→ سورة السجدة | تفسير المراغي سورة الأحزاب أحمد مصطفى المراغي |
سورة سبأ ← |
☰ جدول المحتويات
- [سورة الأحزاب (33): الآيات 1 الى 3]
- [سورة الأحزاب (33): الآيات 4 الى 5]
- [سورة الأحزاب (33): آية 6]
- [سورة الأحزاب (33): الآيات 7 الى 8]
- [سورة الأحزاب (33): الآيات 9 الى 27]
- [سورة الأحزاب (33): الآيات 28 الى 30]
- [تتمة سورة الأحزاب]
- [سورة الأحزاب (33): آية 31]
- [سورة الأحزاب (33): الآيات 32 الى 34]
- [سورة الأحزاب (33): آية 35]
- قصة زينب بنت جحش
- [سورة الأحزاب (33): الآيات 36 الى 40]
- أولاد النبي ﷺ
- [سورة الأحزاب (33): الآيات 41 الى 44]
- [سورة الأحزاب (33): الآيات 45 الى 48]
- [سورة الأحزاب (33): آية 49]
- [سورة الأحزاب (33): آية 50]
- [سورة الأحزاب (33): آية 51]
- [سورة الأحزاب (33): آية 52]
- آية الحجاب، وما فيها من أحكام وآداب
- [سورة الأحزاب (33): الآيات 53 الى 54]
- [سورة الأحزاب (33): آية 55]
- [سورة الأحزاب (33): آية 56]
- [سورة الأحزاب (33): آية 57]
- [سورة الأحزاب (33): آية 58]
- [سورة الأحزاب (33): الآيات 59 الى 62]
- [سورة الأحزاب (33): الآيات 63 الى 68]
- [سورة الأحزاب (33): آية 69]
- [سورة الأحزاب (33): الآيات 70 الى 71]
- [سورة الأحزاب (33): الآيات 72 الى 73]
- أسباب تعدد زوجاته ﷺ
- الأسباب العامة
- الأسباب الخاصة بزواج كل واحدة من أمهات المؤمنين
- أسباب إباحة تعدد الزوجات في الإسلام
- ما حوته السورة الكريمة من أغراض ومقاصد
هي مدنية نزلت بعد آل عمران.
وآيها ثلاث وسبعون.
ووجه اتصالها بما قبلها تشابه مطلع هذه وخاتمة السالفة، فإن تلك ختمت بأمر النبي ﷺ بالإعراض عن الكافرين، وانتظار عذابهم، وهذه بدئت بأمره عليه الصلاة والسلام بالتقوى، وعدم طاعة الكافرين والمنافقين واتباع ما أوحى إليه من ربه مع التوكل عليه.
[سورة الأحزاب (33): الآيات 1 الى 3]
بسم الله الرحمن الرحيم
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)
تفسير المفردات
قال طلق بن حبيب: التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله مخافة عذاب الله، وتوكل على الله: أي فوّض أمورك إليه، الوكيل: الحافظ للأمور.
المعنى الجملي
أخرج ابن جرير عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن أهل مكة، ومنهم الوليد بن المغيرة، وشيبة بن ربيعة دعوا النبي ﷺ أن يرجع عن قوله: على أن يعطوه شطر أموالهم، وخوّفه المنافقون واليهود بالمدينة إن لم يرجع قتلوه، فنزلت الآيات.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ) أي يا أيها النبي خف الله بطاعته، وأداء فرائضه، وواجب حقوقه عليك، وترك محارمه، وانتهاك حدوده.
والخلاصة: يا أيها المخبر عنا، المأمون على وحينا، اثبت على تقوى الله، ودم عليها.
ولما وجّه إلى رسوله ﷺ الأمر بتقوى الولي الودود - أتبعه بالنهي عن الالتفات نحو العدو الحسود، فقال:
(وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) أي ولا تطع الكافرين الذين يقولون لك: اطرد عنا أتباعك من ضعفاء المؤمنين، حتى نجالسك، والمنافقين الذين يظهرون لك الإيمان والنصيحة، وهم لا يألونك وأصحابك إلا خبالا، فلا تقبل لهم رأيا، ولا تستشرهم مستنصحا بهم، فإنهم أعداؤك، ويودون هلاكك، وإطفاء نور دينك.
روي أنه لما قدم رسول الله ﷺ المدينة تابعه ناس من اليهود نفاقا وكان يلين لهم جانبه، ويظهرون له النصح خداعا فحذره الله منهم، ونبهه الى عداوتهم.
ثم علل ما تقدم بقوله:
(إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) أي إن الله عليم بما تضمره نفوسهم، وما الذي يقصدونه من إظهار النصيحة، وبالذي تنطوى عليه جوانحهم، حكيم في تدبير أمرك، وأمر أصحابك، وسائر شئون خلقه، فهو أحق أن تتبع أوامره وتطاع.
والخلاصة: إنه تعالى هو العليم بعواقب الأمور، الحكيم في أقواله وأفعاله، وتدبير شئون خلقه.
ثم أكد وجوب الامتثال بأن الآمر لك هو مرّ بيك في نعمه، الغامر لك بإحسانه، فهو الجدير أن يتّبع أمره، ويجتنب نهيه، فقال:
(وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) أي واعمل بما ينزله عليك ربك من وحيه، وآي كتابه.
ثم علل ذلك بما يرغّبه في اتباع الوحي، وبما ينأى به عن طاعة الكافرين والمنافقين، فقال:
(إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) أي إن الله خبير بما تعمل أنت وأصحابك، لا يخفى عليه شيء منه، ثم يجازيكم على ذلك بما وعدكم به من الجزاء.
ثم أمر رسوله بتفويض أموره إليه وحده، فقال:
(وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) أي وفوض أمورك إليه وحده، واعتمد عليه في شئونك.
(وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا) أي وكفى به حافظا، يوكل إليه جميع الشئون، فلا تلتفت في شيء من أمرك إلى غيره.
والخلاصة: حسبك الله، فإنه إن أراد لك نفعا لم يدفعه عنك أحد، وإن أراد ضرا لم يمنعه منك أحد.
[سورة الأحزاب (33): الآيات 4 الى 5]
ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)
تفسير المفردات
جعل: أي خلق، ويقال: ظاهر الرجل من زوجته إذا قال لها: أنت علي كظهر أمي، يريدون أنت محرمة علي كما تحرم الأم، وكانوا في الجاهلية يجرون على المظاهر منها حكم الأم، والأدعياء: واحدهم دعي، وهو الذي تدّعى بنوته، وقد كانت تجرى عليه أحكام الابن في الجاهلية وصدر الإسلام، السبيل: أي طريق الحق، أقسط: أي أعدل، ومواليكم: أي أولياؤكم فيه.
المعنى الجملي
بعد أن أمر سبحانه نبيه بتقواه، والخوف منه، وحذّره من طاعة الكفار والمنافقين، والخوف منهم - ضرب لنا الأمثال ليبين أنه لا يجتمع خوف من الله وخوف من سواه، فذكر أنه ليس للإنسان قلبان حتى يطيع بأحدهما ويعصى بالآخر، وإذا لم يكن للمرء إلا قلب واحد، فمتى اتجه لأحد الشيئين صدّ عن الآخر، فطاعة الله تصدّ عن طاعة سواه، وأنه لا تجتمع الزوجية والأمومة في امرأة، والبنوة الحقيقية والتبني في إنسان.
روى الشيخان والترمذي والنسائي في جماعة آخرين عن ابن عمر رضي الله عنهما « أن زيد بن حارثة مولى رسول الله ﷺ ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن: (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) الآية، فقال النبي ﷺ: أنت زيد ابن حارثة بن شراحيل.
وكان من خبره أنه سبى من قبيلته كلب وهو صغير، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة، فلما تزوجها رسول الله ﷺ وهبته له، ثم طلبه أبوه وعمه فخيّر بين أن يبقى مع رسول الله، وأن يذهب مع أبيه، فاختار البقاء مع رسول الله ﷺ، فأعتقه وتبناه، وكانوا يقولون زيد بن محمد فلما تزوج رسول الله ﷺ زينب، وكانت زوجا لزيد وطلقها قال المنافقون: تزوج محمد امرأة ابنه، وهو بنهي عن ذلك، فنزلت الآية لنفى أن يكون للمتبنّى حكم الابن حقيقة في جميع الأحكام التي تعطى للابن.
الإيضاح
(ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) كان أهل مكة يقولون: إن معمرا الفهري له قلبان لقوة حفظه، وروى أنه كان يقول: إن لي قلبين أفهم بأحدهما أكثر مما يفهم محمد، وكانت العرب تزعم أن كل أريب له قلبان، فأكذب الله في هذه الآية قوله وقولهم:
(وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ) أي ولم يجعل الله لكم أيها الرجال نساءكم اللائي تقولون لهن: أنتنّ علينا كظهور أمهاتنا - أمهاتكم، بل جعل ذلك من قبلكم كذبا وألزمكم عقوبة.
وقد كان الرجل في الجاهلية متى قال هذه المقالة لامرأته صارت حراما عليه حرمة مؤيدة، فجاء الإسلام ومنع هذا التأييد، وجعل الحرمة مؤقتة، حتى يؤدى كفّارة (غرامة) لانتهاكه حرمة الدين، إذ حرم ما أحل الله.
(وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) أي ولم يجعل الله من ادعى أحدكم أنه ابنه، وهو ابن غيره - ابنا له بدعواه فحسب.
وفي هذا إبطال لما كان في الجاهلية وصدر الإسلام من أنه: إذا تبنى الرجل ابن غيره أجريت عليه أحكام الابن النسبي، وقد تبني رسول الله ﷺ قبل البعثة زيد بن حارثة، والخطّاب عامر بن ربيعة وأبو حذيفة سالما.
ثم أكد ما سبق بقوله:
(ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) أي هذا الذي تقدم من قول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي، ودعاء من ليس بابنه أنه ابنه إنما هو قولكم بأفواهكم، لا حقيقة له، فلا تصير الزوجة أمّا، ولا يثبت بهذا الدعاء دعوى النسب.
(وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) أي والله هو الصادق، الذي يقول الحق وبقوله يثبت نسب من أثبت نسبه، وبه تكون المرأة أمّا إذا حكم بذلك، وهو يبين لعباده سبيل الحق، ويهديهم إلى طريق الرشاد، فدعوا قولكم، وخذوا بقوله عز اسمه.
وخلاصة ما سلف:
(1) إنه لم ير في حكمته أن يجعل للإنسان قلبين، لأنه إما أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر، فأحدهما يكون نافلة غير محتاج إليه، وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بذاك، وهذا يؤدى إلى التناقض في أعمال الإنسان، فيكون مريدا للشىء كارها له، وظانا له موقنا به في حال واحدة، وهذا لن يكون.
(2) إنه لم ير أن تكون المرأة أما لرجل وزوجا له، لأن الأم مخدومة، مخفوض لها الجناح، والمرأة مستخدمة في المصالح الزوجية على وجوه شتى.
(3) لم يشأ في حكمته أن يكون الرجل الواحد دعيّا لرجل وابنا له، لأن البنوة نسب أصيل عريق، والدعوة إلصاق عارض بالتسمية لا غير، ولا يجتمع في الشيء الواحد أن يكون أصيلا غير أصيل.
ولما ذكر أنه يقول الحق فصل هذا الحق بقوله:
(ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ) أي انسبوا أدعياءكم الذين ألحقتم أنسابهم بكم - لآبائهم، فقولوا: زيد بن حارثة، ولا تقولوا زيد بن محمد، فذلك أعدل في حكم الله وأصوب من دعائكم إياهم لغير آبائهم.
(فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ) أي فإن أنتم أيها الناس لم تعرفوا آباء أدعيائكم من هم؟ حتى تنسبوهم إليهم، وتلحقوهم بهم فهم إخوانكم في الدين إن كانوا قد دخلوا في دينكم ومواليكم إن كانوا محرّرين أي قولوا: هو مولى فلان، ولهذا قيل لسالم بعد نزول الآية: مولى حذيفة، وكان قد تبناه من قبل.
(وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) أي ولا إثم عليكم فيما فعلتموه من ذلك مخطئين قبل النهى أو بعده نسيانا أو سبق لسان.
(وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) ولكن الجناح والإثم عليكم فيما فعلتموه عامدين.
وخلاصة ما سلف: إنه لا إثم عليكم إذا نسبتم الولد لغير أبيه خطأ غير مقصود، كأن سهوتم أو سبق لسانكم بما تقولون، ولكن الإثم عليكم إذا قلتم ذلك متعمدين.
أخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة أنه قال في الآية: « لو دعوت رجلا لغير أبيه، وأنت ترى أنه أبوه لم يكن عليك بأس، ولكن ما تعمدت وقصدت دعاءه لغير أبيه ».
(وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) أي وكان الله ستارا لذنب من ظاهر من زوجته، وقال الزور والباطل من القول، وذنب من ادعى ولد غيره ابنا له إذا تابا ورجعا إلى أمر الله وأنتهيا عن قيل الباطل بعد أن نهاهما رحيما بهما فلا يعاقبهما على ذلك بعد توبتهما.
[سورة الأحزاب (33): آية 6]
النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفًا كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُورًا (6)
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه فيما سلف: أن الدعي ليس ابنا لمن تبناه، فمحمد ﷺ ليس أبا لزيد بن حارثة، ثم أعقب ذلك بالإرشاد إلى أن المؤمن أخو المؤمن في الدين، فلا مانع أن يقول إنسان لآخر: أنت أخي في الدين - أردف ذلك بيان أن محمدا ﷺ ليس أبا لواحد من أمته، بل أبوته عامة، وأزواجه أمهاتهم وأبوته أشرف من أبوة النسب لأن بها الحياة الحقيقية، وهذه بها الحياة الفانية، بل هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا حضهم على الجهاد ونحوه، فذلك لارتقائهم الروحي، فإذا كيف يستأذن الناس آباءهم وأمهاتهم حين أمرهم ﷺ بغزوة تبوك، وهو أشفق عليهم من الآباء، بل من أنفسهم.
روى البخاري عن أبي هريرة قال: إن رسول الله ﷺ قال: « ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، اقرءوا إن شئتم (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) فأيّما مؤمن ترك مالا، فلترثه عصبته من كانوا، ومن ترك دينا أو ضياعا (عيالا) فليأتنى، فأنا مولاه ».
وفي الصحيح أن عمر رضي الله عنه قال: « يا رسول الله، والله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال ﷺ: لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال: يا رسول الله، والله لأنت أحب إلي من كل شيء، حتى من نفسي، فقال ﷺ: الآن يا عمر ».
الإيضاح
(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي النبي أشد ولاية ونصرة لهم من أنفسهم، فإنه عليه الصلاة والسلام لا يأمرهم إلا بما فيه خيرهم وصلاحهم، ولا ينهاهم إلا عما يضرهم ويؤذيهم في دنياهم وآخرتهم، أما النفس فإنّها أمارة بالسوء، وقد تجهل بعض المصالح، وتخفى عليها بعض المنافع.
ومما يلزم هذا أن يكون حكمه نافذا فيهم، مقدّما على ما يختارونه لأنفسهم، كما قال: « فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ».
وخلاصة ذلك: إنه تعالى علم شفقة رسوله ﷺ على أمته، وشدة نصحه لهم، فجعله أولى بهم من أنفسهم.
(وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) أي هن منزلات منزلة الأمهات في الحرمة والاحترام، والتوقير والإكرام، وفيما عدا ذلك هن كالأجنبيات، فلا يحل النظر إليهن، ولا إرثهن ولا نحو ذلك.
وكان التوارث في بدء الإسلام بالحلف والمؤاخاة بين المسلمين، فكان المهاجري يرث الأنصاري دون قراباته وذوي رحمه للأخوّة التي آخى بينهما رسول الله ﷺ حين الهجرة، فقد آخى بين أبي بكر رضي الله عنه، وخارجة بن زيد، وآخى بين عمر وشخص آخر، وآخى بين الزبير وكعب بن مالك، فغيّر الله الحكم بقوله:
(وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) أي وأولو الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين بحق الدين، وحق المهاجرين بحق الهجرة فيما كتبه الله وفرضه على عباده.
والخلاصة: إن هذه الآية أرجعت الأمور إلى نصابها، وأبطلت حكما شرع لضرورة عارضة في بدء الإسلام، وهو الإرث بالتآخى في الدين، والتآخى حين الهجرة بين المهاجرين والأنصار حين كان المهاجري يرث الأنصاري دون قرابته وذوي رحمه.
ثم استثنى من ذلك الوصية، فقال:
(إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفًا) الأولياء هنا المؤمنون والمهاجرون والمعروف الوصية أي إلا أن توصوا لهؤلاء بوصية، فهم أحق بها من القريب الوارث.
ثم بين أن هذا الحكم هو الأصل في الإرث، وهو الحكم الثابت في كتابه الذي لا يغيّر ولا يبدل، فقال:
(كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُورًا) أي إن هذا الحكم، وهو أن أولى الأرحام بعضهم أولى ببعض - حكم من الله مقدر مكتوب في الكتاب الذي لا يبدل ولا يغير، وإن كان قد شرع غيره في وقت ما لمصلحة عارضة، وحكمة بالغة، وهو يعلم أنه سيغيره إلى ما هو جار في قدره الأزلى، وقضائه التشريعي.
[سورة الأحزاب (33): الآيات 7 الى 8]
وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذابًا أَلِيمًا (8)
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه فيما سلف أحكاما شرعها لعباده، وكان فيها أشياء مما كان في الجاهلية، وأشياء مما كان في الإسلام، ثم أبطلت ونسخت - أتبع ذلك بذكر ما فيه حث على التبليغ، فذكر أخذ العهد على النبيين أن يبلّغوا رسالات ربهم، ولا سيما أولو العزم منهم، وهم الخمسة المذكورون في الآية، كما ذكر في آية أخرى سؤال الله أنبياءه عن تصديق أقوامهم له، ليكون في ذلك تبكيت للمكذبين من الكفار، فقال: « يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ ».
الإيضاح
(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) أي واذكر أيها الرسول العهد والميثاق الذي أخذه الله على أولى العزم الخمسة بقية الأنبياء ليقيمنّ دينه، ويبلغنّ رسالته، ويتناصرنّ كما قال في آية أخرى: « وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ، قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي؟ قالُوا أَقْرَرْنا. قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ».
(وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقًا غَلِيظًا) بسؤالهم عما فعلوا حين الإرسال كما قال: « وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ».
وقد جرت العادة أن الملك إذا أرسل رسولا، وأمره بشىء وقبله كان ذلك ميثاقا عليه، فإذا أعلمه بأنه سيسأله عما يقول ويفعل كان ذلك تغليظا للميثاق، حتى لا يزيد ولا ينقص في الرسالة.
ثم بين علة أخذ الميثاق على النبيين، فقال:
(لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) أي وأخذنا من هؤلاء الأنبياء ميثاقهم كيما أسأل المرسلين عما أجابتهم به أممهم، وما فعل أقوامهم فيما أبلغوهم عن ربهم من الرسالة.
(وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذابًا أَلِيمًا) أي ليسأل الصادقين عن صدقهم، وأعدّ لهم ثوابا عظيما، ويسأل الكاذبين عن كذبهم، وأعدّ لهم عذابا أليما.
غزوة الأحزاب - وقعة الخندق
[سورة الأحزاب (33): الآيات 9 الى 27]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا (12) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرارًا (13) ولَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلًا (20) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيمانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)
تفسير المفردات
المراد بالجنود هنا: الأحزاب، وهم قريش يقودهم أبو سفيان، وبنو أسد يقودهم طليحة، وغطفان يقودهم عيينة بن حصن، وبنو عامر يقودهم عامر بن الطّفيل، وبنو سليم يقودهم أبو الأعور السّلمى، وبنو النّضير من اليهود، ورؤساؤهم حيي ابن أخطب، وأبناء أبى الحقيق، وبنو قريظة من اليهود أيضا سيدهم كعب بن أسد، وكان بينهم وبين رسول الله ﷺ عهد فنبذه كعب بسعى حيي، وكان مجموع جيوش الأعداء عشرة آلاف أو نحو ذلك، والجنود التي لم تروها: هي الملائكة من فوقكم: أي من أعلى الوادي من جهة المشرق، وكانوا بنى غطفان، ومن أسفل منكم: أي من أسفل الوادي من قبل المغرب، وكانوا قريشا ومن شايعهم، وبنى كنانة وأهل تهامة، زاغت الأبصار: أي انحرفت عن مستوى نظرها حيرة ودهشة، وبلغت القلوب الحناجر: يراد به فزعت فزعا شديدا، ابتلى المؤمنون: أي اختبروا وامتحنوا، وزلزلوا زلزالا شديدا: أي اضطربوا اضطرابا شديدا من الفزع وكثرة العدوّ، والذين في قلوبهم مرض: قوم كان المنافقون يستميلونهم بإدخال الشّبه عليهم لقرب عهدهم بالإسلام، إلا غرورا: أي إلا وعد غرور لا حقيقة له يثرب: من أسماء المدينة، لا مقام لكم: أي لا ينبغي لكم الإنامة هاهنا، عورة: أي ذات عورة لأنها خالية من الرجال فيخاف عليها سرق السّرّاق، والأقطار: واحدها قطر وهو الناحية والجانب، والفتنة: الردة ومقاتلة المؤمنين، آتوها: أي أعطوها، وما تلبثوا بها: أي وما أقاموا بالمدينة، يعصمكم: أي يمنعكم، المعوّقين: أي المثبطين عن القتال مع رسول الله ﷺ، هلم إلينا: أي أقبلوا إلينا، والبأس: الشدة، والمراد به هنا الحرب والقتال، أشحة: واحدهم شحيح أي بخيل بالنّصرة والمنفعة، تدور أعينهم: أي تدير أعينهم أحداقهم من شدة الخوف، سلقوكم: أي آذوكم بالكلام، بألسنة حداد: أي ألسنة دربة سلطة تفعل فعل الحديد، أشحة على الخير: أي بخلاء حريصين على مال الغنائم، أحبط الله أعمالهم: أي أبطلها لإضمارهم الكفر، لو أنهم بادون في الأعراب: أي خارجون إلى العدو مقيمون بين أهله، أسوة: أي قدوة، والمراد به المقتدى به، قضى نحبه: أي فرغ من نذره ووفى بعهده، وصبر على الجهاد حتى استشهد كحمزة، ومصعب بن عمير، والغيظ: أشد الغضب، وكفى الله المؤمنين القتال: أي وقاهم شره، عزيزا: أي غالبا مستوليا على كل شيء، ظاهروهم: أي عاونوهم، من أهل الكتاب: أي من بنى قريظة، من صياصيهم: أي من حصونهم واحدها صيصية وهي كل ما يمتنع به قال الشاعر:
فأصبحت الثيران صرعى وأصبحت نساء تميم يبتدرن الصياصيا
وقذف: أي ألقى، والرعب: الخوف الشديد.
المعنى الجملي
بعد أن أمر سبحانه عباده بتقواه، وعدم الخوف من سواه - ذكر هنا تحقيق ما سلف فأبان أنه أنعم على عباده المؤمنين، إذ صرف عنهم أعداءهم وهزمهم حين تألّبوا عليهم عام الخندق.
وتفصيل هذا على ما قاله أرباب السير:
أن نفرا من اليهود قدموا على قريش في شوال سنة خمس من الهجرة بمكة، فدعوهم إلى حرب رسول الله ﷺ وقالوا لهم: إن دينكم خير من دينه، ثم جاءوا غطفان وقيسا وعيلان، وحالفوا جميع هؤلاء أن يكونوا معهم عليه، فخرجت هذه القبائل ومعها قادتها وزعماؤها. ولما سمع رسول الله ﷺ بمسيرهم أمر المسلمين بحفر خندق حول المدينة بإشارة سلمان الفارسي، وعمل فيه رسول الله ﷺ والمسلمون وأحكموه وكان رسول الله يرتجز بكلمات ابن رواحة، ويقول:
اللهم لو لا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا وثبّت الأقدام إن لاقينا وفى أثناء العمل برزت لهم صخرة بيضاء في بطن الخندق فكسرت حديدهم وشقّت عليهم، فلما علم بها ﷺ أخذ المعول من سلمان وضربها به ضربة صدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها (جانبي المدينة) حتى كأنه مصباح في جوف بيت مظلم فكبّر رسول الله ﷺ تكبير فتح وكبر المسلمون وهكذا مرة ثانية وثالثة فكانت تضىء وكان التكبير ثم قال رسول الله ﷺ: ضربت ضربتى الأولى فبرق البرق الذي رأيتم فأضاء لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ثم ضربت ضربتى الثانية، فبرق البرق الذي رأيتم أضاء لي منها قصور قيصر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ثم ضربت الثالثة فبرق البرق الذي قد رأيتم أضاء لي منها قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، فأبشروا فاستبشر المسلمون، وقالوا: الحمد لله الذي صدقنا وعده فقال المنافقون: ألا تعجبون؟ يمنّيكم ويعدكم الباطل، ويخبركم أنه ينظر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا، فنزل: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) إلخ، ونزل:
(قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) الآية.
ولما اجتمع هؤلاء الأحزاب الذين حزّبهم اليهود، وأتوا إلى المدينة رأوا الخندق حائلا بينهم وبينها، فقالوا: والله هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها، ووقعت مصادمات بين القوم كرّا وفرّا، فمن المشركين من كان يقتحم الخندق فيرمى بالحجارة، ومنهم من كان يقتحمه بفرسه فيهلك.
ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر من غطفان أتى رسول الله ﷺ فأعلمه أنه أسلم وأن قومه لم يعلموا بذلك، فقال ﷺ: إنما أنت فينا رجل واحد، فخذّل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة، فأتى قريظة وقال لهم: لا تحاربوا مع قريش وغطفان إلا إذا أخذتم منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم تقيّة لكم على أن يقاتلوا معكم محمدا، لأنهم رجعوا وسئموا حربه، وإنكم وحدكم لا تقدرون عليه، وذهب إلى قريش وإلى غطفان، فقال لهم: إن اليهود يريدون أن يأخذوا منكم رهنا يدفعونها لمحمد، فيضرب أعناقهم، ويتحدون معه على قتالكم، لأنهم ندموا على ما فعلوا من نقض العهد وتابوا، وهذا هو المخرج الذي اتفقوا عليه.
وحينئذ تخاذل اليهود والعرب، ودبّ بينهم دبيب الفشل. ومما زاد في فشلهم أن بعث الله عليهم ريحا في ليلة شاتية شديدة البرد، فجعلت تكفئ قدورهم، وتطرح آنيتهم.
وقد قام رسول الله ﷺ ليلة يصلى على التّل الذي عليه مسجد الفتح، ثم يلتفت ويقول: هل من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم؟ فعل ذلك ثلاث مرات، فلم يقم رجل واحد، من شدة الخوف، وشدة الجوع، وشدة البرد، فدعا حذيفة بن اليمان وقال: ألم تسمع كلامى منذ الليلة؟ قال حذيفة: فقلت يا رسول الله منعنى أن أجيبك الضّر والقرّ، قال: انطلق حتى تدخل في القوم، فتسمع كلامهم وتأتينى بخبرهم. اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، حتى تردّه إلي، انطلق ولا تحدث شيئا حتى تأتينى، فانطلق حذيفة بسلاحه، ورفع رسول الله ﷺ يده يقول: يا صريخ المكروبين، ويا مجيب المضطرين، اكشف همّى وغمى وكربى، فقد ترى حالى وحال أصحابي فنزل جبريل وقال: إن الله قد سمع دعوتك، وكفاك هول عدوك، فخر رسول الله ﷺ على ركبتيه، وبسط يديه، وأرخى عينيه، وهو يقول: شكرا شكرا كما رحمتنى ورحمت أصحابي، وذهب حذيفة إلى القوم، فسمع أبا سفيان يقول: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخفّ، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من هذه الريح ما ترون، فارتحلوا فإني مرتحل، فلما رجع أخبر رسول الله ﷺ، فضحك حتى بدت أنيابه في سواد الليل.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْها) أي تذكروا أيها المؤمنون نعم الله التي أسبغها عليكم حين حوصرتم أيام الخندق، وحين جاءتكم جنود الأحزاب من قريش وغطفان، ويهود بني النضير الذين كانوا أجلاهم رسول الله ﷺ من المدينة إلى خيبر، فأرسلنا عليهم ريحا باردة في ليلة باردة أحصرنهم، وسفت التراب في وجوههم، وأمر ملائكته، فقلعت الأوتاد، وقطعت الأطناب، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وما جت الخيل بعضها في بعض، وقذف الرعب في قلوب الأعداء، حتى قال طليحة بن خويلد الأسدي: إن محمدا قد بدأكم بالسحر فالنجاء النجاء، فانهزموا من غير قتال.
قال حذيفة بن اليمان وقد بعثه رسول الله ﷺ ليأتي بخبر القوم:
خرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم نظرت في ضوء نار لهم توقد، وإذا رجل أدهم ضخم (أبو سفيان) يقول: الرحيل الرحيل لا مقام لكم، وإذا الرجل في عسكرهم ما يجاوز عسكرهم شبرا، فوالله إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفرشهم، والريح تضربهم ثم رجعت نحو النبي ﷺ فلما صرت في منتصف الطريق أو نحو ذلك إذا أنا بنحو عشرين فارسا معتمّين قالوا: أخبر صاحبك أن الله قد كفاك القوم.
والخلاصة: إنه تعالى يمتنّ على عباده المؤمنين بذكر النعم التي أنعم بها عليهم، إذ صرف عنهم أعداءهم حين تألبوا عليهم وتحزبوا عام الخندق.
(وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرًا) أي وكان الله عليما بجميع أعمالكم من حفركم للخندق، وترتيب وسائل الحرب لإعلاء كلمته، ومقاساتكم من الجهد والشدائد ما لا حصر له، بصيرا بها لا يخفى عليه شيء منها، وهو يجازيكم عليها « وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ».
ثم زاد الأمر تفصيلا وبيانا، فقال:
(إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) أي حين جاءتكم الأحزاب من أعلى الوادي من جهة المشرق، وكانوا من غطفان، ومن تابعهم من أهل نجد، ومن بنى قريظة والنضير من اليهود، ومن أسفله من قبل المغرب، وكانوا من قريش، ومن شايعهم من الأحابيش، وبنى كنانة وأهل تهامة.
(وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا) أي وحين مالت الأبصار عن سننها، وانحرفت عن مستوى نظرها حيرة ودهشة، وخاف الناس خوفا شديدا، وفزعوا فزعا عظيما، وظنوا مختلف الظنون، فمنهم مؤمن مخلص يستنجز الله وعده في إعلاء دينه ونصرة نبيه، ويقول: هذا ما وعدنا الله ورسوله، ومنهم منافق وفى قلبه مرض يظن أن محمدا وأصحابه سيستأصلون، ويستولى المشركون على المدينة، وتعود الجاهلية سيرتها الأولى، إلى نحو ذلك من ظنون لا حصر لها تجول في قلوب المؤمنين والمنافقين، على قدر ما يكون القلب عامرا بالإخلاص مكتوبا له السعادة أو متشككا في اعتقاده ليست له عزيمة صادقة.
ثم ذكر أن هذه الشدائد محّصت المؤمنين، وأظهرت المنافقين.
(هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيدًا) أي حين ذاك اختبر الله المؤمنين ومحصنهم أشد التمحيص، فظهر المخلص من المنافق، والراسخ الإيمان من المتزلزل، واضطربوا اضطرابا شديدا من الفزع وكثرة العدو.
(وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا) أي وحين قال المنافقون كمعتّب بن قشير، والذين في قلوبهم ضعف في الإيمان لقرب عهدهم بالإسلام: ما وعدنا الله ورسوله من الظفر والنصر على العدو إلا وعدا باطلا بغرّنا به ويوقعنا فيما لا طاقة لنا به، ويسلخنا عن دين آبائنا، ويقول: إن هذا الدين سيظهر على الدين كله، وإنه سيفتح لنا فارس والروم، وها نحن أولاء قد حصرنا هاهنا حتى ما يستطيع أحدنا أن يبرز لحاجته.
(وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا) أي وحين قالت جماعة من المنافقين كعبد الله بن أبي وأصحابه: يا أهل المدينة ليس هذا المقام بمقام لكم فارجعوا إلى منازلكم ليكون ذلك أسلم لكم من القتل.
وقد يكون المعنى: لا مقام لكم في دين محمد فارجعوا إلى ما كنتم عليه من الشرك وأسلموا محمدا إلى أعدائه.
(وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ) أي ويطلب جماعة منهم من النبي ﷺ الرجوع إلى بيوتهم وتركهم للقتال، وهم بنو حارثة، معتذرين بمختلف المعاذير كقولهم: إن بيوتنا مما يلي العدو ذليلة الحيطان يخاف عليها من السرّاق، والحقيقة أنهم كاذبون فيما يقولون، وهم مضمرون غير ذلك.
ثمّ بين السبب الحقيقي لهذه المقالة، فقال:
(إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرارًا) أي وما يريدون بالاستئذان إلا الفرار من القتال والهرب من عسكر رسول الله ﷺ وعدم مساعدة المؤمنين.
ثم بين وهن الدين وضعفه في قلوبهم إذا ذاك، وأنه معلق بخيط دقيق ينقطع بأدنى هزة، فقال:
(وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيرًا) أي ولو دخل عليهم الأحزاب من جوانب بيوتهم، ثم طلبوا إليهم أن يرتدوا عن دينهم ويرجعوا إلى شركهم بربهم - لفعلوا ذلك مسرعين من شدة الهلع والجزع.
وفي هذا إيماء إلى أن الإيمان لا قرار له في نفوسهم، ولا أثر له في قلوبهم، فهو لا يستطيع مقابلة الصعاب، ولا مقاومة الشدائد، فلا تعجب لاستئذانهم وطلبهم الهرب من ميدان القتال.
والخلاصة: إن شدة الخوف والهلع الذي تمكن في قلوبهم مع خبث طويتّهم، وإضمارهم النفاق - تحملهم على الإشراك بالله والرجوع إلى دينهم عند أدنى صدمة تحصل لهم من العدو، فإيمانهم طلاء ظاهرى لا أثر له في نفوسهم بحال، فلا عجب إذا هم تسللوا لواذا، وبلغ الخوف من نفوسهم كل مبلغ.
ثم بين أن لهم سابقة عهد بالفرار وخوف اللقاء من الكماة، فقال:
(وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ) أي ولقد كان هؤلاء المستأذنون وهم بنو حارثة قد هربوا يوم أحد وفرّوا من لقاء عدوهم، ثم تابوا وعاهدوا الله ألا يعودوا إلى مثلها وألا ينكثوا على أعقابهم حين قتالهم مع رسول الله ﷺ.
ثم بين ما للعهد من حرمة فقال:
(وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا) أي وعهد الله يسأل عن الوفاء به يوم القيامة ويجازى عليه.
ثم أمر الله رسوله أن يقول لهم: إن فراركم لا يؤخر آجالكم، ولا يطيل أعماركم، فقال:
(قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ) أي قل لهؤلاء المستأذنين الفارّين من قتال العدو ومنازلته في الميدان: لن ينفعكم الهرب ولا يدفع عنكم ما أبرم في الأزل من موت أحدكم حتف أنفه، أو قتله بسيف ونحوه فإن المقدّر كائن لا محالة والأجل إن حضر لم يتأخر بالفرار، وكان علي يقول عند اللقاء: دهم الأمر، وتوقّد الجمر.
أي يومي من الموت أفرّ يوم لا يقدر أم يوم قدر
يوم لا يقدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجى الحذر
(وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا) أي وإن نفعكم الفرار بأن دفع عنكم الموت فمتّعتم لم يكن ذلك التمتع إلا قليلا، فإن أيام الحياة وإن طالت قصيرة، فعمر تأكله الدقائق قليل وإن كثر، ولله درّ أحمد شوقى إذ يقول:
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثواني
ولما كانوا ربما يقولون: بل ينفعنا لأنا طالما رأينا من هرب فسلم، ومن ثبت فاصطلم - أمره الله بالجواب عن هذا، فقال:
(قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً) أي قل لهم: لا أحد يستطيع أن يمنع عنكم شرا من قتل أو بلاء قدره الله عليكم، أو يؤتيكم خيرا إن لم يكن أراده لكم.
والخلاصة: هل احترزتم في جميع أعمالكم عن سوء فنفعكم الاحتراز، أو اجتهد غيركم في منع الخير عنكم فتمّ له ما أراد؟.
وإجمال القول: إن النفع والضر بيده سبحانه، وليس لغيره في ذلك تصريف ولا تبديل.
ثم أكد هذا بقوله:
(وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا) أي ولا يجد هؤلاء المنافقون وليا ينفعهم غير الله، ولا نصيرا يدفع السوء عنهم.
وبعد أن أخبر سبحانه رسوله ﷺ بمقالة المنافقين لأهل المدينة، وأمره بوعظهم - حذّرهم بدوام علمه بمن يخون الله ورسوله بقوله:
(قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا) أي إن ربك أيها الرسول ليعلم حق العلم من يثبّطون الناس عن رسول الله ﷺ ويصدونهم
عنه، وعن شهود الحرب معه نفاقا منهم وتخذيلا عن الإسلام، ويعلم الذين يقولون لأصحابهم وخلطائهم من أهل المدينة: تعالوا إلى ما نحن فيه من الظلال والثمار، ودعوا محمدا فلا تشهدوا معه مشهدا، فإنا نخاف عليكم الهلاك.
قال قتادة: كان المنافقون يقولون لإخوانهم من ساكني المدينة من الأنصار: ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس (يريدون أنهم قليلو العدد) ولو كانوا لحما لا لتهمهم أبو سفيان وأصحابه، فدعوه فإنه هالك.
(وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا) أي ولا يأتون الحرب إلا زمنا قليلا، فقد كانوا لا يأتون المعسكر إلا ليراهم المخلصون، فإذا غفلوا عنهم تسللوا لواذا وعادوا إلى بيوتهم ثم ذكر بعض معايبهم من البخل والخوف والفخر الكاذب، فقال:
(1) (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) أي بخلاء عليكم بالنفقة والنصرة، فهم لا يودون مساعدتكم لا بنفس ولا بمال.
(2) (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) أي فإذا بدأ الخوف بكرّ الشجعان وفرّهم في ميدان القتال - رأيتهم ينظرون إليك وقد دارت أعينهم في رءوسهم فرقا وخوفا كدوران عين الذي قرب من الموت وغشيته أسبابه، فإنه إذ ذاك يذهب لبّه، ويشخص بصره، فلا يتحرك طرفه.
(3) (فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ) أي فإذا كان الأمن تكلموا فصيح الكلام، وفخروا بما لهم من المقامات المشهودة في النجدة والشجاعة، وهم في ذلك كاذبون.
قال قتادة: أمّا عند الغنيمة فأشح قوم وأسوؤه مقاسمة، يقولون: أعطونا أعطونا قد شهدنا معكم، وأما عند البأس فأجبن قوم وأخذ له للحق ا هـ.
ثم بين ما دعاهم إلى بسط ألسنتهم فيهم، فقال:
(أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) أي هم بخلاء حريصون على الغنائم إذا ظفر بها المؤمنون، لا يريدون أن يفوتهم شيء مما وصل إلى أيديهم.
والخلاصة: إنهم حين البأس جبناء، وحين الغنيمة أشحاء.
أفي السلم أعيار جفاء وغلظة وفى الحرب أمثال النساء العواتك
وبعد أن وصفهم بما وصفهم به من دنىء الصفات - بيّن ما دعاهم إليها، وهو قلة ثقتهم بالله لعدم تمكن الوازع النفسي في قلوبهم، فقال:
(أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ) أي هؤلاء الذين بسطت أوصافهم لم يصدّقوا الله ورسوله، ولم يخلصوا له العمل، لأنهم أهل نفاق، فأبطل الله أعمالهم، وأذهب أجورها، وجعلها هباء منثورا.
(وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) أي وكان ذلك الإحباط هيّنا على الله لا يبالى به إذ هم قوم فعلوا ما يستوجبه ويستدعيه، فاقتضت حكمته أن يعاملهم بما يقتضيه عدله وتدل عليه حكمته.
ثم أبان مقدار الجبن والهلع الذي لحق بهم، فقال:
(يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا) أي هم من شدة الهلع والخوف، وعظيم الدهشة والحيرة، لا يزالون يظنون أن الأحزاب من غطفان وقريش لم يرحلوا، وقد هزمهم الله ورحلوا، وتفرقوا في كل واد.
وإجمال القول: إنهم لما لم يقاتلوا لجبنهم، وضعف إيمانهم، فكأنهم غائبون، فظنوا أن الأحزاب لم يرحلوا، وقد كانوا راحلين منهزمين لا يلوون على شيء.
(وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ) أي وإن يأت الأحزاب ويعودوا مرة أخرى تمنّوا أن لو كانوا مقيمين في البادية بعيدين عن المدينة، حتى لا ينالهم أذى ولا مكروه، ويكتفون بأن يسألوا عن أخباركم كل قادم من جانب المدينة، وفى هذا كفاية لديهم لجبنهم، وخور عزائمهم.
(وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا) أي ولو كان هؤلاء المنافقون فيكم في الكرة السابقة، ولم يرجعوا إلى المدينة، وكان القتال قتال جلاد وكرّ وفرّ، وطعن وضرب، ومحاربة بالسيوف، ومبارزة في الصفوف - ما قاتلوا إلا قتالا يسيرا رياء وخوفا من العار، لا قتالا يحتسبون فيه الثواب من الله وحسن الأجر.
وبعد أن فصّل أحوالهم، وشرح نذالتهم، وعظيم جبنهم - عاتبهم أشد العتب، وأبان لهم أنه قد كان لهم برسول الله معتبر لو اعتبروا، وأسوة حسنة لو أرادوا التأسى، فقال:
(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) أي إن المثل العالية، والقدوة الحسنة ماثلة أمامكم لو شئتم، فتحتذون الرسول في أعماله، وتسيرون على نهجه لو كنتم تبتغون ثواب الله، وتخافون عقابه إذا أزفت الآزفة، وعدم النصير والمعين، إلا العمل الصالح، وكنتم تذكرون الله ذكرا كثيرا، فإن ذكره يؤدى إلى طاعته، ويحقق الائتساء برسوله.
وخلاصة ذلك: هلا اقتديتم بالرسول، وتأسيتم بشمائله؟.
ولما ذكر سبحانه حال المنافقين - ذكر حال المؤمنين حين لقاء الأحزاب، فقال:
(وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيمانًا وَتَسْلِيمًا) أي ولما أبصر المؤمنون الصادقون المخلصون لله في القول والعمل - الأحزاب الذين أدهشت رؤيتهم العقول، وتبلبلت لها الأفكار، واضطربت الأفئدة - قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله من الابتلاء والاختبار الذي يعقبه النصر في نحو قوله: « أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ » وقوله: « أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ »
وقول الرسول ﷺ: « سيشتد الأمر باجتماع الأحزاب عليكم، والعاقبة لكم عليهم »
وقوله: « إنهم سائرون إليكم تسعا أو عشرا » أي في آخر تسع ليال أو عشر من حين الإخبار.
وصدق الله ورسوله في النصرة والثواب، كما صدق الله ورسوله في البلاء والاختبار، ومازادهم ذلك إلا صبرا على البلاء، وتسليما للقضاء، وتصديقا بتحقيق ما كان الله ورسوله قد وعدهم.
ثم وصف سبحانه بعض الكملة من المؤمنين الذين صدقوا عند اللقاء، واحتملوا البأساء والضراء، فقال:
(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) أي ومن المؤمنين بالله، المصدقين برسوله، رجال أوفوا بما عاهدوا الله عليه من الصبر في اللأواء وحين البأساء، فاستشهد بعض يوم بدر، وبعض يوم أحد، وبعض في غير هذه المواطن، ومنهم من ينتظر قضاءه والفراغ منه كما قضى من مضى منهم على الوفاء لله بعهده، وما غيّروه وما بدلوه.
أخرج الإمام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي في جماعة آخرين عن أنس قال: « غاب عمى أنس بن النضر عن بدر، فشق عليه، وقال: أول مشهد شهده رسول الله ﷺ غبت عنه، لئن أراني الله تعالى مشهدا مع رسول الله ﷺ فيما بعد ليرينّ الله تعالى ما أصنع، فشهد يوم أحد، فاستقبله سعد بن معاذ رضي الله عنه، فقال: يا أبا عمرو إلى أين؟ قال: واها لريح الجنة أجدها دون أحد، فقاتل حتى قتل، فوجد في جسده بضع وثمانون من ضربة وطعنة ورمية، ونزلت هذه الآية:
(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) إلخ.
وروى صاحب الكشاف أن رجالا من الصحابة نذروا أنهم إذا لقوا حربا مع رسول الله ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا، وهم عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد، وحمزة ومصعب بن عمير، وجمع غيرهم.
ثم بيّن العلة في هذا الابتلاء والتمحيص، فقال:
(لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) أي إنه سبحانه إنما يختبر عباده بالخوف والزلزال ليميز الخبيث من الطيب، ويظهر أمر كل منهما جليا واضحا كما قال: « وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ » وقال: « ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ » ثم يثيب أهل الصدق منهم بصدقهم بما عاهدوا الله عليه، ووفائهم له به، ويعذب المنافقين الناقضين لعهده، المخالفين لأوامره، إذا استمروا على نفاقهم حتى يلقوه، فإن تابوا ونزعوا عن نفاقهم، وعملوا صالح الأعمال غفر لهم ما أسلفوا من السيئات، واجترحوا من الآثام والذنوب.
ولما كانت رحمته ورأفته بخلقه هي الغالبة قال:
(إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُورًا رَحِيمًا) أي إنه تعالى من شأنه الستر على ذنوب التائبين والرحمة بهم، فلا يعاقبهم بعد التوبة، وفى هذا حثّ عليها في كل حين، وبيان نفعها للتائبين.
ثم رجع يحكى بقية القصص وفصّل ذلك تتميما للنعمة التي أشار إليها إجمالا بقوله: « فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْها » ووسط بينهما بإيضاح ما نزل بهم من الطامة التي تحير العقول والأفهام، والداهية التي نزلت فيها الأقدام، وما صدر من من الفريقين المؤمنين وأهل الكفر والنفاق من الأحوال والأقوال، لإظهار عظمة النعمة، وإبانة جليل خطرها، ومجيئها حين اشتداد الحاجة إليها فقال:
(وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) أي فأرسلنا ريحا وجنودا لم تروها، ورددنا الذين كفروا بالله ورسوله من قريش وغطفان بغمّهم، بفوت ما أمّلوا من الظفر، وخيبتهم فيما كانوا طمعوا فيه من الغلبة والنصر على محمد وصحبه، إذ لم يصيبوا مالا ولا إسارا، ولم يحتج المؤمنون إلى منازلتهم ومبارزتهم لإجلائهم عن بلادهم، بل كفى الله المؤمنين القتال، ونصر عبده، وأعز جنده. وهزم الأحزاب وحده. فلا شيء بعده.
روى الشيخان من حديث أبي هريرة أن رسول الله ﷺ كان يقول « لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، فلا شيء بعده ».
ورويا أيضا عن عبد الله بن أوفى قال: « دعا رسول الله ﷺ على الأحزاب فقال: اللهم منزّل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم ».
وروى محمد بن إسحاق أنه لما انصرف أهل الخندق عن الخندق قال رسول الله ﷺ « لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا، ولكنكم تغزونهم »
وقد تحقق هذا فلم تغزهم قريش بعد ذلك، بل كان رسول الله ﷺ يغزوهم حتى فتح الله تعالى مكة.
(وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا) أي وكان الله عزيزا بحوله وقوته، فردّهم خائبين لم ينالوا خيرا.
ولما قص أمر الأحزاب وذكر ما انتهى إليه أمرهم ذكر حال من عاونوهم من اليهود فقال:
(وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ) أي وأنزل الله يهود بنى قريظة الذين عاونوا الأحزاب على رسول الله ﷺ من حصونهم بعد أن نقضوا العهد بسفارة حيي بن أخطب النضيري، إذ لم يزل بزعيمهم كعب بن أسد حتى نقض العهد وكان مما قاله له: جئتك بعزّ الدهر، أتيتك بقريش وأحابيشها، وغطفان وأتباعها، ولا يزالون هاهنا حتى يستأصلوا محمدا وأصحابه، فقال له كعب:
بل والله جئتنى بذلّ الدهر، ويحك يا حيي إنك مشئوم، فدعنا منك، فلم يزل يفتل له في الذورة والغارب (يخادعه) حتى أجابه، واشترط له حيي إن ذهب الأحزاب ولم يكن من أمرهم شيء أن يدخل معهم في الحصن فيكون أسوتهم.
ولما أيد الله المؤمنين وكبت أعداءهم وردهم خائبين ورجعوا إلى المدينة ووضع الناس السلاح - أوحى إلى رسول الله ﷺ أن انهض إلى بنى قريظة من فورك، فأمر الناس بالسير إليهم، وكانوا على أميال من المدينة بعد صلاة الظهر وقال ﷺ « لا يصلينّ أحد منكم العصر إلا في بنى قريظة » فسار الناس فأدركتهم الصلاة، فصلى بعض في الطريق، وقال آخرون: لا نصليها إلا في بنى قريظة فلم يعنّف واحدا من الفريقين.
(وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا) أي وألقى الرعب في قلوبهم حين نازلهم رسول الله ﷺ وحاصرهم خمسا وعشرين ليلة، فنزلوا على حكم سعد بن معاذ سيد الأوس لأنهم كانوا حلفاءهم، فأحضره رسول الله ﷺ وقال له: إن هؤلاء نزلوا على حكمك فاحكم فيهم بما شئت، فقال رضي الله عنه: وحكمى نافذ فيهم؟ فقال رسول الله ﷺ « نعم » فقال إني أحكم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذريتهم وأموالهم، فقال له رسول الله ﷺ « لقد حكمت فيهم بحكم الله وحكم رسوله » ثم أمر رسول الله ﷺ بالأخاديد فخدّت في الأرض وجيء بهم مكتوفى الأيدي فضربت أعناقهم وكانوا ما بين سبعمائة وثمانمائة وسبى من لم ينبت منهم مع النساء، وسبى أموالهم.
والخلاصة - إنه قذف الرعب في قلوبهم، حتى أسلموا أنفسهم للقتل، وأهليهم وأموالهم للأسر.
(وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَؤُها) أي وأورثكم مزارعهم ونخيلهم، ومنازلهم وأموالهم التي ادّخروها، وما شبتهم من كل ثاغية وراغية، وأرضا لم تطئوها وهي الأرضون التي سيفتحها المسلمون حتى يوم القيامة، قاله عكرمة واختاره أبو حيان.
(وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا) أي وكان الله قديرا على أن يورّثكم ذلك، وعلى أن ينصركم عليهم، إذ لا يتعذر عليه شيء أراده، ولا يمتنع عليه فعل شيء شاءه.
[سورة الأحزاب (33): الآيات 28 الى 30]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
تفسير المفردات
زينة الدنيا: زخرفها ونعيمها، فتعالين: أي أقبلن باختياركن واخترن أحد الأمرين، أمتعكن: أي أعطكن المتعة، وهي قميص وغطاء للرأس وملحفة - ملاءة - بحسب السعة والإقتار، وأسرحكن: أي أطلقكن، سراحا جميلا: أي طلافا من غير ضرار ولا مخاصمة ولا مشاجرة، بفاحشة: أي فعلة قبيحة كنشوز وسوء خلق واختيار الحياة الدنيا وزينتها على الله ورسوله، مبينة: أي ظاهرة القبح من قولهم: بيّن كذا بمعنى ظهر وتبين، ضعفين: أي ضعفى عذاب غيرهن أي مثليه، يسيرا: أي هيّنا لا يمنعه عنه كونهن نساء النبي، بل هذا سبب له.
المعنى الجملي
بعد أن نصر الله نبيه ﷺ، فردّ عنه الأحزاب، وفتح عليه قريظة والنضير، ظن أزواجه رضي الله عنهن أنه اختص بنفائس اليهود وذخائرهم فقعدن حوله وقلن يا رسول الله: بنات كسرى وقيصر في الحلي والحلل، والإماء والخول - الخدم والحشم - ونحن على ما تراه من الفاقة والضيق، وآلمن قلبه الشريف بمطالبهن من توسعة الحال ومعاملتهن معاملة نساء الملوك وأبناء الدنيا من التمتع بزخرفها من المأكل والمشرب ونحو ذلك فأمره الله تعالى أن يتلو عليهن ما نزل في شأنهن.
روى أحمد عن جابر رضي الله عنه قال: « أقبل أبو بكر رضي الله عنه يستأذن على رسول الله ﷺ، والناس ببابه جلوس، والنبي ﷺ جالس فلم يؤذن له، ثم أقبل عمر رضي الله عنه فاستأذن فلم يؤذن له، ثم أذن لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما فدخلا، والنبي ﷺ جالس وحوله نساؤه وهو ساكت، فقال عمر لأكلمنّ النبي ﷺ لعله يضحك، قال: يا رسول الله! لو رأيت ابنة زيد - امرأة عمر - سألتني النفقة آنفا فوجأت عنقها، فضحك النبي ﷺ حتى بدت نواجذه وقال « هنّ حولى يسألننى النفقة » فقام أبو بكر إلى عائشة ليضربها، وقام عمر إلى حفصة، كلاهما يقول: تسألان النبي ﷺ ما ليس عنده، فنهاهما رسول الله ﷺ فقلن: والله لا نسأل رسول الله ﷺ بعد هذا المجلس ما ليس عنده، وأنزل الله عز وجل الخيار، فبدأ بعائشة رضي الله عنها فقال لها إني أذكر لك أمرا ما أحب أن تعجلى فيه حتى تستأمري أبويك، قالت وما هو؟ فتلا عليها: « يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ » الآية. قالت عائشة رضي الله عنها: أفيك أستأمر أبوي؟ بل أختار الله تعالى ورسوله، وأسألك ألا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت، فقال ﷺ « إن الله تعالى لم يبعثنى معنّفا ولكن بعثني معلّما ميسرا، لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها » رواه مسلم والنسائي.
ثم وعظهن بعد أن اخترن الله ورسوله والدار الآخرة وخصهن بأحكام يجدر بمثلهن أن يستمسكن بها لما لهنّ من مركز ممتاز بين نساء المسلمين، لأنهن أمهات المؤمنين، وموضع التجلّة والكرامة، إلى أنهن في بيت صاحب الدعوة الإسلامية، ومنه انبعث نور الهدى والطهر والعفاف، فأجدر بهن أن يكنّ المثل العليا في ذلك، ويكنّ قدوة يأتسى بهن نساء المؤمنين جميعا، ويا لها منقبة أوتيت لهن دون سعى ولا إيجاف منهن، بل هي منحة أكرمهن الله بها، فله الحمد في الآخرة والأولى.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحًا جَمِيلًا) أي يا أيها الرسول قل لأزواجك: اخترن لأنفسكن إحدى خلتين: أولاهما أن تكنّ ممن يحببن لذّات الدنيا ونعيمها والتمتع بزخرفها فليس لكنّ عندي مقام، إذ ليس عندي شيء منها، فأقبلن علي أعطكن ما أوجب الله على الرجال للنساء من المتعة عند فراقهم إياهن بالطلاق، تطييبا لخاطرهن وتعويضا لهن عما لحقهن من ضرر بالطلاق، وهي كسوة تختلف بحسب الغنى والفقر واليسار والإقتار كما قال تعالى: « وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ » ثم أسرحكن وأطلقن على ما أذن الله به وأدّب به عباده بقوله: « إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ » وكان عند رسول الله ﷺ يومئذ تسع نسوة: خمس من قريش: عائشة وحفصة وأمّ حبيبة وسودة وأم سلمة رضي الله عنهن وأربع من غير القرشيات: زينب بنت جحش الأسدية، وميمونة بنت الحرث الهلالية، وصفيّة بنت حيي بن أخطب النضيرية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية.
وحين نزلت هذه الآية عرض عليهن رسول الله ﷺ ذلك وبدأ بعائشة وكانت أحبّ أهله إليه فخيّرها وقرأ عليها القرآن فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة، ففرح رسول الله ﷺ ثم تابعها بقية نسائه.
ثم ذكر ثانية الخلتين فقال:
(وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا) أي وإن كنتن تردن رضا الله ورضا رسوله وثواب الدار الآخرة فأطعنهما فإن الله أعد للمحسنات منكن في أعمالهن القولية والفعلية ثوابا عظيما تستحقر الدنيا وزينتها دونه، كفاء إحسانهن.
والخلاصة - أنتنّ بين أحد أمرين: أن تقمن مع الرسول وترضين بما قسم لكن وتطعن الله، وأن يمتعكن ويفارقكن إن لم ترضين بذلك.
وبعد أن خيرهن واخترن الله ورسوله - أتبع ذلك بعظتهن وتهديدهن إذا هن فعلن ما يسوء النبي ﷺ وأوعدهن بمضاعفة العذاب فقال:
(يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) أي من يعص منكن الرسول ﷺ ويطلب ما يشق عليه ويضق به ذرعا ويغتم لأجله - يضاعف لها العذاب يوم القيامة ضعفين، أي تعذب ضعفى عذاب غيرها، لأن قبح المعصية منهن أشد، ومن ثم كان ذم العقلاء للعالم العاصي أشد منه للجاهل العاصي، وكان ذلك سهلا يسيرا على الله الذي لا يحابى أحدا لأجل أحد، إذ كونهن نساء رسوله ليس بمغن عنهن شيئا، بل هو سبب لمضاعفة العذاب.
روي أن رجلا قال لزين العابدين رضي الله عنه: إنكم أهل بيت مغفور لكم، فغضب وقال: نحن أحرى أن يجرى فينا ما أجرى الله في أزواج النبي ﷺ من أن نكون كما قلت، إنا نرى لمحسننا ضعفين من الأجر، ولمسيئنا ضعفين من العذاب وقرأ هذه الآية والتي بعدها.
وإلى هنا تم ما أردنا من تفسير هذا الجزء من كلام ربنا القديم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
وكان الفراغ من مسودّته صبيحة يوم الثلاثاء لسبع بقين من جمادى الآخرة من سنة أربع وستين وثلاثمائة وألف من الهجرة النبوية بحلوان من أرباض القاهرة كورة الديار المصرية.
[تتمة سورة الأحزاب]
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة الأحزاب (33): آية 31]
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحًا نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقًا كَرِيمًا (31)
شرح المفردات
يقنت: أي يخشع ويخضع، وأعتدنا: هيأنا وأعددنا، كريما: أي سالما من الآفات والعيوب.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر زيادة عقابهن إذا أتين بفاحشة مبينة، أتبعه بذكر ثوابهن إذا هن عملن صالح الأعمال - مع ما هيأه لهن من الرزق الكريم في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا يوفّقن إلى إنفاق ما يرزقن على وجه يكون لهن فيه عظيم الأجر والثواب، ولا يخشين من أجله العقاب، وفى الآخرة يرزقن ما لا يحدّ ولا يوصف من غير نكد ولا كدر.
الإيضاح
(وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحًا نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ) أي ومن تطع منكنّ الله ورسوله وتعمل صالح الأعمال نضاعف لها الأجر والمثوبة، لكرامتها علينا بوجودها في بيت النبوة ومنزل الوحي ونور الحكمة وعين الهداية.
(وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقًا كَرِيمًا) أي وزيادة على هذا أعددنا لها الكرامة في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فلأنها تكون مرموقة بعين الغبطة لدى نساء العالمين، منظورا إليها نظرة المهابة والإجلال، وأما في الآخرة فلها رفيع الدرجات، وعظيم المنازل عنده تعالى في جنات النعيم.
[سورة الأحزاب (33): الآيات 32 الى 34]
يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)
تفسير المفردات
أصل أحد وحد بمعنى الواحد وهو في النفي عام للمذكر والمؤنث، والواحد والكثير: أي لستنّ كجماعة واحدة من جماعات النساء، فإذا استقرئت أمّة النساء جماعة جماعة لم يوجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والمسابقة، والاتقاء بمعنى الاستقبال، وهو بهذا المعنى معروف في اللغة قال النابغة:
سقط النّصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتّقتنا باليد
أي استقبلتنا باليد قاله أبو حيان في البحر، ومنه قوله تعالى: « أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ »: فلا تخضعن بالقول: أي فلا تجبن بقول خاضع ليّن، أي إذا استقبلتن أحدا فلا تلنّ الكلام ولا ترققنه، مرض: أي ريبة وفجور، قولا معروفا: أي حسنا بعيدا من الريبة غير مطمع لأحد، قرن: من قرّ يقرّ من باب علم وأصله اقررن دخله الحذف، والتبرج: إبداء المرأة من محاسنها ما يجب عليها ستره، والجاهلية الأولى: هي الجاهلية القديمة جاهلية الكفر قبل الإسلام، وهناك جاهلية أخرى هي جاهلية الفسوق في الإسلام، والرجس: في الأصل الشيء القذر والمراد به هنا الإثم المدنّس للعرض، واذكرن ما يتلى في بيوتكن: أي وعظن الناس بما يتلى في بيوتكنّ، وآيات الله: هي القرآن، والحكمة: هي السنة وحديث الرسول.
المعنى الجملي
بعد أن أذكر ما اختص به أمهات المؤمنين من مضاعفة العذاب والثواب، أردف ذلك بيان أن لهن مكانة على بقية النساء، تم نهاهن عن رخامة الصوت ولين الكلام إذا هن استقبلن أحدا حتى لا يطمع فيهن من في قلبه نفاق، ثم أمرهن بالقرار في بيوتهن ونها هن عن إظهار محاسنهن كما يفعل ذلك أهل الجاهلية الأولى، ثم أمرهنّ بأهمّ أركان الدين، وهو إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله فيما يأمر وينهى، لأنه تعالى أذهب الآثام عن أهل البيت وطهرهم تطهيرا، ثم أمرهن بتعليم غيرهن القرآن وما يسمعنه من النبي ﷺ من السنة.
الإيضاح
(يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ) أي يا نساء النبي إذا استقصيت النساء جماعة لم يوجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والكرامة.
والخلاصة - إنه لا يشبهكن أحد من النساء ولا يلحقكنّ في الفضيلة والمنزلة.
(إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا) أي إذا استقبلتن أحدا من الرجال فلا ترقّقن الكلام فيطمع في الخيانة من في قلبه فساد وريبة من فسق ونفاق، وقلن قولا بعيدا عن الريبة غير مطمع لأحد.
وتفسير الاتقاء بهذا المعنى أبلغ في مدحهن، إذ لم يعلق فضلهن على التقوى، ولا نهيهن عن الخضوع بها إذ هن متقيات لله في أنفسهن، والتعليق يقتضى بظاهره أنهن لسن متحليات بالتقوى قاله في البحر، وقال في الكشاف: إن المعنى إن أردتن التقوى، أو إن كنتن متقيات ا هـ، يريد إن اتقيتن مخالفة حكم الله تعالى ورضا رسوله ﷺ.
وإجمال هذا - خاطبن الأجانب بكلام لا ترخيم فيه للصوت ولا تخاطبنهم كما تخاطبن الأزواج.
ولما أمرهن بالقول المعروف أتبعه بذكر الفعل فقال:
(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) أي الزمن بيوتكن، فلا تخرجن لغير حاجة، وهو أمر لهن ولسائر النساء، أخرج الترمذي والبزّار عن ابن مسعود أن النبي ﷺ قال: « إن المرأة عورة فإذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون من رحمة ربها وهي في قعر بيتها ».
(وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) أي ولا تبدين زينتكن ومحاسنكن للرجال كما كان النساء يفعلن ذلك في الجاهلية قبل الإسلام.
وبعد أن نهاهن عن الشر أمرهن بالخير فقال:
(وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أي وأدّين الصلاة على الوجه القيّم المعتبر شرعا، وأعطين زكاة أموالكن كما أمركن الله.
وخص هاتين العبادتين بالذكر لما لهما من كبير الآثار في طهارة النفس وطهارة المال.
وأطعن الله ورسوله فيما تأتين وما تذرن، واجعلن نصب أعينكن اتباع الأوامر وترك النواهي.
ثم ذكر السبب في هذه الأوامر والنواهي على وجه عام فقال:
(إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) إنما يريد الله ليذهب عنكم السوء والفحشاء يا أهل بيت الرسول ويطهركم من دنس الفسق والفجور الذي يعلق بأرباب الذنوب والمعاصي.
وأهل بيته ﷺ من كان ملازما له من الرجال والنساء والأزواج والإماء والأقارب، وكلما كان المرء منهم أقرب وبالنبي أخصّ وألزم كان بالارادة أحق وأجدر.
وعن ابن عباس قال: « شهدنا رسول الله ﷺ تسعة أشهر يأتي كل يوم باب علي بن أبي طالب عند وقت كل صلاة فيقول: « السلام عليكم ورحمة الله، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا، الصلاة يرحمكم الله، كل يوم خمس مرات ».
ثم بين ما أنعم به عليهن من أن بيوتهن مهابط الوحي بقوله:
(وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ) أي واذكرن نعمة الله عليكن، بأن جعلكن في بيوت تتلى فيها آيات الله وما ينزل على الرسول من أحكام الدين ولم ينزل به قرآن، فاحمدن الله على ذلك واشكرنه على جزيل فضله عليكن.
ولا يخفى ما في هذا من الحث على الانتهاء والائتمار فيما كلّفنه، كما لا يخفى ما في تسمية ما نزل عليه من الشرائع بالحكمة، إذ فيه الحكمة في صلاح المجتمع في معاشه ومعاده، فمن استمسك به رشد، ومن تركه ضلّ عن طريق الهدى، وسلك سبيل الردى.
(إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفًا خَبِيرًا) أي إن الله كان ذا لطف بكنّ إذ جعلكن في البيوت التي تتلى فيها آياته وشرائعه، خبيرا بكنّ إذ اختار كن لرسوله أزواجا.
[سورة الأحزاب (33): آية 35]
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)
تفسير المفردات
الإسلام: الانقياد والخضوع لأمر الله، والإيمان: التصديق بما جاء عن الله من أمر ونهى، والقنوت: هو الطاعة في سكون، والصبر: تحمل المشاق على المكاره والعبادات والبعد عن المعاصي، والخشوع: السكون والطمأنينة، أعد الله لهم مغفرة: أي هيأ لهم مغفرة تمحو ذنوبهم، وأجرا عظيما: أي نعيما عند ربهم يوم القيامة.
المعنى الجملي
بعد أن أمر سبحانه نساء نبيه ﷺ بأشياء ونهاهن عن أخرى، ذكر هنا ما أعد للمسلمين والمسلمات من الأجر والكرامة عنده في الدار الآخرة. روى أحمد عن عبد الرحمن بن شيبة قال: « سمعت أم سلمة زوج النبي ﷺ تقول: قلت للنبي ﷺ: ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال؟ قالت فلم يرعنى منه ذات يوم إلا نداؤه على المنبر، وأنا أسرّح رأسى فلففت شعرى ثم خرجت إلى حجرة من حجرهن فجعلت سمعى عند الجريد فإذا هو يقول على المنبر يا أيها الناس إنّ الله يقول في كتابه: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) - إلى قوله: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) ».
الإيضاح
ذكر الله سبحانه الأوصاف التي يستحق بها عباده أن يمحو عنهم زلاتهم ويثيبهم بالنعيم المقيم عنده وهي:
(1) إسلام الظاهر بالانقياد لأحكام الدين في القول والعمل.
(2) إسلام الباطن بالتصديق التام والإذعان لما فرض الدين من الأحكام وهذا هو الإيمان.
(3) القنوت وهو دوام العمل في هدوء وطمأنينة كما قال: « أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِدًا وَقائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ؟ » وقال: « يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ».
فالإسلام والانقياد مرتبة تعقبها مرتبة الإذعان والتصديق وينشأ عن مجموعهما القنوت والخشوع.
(4) الصدق في الأقوال والأعمال، وهو علامة الإيمان كما أن الكذب أمارة النفاق، فمن صدق نجا، وفي الحديث « عليكم بالصدق فإنه يهدى إلى البر، وإن البر يهدى إلى الجنة، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدى إلى الفجور، وإن الفجور يهدى إلى النار »
(5) الصبر على المكاره وتحمل المشاقّ في أداء العبادات وترك الشهوات.
(6) الخشوع والتواضع لله تعالى بالقلب والجوارح ابتغاء ثوابه وخوفا من عقابه كما جاء في الحديث « اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك »
(7) التصدق بالمال والإحسان إلى المحاويج الذين لا كسب لهم ولا كاسب، وقد ثبت في الصحيح « سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.. ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه » وفي حديث آخر « والصدقة تطفئ الخطية كما يطفىء الماء النار »
(8) الصوم فإنه نعم العون على كسر الشهوة كما روى ابن ماجه من قوله ﷺ « والصوم زكاة البدن » أي إنه يزكّيه ويطهره من الأخلاط الرديئة طبعا وشرعا، وجاء عنه ﷺ « يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ».
(9) حفظ الفروج عن المحارم والآثام كما جاء في الآية الأخرى: « وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ ».
(10) ذكر الله ذكرا كثيرا بالألسنة والقلوب، روى عن مجاهد أنه قال: لا يكتب الرجل من الذاكرين الله كثيرا حتى يذكر الله تعالى قائما وقاعدا ومضطجعا.
وأخرج النسائي وابن ماجه وأبو داود وغيرهم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ قال: « إذا أيقظ الرجل امرأته من الليل فصلّيا ركعتين كانا تلك الليلة من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات »
روي عنه ﷺ أنه قال: « سبق المفردون، قالوا وما المفردون؟ قال الذاكرون الله كثيرا والذاكرات ».
وروى أحمد عن سهل بن معاذا الجهني عن أبيه عن رسول الله ﷺ قال: « إن رجلا سأله فقال: أي المجاهدين أعظم أجرا يا رسول الله؟ قال ﷺ أكثرهم لله تعالى ذكرا، قال فأي الصائمين أكثر أجرا؟ قال ﷺ أكثرهم لله عز وجل ذكرا، ثم ذكر الصلاة والزكاة والحج والصدقة كل ذلك يقول رسول الله ﷺ أكثرهم لله ذكرا، فقال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما: ذهب الذاكرون بكل خير، فقال ﷺ: أجل ».
هؤلاء الذين جمعوا هذه الأوصاف يمحو عنهم ذنوبهم ويؤتيهم الأجر العظيم في جنات النعيم.
قصة زينب بنت جحش
زواجها لزيد بن حارثة مولى رسول الله ﷺ، طلاقها منه، زواجها لرسول الله ﷺ لإبطال عادة جاهلية، وهي إعطاء المتبنّى حكم الابن في حرمة زواج امرأته بعد طلاقها.
[سورة الأحزاب (33): الآيات 36 الى 40]
وما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَرًا زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)
تفسير المفردات
تقول ما كان لفلان أن يفعل كذا: أي لا ينبغي له، والخيرة: الاختيار، مبينا: أي ظاهر الانحراف عن سنن الصواب، أنعم الله عليه: أي بالإسلام، وأنعمت عليه: أي بالعتق ونيل الحرية، واتق الله: أي في أمرها ولا تطلقها ضرارا، وتخشى الناس: أي تخاف من اعتراضهم وقولهم إن محمدا تزوج امرأة ابنه، والوطر: الحاجة والمراد أنه لم يبق له بها حاجة الزوجية فطلقها، زوجنا كها: أي جعلناها زوجة لك، والحرج: المشقة، فرض له: أي قدّر من قولهم فرض للجند كذا أي قدر لهم، سنة الله: أي سن الله ذلك سنة، خلوا: أي مضوا، قدرا مقدورا: أي مقضيا وكائنا لا بد منه
المعنى الجملي
بعد أن أمر الله نبيه أن يخير زوجاته بين البقاء معه والتسريح سراحا جميلا وفهم من هذا أن الرسول ﷺ لا يريد ضررا لغيره، فمن كان ميله إلى شيء مكّنه منه وترك حظ نفسه لحظ غيره - ذكر هنا أن زمام الاختيار ليس بيد الإنسان في كل شيء كما أعطى ذلك للزوجات، بل هناك أمور لا اختيار لمؤمن ولا مؤمنة فيها وهي ما حكم الله فيه، فما أمر به فهو المتّبع، وما أراد النبي ﷺ فهو الحق، ومن خالفهما فقد ضل ضلالا مبينا.
وقد نزلت هذه الآيات في زينب بنت جحش بنت عمة النبي ﷺ أميمة بنت عبد المطلب وقد خطبها رسول الله ﷺ على مولاه زيد بن حارثة فأبت وأبى أخوها عبد الله بن جحش فنزل: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إلخ فلما نزلت قالا رضينا يا رسول الله فأنكحها إياه وساق عنه إليها مهرها ستين درهما وخمارا وملحفة ودرعا وإزارا وخمسين مدّا من طعام وثلاثين صاعا من تمر.
والحكمة في هذا الزواج الذي لم يبال فيه النبي بإباء زينب ورغبتها عن زيد، أن التصاق الأدعياء بالبيوت واتصالهم بأنسابها كان أمرا تدين به العرب وتعده أصلا ترجع إليه في الحسب والشرف، وكانوا يعطون، الدعي جميع حقوق الأبن وجرون عليه الأحكام التي يعطونها للابن حتى الميراث وحرمة النسب - فأراد الله محو ذلك بالإسلام حتى لا يعرف إلا النسب الصريح ومن ثم قال في أول السورة « وما جعل أدعياء كم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحقّ وهو يهدى السّبيل. ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله » وبهذا حرم على المسلمين أن ينسبوا الدعي إلى من تبناه، وأن يكون للمتبنّى إلا حق المولى والأخ في الدين وحظر عليهم أن يقتطعوا له من حقوق الابن لا قليلا ولا كثيرا.
وما رسخ في النفوس بحكم العادة لا يمكن التخلص منه إلا بإرادة قوية تسخر بسلطانها، ولا تجعل لها حكما في الأعمال إذا كانت المصلحة في خلاف ذلك، ومن ثم ألهم الله رسوله أن يلغى هذا الحكم بالعمل كما ألغى بالقول في أحد عتقاه. ومن ثمّ أرغم بنت عمته لتتزوج بزيد وهو متبناه ليكون هذا الزواج مقدمة لتشريع إلهي جديد.
ذلك أنه بعد أن تزوجها زيد شمخت بأنفها عليه وجعلت تفخر عليه بنسبها، فاشتكى منها إلى رسول الله ﷺ المرة بعد المرة وهو عليه السلام يغلبه الحياء في تنفيذ حكم الله ويقول لزيد: أمسك عليك زوجك واتق الله، إلى أن غلب حكم الله وسمح لزيد بطلاقها، ثم تزوجها بعد ذلك ليمزّق حجاب تلك العادة كما قال: « لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا » ثم أكد هذا بقوله: « ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا »
الإيضاح
(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) أي ليس لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله قضاء أن يتخيروا من أمرهم غير الذي قضى فيهم ويخالفوا أمر الله ورسوله وقضاءهما ويعصياهما
والخلاصة - لا ينبغي لمؤمن ولا مؤمنة أن يختارا أمرا قضى الرسول بغيره ثم أكد ما سلف بقوله:
(وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا) أي ومن يعص الله ورسوله فيما امرا ونهيا فقد جار عن قصد السبيل وسلك غير طريق الهدى والرشاد، وقد علمت فيما سلف سبب نزول هذه الآية.
ونحو الآية قوله: « فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ».
ثمّ ذكّر الله نبيه بما وقع منه ليزيده تثبيتا على الحق، وليدفع عنه ما حاك في صدور ضعاف العقول ومرضى القلوب فقال:
(وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ) أي واذكر أيها الرسول حين قولك لمولاك الذي أنعم الله عليه فوفّقه للاسلام، وأنعمت عليه بحسن تربيته وعتقه وتقريبه منك: أمسك عليك زوجك زينب، واتق الله في أمرها، ولا تطلقها ضرارا، وتعللا بتكبرها وشموخا بأنفها، فإن الطلاق يشينها، وربما لا يجد بعدها خيرا منها.
وفي التعبير بأنعمت عليه إيماء إلى وجه العتب بذكر الحال التي تنافى ما صدر منه عليه السلام من إظهار خلاف ما في نفسه، إذ هذا إنما يكون حين الاستحياء والاحتشام، وكلاهما مما لا ينبغي أن يكون مع زيد مولاه (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ) أي وأنت تعلم أن الطلاق لا بد منه، بما ألهمك الله أن تمتثل أمره بنفسك لتكون أسوة لمن معك ولمن يأتي بعدك، وإنما غلبك في في ذلك الحياء وخشية أن يقولوا تزوج محمد مطلّقة متبناه، فأنت تخفى في نفسك ما الله به من الحكم الذي ألهمك (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) أي وتخاف من اعتراض الناس والله الذي أمرك بهذا كله أحق وحده بأن تخشاه، فكان عليك أن تمضى في الأمر قدما، تعجيلا لتنفيذ كلمته وتقرير شرعه.
ثم زاد الأمر بيانا بقوله:
(فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَرًا زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا) أي فلما قضى زيد منها حاجته وملّها ثم طلقها جعلناها زوجا لك، لترتفع الوحشة من نفوس المؤمنين ولا يجدوا في أنفسهم حرجا من أن يتزوجوا نساء كنّ من قبل أزواجا لأدعيائهم.
(وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا) أي وكان ما قضى الله من قضاء كائنا لا محالة أي إن قضاء الله في زينب أن يتزوجها رسول الله كائن ماض لا بد منه.
روى البخاري والترمذي « أن زينب رضي الله عنها كانت تفخر على أزواج النبي ﷺ تقول: زوجكن أهلوكنّ وزوّجنى الله تعالى من فوق سبع سموات » وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال: « كانت تقول للنبي ﷺ إني لأدلّ عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدلّ بهن: إن جدى وجدك واحد، وإني أنكحك الله إياي من السماء، وإن السفير لجبريل عليه السلام ».
ثم أكد ما سلف بقوله:
(ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ) أي ليس على النبي حرج فيما أحل الله له من نكاح امرأة من تبناه بعد فراقه إياها.
ثم بين أن الرسول ﷺ ليس بدعا في الرسل فيما أباح له من الزوجات والسراري فقال:
(سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) أي إن الله سن بك أيها الرسول سنة أسلافك من الأنبياء الذين مضوا من قبل فيما أباح لهم من الزوجات والسراري، فقد كان لسليمان وداود وغيرهما عدد كثير منهن.
وفي هذا ردّ على اليهود الذين عابوه ﷺ (وحاشاه) بكثرة الأزواج.
(وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا) أي وكان أمر الله الذي يقدره كائنا لا محالة وواقعا لا محيد عنه، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
ثم وصف الذين خلوا بصفات الكمال والتقوى وإخلاص العبادة له وتبليغ رسالته فقال:
(الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ) أي هؤلاء الذين جعل محمد متبعا سنتهم وسالكا سبيلهم هم الذين يبلغون رسالات ربهم إلى من أرسلوا إليهم، ويخافون الله في تركهم تبليغ ذلك، ولا يخافون سواه.
والخلاصة - كن من أولئك الرسل الكرام، ولا تخش أحدا غير ربك، فإنه يحميك ممن يريدك بسوء أو يمسك بأذى.
(وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيبًا) أي وكفى الله ناصرا ومعينا وحافظا لأعمال عباده ومحاسبا لهم عليها.
ولما تزوج رسول الله ﷺ زينب قالوا تزوج حليلة ابنه فأنزل الله:
(ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) أي ما كان لك أن تخشى أحدا من الناس بزواج امرأة متبناك لا ابنك، فإنك لست أبا لأحد من الناس، ولكنك رسول الله في تبليغ رسالته إلى الخلق، فأنت أب لكل فرد في الأمة فيما يرجع إلى التوقير والتعظيم ووجوب الشفقة عليهم كما هو دأب كل رسول مع أمته.
وخلاصة ذلك - ليس محمد بأب لأحد منكم أبوة شرعية يترتب عليها حرمة المصاهرة ونحوها، ولكنه أب للمؤمنين جميعا فيما يجب عليهم من توقيره وإجلاله وتعظيمه كما أن عليه أن يشفق عليهم ويحرص على ما فيه خيرهم وفائدتهم في المعاش والمعاد وما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة.
أولاد النبي ﷺ
ولد للنبي ﷺ من خديجة ثلاثة ذكور: القاسم والطيب والطاهر، وماتوا صغارا لم يبلغ أحد منهم الحلم، وولد له إبراهيم من مارية القبطية ومات رضيعا، وولد له من خديجة أربع بنات: زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، والثلاث الأول متن في حياته ﷺ. وماتت فاطمة بعد أن قبض ﷺ إلى الرفيق الأعلى بستة شهور.
(وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) فيعلم من الأجدر بالبدء به من الأنبياء، ومن الأحق بأن يكون خاتمهم، وبعلم المصالح في ذلك.
ونحو الآية قوله: « اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ».
[سورة الأحزاب (33): الآيات 41 الى 44]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر ما ينبغي أن يكون عليه النبي ﷺ مع ربه من تقواه وإخلاصه له في السر والعلن، وما ينبغي أن يكون عليه مع أهله وأقار به من راحتهم وإيثارهم على نفسه فيما يطلبون كما يومئ إلى ذلك قوله: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) إلخ، أرشد عباده إلى تعظيمه تعالى وإجلاله بذكره والتسبيح له بكرة وأصيلا، فهو الذي يرحمهم، وملائكته يستغفرون لهم، كى يخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، وكان بعباده المؤمنين رحيما.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا) أي أيها الذين صدقوا الله ورسوله، اذكروا الله بقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم ذكرا كثيرا في جميع أحوالكم جهد الطاقة، لأنه المنعم عليكم بأنواع النعم، وصنوف المنن.
(وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) أي ونزهوه عما لا يليق به طرفى النهار، لأن وقت البكرة وقت القيام من النوم وهو يعدّ كأنه حياة جديدة بعد موت، ووقت الأصيل وقت الانتهاء من العمل اليومي، فيكون الذكر شكرا له على توفيقه لأداء الأعمال، والقيام بالسعي على الأرزاق فلم يبق إلا السعي إلى ما يقربه من ربه بالعمل للآخرة.
ثم ذكر السبب في هذا الذكر والتسبيح فقال:
(هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) أي إن ربكم الذي تذكرونه الذكر الكثير وتسبحونه بكرة وأصيلا - هو الذي يرحمكم ويثنى عليكم في الملإ من عباده، وتستغفر لكم ملائكته.
وفي هذا من التحريض على ذكره والتسبيح له مالا يخفى.
(لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي إنه برحمته وهدايته ودعاء الملائكة لكم - أخرجكم من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان.
(وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فانه هداهم إلى الحق الذي جهله غيرهم، وبصصّرهم الطريق الذي حاد عنه سواهم من الدعاة إلى الكفر، وأما في الآخرة فإنه آمنهم من الفزع الأكبر وأمر الملائكة أن يتلقوهم بالبشارة بالفوز بالجنة والنجاة من النار، وهذا ما أشار إليه بقوله:
(تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) أي تحييهم الملائكة بذلك إذا دخلوا الجنة، كما قال تعالى: « وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ ».
(وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا) أي وهيأ لهم ثوابا حسنا في الآخرة يأتيهم بلا طلب بما يتمتعون به من لذات المآكل والمشارب والملابس والمساكن في فسيح الجنات مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
[سورة الأحزاب (33): الآيات 45 الى 48]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَداعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عز اسمه تأديبه لنبيه في ابتداء السورة، وذكر ما ينبغي أن يكون عليه مع أهله - ذكر ما ينبغي أن يكون عليه مع الخلق كافة.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) أي يا أيها الرسول إنا بعثناك شاهدا على من بعثت إليهم تراقب أحوالهم، وترى أعمالهم، وتتحمل الشهادة بما صدر منهم من تصديق وتكذيب، وسائر ما يفعلون من الهدى والضلال، وتؤدّى ذلك يوم القيامة، وأرسلناك مبشرا لهم بالجنة إن صدّقوك، وعملوا بما جئتهم به من عند ربك، ومنذرا لهم بالنار يدخلونها فيعذبون فيها إن هم كذبوك وخالفوا ما أمرتهم به ونهيتهم عنه.
(وَداعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجًا مُنِيرًا) أي وداعيا الخلق إلى الإقرار بوحدانيته تعالى، سائر ما يجب له من صفات الكمال، وإلى عبادته، ومراقبته في السر والعلن - وسراجا منيرا يستضىء بك الضالون في ظلمات الجهل والغواية، ويقتبس من نورك المهتدون، فيسلكون مناهج الرشد والسعادة.
(وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا) أي وراقب أحوال أمتك، وبشر المؤمنين بأن لهم فضلا كبيرا على سائر الأمم، فإنهم سيغيّرون نظم المجتمع من ظلم وجور إلى عدل وصلاح، ويدخلون الأمم المتعثّرة في أثواب الضلال، في زمرة الأمم التي عليها صلاح البشر في مستأنف الزمان.
أخرج ابن جرير وعكرمة عن الحسن أنه قال: لما نزل قوله: « لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ » قالوا: يا رسول الله قد علمنا ما يفعل بك فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله: « وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا ».
ولما أمره الله بما يسرّ نهاه عما يضر، فقال:
(وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا) أي ولا تطع قول كافر ولا منافق في أمر الدعوة، وألن الجانب في التبليغ، وارفق في الإنذار، واصفح عن أذاهم، واصبر على ما ينالك منهم، وفوّض أمورك إلى الله، وثق به فإنه كافيك جميع من دونك، حتى يأتيك أمره وقضاؤه، وهو حسبك في جميع أمورك، وكالئك وراعيك.
[سورة الأحزاب (33): آية 49]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحًا جَمِيلًا (49)
تفسير المفردات
النكاح هنا: العقد، والمس معروف والمراد به قربان المرأة، ومن أدب القرآن الكريم التعبير عنه بالملامسة والمماسة، والقربان والتغشى والإتيان، والعدة: الشيء المعدود، وعدّة المرأة: الأيام التي بانقضائها يحل بها التزوج، فمتعوهن: أي أعطوهن المتعة، وهي قميص وخمار (ما تغطى به المرأة رأسها) وملحفة (ما تلتحف به من قرنها إلى قدمها - ملاية) سرحوهن: أي أخرجوهن من منازلكم، سراحا جميلا: أي إخراجا مشتملا على ليّن الكلام خاليا من الأذى.
المعنى الجملي
أدب الله نبيه بمكارم الأخلاق بقوله: يا أيها النبي اتق الله، وثنى بتذكيره بحسن معاملة أزواجه بقوله: يا أيها النبي قل لأزواجك، وثلث بذكر معاملته لأمته بقوله: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا، وكان كلما ذكر للنبي مكرمة، وعلمه أدبا ذكر للمؤمنين ما يناسبه، فأرشد المؤمنين فيما يتعلق بجانبه تعالى بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا، وفيما يتعلق بما تحت أيديهم من الزوجات بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ، وفيما يتعلق بمعاملتهم لنبيهم بقوله لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلخ، وقوله: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
الإيضاح
أي يا أيها الذين آمنوا إذا عقدتم على المؤمنات وتزوجتموهن ثم طلقتموهن من قبل المسيس، فلا عدّة لكم عليهن بأيام يتربصن بها تستوفون عددها، ولكن اكسوهن كسوة تليق بحالهن إذا خرجن وانتقلن من بيت إلى آخر، ويختلف ذلك باختلاف البيئة والبلد الذي تعيش فيه المرأة، وأخرجوهن إخراجا جميلا، فهيئوا لهن من المركب والزاد وجميل المعاملة ما تقرّ به أعينهن ويسرّ به أهلوهن، ليكون في ذلك بعض السلوة مما لحقهن من أذى بقطع العشرة التي كنّ ينتظرن دوامها، ومن الخروج من بيوت كن يرجون أن تكون هي المقام إلى أن يلاقين ربهن أو تموت عنهن بعولتهن.
روى البخاري عن سهل بن سعد وأبى أسيد رضي الله عنهما قالا: « إن رسول الله ﷺ تزوج أميمة بنت شراحيل، فلما أن دخلت عليه بسط يده إليها، فكأنها كرهت ذلك، فأمر أبا أسيد أن يجهزّها ويكسوها ثوبين رازقيين (ضرب من الثياب مشهور في ذلك الحين).
[سورة الأحزاب (33): آية 50]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50)
تفسير المفردات
الأجور هنا: المهور، وما ملكت يمينك: أي ما أخذته من المغانم، خالصة لك: أي هي خاصة بك، حرج: أي ضيق ومشقة
الإيضاح
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ) أي يا أيها النبي إنا أحللنا لك الأزواج اللاتي أعطيتهن مهورهن، وقد كان مهره عليه الصلاة والسلام لنسائه اثنتي عشرة أوقية ونصفا أي خمسمائة درهم إلا أم حبيبة بنت أبي سفيان فإنه أمهرها عنه النجاشي رحمه الله أربعمائة دينار.
(وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ) أي وأحللنا لك الإماء اللواتى سبيتهن فملكتهن بالسباء، وصرن لك من الفيء بفتح الله عليك، وقد ملك صفية بنت حيى ابن أخطب في سبى خيبر، ثم أعتقها، وجعل صداقها عتقها، وجويرية بنت الحارث من بني المصطلق أعتقها، ثم تزوجها، وملك ريحانة بنت شمعون النضرية، ومارية أم إبراهيم، وكانتا من السراري.
(وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ) أي وأحللنا لك بنات عمك وبنات عماتك، وبنات خالك وبنات خالاتك المهاجرات معك دون من لم يهاجرن.
روى السدي عن أبي صالح عن أم هانئ قالت: « خطبنى رسول الله ﷺ، فاعتذرت إليه، فعذرنى ثم أنزل الله تعالى: (إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ - إلى قوله - اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ) قالت: فلم أكن أحل له، ولم أكن ممن هاجر معه، كنت من الطلقاء ».
(وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) أي وأحللنا لك التمتع بالمرأة المؤمنة التي تهب نفسها لك بلا مهر إن أردت ذلك.
وهذه الإباحة خاصة لك من دون المؤمنين، فلو وهبت امرأة نفسها لرجل وجب عليه لها مهر مثلها، كما حكم بذلك رسول الله في بروع بنت واشق لما فوضت نفسها ومات عنها زوجها فحكم لها بصداق مثلها.
والموت والدخول سواء في تقرير مهر المثل، وثبوت مهر المثل في المفوّضة لغير النبي ﷺ، فأما هو فلا يجب عليه للمفوّضة شيء لو دخل بها، لأن له أن يتزوج بغير صداق ولا ولي ولا شهود، كما في قصة زينب بنت جحش رضي الله عنها.
(قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) أي قد علم الله ما ينبغي فرضه على المؤمنين في أزواجهم من شروط العقد، وأنه لا تحل لهم امرأة بلفظ الهبة، وبدون شهود، وفى الإماء بشراء أو غيره أن تكون ممن تحل لمالكها كالكتابية بخلاف الوثنية والمجوسية - وهذه الجملة معترضة بين ما سلف وما سيأتي.
ثم ذكر العلة في اختصاصه عليه الصلاة والسلام بما تقدم من الأحكام بقوله:
(لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ) أي أحللنا لك ذلك حتى لا يكون عليك حرج وضيق في نكاح من نكحت من الأصناف السالفة (وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) أي وكان ربك غفورا لك، ولأهل الإيمان بك، رحيما بك وبهم أن يعاقبهم على سالف ذنب صدر منهم بعد توبتهم.
[سورة الأحزاب (33): آية 51]
تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51)
تفسير المفردات
ترجى: أي تؤخر من الإرجاء وهو التأخير، وقرىء، ترجىء وتؤرى: أي تضم وتضاجع، ابتغيت: أي طلبت، عزلت: أي تجنبت، أدنى: أي أقرب، تقرّ: أي تسرّ.
الإيضاح
(تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) أي تؤخر مضاجعة من تشاء من نسائك، وتضاجع من تشاء، ولا يجب عليك قسم بينهن، بل الأمر في ذلك إليك، على أنه كان يقسم بينهن.
(وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ) أي ومن دعوت إلى فراشك، وطلبت صحبتها ممن عزلت عن نفسك بالطلاق، فلا ضيق عليك في ذلك.
والخلاصة: إنه لا ضير عليه إذا أراد إرجاع من طلقها من قبل.
روى ابن جرير عن أبي رزين قال: « لما نزلت آية التخيير أشفقن أن يطلقهن، فقلن: يا رسول الله اجعل لنا من مالك، ومن نفسك ما شئت، ودعنا كما نحن فنزلت هذه الآية، فأرجأ رسول الله ﷺ بعضهن، وآوى إليه بعضهن وكان ممن آوى إليه عائشة، وحفصة، وزينب، وأم سلمة، وكان يقسم بينهن سواء، وأرجأ منهن خمسا: أم حبيبة، وميمونة، وسودة، وصفية، وجويرية، فكان لا يقسم بينهن ما شاء ».
ثم بين السبب في الإيواء والإرجاء، وأنه كان ذلك في مصلحتهن، فقال:
(ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ) أي إنهن إذا علمن أن الله قد وضع عنك الحرج في القسم، فإن شئت قسمت، وإن شئت لم تقسم لا جناح عليك في أي ذلك فعلت، وأنت مع هذا تقسم لهن اختيارا منك لا وجوبا عليك - فرحن بذلك، واستبشرن به، واعترفن بمنتك عليهن في قسمك لهن، وتسويتك بينهن، وإنصافك لهن، وعدلك بينهن.
(وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ) من الميل إلى بعضهن دون بعض مما لا يمكن دفعه، ومن الرضا بما دبر له في حقهن من تفويض الأمر إليه ﷺ.
روى أحمد عن عبد الله بن يزيد عن عائشة قالت: كان رسول الله يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول: « اللهم هذا فعلى فيما أملك فلا تلمنى فيما تملك ولا أملك » يعني القلب، وزيادة الحب لبعض دون بعض.
وفي هذا حث على تحسين ما في القلوب، ووعيد لمن لم يرض منهن بما دبر الله له من ذلك، وفوضه إلى مشيئته، وبعث على تواطؤ قلوبهن، والتصافي بينهن، والتوافق على رضا رسول الله ﷺ.
(وَكانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا) أي وكان الله عليما بالسرائر، حليما فلا يعاجل أهل الذنوب بالعقوبة، ليتوب منهم من شاء له أن يتوب، وينيب من ذنوبه من ينيب.
[سورة الأحزاب (33): آية 52]
لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أنه لم يوجب على نبيه القسم لنسائه، وأمره بتخييرهن فاخترن الله ورسوله - أردف ذلك ذكر ما جازاهم به من تحريم غيرهن عليه ومنعه من طلاقهن بقوله:
(وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ).
الإيضاح
تتضمن الآية الكريمة حكمين: ألا يتزوج عليه السلام غيرهن، ولا أن يستبدل بهن غيرهن، وإلى ذلك أشار بقوله:
(1) (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) أي لا يحل لك النساء من بعد هؤلاء التسع اللاتي في عصمتك اليوم كفاء اختيارهن الله ورسوله وحسن صنيعهن في ذلك.
أخرج أبو داود في ناسخه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أنس قال: « لما خيّرهن فاخترن الله ورسوله ﷺ قصره سبحانه عليهن ».
وروي عن ابن عباس أنه قال في الآية: (حبسه الله تعالى عليهن كما حبسهنّ عليه).
(2) (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) أي ولا يحل لك أن تستبدل بهن أزواجا غيرهن، بأن تطلق واحدة منهن وتنكح بدلها أخرى مهما كانت بارعة في الحسب والجمال إلا ما ملكت يمينك منهن، وقد ملك بعدهن مارية القبطية أهداها له المقوقس فتسرّاها وأولدها إبراهيم ومات رضيعا وفى الآية دليل على جواز النظر إلى من يريد زواجها.
وقد روى أبو داود أن النبي ﷺ قال: « إذا خطب أحدكم المرأة، فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل »
وعن المغيرة بن شعبة قال: « خطبت امرأة فقال لي النبي ﷺ: هل نظرت إليها؟ قلت لا. قال: انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما ».
(وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا) أي وكان الله حافظا ومطلعا على كل شيء، عليما بالسر والنجوى، فاحذروا تجاوز حدوده، وتخطى حلاله إلى حرامه.
آية الحجاب، وما فيها من أحكام وآداب
[سورة الأحزاب (33): الآيات 53 الى 54]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعًا فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54)
تفسير المفردات
إناه: أي نضجه: يقال إني الطعام يأني أني أي أدرك وحان نضجه، وفيه لغات: إني بكسر الهمزة وإني بفتحها مقصورا وممدودا قال الحطيئة:
وأخّرت العشاء إلى سهيل أو الشّعرى فطال بي الأناء
فانتشروا: أي فتفرقوا ولا تلبثوا، مستأنسين لحديث، أي مستمعين له، متاعا: أي شيئا تتمتعون به من ماعون وغيره، أطهر لقلوبكم: أي أكثر تطهرا من الخواطر الشيطانية التي تخطر للرجال في أمر النساء وللنساء في شأن الرجال.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر حال النبي ﷺ مع أمته بقوله: « يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا » أردف ذلك بيان حال المؤمنين مع النبي ﷺ إرشادا لما يجب عليهم نحوه من الاحترام والتعظيم في خلوته وفى الملإ، فأبان أنه يجب عدم إزعاجه إذا كان في الخلوة بقوله: « لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ » إلخ.
وأنه يجب إجلاله إذا كان في الملإ بقوله: « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ».
روي أن هذه الآية نزلت يوم تزوج النبي ﷺ زينب بنت جحش، فقد أخرج أحمد والبخاري ومسلم وابن جرير وابن مردويه والبيهقي عن أنس قال: « لما تزوج رسول الله ﷺ زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا، ثم جلسوا يتحدثون وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام، فلما قام قام من قام وقعد ثلاثة نفر، فجاء النبي ﷺ ليدخل فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا فانطلقت فأخبرت النبي ﷺ أنهم قد انطلقوا فجاء حتى دخل فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه فأنزل الله: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ) الآية.
الإيضاح
أدب الله عباده بآداب ينبغي أن يتخلقوا بها، لما فيها من الحكم الاجتماعية والمزايا العمرانية فقال:
(1) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) أيأيها الذين آمنوا بالله ورسوله لا تدخلوا بيوت نبيه إلا أن تدعوا إلى طعام تطعمونه غير منتظرين إدراكه ونضجه.
وخلاصة ذلك - إنكم إذا دعيتم إلى وليمة في بيت النبي ﷺ فلا تدخلوا البيت إلا إذا علمتم أن الطعام قد تم نضجه، وانتهى إعداده، إذ قبل ذلك يكون أهل البيت في شغل عنكم، وقد يلبسن ثياب البذلة والعمل فلا يحسن أن تروهنّ وهنّ على هذه الحال، إلى أنه ربما بدا من إحداهن ما لا يحل النظر إليه.
(2) (وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) أي ولكن إذا دعاكم الرسول ﷺ فادخلوا البيت الذي أذن لكم بدخوله، فإذا أكلتم الطعام الذي دعيتم إلى أكله فتفرقوا واخرجوا ولا تمكثوا فيه لتتبادلوا ألوان الحديث وفنونه المختلفة.
أخرج عبد بن حميد عن الربيع عن أنس قال: كانوا يتحينون فيدخلون بيت النبي ﷺ فيجلسون فيتحدثون ليدرك الطعام فأنزل الله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سليمان بن أرقم قال: نزلت هذه في الثقلاء ومن ثم قيل هي آية الثقلاء ثم علل ذلك بقوله:
(إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) أي إن ذلك اللّبث والاستئناس والدخول على هذا الوجه كان يؤذي النبي ﷺ، لأنه كان يمنعه من قضاء بعض حاجه، إلى ما فيه من تضييق المنزل على أهله، لكنه كان يستحيى من إخراجكم ومنعكم مما يؤذيه، والله لم يترك الحق وأمركم بالخروج.
وفي هذا إيماء إلى أن اللبث يحرم على المدعو إلى طعام بعد أن يطعم إذا كان في ذلك أذى لرب البيت، ولو كان البيت غير بيت النبي ﷺ فالتثقيل مذموم في كل مكان، محتقر لدى كل إنسان.
وعن عائشة وابن عباس رضي الله عنهما « حسبك في الثقلاء أن الله عز وجل لم يحتملهم ».
وعلى الجملة فللدعوة إلى المآدب نظم وآداب خاصة أفردت بالتأليف ولا سيما في العصر الحديث.
وجعلوا التحلل منها وترك اتباعها مما لا تسامح فيه.
(3) (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعًا فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) أي وإذا سألتم أزواج رسول الله ﷺ ونساء المؤمنين اللواتى لسن لكم بأزواج، شيئا تتمتعون به من ماعون وغيره فاطلبوا منهن ذلك من وراء ستر بينكم وبينهن.
أخرج البخاري وابن جرير وابن مردويه عن أنس رضي الله عنه قال: قال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله يدخل عليك البرّ والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب في صبيحة عرس رسول الله ﷺ بزينب بنت جحش في ذي القعدة سنة خمس من الهجرة، وهي مما وافق تنزيلها قول عمر كما في الصحيحين عنه قال: وافقت ربي عز وجل في ثلاث، قلت: يا رسول الله لو اتّخذت من مقام إبراهيم مصلى، فأنزل الله: « وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى » وقلت: يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو حجبتهن فأنزل الله آية الحجاب، وقلت لأزواج النبي ﷺ لما تمالأن عليه في الغيرة « عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ » فنزلت كذلك.
ثم بين سبب ما تقدم بقوله:
(ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) أي ذلك الدخول بالإذن وعدم الاستئناس للأحاديث أطهر لقلوبكم وقلوبهن من وساوس الشيطان والريب، لأن العين رسول القلب، فإذا لم تر العين لم يشته القلب، فالقلب عند عدم الرؤية أطهر، وعدم الفتنة حينئذ أظهر، وجاء في الأثر « النظر سهم مسموم من سهام إبليس » وقال الشاعر:
والمرء مادام ذاعين يقلّبها في أعين العين موقوف على الخطر
يسرّ مقلته ما ساء مهجته لا مرحبا بانتفاع جاء بالضرر
ولما ذكر ما ينبغي من الآداب حين دخول بيت الرسول أكده بما يحملهم على ملاطفته وحسن معاملته بقوله:
(وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ) أي وما كان ينبغي لكم أن تفعلوا في حياته ﷺ فعلا يتأذى به ويكرهه كاللبث والاستئناس للحديث الذي كنتم تفعلونه، فإن الرسول يسعى لخيركم ومنفعتكم في دنياكم وآخرتكم، فعليكم أن تقابلوا بالحسنى كفاء جليل أعماله.
ولما كان ﷺ قد قصر عليهن قصرهن الله عليه بقوله:
(وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا) أي ولا تنكحوا أزواجه أبدا من بعد مفارقتهن بموت أو طلاق، زيادة في شرفه، وإظهارا لعظمته وجلاله، ولأنهن أمهات المؤمنين، والمرء لا يتزوج أمه.
ثم بين السبب فيما تقدم بقوله:
(إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا) أي إن ذلك الإيذاء وزواج نسائه من بعده أمر عظيم، وخطب جلل، لا يقدر قدره غير الله تعالى.
ولا يخفى ما في هذا من شديد الوعيد وعظيم التهديد على هذا العمل - إلى ما فيه من تعظيم شأن الرسول وإيجاب حرمته حيا وميتا.
ثم بالغ في الوعيد وزاد في التهديد بقوله:
(إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) أي إن ما تكنّه ضمائركم، وتنطوى عليه سرائركم، فالله يعلمه، إذ لا تخفى عليه خافية « يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ » ثم يجازيكم بما صدر منكم من المعاصي البادية والخافية.
والكلام وإن كان عاما بظاهره فالمقصود ما يتعلق بزوجاته عليه الصلاة والسلام.
وسبب نزول الآية أنه لما نزلت آية الحجاب قال رجل: أنهى أن نكلّم بنات أعمامنا إلا من وراء حجاب؟ لئن مات محمد لنتزوجنّ نساءه.
وأخرج جويبر عن ابن عباس « أن رجلا إني بعض أزواج النبي فكلمها وهو ابن عمها، فقال النبي ﷺ: لا تقومنّ هذا المقام بعد يومك هذا، فقال يا رسول الله إنها ابنة عمى، والله ما قلت منكرا ولا قالت لي، قال النبي ﷺ: قد عرفت ذلك: إنه ليس أحد أغير من الله تعالى، وإنه ليس أحد أغير مني، فمضى ثم قال: ما يمنعني من كلام ابنة عمى؟ لأتزوجنّها من بعده، فأنزل الله الآية، فأعتق الرجل رقبة، وحمل على عشرة أبعرة في سبيل الله وحج ماشيا لأجل كلمته ».
وروي أن بعض المنافقين قال حين تزوج رسول الله ﷺ أم سلمة بعد أبى سلمة وحفصة بعد خنيس بن حذافة: ما بال محمد يتزوج نساءنا؟ والله لو قد مات لأجلنا السهام على نسائه فنزلت.
[سورة الأحزاب (33): آية 55]
لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن نساء النبي لا يكلّمن إلا من وراء حجاب - أردف ذلك استثناء بعض الأقارب ونساء المؤمنين والأرقاء، لما في الاحتجاب عن هؤلاء من عظيم المشقة، للحاجة إلى الاختلاط بهؤلاء كثيرا.
روي أنه لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب: أو نحن يا رسول الله نكلمهنّ من وراء حجاب؟ فنزلت.
الإيضاح
لا إثم على أزواج النبي ﷺ في ترك الحجاب حين دخول آبائهن، سواء أكان الأب أبا من النسب أم من الرضاع، أو أبنائهن نسبا أو رضاعا، أو إخوانهن أو أبناء إخوانهن أو أبناء أخواتهن، أو النساء المسلمات القربى منهن والبعدى، أو ما ملكت أيمانهن من العبيد، لما في الاحتجاب عنهن من المشقة، لأنهم يقومون بالخدمة عليهن.
واخشين الله في السر والعلن فإنه شهيد على كل شيء، لا تخفى عليه خافية، وهو يجازي على العمل خيرا أو شرا.
والخلاصة - إن الله شاهد عليكم عند اختلاء بعضكم ببعض، فخلوتكم مثل ملئكم، فاتقوه فيما تأتون وما تذرون.
[سورة الأحزاب (33): آية 56]
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر وجوب احترام النبي حال خلوته بقوله: « لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ » أردف ذلك بيان ماله من احترام في الملإ الأعلى بقوله: « إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ » وفي الملإ الأدنى بقوله: « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ».
الإيضاح
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ) الصلاة من الله الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار، فالمعنى كما قال ابن عباس: إن الله يرحم النبي، والملائكة يدعون له ويطلبون له المغفرة.
وقد أخبر الله سبحانه عباده بمنزلة عبده ونبيه في الملإ الأعلى، بأنه يثنى عليه لدى ملائكته المقربين، وأن ملائكته يصلون عليه طالبين له المغفرة من ربه.
وقد أمرنا بأن نصلى عليه بقوله:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) أي يا أيها الذين آمنوا ادعوا له بالرحمة، وأظهروا شرفه بكل ما تصل إليه قدرتكم، من حسن متابعته، والانقياد لأمره، في كل ما يأمر به، والصلاة والسلام عليه بألسنتكم.
روى البخاري بسنده عن كعب بن عجرة قال: « قيل يا رسول الله أما السلام عليك فقد عرفنا، فكيف الصلاة؟ قال: قولوا اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد ».
روى عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه « أن رسول الله ﷺ جاء ذات يوم والبشرى ترى في وجهه، فقلنا إنا لنرى البشرى في وجهك، فقال: جاءني جبريل فقال: يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول: أما يرضيك أن لا يصلى عليك أحد من أمتك إلا صلّيت عليه عشرا، ولا يسلم عليك أحد من أمتك إلا سلّمت عليه عشرا »
[سورة الأحزاب (33): آية 57]
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذابًا مُهِينًا (57)
المعنى الجملي
بعد أن أمر سبحانه باحترام نبيّه في بيته وفي الملإ - نهى عن إيذاء الله، بمخالفة أوامره، وارتكاب زواجره، وإيذاء رسوله بإلصاق عيب أو نقص به.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ) فيرتكبون ما حرمه من الكفر وسائر أنواع المعاصي، ومنهم اليهود الذين قالوا « يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ » والنصارى الذين قالوا « الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ » والمشركون الذين قالوا: الملائكة بنات الله، والأصنام شركاؤه، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.
(وَرَسُولَهُ) كالذين قالوا هو شاعر، هو كاهن، هو مجنون إلى نحو ذلك من مقالاتهم، فمن آذاه فقد آذى الله، ومن أطاعه فقد أطاع الله.
(لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي طردهم من رحمته، وأبعدهم من فضله في الدنيا، فجعلهم يتمادون في غيهم، ويدسّون أنفسهم، ويستمرئون سبل الغواية والضلالة التي ترديهم في النار، وبئس القرار، وفي الآخرة حيث يصلون نارا تشوى الوجوه.
(وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذابًا مُهِينًا) أي وهيأ لهم عذابا يؤلمهم، ويجعلهم في مقام الزراية والاحتقار، والخزي والهوان.
ولما كان من أعظم أذى رسوله أذى من تابعه، بين ذلك بقوله:
[سورة الأحزاب (33): آية 58]
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)
تفسير المفردات
بغير ما اكتسبوا: أي بغير جناية يستحقون بها الأذى، والبهتان: الكذب الذي يبهت الشخص لفظاعته، وإثما مبينا: أي ذنبا واضحا بينا.
الإيضاح
أي إن الذين ينسبون إلى المؤمنين والمؤمنات ما لم يعملوه، وما هم منه براء - قد اجترحوا كذبا فظيعا، وأتوا أمرا إدّا، وذنبا ظاهرا ليس له ما يسوّغه أو يقوم مقام العذر له.
روى الضحاك عن ابن عباس قال: أنزلت في عبد الله بن أبي وناس معه قذفوا عائشة رضي الله عنها فخطب النبي ﷺ وقال: « من يعذرنى من رجل يؤذينى ويجمع في بيته من يؤذينى؟ ».
وروى أبو هريرة « أنه قيل يا رسول الله ما الغيبة؟ قال ذكرك أخاك بما يكره، قيل أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه ».
وروي عن عائشة أنها قالت: قال رسول الله ﷺ لأصحابه: « أي الربا أربى عند الله؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال أربى الربا عند الله استحلال عرض امرئ مسلم، ثم قرأ (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) ».
[سورة الأحزاب (33): الآيات 59 الى 62]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)
تفسير المفردات
الجلابيب: واحدها جلباب وهي الملاءة التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار، يدنين: أي يرخين ويسدلن يقال للمرأة إذا زل الثوب عن وجهها أدنى ثوبك على وجهك، أدنى: أي أقرب، أن يعرفن: أي يميزن عن الإساءة، مرض: أي ضعف إيمان بانتها كهم حرمات الدين، والمرجفون: هم اليهود الذين كانوا يلفقون أخبار السوء وينشرونها عن سرايا المسلمين وجندهم، وهو من الإرجاف وهو الزلزلة وصفت بها الأخبار الكاذبة لكونها مزلزلة غير ثابتة، لنغرينك بهم: أي لنسلطنك عليهم ولنحرشنّك بهم، ملعونين: أي مبعدين من رحمة الله، ثقفوا: أي وجدوا، خلوا: أي مضوا.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن من يؤذي مؤمنا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا، زجرا لهم عن الإيذاء - أمر النبي ﷺ بأن يأمر بعض المتأذين بفعل ما يدفع الإيذاء عنهم في الجملة من التستر والتميز بالزي واللباس حتى يبتعدوا عن الأذى بقدر المستطاع.
روي أنه لما كانت الحرائر والإماء في المدينة يخرجن ليلا لقضاء الحاجة في الغيطان وبين النخيل بلا فارق بين الحرائر والإماء، وكان في المدينة فساق يتعرضون للإماء وربما تعرضوا للحرائر، فإذا كلّموا في ذلك قالوا حسبناهن إماء - فطلب من رسوله أن يأمر الحرائر أن يخالفن الإماء في الزي والتستر، ليتما يزن ويهبن، فلا يطمع فيهن طامع.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) طلب سبحانه من نبيه ﷺ أن يأمر النساء المؤمنات المسلمات، وبخاصة أزواجه وبناته، بأن يسدلن عليهن الجلابيب إذا خرجن من بيوتهن ليتميزن عن الإماء.
روى علي بن طلحة عن ابن عباس قال: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطّين وجوههن من فوق رءوسهنّ بالجلابيب ويبدين عينا واحدة.
وعن أم سلمة قالت: لما نزلت هذه الآية (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) خرج نساء الأنصار كأن رءوسهن الغربان من السكينة، وعليهن أكسية سود يلبسنها.
وإجمال ذلك - إن على المسلمة إذا خرجت من بيتها لحاجة أن تسدل عليها ملابسها بحيث تغطى الجسم والرأس ولا تبدى شيئا من مواضع الفتنة كالرأس والصدر والذراعين ونحوها.
ثم علل ذلك بقوله:
(ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ) أي ذلك التستر أقرب لمعرفتهن بالعفة فلا يتعرّض لهن، ولا يلقين مكروها من أهل الريبة، احتراما لهن منهم، فإن المتبرجة مطموع فيها، منظور إليها نظرة سخرية واستهزاء، كما هو مشاهد في كل عصر ومصر، ولا سيما في هذا العصر الذي انتشرت فيه الخلاعة، وكثر الفسق والفجور.
(وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) أي وربك غفار لما عسى أن يكون قد صدر من الإخلال بالستر، كثير الرحمة لمن امتثل أمره معهن، فيثيبه عظيم الثواب، ويجزيه الجزاء الأوفى.
ولما كان الأذى إنما يحصل من أهل النفاق ومن على شاكلتهم حذّرهم بقوله:
(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا) أي لئن لم يكفّ أهل النفاق الذين يستسرّون الكفر ويظهرون الإيمان، وأهل الرّيب الذين غلبتهم شهواتهم، وركنوا إلى الخلاعة والفجور وأهل الإرجاف في المدينة الذين ينشرون الأخبار الملفّقة الكاذبة التي فيها إظهار عورات المؤمنين وإبراز ما استكنّ من خفاياهم كضعف جنودهم وقلة سلاحهم وكراعهم ونحو ذلك مما في إظهاره مصلحة للعدو وخضد لشوكة المسلمين - لنسلطنك عليهم، وندعونّك إلى قتالهم وإجلائهم عن البلاد، فلا يسكنون معك فيها إلا قليلا وتخلو المدينة منهم بالموت أو الإخراج.
والخلاصة - إن الله سبحانه قد توعد أصنافا ثلاثة من الناس بالقتال والقتل أو النفي من البلاد وهم:
(1) المنافقون الذين يؤذون الله سرّا.
(2) من في قلوبهم مرض فيؤذون المؤمنين باتباع نسائهم.
(3) المرجفون الذين يؤذون النبي ﷺ بنحو قولهم: غلب محمد، وسيخرج محمد من المدينة، وسيؤخذ أسيرا إلى نحو ذلك مما يراد به إظهار ضعف المؤمنين، وسخط الناس منهم.
ثم بين مآل أمرهم من خزى الدنيا وعذاب الآخرة فقال:
(مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا) أي في ذلك الوقت القليل الذي يجاورونك فيه يكونون مطرودين من باب الله وبابك، وإذا خرجوا لا ينفكون عن المذلة، ولا يجدون ملجأ، بل أينما يكونوا يطلبوا ويؤخذوا ويقتّلوا تقتيلا.
ثم بين أن هذا الحكم عليهم وعلى أمثالهم بنحو هذا هو شرعة الله في أشباههم من قبل، فهو ليس ببدع فيهم كما قال:
(سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) أي إن سنته تعالى في المنافقين في كل زمان إذا استمروا في كفرهم وعنادهم ولم يرجعوا عما هم عليه أن يسلط عليهم أهل الإيمان فيذلوهم ويقهروهم، وهذه السنة لا تغير ولا تبدل، لابتنائها على الحكمة والمصلحة، ولا يقدر غيره على تغييرها.
[سورة الأحزاب (33): الآيات 63 الى 68]
يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خالِدِينَ فِيها أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (66) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)
تفسير المفردات
الساعة: يوم القيامة، وما يدريك: أي وأي شيء يعلمك وقت قيامها، سعيرا: أي نارا مستعرة متقدة، سادتنا: أي ملوكنا، وكبراءنا: أي علماءنا، ضعفين من العذاب: أي مثلى عذابنا لأنهم ضلوا وأضلوا.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر حال هذه المئات الثلاث في الدنيا وأنهم يلعنون ويهانون ويقتلون، عطف على ذلك ذكر حالهم في الآخرة، فذكّرهم بيوم القيامة، وبيّن ما يكون لهم في هذا اليوم.
الإيضاح
(يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ) أي يكثر الناس هذا السؤال، متى تقوم الساعة؟
فالمشركون يسألون عن ذلك استعجالا لها على طريق التهكم والاستهزاء والمنافقون يسألون سؤال المتعنت العالم بما يجيب به الرسول، واليهود يسألون سؤال امتحان واختبار، ليعلموا أيجيب بمثل ما في التوراة من ردّ أمرها إلى الله أم يجيب بشىء آخر؟ فلقنه الله الجواب عن هذا بجعل ردّ ذلك إليه فقال:
(قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ) الذي أحاط علمه بكل شيء، ولم يطلع عليها ملكا مقرّبا ولا نبيا مرسلا.
ثم أكد نفى علمها عن أحد غيره بقوله:
(وَما يُدْرِيكَ) أي وأي شيء يعلمك وقت قيامها؟ أي لا يعلمك به أحد أبدا.
ثم أخبر عن قرب وقوعها بقوله:
(لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا) أي لعلها توجد وتحقق بعد وقت قريب.
ونحو الآية قوله: « اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ » وقوله: « اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ » وقوله: « أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ».
وفي هذا تهديد للمستعجلين المستهزئين، وتبكيت للمتعنتين والممتحنين.
ثم بين حال السائلين عنها، المنكرين لها، بقوله:
(إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا. خالِدِينَ فِيها أَبَدًا) أي إن الله أبعد الكافرين به من كل خير، وأقصاهم من كل رحمة، وأعد لهم في الآخرة نارا تتقد وتتسعر ليصليهموها، ماكثين فيها أبدا إلى غير نهاية.
ثم أيأسهم من وجود ما يدفع عنهم العذاب من الولي والنصير بقوله:
(لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا) أي لا يجدون حينئذ من يستنقذهم من السعير، وينجيهم من عذاب الله، بشفاعة أو نصرة كما هي الحال في الدنيا لدى الظلمة، إذ ربما وجد النصير والشفيع الذي يخلّص فيها من الورطات، ويدفع المصايب والنكبات.
(يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) أي لا يجدون وليا ولا نصيرا حين تصرّف وجوههم فيها من جهة إلى أخرى كاللحم يشوى في النار أو يطبخ في القدر، فيدور به الغليان من جهة إلى أخرى، ويقولون إذ ذاك على طريق التمني: ليتنا أطعنا الله في الدنيا، وأطعنا رسوله فيما جاءنا به من أمر ونهى، فما كنا نبتلى بهذا العذاب، بل كنا مع أهل الجنة في الجنة - فيالها من حسرة وندامة، ما أعظمها وأجلها.
ندم البغاة ولات ساعة مندم والبغي مرتع مبتغيه وخيم
ونحو الآية قوله: « وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا » وقوله: « رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ ».
ثم ذكر بعض معاذيرهم بإلقائهم التبعة على من أضلّوهم من كبرائهم وسادتهم بقوله:
(وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) أي وقال الكافرون يومئذ وهم في جهنم: ربنا إنا أطعنا أئمتنا في الضلالة وكبراءنا في الشرك فأضلونا السبيل، وأزالونا عن محجة الحق وطريق الهدى من الإيمان بك والإقرار بوحدانيتك والإخلاص لطاعتك في الدنيا.
وفي هذا إحالة الذنب على غيرهم كما هي عادة المذنب يفعل ذلك وهو يعلم أنه لا يجديه نفعا.
ثم ذكر أنهم يدعون ربهم على طريق التشفي ممن أوردهم هذا المورد الوخيم، أن يضاعف لهم العذاب، إذ كانوا سبب ضلالهم، ووقوعهم في بلواهم، وإن كانوا يعلمون أن ذلك لا يخلّصهم مما هم فيه، فقالوا:
(رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا) أي ربنا عذّبهم مثلى عذابنا الذي تعذبنا به: مثلا على ضلالهم، ومثلا على إضلالهم إيانا، واخزهم خزيا عظيما واطردهم من رحمتك.
روى الشيخان عن عبد الله بن عمرو أن أبا بكر قال: يا رسول الله علّمنى دعاء أدعو به في صلاتى، قال: « قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرّحيم ».
[سورة الأحزاب (33): آية 69]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)
تفسير المفردات
الوجيه: هو ذو الجاه والمنزلة، ومن يكون له من خصال الخير ما به يعرف ولا ينكر.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف أن من يؤذي الله ورسوله يلعنه الله في الدنيا والآخرة، ولا شك أن هذا في الإيذاء الذي يؤدى إلى الكفر، وقد حصره الله في النفاق ومرض القلب والإرجاف على المسلمين - أعقب ذلك بإيذاء دون ذلك لا يورث الكفر كعدم الرضا بقسمة النبي ﷺ للفىء، ونهى الناس عنه أيضا، وذكر أن بني إسرائيل قد آذوا موسى ونسبوا إليه ما ليس فيه، فبرأه الله منه، لأنه ذو كرامة ومنزلة لديه، فلا يلصق به ما هو نقص فيه
الإيضاح
يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله، لا تؤذوا الرسول بقول يكرهه، ولا بفعل لا يحبه، ولا تكونوا أمثال الذين آذوا موسى نبي الله فرموه بالعيب كذبا وباطلا، فبرأه الله مما قالوه من الكذب والزور، بما أظهر من الأدلة على كذبهم، وقد كان موسى ذا وجاهة وكرامة عند ربه، لا يسأله شيئا إلا أعطاه إياه.
ولم يعين لنا الكتاب الكريم ما قالوا في موسى، ومن الخير ألا نعيّنه حتى لا يكون ذلك رجما بالغيب دون أن يقوم عليه دليل، وقد اختلفوا فيه أهو عيب في بدنه كبرص ونحوه، أم هو عيب في خلقه؟ فقد رووا أن قارون حرّض بغيّا على قذفه بنفسها، فعصمه الله من كذبها، وقيل إنهم اتهموه بقتل هارون لما خرج معه إلى الطور ومات هناك، ثم استبان لهم بعد أنه مات حتف أنفه.
روى الشيخان عن عبد الله بن مسعود قال: « قسم رسول الله ذات يوم قسما فقال رجل من الأنصار: إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله فاحمرّ وجهه ثم قال: رحمة الله على موسى فقد أوذى بأكثر من هذا فصبر ».
وروى أحمد عنه أن رسول الله ﷺ قال لأصحابه « لا يبلّغنّى أحد عن أحد من أصحابي شيئا، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر ».
وعنه أيضا أنه قال: « أتى رسول الله ﷺ مال فقسمه، قال فمررت برجلين وأحدهما يقول لصاحبه: والله ما أراد محمد بقسمته وجه الله ولا الدار الآخرة.
قال فثبت حتى سمعت ما قالا، ثم أتيت رسول الله ﷺ فقلت: يا رسول الله إنك قلت لنا: لا يبلغنى أحد عن أصحابي شيئا وإني مررت بفلان وفلان وهما يقولان كذا وكذا، فاحمرّ وجه رسول الله وشق عليه ثم قال: دعنا منك لقد أوذى موسى بأكثر من هذا فصبر ».
ومن هذا يتبين أن إيذاء موسى كان بالقدح في أعماله وتصرفاته، لا بالعيب في بدنه كما روى.
[سورة الأحزاب (33): الآيات 70 الى 71]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)
تفسير المفردات
القول السديد: القول الصدق الذي يراد به الوصول إلى الحق، من قولهم: سدد سهمه إذا وجهه للغرض المرمي ولم يعدل به عن سمته.
المعنى الجملي
بعد أن نهى سبحانه عن إيذاء رسول الله ﷺ بقول أو فعل، أرشدهم إلى ما ينبغي أن يصدر منهم من الأقوال والأفعال التي تكون سببا في الفوز النجاة في الدار الآخرة، والقرب من الله سبحانه والحظوة إليه.
الإيضاح
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله أن تعصوه فتستحقوا بذلك عقوبته، وقولوا في رسوله والمؤمنين قولا قاصدا غير جائر، حقا غير باطل، يوفقكم لصالح الأعمال، ويغفر لكم ذنوبكم فلا يعاقبكم عليها.
ومن يطع الله ورسوله فيعمل بما أمره به وينته عما نهاه عنه ويقل السديد من القول فقد ظفر بالمثوبة العظمى والكرامة يوم العرض الأكبر.
والخلاصة - إنه سبحانه أمر المؤمنين بشيئين: الصدق في الأقوال، والخير في الأفعال، وبذلك يكونون قد اتقوا الله وخافوا عقابه، ثم وعدهم على ذلك بأمرين:
(1) إصلاح الأعمال إذ بتقواه يصلح العمل، والعمل يرفع صاحبه إلى أعلى عليين ويجعله يتمتع بالنعيم المقيم في الجنة خالدا فيها أبدا.
(2) مغفرة الذنوب وستر العيوب والنجاة من العذاب العظيم.
[سورة الأحزاب (33): الآيات 72 الى 73]
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
تفسير المفردات
العرض هنا: النظر إلى استعداد السموات والأرض، والأمانة كل ما يؤتمن عليه المرء من أمر ونهى في شئون الدين والدنيا، والمراد بها هنا التكاليف الدينية، وسميت أمانة من قبل أنها حقوق أوجبها الله على المكلفين وائتمنهم عليها وأوجب عليهم تلقيها بالطاعة والانقياد وأمرهم بالمحافظة عليها وأدائها دون الإخلال بشىء منها، فأبيّن: أي كنّ غير مستعدات لها، وحملها الإنسان: أي كان مستعدا لها، إنه كان ظلوما: أي كثير الظلم لما غلب عليه من القوة الغضبية، جهولا: أي كثير الجهل لعواقب الأمور، لما غلب عليه من القوة الشهوية.
المعنى الجملي
بعد أن بين عز اسمه عظم شأن طاعة الله ورسوله، وأن من يراعيها فله الفوز العظيم، وأن من يتركها يستحق العذاب - أردف ذلك عظم شأن ما تنال به تلك الطاعة من فعل التكاليف الشرعية وأن حصولها عزيز شاقّ على النفوس، ثم بيان أن ما يصدر منهم من الطاعة أو يكون منهم من إباء بعدم القبول والالتزام إنما يكون بلا جبر ولا إلزام.
الإيضاح
(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُومًا جَهُولًا) أي إنا لم نخلق السموات والأرض على عظم أجرامها وقوة أسرها مستعدة لحمل التكاليف بتلقى الأوامر والنواهي والتبصر في شئون الدين والدنيا، ولكن خلقنا الإنسان على ضعف منّته وصغر جرمه مستعدا لتلقيها والقيام بأعبائها، وهو مع ذلك قد غلبت عليه الانفعالات النفسية الداعية إلى الغضب فكان ظلوما لغيره، وركّب فيه حب الشهوات والميل إلى عدم التدبر في عواقب الأمور، ومن ثم كلفناه بتلك التكاليف لتكسر سورة تلك القوى وتخفف من سلطانها عليه وتكبت من جماحها حتى لا توقعه في مواقع الردى.
ثم بين عاقبة تلك التكاليف فقال:
(لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي وكان عاقبة حمل الإنسان لهذه الأمانة أن يعذب من خانها وأبى الطاعة والانقياد لها من المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات، ويقبل توبة المؤمنين والمؤمنات إذا رجعوا إليه وأنابوا، لتلافيهم ما فرط منهم من الجهل وعدم التبصر في العواقب وتداركهم ذلك بالتوبة.
ثم علل قبوله لتوبتهم بقوله:
(وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) أي وكان الله ستارا لذنوب عباده كثير الرحمة بهم، ومن ثم قبل توبة من أناب إليه، ورجع إلى حظيرة قدسه، وأخلص له العمل، وتلافى ما فرط منه من الزلات، وأثابه على طاعته بالفوز العظيم.
نسألك اللهم أن تتوب علينا، وتغفر لنا ما فرط منا من الزلات، وتثيبنا بالفوز العظيم في الجنات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
تنبيه
ذكر سبحانه في هذه السورة الكثير من الشئون الزوجية وكيف تعامل الزوجات، وقد رأينا أن نذكر هنا مسألتين كثر الخوض فيهما من أرباب الأديان الأخرى ومن نابتة المسلمين الذين تعلموا في مدارسهم وسمعوا كلام المبشرين، ظنا منهم أنهم وجدوا مغمزا في الإسلام وأصابوا هدفا يصمى الدين، ويجعل معتنقيه مضغة في أفواه السامعين وإني لهم ذلك، وليتهم فكروا وتأملوا، قبل أن يتكلموا.
أرى العنقاء تكبر أن تصادا فعاند من تطيق له عنادا
(1) تعدد زوجاته ﷺ وكثرتهن بينما لم يبح مثل ذلك لأمته.
(2) إباحة تعدد الزوجات لعامة المسلمين.
ومن ثم وجب علينا أن نميط اللثام عن الأسباب التي دعت إلى كل منهما.
أسباب تعدد زوجاته ﷺ
قبل أن ندخل في تفاصيل البحث نذكر لك أن النبي ﷺ عاش مع خديجة خمسا وعشرين سنة لم يتزوج سواها، وكانت سنه إذ ذاك ناهزت الخمسين، وكان قد تزوجها في شرخ شبابه، إذ كانت سنه وقتئذ خمسا وعشرين سنة وكانت سنها أربعين وعاشا معا عيشا هنيا شعاره الإخلاص والوفاء، وكانت من أكبر أنصاره على الكفار الذين سخروا منه وألحقوا به ضروبا شتى من الأذى، ولم يشأ أن يتزوج غيرها مع ما كان يبيحه له عرف قومه، بل ظل وفيّا لها حتى توفّيت، فحزن عليها حزنا شديدا وسمى عام وفاتها عام الحزن، ولم ينقطع عن ذكراها طوال حياته.
والآن حق علينا أن نذكر لك الأسباب التي حدت النبي ﷺ إلى التعدد، وهي قسمان: أسباب عامة وأسباب خاصة:
الأسباب العامة
(1) إن رسالة النبي ﷺ عامة للرجال والنساء، ومن التشريع ما هو مشترك بين الرجل والمرأة وما هو خاص بأحدهما، وكلّ يحتاج في تلقينه إلى عدد ليس بالقليل لتفرق المرسل إليهم وكثرهم وقصر زمن حياة الرسول، وكثرة الأحكام، وإلا لم يحصل التبليغ على الوجه الأتم.
ومن الأحكام المتعلقة بالنساء ما تستحيى المرأة أن تعرفه من الرجل، ويستحيى الرجل من تبليغه للمرأة، ألا ترى إلى ما روى عن عائشة رضي الله عنها أن أسماء بنت يزيد الأنصارية قالت للنبي ﷺ: كيف أغتسل من الحيض؟ قال: خذي فرصة ممسّكة (قطعة قطن) فتوضئ - قالها ثلاثا وهو في كل ذلك يقول: سبحان الله عند إعادتها السؤال، ثم أعرض عنها بوجهه استحياء، فأخذتها عائشة وأخبرتها بما يريد النبي ﷺ.
ومن ثم وجب أن يتلقى الأحكام الخاصة بالنساء من الرسول ﷺ عدد كثير منهن، وهن يبلغن ذلك إلى النساء، ولا يصلح للتلقى عنه إلا أزواجه، لأنهن لهن خصائص تمكنهن من معرفة أغراض النبي دون تأفف ولا استحياء.
يرشد إلى ذلك قوله ﷺ « خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء » يريد عائشة رضي الله عنها، والعرب تقول امرأة حمراء أي بيضاء.
(2) إن المصاهرة من أقوى عوامل التآلف والتناصر كما هو مشاهد معروف، والدعوة في أول أمرها كانت في حاجة ماسة إلى الإكثار من ذلك، لا جتذاب القبائل إليه ومؤازرتهم له، لذود عوادى الضالين، وكف أذاهم عنه، ومن ثم كان أكثر زوجاته من قريش سيدة العرب.
(3) إن المؤمنين كانوا يرون أن أعظم شرف وأمتن قربة إلى الله تعالى مصاهرتهم لنبيه وقربهم منه، فمن ظفر بالمصاهرة فقد أدرك ما يرجو. ألا ترى أن عمر رضي الله عنه أسف جد الأسف حين فارق رسول الله ﷺ ابنته وقال: لا يعبأ بعدها بعمر، ولم ينكشف عنه الهم حتى روجعت، وأن عليا كرم الله وجهه على اتصاله برسول الله ﷺ من طريق النسب وشرف اقترانه بالزهراء رغب في أن يزوجه أخته أم هانىء بنت أبى طالب ليتضاعف شرفه ولم يمنعها من ذلك إلا خوفها أن تقصّر في القيام بحقوق الرسول مع خدمة أبنائها.
الأسباب الخاصة بزواج كل واحدة من أمهات المؤمنين
(1) تزوج النبي ﷺ بعد خديجة سودة بنت زمعة أرملة السكران ابن عمرو الذي أسلم واضطرّ إلى الهجرة إلى بلاد الحبشة هربا من اضطهاد المشركين ومات هناك وأصبحت امرأته بلا معين، وهي أرمل رجل مات في سبيل الدفاع عن الحق، فتزوجها النبي ﷺ وفاء لرجل غادر الأهل والأوطان احتفاظا بعقيدته، وقد شاركته هذه الزوجة في أهوال التغريب والنفي، وحماية لها من أهلها أن يفتنوها، لأنها هاجرت مع زوجها على غير رغبتهم.
(2) تزوج ميمونة بنت الحارث الهلالية وعمرها زهاء خمسين عاما، وكان زواجه منها سببا في دخول خالد بن الوليد في دين الله، وهو المجاهد الكبير والبطل العظيم، وهو الذي غلب الروم على أمرهم فيما بعد، وله في الإسلام أيام غرّ محجلة - إلى أن زواجها بالنبي ﷺ يسّر لذوي قرباها وسيلة للعيش فطعموا من جوع وأمنوا من مخوف وأثروا بعد فاقة.
(3) تزوج جويرية وكان أبوها الحارث بن ضرار سيد بنى المصطلق بن خزاعة جمع قبل إسلامه جموعا كثيرة لمحاربة النبي ﷺ، ولما التقى الجمعان عرض عليهم الرسول ﷺ الإسلام فأبوه فحاربهم حتى هزموا ووقعت جويرية في سهم ثابت بن قيس، فكاتبها على سبع أواق من الذهب فلم تر معينا لها غير النبي ﷺ فجاءت إليه وأدلت بنسبها وطلبت حريتها فتذكر النبي ﷺ ما كان لأهلها من العز والسؤدد وما صاروا إليه بسوء التدبير والعناد، فأحسن إليها وإلى قومها بأداء ما عليها من نجوم، ثم تزوجها فقال المسلمون بعد أن اقتسموا بنى المصطلق: إن أصهار رسول الله لا يسترقّون، وأعتقوا من بأيديهم من سبيهم، وعلى إثر ذلك أسلم بنو المصطلق شكرا لله على الحرية بعد ذل الكفر والأسر.
(4) تزوج السيدة عائشة مكافأة لأبي بكر الصديق، إذ كان شديد التمسك برسول الله ﷺ مولعا بالتقرب منه، فكان ذلك قرة عين لها ولأبويها وفخرا لذوي قرباها، وكان عبد الله بن الزبير (ابن أختها) يفاخر بنى هاشم بذلك.
(5) تزوج أم المؤمنين حفصة بنت عمر مكافأة لزوجها الذي توفى مجروحا في موقعة بدر وفي تلك الحقبة كانت السيدة رقية بنت الرسول وزوج عثمان قد توفيت، فعرض عمر ابنته على عثمان فأعرض عنها رغبة في أم كلثوم بضعة الرسول ليستديم له بذلك الشرف، فعزّ هذا على عمر وأنفت نفسه فشكاه إلى أبي بكر فقال له لعلها تتزوج من هو خير منه ويتزوج من هي خير منها له (يريد زواج عثمان بأم كلثوم وزواج حفصة بالنبي ﷺ).
(6) تزوج صفية بنت حيي بن أخطب سيد بني النضير، وكانت قد وقعت في السبي مع عشيرتها، فأراد النبي ﷺ أن يتزوجها رأفة بها إذ ذلت بعد عزة، واسترقّت وهي السيدة الشريفة عند أهلها، وتأليفا لقومها حتى يدخلوا في كنف الإسلام، وينضووا تحت لوائه.
(7) تزوج زينب بنت جحش الأسدية، لإبطال عادة جاهلية كانت متأصلة عند العرب وهي التبني بتنزيل الدّعى منزلة الابن الحقيقي، وإذا أراد الله إبطال هذه العادة جعل رسوله ﷺ أسوة حسنة في هذا، فسعى في تزويج زيد مولاه بعد أن أعتقه بزينب ذات الحسب والمجد فأنفت هي وأخوها عبد الله، وأبت أن تكون زوجا لدعي غير كفء، فأنزل الله « وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ » فرضيا بقضاء الله ورسوله غير أنها كانت نافرة من هذا القرآن، مترفعة عن زيد، ضائقة به ذرعا، فآثر فراقها، فسأل الرسول الإذن في ذلك، فقال له: أمسك عليك زوجك واتق الله، وأخفى في نفسه ما الله مبديه من تزوجه منها بعد زيد، وخشى أن يقول الناس: تزوج محمد من زيد ابنه.
ولما لم يبق لزيد فيها شيء من الرغبة طلقها، فتزوجها النبي ﷺ، إبطالا لتلك العادة، وهي إعطاء المتبنّى حكم لابن، وقد تقدم تفصيل هذا في أثناء تفسير السورة بشىء من البسط والإيضاح.
ومما سلف يستبين لك أن ما يتقوله غير المنصفين من الغربيين من أن النبي ﷺ خوّل لنفسه ميزة لم يعطها لأحد من أتباعه - لا وجه له من الصحة فإن زواجه بأمهات المؤمنين كان لأغراض اجتماعية اقتضتها الدعوة، ودعا إليها حب النصرة، ولا سيما إذا علم أنه لم يتزوج بكرا قط إلا عائشة، وأن من أمهات المؤمنين من كن في سن الكهولة أو جاوزنها.
أسباب إباحة تعدد الزوجات في الإسلام
يجدر بذوي الحصافة في الرأي أن ينظروا إلى الأسباب التي دعت أن يبيح الإسلام تعدد الزوجات دون أن ينقموا عليه ذلك، ويرموه بالقسوة، فإن في بعضها ما هو موجب للتعدد لا مجيز له فحسب.
وهاك أهم الأسباب:
(1) قد تصاب المرأة أحيانا بمرض مزمن أو مرض معد يجعلها غير قادرة على القيام بالواجبات الزوجية، فيضطر الرجل إلى أن يقترف ما ينافي الشرف والمروءة ويغضب الله ورسوله إن لم يبح له أن يتزوج بأخرى.
(2) دل الاستقراء على أن عدد النساء يربو على عدد الرجال، لما يعانيه هؤلاء من الأعمال الشاقة التي تنهك القوى وتضوى الأجسام، ولا سيما الحروب الطاحنة، فإذا منع التعدد لا يجد بعض النساء أزواجا يحصنونهن ويقومون بشئونهن، فيكثر الفساد، ويلحق الأسر العار وتعضهن الحياة بأنيابها.
(3) حضت الشريعة الإسلامية على كثرة النسل، لتقوى شوكة الإسلام، وتعلو سطوته، وتنفذ كلمته، حتى ترهبه الأعداء، وتتقيه الأمم المناوئة له، ولا يمكن الوصول إلى ذلك إلا بإباحة تعدد الزوجات، لأن المنع مفض إلى تناقص النسل، ولا أدل على ذلك من أن عقلاء الأمم في الغرب أشفقوا على أممهم لما اعتراها من نقص في النسل بسبب منع التعدد من ناحية، وإحجام كثير من شبانهم عن الزواج، والاجتزاء بالسفاح، فرارا من الحقوق الزوجية، وأعباء الأولاد من ناحية أخرى، ومن ثم لجأ كثير من الدول الغربية إلى ارتباط بعضهم ببعض بالحلف والعهود والمواثيق، طلبا لنيل فائدة التكاثر، وبذلك تبقى لهم السيادة الدولية.
(4) دل الإحصاء في كثير من البلاد الغربية على أن حظر تعدد الزوجات أدى إلى كثرة الأولاد غير الشرعيين مما حدا بعض المفكرين إلى النظر في توريثهم.
(5) كان من نتائج منع التعدد انتشار كثير من الأمراض الفتاكة التي أصابت الرجال والنساء والأطفال حتى عجز الطب عن مكافحتها وتغلغل الداء وعز الدواء، مما جعل بعض البلاد تسن القوانين التي تمنع عقد الزواج إلا بعد إحضار صكّ رسمى بخلو الزوجين من الأمراض المعدية والأمراض التي تجعل النسل ضعيفا ضاويا لا يستطيع الكفاح في الحياة.
ما حوته السورة الكريمة من أغراض ومقاصد
(1) الأمر بتقوى الله وعدم طاعة الكافرين والمنافقين.
(2) وجوب اتباع ما ينزل به الوحي مع ضرب المثل لذلك.
(3) إبطال العادة الجاهلية وهي إعطاء المتبنّى حكم الابن، وبيان أن الدين منه براء.
(4) إبطال التوريث بالحلف والتوريث بالهجرة، وإرجاع التوريث إلى الرحم والقرابة.
(5) ذكر النعمة التي أنعم بها عليهم في وقعة الخندق بعد أن اشتد بهم الخطب.
(6) تخيير النبي نساءه بين شيئين: الفراق إذا أردن زينة الحياة الدنيا والبقاء معه إذا أحببن الله ورسوله والدار الآخرة.
(7) التشديد عليهن بمضاعفة العذاب إذا ارتكبن الفواحش، ونهيهن عن الخضوع في القول وأمرهن بالقرار في البيوت، وتعليمهن كتاب الله وسنة رسوله، ونهيهن عن التبرج.
(8) قصة زينب بنت جحش وزيد مولى رسوله ﷺ.
(9) ما أحل لنبيه من النساء وتحريم الزواج عليه بعد ذلك.
(10) النهي عن إيذاء المؤمنين للنبي ﷺ إذا دخلوا بيته لطعام ونحوه (11) الأمر بكلام أمهات المؤمنين من وراء حجاب إذا طلب منهن شيء إلا الآباء والأبناء والأرقاء.
(12) أمرهن بإرخاء الجلباب إذا خرجن لقضاء حاجة.
(13) تهديد المنافقين وضعاف الإيمان والمرجفين في المدينة.
(14) سؤال المشركين عن الساعة متى هي؟
(15) النهي عن إيذاء النبي حتى لا يكونوا كبني إسرائيل الذين آذوا موسى.