغة في التأكيد، وإيئاس لهم من العلم بوقت مجيئها وتخطئة لمن يسألون عنه.
وعبر هنا بلفظ الجلالة (اللَّهِ) إشارة إلى أنه استأثر بعلم هذا لذاته، كما أشعر ما قبله بأنه من شئون ربوبيته، وكلاهما مستحيل على خلقه.
(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي لا يعلمون اختصاص علمها به تعالى ولا حكمة ذلك ولا أدب السؤال ولا نحو ذلك مما ينبغي أن يعلم في هذا الباب، وإنما يعلم ذلك القليلون، وهم المؤمنون بما جاء في كتاب الله من أخبارها وبما سمع من رسوله ﷺ كمن حضروا تمثل جبريل عليه السلام بصورة رجل وسؤاله النبي ﷺ عن الإيمان والإسلام والإحسان، ثم عن الساعة، وإجابة النبي ﷺ له عن سؤاله الأخير
بقوله. « ما المسئول عنها بأعلم من السائل » أي إنا سواء في جهل هذا الأمر فلا يعلم أحد منا متى تقوم الساعة.
قال الآلوسي: وإنما أخفى سبحانه أمر الساعة لاقتضاء الحكمة التشريعية ذلك، فإنه أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية، كما أن إخفاء الأجل الخاص للإنسان كذلك وظاهر الآيات أنه عليه السلام لم يعلم وقتها، نعم علم عليه الصلاة والسلام قربها على الإجمال وأخبر به، فقد أخرج الترمذي وصححه أنس مرفوعا « بعثت أنا والساعة كهاتين، وأشار بالسبابة والوسطى »
وفي الصحيحين عن ابن عمر مرفوعا أيضا « إنما أجلكم فيمن مضى قبلكم من الأمم من صلاة العصر إلى غروب الشمس » ا هـ.
عمر الدنيا
ألف السيوطي رسالة سماها: (الكشف، عن مجاوزة هذه الأمة الألف) أخرج فيها عدة أحاديث في أن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة، وأن مدة هذه الأمة تزيد على ألف ولا تبلغ الزيادة خمسمائة سنة، وسمى بعضهم الألف الثانية بالألف المخضرمة، لأن نصفها دنيا ونصفها الآخر أخرى: ولا شك أن ما جاء في هذا الباب كله مأخوذ من الإسرائيليات التي كان يبثها زنادقة اليهود والفرس في المسلمين حتى رووه مرفوعا، وقد اغتر بها من لا ينظر في نقد الروايات إلا من جهة أسانيدها، وقد هدمها الزمان وهدم كثيرا مثلها من الأوهام والخرافات التي أريد بها الكيد للإسلام.
والخلاصة - إن القول بتعيين مدة الدنيا من أولها إلى آخرها بسبعة آلاف لم يثبت في نص يعتمد عليه، وإن كانت قد رويت عنه آثار عن السلف أكثرها مأخوذ عن أهل الكتاب وفى أسانيدها مقال.
وعلماء طبقات الأرض (الجيلوجيا) في هذا العصر يجزمون بأن عمر الدنيا الماضي يعدّ بألوف ألوف السنين بناء على ما عرف بالحفر في طبقات الأرض، وبناء على ما وجد من آثار للبشر منذ مئات الألوف من السنين، وذلك ينقض ما جاء في سفر التكوين من التوراة، ولا ينقض من القرآن شيئا: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا » ولا من الأحاديث القطعية التي لا شبهة فيها للدسائس الإسرائيلية ولا للمكايد الفارسية المجوسية.
قال ابن حزم المتوفى سنة 456: أما نحن فلا نقطع على علم عدد معروف عندنا. ومن ادعى في ذلك سبعة آلاف سنة، أو أكثر أو أقل فقد قال مالم يأت قط عن رسول الله ﷺ فيه لفظة تصح بل صح عنه خلافه، بل نقطع على أن للدنيا أمدا لا يعلمه إلا الله تعالى. قال الله سبحانه « ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ »
وقال رسول الله ﷺ: « ما أنتم في الأمم قبلكم إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في الثور الأبيض » وهذه نسبة من تدبرها وعرف مقدار عدد أهل الإسلام ونسبة ما بأيديهم من معمور الأرض وأنه الأكبر، علم أن للدنيا أمدا لا يعلمه إلا الله ا هـ.
وعلى الجملة فبطلا الإسرائيليات وينبوع الخرافات في تحديد عمر الدنيا: هما كعب الأحبار ووهب بن منبّه، وقد جعلاه ستة آلاف وهو في التوراة سبعة آلاف غشا للمسلمين.
أشراط الساعة وأماراتها
الأشراط: واحدها شرط كأسباب وسبب وهي العلامات والأمارات الدالة على قربها، وقد ثبت في الكتاب والسنة أن للساعة أشراطا كما قال تعالى: « فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً، فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها، فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ » ومن أعظم أشراطها بعثة خاتم النبيين بآخر هداية الوحي الإلهي للناس أجمعين، فبعثته قد كمل بها الدين وبكماله تكمل الحياة البشرية الروحية، ويتلوها كمال الحياة المادية، وما بعد الكمال إلا الزوال.
وقد وردت أحاديث في أشراط الساعة يدل بعضها على أن الشهوات المادية تتنازع مع الهداية الروحية فيكون لها الغلب زمنا ثم تنتصر الهداية الروحية ثم يغلب الضلال والشر والفجور والكفر حتى تقوم الساعة على شرار الخلق.
وقد قسموا أشراطها ثلاثة أقسام:
(1) ما وقع بالفعل منذ قرون خلت كقتال اليهود، وفتح بيت المقدس والقسطنطينية.
(2) ما وقع بعضه وهو لا يزال في ازدياد كالفتن والفسوق وكثرة الزنا وكثرة الدجالين وكثرة النساء وتشبههن بالرجال والكفر والشرك حتى في بلاد العرب.
(3) ما سيقع بين يدي الساعة من العلامات الصغرى والكبرى.
المهدي المنتظر
أشهر الروايات أن اسمه محمد بن عبد الله، والشيعة يقولون إنه محمد بن الحسن العسكري، ويلقبونه بالحجة والقائم والمنتظر، ويقولون إنه دخل السرداب في دار أبيه في مدينة (سرّ من رأى) التي تسمى الآن (سامرّا) سنة 265 وله من العمر تسع سنين وأنه لا يزال في السرداب حيا، وزعمت الكيسانية أنه محمد بن الحنفية وأنه حي مقيم بجبل رضوى (جبل بالمدينة) بين أسدين يحفظانه وعنده عينان نضاختان تفيضان عسلا ولبنا ومعه أربعون من أصحابه.
والمشهور في نسبه أنه علوي فاطمي من ولد الحسن، وهناك رواية مصرحة بأنه من ولد العباس.
فقد روى الرافعي عن ابن عباس أن النبي ﷺ قال للعباس: « ألا أبشرك يا عم؟ إن من ذريتك الأصفياء، ومن عترتك الخلفاء، ومنك المهدي في آخر الزمان، به ينشر الله الهدى ويطفئ نيران الضلالة، إن الله فتح بنا هذا الأمر وبذريتك يختم ».
ومن حديث ابن عساكر عنه مرفوعا « اللهم انصر العباس وولد العباس (ثلاثا) يا عمّ أما علمت أن المهدي من ولدك موفّقا مرضيّا »
وفي معناهما أحاديث أخرى لأبي هريرة وأم سلمة وعلي.
وأكثر العلماء ينكرون هذه الأحاديث ويقولون إنها موضوعة لا نصيب لها من الصحة، ومن ثم لم يعتدّ بها الشيخان، ومن هؤلاء ابن خلدون فقد ذكر الأحاديث التي وردت في المهدي وضعفها وضعف أسانيدها وانتهت به خاتمة المطاف إلى أنه لم يصح فيه شيء يوثق به - إلى أن قال: إن لله سننا في الأمم والدول والعمران، مطردة في كل زمان ومكان، كما ثبت في مصحف القرآن وصحف الأكوان، ومنها أن الدول لا تقوم إلا بعصبية، وأن الأعاجم قد سلبوا العصبية من قريش والعترة النبوية، فإن صحت أخبار هذا المهدي فلا يظهر إلا بعد تجديد عصبية هاشمية علوية ولو سمعوا وعقلوا لسعوا وعملوا ولكان استعدادهم لظهور المهدي بالاهتداء بسنن الله رحمة لهم تجاه ما كانوا في أخباره من الفتن والنقم فيهم، وربما أغناهم عن بعض ما يروّجون من زعمامته إن لم يغنهم عنه كله.
هذا، والمسلمون لا يزالون يتكلون على ظهور المهدي ويزعم دهماؤهم أنه سينقض لهم سنن الله أو يبدّلها تبديلا وهم يتلون قوله تعالى: « فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا » فإذا كان من أشراط الساعة آيات وكان في زمانها خوارق عادات فهل يضرهم أن تأتيهم وهم على هدى من ربهم وإقامة لشرعهم في عزة وسلطان في أرضهم؟... وكان لكعب الأحبار جولة واسعة في تلفيق تلك الأخبار ا هـ.
وقد كانت هذه المسألة أكبر مثارات الفساد والفتن في الشعوب الإسلامية، إذ تصدّى كثير من محبى الملك والسلطان ومن أدعياء الولاية لدعوى المهدوية في الشرق والغرب وتأييد دعواهم بالقتال والحرب وبالبدع والإفساد في الأرض حتى خرج ألوف الألوف من هداة الدين ومرقوا من الإسلام.
وقد كان من حصافة الرأي أن يكون خروج المهدي باعثا لهم على الاستعداد لظهوره بتأليف عصبة قوية بزعامته تجدد الإسلام وتنشر العدل في الأنام، لكنهم لم يفعلوا بل تركوا ما يجب من حفظ سلطان الملة يجمع كلمة الأمة، وبإعداد ما استطاعوا من حول وقوة، واتكلوا على قرب ظهور المهدي، وأنه هو الذي سيردّ إليهم ملكهم بالكرامات وخوارق العادات لا بالمدافع والدبابات، والطيارات والقاذفات، والأساطيل والغواصات، وقد فاتهم أن الحرب كانت بين النبي ﷺ وبين المشركين سجالا، وكان المؤمنون ينفرون منه خفافا وثقالا، فهل يكون المهدي أهدى منه أعمالا، وأحسن منه حالا ومآلا.
[سورة الأعراف (7): آية 188]
قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)
تفسير المفردات
الغيب قسمان: حقيقي لا يعلمه إلا الله تعالى، وإضافى يعلمه بعض الخلق دون بعض، والخير: ما يرغب الناس فيه من المنافع المادية والمعنوية، كالمال والعلم، والسوء ما يرغبون عنه مما يسوءهم ويضرهم، والإنذار: تبليغ مقترن بتخويف من العقاب على الكفر والمعاصي، والتبشير. تبليغ مقترن بترغيب في الثواب مع الإيمان والطاعة.
المعنى الجملي
بعد أن أمر الله تعالى خاتم رسله أن يجيب السائلين عن الساعة بأنّ علمها عند الله تعالى وحده، قفّى على ذلك بأمر رسوله ﷺ أن يبين للناس أن كل الأمور بيده وحده وأن علم الغيب كله عنده.
وهذه الآية أسّ من أسس الدين وقواعد عقائده، إذ بينت حقيقة الرسالة، وفصلت بينها وبين الربوبية، وهدمت قواعد الشرك واجتثّت جذور الوثنية.
الإيضاح
(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ) أي قل يا أيها الرسول للناس فيما تبلّغه لهم من أمر دينهم: إني لا أملك لنفسى ولا لغيري جلب نفع ولا دفع ضر مستقلا بقدرتي على ذلك، وإنما أملكهما بقدرة الله، فإذا أقدرنى على جلب النفع جلبته بفعل أسبابه، وإذا أقدرنى على منع الضر منعته بتسخير الأسباب كذلك.
وقد كان المسلمون ولا سيما حديثو العهد بالإسلام يظنون أن منصب الرسالة يقتضى علم الساعة وغيرها من علم الغيب، وأن الرسول يقدر على ما لا يصل إليه كسب البشر من جلب النفع ومنع الضر عن نفسه وعمن يحبّ أو عمن يشاء، أو منع النفع وإحداث الضر بمن يكره أو بمن يشاء فأمره الله أن يبين للناس أن منصب الرسالة لا يقتضى ذلك، وأن وظيفة الرسول إنما هي التعليم والإرشاد لا الخلق والإيجاد وأنه لا يعلم من الغيب إلا ما يتعلق بذلك مما علّمه الله بوحيه، وأنه فيما عدا ذلك بشر كسائر الناس: « قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ ».
(وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) أي لا أملك لنفسى نفعا ولا ضرا ولا أعلم الغيب، ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير كالمال ونحوه، ولما مسنى السوء الذي يمكن الاحتياط لدفعه بعلم الغيب.
قال ابن كثير: أمره الله تعالى أن يفوّض الأمر إليه وأن يخبر عن نفسه أنه لا يعلم الغيب في المستقبل ولا اطّلاع له على شيء من ذلك إلا ما أطلعه الله عليه كما قال: « عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَدًا » وقوله: « وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ » وروى الضحاك عن ابن عباس (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) أي من المال، وفى رواية « لعلمت إذا اشتريت شيئا ما أربح فيه، فلا أبيع شيئا إلا ربحت فيه ولا يصيبنى الفقر » وقال ابن جرير: أي لو كنت أعلم الغيب لأعددت للسنة المجدبة من المخصبة ولوقت الغلاء من الرّخص. وقال عبد الله بن زيد بن أسلم (وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) قال: لاجتنبت ما يكون من الشر قبل أن يكون واتقيته ا هـ.
ثم علل نفى امتيازه عن البشر بملك النفع والضر من غير طرق الأسباب وسنن الله في الخلق ونفى امتيازه عنهم بعلم الغيب فقال:
(إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي إنه لا امتياز لي عن جميع البشر إلا بالتبليغ عن الله عز وجل بالإنذار والتبشير، وكل منهما يوجه إلى جميع أمة الدعوة، والآيات في ذلك كثيرة نحو: « لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا » وقوله: « إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ ».
والخلاصة - إن الرسل عليهم الصلاة والسلام عباد مكرمون لا يشاركون الله في صفاته ولا في أفعاله، ولا سلطان لهم على التأثير في علمه ولا في تدبيره، وإنما يمتازون باختصاص الله تعالى إياهم بوحيه واصطفائهم لتبليغ رسالته لعباده وجعلهم قدوة صالحة للناس في العمل بما جاءوا به عن الله من الصلاح والتقوى والأخلاق الفاضلة.
[سورة الأعراف (7): الآيات 189 الى 193]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتاهُما صالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193)
تفسير المفردات
من نفس واحدة: أي من جنس واحد، ليسكن إليها: أي ليأنس بها ويطمئن إليها، وتغشاها: أتاها كغشيها ويراد بالتغشى أداء وظيفة الزوجية، ومقتضى الفطرة وآداب الدين أن يكون ذلك في السر، حملت: أي علقت منه، والجمل (بِالْفَتْحِ) ما كان في بطن أو على شجرة (وبالكسر) ما كان على ظهر ونحوه، فمرت به: أي استمرت به إلى وقت ميلاده من غير إخراج ولا إزلاق، واستمرت في أعمالها وقضاء حاجتها من غير مشقة ولا استثقال، وأثقلت: أي حان وقت ثقل حملها وقرب وضعها، صالحا. أي نسلا سليما من فساد الخلقة كنقص بعض الأعضاء، فتعالى الله: أي ارتفع مجده وتعالى جده وتنزه عن شرك هؤلاء الجهلاء.
المعنى الجملي
بعد أن افتتح عزت قدرته السورة بالدعوة إلى التوحيد واتباع ما أنزل على لسان رسوله وتلاه بالتذكير بنشأة الإنسان الأولى في الخلق والتكوين والعداوة بينه وبين الشيطان، اختتم السورة بهذه المعاني، فذكر بالنشأة الأولى، ونهى عن الشرك واتباع وسوسة الشيطان، وأمر بالتوحيد واتباع ما جاء به القرآن.
الإيضاح
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها) أي هو الذي خلقكم من جنس واحد وجعل زوجه من جنسه فكانا زوجين ذكرا وأنثى كما قال في آية أخرى « يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى ».
وهكذا خلق من كل الأنواع ومن كل أجناس الأحياء زوجين اثنين كما قال عز من قائل « وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ».
والمشاهد أن كل خلية من الخلايا التي ينمو بها الجسم الحي تنطوى على نواتين ذكر وأنثى إذا اقترنتا ولدتا خلية أخرى وهلم جرا.
وفي التوراة إن حواء خلقت من ضلع من أضلاع آدم، وعليه حمل بعض العلماء الحديث « استوصوا بالنساء فإن المرأة خلقت من ضلع وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، قاستوصوا بالنساء خيرا » رواه الشيخان عن أبي هريرة مرفوعا.
ولكن المحققين ذهبوا في تفسيره إلى أن المراد أنها ذات اعوجاج وشذوذ تخالف به الرجل، ويؤيده مارواه ابن حبّان عن أبي هريرة « إن المرأة خلقت من ضلع أعوج » فهو على حد قوله تعالى: « خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ ».
وفي التعبير عن ميل الزوج الجنسي إلى زوجه هنا وفى الروم بالسكون، إشارة إلى أن المرء متى بلغ سن الحياة الزوجية يجد في نفسه اضطرابا لا يسكن إلا إذا اقترن بزوج من جنسه واتحد ذلك الاتحاد الذي لا تكمل حياتهما الجنسية المنتجة إلا به.
(فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ) أي فلما تغشى الذكر الأنثى علقت منه وكان الحمل أول عهده خفيفا لا تكاد تشعر به، وقد تستدل على وجوده بارتفاع الحيض فحسب ومن ثم استمرت في أعمالها وقضاء حاجتها من غير مشقة ولا استثقال.
(فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما: لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي فلما حان قرب وضعها وكبر الولد في بطنها، توجها: أي آدم وحواء إلى الله ربهما بدعواته أن يعطيهما ولدا صالحا أي تام الخلق يصلح للقيام بالأعمال النافعة التي يعملها البشر، وأقسما على ما وطّنا عليه أنفسهما من الشكر له إزاء هذه النعمة قولا وعملا واعتقادا.
(فَلَمَّا آتاهُما صالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) أي فلما أعطاهما ما طلبا وجاء الولد بشرا سويا لا نقص فيه ولا فساد في تركيب جسمه جعلا له شركاء فيما أعطاه. أي أظهرا ما كان راسخا في أنفسهما منه.
وقد نسب هذا الجعل إلى آدم وحواء والمراد أولادهما، قال الحسن البصري هم اليهود والنصارى رزقهم الله أولادا فهوّدوا ونصرّوا.
وقال الحافظ ابن كثير: أما نحن فعلى مذهب الحسن البصري في هذا وأنه ليس المراد من السياق آدم وحواء، وإنما المراد من ذلك ذريته، ولهذا قال « فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ »
ثم قال فذكره آدم وحواء أولا كالتوطئة لما بعدهما من الوالدين، وهو كالاستطراد من ذكر الشخص إلى الجنس ا هـ.
وقال صاحب الانتصاف: إن المراد جنس الذكر والأنثى لا يقصد فيه إلى معين، وكأن المعنى والله أعلم: خلقكم جنسا واحدا وجعل أزواجكم منكم أيضا لتسكنوا إليهن، فلما تغشى الجنس الذي هو الذكر، الجنس الذي هو الأنثى جرى من هذين الجنسين كيت وكيت، وإنما نسب هذه المقالة إلى الجنس وإن كان فيهم الموحدون، لأن المشركين منهم كقوله. « وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا » وقوله « قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ » وقوله إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ » ا هـ.
وقال صاحب الكشاف. إن المراد بالزوجين الجنس لا فردان معينان، والغرض بيان حال البشر فيما طرأ عليهم من نزعات الشرك الخفي والجلى في هذا الشأن وأمثاله والجنس يصدق ببعض أفراده ا هـ.
وبهذا تعلم أن ما روى عن بعض الصحابة والتابعين من أن الآية في آدم وحواء وما روي في حديث سمرة بن جندب مرفوعا قال « لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال سميه عبد الحارث فانه يعيش، فسمته عبد الحارث فعاش فكان ذلك من وحي الشيطان » ونحوه آثار كثيرة في هذا المعنى مفصلة ومطولة - فهو خرافة من دس الإسرائيليين نقلت عن مثل كعب الأحبار ووهب بن منبّه فلا يوثق بها، لأن فيها طعنا صريحا في آدم وحواء عليهما السلام ورميا لهما بالشرك، ومن ثم رفضها كثير من المفسرين، وقال الحافظ ابن كثير وهذه الآثار يظهر عليها والله أعلم أنها من آثار أهل الكتاب وقد صح الحديث عن رسول الله ﷺ أنه قال « إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم ».
وأخبار أهل الكتاب ثلاثة أقسام:
(1) فمنها ما علمنا صحته بما دل عليه الدليل من كتاب الله وسنة رسوله.
(2) ومنها ما علمنا كذبه بما دل الدليل على خلافه من الكتاب والسنة أيضا.
(3) ومنها ما هو مسكوت عنه فهو المأذون في روايته بقوله عليه السلام « حدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج » وهو لا يصدّق ولا يكذّب لقوله: « فلا تصدّقوهم ولا تكذبوهم ».
ثم بين سبحانه فساد رأيهم وسخافة عقولهم لهذا الشرك فقال:
(أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ) أي أيشركون به سبحانه وهو الخالق لهم ولأولادهم ولكل مخلوق ما لا يخلق شيئا وإن كان حقيرا كما قال: إنّ الّذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له بل هم مخلوقون أيضا ولا يليق بذي العقل السليم أن يجعل المخلوق العاجز شريكا للخالق القادر.
والآية وما بعدها حكاية لشرك عبّاد الأصنام عامة، وينتظم فيهم مشركو مكة وأمثالهم ممن نزل القرآن في عهدهم، وتوبيخ لهم بتفصيل أحوال أولئك الشركاء التي تنافى ما اعتقدوه.
(وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) أي ولا يستطيعون لعابديهم معونة إذا حزبهم أمر مهمّ وخطب ملمّ كما لا يستطيعون لأنفسهم نصرا على من يعتدى عليهم بإهانة لهم أو أخذ شيء مما عندهم من طيب أو حلى كما قال تعالى: « وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ».
والخلاصة - إنهم يحتاجون إليكم في تكريمهم وفى النضال عنهم وأنتم لا تحتاجون إليهم.
(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ) أي وإن تدعوهم إلى أن يهدوكم إلى ما تحصلون به رغباتكم أو تنجون به من المكاره التي تحيق بكم، لا يتبعوكم فلا يستجيبوا لكم ولا ينفعوكم.
ثم أكد عدم نفعهم فقال:
(سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) أي مستولديكم دعاؤكم إياهم وبقاؤكم على صمتكم، فإنه لا يتغير حالكم في كلتا الحالين، إذ هم لا يفهمون دعاءكم ولا يسمعون أصواتكم ولا يعقلون ما يقال لهم.
والخلاصة - إنه لا ينبغي أن يعبد من كانت هذه صفته، وإنما الرب المعبود هو النافع من يعبده، الضار من يعصيه، الناصر وليّه، الخاذل عدوّه، الهادي إلى الرشاد من أطاعه، السامع دعاء من دعاه.
ولا شك أن هذه الحجة قائمة على من يقصدون قبور الأولياء والصلحاء ويعظمونها ويطلبون منها قضاء الحاجات، لأن هذه الأوصاف التي سيقت في معرض التوبيخ والإنكار تنطبق على حالهم أشد الانطباق، فهم لا ينفعون ولا يضرون و(سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) وقد روى البخاري عن ابن عباس في أصنام قوم نوح التي انتقلت إلى العرب، أنها لم تنصب إلا للتذكير بأناس من الأولياء والصالحين وقد كانت اللات لرجل يلتّ عليها السويق ويطعم الناس.
والخلاصة - إن الأصنام والتماثيل والقبور التي تعظّم تعظيما دينيا، عمل لم يأذن به الله، وكلها سواء في كونها وضعت للتذكير بأناس عرفوا بالصلاح وكانوا هم المقصودين بالدعاء تخيلا من عابديها بأن لها تأثيرا في إرادة الله أو التصرف الغيبى في ملك الله، وذلك من أفحش الشرك وأقبحه ولا فرق بين إشراك الصنم والوثن وإشراك الولي أو النبي أو الملك.
[سورة الأعراف (7): الآيات 194 الى 198]
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (198)
المعنى الجملي
هذه الآيات الكريمة من تتمة ما قبلها مؤكدة له ومقررة لما تتضمنه وهو إثبات التوحيد ونفى الشرك، وهو رأس الإسلام وركنه المتين، فلا غرو أن يتكرر الكلام فيه في القرآن، نفيا وإثباتا ليتأكد في النفوس، ويثبت في القلوب، وبه تخلع جذور الوثنية، ويحل محلها نور الوحدانية.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) الدعاء هو النداء لدفع الضر وجلب النفع الذي يوجه إلى من يعتقد الداعي أن له سلطانا يمكنه أن يجيبه إلى ما طلبه إما بذاته وإما بحمله الربّ الخالق على ذلك: أي إن الذين تدعونهم من دون الله هم عباد أمثالكم في كونهم مخلوقين لله خاضعين لإرادته وقدرته، وإذا كانوا أمثالكم كان من المستحيل عقلا أن تطلبوا منهم مالا يستطيعون نيله بأنفسكم ولا بمساعدة أمثالكم وإنما يدعى الرب الخالق لما وراء الأسباب المشتركة بين الخلق، والذي تخضع لإرادته الأسباب وهو لا يخضع لها، ولا لإرادة أحد يحمله على ما لا يشاؤه منها.
(فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي إن كنتم صادقين في زعمكم أنهم قادرون على ما تعجزون عنه بقواكم البشرية من نفع أو ضر فادعوهم فليستجيبوا لكم إما بأنفسهم وإما بحملهم الرب تبارك وتعالى على إعطائكم ما تطلبون.
ثم ارتقى سبحانه في الرد عليهم وأثبت أنهم ليسوا أمثالهم، بل أحط منهم منزلة ودونهم رتبة، ووبخهم وأنبهم على عبادة هذه الأحجار والأصنام فقال:
(أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها؟) أي إن هؤلاء فقدوا وسائل الكسب التي يناط بها النفع والضر في هذه الحياة، فليس لهم أرجل يسعون بها إلى دفع ضر أو جلب نفع، وليس لهم أيد يبطشون بها فيما ترجون منهم من خير أو تخافون من شر، وليس لهم أعين يبصرون بها حالكم ولا آذان يسمعون بها أقوالكم ويعرفون بها مطالبكم، فهم ليسوا مثلكم، بل دونكم في الصفات والقوى التي أودعها الله في الخلق، فكيف ترفعونهم عن مماثلتكم وهم دونكم بالاختبار والمشاهدة.
وإنكم تستكبرون عن قبول الهدى والرشاد من الرسول ويقول بعضكم لبعض: « ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ. وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخاسِرُونَ ».
فما بالكم تأبون قبول الحق والخير من مثلكم وقد فضله الله عليكم بالعلم والهدى، ثم ترفعون مادونه ودونكم إلى مقام الألوهية مع انحطاطه عن درجة المثلية.
ثم أمر رسوله أن يبين لهم حقارة شأنهم فقال:
(قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء الذين تحتقرون نعم الله عليهم: نادوا شركاءكم الذين اتخذتموهم أولياء، ثم تعاونوا على كيدى جميعا وأوقعوا الضر بى سريعا فلا تنظرون أي لا تؤخرونى ساعة من نهار.
والحكمة في مطالبتهم بهذا، أن العقائد الموروثة يتضاءل دونها كل برهان ولا يجدى معها دليل، ومن ثم طالبهم بأمر عملي ينزع هذا الوهم من أعماق القلوب، وهو أن ينادوا هؤلاء الشركاء ويستنجدوا بهم لصدّ دعوة الداعين إلى الكفر بها وإثبات العجز لها وإنكار مالها من سلطان غيبى وتدبير كامن، فإن كان لها حقا سلطان في أنفسها أو من عند الله فهذا إبّان ظهوره، وإلا فمتى يظهر ليساعد أبطال عبادتها وينصر عابديها ومعظّمى شأنها، ومن الجلى أن القوم كانوا ينكرون البعث فكل ما يرجونه منها من خير أو يخافونه منها من شر فهو في هذه الحياة.
ثم زاد الأمر بيانا وبالغ في حقارة هذه المعبودات وعابديها على ما كان به من ضعف وقلة ناصر وهو بمكة حين نزول هذه السورة فقال:
(إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) أي إن متولى أمري وناصرى هو الله الذي نزّل علي الكتاب المؤيد لوحدانيته ووجوب عبادته ودعائه عند الشدائد والملمات، والناعي على المشركين عبادة غيره من وثن أو صنم، وهو يتولى نصر الصالحين من عباده، وهم من صلحت أنفسهم بصحيح العقائد، وسلمت من الأوهام والخرافات، والأعمال التي تصلح بها شئون الأفراد والجماعات، فينصرهم على ذوي الخزعبلات والأوهام، وفاسدى العقائد والأحلام تصديقا لقوله: « فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً، وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ ».
ثم أكد ما سلف بقوله:
(وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) أي وإن من تدعونهم لنصركم وجلب النفع لكم ودفع الضر عنكم عاجزون، فلاهم بالمستطيعين نصركم ولا نصر أنفسهم على من يحقّر شأنهم أو يسلبهم شيئا مما وضع عليهم من طيب أو حلى، فقد كسّر إبراهيم صلوات الله عليه الأصنام فجعلهم جذاذا فما استطاعوا أن يدفعوه عن أنفسهم ولا أن ينتقموا منه لها.
وقد روى عن معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما - وكانا شابين من الأنصار قد أسلما لما قدم النبي ﷺ المدينة - أنهما كانا يعدوان في الليل على أصنام المشركين يكسرانها ويتلفانها ويتخذانها حطبا للأرامل، ليعتبر قومهما بذلك ويرتئوا لأنفسهم رأيا آخر.
وكان لعمرو بن الجموح - وكان سيد قومه - صنم يعبده فكانا يجيئان في الليل فينكسانه على رأسه ويلطخانه بالعذرة فيجىء عمرو فيرى ما صنع به فيغسله ويطيبه ويضع عنده سيفا ويقول له انتصر، ثم يعودان لمثل ذلك ويعود إلى صنيغه أيضا، حتى أخذاه مرة فقرناه مع كلب ميت ودلياه في حبل في بئر هناك، فلما جاء ورأى ذلك علم أن ما كان عليه من الدين باطل وأنشد:
تالله لو كنت إلها مستدن لم تك والكلب جميعا في قرن
ثم أسلم وحسن إسلامه، وقتل يوم أحد شهيدا رضي الله عنه.
وبعد أن نفى عنهم القدرة على النصرة قفى على ذلك بنفي قدرتهم على الإرشاد إلى الهدى والرشاد فقال:
(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا) أي وإن تدعوهم إلى أن يهدوكم إلى ما تحصّلون به مقاصدكم وتنتصرون به: من أسباب خفية أو ظاهرة - لا يسمعوا دعاءكم فضلا عن مدّ يد المعونة والمساعدة.
والآية كقوله: « إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ ».
(وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) أي وتراهم أيها المخاطب ينظرون إليك بما وضع لهم من أعين صناعية وحدق زجاجية أو جوهرية موجهة إلى من يدخل عليها كأنها تنظر إليه وهم لا يبصرون بها لأن حاسة الإبصار لا تحصل بالصناعة، وإنما هي من خواصّ الحياة التي استأثر الله بها.
وهم إذ فقدوا السمع لا يسمعون نداء ولا دعاء ممن يعبدونهم ولا من غيرهم وإذ فقدوا البصر لا يبصرون حاله وحال خصمه، فكيف يرجى منهم نصر وشد أزر أو أي معونة أخرى، أو كيف يخشى منهم إيصال ضر وأذى لمن يحتقرهم؟.
[سورة الأعراف (7): آية 199]
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنه هو الذي يتولى أمر رسوله وينصره، وأن الأصنام وعابديها لا يقدرون على إيذائه وإيصال الضر إليه - بيّن في هذه الآية النهج القويم والصراط المستقيم في معاملة الناس.
وهذه الآية تشمل أصول الفضائل فهي من أسس التشريع التي تلى في المرتبة أصول العقيدة المبنية على التوحيد الذي تقرر فيما سلف بأبلغ وجه وأتم برهان.
الإيضاح
(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) أمر الله نبيه في هذه الآية بثلاثة أشياء هي أسس عامة للشريعة في الآداب النفسية والأحكام العملية:
(1) العفو: وهو السهل الذي لا كلفة فيه: أي خذ ما عفا لك من أفعال الناس وأخلاقهم وما أتى منهم وتسهّل من غير كلفة، ولا تطلب منهم ما يشق عليهم حتى ينفروا، وهذا كما جاء في الحديث « يسّروا ولا تعسّروا »
وقال الشاعر:
خذي العفو مني تستديمي مودتي ولا تنطقي في سورتي حين أغضب
وقيل إن المعنى خذ العفو وما تسهّل من صدقاتهم.
والخلاصة - إن من آداب الدين وقواعده اليسر وتجنب الحرج وما يشق على الناس، وقد صح أن النبي ﷺ ما خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما.
(2) الأمر بالمعروف: وهو ما تعرفه النفس من الخير وتأنس به وتطمئن إليه، ولا شك أن هذا مبنى على اعتبار عادات الأمة الحسنة وما تتواطأ عليه من الأمور النافعة في مصالحها.
وإجمال القول فيه - إنه اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه والإحسان إلى الناس.
وقد ذكر المعروف في السور المدينة في الأحكام الشرعية العملية كوصف الأمة الإسلامية وحكومتها كقوله: « الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ » وقوله: « وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ».
وعند ذكر الحقوق الزوجية كقوله « وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ » وفى أحكام الطلاق كقوله: « فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ » وقوله « فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ » ومن ذلك ترى أن هذا اللفظ (المعروف) لم يذكر إلا في الأحكام الهامة، وأن المراد به ما هو معهود بين الناس في المعاملات والعادات، ولا شك أنه يختلف باختلاف الشعوب والبلاد والأوقات، ومن ثم قال بعض الأئمة: المعروف ما يستحسن في العقل فعله، ولا تنكره العقول الصحيحة، ويكفى المسلمين المحافظة على النصوص الثابتة، إذ لا يمكن المؤمن أن يستنكر ما جاء عن الله ورسوله، وليكن للجماعة الإسلامية بعده رأى فيما يعرفون وينكرون، ويستحسنون ويستهجنون، ويكون عمدتهم في ذلك جمهور العقلاء وأهل الفضل والأدب في كل عصر.
(3) الإعراض عن الجاهلين، وهم السفهاء بترك معاشرتهم وعدم مماراتهم، ولا علاج للوقاية من أذاهم إلا الإعراض عنهم.
وقد روى عن جعفر الصادق رضي الله عنه أنه قال: ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها، وروى الطبري وغيره عن جابر « أنه لما نزلت هذه الآية سأل النبي ﷺ جبريل عنها فقال: لا أعلم حتى أسأل ثم رجع فقال: إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطى من حرمك، وتعفو عمن ظلمك »
وأخذ بعض الشعراء هذا المعنى فقال:
خذ العفو وأمر بعرف كما أمرت وأعرض عن الجاهلين
ولن في الكلام لكل الأنام فمستحسن من ذوي الجاه لين
وقال بعض العلماء: هذه الآية قد تضمنت قواعد الشريعة، فلم يبق فيها حسنة إلا وعتها، ولا فضيلة إلا شرحتها فقوله: خذ العفو إيماء إلى جانب اللين ونفى الحرج في الأخذ والإعطاء وأمور التكليف، وقوله: وأمر بالعرف تناول جميع المأمورات والمنهيات، وأنهما ما عرف في الشريعة حكمه، واتفقت القلوب على علمه، وقوله: وأعرض عن الجاهلين تناول جانب الصفح بالصبر الذي يتأتى للعبد به كل مراد في نفسه وغيره ا هـ.
[سورة الأعراف (7): الآيات 200 الى 202]
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202)
تفسير المفردات
النزع كالنخس والنغز والوكز: إصابة الجسد برأس محدّد كالإبرة والمهماز والرمح، والمراد به هنا نزع الشيطان بإثارته داعية الشر والفساد في النفس بغضب أو شهوة بحيث تلجئ صاحبها إلى العمل بتأثيرها كما تنخس الدابة بالمهماز لتسرع، والاستعاذة بالله: الالتجاء إليه، ليقيك من شر هذا النزع، والطوف والطواف بالشيء: الاستدارة به أو حوله، وطيف الخيال: ما يرى في النوم من مثال الشخص، والمس: يراد به هنا ما ينال الإنسان من شر وأذى، فقد ذكر في التنزيل مس الضر والضراء والبأساء والسوء والعذاب. والمد والإمداد: الزيادة في الشيء من جنسه، واستعمل في القرآن في الخلق والتكوين كقوله: « وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ » وقوله: « أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ » وفى مدّ الناس فيما يذم ويضر كقوله: « قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا » والإقصار: التقصير، ويقال أقصر عن الأمر: تركه وكف عنه وهو قادر عليه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه في الآيات السابقة أمثل الطرق في معاملة الناس بعضهم بعضا مما لو عملوا بهديه لم يجد الفساد إلى نفوسهم سبيلا - قفى على ذلك بالوصية التي تتضمنها هذه الآيات الثلاث، وهي اتقاء إفساد الشياطين: أي شياطين الجن المستترة - فالآية السالفة أمرت بالإعراض عن الجاهلين وهم السفهاء اتقاء لشرهم - وهذه الآيات أمرت بالاستعاذة بالله من الشياطين اتقاء لشرهم.
الإيضاح
(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي وإن يثر فيك الشيطان داعية الشر والفساد بسبب غضب أو شهوة، فيجعلك تتأثر وتتحرك للعمل بها كما تتأثر الدابة إذا نخست بالمهماز فتسرع - فالجأ إلى الله وتوجه إليه بقلبك ليعيذك من شر هذا النزغ، حتى لا يحملك على ما يزعجك من الشر وعبّر عن ذلك بلسانك فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فإنه سميع لما تقول عليم بما تحدثك به نفسك ويجيش به صدرك، فهو يصرف عنك تأثير نزغه بتزيين الشر، وقد دلت التجربة على أن الالتجاء إلى الله تعالى وذكره بالقلب واللسان يصرف عن النفس وسوسة الشيطان كما قال تعالى: « فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ، إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ » والخطاب في الآية وما ماثلها من الآيات موجه إلى كل مكلف يبلغه، وأولهم الرسول ﷺ، وقيل إنه موجه إلى الرسول والمراد أمته.
وقد روى مسلم عن عائشة وابن مسعود أن النبي ﷺ قال: « ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن - قالوا وإياك يا رسول الله؟ قال: وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم منه ».
ثم بين سبحانه طريق سلامة من يستعذ من الشيطان من الوقوع في المعصية فقال:
(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) أي إن خيار المؤمنين وهم الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون - إذا ألمّ بهم طائف من الشيطان ليحملهم بوسوسته على المعصية أو إيقاع البغضاء بينهم، تذكروا أن هذا من إغواء الشيطان عدوهم الذي أمر الله بالاستعاذة منه والالتجاء إليه في الحفظ من غوايته، فإذا هم أولو بصيرة يربئون بأنفسهم أن تطيعه، فهو إنما تأخذ وسوسته الغافلين عن ربهم الذين لا يراقبونه في شئونهم وأعمالهم، ولا شيء أقوى على طرد وساوس الشيطان من ذكر الله ومراقبته في السر والعلن، من قبل أنه يقوّى في النفس حب الحق وداعى الخير، ويضعف فيها الميل إلى الشرور والآثام، فما مثل المؤمن المّتقى الذي لا يتمكن الشيطان من إغوائه وإن تمكن من مسه، إلا مثل الصحيح الجسم القوى المزاج النظيف البدن والثوب والمكان لا تجد النسم (الميكروبات) طريقا لإفساد مزاجه وإصابته بالأمراض، فإن مسه شيء منها بدخوله في جمسه فتكت بها نسم الصحة فحالت دون فتكها به، وهذا ما يسميه الأطباء (المناعة).
فقوي الروح بالإيمان والتقوى غير قابل لتأثير الشيطان في نفسه، لكن الشيطان دائما يتحين الفرص وعروض بعض الأهواء النفسية من شهوة أو غضب أو داعية حسد أو انتقام، حتى إذا وجد الفرصة سانحة افترصها ولا بس النفس وقوي فيها داعي الشر كالحشرات القذرة التي تعرض للنظيف إذا أهملها بالغفلة عنها فعلت فعلها، وإذا تداركها نجا من شرها وضرها، وما سر هذا إلا المناعة النفسية أو الروحية.
وإن الإنسان ليشعر بتنازع دواعى الخير والشر في نفسه، وإن لداعية الخير والحق ملكا يقوّيها، ولداعية الشر والباطل شيطانا يقويها، وقد بين النبي ﷺ ذلك بقوله « إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله على ذلك، ومن وجد الأخرى فليتعوذ من الشيطان ثم قرأ: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ ».
(وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) أي إن إخوان الشياطين وهم الجاهلون الذين لا يتقون الله - يتمكن الشياطين من إغوائهم فيمدونهم في غيهم وإفسادهم، لأنهم لا يذكرون الله إذا شعروا بالنزوع إلى الشر ولا يستعيذون به من تزع الشيطان ومسه، إما لأنهم لا يؤمنون بالله وإما لأنهم لا يؤمنون بأن للإنسان شيطانا من الجن يوسوس إليه ويغريه بالشر - ثم لا يقصرون ولا يكفون عن إغوائهم وإفسادهم، فلذلك يصرون على الشر والفساد لفقد الوازع النفسي والواعظ القلبي.
والخلاصة - إن المؤمنين إذا مسهم طائف من الشيطان يحملهم على المعاصي تذكروا فأبصروا وحذروا وسلموا، وإن ذلوا تابوا وأنابوا، وإن إخوان الشياطين تتمكن الشياطين من إغوائهم فيمدونهم في غيهم، ولا يكفون عن ذلك، ومن ثم تراهم يستمرون في شرورهم وآثامهم لفقد الوازع النفسي.
[سورة الأعراف (7): آية 203]
وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه في الآية السالفة أن شياطين الجن والإنس لا يقصرون في الإغواء والإضلال - قفّى على ذلك بذكر نوع خاص من هذا الإغواء وهو طلبهم آيات معينة ومعجزات مخصوصة تعنتا كما قال تعالى حكاية عنهم: « وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا » أي إذا لم تأتهم بما طلبوا قالوا هلا افتعلتها وأتيت بها من عند نفسك، لأنهم كانوا يقولون: « ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً ».
الإيضاح
(وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها) قال الفرّاء تقول العرب: اجتبيت الكلام واختلقته وارتجلته إذا افتعلته من قبل نفسك: أي وإذا لم يأتهم الرسول بآية قرآنية بأن تراخى نزول الوحي زمنا ما - قالوا لو لا افتعلت نظمها وتأليفها واخترعتها من تلقاء نفسك، وقد يكون المعنى: وإذا لم تأتهم بآية مما اقترحوا عليك قالوا: هلّا حباك الله بها بأن مكنك منها فاجتبيتها وأبرزتها لنا، إن كنت صادقا في أن الله يقبل دعاءك ويجيب التماسك.
(قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) أي إنه ليس لي أن أقترح على ربى أمرا من الأمور، وإنما أنتظر الوحي، فكل شيء أكرمنى به قلته وإلا وجب علي السكوت وترك الاقتراح.
وفي معنى الآية قوله تعالى: « وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ ».
وقد يكون المعنى ما أنا بقادر على إيجاد الآيات الكونية ولا بمفتات على الله في طلبها، وإنما أنا متبع لما يوحى إلي فضلا من ربى علي إذ جعلنى مبلّغا عنه.
وقد وصف الله تعالى القرآن بثلاثة أوصاف:
(1) (هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) بصائر أي حجج بينة وبراهين نيرة للعقول في الدلالة على التوحيد والنبوة والمعاد: أي إن هذا القرآن الذي أوحاه الله إلي بصائر وحجج من ربكم، من يتأملها حق التأمل يكن بصير العقل بما تدل عليه من الحق، فهي أدل عليه مما تطلبون من الآيات الكونية.
ونحو الآية قوله: « قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها ».
(2) (وَهُدًى) أي وهو هدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم.
(3) (وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي ورحمة في الدنيا والآخرة للذين يؤمنون به كما قال تعالى: « وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ».
وهذه الأوصاف له بالنسبة إلى معتنقيه، ذاك أن منهم من بلغ في معارف التوحيد والنبوة والمعاد مرتبة أصبح بها كالمشاهد لها وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والقرآن لهؤلاء بصائر، ومنهم من دون ذلك والقرآن لهم هدى، وهو في حق المؤمنين عامة رحمة، لا جرم قال « لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ».
[سورة الأعراف (7): الآيات 204 الى 206]
وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
تفسير المفردات
الاستماع: أخص من السمع، لأنه إنما يكون بقصد ونية أو توجيه الحاسة إلى الكلام لإدراكه، أما السمع: فيحصل ولو بغير قصد، والإنصات: السكوت للاستماع حتى لا يكون شاغل عن الإحاطة بكل ما يقرأ، والتضرع: إظهار الضراعة، وهي الذلة والضعف والخضوع، والخيفة: حالة الخوف والخشية، ودون الجهر: أي ذكرا دون الجهر برفع الصوت وفوق التخافت والسر: بأن يذكر ذكرا وسطا، والغدو: جمع غدوة، وهي ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس، والآصال: جمع أصيل، وهو العشى من وقت العصر إلى غروب الشمس، ويسبحونه: ينزهونه عما لا يليق به ويسجدون أي يصلون.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه مزايا القرآن الكريم وأنه آيات بينات للمؤمنين وهدى ورحمة لهم - قفّى على ذلك بذكر الدلائل على الطريق الموصلة لنيل الرحمة به، والفوز بالمنافع الجليلة التي ينطوى عليها وهي الإنصات له إذا قرئ.
الإيضاح
(وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي وإذا قرئ القرآن عليكم أيها المؤمنون فأصغوا له أسماعكم، لتتفهموا آياته وتعتبروا بمواعظه، وأنصتوا له لتعقلوه وتتدبروه ولا تلغوا فيه فلا تعقلوه، ليرحمكم ربّكم باتعاظكم بمواعظه، واعتباركم بعبره، واستعمالكم ما بينه لكم من فرائضه في آيه فمن استمع وأنصت كان جديرا أن يفهم ويتدبر، ومن كان كذلك كان حريّا أن يرحم.
والآية تدل على وجوب الاستماع والإنصات للقرآن إذا قرئ سواء أكان ذلك في الصلاة أو في خارجها وهو المروي عن الحسن البصري، لكن الجمهور خصوه بقراءة الرسول ﷺ في عهده وبقراءة الصلاة والخطبة من بعده، ذلك أن إيجاب الاستماع والإنصات في غير الصلاة والخطبة فيه حرج عظيم، إذ يقتضى أن يترك له المشتغل بالعلم علمه والمشتغل بالحكم حكمه وكل ذي عمل عمله.
أما قراءة النبي ﷺ فكان بعضها تبليغا للتنزيل وبعضها وعظا وإرشادا، فلا يسع أحدا من المسلمين يسمعه يقرأ أن يعرض عن الاستماع أو يتكلم بما يشغله أو يشغل غيره عنه، وهكذا شأن المصلي مع إمامه وخطيبه، إذ هذا هو المقصود من الصلاة والواجب فيها.
وما يفعله جماهير الناس في المحافل التي يقرأ فيها القرآن كالمآتم وغيرها من ترك الاستماع والاشتغال بالأحاديث المختلفة - فمكروه كراهة شديدة ولا سيما لمن كانوا على مقربة من التالي، ولا يجوز لقارئ أن يقرأ على قوم لا يستمعون له، وإن كان أكثرهم يستمع وينصت فشذ بعضهم بمناجاة صاحبه بالجنب بلا تهويش على القارئ ولا على المستمعين كانت المخالفة سهلة لا تقتضي ترك القراءة ولا تنافي الاستماع.
والواجب على كل مؤمن بالقرآن أن يحرص على استماعه عند قراءته كما يحرص على تلاوته وأن يتأدب في مجلس التلاوة.
وجملة الأمر في ذلك ألا يصدر من السامع ما يعدّ في اعتقاده أو في عرف الناس أنه مناف للأدب: ولا بأس بقراءة القرآن حال القيام والقعود والاضطجاع والمشي والركوب، ولا تكره مع حدث أصغر ولا مع نحاسة ثوب أو بدن، وإن كان يستحب الوضوء حين القراءة حال الحدث ولا سيما للقارئ في المصحف.
وتستحب القراءة بالترتيل والنغم الدالة على التأثير والخشوع من غير تكلف ولا تصنع، فقد روى أبو هريرة مرفوعا « ما أذن (استمع) الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن » رواه الشيخان.
(وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) أي واذكر ربك الذي خلقك وربّاك بنعمه في نفسك بأن تستحضر معنى أسمائه وصفاته وآلائه وفضله عليك وحاجتك إليه، متضرعا له خائفا منه راجيا نعمه، واذكره بلسانك مع ذكره في نفسك ذكرا دون الجهر برفع الصوت من القول وفوق التخافت والسر، بل ذكرا قصدا وسطا كما قال تعالى: « وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا ».
وذكر اللسان وحده دون ذكر القلب وملاحظة معاني القول لا يجدى نفعا، فكم رأينا من ذوي الأوراد والأدعية الذين يذكرون الله كثيرا بالمئين والآلاف ولا يفيدهم ذلك معرفة بالله ولا مراقبة له، لأن ذلك أصبح عادة لهم تصحبها عادات أخرى منكرة، ومن ثم كان الواجب الجمع بين ذكر القلب وذكر اللسان.
وأجمل الأوقات لهذا الذكر وقتان أول النهار وآخره لأنهما طرفا النهار، ومن افتتح نهاره بذكر الله واختتمه به كان جديرا بأن يراقب الله ولا ينساه فيما بينهما، ويكون هذا الذكر في صلاتى الفجر والعصر اللتين تحضرهما ملائكة الليل وملائكة النهار ويشهدان عند الله بما وجدا عليه العبد كما ورد في صحيح الآثار.
(وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) عن ذكر الله بل أشعر قلبك الخضوع له والخوف من قدرته عليك إذا أنت غفلت عن ذلك، ومن غفل عن ذكره تعالى مرض قلبه، وضعف إيمانه، واستحوذ عليه الشيطان فأنساه نفسه.
ثم ختم سبحانه هذه الآيات بما يؤكد به الأمر والنهي السابقين فقال:
(إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) أي إن ملائكة الرحمن المقرّبين عنده لا يستكبرون عن عبادته كما يستكبر عنها هؤلاء المشركون، وينزهونه عن كل ما لا يليق بعظمته وكبريائه وجلاله، وعن اتخاذ الندّ والشريك كما يفعل الذين اتخذوا من دون الله شفعاء وأندادا يحبونهم كحبه، وله وحده يصلون ويسجدون، فلا يشركون معه أحدا، فالواجب على كل مؤمن أن يجعل خواص الملائكة والمقربين إليه تعالى من حملة عرشه والحافّين به أسوة حسنة له في صلاته وسجوده وسائر عبادته.
وقد شرع الله لنا السجود عند تلاوة هذه الآية أو سماعها، إرغاما لمن أبي ذلك من المشركين، واقتداء بالملائكة المقربين، ومثلها آيات أخرى ستأتى في مواضعها، وقد كان ﷺ يقول في سجوده لذلك: « اللهم لك سجد سوادي، وبك آمن فؤادي، اللهم ارزقني علما ينفعني، وعملا يرفعني ».
وفي الآية إرشاد إلى أن الأفضل إخفاء الذكر، وقد روى أحمد قوله ﷺ: « خير الذكر الخفي »
فأين هذا مما يفعله جهلة زماننا الذين يجأرون في ذكرهم بأصوات منكرة يستقبحها الدين والعقل والعرف، ولا علاج لمثل هذا إلا حملة نكراء من رجال الدين عليهم حتى يتفهموا ما طلبه الدين وما رمى إليه من التضرع إليه تعالى خفية ودون الجهر بالقول. وصل الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
خلاصة ما اشتملت عليه السورة من الأغراض والمقاصد
يمكن إجمال القول في الأغراض التي اشتملت عليها هذه السورة الكريمة فيما يلي:
(1) التوحيد: وهو يتضمن دعاء الله وحده وإخلاص الدين له وتخصيصه بالعبادة، فإنه شارع الدين فيجب اتباع ما أنزله ولا يجوز اتباع الأولياء من دونه في العقائد والعبادات ولا التحليل والتحريم الديني كما قال « اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ».
وإن القول عليه بغير علم بتشريع أو غيره لا يجوز لأحد كما قال: « أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟ ».
وإن جميع ما يشرعه لعباده حسن وما سواه قبيح: « قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ » ونحن مأمورون بذكره تضرعا وخفية سرا وجهرا.
(2) الوحي والكتب، ويتضمن ذلك إنزال القرآن على النبي ﷺ للإنذار به، والأمر باستماعه والإنصات له رجاء الرحمة بسماعه والاهتداء به وأمر المؤمنين باتباع المنزل عليهم من ربهم.
(3) الرسالة والرسل، ويشمل ذلك بعثة الرسل إلى جميع بنى آدم كما قال: « يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي » وسؤالهم يوم القيامة عن التبليغ وسؤال الأمم عن الإجابة - ومجىء الرسل بالبينات من الله تعالى تأييدا منه لهم - وعقاب الأمم على تكذيب الرسل كما ذكر في قصص نوح وهود وصالح وشعيب.
(4) عالم الآخرة: ويتضمن ذلك البعث والإعادة في الآخرة كما قال: « كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ » ووزن الأعمال يوم القيامة وترتيب الجزاء على ثقل الموازين وخفتها وأن الجزاء بالعمل، وإقامة أهل الجنة الحجة على أهل النار، والحجاب بين أهل الجنة وأهل النار ونداء أصحاب النار أصحاب الجنة، واعتراف أهل النار في الآخرة بصدق الرسل، وصفة أهل النار، وقيام الساعة وكونها تأتى بغتة.
(5) أصول التشريع: ويتضمن هذا وجوب اتباع الدين على أنه قربة يثاب فاعلها عليها ويعاقب تاركها في الآخرة، وتحريم التقليد فيه، والأخذ بآراء البشر وتعظيم شأن النظر العقلي، والتفكر لتحصيل العلم بما يجب الإيمان به ومعرفة آيات الله وسننه في خلقه والأمر بالعدل في الأحكام والأعمال كما قال « قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ » وحصر أنواع المحرمات الدينية العامة في قوله « قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ » إلخ، وبيان أصول الفضائل الأدبية والتشريعية في قوله « خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ ».
(6) آيات الله وسننه في الكون - ويتضمن ذلك خلق السموات والأرض في ستة أيام واستواءه على العرش ونظام الليل والنهار وتسخير الشمس والقمر والنجوم بأمره - وخلق الرياح والمطر وإحياء الأرض به وإخراجه الثمرات من الأرض - خلق الناس من نفس واحدة وخلق زوجها منها ليسكن إليها وإعداد الزوجين للتناسل - وتفضيل الإنسان على من في الأرض جميعا - خلق بنى آدم مستعدين لمعرفة الله وإشهاد الرب إياهم على أنفسهم أنه ربهم وشهادتهم بذلك بمقتضى فطرتهم بما منحوه من العقل وحجته تعالى عليهم بذلك - خلقهم مستعدين للشرك وما يتبعه من الخرافات - ضرب الأمثال لاختلاف الاستعداد لكل من الخير والشر وعلامة كل منهما فيهم يكون بما يرى من ثماره - وفى ذلك تعليم لنا بطلب معرفة الشيء بأثره ومعرفة الأثر بمصدره - عداوة إبليس والشياطين من نسله لبنى آدم وإغوائهم بالفساد مع ذكر حكمة ذلك، بيان أن الشياطين أولياء للمجرمين الذين لا يؤمنون - منّة الله على البشر بتسهيل أسباب المعاش لهم - آيات الله تعالى ونعمه على بني إسرائيل إلى نحو أولئك مما فيه سعادة البشر في دينهم ودنياهم.
(7) سننه تعالى في الاجتماع والعمران البشرى - ويتضمن ذلك إهلاك الله الأمم بظلمها لنفسها ولغيرها وأن للأمم آجالا لا تتقدم ولا تتأخر عنها بما اقتضته السنن الإلهية العامة - ابتلاء الله الأمم بالبأساء والضراء تارة وبالرخاء والنعماء أخرى - وأن الإيمان بما دعا إليه والتقوى في العمل بشرعه فعلا وتركا سبب لكثرة بركات السماء والأرض وخيراتها على الأمة كما قال تعالى: « وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ » وأن لله في إرث الأرض واستخلاف الأمم والسيادة على الشعوب سننا لا تتبدل كما قال: « قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا، إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ » أي إن الأرض ليست رهن تصرف الملوك والدول بقدرتهم الذاتية فتدوم لهم وإنما هي لله، ولله سنن في سلبها من قوم وجعلها إرثا لقوم آخرين - وقد جعل العاقبة للمتقين الذين يتقون أسباب الضعف والتخاذل والفساد في الأرض ويتصفون بضدها وبسائر ما تقوى به الأمم من الأخلاق والأعمال كالصبر على المكاره والاستعانة بالله الذي بيده ملكوت كل شيء.
وإنا نرى أن بعض الشعوب الإسلامية المستضعفة في هذا العصر باستعمار الدول الأوربية لها يائسة من استقلالها وعزتها لما ترى من رجحان ذوي السيادة عليها في القوى المادية جهلا منهم بسنة الله التي بينها للناس فإن رجحان فرعون وقومه على بني إسرائيل كان فوق رجحان قوى السائدين وقهرهم إياهم.
وقد كان ينبغي للمسلمين أن يتقوه تعالى باتقاء كل ما قصه عليهم من ذنوب الأمم التي هلك بها من كان قبلهم حتى دالت دولتهم وزال ملكهم ولله الأمر من قبل ومن بعد.
هامش
- ↑ المشاطة: بالضم الشعر الذي يسقط حين تسريحه بالمشط، وراعوفة البئر: الحجر الثابت الذي يقف عليه المستقى من البئر، أي إنها وضعت المشط والمشاطة في جف طلعة تحت حجر البئر.