الرئيسيةبحث

تفسير المراغي/سورة آل عمران


☰ جدول المحتويات



سورة آل عمران


هذه السورة مدنية، وعدد آياتها مائتان باتفاق العادّين.

ووجه اتصالها بما قبلها أمور:

(1) إن كلا منهما بدئ بذكر الكتاب وحال الناس في الاهتداء به - فقد ذكر في الأولى من آمن به ومن لم يؤمن به والمذبذبين بين ذلك، وفي الثانية طائفة الزائغين الذين يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة، وطائفة الراسخين في العلم الذين يؤمنون بمحكمه ومتشابهه، ويقولون كل من عند ربنا.

(2) إن في الأولى تذكيرا بخلق آدم، وفي الثانية تذكيرا بخلق عيسى، وتشبيه الثاني بالأول في أنه جرى على غير سنة سابقة في الخلق.

(3) إن في كل منهما محاجة لأهل الكتاب، لكن في الأولى إسهاب في محاجة اليهود واختصار في محاجة النصارى، وفي الثانية عكس هذا، لأن النصارى متأخرون في الوجود عن اليهود، فليكن الحديث معهم تاليا في المرتبة للحديث الأول.

(4) إن في آخر كل منهما دعاء، إلا أن الدعاء في الأولى ينحو نحو طلب النصر على جاحدى الدعوة ومحاربى أهلها، ورفع التكليف بما لا يطاق، وهذا مما يناسب بداءة الدين، والدعاء في الثانية يرمى إلى قبول دعوة الدين وطلب الجزاء على ذلك في الآخرة.

(5) إن الثانية ختمت بما يناسب بدء الأولى كأنها متممة لها، فبدئت الأولى بإثبات الفلاح للمتقين، وختمت هذه بقوله: « وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ».

[سورة آل عمران (3): الآيات 1 الى 9]

بسم الله الرحمن الرحيم

الم (1) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (7) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9)

تفسير المفردات

(الم) تقدم أن قلنا في السورة قبلها إن الرأي الذي عليه المعوّل أن الحروف المقطعة التي وقعت في أوائل السور هي حروف للتنبيه كألا، ويا، مما جاء في أوائل الكلام لتنبيه المخاطب إلى ما يلقى بعدها من حديث يستدعى العناية بفهمه، وتقرأ بأسمائها ساكنة كما تقرأ أسماء العدد فيقال (ألف. لام. ميم) كما يقال (واحد. اثنان. ثلاثة) وتمد اللام والميم، وإذا وصل به لفظ الجلالة جاز في الميم المد والقصر، وفتحها وطرح الهمزة من (الله) للتخفيف والإله: هو المعبود، والحي: ذو الحياة وهي صفة تستتبع الاتصاف بالعلم والإرادة، والقيوم: القائم على كل شيء بكلاءته وحفظه، ونزّل يفيد التدريج والقرآن نزل كذلك في نيف وعشرين سنة بحسب الحوادث كما تقدم، وعبر عن الوحي مرة بالتنزيل، وأخرى بالإنزال للإشارة إلى أن منزلة الموحى أعلى من الموحى إليه، ومعنى كونه بالحق أن كل ما جاء به من العقائد والأحكام والحكم والأخبار فهو حق لا شكّ فيه، ما بين يديه هي الكتب التي أنزلت على الأنبياء السابقين، والتوراة: كلمة عبرية معناها الشريعة، ويريد بها اليهود خمسة أسفار يقولون إن موسى كتبها، وهي: سفر التكوين، وسفر الخروج، وسفر اللاويين، وسفر العدد، وسفر تثنية الاشتراع، ويريد بها النصارى جميع الكتب التي تسمى العهد العتيق، وهي كتب الأنبياء وتاريخ قضاة بني إسرائيل وملوكهم قبل المسيح، وقد يطلقونه عليها وعلى العهد الجديد معا وهو المعبر عنه بالإنجيل، ويريد بها القرآن ما أنزل على موسى ليبلغه قومه، والإنجيل كلمة يونانية معناها التعليم الجديد أو البشارة، وتطلق عند النصارى على أربعة كتب تسمى بالأناجيل الأربعة وهي كتب مختصرة في سيرة المسيح عليه السلام وشىء من تاريخه وتعاليمه، وليس لها سند متصل عند أهلها وهم مختلفون في تاريخ كتابتها على أقوال كثيرة، وكتب العهد الجديد تطلق على هذه الكتب الأربعة مع كتاب أعمال الرسل (الحواريين) ورسائل بولس وبطرس ويوحنا ويعقوب ورؤيا يوحنا. والإنجيل في عرف القرآن هو ما أوحاه الله إلى رسوله عيسى عليه السلام ومنه البشارة بالنبي محمد وأنه هو الذي يتمم الشريعة والأحكام، والفرقان هو العقل الذي يفرق بين الحق والباطل، وكل ما كان عن حضرة القدس يسمى إعطاؤه إنزالا، ألا ترى إلى قوله تعالى: « وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ » والانتقام من النقمة وهي السطوة والتسلط، يقال: انتقم منه إذا عاقبه بجنايته، والتصوير جعل الشيء على صورة لم يكن عليها، والصورة هيئة يكون عليها الشيء بالتأليف، والأرحام واحدها رحم وهي مستودع الجنين من المرأة، والمحكم من أحكم الشيء بمعنى وثّقه وأتقنه، والأم في اللغة الأصل الذي يتكون منه الشيء، والمتشابه يطلق تارة على ماله أفراد أو أجزاء يشبه بعضها بعضا، وتارة أخرى على ما يشتبه من الأمور ويلتبس، والزيغ الميل عن الاستواء والاستقامة إلى أحد الجانبين والمراد به هنا ميلهم عن الحق إلى الأهواء الباطلة، والتأويل من الأول وهو الرجوع إلى الأصل ومنه الموئل للموضع الذي يرجع إليه، والراسخون في العلم: هم المتفقهون في الدين، ومن لدنك: أي من عندك، والمراد بالرحمة العناية الإلهية والتوفيق الذي لا يناله العبد بكسبه، وجمع الناس حشرهم للحساب والجزاء، لا ريب فيه: أي إننا موقنون به لا نشك في وقوعه لأنك أخبرت به وقولك الحقّ.

المعنى الجملي

روى ابن جرير وابن إسحق وابن المنذر أن هذه الآيات وما بعدها إلى نحو ثمانين آية نزلت في نصارى نجران إذ وفدوا على رسول الله ﷺ وكانوا نحو ستين راكبا، وخاصموه في عيسى بن مريم وقالوا له من أبوه؟ وقالوا على الله تعالى الكذب والبهتان، فقال لهم النبي ﷺ: ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه؟ قالوا بلى، قال: ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت، وأن عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا بلى، قال: ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه؟ قالوا بلى، قال: فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟ قالوا لا، قال: ألستم تعلمون أن ربنا صوّر عيسى في الرحم كيف شاء، وأن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث؟ قالوا بلى، قال: ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غذّى كما يغذى الصبى، ثم كان يأكل الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث؟ قالوا بلى، قال: فكيف يكون هذا كما زعمتم فعرفوا ثم أبوا إلا جحودا، فأنزل الله « الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ » إلى آخر تلك الآيات.

ووجه الرد عليهم فيها - أنه تعالى بدأ بذكر التوحيد لينفى عقيدة التثليث بادئ ذي بدء، ثم وصفه بما يؤكد ذلك من كونه حيّا قيوما: أي قامت به السموات والأرض وهي قد وجدت قبل عيسى فكيف تقوم به قبل وجوده، ثم ذكر أنه تعالى نزل الكتاب وأنزل التوراة ليبين أنه قد أنزل الوحي وشرع الشرائع قبل وجوده كما أنزل عليه الإنجيل وأنزل على من بعده، فليس هو المنزل للكتب على الأنبياء وإنما هو نبي مثلهم، ثم أعقب ذلك ببيان أنه هو الذي وهب العقل للبشر ليفرقوا به بين الحق والباطل، وعيسى لم يكن واهبا للعقول، ثم قال: إنه لا يخفى عليه شيء ليردّ على استدلالهم على ألوهية عيسى بإخباره عن بعض المغيبات، فإن الإله لا يخفى عليه شيء مطلقا سواء أكان في هذا العالم أم غيره من العوالم السماوية وعيسى لم يكن كذلك، ثم أبان أن الإله هو الذي يصور في الأرحام ليرد على ولادة عيسى من غير أب، إذ الولادة من غير أب ليست دليلا على الألوهية، فالمخلوق عبد كيفما خلق، وإنما الإله هو الخالق الذي يصور في الأرحام كيف يشاء، وعيسى لم يصور أحدا في رحم أمه، ثم صرح بعد هذا بكلمة التوحيد وبوصفه تعالى بالعزة والحكمة.

ثم انتقل بعد ذلك إلى وصف الكتاب وجعله قسمين، محكم العبارة محفوظ من الاحتمال والاشتباه، وهو الأصل الذي دعى الناس إلى تدبر معانيه والعمل به، وإليه يرجع في فهم المتشابه، ومتشابه وهو ما يدل اللفظ فيه على شيء والعقل على خلافه فتشابهت الدلالة ولم يمكن الترجيح كالاستواء على العرش وكون عيسى روح الله وكلمته، ثم بين أن الناس في هذا انقسموا فرقتين: فرقة زائغة يرجعون في تأويله إلى أهوائهم وتقاليدهم لا إلى الأصل المحكم الذي بنى عليه الاعتقاد، وفرقة يقولون آمنا به ونفوّض علمه إلى ربنا، وقد دعوه ألا يضلّهم بعد الهداية، ويرزقهم الثبات على معرفة الحقيقة والاستقامة على الطريقة.

الإيضاح

(اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) قد مر تفسير هذا بإيضاح أول آية الكرسي.

(نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ) أي إنه أوحى إليك هذا القرآن بالتدريج متصفا بالحق الذي لا شبهة فيه (مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي مبينا صدق ما تقدمه من الكتب المنزلة على الأنبياء السالفين، فإنه أثبت الوحي وذكر أنه أرسل رسلا أوحى إليهم، وهذا تصديق جملى لأصل الوحي إليهم، لا تصديق تفصيلى لتلك الكتب التي عند الأمم التي تنمى إلى أولئك الأنبياء بمسائلها جميعا، ألا ترى أن تصديقنا لمحمد ﷺ في جميع ما أخبر به، لا يلزم منه التصديق بكل ما في كتب الحديث المروية عنه، بل ما ثبت منها صحته فقط.

(وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ) أي وأنزل التوراة على موسى هدى للناس، وقد أخبر الكتاب الكريم أن قومه لم يحفظوها إذ قال: « وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ » كما أخبر عنهم أنهم حرفوا الكلم عن مواضعه فيما حفظوه واعتقدوه، والأسفار التي بين أيديهم تؤيد ذلك، ففي سفر التثنية (فعند ما كمل موسى كتابة كلمات هذه التوراة في كتاب إلى تمامها - أمر موسى اللاويين حاملى تابوت عهد الرب قائلا: خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم، ليكون هناك شاهدا عليكم، لأني عارف أنكم بعد موتي تفسدون وتزيغون عن الطريق الذي أوصيتكم به، ويصيبكم الشر في آخر الأيام، لأنكم تعملون الشر أمام الرب حتى تغيظوه بأعمال أيديكم - إلى أن قال لهم: وجّهوا قلوبكم إلى جميع الكلمات التي أنا أشهد عليكم بها اليوم، لكي توصوا بها أولادكم ليحرصوا أن يعملوا بجميع كلمات هذه التوراة لأنها ليست أمرا باطلا عليكم بل هي حياتكم، وبهذا الأمر تطيلون الأيام على الأرض التي أنتم عابرون الأردن إليها لتمتلكوها).

وكذلك خبر موت موسى وكونه لم يقم في بني إسرائيل نبي مثله بعد.

(فهذان الخبران عن كتابة موسى للتوراة وعن موته معدودان عندهم من التوراة وليسا من الشريعة المنزلة على موسى التي كتبها ووضعها بجانب التابوت، بل كتبا كغيرهما بعده).

إذا فالتوراة التي عندهم كتب تاريخية مشتملة على كثير من تلك الشريعة المنزلة، والقرآن يثبت ذلك، وأيضا ففقد كتاب الشريعة لأمة لا يجعلها تنسى جميع أحكام هذه الشريعة، فما كتبه عزرا وغيره مشتمل على ما حفظ منها إلى عهده، وعلى غيره من الأخبار، وهذا كاف في الاحتجاج على بني إسرائيل بإقامة التوراة، والشهادة بأن فيها حكم الله كما جاء في سورة المائدة، وأسفارها كلها كتبت بعد السّبى يرشد إلى ذلك كثرة الألفاظ البابلية التي جاءت فيها، وقد اعترف علماء النصارى بفقد توراة موسى التي هي أصل دينهم، فقد جاء في كتاب خلاصة الأدلة السنية على صدق أصول الديانة المسيحية (والأمر مستحيل أن تبقى نسخة موسى الأصلية في الوجود إلى الآن ولا نعلم ماذا كان أمرها، والمرجح أنها فقدت مع التابوت لما خرّب بختنصّر الهيكل، وربما كان ذلك سبب حديث كان جاريا بين اليهود على أن الكتب المقدسة فقدت، وأن عزرا الكاتب الذي كان نبيا جمع النسخ المتفرقة من الكتب المقدسة وأصلح غلطها، وبذلك عادت إلى منزلتها الأصلية، ولكن من أين جمع عزرا تلك الكتب بعد فقدها؟ وعلى أي شيء اعتمد في إصلاح غلطها؟ فإن قالوا إنه بالإلهام فإنا نقول إن هذا مما يحتاج فيه إلى جمع ما في أيدي الناس الذين لاثقة بنقلهم، على أن علماء أوربا قالوا إن أسفار التوراة كتبت بأساليب مختلفة لا يمكن أن تكون كتابة رجل واحد.

وأنزل الله الإنجيل على عيسى، وأنبأ سبحانه بأن النصارى نسوا حظا مما ذكروا به كاليهود بل هم أولى بذلك، فإن التوراة كتبت زمن نزولها، وكان ألوف الناس يقرءونها ويعملون بما فيها من شرائع وأحكام ثم فقدت، ولكن الكثير من أحكامها كان محفوظا معروفا عندهم، أما كتب النصارى فلم تعرف ولم تشتهر إلا في القرن الرابع للمسيح، لأن أتباعه كانوا مضطهدين بين اليهود والرومان، حتى اعتنق قسطنطين النصرانية فظهرت كتبهم، ومنها تواريخ المسيح المشتملة على بعض كلامه الذي هو إنجيله، وكانت كثيرة فتحكم فيها الرؤساء حتى اتفقوا على أنها أربعة.

وخلاصة ذلك - إن الله أنزل التوراة والإنجيل لهداية من أنزلا عليهم إلى الحق ومن جملة ذلك الإيمان بمحمد صلوات الله عليه واتباعه حين يبعث، فقد اشتملتا على البشارة به والحث على طاعته - ونسخ أحكامها بالكتاب الذي أنزل عليه.

(وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) أي وأنزل العقل الذي يفرق بين الحق والباطل، وجاء في آية أخرى « الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان » والميزان هو العدل.

فالله سبحانه قرن بالكتاب أمرين الفرقان الذي نفرق به الحق في العقائد ونميزه عن الباطل، والميزان وهو ما نعرف به الحقوق في الأحكام ونعدل بين الناس.

وقصارى ذلك - إن ما يقوم عليه البرهان العقلي من عقائد وغيرها فهو حق منزّل من عند الله وما قام به العدل فهو حكم منزّل من عند الله وإن لم ينص عليه في الكتاب فالله هو المنزل والمعطى للعقل والعدل - الفرقان والميزان - كما أنه سبحانه هو المنزّل للكتاب، ولا غنى لأحدهما عن الآخر.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) أي إن الذين كفروا بآيات الله الناطقة بتوحيده وتنزيهه عما لا يليق بشأنه الجليل، فكذبوا بالقرآن أولا ثم بسائر الكتب تبعا لذلك - لهم عذاب شديد بما يلقى الكفر في عقولهم من الخرافات والأباطيل التي تدنس نفوسهم - وتكون سبب عقابهم في الدار الآخرة التي تغلب فيها الحياة الروحية على الحياة الجسدية المادية.

(وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) أي إن الله بعزته ينفذ سنته، وينتقم ممن خالفها بسلطانه الذي لا يعارض.

(إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) فينزل لعباده من الكتب ما فيه صلاحهم إذا أقاموه، ويعلم سرهم وجهرهم فلا يخفى عليه حال الصادق في إيمانه، ولا حال الكافر، ولا حال من استبطن النفاق وأظهر الإيمان، ولا حال من أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان.

وفي التعبير بعدم خفاء شيء عليه - إشارة إلى أن علمه لا يوازن بعلوم المخلوقين بل هو الغاية في الوضوح وعدم الخفاء.

(هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) أي هو الذي يجعلكم على صور مختلفة متغايرة وأنتم في الأرحام من النّطف إلى العلق إلى المضغ، ومن ذكورة وأنوثة، ومن حسن وقبح إلى غير ذلك، وكل هذا على أتم ما يكون دقة ونظاما، ومستحيل أن يكون هذا قد جاء من قبيل الاتفاق والمصادفة، بل هو من صنع عليم خبير بالدقائق.

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فهو المنفرد بالإيجاد والتصوير، العزيز الذي لا يغلب على ما قضى به علمه وتعلقت به إرادته، الحكيم المنزّه عن العبث، فهو يوجد الأشياء على مقتضى الحكمة، ومن ثم خلقكم على هذا النمط البديع الذي لا يتصور ما هو أدق منه وأحكم كما قيل « ليس في الإمكان أبدع مما كان ».

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) أي هو الذي أنزل عليك الكتاب منقسما إلى محكم العبارة، بعيد من الاحتمال والاشتباه، ومتشابه وهو ضربان:

(1) ما يدل اللفظ فيه على شيء والعقل على خلافه فتشابهت فيه الدلالة ولم يمكن الترجيح كالاستواء على العرش.

(2) ما استأثر الله بعلمه من أحوال الآخرة.

وقد جاء وصف القرآن بالمحكم في قوله: « كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ » وهو إما بمعنى إحكام النظم وإتقانه، وإما بمعنى الحكمة التي اشتملت عليها آياته، ووصفه بالمتشابه في قوله: « اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتابًا مُتَشابِهًا » بمعنى أنه يشبه بعضه بعضا في الهداية والسلامة من التناقض والتفاوت والاختلاف كما قال: « وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا » وقوله: « وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهًا » أي إن ما جيئوا به من الثمرات في الآخرة يشبه ما رزقوا به من قبل، فاشتبهوا فيه لهذا التشابه.

(فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) أي فأما الذين يميلون عن الحق ويتبعون أهواءهم الباطلة فينكرون المتشابه وينفّرون الناس منه ويستعينون على ذلك بما في غرائز الناس وطبائعهم من إنكار ما لم يصل إليه علمهم ولا يناله حسهم كالإحياء بعد الموت وجميع شئون العالم الأخروي، ويأخذونه على ظاهره بدون نظر إلى الأصل المحكم ليفتنوا الناس بدعوتهم إلى أهوائهم، فيقولون إن الله روح والمسيح روح منه، فهو من جنسه، وجنسه لا يتجزأ فهو هو، ومعنى ابتغاء تأويله - أنهم يرجعونه إلى أهوائهم وتقاليدهم، لا إلى الأصل المحكم الذي بنى عليه الاعتقاد، فيحولون خبر الإحياء بعد الموت وأخبار الحساب والجنة والنار عن معانيها ويصرفونها إلى معان من أحوال الناس في الدنيا ليخرجوا الناس من دينهم، والقرآن مليء بالرد عليهم من نحو قوله: « قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ».

(وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) للعلماء في تفسير هذه الآية رأيان:

(1) رأى بعض السلف وهو الوقوف على لفظ الجلالة، وجعل قوله: والراسخون في العلم كلام مستأنف، وعلى هذا فالمتشابه لا يعلم تأويله إلا الله، واستدلوا على ذلك بأمور منها:

(ا) أن الله ذم الذين يتبعون تأويله.

(ب) أن قوله (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) ظاهر في التسليم المحض لله تعالى ومن عرف الشيء وفهمه لا يعبر عنه بما يدل على التسليم المحض.

وهذا رأى كثير من الصحابة رضوان الله عليهم كأبي بن كعب وعائشة.

(2) ويرى بعض آخرون الوقف على لفظ (العلم) ويجعل قوله: (يَقُولُونَ آمَنَّا) كلام مستأنف، وعلى هذا فالمتشابه يعلمه الراسخون - وإلى ذلك ذهب ابن عباس وجمهرة من الصحابة، وكان ابن عباس يقول: أنا من الراسخين في العلم، أنا أعلم تأويله.

وردّوا على أدلة الأولين بأن الله تعالى إنما ذم الذين يبتغون التأويل بذهابهم فيه إلى ما يخالف المحكمات يبتغون بذلك الفتنة، والراسخون في العلم ليسوا كذلك فإنهم أهل اليقين الثابت الذي لا اضطراب فيه، فالله يفيض عليهم فهم المتشابه بما ينفق مع فهم المحكم، وبأن قولهم (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) لا ينافى العلم، فإنهم لرسوخهم في العلم ووقوفهم على حق اليقين لا يضطربون، بل يؤمنون بهذا وذاك لأن كلا منهما من عند الله وليس في هذا من عجب، فإن الجاهل في اضطراب دائم، والراسخ في العلم ثابت العقيدة لا تشتبه عليه المسالك.

ووجود المتشابه الذي يستأثر الله بعلمه من أحوال الآخرة - ضرورى لأن من مقاصد الدين الإخبار بأحوالها، فيجب الإيمان بما جاء به الرسول من ذلك، وهو من عالم الغيب نؤمن به كما نؤمن بالملائكة والجن، ولا يعلم تأويل ذلك: أي حقيقة ما تئول إليه هذه الألفاظ إلا الله. والراسخون في العلم وغيرهم في مثل هذا سواء، لأن الراسخين يعرفون ما يقع تحت حكم الحس والعقل، ولا يستشرفون بأنظارهم إلى معرفة حقيقة ما يخبر به الرسل من عالم الغيب، إذ هم يعلمون أنه لا مجال لحسهم ولا لعقلهم فيه، إنما سبيله التسليم، فيقولون آمنا به كل من عند ربنا، فالوقف في مثل هذا لازم على لفظ الجلالة (الله).

أما النوع الأول من المتشابه وهو الألفاظ التي لا يجوز في العقل أخذها على ظاهرها من صفاته تعالى وصفات أنبيائه كقوله « وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ » فمثل هذا يمنع الدليل العقلي والدليل النقلى حمله على ظاهره، ومثل هذا هو الذي يأتي فيه الخلاف في علم الراسخين بتأويله فالذين نفوا عنهم علمهم به جعلوا حكمة تخصيص الراسخين بالتفويض والتسليم - هي تمييزهم بين الأمرين وإعطاء كلّ حكمه كما تقدم، والذين أثبتوا لهم علمه يردون ما تشابه ظاهره من صفات الله وأنبيائه إلى أم الكتاب وهو المحكم، ويأخذون منه ما يمكنهم من فهم المتشابه.

وعلى هذا فتخصيص الراسخين بهذا العلم لبيان أن غيرهم يمتنع عليه الخوض فيه، ولا يجوز لهم التهجم عليه.

وقد يخطر على البال سؤال وهو: لم كان في القرآن متشابه لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم؟ ولم لم يكن كله محكما يتساوى في فهمه جميع الناس، وهو قد نزل هاديا والمتشابه يحول دون الهداية لوقوع اللبس في فهمه، وفتح باب الفتنة في تأويله لأهل التأويل؟

أجاب العلماء عن هذا بأجوبة كثيرة منها:

(1) إن في إنزال المتشابه امتحانا لقلوبنا في التصديق به، إذ لو كان ما جاء في الكتاب معقولا واضحا لا شبهة فيه لأحد، لما كان في الإيمان به شيء من الخضوع لأمر الله والتسليم لرسله.

(2) إن في وجوده في القرآن حافزا لعقول المؤمنين إلى النظر فيه كيلا تضعف وتموت، إذ السهل الجلى لا عمل للعقل فيه، وإذا لم يجد العقل مجالا للبحث مات، والدين أعز شيء على الإنسان، فإذا ضعف عقله في فهمه ضعف في كل شيء، ومن ثم قال والراسخون في العلم، ولم يقل والراسخون في الدين لأن العلم أعم وأشمل، فمن رحمته أن جعل في الدين مجالا لبحث العقل بما أودع فيه من المتشابه، إذ بحثه يستلزم النظر في الأدلة الكونية، والبراهين العقلية، ووجوه الدلالة ليصل إلى فهمه ويهتدى إلى تأويله.

(3) إن الأنبياء بعثوا إلى الناس كافة وفيهم العالم والجاهل والذكي والبليد، وكان من المعاني الحكم الدقيقة التي لا يمكن التعبير عنها بعبارة تكشف عن حقيتها، فجعل فهم هذا من حظ الخاصة، وأمر العامة بتفويض الأمر فيه إلى الله، والوقوف عند فهم المحكم، ليكون لكلّ نصيبه على قدر استعداده، فإطلاق كلمة الله وروح من الله على عيسى يفهم منه الخاصة ما لا يفهمه العامة، ومن ثم فتن النصارى بمثل هذا التعبير إذ لم يقفوا عند حد المحكم وهو التنزيه واستحالة أن يكون لله أم أو ولد بمثل ما دل عليه قوله: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ».

(وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) أي وما يعقل ذلك ويفقه حكمته إلا ذوو البصائر المستنيرة، والعقول الراجحة التي امتازت بالتدبر والتفكر في جميع الآيات المحكمة التي هي الأصول، حتى إذا عرض لهم المتشابه بعد ذلك سهل عليهم أن يتذكروها ويردّوا المتشابه إليها، ويقولوا في المتشابه الذي هو نبأ عالم الغيب: إن قياس الغائب على الشاهد قياس مع الفارق لا ينبغي للعقلاء أن يعتبروه.

ثم ذكر ما يدعون به ليهبهم الثبات على فهم المتشابه فقال:

(رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) أي إن أولئك الراسخين في العلم مع اعترافهم بالإيمان بالمتشابه يطلبون إلى الله أن يحفظهم من الزيغ بعد الهداية، ويهبهم الثبات على معرفة الحقيقة والاستقامة على الطريقة فهم يعرفون ضعف البشر، وكونهم عرضة للتقلب والنسيان والذهول، فيخافون أن يقعوا في الخطأ، والخطأ قرين الخطر.

وقد روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله ﷺ كثيرا ما يدعو « يا مقلّب القلوب ثبت قلبي على دينك » قلت: يا رسول الله ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء فقال: « ليس من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرّحمن، إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه ».

(رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) أي ربنا إنك تجمع الناس للجزاء في يوم لا شك فيه وإنا موقنون به، لأنك أخبرت به وقولك الحق، ووعدت وأوعدت بالجزاء فيه، وأنت لا تخلف وعدك.

وقد جاءوا بهذا الدعاء بعد الإيمان بالمتشابه، ليستشعروا أنفسهم الخوف من تسرّب الزيغ الذي يسلبهم الرحمة في ذلك اليوم، وهذا الخوف هو مبعث الحذر والتوقي منه.

[سورة آل عمران (3): الآيات 10 الى 13]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13)

تفسير المفردات

تغني: أي تنفع، وقود (بفتح الواو) أي حطب ونحوه، والدأب: العادة من دأب على العمل إذا جدّ فيه وتعب، ثم غلب في العادة، والمهاد: الفراش، يقال مهدّ الرجل المهاد إذا بسطه، والآية: العلامة على صدق ما يقول الرسول.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه الدين الحق وقرر التوحيد، وذكر الكتب الناطقة به، وألمع إلى شأن القرآن الكريم وإيمان العلماء الراسخين به - شرع يذكر حال أهل الكفر والجحود، ويبين أسباب اغترارهم بالباطل واستغنائهم عن الحق أو اشتغالهم عنه، ومن أهم ذلك الأموال والأولاد، وأرشد إلى أنها لا تغنى عنهم شيئا في ذلك اليوم الذي يجمع الله فيه الناس ليحاسبهم على ما عملوا، والكافرون في أشد الحاجة إلى مثل هذه العظة، لأن الجحود إنما يقع لغرور الناس بأنفسهم وأموالهم، فيتوهمون الاستغناء عن الحق، ويتبعون الهوى.

وقد ضرب الله مثلا لهؤلاء الكافرين الذين استغنوا بما أوتوا في الدنيا عن الحق، فعارضوه وناصبوا أهله العداء حتى ظفروا بهم مثل آل فرعون ومن قبله ممن كذبوا الرسل فقد أهلكهم الله ونصر موسى على آل فرعون، ونصر الرسل ومن آمن معهم على أممهم لصلاحهم وإصلاحهم، فالله لا يحابى ولا يظلم وهو شديد العقاب.

الإيضاح

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) أي إن الذين جحدوا ما قد عرفوه من نبوّة محمد ﷺ سواء كانوا من بني إسرائيل أم من كفار العرب - لن تنجيهم أموالهم التي يبذلونها في جلب المنافع ودفع المضار، ولا أولادهم الذين يتناصرون بهم في مهامّ أمورهم ويعوّلون عليهم في الخطوب النازلة من عذاب الله شيئا، وقد كانوا يقولون نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين، فردّ الله عليهم بقوله: « وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحًا » وسيكونون يوم القيامة حطبا لجهنم التي تسعر بهم.

ثم ضرب لهم مثلا لينبههم إلى ما حلّ بمن قبلهم من الأمم التي كانت أقوى منهم جندا وأكثر عددا لعلهم يتعظون فقال:

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي إن صنيع هؤلاء في تكذيبهم بمحمد ﷺ وكفرهم بشريعته، كدأب آل فرعون مع موسى عليه السلام، ودأب من قبلهم من الأمم، كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم، فأهلكهم ونصر الرسل ومن آمن معهم، ولم يجدوا من بأس الله محيصا ولا مهربا، إذ عقابه أثر طبيعي لاجتراح الذنوب وارتكاب الموبقات.

ثم تهددهم وتوعدهم بالعقاب في الدنيا قبل الآخرة فقال:

(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ) المراد بالكافرين هنا اليهود لما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن يهود المدينة لما شاهدوا غلب رسول الله ﷺ للمشركين يوم بدر قالوا والله إنه النبي الأمي الذي بشرنا به موسى، وفي التوراة نعته وهمّوا باتباعه، فقال بعضهم: لا تعجلوا حتى تنظروا إلى وقعة أخرى، فلما كان يوم أحد شكّوا، وقد كان بينهم وبين رسول الله عهد إلى مدة فنقضوه، وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكبا إلى أهل مكة فأجمعوا أمرهم على قتال رسول الله ﷺ فنزلت.

وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي ﷺ لما أصاب قريشا ببدر ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق بنى قينقاع فحذرهم أن ينزل بهم ما نزل بقريش، فقالوا له: لا يغرنّك أنك لقيت قوما أغمارا لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة، لئن قاتلتنا لعلمت أنّا نحن الناس فنزلت.

أي قل لأولئك اليهود إنكم ستغلبون في الدنيا وسينفذ فيكم وعيدي، وتساقون في الآخرة إلى جهنم سوقا، وبئس المهاد ما مهدتموه لأنفسكم.

وقد صدق الله وعده فقتل المسلمون بنى قريظة الخائنين، وأجلوا بني النضير المنافقين، وفتحوا خيبر وضربوا الجزية على من عداهم.

ثم حذرهم وأنذرهم بألا يغتروا بكثرة العدد والعدد فلهم مما يشاهدون عبرة فقال:

(قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا، فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) أي قل لأولئك اليهود الذين غرتهم أموالهم واعتروا بأولادهم وأنصارهم: لا تغرنكم كثرة العدد، ولا المال والولد، فليس هذا سبيل النصر والغلب، فالحوادث التي تجرى في الكون أعظم دليل على تفنيد ما تدّعون.

انظروا إلى الفئتين اللتين التقتا يوم بدر، فئة قليلة من المؤمنين تقاتل في سبيل الله كتب لها الفوز والغلب على الفئة الكثيرة من المشركين.

وفي هذا عبرة أيّما عبرة لذوي البصائر السليمة التي استعملت العقول فيما خلقت لأجله من التأمل في الأمور والاستفادة منها، لا لمثل من نعتهم الله بقوله: « لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها، وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ ».

ووجه العبرة في هذا أن هناك قوة فوق جميع القوى قد تؤيد الفئة القليلة فتغلب الفئة الكثيرة بإذنه تعالى، وقوله (تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ترشد إلى السر في هذا الفوز، لأنه متى كان القتال في هذا السبيل أي لحماية الحق والدفاع عن الدين وأهله، فإن النفس تقبل عليه بكل ما أوتيت من قوة، وما أمكنها من تدبير واستعداد، علما منها بأن وراء قوتها معونة الله وتأييده، يرشد إلى هذا قوله تعالى: « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ » فها أنت ذا ترى أن الله أمر المؤمنين بالثبات وبكثرة ذكره لشدّ العزائم والنهوض بالهمم، وبالطاعة لرسوله، وكان هو القائد في تلك الواقعة - واقعة بدر - وطاعة القائد من أهم أسباب الظفر والنجاح في ميدان القتال.

وقد امتثل المؤمنون ما أوصاهم به ربهم بقدر طاقتهم، فوجد لديهم الاستعداد والعزيمة الصادقة، فقاتلوا ثابتين واثقين بنصر الله، فنصرهم وفاء بوعده « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ ».

وغزوات الرسول وأصحابه تفسر ما ورد في هذه الآيات، ولما خالفوا ما أمروا به غزوة أحد نزل بهم ما نزل، وفي هذا أكبر عبرة لمن تذكر واعتبر.

وقد روى أرباب السير أن جيش المسلمين كان ثلاثمائة وثلاثة وعشرين رجلا، سبعة وسبعون منهم من المهاجرين، ومائتان وستة وثلاثون من الأنصار، وصاحب راية المهاجرين علي بن أبي طالب، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة، وكان في العسكر تسعون بعيرا وفرسان أحدهما للمقداد بن عمرو، والآخر لمرثد بن أبي مرثد، وكان معهم ست دروع وثمانية سيوف، وجميع من قتل منهم يومئذ أربعة عشر رجلا ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار، وأن جيش المشركين كان تسعمائة وخمسين مقاتلا، رأسهم عقبة بن ربيعة، وفيهم أبو سفيان وأبو جهل، وكان في معسكرهم من الخيل مائة فرس وسبعمائة بعير، ومن الأسلحة ما لا يحصى عدّا.

ومعنى قوله (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) أن المشركين رأوا المسلمين مثلى عدد المشركين أي قريبا من ألفين - وكانوا نحو ثلاثمائة - أراهم الله إياهم مع قلتهم أضعافهم ليهابوهم ويجبنوا عن قتالهم، وكان ذلك مددا لهم من الله كما أمدهم الله بالملائكة، بعد ما قللهم في أعينهم حتى اجترءوا عليهم وتوجهوا إليهم كما جاء في خطاب أهل بدر « وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ».

ومعنى قوله (رأي العين) أنها رؤية مكشوفة لا لبس معها ولا خفاء كسائر المرئيات والمشاهدات.

(وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ) أي والله يقوّى بمعونته من يشاء كما أيد أهل بدر بتكثيرهم في عين العدو.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) أي إن في هذا النصر مع قلة عددهم وكثرة عدوهم عظة لمن عقل وتدبر فعرف الحق وثلج قلبه ببرد اليقين.

[سورة آل عمران (3): آية 14]

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)

تفسير المفردات

الشهوات: واحدة شهوة وهي رغبة النفس في الحصول، والمراد بها المشتهيات كما يقال هذا الطعام شهوة فلان أي ما يشتهيه، والأنعام واحدها نعم وهي الإبل والبقر والغنم ولا تطلق النعم إلا على الإبل خاصة، والمسوّمة: هي التي ترعى في الأودية والقيعان، والحرث: الزرع والنبات.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه قبل هذا اشتغال الكافرين بالأموال والأولاد وإعراضهم عن الحق وانهماكهم في اللذات، ذكر هنا وجه غرورهم بذلك تحذيرا لهم من جعلها مطية لشهواتهم، وتذكيرا لهم بأنه لا ينبغي أن تجعل هي غاية الحياة، فتشغلهم عن أعمال الآخرة التي جعلت الدنيا مزرعتها، والوسيلة لكسب السعادة فيها.

الإيضاح

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ) معنى تزيين حب الشهوات للناس، أن حبها مستحسن لديهم لا يرون فيه قبحا ولا غضاضة، ومن ثم لا يكادون يرجعون عنه، وهذا أقصى مراتب الحب، وصاحبه قلما يفطن لقبحه أو ضرره إن كان قبيحا أو ضارّا، ولا يحب أن يرجع عنه وإن تأذى به، وقد يحب الإنسان شيئا وهو يراه شيئا لا زينا، وضارّا لا نافعا، ويود لذلك لو لم يحبه كما يحب بعض الناس شرب الدخان على تأذيهم منه، ومن أحب شيئا ولم يزيّن له يوشك أن يرجع عنه يوما ما، ومن زين له حبه فلا يكاد يرجع عنه.

المعنى - إن الله فطر الناس على حب هذه الشهوات المبينة بعد كما قال: « إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا » وقال: « كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ». وقد يسند التزيين إلى الشيطان بالوسوسة في قبيح الأعمال كما قال تعالى: « وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ ».

ثم فصل هذه المشتهيات الستة التي ملأت قلوب الناس حبا فقال:

(مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ).

(فأولها) النساء وهن موضع الرغبة ومطمح الأنظار، وإليهن تسكن النفوس كما قال تعالى « وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً » وعليهن ينفق أكثر ما يكسب الرجال بكدّهم وجدّهم، فهم القوامون عليهن لقوتهم وقدرتهم على حمايتهن، فإسرافهم في حبهنّ له الأثر العظيم في شئون الأمة وفي إضاعة الحقوق أو حفظها.

وقدم حب النساء على حب الأولاد مع أن حبهنّ قد يزول وحب الأولاد لا يزول لأن حب الولد لا يعظم فيه الغلوّ والإسراف كحب المرأة، فكم من رجل جنى حبه للمرأة على أولاده، فكثير ممن تزوجوا بما فوق الواحدة وأفرطوا في حب واحدة وملّوا أخرى أهملوا تربية أولاد المبغوضة وحرموهم سعة الرزق وقد وسعوه على أولاد المحبوبة، وكم من غني عزيز يعيش أولاده عيشة الذل والفقر، وليس لهذا من سبب إلا حب والدهم لغير أمهم، فهو يفعل ذلك للتقرب وابتغاء الزلفى إليها.

(وثانيها) البنون والمراد بهم الأولاد مطلقا كما قال تعالى: « أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ » وفي الحديث « الولد مجبنة مبخلة ».

والعلة في حب الزوجة وحب الولد واحدة وهي تسلسل النسل وبقاء النوع، وهي حكمة مطردة في غير الإنسان من الحيوانات الأخرى.

وحب البنين أقوى من حب البنات لأسباب كثيرة منها:

(1) أنهم عمود النسب الذي به تتصل سلسلة النسل، وبه يبقى ما يحرص عليه الإنسان من بقاء الذكر وحسن الأحدوثة بين الناس

(2) أمل الوالد في كفالتهم له حين الحاجة إليه لضعف أو كبر.

(3) أنه يرجى بهم من الشرف ما لا يرجى من الإناث كنبوغ في علم أو عمل أو رياسة أو قيادة جيش للدفاع عن الوطن وحفظ كيان الأمة.

(4) الشعور بأن الأنثى حين الكبر تنفصل من عشيرتها وتتصل بعشيرة أخرى.

(وثالثها) القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والعرب تريد بالقنطار المال الكثير والمقنطرة مأخوذة منه على سبيل التوكيد، وقد جرت عادتهم بأن يصفوا الشيء بما يشتق منه مبالغة كما قالوا ألوف مؤلفة وظل ظليل، وقيل المقنطرة المضروبة من دنانير ودراهم، وقيل هي المنضدة في وضعها.

وهذا التعبير يشعر بالكثرة التي تكون مظنة الافتتان، والتي تشغل القلب للتمتع بها، وتستغرق في تدبيرها الوقت الكثير حتى لا يبقى بعد ذلك منفذ للشعور بالحاجة إلى نصرة الحق والاستعداد لأعمال الآخرة.

ومن ثم كان الأغنياء في كل الأمم لدى بعثة الرسل أول الكافرين بهم المستكبرين عن تلبية دعوتهم، وإن أجابوها وآمنوا فهم أقل الناس عملا وأكثرهم بعدا عن هدى الدين، انظر إلى قوله تعالى: « سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا ».

وحب المال مما أودع في غرائز البشر واختلط بلحمهم ودمهم، وسر هذا أنه وسيلة إلى جلب الرغائب، وسبيل إلى نيل اللذات والشهوات، ورغبات الإنسان غير محدودة، ولذاته لا عدّ لها ولا حصر، وكلما حصل على لذة طلب المزيد منها، وما وصل إلى غاية في جمع المال إلا تاقت نفسه إلى ما فوقها، حتى لقد يبلغ به النهم في جمعه أن ينسى أن المال وسيلة لا مقصد فيفتنّ في الوصول إليه الفنون المختلفة، والطرق التي تعنّ له، ولا يبالى أمن حلال كسب أم من حرام؟

روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قوله ﷺ « لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى أن يكون لهما ثالث، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب ».

ولقد أعمت فتنة المال كثيرا من الناس فشغلتهم عن حقوق الله وحقوق الأمة والوطن، بل عن حقوق من يعاملهم، بل عن حقوق بيوتهم وعيالهم، بل عن أنفسهم، ومنهم من يقصر في النفقة على نفسه وعياله بالقدر الذي يزرى بمروءته، فيظهر بمظهر المسترذل بين الناس في مأكله ومشربه وملبسه، ومنهم من يثلم شرفه ويفتح ثغرة للطاعنين والقائلين فيه بالحق وبالباطل لأجل المال. ومن ثم قالوا: المال ميّال.

(ورابعها) الخيل المسوّمة التي ترعى في الأودية، يقال سام الدابة: رعاها، وأسامها: أخرجها إلى المرعى، كما قال تعالى: « وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ». وقال ابن جرير: المسوّمة: المعلّمة من السّومة وهي العلامة. قال النابغة:

بسمر كالقداح مسوّمات عليها معشر أشباه جنّ

وكل من الخيل الراعية التي تقتنى للتجارة، والمعلمة المطهّمة التي يقتنيها العظماء والأغنياء - من المتاع الذي يتنافس فيه الناس ويتفاخرون، حتى لقد يتغالى بعضهم في ذلك إلى حد هو أشبه بالجنون.

(وخامسها) الأنعام وهي مال أهل البادية ومنها تكون ثروتهم ومعايشهم ومرافقهم، وبها تفاخرهم وتكاثرهم، وقد امتنّ الله بها على عباده بقوله: « وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ. وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ. وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ ».

(وسادسها) الحرث وعليه قوام حياة الإنسان والحيوان في البدو والحضر، والحاجة إليه أشد من الحاجة إلى الأنواع السالفة، والانتفاع به أتمّ منها لكنه أخر عنها، لأنه لما عمّ الارتفاق به كانت زينته في القلوب أقل، وقلما يكون الانتفاع به صادّا عن الاستعداد لأعمال الآخرة أو مانعا من نصرة الحق.

وهناك ما هو أعم نفعا وأعظم فائدة في الحياة وهو الضوء والهواء، فلا يستغنى عنهما حي من الأحياء، ومع ذلك قلما يلتفت الإنسان إليهما ولا يفكر في غبطته بهما.

(ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) المتاع ما يتمتع به، والمآب المرجع من آب يئوب إذا رجع، أي هذا الذي ذكر من الأصناف الستة المتقدمة هو ما يتمتع به الناس قليلا في هذه الحياة الفانية، ويجعلونه وسيلة في معايشهم، وسببا لقضاء شهواتهم وقد زيّن لهم حبها في عاجل دنياهم، والله عنده حسن المآب في الحياة الآخرة التي تكون بعد موتهم وبعثهم فلا ينبغي لهم أن يجعلوا كل همهم في هذا المتاع القريب العاجل بحيث يشغلهم عن الاستعداد لخير الآجل.

فعلى المؤمن ألا يفتن بهذه الشهوات ويجعلها أكبر همه، والشغل الشاغل له عن آخرته، فإذا استمتع بها بالقصد والاعتدال ووقف عند حدود الله سعد في الدارين ووفق لخير الحياتين كما قال: « رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ ».

[سورة آل عمران (3): الآيات 15 الى 17]

قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17)

تفسير المفردات

النبأ والإنباء لم يردا في القرآن إلا لما له شأن عظيم كما قاله أبو البقاء في الكليات، والتقوى: هي الإخبات إلى الله والإعراض عما سواه، والمطهرة: الخالية من الشوائب الجسمية والنفسية والرضوان (بضم الراء وكسرها) الرضا، والصبر: حبس النفس عند كل مكروه يشقّ عليها احتماله، والصدق يكون في القول والعمل والوصف يقال فلان صادق في قوله، وصادق في عمله، وصادق في حبه، والقانتين: أي المداومين على الطاعة والعبادة، والمستغفرين بالأسحار: أي المصلّين وقت السحر.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه زخارف الدنيا وزينتها، وذكر ما عنده من حسن المآب إجمالا - أمر رسوله بتفصيل ذلك المجمل للناس مبالغة في الترغيب والحث على فعل الخيرات.

الإيضاح

(قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ) أي قل لقومك وغيرهم: أأخبركم بخير من جميع ما تقدم ذكره من النساء والبنين إلى آخره، وجىء بالكلام على صورة الاستفهام لتوجيه النفوس إلى الجواب وتشويقها إليه.

وقوله خير يشعر بأن تلك الشهوات خير في ذاتها، ولا شك في ذلك إذ هي من أجلّ النعم التي أنعم الله بها على الناس، وإنما يعرض الشر فيها كما يعرض في سائر نعم الله على عباده كالحواس والعقول وغيرها، فما مثل المسرف في حب النساء حتى يعطى امرأته حق غيرها، أو يهمل لأجلها تربية ولده إلا مثل من يستعمل عقله في استنباط الحيل ليبتز حقوق الناس ويؤذيهم، فسلوك الناس في الانتفاع بالنعم لا يدل على أنها هي في ذاتها شر ولا كون حبها شرا مع القصد والاعتدال والوقوف عند حدود الشريعة.

ثم أجاب عن هذا الاستفهام على طريق قولك هل أدلك على تاجر عظيم في السوق يصدق في المعاملة، ويرخص السعر ويفى بالوعد؟ هو فلان فقال:

(لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ) أي للذين أخبتوا إلى ربهم وأنابوا إليه نوعان من الجزاء.

أحدهما جسماني وهو الجنات وما فيها من النعيم والخيرات، والأزواج المبرأة من العيوب التي في نساء الدنيا خلقا وخلقا.

وثانيهما روحاني عقلى وهو رضوان الله الذي لا يشوبه سخط ولا يعقبه غضب، وهو أعظم اللذات كلها في الآخرة عند المتقين.

وفي الآية إيماء إلى أن أهل الجنة مراتب وطبقات كما نرى ذلك في الدنيا. فمنهم من لا يفقه لرضوان الله معنى ولا يكون ذلك باعثا له على فعل الخير وترك الشر، وإنما يفقه اللذات الحسية التي جرّ بها في الدنيا، ففي مثلها يرغب. ومنهم من ارتقى إدراكه، وعظم قربه من ربه، فيتمنى رضاه ويجعله الغاية القصوى والسعادة التي ليس وراءها سعادة.

وجاء في معنى هذه الآية قوله تعالى: « وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ » وقوله: « اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ (الزراع) نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطامًا، وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ، وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ ».

(وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) أي إنه تعالى هو البصير بعباده، الخبير بقرارة نفوسهم ودخائل أحوالهم، العليم بسرهم ونجواهم، فلا تخفى عليه خافية من أمرهم، وهو المجازى كل نفس بما كسبت من خير أو شر.

وقد ختم سبحانه هذه الآية بتلك الجملة ليحاسب الإنسان نفسه على التقوى، فليس كل من ادعاها لنفسه أو تحرك بها لسانه يعدّ متقيا، وإنما المتقى من يعلم منه ربه التقوى.

ثم وصف المتقين الذين تتأثر قلوبهم بثمرات إيمانهم، فتفيض ألسنتهم بالاعتراف بهذا الإيمان حين الدعاء والابتهال فقال:

(الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ) أي إن الذين اتقوا معاصى الله وتضرعوا إليه خاشعين يقولون مبتهلين متبتلين: ربنا إننا آمنا بما أنزلته على رسلك إيمانا يقينيا راسخا في القلب مهيمنا على العقل له السلطان على أعمالنا البدنية التي لا تتحول عن طاعتك إلا لنسيان أو جهالة كغلبة انفعال يعرض ثم لا يلبث أن يزول، ثم تقفو التوبة إثره لتمحوه كما أرشدت إلى ذلك بقولك: « إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ » وقولك « وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحًا ثُمَّ اهْتَدى » فاستر اللهم ذنوبنا بعفوك عنها وترك العقوبة عليها، وادفع عنا عذاب النار إنك أنت الغفور الرّحيم.

وقد خصوا هذا العذاب بالمسألة، لأن من زحزح يومئذ عن النار فقد فاز بالنجاة وحسن المآب.

والخلاصة - إن مرادهم بالإيمان الذي أقروا به - هو الإيمان الصحيح الذي تصدر عنه آثاره من ترك المعاصي وفعل الصالحات، إذ الإيمان اعتقاد وقول وعمل كما أجمع على ذلك السلف، ويرشد إليه العقل والعلم بطبيعة البشر.

ثم ذكر من أوصافهم ما امتازوا به من غيرهم، وبه استحقوا المثوبة عند ربهم فقال:

(الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) أي إن المتقين جمعوا هذه الصفات التي لكل منها درجة في الفضل وشرف ورفعة وبها نالوا هذا الوعد وهي:

(1) الصبر وأكمل أنواعه: الصبر على أداء الطاعات وترك المحرمات، فإذا هبت أعاصير الشهوات وجمحت بالنفس إلى ارتكاب المعاصي فلا سبيل لردعها إلا بالصبر، فهو الذي يثبّت الإيمان ويقف بها عند الحدود المشروعة، وهو الحافظ لشرف الإنسان في الدنيا عند المكاره، ولحقوق الناس أن تغتالها أيدي المطامع. وهو كالشرط في كل ما يذكر بعده من الصدق والقنوت والاستغفار بالأسحار.

(2) الصدق وهو منتهى الكمال، وحسبك في بيان فضيلته قوله تعالى: « وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ، لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ ».

(3) القنوت وهو المداومة على الطاعة والإخبات إلى الله مع الخشوع والخضوع وهو لبّ العبادة وروحها، وبدونه تكون العبادة بلا روح وشجرة بلا ثمرة.

(4) الإنفاق للمال في جميع السبل التي حث عليها الدين، سواء أكانت النفقة واجبة أم مستحبة، فالإنفاق في أعمال البر جميعا مما حث عليه الشارع وندب إليه.

(5) الاستغفار بالأسحار: أي التهجد في آخر الليل وهو الوقت الذي يطيب فيه النوم ويشقّ القيام، وتكون النفس فيه أصفى، والقلب أفرغ من الشواغل.

والاستغفار المطلوب ما يقرن بالتوبة النصوح، والعمل وفق حدود الدين، ولا يكفى الاستغفار باللسان مع الإدمان على فعل المنكر، فإن المستغفر من الذنب وهو مصرّ عليه كالمستهزئ بربه، ولا يغتر بمثل هذا الاستغفار إلا جاهل بدينه، أو غرّ في معاملته لربه، ومن ثم أثر عن بعض الصوفية قوله: إن استغفارنا يحتاج إلى استغفار.

[سورة آل عمران (3): الآيات 18 الى 20]

شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20)

تفسير المفردات

يقال شهد الشيء وشاهذه إذا حضره كما قال: « ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ » وقال « فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ » والشهادة بالشيء الإخبار به عن علم إما بالمشاهدة الحسية، وإما بالمشاهدة المعنوية وهي الحجة والبرهان، وأولو العلم هم أهل البرهان القادرون على الإقناع، وهم يوجدون في هذه الأمة وفي جميع الأمم السالفة، بالقسط: أي بالعدل في الدين والشريعة وفي الكون والطبيعة. والدين له في اللغة عدة معان: منها الجزاء، والطاعة والخضوع، ومجموعة التكاليف التي بها يدين العباد لله - وما يكلف به العباد يسمى شرعا باعتبار وضعه وبيانه للناس، ودينا باعتبار الخضوع وطاعة الشارع، وملة باعتبار أنها أملّت وكتبت - والإسلام يأتي بمعنى الخضوع والاستسلام، وبمعنى الأداء تقول أسلمت الشيء إلى فلان إذا أديته إليه، وبمعنى الدخول في السلم أي الصلح والسلامة، وتسمية الدين الحق إسلاما يناسب كل هذه المعاني وأولها أوفقها بالتسمية، يرشد إلى ذلك قوله تعالى: « وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا »

وحاجوك: جادلوك، وأسلمت: أي أخلصت، والأميون مشركو العرب واحدهم أمي نسبوا إلى الأم لجهلهم كأنهم على الفطرة، البلاغ: أي التبليغ للناس.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه جزاء المتقين، وشرح أوصافهم التي استحقوا بها هذا الجزاء - ذكر هنا أصول الإيمان وأسسه.

الإيضاح

(شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِمًا بِالْقِسْطِ) أي بيّن سبحانه وحدانيته بنصب الدلائل التكوينية في الآفاق والأنفس، وإنزال الآيات التشريعية الناطقة بذلك، والملائكة أخبروا الرسل بهذا وشهدوا شهادة مؤيدة بعلم ضرورى وهو عند الأنبياء أقوى من جميع اليقينيات، وأولو العلم أخبروا بذلك وبيّنوه وشهدوا به شهادة مقرونة بالدلائل والحجج، لأن العالم بالشيء لا تعوزه الحجة عليه.

وقوله بالقسط أي بالعدل في الاعتقاد، فالتوحيد هو الوسط بين إنكار الإله والشرك به، والعدل في العبادات والآداب والأعمال، فعدل بين القوى الروحية والبدنية، فأمر بشكره في الصلاة وغيرها لترقية الروح وتزكية النفس، وأباح كثيرا من الطيبات لحفظ البدن وتربيته، ونهى عن الغلوّ في الدين والإسراف في حب الدنيا وبالعدل في الأحكام في نحو قوله: « إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ » وقوله « وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ».

كما جعل سنن الخليقة قائمة على أساس العدل، فمن نظر في هذه السنن ونظمها الدقيقة تجلى له عدل الله فيها على أتم ما يكون وأوضحه.

فقيامه تعالى بالقسط في كل هذا برهان على صدق شهادته تعالى، فإن وحدة النظام في هذا العالم تدل على وحدة واضعه.

ثم أكد كونه منفردا بالألوهية وقائما بالعدل بقوله:

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فإن العزة إشارة إلى كمال القدرة، والحكمة إيماء إلى كمال العلم، والقدرة لا تتم إلا بالتفرد والاستقلال، والعدالة لا تكمل إلا بالاطلاع على المصالح والأحوال، ومن كان كذلك فلا يغلبه أحد على ما قام به من سنن القسط، ولا يخرج من الخليقة شيء عن حكمته البالغة.

ثم ذكر الدستور العام الذي عليه المعوّل في كل دين فقال:

(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ) أي إن جميع الملل والشرائع التي جاء بها الأنبياء روحها الإسلام والانقياد والخضوع، وإن اختلفت في بعض التكاليف وصور الأعمال، وبه كان الأنبياء يوصون. فالمسلم الحقيقي من كان خالصا من شوائب الشرك، مخلصا في أعماله مع الإيمان من أي ملة كان، وفي أي زمان وجد، وهذا هو المراد بقوله عز اسمه « وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ».

ذاك أن الله شرع الدين لأمرين:

(1) تصفية الأرواح وتخليص العقول من شوائب الاعتقاد بسلطة غيبية للمخلوقات بها تستطيع التصرف في الكائنات لتسلم من الخضوع والعبودية لمن هم من أمثالها.

(2) إصلاح القلوب بحسن العمل وإخلاص النية لله وللناس.

وأما العبادات فإنما شرعت لتربية هذا الروح الخلقي ليسهل على صاحبه القيام بسائر التكاليف الدينية.

أخرج ابن جرير عن قتادة قال: الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله والإقرار بما جاء من عند الله، وهو دين الله تعالى الذي شرع لنفسه وبعث به رسله، ودلّ عليه أولياءه لا يقبل غيره، ولا يجزى إلا به.

وخطب علي كرم الله وجهه قال: الإسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو الأداء، والأداء هو العمل، ثم قال: إن المؤمن أخذ دينه عن ربه، ولم يأخذه عن رأيه، إن المؤمن يعرف إيمانه في عمله، والكافر يعرف كفره بإنكاره، أيها الناس دينكم دينكم، فإن السيئة فيه خير من الحسنة في غيره، إن السيئة فيه تغفر، وإن الحسنة في غيره لا تقبل.

(وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) أي وما خرج أهل الكتاب من الإسلام الذي جاء به أنبياؤهم على نحو ما فصلناه آنفا، وصاروا مذاهب وشيعا يقتتلون في الدين - والدين واحد لا مجال فيه للاختلاف والاقتتال إلا بسبب البغي وتجاوز الحدود من الرؤساء، ولو لا بغيهم ونصرهم مذهبا على مذهب وتضليلهم من خالفهم بتفسيرهم نصوص الدين بالرأي والهوى وتأويل بعضه أو تحريفه لما حدث هذا الاختلاف.

والتاريخ شهيد بأن الملوك والأحبار هم الذين جعلوا الدين المسيحي مذاهب ينقض بعضها بعضا، وجعلوا أهله شيعا يفتك بعضهم ببعض. فآريوس وأتباعه الذين دعوا إلى التوحيد بعد فشوّ الشرك، قد حكم عليهم المجمع الذي ألفه الملك قسطنطين سنة 325 م بالإلحاد وإحراق كتبهم وتحريم اقتنائها، ولما انتشرت تعاليمه فيما بعد حكم تيودوسيوس الثاني بإبادة الآريوسية بقانون روماني صدر سنة 628 م، وبقيت مذاهب التثليث تتطاحن ويغالب بعضها بعضا.

والعبرة من هذا القصص أن نبتعد عن الخلاف في الدين والتفرق فيه إلى شيع ومذاهب كما فعل من قبلنا، ولكن وا أسفا وقعنا فيما وقع فيه السالفون، وتفرقنا طرائق قددا، وأصابنا من الخذلان والذل بسبب هذا التفرق ما لا نزال نئنّ منه، ونرجو أن يشملنا الله بعفوه ورحمته، ويمدنا بروح من عنده فيسعى أهل الإيمان الصادق في نبذ الاختلاف والشقاق، والعودة إلى الوحدة والاتفاق، حتى يعود المسلمون إلى سيرتهم الأولى في عهد النبي ﷺ وخلفائه الراشدين، ومن تبعهم بإحسان.

(وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) أي ومن يكفر بآيات الله الدالة على وجوب الاعتصام بالدين ووحدته وحرمة الاختلاف والتفرق فيه، ويترك الإذعان لها - فالله يجازيه ويعاقبه على ما اجترح من السيئات، والله سريع الحساب.

والمراد بآيات الله هنا هي آياته التكوينية في الأنفس والآفاق، ويدخل في ترك الإذعان لها صرفها عن وجهها لتوافق مذاهب أهل الزيغ والإلحاد وآياته التشريعية التي أنزلها على رسله.

(فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ) أي فإن جادلك أهل الكتاب أو غيرهم - وقد كان النبي ﷺ يدعو اليهود في المدينة إلى ترك ما أحدثوه في دينهم وتعودوه من التحريف والتأويل والرجوع إلى حقيقة الدين وإسلام الوجه لله والإخلاص له - بعد أن أقمت لهم البراهين والبينات، وجئتهم بالحق - فقل لهم: أقبلت بعبادتي على ربى مخلصا له، معرضا عما سواه، أنا ومن اتبعني من المؤمنين.

والخلاصة - إنه لا فائدة من الجدل مع مثل هؤلاء لأنه لا يكون إلا فيما فيه خفاء أما وقد قامت الأدلة، وبطلت شبهات الضالين فهو مكابرة وعناد، ولا يستحق منك إلا الإعراض وعدم إضاعة الوقت سدى.

(وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ؟) أي وقل لليهود والنصارى ومشركي العرب - وخص هؤلاء بالذكر مع أن البعثة عامة، لأنهم هم الذين خوطبوا أولا بالدعوة - أأسلمتم كما أسلمت بعد أن وضحت لكم الحجة، وجاءكم من البينات ما يوجبه ويقتضيه، أم تصرّون على كفركم وعدم ترككم للعناد؟ ومثل هذا مثل من يلخص مسألة لسائل، ولا يدع طريقا من طرق البيان إلا سلكه، ثم يقول له: أفهمتها؟

وفي ذلك تعيير لهم بالبلادة وجمود القريحة وتوبيخ لهم على العناد وقلة الإنصاف (فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا) أي فإن أسلموا هذا الإسلام الذي هو روح الدين، فقد فازوا بالحظ الأوفر ونجوا من مهاوى الضلال، فإن إسلامهم على هذا الوجه يستتبع اتباعك فيما جئت به، لأن من هذه حاله فهو مستنير القلب متجه إلى طلب الحق، فهو أقرب الناس إلى قبوله متى لاح له وظهر.

(وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) أي وإن أعرضوا عن الاعتراف بما سألتهم عنه فلن يضيرك ذلك شيئا إذ ما عليك إلا البلاغ، وقد أديته على أتم وجه وأكمله.

(وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) فهو أعلم بمن طمس على قلبه وجعل على بصره غشاوة، فوقع اليأس من اهتدائه، وبمن يرجى له الهداية والتوفيق بعد البلاغ.

[سورة آل عمران (3): الآيات 21 الى 22]

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22)

تفسير المفردات

المراد بالذين يكفرون هم اليهود خاصة، وقوله بغير حق أي بغير شبهة لديهم، وحبط العمل بطل، والبشارة والبشرى الخبر السار تنبسط له بشرة الوجه، واستعمالها في الشر جاء على طريق التهكم والسخرية.

المعنى الجملي

بعد أن بين في الآيات السابقة حقيقة الدين الذي يقبله الله، وأنه الإسلام لوجهه تعالى، وذكر أن اختلاف أهل الكتاب فيه إنما نشأ من البغي بعد أن جاءهم العلم، ثم ذكر محاجة أهل الكتاب جميعا ومشركي العرب للنبي ﷺ، ثم أردفه ببيان أن إعراضهم عن الحق لا يضيره شيئا، فما عليه إلا البلاغ.

انتقل هنا إلى الكلام عن اليهود خاصة، وعيّر الحاضرين منهم بما فعله السالفون من آبائهم، لأن الأمة في تكافلها، وجرى لا حقها على أثر سابقها كأنها شخص واحد على ما سلف مثله في سورة البقرة. وقد يكون هذا كلاما مع اليهود الذين في عصر التنزيل، فإنهم همّوا بقتل النبي ﷺ زمن نزول الآية، إذ السورة مدنية كما همّ بذلك قومه الأميون بمكة من قبل، وكان كل من الفريقين حربا له، وعلى هذا فالآية فيمن سبق ذكرهم من أهل الكتاب والأميين، فكل منهما قاتله وقاتل الذين يأمرون بالقسط من المؤمنين

الإيضاح

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ) أي إن الذين كفروا بآيات الله من اليهود كما تشهد بذلك كتبهم قبل القرآن، وكان دأبهم قتل الأنبياء كزكريا ويحيى عليهما السلام بغير شبهة لديهم.

وفي ذكر هذا الوصف ما يزيد بشاعته وانقطاع العذر الذي ربما لجئوا إليه، ويقرر أن العبرة في مدح الشيء وذمه تدور مع الحق وجودا وعدما، لا مع الأشخاص والأصناف.

أخرج ابن جرير عن أبي عبيدة بن الجراح قال: « قلت يا رسول الله: أي الناس أشد عذابا يوم القيامة؟ قال: رجل قتل نبيا أو رجل أمر بمنكر ونهى عن معروف، ثم قرأ الآية، ثم قال: يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة رجل وسبعون رجلا من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلوهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من آخر النهار من ذلك اليوم ».

(وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) أي ويقتلون الحكماء الذين يرشدون الناس إلى العدل في كل شيء ويجعلونه روح الفضائل وقوامها.

ومرتبة هؤلاء في الإرشاد تلى مرتبة الأنبياء، وأثرهم في ذلك يلي أثرهم، لأن جميع الناس ينتفعون بهدي الأنبياء بقدر استعدادهم، والحكماء ينتفع بهم الخاصة المستعدون لفهم العلوم العالية، والنظريات العويصة.

انظر إلى الفارق بين دعوة النبي ﷺ وقد جبّت وثنية العرب في الزمن القليل، ودعوة فلاسفة اليونان إلى التوحيد وقد عجزت عن مثل ذلك أو ما يقاربه، إذ لم يستجب لهم فيها في الزمن الطويل إلا القليل من طلاب الفلسفة. وسر هذا أن دعوة النبي يؤيدها الله بروح من عنده، وتتعدد مظاهرها باعتبار المخاطبين فقد جاء في الحديث « أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم » وأشارت إلى ذلك الآية الكريمة: « ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ » فالحكمة يدعى بها العقلاء وأرباب الفكر والنظر، والموعظة يدعى بها العامة وذوو الأحلام الضعيفة، والجدل بالتي هي أحسن لمن هم في المرتبة الوسطى، لم يرتقوا إلى ذروة الحكماء، ولم ينزلوا إلى الدرجة السفلى، فلا ينقادون إلى الموعظة كسابقيهم، فلا بد لهم من الحسنى في الجدل، ومخاطبتهم على قدر عقولهم.

والحكماء ليس لديهم إلا طريق واحد في الدعوة إلى الحق والفضيلة، والمحور الذي تدور عليه هو حب العدل والإنصاف في الأفكار والأخلاق والآداب، سواء أكان الحكيم الذي يدعو ينتسب إلى دين أم لا، إذ هو إنما يبنى دعوته على الإقناع من طريق العقل بحسب ما وصل إليه علمه، مع الإخلاص والصدق.

فالإقدام على قتل مثل هؤلاء جناية على العقل، ومقت للعدل وكفى بذلك جرما وأعظم به خسرا.

(فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي أنبئ هؤلاء بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، ومن أحقّ بهذا العذاب من أولئك الطغاة الذين أسرفوا في الشر وقتلوا النبيين أو كانت نفوسهم كنفوس من قتلوا ولم يمنعهم عن القتل إلا العجز؟ كما قال تعالى: « وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ - يحبسوك - أَوْ يَقْتُلُوكَ ».

(أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي إن هؤلاء الذين فعلوا تلك القبائح يبطل الله أعمالهم في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فلأنهم لم ينالوا بها حمدا ولا ثناء من الناس، إذ هم كانوا على ضلال وباطل، ولعنهم الله وهتك أستارهم وأبدى ما كانوا يخفون من قبائح أعمالهم على ألسن أنبيائه ورسله، وذلك هو حبوطها في الدنيا، وأما في الآخرة فلا ثواب لها، بل قد أعد لهم العذاب الأليم، والخلود في الجحيم.

(وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) ينصرونهم من بأس الله وعذابه، وقد نفى الله عنهم الناصر الذي يدفع العذاب عنهم، لأنهم لما قتلوا النبيين والذين يأمرون بالقسط وهم ناصرو الحق، ولم يوجد فيهم ناصر يحول بينهم وبين قتلهم - جوزوا بعذاب لا ناصر لهم منه ولا معين.

وقد جعل الله وعيدهم ثلاثة أصناف:

(1) اجتماع أسباب الآلام والمكاره وهو العذاب الأليم.

(2) زوال أسباب المنافع بحبوط الأعمال في الدنيا والآخرة ففي الدنيا بإبدال لمدح بالذم والثناء باللعن، وفي الآخرة بما أشار إليه بقوله: « وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُورًا ».

(3) دوام هذا العذاب وهو ما أشار إليه بقوله (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ)

[سورة آل عمران (3): الآيات 23 الى 25]

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25)

تفسير المفردات

ألم تر: استفهام لتعجيب النبي ﷺ من حالهم، والذين أوتوا نصيبا من الكتاب هم اليهود، والنصيب: الحظ، والكتاب: التوراة، ليحكم بينهم: أي ليفصل بين اليهود والداعي لهم وهو النبي ﷺ، والتولي: الإعراض بالبدن، والإعراض يكون بالقلب، والافتراء: الكذب، واليوم: هو يوم الحساب والجزاء، ما كسبت: أي ما عملت من خير أو شر.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر مقابح أعمال اليهود من توليهم عند الدعوة، وقتلهم الأنبياء والآمرين بالقسط، ليبين لرسوله أن إعراضهم عن دعوته ليس ببدع ولا غريب فيهم، فذلك ديدنهم ودأبهم مع الأنبياء السالفين، فلا تذهب نفسه عليهم حسرات، ولا يحزنه إعراضهم - انتقل إلى خطاب رسوله ذاكرا أعجب شأن من شئونهم في الدين لذلك العهد وهو أنهم لا يقبلون التحاكم إلى كتابهم، وإذا دعوا إلى ذلك أعرضوا، ثم أردفه ذكر سبب هذا وهو أنهم اغتروا باتصال نسبهم بالأنبياء، وظنوا أن ذلك كاف في نجاتهم فأصبحوا لا يبالون بارتكابهم للمعاصى ولا باجتراح الآثام، ثم رد عليهم بأن الجزاء على الأعمال لا على مقدار الأنساب رفعة وضعة.

أخرج ابن إسحاق عن ابن عباس قال: دخل رسول الله ﷺ المدارس - مدرسة اليهود لدراسة التوراة - على جماعة من يهود، فدعاهم إلى الله، فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد: على أي دين أنت يا محمد؟ قال على ملة إبراهيم ودينه، قالا فإن إبراهيم كان يهوديا، فقال لهما رسول الله ﷺ: فهلمّوا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم، فأنزل الله الآية.

الإيضاح

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ) أي ألم تر إلى هؤلاء الذين تستحق أن تعجب لهم من اليهود - كيف يعرضون عن العمل بالكتاب الذي يؤمنون به إذا لم يوافق أهواءهم؟ (وهذا دأب أرباب الديانات في طور انحلالها واضمحلالها).

وقد كانوا يتحاكمون إلى النبي ﷺ وهم ماضوا العزيمة على قبول حكمه حتى إذا جاء على غير ما أحبوا خالفوه ونكصوا على أعقابهم، فقد زنى بعض أشرافهم وحكّموه فحكم بينهم بمثل حكم كتابهم فتولّوا وأعرضوا عن قبول حكمه، إذ هم إنما فزعوا إليه ليخفف عنهم.

وقوله نصيبا من الكتاب هو ما يحفظونه من الكتاب الذي أوحاه الله إليهم وقد فقدوا سائره، وهم لا يحسنون فهمه ولا يلتزمون العمل به.

فهذه الكتب الخمسة التي تسمى بالتوراة وتنسب إلى موسى عليه السلام، لا يوجد دليل على أنه هو الذي كتبها، إذ ليست محفوظة حتى يمكن الحكم عليها، بل قام الدليل لدى بعض الباحثين من الأوربيين على أنها كتبت بعده بخمسمائة سنة، كما لا تعرف اللغة التي كتبت بها أول مرة، ولا دليل على أن موسى كان يعرف اللغة العبرية، وإنما كانت لغته المصرية، فأين التوراة التي كتبها بتلك اللغة، ومن ترجمها؟

(ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ) أي إنهم إذا دعوا إلى حكم الكتاب تتولى طائفة منهم بعد تردد وجذب ودفع، وقد كان من دواعى الإيمان به ألا يترددوا في إجابة الدعوة إليه، إذ هو أصل دينهم، وعليه بنيت عقيدتهم.

وفي هذا إيماء إلى أن هذا التولي لم يكن عارضا يرجى زواله، بل ذلك دأبهم في عامة أحوالهم.

وإنما جىء بكلمة (فريق) للإشارة إلى أن هذا التولي لم يكن وصفهم جميعا فقد كان منهم طائفة يهدون بالحق، ومنهم من آمن بالنبي ﷺ.

ثم ذكر أسباب هذا التولي فقال:

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُوداتٍ) أي إن ذلك الإعراض والتولي إنما حدث لهم بسبب هذا القول الذي رسخ اعتقادهم له، فلم يبالوا معه بارتكاب المعاصي والذنوب.

وخلاصة ذلك - إنهم استخفوا بالعقوبة واستسهلوها اتكالا على اتصال نسبهم بالأنبياء، واعتمادا على مجرد الانتساب إلى هذا الدين، واعتقدوا أن هذا كاف في نجاتهم.

ومن استخفّ بوعيد الله زعما منه أنه غير نازل حتما بمن يستحقه - تزول من نفسه حرمة الأوامر والنواهي، فيقدم بلا مبالاة على انتهاك حرمات الدين، ويتهاون في أداء الطاعات، وهكذا شأن الأمم حين تفسق عن دينها ولا تبالي باجتراح السيئات، وقد ظهر ذلك في اليهود ثم في النصارى ثم في المسلمين، فإن كثيرا من المسلمين اليوم يعتقدون أن المسلم المرتكب لكبائر الإثم والفواحش إما أن تدركه الشفاعات أو تنجيه الكفارات، وإما أن يمنح العفو والمغفرة إحسانا من الله وفضلا، فإن فاته ذلك عذب على قدر خطيئته ثم يخرج من النار ويدخل الجنة، وأما المنتسبون إلى سائر الأديان فهم خالدون في النار مهما كانت أعمالهم.

والقرآن قد ناط أمر الفوز والنجاة من النار بالإيمان الذي ذكر الله علاماته وصفات أهله، وبالعمل الصالح والخلق الفاضل، وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن كما جعل المغفرة لمن لم تحط به خطيئته.

أما الذين صار همهم إرضاء شهواتهم، ولم يبق للدين سلطان على نفوسهم فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.

والمراد بالأيام المعدودات هي أربعون يوما وهي مدة عبادتهم للعجل، وقال الأستاذ الإمام: إنه لم يثبت في عدد هذه الأيام شيء.

(وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي وقد أطمعهم وخدعهم ما كانوا يفترون على الله من نحو قولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، وقولهم: إن آباءنا الأنبياء يشفعون لنا وإن الله وعد يعقوب ألا يعذب أبناءه إلا تحلّة القسم (مدة قصيرة).

والخلاصة - إن مثل هذا التحديد للعقوبة من الافتراء الذي كان منشأ غرورهم إذ هو مما لا يعرف بالرأي ولا بالفكر، بل بالوحي من الله، والعهد منه كما قال في سورة البقرة « وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً، قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ، أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟ ».

(فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) أي فكيف يصنعون إذا جمعناهم للجزاء في يوم لا ريب فيه؟ وفي هذا الاستفهام تهويل لما سيكون، واستعظام لما أعدّ لهم، وأنهم سيقعون فيما لا حيلة في دفعه والخلاص منه، وأن ما حدّثوا به أنفسهم وسهلوه عليها بتعللاتهم وأباطيلهم تطمّع بما لا يكون.

(وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) أي ورأت كل نفس ما عملت من خير أو شر محضرا لا نقص فيه، ثم جوزيت عليه وكان منشأ سعادتها أو شقائها، ولا يفيدهم الانتماء إلى دين معين أو مذهب خاصّ، إذ لا امتياز لشعب على شعب وإن تسمى بعضهم بشعب الله، ولا بين الأشخاص وإن لقبوا أنفسهم بأبناء الله، فإن الجزاء يومئذ إنما يكون بما في داخل الصدور لا بما في خارجها، وبما أحدثته الأعمال فيها من صفات حسنة أو قبيحة.

(وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) فهناك العدل الكامل، فلا ينقص أحد من جزاء ما كسب ولا يزاد في عذابه شيء، والعبرة حينئذ بتأثير العمل في النفس، فإذا كان أثره السيئ قد أحاط بها، واستغرق وجدانها، كانت خالدة في النار، لأن عملها لم يدع للإيمان أثرا صالحا يعدّها لدار الكرامة، وإن لم يبلغ هذا القدر بأن غلب عليها العمل الصالح، أو استوى الأمران، جوزيت على كل بحسب درجته ومقداره.

[سورة آل عمران (3): الآيات 26 الى 27]

قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27)

تفسير المفردات

الملك: السلطة والتصرف في الأمر بيدك الخير: أي بقدرتك التي لا يقدر قدرها، الخير كلّه تتصرف فيه أنت وحدك، الولوج: الدخول، والإيلاج: الإدخال، ويراد به زيادة زمان النهار في الليل والعكس بالعكس بحسب المطالع والمغارب في أكثر البلدان.

المعنى الجملي

كان الكلام في حال النبي ﷺ مع المخاطبين بالدعوة من المشركين وأهل الكتاب فالمشركون كانوا ينكرون النبوة لرجل يأكل الطعام، ويمشى في الأسواق، كما أنكر ذلك أمثالهم على الأنبياء من قبل، وأهل الكتاب كانوا ينكرون أن يكون نبي من غير آل إسرائيل، فجاءت هذه الآية تسلية للنبي ﷺ في مقام عناد المنكرين، ومكابرة الجاحدين، وتذكيرا له بقدرته تعالى على نصره وإعلاء دينه، وكأنه يقول له: إذا تولى هؤلاء الجاحدون عنك ولم يقنعهم البرهان، فظل المشركون على جهلهم وأهل الكتاب في غرورهم، فعليك أن تلجأ إلى الله تعالى وترجع إليه بالدعاء والثناء، وتتذكر أنه بيده الأمر يفعل ما يشاء.

روى الواحدي عن ابن عباس وأنس بن مالك أنه لما افتتح رسول الله ﷺ مكة وعد أمته ملك فارس والروم، فقال المنافقون واليهود: هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم، هم أعز وأمنع من ذلك، ألم يكف محمدا مكة والمدينة حتى يطمع في ملك فارس والروم؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.

الإيضاح

(قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) أي أنت ربنا سبحانك لك السلطان الأعلى والتصرف التام في تدبير الأمور وإقامة ميزان النظام العام في الكائنات، فأنت تؤتي الملك من تشاء من عبادك، إما تبعا للنبوة كما وقع لآل إبراهيم وإما بالاستقلال بحسب السنن الحكيمة الموصلة إلى ذلك واتباع الأسباب الاجتماعية بتكوين القبائل والشعوب، وتنزع الملك ممن تشاء بانحراف الناس عن الطريق السوي الحافظ للملك من العدل وحسن السياسة وإعداد القوة بقدر المستطاع، كما نزعه من بني إسرائيل وغيرهم بظلمهم وفسادهم.

(وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) للعزة آثار وللذل مثلها، فالعزيز يكون نافذ الكلمة كثير الأعوان مالكا للقلوب بجاهه أو علمه النافع للناس، مع بسطة في الرزق وإحسان إلى الخلق.

والذليل يرضى بالضيم والمهانة، ويضعف عن حماية الحريم، ومقاومة العدو المهاجم، ولا عز أعظم من عز الاجتماع والتعاون على نشر دعوة الحق ومقاومة الباطل إذا سار المجتمعون على السنن التي سنها الله لعباده، فأعدّوا لكل أمر عدته، ولا عبرة بكثرة عدد الأمة وقلته في تكوين العزة واجتماع القوة، فقد كان المشركون في مكة واليهود ومنافقوا العرب في المدينة يغترون بكثرتهم على النبي ﷺ والمؤمنين، ولكن ذلك لم يغن عنهم شيئا كما قال تعالى: « يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ».

والمشاهدة أكبر دليل على صدق هذا، انظر إلى الشعوب الشرقية على كثرة عدد كل شعب منها، كيف سادها وتحكم فيها ملوك الغرب على قلة عددهم، وما ذاك إلا لفشوّ الجهل وتفرق الكلمة والتخاذل في مقاومة الغاصب، بل ممالأة بعضهم له إذا جاش بصدر بعضهم مقاومته، والسعي في إزالة طغيانه، وتحكمه في الرقاب والبلاد.

(بِيَدِكَ الْخَيْرُ) أي بقدرتك الخير كله تتصرف فيه أنت وحدك بحسب مشيئتك، ولا يملكه أحد سواك، وخص الخير بالذكر مع أن كلا من الخير والشر بيده وقدرته كما يدل على ذلك قوله:

(إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لأن المناسب للمقام ذكر الخير فقط، فإنه ما أغرى أولئك الجاحدين وجعلهم يستهينون بالدعوة إلا فقر الداعي وضعف أتباعه وقلة عددهم، فأمره الله أن يلجأ إلى مالك الملك الذي بيده الإعزاز، وأن يذكّره بأن الخير كله بيده، فلا يعجزه أن يعطى نبيه والمؤمنين من السيادة وبسطة السلطان ما وعدهم، وأن يؤتيهم من الخير ما لا يدور بخلد أولئك الذين استضعفوهم كما قال « وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ ».

(تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أي إنك تدخل طائفة من الليل في النهار فيقصر الليل من حيث يطول النهار، وتدخل طائفة من النهار في الليل فيطول هذا من حيث يقصر ذاك.

والخلاصة - إنك بحكمتك في خلق الأرض مكورة، وجعل الشمس بنظام خاص تزيد في أحد الموين (الليل والنهار) ما يكون سببا في نقص الآخر.

فليس بالمنكر بعد هذا أن تؤتى النبوة والملك من تشاء كمحمد وأمته من العرب وتنزعهما ممن تشاء كبني إسرائيل، فما مثل تصرفك في شئون الناس إلا مثل تصرفك في الليل والنهار.

(وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) كالعالم من الجاهل والمؤمن من الكافر (والحياة والموت معنويان) والنخلة من النواة والإنسان من النطفة، والطائر من البيضة (والحياة والموت حسيان).

(وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) كالجاهل من العالم، والكافر من المؤمن، والنواة من النخلة، والبيضة من الطائر.

وقد أثبت علماء الطب أن في النطفة والبيضة والنواة حياة، ولكن هذه حياة اصطلاحية لأهل هذا الفن، لا في العرف العام الذي جاء به التنزيل.

قال الدكتور المرحوم عبد العزيز باشا إسماعيل في كتابه الإسلام والطب الحديث: قيل في تفسير ذلك: كإنشاء الحيوان من النطفة والنطفة من الحيوان ولكن النطفة هي حيوانات حية، وكذلك خلق الحيوان من النطفة فهو خلق حي من حي فلا تنطبق عليه الآية الكريمة على هذا التفسير والله أعلم، فإذا قيل: إن معنى الآية خلق آدم من طين أي خلق حي من ميت فهذا صحيح، ولكنه ليس المقصود من الآية والله أعلم، لأنها تشير إلى أن الخلق شيء عادى يحصل يوميا بدليل ورودها بعد (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) بالتعاقب وهذا شيء اعتيادى، فالله يضرب لنا مثلا نشاهده يوميا.

والتفسير الحقيقي هو (إخراج الحي من الميت) كما يحصل يوميا من أن الحي ينمو بأكل أشياء ميتة، فالصغير يكبر جسمه بتغذية اللبن أو غيره، والغذاء شيء ميت، ولا شك في أن القدرة على تحويل الشيء الميت الذي يأكله إلى عناصر ومواد من نوع جسمه بحيث ينمو جسمه، هو أهم علامة تفصل الجسم الحي من الجسم الميت، وقد كتب علماء الحيوان فقالوا: إن النعجة مثلا تتغذى بالنبات وتحوله إلى لحمها، وهذه أهم علامة على أنها حية، وكذا الطفل يتغدى باللبن الميت ويحوله إلى جسمه الحي.

وأما إخراج الميت من الحي، فهو الإفرازات مثل اللبن (وإن شئت فلحوم الحيوانات أيضا والنبات) فإن اللبن سائل ليس فيه شيء حي، بخلاف النطفة فإن فيها حيوانات حية، وهذه تخرج من الحيوان الحي، وهكذا ينمو الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، والله أعلم بمراده ا هـ.

وقد استعمل القرآن لفظ الحياة فيما يقابل الموت، سواء أكانت الحياة حسية أم معنوية وسواء أكان لفظ الميت مما يعيش ويحيا مثله أم لا.

وهذه العبارة - يخرج الحي من الميت - إلى آخره مثال ظاهر لكونه تعالى مالك الملك يؤتى الملك من يشاء، فقد أخرج من العرب الأميين سيد المرسلين، إذ أعدهم بارتقاء الفكر واستقلاله وبقوة الإرادة لأن يكونوا أقوى الأمم استعدادا لقبول هذا الدين الجديد الذي هدم بناء الاستعباد، وأقام على أنقاضه صرح الاستقلال حين كان بنو إسرائيل وغيرهم يرسفون في قيود التقليد، وأغلال الاستبداد من الملوك والحكام.

وما الإعطاء لمن أعطى ونزع ما نزع إلا بإقامة السنن التي عليها مدار النظام، وبها الإبداع والإحكام.

(وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي إن الأمر كله بيدك وليس أحد فوقك يحاسبك فأنت القادر على أن تنزع الملك من العجم وتذلهم، وتؤتيه العرب وتعزهم وذلك أهون شيء عليك.

وقد ورد لفظ الحساب في القرآن على ثلاثة أوجه.

(1) بمعنى التعب كما في هذه الآية.

(2) بمعنى العدد كما في قوله « إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ »:

(3) بمعنى المطالبة كما في قوله « فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ ».


thnx ..

[سورة آل عمران (3): الآيات 28 الى 30]

لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30)

تفسير المفردات

الأولياء واحدهم ولي وهو النصير، تقاة: أي اتقاء وخوفا، ويحذركم: أي يخوفكم، والأمد: المدة لها حد محدود، محضرا: أي حاضرا لديها.

المعنى الجملي

بعد أن نبّه الله نبيه والمؤمنين إلى الالتجاء إليه، مع الاعتراف بأن بيده الملك والعز والسلطان المطلق في تصريف الكون فيعطى من يشاء ويمنع من يشاء - أرشدهم في هذه الآيات إلى أن من الغرور أن يعتز أحد بغير الله، وأن يلتجىء إلى غير جنابه.

وقد روى أرباب السير أن بعض الذين كانوا يدخلون في الإسلام يغترون بعزة الكافرين وقوتهم فيوالونهم ويركنون إليهم، وليس هذا بالمستغرب بل هو أمر طبيعي في البشر.

وروي عن ابن عباس أنه قال: كان الحجاج بن عمرو وابن أبي الحقيق وقيس ابن زيد من اليهود يباطنون (يلازمون) نفرا من الأنصار يفتنونهم عن دينهم، فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير وسعد بن خيثمة لأولئك النفر، اجتنبوا هؤلاء اليهود فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم فأنزل الله الآية.

الإيضاح

(لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) أي لا يصطف المؤمنون الكافرين فيكاشفوهم بالأسرار الخاصة بالشئون الدينية ويقدموا مصلحتهم على مصلحة المؤمنين، إذ في هذا تفضيل لهم عليهم وإعانة للكفر على الإيمان.

وخلاصة هذا - نهى المؤمنين عن موالاة الكافرين لقرابة أو صداقة جاهلية أو جوار أو نحو ذلك من أسباب المصادقة والمعاشرة، بل ينبغي أن يراعوا ما هم عليه مما يقتضيه الإسلام من الحب والبغض لمصلحة الدين فحسب، ومن ثم تكون موالاة المؤمنين أجدى لهم في دينهم من موالاة الكافرين.

فإن كانت الموالاة والمحالفة لمصلحة المسلمين فلا مانع منها، فقد حالف النبي ﷺ خزاعة وهم على شركهم، كما لا مانع من ثقة المسلم بغيره وحسن معاملته في أمور الدنيا.

(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْ ءٍ) أي ومن يتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين فيما يضر مصلحة الدين فليس من ولاية الله في شيء، أي فليس بمطيع له ولا ناصر لدينه، وصلة الإيمان بينه وبين ربه تكون منقطعة، ويكون من الكافرين كما جاء في الآية الأخرى « وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ».

(إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) أي إنّ ترك موالاة المؤمنين للكافرين حتم لازم في كل حال إلا في حال الخوف من شيء تتقونه منهم، فلكم حينئذ أن تتقوهم بقدر ما يتّقى ذلك الشيء، إذ القاعدة الشرعية « أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ».

وإذا جازت موالاتهم لاتقاء الضرر فأولى أن تجوز لمنفعة المسلمين، وإذا فلا مانع من أن تحالف دولة إسلامية دولة غير مسلمة لفائدة تعود إلى الأولى إما بدفع ضرر أو جلب منفعة، وليس لها أن تواليها في شيء يضر بالمسلمين، ولا تختص هذه الموالاة بحال الضعف، بل هي جائزة في كل وقت.

وقد استنبط العلماء من هذه الآية جواز التّقيّة بأن يقول الإنسان أو يفعل ما يخالف الحق لأجل توقى ضرر من الأعداء يعود إلى النفس أو العرض أو المال.

فمن نطق بكلمة الكفر مكرها وقاية لنفسه من الهلاك، وقلبه مطمئن بالإيمان لا يكون كافرا بل يعذر كما فعل عمار بن ياسر حين أكرهته قريش على الكفر فوافقها مكرها وقلبه مليء بالإيمان وفيه نزلت الآية « مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ، وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ».

وكما عذر الصحابي الذي قال له مسيلمة: أتشهد إني رسول الله؟ قال نعم فتركه وقتل رفيقه الذي سأله هذا السؤال فقال إني أصمّ (ثلاثا) فقدّمه وقتله، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فقال: أما هذا المقتول فمضى على يقينه وصدقه فهنيئا له، وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه.

وهي من الرخص لأجل الضرورات العارضة، لا من أصول الدين المتبعة دائما، ومن ثم وجب على المسلم الهجرة من المكان الذي يخاف فيه من إظهار دينه ويضطر فيه إلى التقية، ومن كمال الإيمان ألا يخاف في الله لومة لائم كما قال تعالى « فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ » وقال: « فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ ».

وكان النبي ﷺ وأصحابه يتحملون الأذى في سبيل دعوة الدين ويصبرون عليه.

ويدخل في التقية مداراة الكفرة والظلمة والفسقة وإلانة الكلام لهم والتبسم في وجوههم وبذل المال لهم لكف أذاهم وصيانة العرض منهم، ولا يعد هذا من الموالاة المنهي عنها بل هو مشروع فقد أخرج الطبراني قوله ﷺ « ما وقى به المؤمن عرضه فهو صدقة » وعن عائشة قالت: استأذن رجل على رسول الله ﷺ وأنا عنده فقال رسول الله ﷺ « بئس ابن العشيرة أو أخو العشيرة » ثم أذن له فألان له القول، فلما خرج قلت يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له القول، فقال يا عائشة: « إن من شر الناس من يتركه الناس اتقاء فحشه » رواه البخاري.

وروى قوله ﷺ « إنا لنكشر (نبتسم) في وجوه قوم وإن قلوبنا لتقليهم » (تبغضهم).

(وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) أي عقاب نفسه، وفائدة ذكر (نفسه) الإيماء إلى أن الوعيد صادر منه تعالى وهو القادر على إنفاذه ولا يعجزه شيء عنه.

وفي ذلك تهديد عظيم لمن تعرض لسخطه بموالاة أعدائه، لأن شدة العقاب بحسب قوة المعاقب وقدرته.

(وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) أي وإلى الله مرجع الخلق وجزاؤهم، فيجزى كلا بما عمل (قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي إنه سبحانه يعلم ما تنطوى عليه نفوسكم إذ توالون الكافرين أو توادّونهم أو تتقون منهم ما تتقون، فإن كان ذلك يميل بكم إلى الكفر جازاكم عليه، وإن كانت قلوبكم مطمئنة بالإيمان غفر لكم ولم يؤاخذكم على عمل لا جريمة فيه على الدين ولا على أهله، وهو إنما يجازيكم بحسب علمه المحيط بما في السموات والأرض، لأنه الخالق لها كما قال: « أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ».

(وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو يقدر على عقوبتكم فلا تجسروا على عصيانه وموالاة أعدائه، إذ ما من معصية خفيّة كانت أو ظاهرة إلا وهو مطلع عليها قادر على عقاب فاعلها (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا، وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا) أي احذروا يوم تجد كل نفس عملها من الخير حاضرا لديها، فيكون ذلك غبطة وسرورا لها، وتنعم بما أحسنت، وتبتئس المسيئة وتغتم بما أساءت وتود أن ما عملت من السوء كان بعيدا عنها لم تره حتى لا تؤاخذ بجريرته.

ومعنى كونه محضرا أن فائدته ومنفعته تكون حاضرة لها.

(وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) أي احذروا من سخط الله بترجيح جانب الخير وعمله على ما يزينه لكم الشيطان من عمل السوء « وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ».

(وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) قال الحسن البصري: ومن رأفته أن حذرهم نفسه، وعرفهم كمال علمه وقدرته، لأنهم إذا عرفوه حق المعرفة دعاهم ذلك إلى طلب رضاه واجتناب سخطه ا هـ.

ومن رأفته أيضا أن جعل الفطرة الإنسانية ميالة بطبعها إلى الخير، مبغضة لما يعرض لها من الشر، وأن جعل أثر الشر في النفس قابلا للمحو بالتوبة والعمل الصالح.

[سورة آل عمران (3): الآيات 31 الى 32]

قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32)

تفسير المفردات

المحبة: ميل النفس إلى الشيء لكمال أدركته فيه، فيدعوها ذلك إلى التقرب إليه، يغفر لكم: أي يتجاوز عما فرط منكم من الأعمال السيئة والاعتقادات الباطلة، فإن تولوا: أي فإن أعرضوا ولم يجيبوا دعوتك.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر قبل هذا جلال سلطانه وعظيم كماله، ثم نهى المؤمنين عن موالاة أعدائه وأكد ذلك بالوعيد الشديد - ذكر هنا أن طريق محبته متابعة رسوله وامتثال أوامره التي جاء بها واجتناب ما نهى عنه، وبذا يكون المرء أهلا لمحبته، مستحقا لغفران ذنوبه.

روي أن هذه الآية نزلت حين دعا رسول الله ﷺ كعب ابن الأشرف ومن تابعه من اليهود إلى الإيمان فقالوا « نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ » فأمر الله نبيه أن يقول لهم: إني رسول الله إليكم أدعوكم إليه، فإن كنتم تحبونه فاتبعوني وامتثلوا أمري يحببكم الله ويرض عنكم.

الإيضاح

(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) أي قل لهم: إن كنتم تريدون طاعة الله وترغبون في العمل بما يقرب إليه طلبا للثواب فيما عنده، فاتبعوني بامتثال ما نزل به الوحي منه إلي، يرض الله عنكم ويتجاوز عما فرط منكم من الأعمال السيئة، والاعتقادات الباطلة، ويبوئكم في جوار قدسه، إذ في هذا الاتباع اعتقاد الحق والعمل الصالح، وهما يزيلان من النفس آثار المعاصي والرذائل، ويمحوان منها ظلمة الباطل، وأثر ذلك المغفرة ورضوان الله.

وهذا حجة على من يدعى محبة الله في كل زمان وأعماله تكذب ما يقول، إذ كيف يجتمع حب مع الجهل بالمحبوب، وعدم العناية بأوامره ونواهيه، فهو كما قال الورّاق:

تعصي الإله وأنت تظهر حبّه هذا لعمري في القياس بديع

لو كان حبّك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحبّ مطيع

(وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن تحبب إليه بطاعته، وتقرب إليه باتباع نبيه، إذ في هذا تزكية للنفس بصالح العمل، فيغفر لها ما فرط من زلاتها، ويتجاوز عن سيئاتها.

روي أنه لما نزل قوله (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ...) قال عبد الله بن أبيّ: إن محمدا يجعل طاعته كطاعة الله تعالى، ويأمرنا أن نحبه كما أحب النصارى عيسى فنزل قوله:

(قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ) أي قل لهم: أطيعوا الله باتباع أوامره، واجتناب نواهيه، وأطيعوا رسوله باتباع سنته والاهتداء بهديه. وفي هذا إرشاد إلى أن الله إنما أوجب عليكم متابعته لأنه رسوله، لا كما يقول النصارى في عيسى.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) أي فإن أعرضوا ولم يجيبوا دعوتك غرورا بدعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه - فإن الله لا يحب الكافرين، الذين تصرفهم أهواؤهم عن النظر الصحيح في آياته، وعما أنزله على رسوله فلا يرضى عنهم، بل يبعدهم عن جوار قدسه وحظيرة عزته، ويسخط عليهم يوم يرضى عن المؤمنين به المطيعين لنبيه، المتبعين لما جاء به من عند ربه.

[سورة آل عمران (3): الآيات 33 الى 37]

إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتًا حَسَنًا وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقًا قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37)

تفسير المفردات

الاصطفاء: أخذ ما صفا من الشيء كالاستصفاء، والذرية في أصل اللغة الصغار من الأولاد، ثم استعملت عرفا في الصغار والكبار، وللواحد والكثير، والنذر: ما يوجبه الإنسان على نفسه، والمحرر: المخصص للعبادة والخدمة لا يشتغل بشىء آخر، والتقبل: أخذ الشيء على وجه الرضا والقبول، أعيذها بك: أي أمنعها وأجيرها بحفظك وأصل العوذ الالتجاء إلى سواك والتعلق به، يقال عاذ بفلان إذا استجار به، والرجيم: أي المرجوم المطرود من الخير، ومريم بالعبرية خادم الرب، وتقبل الشيء وقبله: أي رضيه لنفسه، وأنبتها: أي رباها بما يصلح أحوالها، وكفلها زكريا: أي وجغل زكريا كافلإلها، وزكريا من ولد سليمان بن داود عليهما السلام، والمحراب هنا هو المسمى عند أهل الكتاب بالمذبح وهو مقصورة في مقدم المعبد لها باب يصعد إليه بسلم ذي درج قليلة يكون من فيه محجوبا عمن في المعبد، أني لك هذا: أي من أين لك هذا والأيام أيام قحط وجدب، بغير حساب: أي بغير عدّ ولا إحصاء لكثرته.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه أن الدين الحق هو الإسلام والتوحيد، وأن اختلاف أهل الكتاب فيه إنما هو للبغى والحسد، وأن الفوز والفلاح منوط باتباع الرسول ﷺ وطاعته - ذكر هنا من أحبهم واصطفاهم وجعل منهم الرسل الذين يبينون للناس طريق محبته وهي الإيمان به مع طاعته والعمل بما يرضيه.

الإيضاح

(إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) أي إن الله اختار هؤلاء وجعلهم صفوة العالمين بجعل النبوّة والرسالة فيهم. فأولهم آدم وهو أبو البشر اصطفاه ربه واجتباه كما قال تعالى: « ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى » وكان من ذريته النبيون والمرسلون. وثانيهم نوح وهو الأب الثاني للبشر، فقد حدث على عهده ذلك الطوفان العظيم فانقرض من السلائل البشرية من انقرض، ونجا هو وأهله في الفلك العظيم، وجاء من ذريته كثير من النبيين والمرسلين، ثم تفرقت ذريته وانتشرت في البلاد وفشت فيهم الوثنية. فظهر إبراهيم صلوات الله عليه نبيا مرسلا، ثم تتابع من بعده النبيون والمرسلون من ذريته وآله كإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط، وكان من أرفع أولاده قدرا وأنبههم ذكرا آل عمران، وهم عيسى وأمه مريم ابنة عمران، وينتهي نسبها إلى يعقوب صلوات الله عليه، وختمت النبوة بولد إسماعيل محمد صلوات الله وسلامه عليه.

(ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) أي إن الآلين ذرية واحدة متشعب بعضها من بعض، فآل إبراهيم وهم إسماعيل وإسحق وأولادهما من نسل إبراهيم، وإبراهيم من نسل نوح ونوح من آدم. وآل عمران وهم موسى وهرون وعيسى وأمه من ذرية إبراهيم ونوح وآدم.

وقد يكون المراد بكون بعضها من بعض أنهم أشباه وأمثال في الخير والفضيلة التي كانت سببا في اصطفائهم، على نحو قوله تعالى « الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ » وهؤلاء الذرية هم الذين ذكرهم الله في سياق الكلام في إبراهيم بقوله: « وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا، وَنُوحًا هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ، وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ، وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ».

(وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي إنه تعالى كان سميعا لقول ابنة عمران عالما بنيتها حين ناجت ربها وهي حامل بنذر ما في بطنها لخدمة بيت المقدس، وبثنائها عليه حين المناجاة بأنه السميع لدعائها وضراعتها، العليم بصحة نيتها وإخلاصها، وهذا يستدعى تقبل الدعاء، ورجاء الإجابة تفضلا منه وإحسانا.

وقد جاء ذكر عمران في هذه الآيات مرتين، فعمران الأول أبو موسى عليه السلام، والثاني أبو مريم وبينهما نحو ألف وثمانمائة سنة على وجه التقريب.

(فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) أي فلما وضعت بنتا تحسرت وتفجعت على ما رأت من خيبة رجائها وانقطاع حبل أملها فإنها نذرت تحرير ما في بطنها لخدمة بيت المقدس والانقطاع للعبادة، والأنثى لا تصلح لذلك.

(وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) أي والله أعلم بمكانة الأنثى التي وضعتها، وأنها خير من كثير من الذكور.

وفي هذا تعظيم لهذه المولودة وتفخيم شأنها، ودفع ما يتوهم من قولها الدالّ على انحطاطها عن مرتبة الذكور (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) أي وليس الذكر الذي طلبت وتمنت كالأنثى التي وضعت بل هي خير مما كانت ترجوه من الذّكران.

(وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) أي وإني غير راجعة عما انتويته من خدمتها بيت المقدس، وإن كانت أنثى فإن لم تكن جديرة بسدانته فلتكن من العابدات القانتات، وإني أجيرها بحفظك ورعايتك من الشيطان المطرود من الخير.

روى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: « كل بنd آدم يمسه الشيطان يوم ولدته أمه إلا مريم وابنها »

والمراد أن الشيطان يطمع في إغواء كل مولود بحيث يتأثر منه إلا مريم وابنها، فإن الله تعالى عصمهما ببركة هذه الاستعاذة، ونحوه حديث شق الصدر وغسل القلب بعد استخراج حظ الشيطان منه، إذ معناه أنه لم يبق للشيطان نصيب من قلبه ﷺ ولو بالوسوسة (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ) أي فتقبل مريم من أمها ورضى أن تكون محررة للعبادة وخدمة بيته على صغرها وأنوثتها، وكان التحرير لا يجوز إلا لغلام عاقل قادر على خدمة البيت.

(وَأَنْبَتَها نَباتًا حَسَنًا) أي رباها ونماها بما يصلح أحوالها كما يربّى النبات في الأرض الصالحة بعد تعهد الزراع إياه بالسقي وقلع ما يضعفه من النبات الطفيلي. وهذه التربية تشمل التربية الروحية والجسدية، فقد نمى جسدها فكانت خير لداتها جسما وقوة، كما نماها صلاحا وعفة وسداد رأي.

(وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) أي جعله كافلا لمصالحها وقائما بشئونها.

(كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقًا) أي كلما دخل زكريا محرابها وجد ألوانا من الطعام لم تكن توجد في مثل تلك الأحيان.

روي أنه كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف، وليس لدينا مستند صحيح من كتاب أو سنة يؤيد هذه الروايات الإسرائيلية.

(قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا؟) أي قال من أين لك هذا والأيام أيام جدب وقحط.

(قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) الذي يرزق الناس جميعا بتسخير بعضهم لبعض، وقد جرى العرف في كل زمان بإضافة الرزق إلى الله، وليس في هذا دلالة على أنه من خوارق العادات.

وسيق هذا القصص لتقرير نبوة النبي ﷺ ودحض شبه أهل الكتاب الذين احتكروا فضل الله وجعلوه خاصا بشعب إسرائيل، ودحض شبهة المشركين الذين أنكروها لأنه بشر. وبيان هذا أن الله اصطفى آدم وسخر له ما في الأرض من حيوان ونبات وجماد، واصطفى نوحا وجعله أبا البشر الثاني، واصطفى إبراهيم وآله على البشر، والعرب وأهل الكتاب يعرفون ذلك، والأولون يفخرون بأنهم من ولد إسماعيل وعلى ملة إبراهيم، والآخرون يفخرون باصطفاء آل عمران من بني إسرائيل حفيد إبراهيم، وهؤلاء وأولئك يعلمون أنه اصطفى هؤلاء بمحض مشيئته تفضلا منه وإحسانا، وإذا فما الذي يمنع من أن يصطفى محمدا ﷺ على العالمين كما اصطفى أولئك فالله يصطفى من خلقه من يشاء، وقد اصطفاه وجعله هاديا للناس مخرجا لهم من ظلمات الشرك والجهل إلى نور الحق واليقين، ولم يكن أثر غيره من آل إبراهيم وآل عمران في الهداية أظهر من أثره.

[سورة آل عمران (3): الآيات 38 الى 41]

هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (40) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (41)

تفسير المفردات

الذرية: الولد، وتقع على الواحد والكثير، والطيب: ما تستطاب أفعاله وأخلاقه، سميع الدعاء: أي مجيبه كما يقال: سمع الله لمن حمده، إذ من لم يجب فكأنه لم يسمع، وكلمة الله: عيسى عليه السلام، والسيد الرئيس يسود قومه، والحصور من الحصر وهو الحبس أي يحبس نفسه ويمنعها مما ينافى الفضل والكمال، من الصالحين: أي من أصلابهم، والصلاح صفة تجمع الخير كله إني يكون لي؟ أي كيف يحصل لي، بلغني الكبر: أي أدركنى كبر السن وأثّر فيّ، عاقر: أي عقيم لا تلد، آية: أي علامة أعرف بها ميقات الحمل إذا حدث لأتلقى النعمة بالشكر، ألا تكلم الناس: أي لا تستطيع الكلام، والرمز: الإشارة بيد أو رأس أو غيرهما، وسمى الرمز كلاما لأنه يفيد ما يفيده الكلام ويدل على ما دل عليه، والعشى: الوقت من الزوال إلى الغروب، والإبكار: من طلوع الفجر إلى وقت الضحى.

الإيضاح

(هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) أي في هذا المكان الذي خاطبته فيه مريم بما ذكر دعا ربه بهذا الدعاء، فإنه حين رأى حسن حالها ومعرفتها بالله تمنى أن يكون له ولد صالح مثلها هبة وفضلا من عنده فرؤية الأولاد النجباء مما تشوّق نفوس الناظرين إليهم وتجعلهم يتمنون أن يكون لهم مثلهم.

(فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ) أي ناداه جبريل عليه السلام كما قال به جمهور من المفسرين كما يقال خرج فلان على بغال البريد، وركب السفن، وهو إنما ركب بغلا واحدا وسفينة واحدة، ويقال ممن سمعت هذا الخبر؟ فتقول من الناس، وأنت إنما سمعته من واحد.

ويرى ابن جرير في جماعة آخرين أن المراد جماعة الملائكة إذ لا ضرورة تدعو إلى التأويل، وبهذا قال قتادة وعكرمة ومجاهد.

(وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ) أي نادته الملائكة على الفور وهو يدعو بذلك الدعاء الذي فصّل في سورة مريم.

(أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى) أي نادته بهذه البشرى، وقوله بيحيى أي بولد اسمه يحيى كما قال في سورة مريم « إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى » وهو معرب يوحنا، ففي إنجيل متى: إنه يدعى يوحنا المعمدانى، لأنه كان « يعمّد » الناس في زمانه.

والاسم العربي من مادة الحياة وإليه يشير القائل في الرثاء:

وسميته يحيى ليحيا فلم يكن لأمر قضاه الله في الناس من بدّ

فهو يشعر بأنه يحيا حياة طيبة بأن يكون وارثا لوالده ولآل يعقوب ما كان فيهم من الفضل والنبوة.

(مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) أي مصدقا بعيسى الذي ولد بكلمة الله (كُنْ فَيَكُونُ) لا بالسّنة العامة في توالد البشر، وهي أن يكون الولد من أب وأم، وهو سيد يفوق قومه والناس جميعا في الشرف والصلاح وعمل الخير وهو حصور مانع نفسه من شهواتها، وسيكون نبيّا يوحى إليه إذا هو بلغ سن النبوّة، ناشئا من أصلاب قوم صالحين، ولا غرو فهو من أصلاب الأنبياء صلوات الله عليهم.

روي أنه مر وهو طفل بصبيان يلعبون فدعوه إلى اللعب فقال: ما للعب خلقت.

ثم سأل ربه سؤال استبعاد وتعجب إني يكون له ولد وهو وامرأته على تلك الحال.

(قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) قال الأستاذ الإمام: إن زكريا لما رأى ما رأى من نعم الله على مريم من كمال إيمانها، وحسن حالها، واعتقادها أن المسخر لها، والرازق لما عندها، هو من يرزق من يشاء بغير حساب، أخذ عن نفسه وغاب عن حسه، وانصرف عن العالم وما فيه، واستغرق قلبه في ملاحظة فضل الله ورحمته، فنطق بهذا الدعاء في حال غيبته، وإنما يكون الدعاء مستجابا إذا جرى به اللسان بتلقين القلب، حال استغراقه في الشعور بكمال الرب.

ولما عاد من سفره في عالم الوحدة إلى عالم الأسباب ومقام التفرقة، وقد أوذن بسماع ندائه واستجابة دعائه - سأل ربه عن كيفية تلك الاستجابة، وهي على غير السنة الكونية، فأجابه بقوله:

(قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) أي قال تعالى بتبليغ ملائكته: كذلك الله يفعل ما يشاء، فمتى شاء أمرا أوجد له سببه أو خلقه بغير الأسباب المعروفة، فلا يحول دون مشيئته شيء، ففوّض إليه الأمر ولا تسأل عن الكيفية، فلا سبيل لك للوصول إلى معرفتها.

(قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) أي قال: رب اجعل لي علامة تدلنى على الحمل، وقد سأل ذلك استعجالا للسرور قاله الحسن البصري، وقيل: ليتلقى تلك النعمة بالشكر حين حصولها، ولا يؤخره حتى يظهر ظهورا معتادا.

(قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا) أي علامة ذلك ألا تقدر على تكليم الناس، بل تعجز عن خطابهم بحصر يعترى لسانك إذا أردته، ثلاثة أيام متوالية مع لياليها إلا بإشارة بيد أو رأس أو نحوهما، ولا تعجز عن ذكر الله وتسبيحه لتكون المدة كلها مشغولة بالذكر قضاء لحق الشكر.

(وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) أي واذكره ذكرا كثيرا في أيام الحبسة شكرا له، وسبحه في الصباح والمساء.

[سورة آل عمران (3): الآيات 42 الى 44]

وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)

تفسير المفردات

الاصطفاء الأول قبولها محررة لخدمة بيت المقدس، وكان ذلك خاصا بالرجال، والتطهير يعم التطهير الحسي كعدم الحيض والنفاس وبذلك كانت أهلا لملازمة المحراب وهو أشرف مكان في المعبد، والتطهير المعنوي كالبعد عن سفساف الأخلاق وذميم الصفات، والاصطفاء الثاني بما اختصت به من ولادة نبي من غير أن يمسها رجل، وهو اصطفاء لم يكن قد تحقق بالفعل بل هي مهيأة ومعدة له، وفيه شهادة ببراءتها مما قذفها به اليهود، والقنوت: الطاعة مع الخضوع، والسجود: التذلل، والركوع: الانحناء والمراد لازمه وهو التواضع والخشوع في العبادة والوحي جاء في القرآن لمعان:

(1) لكلام جبريل للأنبياء كما قال تعالى: « نُوحِي إِلَيْهِمْ ».

(2) وللإلهام كما قال تعالى: « وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى ».

(3) ولإلقاء المعنى المراد في النفس كما قال تعالى: « بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها ».

(4) وللإشارة كما قال تعالى: « فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ».

فالوحي تعريف الموحى إليه بأمر خفي من إشارة أو كتابة أو غيرهما، والأقلام القداح المبرية وتسمي السهام، والأزلام التي يضربون بها القرعة ويقامرون بها، ويختصمون: أي يتنازعون في كفالتها.

المعنى الجملي

هذا عود على بدء فيما يتعلق باصطفاء آل عمران، إثر ذكر طرف من فضائل بعض أقاربهم أعنى زكريا ويحيى اقتضى المقام ذكره كما علمت ذلك مما سلف.

الإيضاح

(وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) المراد بالملائكة جبريل عليه السلام بدليل قوله في سورة مريم: « فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَرًا سَوِيًّا »

وكلام جبريل معها لم يكن وحيا إليها فإن الله يقول: « وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ »

وإنما هو إلهام بما لها من المكانة عند الله، وبما يجب عليها من الشكر له بدوام القنوت والطاعة له، وذلك مما يزيدها محافظة على الكرامة، وتعلقا بالكمال وتباعدا من النقص.

(يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) أي إن الله اختار خدمتك لبيت المقدس، وبرأك من العيوب الحسية والمعنوية، واختصك بولادة نبي دون أن يمسسك رجل، وفضلك على جميع النساء في كل الأعصار، ويؤيده قوله ﷺ « سيدة نساء أهل الجنة مريم بنت عمران ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية امرأة فرعون »

أو المراد نساء زمانها ويؤيده ما أخرجه ابن عساكر عن ابن عباس أنه ﷺ قال: « كمل من نساء العالمين أربع: مريم وآسية امرأة فرعون وخديجة وفاطمة ».

وبعد أن بين اختصاصها بهذه المزايا والفضائل أوجب عليها طاعته شكرا لهذه النعم فقال:

(يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) أي أطيعى ربك وتذللى له وصلى مع المصلين في المعبد وقد كانت ملازمة لمحرابها.

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) أي هذا الذي قصصناه عليك من أخبار مريم وزكريا من الأخبار التي لم تشهدها أنت ولا أحد من قومك، ولم تقرأها في كتاب ولا علّمكها معلم، بل هي وحي نوحيه إليك على يد الروح الأمين، لتكون دلالة على صحة نبوتك، وإلزاما لمن يحاجك من الجاحدين المعاندين.

(وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) أي وما كنت حاضرا لديهم حين يضربون بسهامهم القرعة، وينظرون ليعلموا أيهم يكون كافلا لمريم بوساطة هذا الاقتراع، وقد قرعهم زكريا فكان كافلها.

(وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) أي وما كنت شاهدا تنازعهم وتخاصمهم في كفالتها، ولم يتفقوا عليها إلا بعد القرعة، والمتنازعون كانوا من الخواصّ وأهل الفضل والذين، ولم يكن ذلك إلا لشدة رغبتهم في القيام بشأنها وكفاية مهامها، إما لأن عمران كان رئيسا لهم فأرادوا مكافأته قياما ببعض ما يجب له من الحقوق، وإما لأنهم وجدوا في بعض كتب الدين أنه سيكون لها ولابنها شأن عظيم، وإما لأنهم رأوا في ذلك القيام بواجب ديني إذ كانت محررة لخدمة بيت العبادة.

وقد جاءت هذه الآية عقب هذه القصة لبيان أنه ﷺ لم يقرأ أخبار القوم لأنه أمي، ولم يروها سماعا عن أحد كما يعترف بذلك منكر ونبوّته، لأنه نشأ بين قوم أميين، فلم يبق له طريق للعلم إلا الوحي أو المشاهدة، والوحي ينكرونه، فلا سبيل بعدئذ إلا المشاهدة التي نفاها على سبيل التهكم لاستحالتها.

ونظير هذه الآية قوله عقب قصة نوح عليه السلام « تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا » وقوله بعد قصة موسى وشعيب « وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ ».

والجاحدون من أهل الكتاب يقولون فيما وافق فيه القرآن كتبهم: إنه مأخوذ منها وفيما خالفها إنه ليس بصحيح لأنه خالفها، وفيما لم يوجد فيها إنه غير صحيح لأنه لم يذكر فيها، وهذا من المكابرة التي لا تغنى حجة لرد خصم على خصم، والمسلمون يقولون إن ما جاء به القرآن هو الحق للأدلة القائمة على نبوة محمد ﷺ وحفظ كتابه ونقله بالتواتر الصحيح، وما جاء فيه مخالفا لما في الكتب السابقة يعد مصححا لأغلاطها لانقطاع أسانيدها، حتى إن أعظمها وأشهرها وهي الأسفار التي تنسب إلى موسى عليه السلام لا يعرف كاتبها، ولا الزمن الذي كتبت فيه، ولا اللغة التي كتبت بها أولا.

[سورة آل عمران (3): الآيات 45 الى 51]

إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْرًا فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) ومُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)

تفسير المفردات

المسيح: لفظ معرّب من العبراني وأصله مشيحا، وعيسى معرّب يسوع بالعبرانية، والوجيه: ذو الجاه والكرامة، والمهد: مفر الصبى حين رضاعه، والكهل: من تجاوز الثلاثين إلى الأربعين، والكتاب: الكتابة والخط، والحكمة: العلم الصحيح الذي يبعث الإرادة إلى نافع العمل، ويقف بالعامل على نهج الصراط المستقيم لما له من بصر بفقه الأحكام وسرّ التشريع، والتوراة: كتاب موسى وقد كان المسيح عليما به يبين أسراره لقومه ويحتج عليهم بنصوصه، والإنجيل: هو الكتاب الذي أوحى إليه به، والخلق: التصوير والإبراز على مقدار معين لا الإنشاء والاختراع، والهيئة: الصورة، والأكمه: الذي يولد أعمى، والأبرص: هو الذي به برص أي بياض في الجلد يتطير به

المعنى الجملي

بعد أن ذكر قصة مريم أردفها قصص عيسى عليه السلام، وجاء بقصص زكريا بينهما اعتراضا تقريرا لقصص مريم وتنبيها إلى أنه وحده كاف في الدلالة على صدق من أنزل عليه.

الإيضاح

(إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) أي إن الملائكة بشرت مريم بهذا الولد الصالح حين بشرتها باصطفاء الله إياها وتطهيره لها، وأمرتها بعبادته ودوام شكره.

والمراد من الملائكة هنا جبريل لقوله في سورة مريم « فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَرًا سَوِيًّا »

وذكر بلفظ الجمع لأنه رئيسهم، وقوله بكلمة من الله أي بكلمة التكوين المعبر عنها بقوله سبحانه « إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ».

وقد خص المسيح بإطلاق الكلمة عليه وإن كان كل شيء قد خلق بكلمة التكوين، لأنه لما فقد في تكوينه وعلوق أمه به ما جعله الله سببا للعلوق في العادة، وهو تلقيح ماء الرجل لما في الرحم من البويضات التي يتكون منها الجنين - أضيف إلى الله وأطلقت الكلمة على هذا المكون إيذانا بذلك، بخلاف الأشياء الأخرى فإنها تنسب في العرف إلى الأسباب العادية.

وأطلق عليه المسيح وهو لقب الملك عندهم، لما مضت به تقاليدهم من مسح الكاهن كل من يتولى الملك بالدهن المقدس، ويعبرون عن تولية الملك بالمسح، وعن الملك بالمسيح. والمعروف لديهم أن أنبياءهم السالفين بشروهم بمسيح يظهر فيهم، وأنه ملك يعيد إليهم ما فقدوا من السلطان في الأرض، فحين ظهر عيسى وسمى بالمسيح آمن به قوم وقالوا إنه هو الذي بشر به الأنبياء، واليهود يعتقدون أن البشارة لما يأت تأويلها بعد. وإنما قيل ابن مريم مع كون الخطاب لها إشارة إلى أنه ينسب إليها، إذ ليس له أب.

(وَجِيهًا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) فوجاهته في الدنيا لماله من المكانة في القلوب والاحترام في النفوس، فمنزلته في نفوس المؤمنين به لا تعدلها منزلة أخرى، وما جاء به من الإصلاح قد بقي أثره بعد، وهذه الوجاهة أجل شأنا من وجاهة الأمراء والملوك الذين يحترمون لدفع أذاهم واتقاء شرهم، أو لمداهنتهم والتزلف إليهم رجاء شيء مما في أيديهم من متاع الحياة، وهذه وجاهة صورية لا أثر لها في النفوس إلا الكراهة والبغضاء.

ووجاهته في الآخرة بكونه ذا مكانة عليّة ومنزلة رفيعة يراه الناس فيها ويعلمون قربه من ربه (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) عند الله يوم القيامة، فالناظر إليه حينئذ يعتقد ماله من القرب والزلفى عنده.

(وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا) أي إنه يكلم الناس حال الطفولة وحال الكهولة وفي هذا بشارة بأنه يعيش حتى يكون رجلا سويا، قال ابن عباس: كان كلامه في المهد لحظة بما قصه الله علينا، ثم لم يتكلم حتى بلغ أوان الكلام.

والنصارى تزعم أنه عليه السلام لم يتكلم في المهد، ولم ينطق ببراءة أمه صغيرا، وعاش ثلاثين سنة، واليهود تقذف أمه بيوسف النجار.

والخلاصة - إنه يكلم الناس طفلا في المهد دلالة على براءة أمه مما قذفها به المفترون عليها، وحجة على نبوته وبالغا كبيرا بعد أن يرسله الله وينزل عليه وحيه، وأمره ونهيه.

(وَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي ومعدودا من الصالحين الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين الذين تعرف مريم سيرتهم.

(قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) أي قالت: كيف يكون لي ولد وليس لي زوج؟ وقد يكون مرادها أيحدث ذلك بزواج أم يحصل بقدرتك؟ وقد يكون قصدها التعجب من قدرة الله واستعظام شأنه.

(قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) أي مثل هذا الخلق العجيب والإحداث البديع وهو خلق الولد بغير أب - يخلق الله ما يشاء.

ولاختلاف القصتين قصة مريم وزكريا في الغرابة عبر في الأولى بيفعل، وفي الثانية بيخلق، إذ العادة قد جرت بأن الفعل يستعمل كثيرا في كل ما يحدث على النواميس المعروفة والأسباب الكونية المألوفة، والخلق يقال فيما فيه إبداع واختراع ولو بغير ما يعرف من الأسباب، فيقال خلق الله السموات والأرض، ولا يقال فعل الله السموات والأرض.

وإيجاد يحيى بين زوجين كإيجاد سائر الناس فعبر عنه بالفعل، وإن كان فيه آية لزكريا من جهة أن هذين الزوجين لا يولد لمثلهما في العادة - أما إيجاد عيسى فهو على غير المعهود في التوالد بل بمحض القدرة، فالتعبير عنه بالخلق أليق.

(إِذا قَضى أَمْرًا فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون من غير ريث ولا إبطاء. وهذا تمثيل لكمال قدرته، ونفوذ مشيئته، وتصوير سرعة حصول ما يريد بلا إبطاء بصورة آمر مطاع لمأمور قادر على العمل مطيع، يفعل ما يطلب منه على الفور. وهذا الأمر يسمى أمر تكوين، وهناك أمر آخر هو أمر تكليف يعرف بوحي الله لأنبيائه والجاحدون لآيات الله ينكرون الحمل بعيسى من غير أب، وقوفا عند العادة، وذهولا عن كيفية بدء العالم، ولكن ليس لهم دليل عقلى ينبئ بالاستحالة، وإنا لنشاهد كل يوم حدوث شيء في الكون لم يكن معتادا من قبل، بعضه له أسباب معروفة فيسمونه استكشافا أو اختراعا، وبعضه ليس بمعروف له سبب ويسمونه فلتات الطبيعة. والمؤمنون يقولون إن مثل هذا الذي جاء على غير الأسباب المعروفة يجب أن يهدى العاقل إلى أن الأسباب ليست واجبة وجوبا عقليا مطردا. وإن أبناء الجيل الحاضر الذين رأوا من الغرائب ما لو رآه السابقون لعدّوه سحرا أو خرافة أو أضافوه إلى الجن - ليس لهم عذر في إنكار الأشياء التي لم يعرفوا لها أسبابا، وقد قرر فلاسفة العصر إمكان توالد الحيوان من غير حيوان، إذا فتوالد الحيوان من حيوان واحد أقرب إلى العقول وأدنى إلى الإمكان.

(وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) أي ويعلمه الكتابة والخط، والعلم الصحيح الباعث للإرادة إلى الأعمال النافعة ويفقّهه في التوراة، ويعلمه أسرار أحكامها، وقد كان المسيح عليما بها يرشد قومه إلى أسرارها ومغازيها، وكذلك يعلمه الإنجيل الذي أوحى به إليه.

(وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) أي ويرسله رسولا إلى بني إسرائيل، روى أن الوحي أتاه وهو ابن ثلاثين سنة وكانت نبوّته ثلاث سنين ثم رفع إلى السماء.

(أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي يرسله محتجا على صدق رسالته قائلا « إني قد جئتكم بآية من ربكم » ثم فسرها بقوله:

(أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ) أي إني أصور لكم من الطين صورة على مقدار معين كصورة الطير فأنفخ فيها فتكون طيرا حيا كسائر الطيور بأمره تعالى، لأنه هو الذي يخلق الحياة في ذلك الجسم بقدرته عند نفخ عيسى فيه معجزة له والخلاصة - إن من علامات نبوتى إن كنتم فيها تمترن، إني أقتطع من الطين جزءا مصورا بصورة طير من الطيور التي تريدون، ثم أنفخ فيه فيصير طيرا حيّا يحلّق في جو السماء كما تفعل بقية الطيور.

وقد روي أنه عليه السلام لما ادعى النبوة وأظهر المعجزات طالبوه بخلق خفّاش فأخذ طينا وصوره ونفخ فيه، فإذا هو يطير بين السماء والأرض، قال وهب: كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا ليتميز من خلق الله.

وقد جرت سنة الله أن تجرى الآيات على أيدي الأنبياء عند طلب قومهم لها وجعل الإيمان موقوفا عليها، فإن كانوا سألوه شيئا من ذلك فقد فعل، ولا حاجة بنا إلى تعيين نوع الطير، إذ لم يرد عندنا نص من كتاب أو سنة يعينه فنقف حينئذ عند لفظ الآية.

(وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ) وإنما خصا بالذكر، لأن مداواتهما أعيت نطس الأطباء، وقد كان الطب متقدما جدا زمن عيسى فأراهم الله المعجزة من ذلك الجنس.

وقد جرت السنة الإلهية أن تكون معجزة كل نبي من جنس ما اشتهر في زمنه فأعطى موسى العصا وابتلعت ما كانوا يأفكون، لأن المصريين في ذلك العصر كانوا مشهورين بالسحر، وأعطي عيسى من المعجزات ما هو من جنس الطب الذي حذقه أطباء عصره، وأعطى محمدا معجزة القرآن، لأن التفاخر في ذلك العصر كان بالفصاحة والبيان. وقد روي عن إحياء عيسى للموتى روايات كثيرة فمن ذلك أنه أحيا بنتا قبل أن تدفن، وأحيا اليعازر قبل أن يبلى ولم ينقل أنه أحيا ميتا رميما.

قال صاحب الإسلام والطب الحديث رحمه الله في تفسير هذه الآية: [إن بعضهم قد اعترض على عمل الطين بشكل الطير، لأنه لا لزوم لذلك ما دام الله قادرا على إحيائه إلى آخر ما قالوا]. والحقيقة أن في ذلك حكمة عالية، لأن الإنسان خلق محدود الإدراك والحواس، ولا يفهم ولا يرى ولا يسمع إلا ما كان في متناول إدراكه، فإن رأى شيئا فوق طاقته اجتهد في أن يرده إلى شيء يعرفه، فإن لم يمكنه بقي متحيرا، وإن تكرر ذلك أدى إلى اضطراب في الأعصاب قد يكون خطرا.

وهنا يلحظ لطف الله في أنه لا يظهر قدرته للإنسان إلا بطريق التدرج، وهذا يلاحظ في كل المعجزات على الإطلاق، لأن الله تعالى يخلق الطير من الطين ومن غير الطين، سواء أكان في شكل الطير أم لم يكن، وكذلك لا داعي للنفخ لأن طريق الإرادة الإلهية هي (كن فيكون).

ولكن الله يقرب فهم الإرادة بهذه الطريقة، لأن الطين إذا كان بشكل الطير يشتبه فيه الإنسان بالطير الحقيقي، ولا يكون هناك فرق بينهما إلا الحياة مع أن ذلك كل الفرق وبعدها ينفخ فيه.

وعملية النفخ تجعله ينتظر تغييرا كما يحدث في أشياء كثيرة مثل الكرة إذا نفخ فيها وغير ذلك. فعند وجود الروح في هذا الهيكل الطيني تكون الصدمة قد انكسرت حدتها بانتظار حدوث شيء مهمّ، مع أن كل هذه المقدمات لا دخل لها مطلقا في وجود الحياة والروح.

وهذا هو بنفسه ما يحدث عند إبراء الأكمه إلخ، لأن ذلك قد يحدث من نفسه أو بواسطة طبيب في حالات عصبية مخصوصة (غير عضوية) ولهذا يشتبه فيها الناظر.

وللمعارضين أن يقولوا إنها ليست معجزة، لأننا نراها على أيدي أشخاص كثيرين، مع أن الفرق بين إبراء الأعمى الذي فقد بصره بفقد العين نهائيا، وبين إبراء الأعمى المصاب بالهستريا إلخ مثلا يشبه الفرق بين الطين الذي في شكل الطير والطير الحقيقي ولكن الله تعالى أراد أن يفهم الإنسان بذلك قدرته تدريجا فالإنسان أوّلا يشك ويقول: ربما كان كل هذا من الأشياء العادية التي ليست فوق قدرة الإنسان وربما كانت شيئا غير عادى، ولكن الله يقول بعد ذلك: وأحيى الموتى لكي لا يدع مجالا للشك مطلقا. إننا نجد هذه الطريقة نفسها في تاريخ سيدنا عيسى عليه السلام، لأنه خلق من نطفة الأم فقط، وفي العالم المادي لا يمكن أن يخلق الحيوان إلا من نطفتى الأب والأم، ولكن الطريقة التي ولد بها سيدنا عيسى كانت بحيث لا تكون صدمة لعقول المعاصرين فقد اتهم هؤلاء السيدة مريم مدة من الزمن، لأنهم بطبيعتهم فسروا ولادته أو اعتبروها كولادة الناس عامة، ولكنهم أخذوا يفهمون الحقيقة تدريجيا عند ما اقتنعوا بصحة المعجزات الأخرى التي أتى بها المسيح.

وقد وصلوا إلى هذا الفهم على الرغم من أن عيسى خلق من أم فقط، ولكن خلقه على هذه الصورة لا يقل عن خلق آدم من طين، لأن نظام الكائنات يجرى على سنة واحدة لا تتخلف أبدا إلا حيث يريد الله، ومتى أراد الله فلا معنى لطريقة خاصة، ولا حاجة إلى واسطة إلا بقدر الإقلال من تأثير الصدمة على الإنسان كما بينا...

ثم قال: المعجزات كلها من صنع الله مباشرة، ومعناها سنة جديدة بخلاف كل ما نراه يوميا من عظة وعظمة كالولادة ونمو الحيوان والنبات، فإنه مع إعجازه يأتي مطابقا لقواعد ونظم وضعها الله لا تتغير.

وأظهر مثل للنواميس الطبيعية حركة الشمس، فإن ذلك مع عظمته لا يحدث صدمة لعقولنا لتعودنا إياه، ولكن إن أتى الله بالشمس من المغرب بدل المشرق كان هذا معجزة بالنسبة للإنسان، مع أن الحركتين من صنع الله ولا فرق بينهما.

ولا تحصل المعجزات إلا على أيدي الأنبياء، وذلك لأن صدمتها إن كانت شديدة على الحاضرين، فهي أشد على من يكون واسطة فيها، ولذلك اختار الله الأنبياء واصطفاهم.

ولمنع الصدمة الشديدة وقت حدوثها يهيئ الله الظروف لتحملها، ويهيئ النبي نفسه لقبولها، ويهيئ الحاضرين لمشاهدتها، فأمر الله لسيدنا موسى بإدخال يده في جيبه وإخراجها فتكون بيضاء ليس إلا لتهيئته للمعجزات الأخرى... وهنا يلاحظ أن كل المعجزات لا يمكن أن يصل إلى صنعها الإنسان مهما ارتقى، وأغلبها ينتهى إلى شيء واحد وهو خلق الحياة والروح مهما ظهرت صغيرة لأول نظرة، فمثلا إبراء عيسى للأعمى يظهر لأول وهلة أنه أقل من إحياء الموتى، والحقيقة أن المقصود بالأعمى هنا هو الأعمى الذي فقد شيئا عضويا حيا لا يمكن استعاضته، ومن أمكنه استعاضة شيء مهما صغر حجمه أمكنه أن يستعيض الكل.

وأما إبراء الأعمى الذي يشاهد يوميا فهذا يحدث في الأحوال العصبية غير العضوية، وبواسطة أطباء العيون، وهو يحدث بإزالة أشياء تكون سبب العمى، ولكن لا يمكن الأطباء أن يحدثوا مثلا إبراء الأعمى بإعادة عصب للعين من جديد إلخ.

وكذلك صنع أرجل جديدة، فالجرّاح يصنع رجلا صناعية، وبواسطة العضلات الباقية يستطيع الإنسان أن يمشى عليها، ولكن هذا الجراح لا يمكنه أن يصنع رجلا من لحم ودم.

وصفوة القول - إنه لا يمكنه أن يصنع جزءا حيا مهما صغر حجمه، لأن الجسم مجموع ملايين من الخلايا، وصنع واحدة كصنع الكل، وهذا معنى قوله تعالى: « لَنْ يَخْلُقُوا ذُبابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ » ولذلك ستبقى المعجزات دائما فوق قدرة الإنسان ويظهر لنا عظمها أو عدم عظمها بالنسبة لعقولنا فقط، ولكنها كلها من نوع واحد، وما كان صنعه فوق إدراكنا لا يمكننا الحكم عليه.

وقد يقول البعض: إن العلوم تتقدم، وإنه لو كان بعض الاختراعات الموجودة الآن موجودة في مدة الأنبياء لعدّ معجزة - وهذا القول دليل على أن الروح الحقيقي للمعجزات لم يفهم، لأن كل الاختراعات العلمية تبنى على السنن الطبيعية، وكلها مبنية على قواعد علمية لا تتغير، فإذا ظهر لها استثناء فإن سببه هو قاعدة علمية أخرى يبحث العالم عنها حتى يجدها، فإن وجدها لا تنطبق على كل الاستثناءات وجد الخوارج عن هذه الاستثناءات محكومة بسنة أخرى، وهكذا إلى ما لا نهاية فالسنن الإلهية أو القواعد العلمية أو قواعد الطبيعة - كما يسميها الطبيعيون - لا حدّ لها ولا تتغير أبدا وما لا ينطبق على القاعدة الأصلية ينطبق حتما على قاعدة أخرى وعلى قواعد لا تتغير أبدا، وكل ما يظهر مدهشا في نتيجته من المخترعات مثل الكهرباء والتليفون والراديو وما سيظهر - هو من الاستعانة بهذه القواعد فالذي يتكلم في أوربا ويسمعه آخر في مصر بواسطة الراديو استطاع ذلك، لأن الهواء بطبيعته يحمل الصوت بصفة أمواج إلى العالم كله، فاستعان العلماء بهذه السنة الطبيعية وسحروها لأغراضهم، ولذلك مهما عظمت النتائج في المخترعات، فإن طريق الوصول إليها سنة ثابتة، ومثلها مثل من يحفر الأرض ويستعين بماء المطر ويحوّله نهرا يجرى، فإنه لم يخلق نهرا ولكنه استعان بالقوى الطبيعية، بعكس المعجزات فإنها من طراز آخر، وهي مهما صغرت نتائجها خلق سنة جديدة، وقد أوضحنا ذلك فيما تقدم.

ولزيادة الإيضاح أضرب مثلا قصة سيدنا إبراهيم وعدم احتراقه بالنار، فإن العلم بتقدمه يستطيع أن يغطى الإنسان بشىء غير قابل للاحتراق ويضعه في النار فلا يحترق، وهذا يشبه المعجزة ولكنه اختراع استعان صاحبه فيه بالنواميس الطبيعية.

أما المعجزة فهي أن تضع الإنسان كما هو جسما ولحما في النار فلا يحترق، فيكون عدم احتراقه حينئذ هو المعجزة، وهي خرق للسنة الطبيعية التي تقضى باحتراق الجسم متى وضع في النار.

وأما تغطية الجسم لمنع اتصال النار به، فإنه يظهر أن المخترع أمكنه منع النار من إحراقه، ولكنه في الحقيقة منع النار من إحراق الجسم الخارجي الذي لا يقبل الاحتراق بطبيعته لأن جسم الإنسان المغطى بمادة لا تحترق لم يتعرض للنار، والفرق بين الاثنين ظاهر، والقرق بين المخترع وصانع المعجزة مثل الفرق بين الحاوي والمخترع.

والطبيب الذي يعيد للقلب ضرباته ليس كمن يحيي الموتى لأنه استعان بالسنن الطبيعية، وأما إحياء الموتى فهو خرق لهذه السنن.

ويتساءل كثير من الناس هل المعجزات ضرورية؟ والجواب أنها ضرورية لإيمان الإنسان بقدرة الله، ولولاها لساد مذهب الطبيعيين، لأن سنن الله لا تتغير أبدا وهذا ما يسمى (بالطبيعة) وثبات هذه القوانين ما ظهر منها وما خفي للآن شيء مدهش، حتى إن الإنسان قد ينسى واضع هذه القوانين، ويقول ما الحاجة بي لأن أقول إن هناك صانعا أزليا ما دامت هذه القواعد ثابتة على وتيرة واحدة ملايين السنين؟

وهنا كانت حكمة الله في أن يخرق هذه السنن ليظهر للناس أن الصانع الأول موجود.

ومثل ذلك مثل آلة الميزان تزن الإنسان إذا وقف عليها ووضع قطعة معدنية في ثقب فيها، فتخرج ورقة عليها رقم وزنه، فإذا فرضنا أنها محكمة الصنع لا تتغير أبدا آلاف السنين، فإن الإنسان يشك في صانعها الأول، ولكنه إن رأى أنها قد تخرج ورقة الوزن بدون أن يقف عليها أحد، وبدون وضع القطعة المعدنية فيها يقول من يفعل ذلك ربما أمكنه صنعها، وإذا رأى يوما أن قطعة معدن صغيرة أصبحت أمام عينيه آلة صغيرة تزن الأشخاص، أيقن أن للأولى صانعا، وهذا هو معنى صنع الطير من الطين لأن هذا تمثيل لخلق سيدنا آدم الذي منه خلق العالم الإنساني كله بالسنن (الطبيعية) الإلهية التي لا تبديل فيها.

وصفوة القول - أن أساس المعجزة وعظمتها ليس في نتائجها وغرابتها، فالدهشة من سماع الأبكم يتكلم ربما كانت أقل من سماع الراديو لأول وهلة، ولكن أهمية المعجزة في طريق صنعها بدون السنن العادية، وهي لذلك لا تتكرر أبدا إلا بإذن الله لأن الإنسان لا يعرف قاعدتها، ولا يدرك طريقة صنعها.

أما الاختراع فإنه اكتشاف لناموس إلهي (طبيعي) ولذلك هو يتكرر دائما في الظروف نفسها على يد كل إنسان، انتهى كلامه بتصرف.

(وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) أي وأخبركم بما تأكلونه من أنواع المآكل، وما تخبئونه للغد في بيوتكم، وقد كان يخبر الرجل بما أكل، وبما سيأكل.

والفرق بين إخباره بالغيوب، وإخبار المتنجمة والمتكهنة التي كثيرا ما تخبر بالشيء وتصيب، أن المتنجم والمتكهن إنما ينبئ عن استخراج له ببعض الأسباب المؤدية إلى علمه، ولم يكن ذلك كذلك من عيسى صلوات الله عليه، ومن سائر أنبيائه ورسله، بل كان عيسى يخبر به عن غير استخراج ولا طلب لمعرفته باحتيال، ولكن بإعلام الله ابتداء من غير أصل تقدم ذلك احتذاه أو بنى عليه، أو فزع إليه كما يفزع المتنجم إلى حسابه، والمتكهن إلى رئيّه، فذلك هو الفصل بين علم الأنبياء بالغيوب وإخبارهم عنها، وبين علم سائر المتكذبة على الله، أو المدّعية علم ذلك.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إن في ذلك لحجة على صدق رسالتي، وموضعا للعبرة تتفكرون فيه فتعتبرون به إني محق في قولي لكم إني رسول من ربكم إليكم، وتعلمون به إني فيما أدعوكم إليه من أمر الله ونهيه صادق، إن كنتم مصدّقين حجج الله وآياته، مقرين بتوحيده وبنبيه موسى وبالتوراة التي جاءكم بها.

(وَمُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) أي وجئتكم مصدقا لما بين يدي من التوراة لا ناسخا لها ولا مخالفا شيئا من أحكامها إلا ما خفف الله عن أهلها في الإنجيل مما كان مشددا عليهم فيها، وهو الذي ذكره بقوله: (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) أي بعض الطيبات التي كانت حرمت على بني إسرائيل بظلمهم وكثرة سؤالهم، فأحلها عيسى كما قال تعالى: « فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ » قالوا ومن ذلك السمك ولحوم الإبل والشحوم والعمل يوم السبت.

(وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي وقد جئتكم بآية بعد آية من ربكم شاهدة على صدقى وصحة رسالتي بما ذكرت لكم من خلق الطير وإبراء الأكمه والأبرص والإحياء والإنباء بالخفيات إلى نحو أولئك.

وأعاد هذا ليترتب عليه الأمر الذي ذكره وهو:

(فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) أي لما جئتكم به من المعجزات الباهرة والآيات الظاهرة اتقوا الله في المخالفة، وأطيعونى فيما أدعوكم إليه.

ثم ختم مقاله بالإقرار بالتوحيد والاعتراف بالعبودية فقال:

(إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) وهذا أمر لهم بالاعتقاد الحق وهو التوحيد، ثم بملازمة الطاعة بالقيام بأداء ما أمرهم به وترك ما نهاهم عنه، ونظيره ما جاء في الحديث « قل آمنت بالله ثم استقم ».

(هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي هذا الذي أمرتكم به هو الطريق السوي الذي أجمع عليه الرسل قاطبة، وهو الموصل إلى خيري الدنيا والآخرة

[سورة آل عمران (3): الآيات 52 الى 58]

فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54) إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56)

وأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)

تفسير المفردات

في الأساس: أحسست منه مكرا وأحسست منه بمكر، وما أحسسنا منه خيرا، وهل تحس من فلان بخير، وفي الكشاف أحس: علم علما لا شبهة فيه كعلم ما يدرك بالحواس، والأنصار: واحدهم نصير كالأشراف واحدهم شريف، والحواريون: واحدهم حوارى، وحواري الرجل صفيّه وناصره، ومسلمون: أي منقادون لما تريده منا، والمكر تدبير خفي يفضى بالممكور به إلى ما لم يكن يحتسب، وغلب استعماله في التدبير السيئ وإن كان يستعمل في الحسن والسيئ معا كما قال تعالى: « وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ».

والداعي إلى المكر الحسن أن من الناس من إذا علم بما يدبّر له أفسد على الفاعل تدبيره لجهله، فكانت حاجة المربي أو القوّام على غيره ماسة إلى الاحتيال عليه والمكر به ليوصله إلى ما لا يصح أن يعرفه قبل الوصول إليه، والتوفي: أخذ الشيء وافيا تامّا ثم استعمل بمعنى الإماتة كما قال تعالى: « اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها » وتطهيره من الذين كفروا: براءته مما كانوا يرمونه به بتهمة أمه بالزنا.

المعنى الجملي

كان الكلام قبل هذا في بشارة الملائكة لمريم بعيسى عليه السلام، وكلامه الناس في المهد، وإيتائه الكتاب والحكمة والنبوة وإرساله رسولا إلى بني إسرائيل وذكر براءة أمه التي تقدم ذكرها.

وهنا ذكر خبره مع قومه وما لاقاه منهم من الصدّ والإعراض ومقاساة الأهوال وهمهم بقتله وإنجاء الله إياه، ووعيد الكافرين به وعذابهم في الدنيا والآخرة، وطوى ذكر ما بينهما من خبر ولادته وبعثته مؤيدا بتلك الآيات التي تقدمت اكتفاء بحكاية الملائكة، وثقة بما فصل في المواضع الأخرى.

الإيضاح

(فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) أي فلما شعر من قومه بني إسرائيل بالإصرار على الكفر والعناد وقصد الإيذاء، فقد صح أنه لقى من اليهود شدائد كثيرة، فقد كانوا يجتمعون عليه ويستهزئون به ويقولون له يا عيسى: ما أكل فلان البارحة، وما ادخر في بيته لغد؟ فيخبرهم فيسخرون منه حتى طال ذلك به وبهم. وهموا بقتله فخافهم واختفى عنهم، وخرج هو وأمه يسيحان في الأرض.

وفي هذا عبرة وتسلية للنبي ﷺ، وبيان لأن الآيات الكونية مهما كثرت لا تفضى إلى الإيمان إلا إذا كان للمدعو استعداد للقبول، ومن الداعي حسن بيان.

وحين رأى منهم ذلك:

(قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ؟) أي قال للحواريين كما تدل عليه آية الصف « كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ؟ » أي من الذين يضيفون أنفسهم إلى الله في نصرى، ويكونون من أهل الاستعداد لمتابعتى، وينخلعون عما كانوا فيه، وينصرفون إلى تأييد رسوله! (قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ) أي قال خاصة أصحابه وناصروه: نحن أنصار دين الله، والباذلون كل ما في الوسع في تأييد دعوتك والآخذون بتعاليمك. والمنصرفون عن التقاليد السالفة.

وهذا النصر لا يستلزم القتال، بل يكفى فيه العمل بالدين والدعوة إليه.

(آمَنَّا بِاللَّهِ) هذا جار مجرى السبب في نصره، فإن الإيمان بالله موجب لنصرة دينه والذبّ عن أوليائه، ومحاربة أعدائه.

(وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) أي مخلصون منقادون لأوامره.

وفي هذا دليل على أن الإسلام دين الله على لسان كل نبي وإن اختلف الأنبياء في بعض صوره وأشكاله، وأحكامه وأعماله.

وإنما طلبوا شهادته، لأن الرسل يشهدون لأممهم يوم القيامة.

(رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ) هذا تضرع إلى الله، وعرض لحالهم عليه بعد عرضها على الرسول مبالغة في إظهار أمرهم.

(وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ) أي وامتثلنا ما أتى به منك.

وفي ذكرهم الاتباع بعد الإيمان دليل على أن إيمانهم كان بمنزلة اليقين الحاكم على النفس المصرّف لها في العمل، إذ العلم الصحيح هو الذي يستلزم العمل، أما العلم الذي لا أثر له فيه فهو محمل ناقص لا يقين فيه ولا اطمئنان، وكثيرا ما يظن الإنسان أنه عالم بالشيء، فإذا حاول العمل به لم يحسنه، ويتبين له أنه كان محطئا في دعوى العلم به.

(فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أي الشاهدين على حال الرسول مع قومه.

(وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ) أي ومكر أولئك القوم الذين علم عيسى كفرهم من اليهود، بأن وكلوا به من يقتله غيلة، ومكر الله فأبطل مكرهم فلم ينجحوا فيه، ورفع عليه السلام إلى السماء، وألقى شبهه على من قصد اغتياله حتى قتل.

(وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) أي أقواهم مكرا وأنفذهم كيدا، وأقدرهم على إيصال الضر إليهم من حيث لا يحتسبون، فتدبيره الذي يخفى على عباده إنما يكون لإقامة سننه، وإتمام حكمته وكلها خير في نفسها، وإن قصر كثير من الناس في الاستفادة منها بجهلهم وسوء اختيارهم.

(إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ) أي مكر الله بهم حين قال لنبيه إني متوفيك ورافعك إلي. وفي هذا بشارة بنجاته من مكرهم واستيفاء أجله، وأنهم لا ينالون منه ما كانوا يريدون بمكرهم وخبثهم.

وللعلماء في تأويل هذه الآية رأيان:

(1) أن فيها تقديما وتأخيرا، والأصل: إني رافعك إلي ومتوفيك، أي إني رافعك الآن ومميتك بعد النزول من السماء في الحين الذي قدر لك - وعلى هذا فهو قد رفع حيا بجسمه وروحه وأنه سينزل آخر الزمان، فيحكم بين الناس بشريعتنا ثم يتوفاه الله.

(2) أن الآية على ظاهرها، وأن التوفي هو الإماتة العادية، وأن الرفع بعده للروح ولا غرابة في خطاب الشخص وإرادة روحه، فالروح هي حقيقة الإنسان، والجسد كالثوب المستعار يزيد وينقص ويتغير، والإنسان إنسان لأن روحه هي هي.

والمعنى - إني مميتك وجاعلك بعد الموت في مكان رفيع عندي كما قال في إدريس عليه السلام « وَرَفَعْناهُ مَكانًا عَلِيًّا ».

وحديث الرفع والنزول آخر الزمان حديث آحاد يتعلق بأمر اعتقادي، والأمور الاعتقادية لا يؤخذ فيها إلا بالدليل القاطع من قرآن أو حديث متواتر، ولا يوجد هنا واحد منهما، أو أن المراد بنزوله وحكمه في الأرض غلبة روحه، وسر رسالته على الناس بالأخذ بمقاصد الشريعة دون الوقوف عند ظواهرها، والتمسك بقشورها دون لبابها.

ذاك أن المسيح عليه السلام لم يأت لليهود بشريعة جديدة. ولكن جاء بما يزحزحهم عن الجمود على ظواهر شريعة موسى عليه السلام، ويقفهم على فقهها والمراد منها فإن أصحاب هذه الشريعة قد جمدوا على ظواهر ألفاظها، فكان لا بد لهم من إصلاح عيسوى يبين لهم أسرار الشريعة وروح الدين، وكل ذلك في القرآن الكريم الذي حجبوا عنه بالتقليد.

فزمان عيسى هو الزمان الذي يأخذ الناس فيه بروح الدين والشريعة الإسلامية، لإصلاح السرائر من غير تقيد بالرسوم والظواهر.

وأما الدجال فهو رمز الخرافات والدجل والقبائح التي تزول بتقرير الشريعة على وجهها والأخذ بأسرارها وحكمها، والقرآن أعظم هاد إلى الحكم والأسرار، وسنة الرسول ﷺ مبينة لذلك.

(وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي ومنجوك مما كانوا يريدونه بك من الشر، أو مما كانوا يرمونه به من القبائح ونسبة السوء إليه.

(وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي وجاعل الذين آمنوا بأنك عبد الله ورسوله، وصدقوك في قولك « وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ » ثم آمنوا بمحمد ﷺ بعدك فوق الذين مكروا بك من اليهود وكذبوك، ومن سار بسيرتهم ممن لم يهتد بهداك.

وهذه الفوقية إما فوقية دينية روحانية وهي فضلهم عليهم في حسن الأخلاق، وكمال الآداب، والقرب من الحق، والبعد من الباطل، وإما فوقية دنيوية وهي كونهم أصحاب السيادة عليهم.

وفي هذا إخبار عن ذلّ اليهود ومسكنتهم إلى يوم القيامة وقد تحقق ذلك، فلا يرى ملك يهودي، ولا بلد مستقل لهم بخلاف النصارى، ولكن هذا لم يتحقق زمن المسيح لأتباعه، بل كان اليهود يغلبونهم على أمرهم، فالوجه الأول أولى بالاعتبار.

(إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي إن هذا السموّ في الآداب والأخلاق والكمال في الفضائل سيستمر لهم ما دامت السموات والأرض، وبعدئذ يفعل الله بهم ما يشاء.

(ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أي ثم مصيركم إلي يوم البعث، فأحكم بينكم حينئذ فيما اختلفتم فيه من أمور الدين، وهذا شامل للمسيح والمختلفين معه، وشامل للاختلاف بين أتباعه والكافرين به.

وحينئذ يتبين لهم الحق في كل ما اختلفوا فيه بما يمحو شبه الجاحدين وعناد المخالفين.

ثم بين جزاء المحقّ والمبطل وكيفيته فقال:

(فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي فأما الذين كذبوك وهم اليهود فأعذبهم في الدنيا بإذلالهم بالقتل والأسر وتسليط الأمم عليهم، ولعذاب الآخرة أشد وأنكى، وهم لا يجدون حينئذ نصيرا كما لم يجدوا ذلك في الدنيا.

(وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) أي وأما الذين صدّقوك وأقروا بنبوّتك وبما جئتهم به من الحق، ودانوا بالإسلام الذي بعثك الله به، وعملوا بالأوامر وتركوا النواهي - فيؤتيهم الله أجرهم كاملا غير منقوص ثم بين علة جزاء الفريقين بما جازى فقال:

(وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) أي والله لا يحب من ظلم غيره حقا له، أو وضع شيئا في غير موضعه، فكيف بظلم عباده له، فهو يجازيه بما يستحق.

وفي هذا وعيد منه للكافرين به وبرسله، ووعد منه للمؤمنين به وبرسله (ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) أي هذه الأنباء التي أنبأتك بها عن عيسى وأمه مريم وأمها، وزكريا وابنه يحيى، وما قصّ من أمر الحوار بين واليهود من بني إسرائيل نقرئها لك على لسان جبريل.

وهي من القرآن الحكيم الذي يبين وجوه العبر في الأخبار والحكم في الأحكام فيهدي المؤمنين إلى لب الدين وفقه الشريعة، وأسرار الاجتماع البشري.

وفيها حجة على من حاجك من وفد نجران، ويهود بني إسرائيل الذين كذبوك وكذبوا ما جئنهم به من الحق

[سورة آل عمران (3): الآيات 59 الى 63]

إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (61) إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)

تفسير المفردات

المثل: الحال الغريبة والشأن البديع، والامتراء: الشكّ، والبهلة (بالضم والفتح) اللعنة والدعاء، يقال ماله بهله الله: أي لعنه، ثم شاع استعماله في مطلق الدعاء، يقال فلان يبتهل إلى الله في حاجته: أي يدعوه، والقصص: تتبع الأثر، ومنه قوله تعالى: « وقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ » أي تتبعى أثره ثم استعمل في الكلام والحديث، لأن القاصّ يتبع المعاني ليوردها، والعزيز: أي ذو العزة الذي لا يغالبه أحد، والحكيم: ذو الحكمة التي لا يساميه فيها أحد

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف قصص عيسى وأمه وما جاء به، وكفر بعض قومه به، ورميهم أمه بالزنا، وإيمان بعض آخر به.

أردف ذلك ذكر حال فريق ثالث لم يكفر به، ولم يؤمن به إيمانا صحيحا، بل افتتن به افتتانا، لكونه ولد من غير أب، فزعم أن معنى كونه (كلمة الله وروح الله) أن الله حل في أمه، وأن كلمة الله تجسدت فيه فصار إنسانا وإلها، فضرب مثلا ليردّ به على الفريقين الكافرين به من اليهود، والمفتونين به من النصارى.

فبين أن خلق آدم أعجب من خلق عيسى فهذا خلق من حيوان من نوعه، وذاك قد خلق من التراب فهو أولى بالمزية إن كانت، والإنكار إن صح الإنكار.

وأمر الخلقة غريب بالنسبة إلينا، لكنه ليس بالغريب بالنسبة إلى الصانع المبدع.

والقوانين المعروفة في الخلق قد استخرجت مما نعهد ونشاهد، وليست بالقوانين العقلية التي قامت البراهين على استحالة ما عداها وإنا لنشاهد كل يوم ما يخالفها كالحيوان التي توجد من غير جنسها، أو الحيوان ذوات الأعضاء الزائدة، ويعبرون عن ذلك بفلتات الطبيعة، ولعل لهذه الشواذ وتلك الفلتات سننا أخرى مطردة لم تظهر لنا.

وهكذا شأن خلق عيسى، فكونه على غير السنن المعروفة لا يقتضى تفضيله على غيره من الأنبياء بله أن يكون إلها.

وقد روي في سبب نزول الآية أن وفد نجران من النصارى قالوا لرسول الله ﷺ: ما لك تشتم صاحبنا؟ قال وما أقول، قالوا تقول إنه عبد الله قال أجل هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول، فغضبوا وقالوا هل رأيت إنسانا من غير أب؟ فإن كنت صادقا فأرنا مثله فأنزل الله الآية.

الإيضاح

(إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ) أي إن شأن عيسى وصفته في خلق الله إياه على غير مثال سابق كشأن آدم في ذلك، ثم فسر هذا المثل وفصل ما أجمله فقال:

(خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) أي قدّر أوضاعه وكوّن جسمه من تراب ميت أصابه الماء فكان طينا لازبا لزجا.

وفي هذا توضيح للتمثيل ببيان وجه الشبه بينهما وقطع لشبه الخصوم، فإن إنكار خلق عيسى عليه السلام بلا أب مع الاعتراف بخلق آدم من غير أب ولا أم - مما لا ينبغي أن يكون ولا يسلمه العقل.

(ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي ثم أنشأه بشرا بنفخ الروح فيه كما جاء في قوله: « ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقًا آخَرَ ».

ثم أكد صدق هذا القصص فقال:

(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أي هذا الذي أنبأتك به من شأن عيسى ومريم هو الحق، لا ما اعتقده النصارى في المسيح من أنه إله، ولا ما زعمه اليهود من رمى مريم بيوسف النجار.

(فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) أي فلا تشكن في أمرهما بعد أن جاءك العلم اليقيني به.

وتوجيه هذا النهى للنبي ﷺ مع استحالة وقوع الامتراء منه ذو فائدة من وجهين:

(1) أنه إذا سمع ﷺ مثل هذا الخطاب ازداد رغبة في الثبات على اليقين واطمئنان النفس.

(2) أنه إذا سمعه غيره ازدجر ونزع عما يورث الامتراء، إذ أنه ﷺ على جلالة قدره خوطب بمثل هذا فما بالك بغيره؟

وخلاصة ذلك - دم على يقينك وعلى ما أنت عليه من الاطمئنان إلى الحق، والتنزه عن الشك فيه.

(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي فمن جادلك في شأن عيسى عليه السلام من بعد أن قصصت عليك من خبره وجليّة أمره ما قصصت.

(فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ، وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ، وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ، ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) أي فقل لهم: أقبلوا وليدع كل منا ومنكم أبناءه ونساءه للمباهلة والدعاء.

وفي تقديم هؤلاء على النفس في المباهلة، مع أن الرجل يخاطر بنفسه لهم - إيذان بكمال أمنه ﷺ وتمام ثقته بأمره وقوة يقينه، بأنه لن يصيبهم في ذلك مكروه وهذه الآية تسمى آية المباهلة.

وقد ورد من طرق عدة أن النبي ﷺ دعا نصارى نجران للمباهلة فأبوا.

أخرج البخاري ومسلم أن العاقب والسيد أتيا رسول الله ﷺ فأراد أن يلاعنهما، فقال أحدهما لصاحبه: لا تلاعنه، فوالله لئن كان نبيا فلاعننا لا نفلح أبدا، ولا عقّبنا من بعدنا أبدا، فقالا له نعطيك ما سألت، فابعث معنا رجلا أمينا، فقال قم يا أبا عبيدة، فلما قام قال: هذا أمين هذه الأمة.

وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس « أن ثمانية من نصارى نجران قدموا على رسول الله ﷺ منهم العاقب والسيد فأنزل الله (قل تعالوا) الآية فقالوا أخرنا ثلاثة أيام، فذهبوا إلى قريظة والنضير وبنى قينقاع من اليهود فأشاروا عليهم أن يصالحوه ولا يلاعنوه، وقالوا هو النبي الذي نجده في التوراة، فصالحوه على ألف حلة في صفر وألف في رجب ودراهم ».

وروي أن النبي ﷺ اختار للمباهلة عليّا وفاطمة وولديهما عليهم الرضوان وخرج بهم وقال: إن أنا دعوت فأمّنوا أنتم.

وأخرج ابن عساكر عن جعفر عن أبيه أنه لما نزلت هذه الآية جاء بأبي بكر وولده وبعمر وولده، وبعثمان وولده. ولا شك أن الذي يفهم من الآية: أن النبي ﷺ أمر أن يدعو المحاجين والمجادلين في شأن عيسى من أهل الكتاب إلى الاجتماع رجالا ونساء وأطفالا، ويجمع هو المؤمنين رجالا ونساء وأطفالا ويبتهلوا إلى الله تعالى بأن يلعن الكاذب فيما يقول عن عيسى.

وهذا الطلب يدل على قوة يقين صاحبه وثقته بما يقول كما يدل امتناع من دعوا إلى ذلك من أهل الكتاب من نصارى نجران وسواهم على امترائهم في حجاجهم، وكونهم على غير بينة فيما يعتقدون.

وفي الآية عبرة لمن ادّكر، لأنه طلب فيها مشاركة النساء للرجال في الاجتماع للمفاضلة الدينية وفي هذا دليل على أن المرأة كالرجل حتى في الأمور العامة إلا في بعض مسائل ككونها لا تباشر الحرب بنفسها، بل تشتغل بخدمة المحاربين ومداواة الجرحى، ولا تتولى القضاء في الجنايات ونحوها.

وأين هذا من حال نساء المسلمين اليوم في جهلهنّ بأمور الدين، وعدم مشاركتهنّ للرجال في عمل من الأعمال الدينية أو الشئون الاجتماعية، ولا همّ لنساء الأغنياء في المدن إلا الزينة والتنوق في المطاعم والمشارب والملابس كما لا عمل لنساء الفقراء في القرى والدساكر إلا الخدمة في الحقول والمنازل، فهن كالاتن الحاملة والبقر العاملة، وكان من جراء هذا أن صغرت نفوسهن، وضعفت آدابهن، وصرن كالدواجن في البيوت، أو السوائم في الصحراء، وساءت تربية البنين والبنات، وسرى الفساد من الأفراد إلى الجماعات، وعم الأسر والعشائر، والشعوب والقبائل.

وقد قام في العهد الأخير جماعات من العقلاء في كثير من البلاد الإسلامية يطالبون بتحرير المرأة ومشاركتها الرجل في العلم والأدب وشئون الحياة، وصادفت هذه الدعوة آذانا صاغية، فبدأ المسلمون يعلمون بناتهم ولكن يحسن أن بصحب هذا التعليم شيء كثير من التربية الدينية والإصلاح في الأخلاق والعادات.

وقد كان هذا عاملا من عوامل الانقلاب الاجتماعى الذي لا ندري ما تكون عاقبته في إصلاح الأسر الإسلامية ولا ما سيتمخص عنه من نفع للإسلام والمسلمين.

(إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ) أي إن هذا الذي قصصته عليك في شأن عيسى هو الحق لا ما يدعيه النصارى من كونه إلها أو ابن الله، ولا ما يدعيه اليهود من كونه ابن زنا.

(وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ) الذي خلق كل شيء وليس كمثله شيء.

وفي هذا رد على النصارى الذين يقولون إن الله ثالث ثلاثة.

(وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي وإنه تعالى ذو العزة الذي لا يغالبه أحد، وذو الحكمة التي لا يساويه فيها أحد حتى يكون شريكا له في ألوهيته، أو ندّا له في ربوبيته، وما الولد إلا نسخة من الوالد، فهو يساويه في جنسه ونوعه، وهو سبحانه فوق الأجناس والأنواع.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) أي فإن أعرضوا عن اتباعك وتصديقك، ولم يقبلوا عقيدة التوحيد التي جئت بها، ولم يجيبوك إلى المباهلة، فإن الله عليم بحال المفسدين في الدين ونياتهم، وأغراضهم الفاسدة، فيجازيهم بخبيث سرائرهم، وسىء أعمالهم.

[سورة آل عمران (3): الآيات 64 الى 68]

قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضًا أَرْبابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)

تفسير المفردات

أهل الكتاب: هم اليهود والنصارى، تعالوا: أي أقبلوا ووجهوا النظر إلى ما دعيتم إليه، وسواء: أي عدل وإنصاف من بعضنا لبعض، والإله: هو المعبود الذي يدعى حين الشدائد، ويقصد عند الحاجة اعتقادا بأنه وحده ذو السلطة الغيبية، والربّ: هو السيد المربى الذي يطاع فيما يأمر وينهى، ويراد به هنا ماله حق التشريع من تحريم وتحليل، مسلمون: أي منقادون لله مخلصون له، تحاجون: أي تجادلون، والحنيف: المائل عن العقائد الزائفة، والمسلم: هو الموحد المخلص المطيع له.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه فيما سلف أحوال عيسى عليه السلام وما يعتوره من الأطوار المنافية للألوهية، ثم ذكر دعوته ﷺ الناس إلى التوحيد والإسلام، وظهور عناد أهل الكتاب حتى اضطر إلى دعوتهم إلى المباهلة فأعرضوا، وبذلك انقطعت حججهم، ودل ذلك على أنهم ليسوا على يقين من اعتقاد ألوهية المسيح، ومن يفقد اليقين يتزلزل حينما يدعى إلى شيء مما يخاف عاقبته.

دعاهم هنا إلى أمر آخر هو أصل الدين وروحه الذي اتفقت عليه دعوة الأنبياء جميعا وهو سواء وعدل بين الفريقين لا يرجح فيه طرف على طرف، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، فلما أعرضوا أمر بأن يقول لهم: اشهدوا بأنا مسلمون.

الإيضاح

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) أي قل: يا أهل الكتاب هلمّوا وانظروا في مقالة عادلة اتفقت عليها الرسل والكتب التي أنزلت إليهم، فقد أمرت بها التوراة والإنجيل والقرآن.

ثم بين هذه الكلمة فقال:

(أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضًا أَرْبابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي ألا نخضع إلا لإله له السلطة المطلقة في التشريع وله التحليل والتحريم، ولا نشرك به شيئا سواه، ولا يتخذ بعضا بعضا أربابا من دون الله.

وقد حوت هذه الآية وحدانية الألوهية في قوله - ألا نعبد إلا الله - ووحدانية الربوبية في قوله - ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله -. وهذا القدر متفق عليه في جميع الأديان، فقد جاء إبراهيم بالتوحيد، وجاء به موسى، فقد ورد في التوراة قول الله له (إن الربّ إلهك، لا يكن لك آلهة أخرى أمامي، لا تصنع لك تمثالا منحوتا، ولا صورة ما مما في السماء من فوق، ومما في الأرض من تحت، وما في الماء من تحت الأرض، لا تسجد لهنّ ولا تعبدهنّ) وكذلك جاء عيسى بمثل هذا، ففي إنجيل يوحنا (وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته) وجاء خاتم النبيين محمد ﷺ بمثل هذا « اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ».

وخلاصة المعنى - أنا وأنتم نعتقد أن العالم من صنع إله واحد هو خالقه والمدبر له، وهو الذي يرسل إلينا أنبياءه ليبلغونا عنه ما يرضيه من العمل وما لا يرضيه فهلمّ بنا نتفق على إقامة هذه الأصول، ونرفض الشبهات التي تعرض لها، فإذا جاءكم عن المسيح شيء فيه (ابن لله) أوّلناه على وجه لا يخالف الأصل الذي اتفق عليه الأنبياء، لأننا لا نجد المسيح فسر هذا القول بأنه إله يعبد، ولا دعا إلى عبادته وعبادة أمه، بل كان يدعو إلى عبادة الله وحده والإخلاص له.

وقد كان اليهود موحدين، ولكن كان منبع شقوتهم اتباعهم لرؤساء الدين فيما يقررون من الأحكام وجعله بمنزلة الأحكام المنزلة من عند الله، وسار النصارى على هذا المنوال، وزادوا مسألة غفران الخطايا، وهي مسألة كان لها أثر خطير في المجتمع المسيحي حتى بلغ من أمرها أن ابتلعت الكنائس أكثر أموال الناس، فقامت طائفة جديدة تطلب الإصلاح وهي فرقة (البروتستانت) وقالت دعونا من هؤلاء الأرباب وخذوا الدين من الكتاب ولا تشركوا معه شيئا سواه من قول فلان وفلان.

روى عدي بن حاتم قال: « أتيت رسول الله ﷺ وفي عنقي صليب من ذهب، فقال يا عديّ اطرح عنك هذا الوثن، وسمعته يقرأ في سورة براءة « اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْبابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ » فقلت له: يا رسول الله لم يكونوا يعبدونهم، فقال: أما كانوا يحللون لكم ويحرّمون، فتأخذون بأقوالهم؟ قال نعم، فقال عليه السلام: هو ذاك ».

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) أي فإن أعرضوا عن هذه الدعوة وأبوا إلا أن يعبدوا غير الله، واتخذوا الشركاء والوسطاء والأرباب الذين يحللون ويحرّمون، فقولوا لهم إنا منقادون لله مخلصون له لا نعبد أحدا سواه، ولا نتوجه إلى غيره نطلب منه النفع أو دفع الضر، ولا نحلّ إلا ما أحله الله، ولا نحرّم إلا ما حرمه الله.

وفي هذا حجة على أن مسائل الدين كالعبادات والتحريم والتحليل لا يؤخذ فيها إلا بقول النبي المعصوم لا بقول إمام مجتهد ولا فقيه قدير، وإلا كان ذلك إشراكا في الربوبية، وخروجا من هداية القرآن التي دل عليها مثل قوله « أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ » وقوله « وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ ».

أما المسائل الدنيوية كالقضاء والسياسة فقد فوّض الله أمرها إلى أولى الحل والعقد وهم رجال الشورى، فما أمروا به وجب على حكام المسلمين أن ينفذوه ويعملوا به، وعلى الرعية أن يقبلوه.

وهذه الآية هي الأساس والأصل الذي دعا النبي ﷺ أهل الكتاب إلى العمل به حين دعاهم إلى الإسلام كما ثبت ذلك في كتبه إلى هرقل والمقوقس وغيرهما.

أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: « اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله ﷺ فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديا، وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانيا، فأنزل الله (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ) الآية ».

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ) أي أيها اليهود والنصارى: لم تتنازعون وتتجادلون في إبراهيم ويدّعى كل منكم أنه على دينه؟.

(وقد كان إبراهيم موضع إجلال الفريقين لما في كتبهم من الثناء عليه في العهد العتيق والعهد الجديد كما كانت قريش تجلّه وتدّعى أنها على دينه).

وهو لم يكن على شيء من تقاليدكم، بل كان على الإسلام الذي يدعو إليه محمد ﷺ، وإلى هذا أشار بقوله:

(وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ؟) أي وما أنزلت التوراة على موسى، ولا الإنجيل على عيسى إلا من بعد إبراهيم بأحقاب طوال، وقد قالوا: إن بين إبراهيم وموسى سبعمائة سنة، وبين موسى وعيسى حوالى ألف سنة. أفلا تعقلون أن المتقدم على الشيء لا يمكن أن يكون تابعا له؟.

وخلاصة ذلك - أنه إذا كان الدين الحق لا يعدو التوراة كما يقول اليهود، ولا يتجاوز الإنجيل كما يقول النصارى، فكيف كان إبراهيم على الحق، واستوجب ثناءكم وثناء من قبلكم، والتوراة والإنجيل خلو من الإخبار بيهوديته ونصرانيته اللتين زعمتموها أليس عندكم عقل يردكم عن مثل هذه الدعوى، ويربأ بكم أن تقولوا ما لا سند له من كتاب ولا دليل عليه؟.

وفي هذا إيماء إلى جهلهم وحماقتهم في دعواهم هذه.

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) من أمر عيسى عليه السلام، وقد قامت عليكم الحجة، وتبين أن منكم من غلا وأفرط وادعى ألوهيته، ومنكم من فرّط وقال إنه دعي كذاب، ولم يكن علمكم بمانع لكم من الخطأ.

(فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ؟) من أمر إبراهيم إذ لا ذكر لدينه في كتبكم فمن أين أتاكم أنه كان يهوديا أو نصرانيّا، أليس من المعقول أن تتبعوا فيه ما أوحاه الله إلى رسوله محمد ﷺ؟.

(وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي والله يعلم ما غاب عنكم ولم تشاهدوه، ولم تأتكم به الرسل من أمر إبراهيم وغيره مما تجادلون فيه، وأنتم لا تعلمون من ذلك إلا ما عاينتم وشاهدتم، أو أدركتم علمه بالسماع.

ثم صرّح بما فهم من قبل تلويحا فقال:

(ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا) أي إن اليهود والنصارى الذين جادلوا في إبراهيم وملته وأنه كان على دينهم - كاذبون في دعواهم وأن الصادق فيها هم أهل الإسلام، فإنهم وحدهم أهل دينه وعلى منهاجه وشريعته دون سائر الملل الأخرى، إذ هو مطيع لله، مقيم على محجة الهدى التي أمر بلزومها، خاشع له بقلب متذلل، مذعن لما فرضه عليه وألزمه به.

(وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الذين يسمون أنفسهم الحنفاء ويدّعون أنهم على ملة إبراهيم، وهم قريش ومن سار على نهجهم من العرب.

وصفوة القول - إن إبراهيم الذي اتفق اليهود والنصارى والمشركون على إجلاله وتعظيمه - لم يكن على ملة أحد منهم، بل كان مائلا عما هم عليه من الوثنية، مسلما لله، مخلصا له.

ثم أكد ما سلف بقوله:

(إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) معه: أي إن أحق الناس بإبراهيم ونصرته وولايته - هم الذين سلكوا طريقه ومنهاجه في عصره فوحدوا الله مخلصين له الدين، وكانوا حنفاء مسلمين غير مشركين، وهذا النبي محمد ﷺ والذين آمنوا معه، فإنهم أهل التوحيد الذي لا يشوبه اتخاذ الأولياء ولا التوسل بالشفعاء، المخلصون لله في أعمالهم دون شرك ولا رياء.

وهذا هو روح الإسلام والمقصود من الإيمان، ومن فاته ذلك فقد فاته الدين كله.

ثم ذكر أنهم مع نصرتهم لإبراهيم فالله ناصرهم فقال:

(وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) بالنصرة والتأييد، والتوفيق والتسديد فهو يتولى أمورهم ويصلح شئونهم، ويثيبهم بحسب تأثير الإسلام في قلوبهم، ويحازيهم بالحسنى وزيادة.

[سورة آل عمران (3): الآيات 69 الى 74]

وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (69) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73)

يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)

تفسير المفردات

ودّ الشيء: أحبه، طائفة: أي جماعة وهم الأحبار والرؤساء، والآيات هنا ما يدل على صدق نبوّة محمد ﷺ، وتلبسون: أي تخلطون، وجه النهار: أي أوّله تقول: أتيته بوجه نهار وصدر نهار وشباب نهار، آمن له: صدّقه وسلّم له ما يقول كما قال تعالى حكاية عن إخوة يوسف « وما أنت بمؤمن لنا » والفضل: الزيادة، والمراد به هنا النبوة.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه أن من دأب أهل الكتاب أن يعرضوا عن الحق بعد أن يتبين لهم، ولا يجدى معهم الدليل والبرهان، فدعوتهم إلى دين الإسلام الذي كان عليه إبراهيم والأنبياء بعده لا تجد منهم آذانا صاغية ولا قلوبا واعية.

ذكر هنا شأنا آخر لهم، وهو أنهم كانوا أشد الناس حرصا على إضلال المؤمنين، فلا يدعون فرصة إلا انتهزوها بالتفنن في إلقاء الشبه في نفوس المؤمنين، وقد كان النزاع بالغا أشده بين الفريقين ولا غرابة في ذلك، فإن الدعوة إلى هذا الدين الجديد وجدت مقاومة من أهل الكتاب ومن المشركين.

أما أهل الكتاب فلأن فيه هدما لدينهم كما يزعمون، وأما المشركون فلأن للإلف والعادة سلطانا على النفوس، وهذه الدعوة دكّت حصون المعتقدات التي توارثوها عن أسلافهم الغابرين، ووجدوا عليها آباءهم من قبل كما حكى الله عنهم « إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ ».

روي أن هذه الآية نزلت في اليهود حين دعوا حذيفة وعمارا ومعاذا إلى اليهودية.

الإيضاح

(وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ) أي أحبت طائفة من الأحبار والرؤساء أن يوقعوكم في الضلال بإلقاء الشبهات التي تشككم في دينكم، وتردكم إلى ما كنتم عليه من الكفر.

(وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) إذ أنهم بعنايتهم بالإضلال، واشتغالهم به ينصرفون عن النظر في طرق الهداية، ويغضّون أبصارهم عما أوتيه النبي ﷺ من الآيات البينات الدالة على نبوته، فهم يعبثون بعقولهم، ويفسدون فطرتهم باختيارهم (وَما يَشْعُرُونَ) أي وما يفطنون إلى سوء حالهم، وأنهم ألغوا عقولهم، فلم تفكر في الحجج التي آتاها الله لنبيه، ولم تنظر إلى نور الحق الساطع الذي يهدى صاحبه إلى الصراط المستقيم. وفي نفي الشعور عنهم نهاية الذم والاحتقار لهم.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ؟) أي لأي سبب تكفرون بما ترونه من البراهين الواضحة الدالة على نبوة محمد ﷺ وأنتم تشهدون بصحتها بما جاء في كتبكم من نعته والبشارة به؟.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ) أي لم تخلطون الحق الذي جاء به النبيون، ونزلت به كتبهم من عبادة الله وحده، والبشارة بنبي من بنى إسماعيل يعلّم الناس الكتاب والحكمة بالباطل الذي لفّقه أحباركم ورؤساؤكم بتأويلاتهم الفاسدة، وتجعلون ذلك دينا يجب اتباعه كما جاء في آية أخرى « يَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ » (وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي وتكتمون شأن محمد ﷺ وهو مكتوب عندكم في التوراة والإنجيل، وأنتم تعلمون أنكم إنما تفعلون ذلك عنادا وحسدا.

(وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).

روى ابن إسحاق عن ابن عباس قال: قال عبد الله بن الصيف وعدي بن زيد والحارث بن عوف بعضهم لبعض، تعالوا نؤمن بما أنزل على محمد وأصحابه غدوة ونكفر به عشيّة حتى نلبس عليهم دينهم لعلهم يصنعون كما نصنع فيرجعوا عن دينهم فأنزل الله فيهم - يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل - إلى قوله واسع عليم.

ومقصد هذه الطائفة أن تفسد الناس فيقولوا: لولا أن ظهر لهؤلاء بطلان الإسلام لما رجعوا عنه بعد أن دخلوا فيه، إذ ليس من المعقول أن يترك الإنسان الحق بعد معرفته ويرجع عنه بلا سبب، وليتهم وقف الأمر بهم إلى حد القول، بل هم قد فعلوا ذلك.

أخرج ابن جرير عن مجاهد قال: صلّت يهود مع محمد صلاة الصبح، وكفروا آخر النهار مكرا منهم ليروا الناس أن قد بدت لهم منه الضلالة بعد أن كانوا اتبعوه.

وليس بالغريب منهم أن يلجأوا إلى مثل هذه الحيلة، إذ هم يعلمون أن من علامة الحق ألا يرجع عنه من يعرفه، يرشد إلى هذا قول هرقل صاحب الروم لأبي سفيان حين سأله عن شئون محمد ﷺ عند ما دعاه إلى الإسلام: هل يرجع عنه من دخل في دينه؟ فقال أبو سفيان (لا).

وقد حذر الله نبيه مكر هؤلاء، وأطلعه على سرهم حتى لا تؤثر هذه الحيلة في قلوب ضعفاء المؤمنين، ولأنهم إذا افتضحوا فيها لا يقدمون على أمثالها، ويكون ذلك وازعا لهم.

وفي هذا إنباء بالغيب فيكون معجزة لمحمد ﷺ.

(وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) هذا من كلام اليهود الذين حصروا الثقة في أنفسهم زعما منهم أن النبوة لا تكون إلا فيهم، بل لقد تغالوا وحقّروا جميع الطوائف، وجعلوا أن كل ما يصدر منهم حسن، وما يصدر من سواهم قبيح.

وخلاصة المعنى ولا تؤمنوا هذا الإيمان الظاهر الذي أتيتم به وجه النهار إلا لمن كان تابعا لدينكم أوّلا، وهم الذين أسلموا منهم، ومقصدهم من ذلك رجوعهم عن إسلامهم لأنهم كانوا راغبين فيه جد الرغبة طامعين فيه، فلهم من إسلامهم حنق وغيظ عظيم.

(قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ) أي ليس الهدى مقصورا على شعب معين أو واحد بذاته، بل الله سبحانه يهدى من يشاء من عباده على لسان من يريد من أنبيائه، ومن يهد الله فلا مضلّ له، فكيدهم لا يضير من أراد الله به الخير، بل يحبط تدبيرهم له.

(أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) هذا من كلام اليهود، وجملة (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ) اعتراضية بينه وبين ما سبقه.

والمعنى - لا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم حتى يحاجوكم عند ربكم فيدحضوا حجتكم.

وتلخيص المراد - لا تعترفوا أمام العرب أو غيرهم بأنكم تعتقدون أنه يجوز أن يبعث نبي من غير بني إسرائيل، ولا تؤمنوا لغير أتباعكم أن المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق ويغالبونكم عند الله تعالى بالحجة.

وهذا مبنى على أنهم كانوا ينكرون جواز بعثة نبي من العرب بألسنتهم مكابرة وعنادا للنبي ﷺ لا اعتقادا، وأنهم كانوا لا يصرحون بهذا الاعتقاد إلا لمن آمنوا به من قومهم لما هم عليه من المكر والمخادعة.

وصفوة القول - ولا تظهروا إيمانكم بأن أحدا يؤتى مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم، بل أسرّوا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم، ولا تفشوه إلا إلى أشياعكم وحدهم دون المسلمين لئلا يزيدهم ذلك ثباتا، ودون المشركين لئلا يدعوهم ذلك إلى الإسلام.

(قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) أي قل لهم: إن الرسالة فضل من الله ومنة، والله واسع العطاء وهو العليم بالمستحق، فيعطيه من هو له أهل. وفي هذا إيماء إلى أن اليهود قد ضيّقوا هذا الفضل الواسع بزعمهم حصر النبوة فيهم وجهلوا الحكم والمصالح التي لأجلها يعطى النبوة من يشاء.

(يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي إن فضله الواسع ورحمته العامة يعطيهما بحسب مشيئته، لا كما يزعم أهل الكتاب من قصرها على الشعب المختار من بني إسرائيل، فهو يبعث من يشاء نبيا ويبعثه رسولا، ومن اختصه بهذا فإنما يختصه بمزيد فضله وعظيم إحسانه، لا بعمل قدّمه ولا لنسب شرّفه، فالله لا يحابى أحدا لا فردا ولا شعبا، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

[سورة آل عمران (3): الآيات 75 الى 77]

وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِمًا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77)

تفسير المفردات

تأمنه، من أمنته بمعنى ائتمنته، ويقال أمنته بكذا وعلى كذا، والمراد بالقنطار العدد الكثير، وبالدينار العدد القليل، والأميون: هم العرب، والسبيل: المؤاخذة والذنب، وبلى كلمة تقع جوابا عن نفى سابق لتثبته، والعهد ما تلتزم الوفاء به لغيرك، وإذا كان الالتزام من طرفين يقال عاهد فلان فلانا عهدا، ويشترون: أي يستبدلون، والمراد بالعهد عهد الله إلى الناس في كتبه المنزلة أن يلتزموا الصدق والوفاء بما يتعاهدون عليه ويتعاقدون، والمراد بالأيمان الأيمان الكاذبة، والثمن القليل: هو العوض الذي يأخذونه أو الرّشا، وجعل قليلا لأن كل ما يفوّت الثواب ويوجب العقاب فهو قليل، ولا خلاق لهم: أي لا نصيب لهم، ولا يكلمهم الله: أي يغضب عليهم، ولا ينظر إليهم: أي يسخط عليهم ويستهين بهم، ولا يزكيهم: أي لا يثني عليهم

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه خيانة أهل الكتاب في الدين وكيدهم للمسلمين، ليرجعوا عن دينهم، وصدّهم عن الدعوة لذلك الدين الجديد بكل وسيلة يستطيعونها، زعما منهم أنهم شعب الله المختار، وأن الدين الحق خاصّ بهم لا يعدوهم إلى شعب آخر، ولا إلى أمة أخرى.

أردف ذلك ذكر حال طائفة أخرى منهم تخون الأمانات، وتستحلّ أكل أموال الناس بالباطل، تأويلا للكتاب وغرورا في الدين.

الإيضاح

(وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِمًا) أي ومن أهل الكتاب طائفة تشاكس المسلمين وتكيد لهم ليرجعوا عن دينهم، ومنهم طائفة أخرى تستحل أكل أموالهم وأموال غيرهم زعما منهم أن الكتاب لم ينههم إلا عن خيانة إخوتهم من بني إسرائيل.

والخلاصة - إن أهل الكتاب طائفتان:

(1) طائفة تؤمن على الكثير والقليل كعبد الله بن سلام استودعه قرشي ألفا ومائتى أوقية من ذهب فأداها إليه.

(2) طائفة أخرى تخون الأمانة، فلو استودعتها القليل جحدته ولا تؤديه إليك إلا إذا أدمت الوقوف على رأسها ملحّا في المطالبة أو لاجئا إلى التقاضي والمحاكمة. ومن هؤلاء كعب بن الأشرف استودعه قرشd دينارا فجحده.

ثم بين السبب في فعلهم هذا فقال:

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) أي إن ذلك الترك لأداء الأمانة من قبل أنهم زعموا أنه لا تبعة ولا ذم في أكل أموال العرب.

وخلاصة هذا - إن كل من ليس من شعب الله المختار وليس من أهل دينهم فلا يأبه الله له، بل هو مبغض عنده محتقر لديه فلا حقوق له ولا حرمة لماله، فكل ما يستطاع أخذه منه فلا ضير فيه، ولا شك أن هذا من الصلف والغرور والغلوّ في الدين واحتقار المخالف الذي يستتبع اهتضام حقوقه.

روى ابن جرير أن جماعة من المسلمين باعوا لليهود بعض سلع لهم في الجاهلية، فلما أسلموا تقاضوهم الثمن فقالوا: ليس علينا أمانة ولا قضاء لكم عندنا، لأنكم تركتم دينكم الذي كنتم عليه، وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم.

فرد الله عليهم بقوله:

(وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي وهم يعلمون كذبهم في ذلك لأن ما جاء من عند الله فهو في كتابه، والتوراة التي بين أيديهم ليس فيها خيانة الأميين، ولا أكل أموالهم بالباطل، وهم يعلمون ذلك حق العلم، لكنهم لما لم يكتفوا بالكتاب ولجأوا إلى التقليد وعدّوا كلام أحبارهم دينا، وهؤلاء قالوا في الدين بالرأي والهوى، وحرفوا الكلم عن مواضعه ليؤيدوا آراءهم، وجدوا من هذه الأقوال ما يساعدهم على ما يدّعون.

روى ابن المنذر عن سعيد بن جبير قال: « لما نزلت (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إلى قوله لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) قال النبي ﷺ: كذب أعداء الله، ما من شيء في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي هاتين إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر ».

(بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) أي بلى عليكم في الأميين سبيل، وعليكم الوفاء بعقودكم المؤجلة والأمانات، فمن أقرضك مالا إلى أجل، أو باعك بثمن مؤجل أو ائتمنك على شيء وجب عليك الوفاء به، وأداء الحق له في حينه دون حاجة إلى الإلحاف في الطلب أو إلى التقاضي، وبذلك قضت الفطرة وحتّمت الشريعة.

وفي هذا إيماء إلى أن اليهود لم يجعلوا الوفاء بالعهد حقا واجبا لذاته، بل العبرة عندهم بالمعاهد، فإن كان إسرائيليا وجب الوفاء له، ولا يجب الوفاء لغيره.

والعهد ضربان:

(1) عهد المرء لأخيه في العقود والأمانات كما تقدم.

(2) عهد الله تعالى، وهو ما يلتزم به المؤمن لربه من اتباع دينه والعمل بما شرعه على لسان رسوله.

واليهود لم يفوا بشيء منهما، إذ لو وفّوا بعهد الله لآمنوا بالنبي ﷺ واتبعوا النور الذي أنزل معه، كما وصاهم بذلك كتابهم على لسان رسولهم موسى صلوات الله عليه وقد جعل الله جزاء الموفين بالعهد المتقين الإخلاف والغدر - محبته تعالى ورحمته لهم في الدنيا والآخرة.

وفي هذا إيماء إلى أن الوفاء بالعهود، واتقاء الإخلاف فيها وفي سائر المعاصي والخطايا هو الذي يقرب العبد من ربه، ويجعله أهلا لمحبته. أما الانتساب إلى شعب بعينه فلا قيمة له عند الله.

وفي هذا تعريض بأن أصحاب هذا الرأي من اليهود ليسوا على حظ من التقوى، وهي الدعامة الأساسية في كل دين قويم.

(إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي إن الذين يستبدلون بعهد الله إلى الناس في كتبه المنزلة بأن يلتزموا الصدق والوفاء بما يتعاهدون عليه ويتعاقدون، وأن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، وأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، ويتقوه في جميع الأمور وبما حلفوا عليه من قولهم: لنؤمننّ به ولننصرنّه - ثمنا قليلا هو العوض أو الرّشا - أولئك لا نصيب لهم في منافع الآخرة ونعيمها، ويغضب عليهم ربهم ولا ينظر إليهم ولا يثنى عليهم يوم القيامة، ولهم عذاب أليم هو الغاية في الألم.

قال القفال: هذه الكلمات يراد بها بيان شدة سخط الله عليهم، لأن من منع غيره كلامه في الدنيا فإنما ذلك لسخطه عليه، وقد يأمره بحجبه عنه، ويقول لا أكلمك ولا أرى وجهك، وإذا جرى ذكره لم يذكره بالجميل ا هـ.

وصفوة القول - إن الله توعد الناكثين للعهد، المخلفين للوعد بالحرمان من النعيم وبالعذاب الأليم، وبأنهم يكونون في غضب الله بحيث لا ترجى لهم رحمة، ولا يسمعون منه تعالى كلمة عفو ولا مغفرة.

ولم يتوعد الله مرتكبى الكبائر من الزناة وشاربى الخمر، ولا عبى الميسر وعاقّى الوالدين بما توعد به ناكثى العهود وخائنى الأمانات، لأن مفاسدهما أعظم من جميع المفاسد التي لأجلها حرمت تلك الجرائم.

فالوفاء بها آية الدين البينة، والمحور الذي تدور عليه مصالح العمران، فمتى نكث الناس في عهودهم زالت ثقة بعضهم ببعض، والثقة روح المعاملات وأساس النظام.

والإيمان بالله لا يجتمع مع الخيانة والنكث بالعهد، ألا ترى أن النبي ﷺ جعله علامة النفاق فقال: « آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أوتمن خان ».

وروى الطبراني في الأوسط عن أنس رضي الله عنه قال: ما خطبنا رسول الله ﷺ إلا قال: « لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له ».

فما بال كثير من المسلمين حتى المتدينين منهم استهانوا بالعهود، وأصبحوا لا يحفظون الإيمان ويرون ذلك شيئا صغيرا، مع كل ما رأوا من شديد التهديد والوعيد ويكبرون أمر المعاصي التي لم يتعودوها لعدم الإلف والعادة فقط، مع أنها دون ذلك عند الله كما تدل عليه هذه الآية.

أخرج ابن جرير عن عكرمة قال: نزلت هذه الآية في أبي رافع ولبابة بن أبي الحقيق وكعب بن الأشرف وحيي بن أخطب حرّفوا التوراة وبدلوا نعت رسول الله ﷺ وحكم الأمانات وغيرها، وأخذوا على ذلك الرّشا.

وروى البخاري وغيره أن الأشعث بن قيس قال: « كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدنيها، فقدته إلى رسول الله ﷺ فقال: ألك بينة؟ قلت لا، فقال لليهودي احلف، فقلت: يا رسول الله إذن يحلف فيذهب مالي، فأنزل الله (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ) الآية ».

قال الحافظ ابن حجر والآية محتملة لأن يكون هذا سبب النزول أو ذاك، والعمدة في ذلك ما ثبت في الصحيح.

[سورة آل عمران (3): آية 78]

وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)

تفسير المفردات

لي اللسان بالكتاب: فتله للكلام وتحريفه بصرفه عن معناه إلى معنى آخر كما في الألفاظ التي جاءت على لسان عيسى من نحو ابن الله وتسمية الله أبا له وأبا للناس، فهذا مما لا يراد به المعنى الحقيقي، لكنهم لوّوه ونقلوه إلى المعنى الحقيقي بالنسبة إلى المسيح وحده، وأوهموا الناس أن الكتاب جاء بهذا.

المعنى الجملي

بين الله تعالى في هذه الآية حال طائفة ثالثة من أهل الكتاب، وهم بعض علماء اليهود الذين كانوا حول المدينة، ومن لفّ لفّهم وسار على طريقهم افتعلوا نوعا آخر من الخيانة في الدين بالافتراء على الله ما لم يقله.

روي عن ابن عباس أن هذا الفريق هم اليهود الذين قدموا على كعب بن الأشرف وكان شديد العداوة لرسول الله ﷺ كثيرا الإيذاء له والإغراء به، غيّروا التوراة وكتبوا كتابا بدلوا فيه صفة النبي ﷺ، فأخذت قريظة ما كتبوه فخلطوه بالكتاب الذي عندهم وجعلوا يلوون ألسنتهم بقراءته يوهمون الناس أنه من التوراة.

الإيضاح

(وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ) أي وإن طائفة من اليهود ككعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وأضرابهما، يفتلون ألسنتهم بقراءته فيميلونها عن المنزّل إلى المحرّف لتظنوا أيها المسلمون أن ذلك المحرف من كلام الله وتنزيله وما هو من عند الله، ولكنه من عند أنفسهم.

وقد جاء في كتب السيرة والحديث أن اليهود كانوا إذا سلموا على النبي ﷺ يمضغون كلمة (السلام) فيخفون اللام، ويقولون (السام عليكم) غير مفصحين بالكلمة لأنهم يريدون معنى السام وهو الموت.

وجاء في سورة النساء قوله تعالى: « مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ، وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ » فهؤلاء وضعوا (غير مسمع) مكان (لا أسمعت مكروها) التي تقال عادة عند الدعاء (وراعنا) مكان (انظرنا) التي يقولها الناس لمن ينتظرون معونته ومساعدته.

وإنما قالوا (غير مسمع) لأنها قد تستعمل في الدعاء على المخاطب بمعنى لا سمعت وقالوا (راعنا) لأن هذه الكلمة عبرانية أو سريانية كانوا يتسابّون بها.

ثم أكد ما سبق بقوله:

(وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) أي إنهم كاذبون فيما يقولون، وفي هذا تشنيع عليهم بأن الجرأة قد بلغت بهم حدا عظيما، فهم لم يكتفوا بالتعريض والتورية بل يصرحون بنسبته إلى الله كذبا لعدم خوفهم منه، واعتقادهم أنه يغفر لهم جميع ما يجترحون من الذنوب لأنهم من أهل ذلك الدين.

وليس ذلك بالغريب عليهم، فإنا نرى كثيرا من المسلمين اليوم يعتقدون أن المسلم من أهل الجنة حتما مهما أصاب من الذنوب، لأنه إن لم تدركه الشفاعة أدركته المغفرة، ويجلى اعتقادهم ذلك قولهم (أمة محمد بخير).

فالمسلم في نظرهم من اتخذ الإسلام دينا، وإن لم يعمل بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله من صفات المسلمين الصادقين، بل فعل فعل الكافرين والمنافقين.

(وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنهم كاذبون، وهذا تسجيل عليهم بأن ما افتروه على الله كان عن عمد لا عن خطأ.

[سورة آل عمران (3): الآيات 79 الى 80]

ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)

تفسير المفردات

البشر: الإنسان ذكرا كان أو أنثى، واحدا كان أو جمعا، والحكم: الحكمة وهي فقه الكتاب ومعرفة أسراره، وذلك يستلزم العمل به، والعباد: واحدهم عبد بمعنى عابد، والعبيد: جمع لعبد بمعنى مملوك، وهو لا يمتنع أن يكون لغير الله، والربانيين واحدهم رباني وهو كما قال سيبويه المنسوب إلى الرب، لأنه عالم به مواظب على طاعته كما يقال رجل إلهي إذا كان مقبلا على معرفة الإله وطاعته، روى أن محمد ابن الحنفية قال يوم مات ابن عباس: اليوم مات رباني هذه الأمة.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه فيما سلف افتراء اليهود على الله الكذب ونسبتهم إليه ما لم يقله أردف ذلك بذكر افترائهم على الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين.

أخرج ابن إسحق وغيره عن ابن عباس قال: قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله ﷺ وقد دعاهم إلى الإسلام: أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم؟ وقال رجل نصراني من أهل نجران: أوذاك تريد؟ فقال رسول الله ﷺ: معاذ الله أن نعبد غير الله أو نأمر بعبادة غيره، ما بذلك بعثني الله ولا بذلك أمرني فأنزل الله الآية.

وأخرج عبد الرزاق عن الحسن قال: بلغني « أن رجلا قال يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض، أفلا نسجد لك؟ قال لا، ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله فإنه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله تعالى فأنزل الله (ما كان لبشر) الآيتين ».

الإيضاح

(ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي لا ينبغي لأحد من البشر أن ينزل الله عليه كتابه، ويعلمه فقه دينه ومعرفة أسراره ويعطيه النبوة، ثم يدعو الناس إلى عبادة نفسه دون الله، لأن من آتاه الله ذلك فإنما يدعوهم إلى العلم به، ويحثهم على معرفة شرائع دينه، وأن يكونوا القدوة في طاعته وعبادته، ومعلمي الناس الكتاب.

ومعنى قوله من دون الله: أي متجاوزين ما يجب من إفراده تعالى بالعبادة، فإن العبادة الصحيحة لا تتحقق إلا إذا أخلصت له وحده، ولم تشبها شائبة من التوجه إلى غيره كما قال تعالى: « قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي ».

ومن دعا إلى عبادة نفسه فقد دعا الناس إلى أن يكونوا عابدين له من دون الله وإن لم ينههم عن عبادة الله، بل وإن أمرهم بعبادة الله.

ومن جعل بينه وبين الله واسطة في العبادة كالدعاء، فقد عبد هذه الواسطة من دون الله، لأن هذه الواسطة تنافى الإخلاص له وحده، وحين ينتفى الإخلاص تنتفى العبادة، ومن ثم قال تعالى: « فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ، وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ »

الآية.

فتوسلهم بالأولياء جعله تعالى يقول إنهم اتخذوا من دونه أربابا، ويقول ﷺ « قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معى غيري تركته وشركه، وفي رواية: فأنا منه بريء، هو للذي عمله » رواه مسلم وغيره.وقال ﷺ: « إذا جمع الله الناس يوم القيامة نادى مناد: من أشرك في عمل عمله لله أحدا فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك » رواه أحمد.

(وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) أي ولكن يأمرهم النبي الذي أوتى الكتاب والحكم بأن يكونوا منسوبين إلى الرب مباشرة من غير توسطه هو ولا التوسل بشخصه، وإنما يهديهم إلى الوسيلة الحقيقية الموصلة إلى ذلك وهي تعليم الكتاب ودراسته، فبعلم الكتاب وتعليمه والعمل به يكون الإنسان ربّانيا مرضيا عند الله، إذ العلم الذي لا يبعث على العمل لا يعد علما صحيحا، ومن ثم استغنى بذكره عن ذكر التصريح بالعمل.

(وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبابًا) أي ما كان لبشر أن يستنبئه الله ثم يأمر الناس بعبادة نفسه، ويأمر باتخاذ الملائكة والنبيين أربابا، ومثال ذلك أن تقول: ما كان لمحمد أن أكرمه، ثم يهيننى ويستخفّ بي، وقد نقل عن مشركي العرب عبادة الملائكة « وقالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله » فجاء الإسلام فبين أن هذا مخالف لما جاء به الأنبياء من الأمر بعبادة الله وحده، وإخلاص الدين له والنهي عن عبادة غيره، ومن ثم قال:

(أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ؟) أي أيأمركم بعبادة الملائكة والسجود للأنبياء بعد توحيدهم لله والإخلاص له، إذ لو فعل ذلك لكفر، ونزعت منه النبوة والإيمان، ومن آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة يكون أعلم الناس بالله، فإن الله لا يؤتى وحيه إلا نفوسا طاهرة، وأرواحا طيبة، فلا تجتمع نبوة ودعاء إلى عبادة غير الله.

وأثر عن علي كرم الله وجهه أنه قال: قصم ظهري رجلان: عالم متهتك، وجاهل متنسّك، لأن العالم ينفّر الناس عن العلم بتهتكه، والجاهل يرغّب الناس في الجهل بتنسكه.

وقال رسول الله ﷺ « نعوذ بالله من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع ».

[سورة آل عمران (3): الآيات 81 الى 83]

وإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)

تفسير المفردات

الميثاق: العهد المؤكد الموثّق، وهو أن يلتزم المعاهد (بكسر الهاء) للمعاهد (بفتحها) أن يفعل شيئا ويؤكد ذلك بيمين أو بصيغة مؤكدة من ألفاظ المعاهدة أو المواثقة، أقررتم من قرّ الشيء إذا ثبت ولزم قرارة مكانه، وأخذتم: أي قبلتم كما جاء نحوه في قوله تعالى: « إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ » والإصر: العهد المؤكد الذي يمنع صاحبه من التهاون فيما التزمه وعاهد عليه.

المعنى الجملي

سيقت هذه الآيات كسابقتها لإثبات نبوّة محمد ﷺ بتعداد أشياء معروفة عند أهل الكتاب قطعا لعذرهم، وإظهارا لعنادهم، ودحضا لمزاعمهم، وإزالة لشبهات من أنكر منهم بعثة نبي من العرب. وهذه الحجة التي تقررها هذه الآيات من الحجج التي تفنّد تلك الترّهات والأباطيل التي يدّعونها، وهي أن الله تعالى أخذ الميثاق على جميع النبيين وعلى أتباعهم بالتبع لهم بأنهم مهما عظمت المنة عليهم بما آتاهم من كتاب وحكمة، فالواجب عليهم أن يؤمنوا بمن يرسل بعدهم مصدقا لما معهم، وأن ينصروه نصرا مؤزّرا، وأن من تولى بعد ذلك كان من الفاسقين.

الإيضاح

(وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ، ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) أي واذكر لهم وقت أخذ الله الميثاق من النبيين أنهم كلما جاءهم رسول من بعدهم مصدق لما معهم آمنوا به ونصروه مهما كانوا قد أوتوا من كتاب وحكمة، لأن القصد من إرسال الأنبياء واحد، فيجب أن يكونوا متكافلين متناصرين، فإذا جاء واحد منهم في زمن نبي آخر آمن به السابق ونصره بما استطاع ولا يستلزم ذلك نسخ شريعة الأول، إذ المقصود تصديق دعوته، ونصره على من يؤذيه ويناوئه.

فإن تضمنت شريعة الثاني نسخ شيء من شريعة الأول وجب التسليم له، وإلا صدّقه في الأصول التي هي واحدة في كل دين، ويؤدى كل منهما مع أمته العبادات والمناسك التفصيلية، ولا يعد هذا اختلافا وتفرقا في الدين، فمثل هذا قد يأتي في الشريعة الواحدة، ففي كفارة اليمين أو غيرها يكفّر شخص بالصيام، وآخر بإطعام الطعام، وما سبب هذا إلا حال الشخصين، فكل منهما أدى ما سهل عليه. ألا ترى أن الملك إذا أرسل أميرين في عصر واحد إلى ولايتين متجاورتين وجب على كل منهما نصر الآخر حين الحاجة مع اتفاقهما في السياسة العامة للدولة.

وقد يكون بين الولايتين اختلاف في طباع الأهالى واستعدادهم، وفي حال البلاد في اليسر والرخاء، فيقتضى ذلك اختلاف تفاصيل الالتزامات، فتكون الضرائب كثيرة في إحداهما قليلة في الأخرى، والقوانين صارمة في واحدة، وسهلة هينة في الثانية وكل من العاملين يعمل للمصلحة العامة للدولة. وهكذا حال النبيّين يؤمن كل منهما بما جاء به الآخر مع الموافقة في الأصول دون الفروع، كما آمن لوط بما جاء به إبراهيم وأيده في دعوته وقد كان في عصره.

أما إذا بعث الله النبيين في أمة واحدة فإنهما يكونان متفقين في كل شيء كما حدث لموسى وهارون عليهما السلام، وبهذا تفهم معنى تصديق النبي ﷺ بالكتب السابقة وبمن جاء بها من الرسل، وليس المغني أن تفاصيل شريعته توافق تفاصيل شرائعهم.

وفي الآية إيماء إلى أنه لا ينبغي أن يكون الدين مصدر العداوة والبغضاء كما فعل أهل الكتاب حين عادوا النبي ﷺ، وكادوا له بعد أن دعاهم إلى كلمة سواء، ولم يكن منهم إلا الصدّ والإعراض والكيد والجحود.

وصفوة القول - إنكم يا أهل الكتاب ملزمون باتباع محمد ﷺ والتصديق بشريعته بمقتضى الميثاق الذي أخذ على كل من موسى وعيسى - أنه إذا جاء نبي بعده، وصدق بمامعه يؤمن به وينصره. وإيمانكم بموسى أو عيسى يقتضى التصديق بكل ما يؤمن به كل منهما.

(قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي؟) أي قال الله تعالى للنبيين: أأقررتم بالإيمان والنصر له، وقبلتم العهد على ذلك؟

(قالُوا أَقْرَرْنا، قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) أي قالوا أقررنا بذلك، قال الله تعالى: ليشهد بعضكم على بعض وأنا معكم شاهد عليكم، لا يعزب عن على شيء.

وهذا الحوار لتثبيت المعنى وتوكيده على طريق التمثيل، وليست الآية نصا في أن هذه المحاورة، وقعت وهذه الأقوال قيلت وله نظائر كثيرة في الأساليب العربية.

(فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي فمن أعرض بعد أخذ الميثاق على هذه الوحدة، واتخذ الدين آلة للتفريق والعدوان، ولم يؤمن بالنبي المتأخر المصدق لمن تقدمه ولم ينصره، فأولئك الجاحدون هم الفاسقون، فأهل الكتاب الذين جحدوا نبوّة محمد ﷺ، خارجون عن ميثاق الله ناقصون لعهده، وليسوا من الدين الحق في شيء.

وبعد أن بين أن دين الله واحد، وأن رسله متفقون فيه - ذكر حال منكري نبوّة محمد ﷺ فقال:

(أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا) أي أيتولون عن الحق بعد ما تبين ويبغون غير دين الله وهو الإسلام والإخلاص له في العبادة في السر والعلن، وقد خضع لله تعالى وانقاد لحكمه أهل السموات والأرض، ورضوا طائعين مختارين لما يحل بهم من تصاريف أقداره؟

وصفوة القول - إن الدين الحق هو إسلام الوجه لله تعالى والإخلاص له، وأن الأنبياء جميعا كانوا على ذلك، وقد أخذوا بذلك ميثاقهم على أممهم ولكنهم نقضوه إذ جاءهم النبي الموعود به يدعوهم إليه فكذبوه.

(وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي وإليه يرجع من اتخذ غير الإسلام دينا من اليهود والنصارى وسائر الخلق، وحينئذ يجازون بإساءتهم وترك الدين الحق.

وفي هذا وعيد وتهديد لهم.

[سورة آل عمران (3): الآيات 84 الى 85]

قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85)

تفسير المفردات

الأسباط: الأحفاد واحدهم سبط وهم أبناء يعقوب الاثنا عشر وذراريهم، وخصهم بالذكر لأن أهل الكتاب يعترفون بنبوتهم وكتبهم، مسلمون: أي مستسلمون منقادون بالطاعة له فيما به أمر وعنه نهى، والخسران: ذهاب رأس المال، ويراد به هنا تضييع ما جبلت عليه الفطر السليمة من الانقياد الله وطاعته. والإيمان: لغة التصديق إما بالقلب كأن يقول إنسان شيئا فتعتقد صدقه، وإما باللسان كأن تقول له صدقت. والإسلام: الانقياد والخضوع، وقد جعل لهما القرآن معنى خاصا، فأطلق الإيمان على الإيمان بالله واليوم الآخر وإرسال الرسل مبشرين ومنذرين بحيث يكون لهذا التصديق سلطان على الإرادة والوجدان، ويكون من ثمراته العمل الصالح الذي يصل بصاحبه إلى الفوز بالسعادة في الدنيا والآخرة، وأطلق الإسلام على توحيد الله والإخلاص له في العبادة والانقياد لما أرشد إليه على ألسنة رسله. والإيمان والإسلام بهذين المعنيين يتواردان على حقيقة واحدة يتناولها كل منهما بالاعتبار، ومن ثم عدّا شيئا واحدا في هذه الآيات، وبهما يكون الفوز بالنجاة في الآخرة.

وأما ما جاء في قوله تعالى: « قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا، قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ » فقد أريد بالإيمان المعنى اللغوي وهو الثقة واطمئنان القلب، وهذا لم يحصل لهم بعد، بدليل أنهم امتنّوا على الرسول ﷺ بالإسلام وترك القتال، ولكن دخلوا في السلم وترك الحرب والنطق بالشهادتين. كذلك إطلاق الإسلام على هذا الدين المعروف الذي عليه المسلمون اليوم إطلاق حادث لا يعرفه القرآن ولم ينطق به، وإنما نطق بالإسلام وأراد به الاستسلام والانقياد كما علمت مما سبق، فمن اتبعه كان مرضيا عند الله، ومن خالفه كان باغيا لغير دين الله.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه أخذ الميثاق من النبيين أن يؤمنوا بمحمد ﷺ وينصروه - ذكر هنا أمر محمد ﷺ أن يؤمن بالأنبياء المؤمنين به وبكتبهم، وأمته تابعة له في ذلك.

وخلاصة ذلك - إن الله أخذ الميثاق من النبيين المتقدمين منهم والمتأخرين على الإيمان بالله والكتب المنزلة على أنبيائه.

الإيضاح

(قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ) أي قل آمنت أنا ومن معي بوجود الله ووحدانيته وتصرفه في الأكوان.

(وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا) وهو القرآن المنزل عليه صلوات الله عليه أولا، وعلى أمته بتبليغه إليهم.

(وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) أي وصدقنا بأن الله أنزل على هؤلاء وحيا لهداية أقوامهم، وأنه موافق في جوهره والمقصود منه لما أنزل علينا كما قال تعالى: « إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ».

(وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى) من التوراة والإنجيل وسائر المعجزات.

وخص هذين النبيين بالذكر، لأن الكلام مع اليهود والنصارى.

(وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) أي وما أوتى النبيون من ربهم كداود وسليمان وأيوب وغيرهم ممن لم يقص الله سبحانه علينا قصصهم.

وقدم الإيمان بما أنزل علينا على الإيمان بما أنزل على من قبلنا، مع كونه أنزل قبله - لأن ما أنزل علينا هو الأصل في معرفة ما أنزل عليهم والمثبت له، ولا طريق لإثباته سواه.

فما أثبته القرآن الكريم من نبوة كثير من الأنبياء نؤمن به إجمالا فيما أجمل، وتفصيلا فيما فصل وكذلك كتبهم، مع العلم بأن جوهر الدين واحد لدى الجميع، وهو الإيمان بالله وإسلام القلب له مع العمل الصالح، والإيمان باليوم الآخر.

(لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) فنصدق ببعض ونكفر ببعض كما فعل اليهود والنصارى، فما مثل الأنبياء إلا مثل الأمراء الأمناء الصادقين يرسلهم السلطان على التعاقب للقيام بشئون ولاية من ولاياته، وإصلاح أحوال أهلها، وعمل القوانين النافعة لحكمها، فقد يغير التالي بعض قوانين السابق بحسب ما يرى من تبدل طباع أهلها وعاداتهم من شراسة إلى لين، ومن جهل إلى علم، ومن بداوة إلى مدنية وحضارة، وما المقصد من كل هذا إلا عمرانها وبذل الوسع في سعادة أهلها، وإيصال الخير إليهم.

(وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أي ونحن منقادون له بالطاعة لا نبتغى بذلك إلا التقرب إليه بإصلاح نفوسنا وتزكية أرواحنا، وتطهيرها من أدارن الذنوب والخطايا.

وقد افتتحت الآية بالإيمان، واختتمت بالإسلام والخضوع وهو الثمرة والغاية من كل دين أرسل به نبي، فقال تعالى:

(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) لأن الدين إذا لم يصل بصاحبه إلى هذا الخضوع والانقياد لله تعالى كان رسوما وتقاليد لا تجدى شيئا، بل تزيد النفوس فسادا، والقلوب ظلاما، ويكون حينئذ مصدر الشحناء والعداوة بين الناس في الدنيا، ومصدر الخسران في الآخرة بالحرمان من النعيم المقيم، والعذاب الأليم.

(وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) لأنه أضاع ما جبلت عليه الفطر السليمة من توحيد الله والانقياد له كما جاء في الحديث « كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجسانه » وخسر نفسه إذ لم يزكها بالإسلام لله، وإخلاص السريرة له كما قال تعالى: « قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ، أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ ».

[سورة آل عمران (3): الآيات 86 الى 89]

كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)

تفسير المفردات

الظلم: هو العدول عن الطريق الذي يجب سلوكه للوصول إلى الحق، واللعن: الطرد والإبعاد على سبيل السخط، والإنظار: الإمهال والتأخير.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه حقيقة الإسلام وأنه الدين الذي بعث الله به جميع الأنبياء، ولا يقبل من أحد غيره، أردف ذلك ذكر حال الكافرين به وجزائهم عند ربهم.

أخرج عبد بن حميد وغيره عن الحسن: أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى رأوا نعت محمد ﷺ في كتابهم، وأقروا وشهدوا أنه حق، فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب على ذلك فأنكروه وكفروا بعد إقرارهم حسدا للعرب حين بعث من غيرهم. وقال عكرمة: هم أبو عامر الراهب والحارث بن سويد في اثنى عشر رجلا رجعوا عن الإسلام ولحقوا بقريش، ثم كتبوا إلى أهلهم: هل لنا من توبة؟ فنزلت الآية فيهم، وأكثر الروايات على هذا.

الإيضاح

(كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ؟) أي كيف يسلك الله بمثل هؤلاء سبيل المهتدين بإثابتهم والثناء عليهم، وقد كفروا بعد إيمانهم، وبعد أن شهدوا أن الرسول حق وجاءتهم الشواهد من القرآن وسائر المعجزات التي بمثلها تثبت النبوة؟ وشهادتهم أن الرسول حق كانت بمعرفتهم بشارات الأنبياء بمحمد ﷺ، وكانوا عازمين على اتباعه إذا جاء في زمنهم وانطبقت عليه العلامات وظهرت فيه البشارات، لكنهم بعد أن جاءهم بالبينات وظهرت الآيات على يديه كفروا به وعاندوه.

وفي الآية استبعاد لهدايتهم بحسب سنن الله تعالى في البشر، وإيئاس للنبي ﷺ من إيمانهم، فمن سنن الله تعالى في هداية البشر إلى الحق أن يقيم لهم الدلائل والبينات مع إزالة الموانع من النظر فيها على الوجه الذي يؤدى إلى المطلوب، وقد مكن لهم الله من كل هذا من قبل، ومن ثم آمنوا به.

(وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي إن الله لا يهدى أمثال هؤلاء الظالمين لأنفسهم الجانين عليها لأنهم تنكّبوا عن الطريق القويم وتركوا هداية العقل بعد أن ظهر نور النبوة وعرفوه بالبينات.

(أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) أي هؤلاء يستحقون سخط الله وغضبه، وسخط الملائكة والناس، إذ هم متى عرفوا حقيقة حالهم لعنوهم، لأنها مجلبة للعن بطبعها لكل من عرفها كما قال تعالى: « وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ».

(خالِدِينَ فِيها) أي خالدين في اللعنة مسخوطا عليهم إلى الأبد.

(لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي لا ينقصون من العذاب شيئا، ولا هم يمهلون لمعذرة يعتذرون بها، لأن سببه ما ران على قلوبهم من ظلمات الجحود والعناد وسخط الله وغضبه، وهو معهم لا يفارقهم أينما كانوا.

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إلا الذين تابوا من ذنوبهم وثابوا إلى ربهم، وتركوا ذلك الكفر الذي دنّسوا به أنفسهم نادمين على ما أصابوا منه، وأصلحوا نفوسهم بصالح الأعمال التي تغذى الإيمان وتمحو من صفحة القلب ما كان قد ران عليها من ذميم الأخلاق والصفات.

وفي هذا إيماء إلى أن التوبة التي لا أثر لها في العمل لا يعتدّ بها في نظر الدين، إذ كثير من الناس يظهرون التوبة بالندم والاستغفار والرجوع عن الذنب، ثم لا يلبثون أن يعودوا إلى مثل ما كانوا قد اجترحوا من السيئات، لأن التوبة لم يكن لها أثر في نفوسهم ينبههم إذا غفلوا، ويهديهم إلى اتخاذ الطرق الموصلة لإصلاح شئونهم، وتقويم المعوجّ من أمورهم، فإذا هم فعلوا ذلك نالهم من مغفرة ربهم ما يؤهلهم لدخول جنته، والفوز برحمته.

[سورة آل عمران (3): الآيات 90 الى 91]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91)

المعنى الجملي

الكافرون أصناف ثلاثة:

(1) الذين يتوبون توبة صحيحة مقبولة، وهم الذين ذكرهم الله في الآية السالفة التي ختمها بقوله: « إِلَّا الَّذِينَ تابُوا ».

(2) الذين يتوبون توبة غير مقبولة، وهم المذكورون في قوله: « لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ ».

(3) الذين يموتون على الكفر من غير توبة وهم من ذكروا في الآية الأخيرة.

الإيضاح

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) المراد بالذين كفروا هم أهل الكتاب الذين آمنوا برسول الله ﷺ وشهدوا أنه حق قبل مبعثه، ثم كفروا به بعد البعث، ثم ازدادوا كفرا بالإصرار والعناد والصدّ عن سبيل الله وبالحرب والكفاح، فالكفر يزداد قوة واستقرارا وتمكنا بالعمل بما ينمّيه ويقويه من الأعمال التي يقاوم بها الإيمان، والإيمان كذلك. هؤلاء لن تقبل لهم توبة لأن الشر قد تغلغل في نفوسهم وتمكن فيها الكفر فإذا أرادت التوبة وجدت من الموانع ما يحول بينها وبين قبول الحق والخير. وظاهر الآيات يخالف ما صرّح به القرآن في غير موضع، كقوله في الآية السابقة « إِلَّا الَّذِينَ تابُوا » وقوله: « وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ».

ولكن بالتفسير الآتي يتضح المعنى - ذاك أنه تعالى بعد أن بين حكم من كفر، وأنه أهل للعن والطرد إلا إن تاب، ذكر هنا أنه لو كفر مرة أخرى بعد تلك التوبة فإن التوبة الأولى تصير غير مقبولة حتى كانها لم تكن، ويكون المعنى في هذه الآية وما قبلها إلا الذين تابوا وأصلحوا فإن الله غفور رحيم، فإن كانوا كذلك ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم، لأن نفوسهم قد توغل فيها الشرك، وتمكن فيها الكفر وأحاطت بها خطيئتها وضلت على علم، فإذا أرادت التوبة وجدت ما يحول بينها وبين قبول الحق والخير إلا إذا أحست النفس بألم الذنب، فيحملها ذلك على تركه ومحو أثره المدنس لها بعمل صالح يحدث فيها أثرا مضادّا للأثر الأول. وبهذا تؤهل صاحبها للمغفرة وترك العقوبة على الذنب، إذ تكون النفس قد زكت وطهرت من الأدناس كما قال تعالى: « قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها ». وما مثل ذلك إلا مثل الثوب الأبيض تصيبه بعض الأوساخ، فيبادر صاحبه إلى غسله، فينظف ويزول أثر ذلك الدنس ولكن إذا تراكمت عليه الأقذار مدة طويلة حتى تخللت جميع خيوطه، وتمكنت منها تعذر تنظيفه وإعادته إلى حاله الأولى وبين هذه الحال وما قبلها مراتب متفاوتة.

وقد أشير إلى ذلك بقوله تعالى: « إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا. وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ، وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابًا أَلِيمًا » (وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) أي إن هؤلاء المتقبلين في الكفر هم المتمكنون من الضلال المخطئون سبيل الحق والنجاة لا ترجى لهم هداية، ولا تقبل منهم توبة.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا) ملء الشيء (بالكسر) مقدار ما يملؤه، أي إن هؤلاء الذين يقيمون على الكفر ويعملون أعمال الكفار حتى يدركهم الموت على هذه الحال - فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا إذا كان قد تصدق به في دنياه، ولا يفيد ذلك في نجاته من عذاب النار، لأن الكفر يحبط أعماله ويمحو كل حسناته، فمن لم ترك نفسه في الدنيا وقسم عما يكدرها من ظلمات الكفر وأوضار الشرك - فلن ينفعها يوم مناقشة الحساب عمل وإن جلّ، ولا فضيلة وإن عظمت، إذ المعول عليه في ذلك اليوم هو الإيمان الصحيح بالله واليوم الآخر، والعمل الصالح الذي يرقى بصاحبه إلى حظيرة القدس في جوار الرب الرّحيم.

(وَلَوِ افْتَدى بِهِ) أي ولو افتدى به في الآخرة لا يقبل منه أيضا على تقدير أنه يملكه، ويريد أن يجعله وسيلة النجاة والمنقذ من العذاب، كما يعطى الناس الرّشا للحكام الظالمين ليزيلوا عنهم ما قد يحلّ بهم من العذاب.

ونحو الآية قوله تعالى: « فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ » ذاك أن النجاة في هذا اليوم لا تكون مما يبذل، ولا بجاه ينفع، بل جعل أمرها موقوفا على صفاء النفس واستعدادها، فمن زكّاها بالإيمان مع العمل الصالح فقد أفلج، ومن دسّاها بالكفر وسبى الأعمال فقد خاب وخسر.

وصفوة القول - إنه لا طريق للافتداء على أي حال لو أريد ويرى بعض المفسرين أن الكلام من قبيل التمثيل، إذ لا حاجة إلى الذهب ولا إلى إنفاقه، إذ الأشقياء لا نصير لهم ينفق عليهم، والأولياء في عنى يفضل الله ورحمته عمن ينفق عليهم.

(أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) يدفعون العذاب عنهم أو يخففونه كما كانوا ينصرونهم في الدنيا إذا حاول أحد أذاهم أو إيقاع المكروه بهم.

[سورة آل عمران (3): آية 92]

لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)

تفسير المفردات

نال الشيء نيلا: إذا أصابه ووجده، يقال نال العلم: إذا وصل إليه واتصف به، والبرّ: ما يكون به الإنسان بارّا، وما تحبون هو نفائس الأموال وكرائمها، لأن شأنها عند النفوس عظيم، فكثيرا ما يخاطر الإنسان بنفسه، ويستسهل بذل روحه للدفاع عن ماله.

المعنى الجملي

بعد أن حاج الله تعالى أهل الكتاب فيما ادّعوه من الإيمان، وأنهم شعب الله المختار، وأن النبوة محصورة فيهم لا تعدوهم إلى غيرهم، وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات.

خاطبهم هنا بأن آية الإيمان وميزانه الصحيح هو الإنفاق في سبيل الله من المحبوبات مع الإخلاص وحسن النية، ولكنكم أيها المدّعون لتلك الدعاوى آثرتم شهوة المال على مرضاة الله، ولو أنفق أحدكم شيئا من ماله فإنما ينفق من أردأ ما يملك وأبغضه إليه، لأن محبة المال في قلبه تفوق محبة الله تعالى، والرغبة في ادخاره تعلو الرغبة فيما عند ربه من الرضا والثواب فكيف ترجون أن تكونوا من المؤمنين الصادقين وأنتم لا تنفقون ما تحبون؟

الإيضاح

(لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) أي لن تصلوا إلى بر الله تعالى بأهل طاعته برضاه عنهم وتفضله برحمتهم، ونيلهم مثوبته، ودخولهم جنته، وصرف عذابه عنهم حتى تنفقوا ما تهواه نفوسكم من كرائم أموالكم

وقد أثر عن السلف الصالح أنهم كانوا إذا أحبوا شيئا جعلوه لله تعالى.

روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار نخلا بالمدينة، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء (موضع) وكانت مستقبلة المسجد، وكان النبي ﷺ يدخلها ويشرب من ماء طيب فيها، فلما نزلت (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) قال أبو طلحة يا رسول الله: إن أحبّ أموالي إلي بيرحاء وإنها صدقة لله تعالى أرجو برّها وذخرها عند الله تعالى، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله تعالى، فقال عليه السلام: بخ بخ (كلمة تقال عند الرضا والإعجاب بالشي ء) ذاك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، فقال أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبنى عمه. وفي رواية لمسلم: فجعلها بين حسان ابن ثابت وأبيّ بن كعب.

وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن المنكدر قال: لما نزلت هذه الآية جاء زيد ابن حارثة بفرس يقال لها سبل لم يكن له مال أحب إليه منها فقال هي صدقة، فقبلها رسول الله ﷺ وحمل عليها ابنه أسامة، فكأن زيدا وجد في نفسه (حزن) فلما رأى رسول الله ﷺ ذلك منه قال: أما إن الله قد قبلها.

فهذا الأثر وما قبله دلائل واضحات على حسن السياسة الدينية لرسول الله ﷺ ومعرفة ما يختلج في القلوب، فقد رأى أن أبا طلحة وزيدا قد خرجا عن أحب أموالهما إليهما بعاطفة الدين، فجعل ذلك في الأقربين ليثبّت قلوبهما ويكمل إيمانهما، ولا يجعل للشيطان سبيلا ينفذ به إلى ما بين الجوانح فيندمان إذا هما رأيا أموالهما في أيدي الغرباء، إذ كثيرا ما يفارق المرء شيئا محبوبا لديه باختياره لعاطفة الدين، أو للجود به على غيره، ثم لا يلبث إلا قليلا حتى يعاوده الحنين إليه، ومن ثمّ كان النبي ﷺ يأمر عمّال الصدقة باتقاء كرائم الأموال، والبعد عنها حين جباية الصدقات.

وهناك من الشواهد ما يدل على هذا أيضا، فقد أخرج عبد بن حميد عن ابن عمر قال: حضرتنى هذه الآية (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ) الآية، فذكرت ما أعطاني الله تعالى، فلم أجد أحب إلي من مرجانة (جارية رومية) فقلت هي حرة لوجه الله، فلو أني أعود في شيء جعلته لله تعالى لنكحتها، فأنكحتها نافعا (مولى له كان يحبه كأحد أولاده).

فتأمل وانظر تر أن نفسه قد راودته بعد عتقها على أن يستبقيها له ولا يفارقها، لو لا أن كان مما عوّد نفسه عليه ألا يرجع في شيء جعله لله، ومع ذلك جعلها لأحب الناس إليه، وهو مولاه وعلى الجملة فآثار السلف في الإبثار وبذل المال ابتغاء مرضاة الله كثيرة.

فقد روى أن ابن عمر اشتهى سمكة بمكة وكان قد نقه من مرض، فبحث عنها في المدينة فلم توجد، وبعد مدة وجدت، فاشتريت بدرهم ونصف الدرهم، فشويت وجىء بها على رغيف، فجاء سائل بالباب فقال ابن عمر للغلام: لفّها برغيفها وادفعها إليه، فأبى الغلام فردّه وأمره أن يدفعها إليه، ثم جاء بها فوضعها بين يديه، وقال كل هنيئا يا أبا عبد الرّحمن، فقد أعطيته ذرهما وأخذتها، فقال: لفها وادفعها إليه ولا تأخذ منه الدرهم، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: « أيّما امرئ اشتهى شهوة فردّ شهوته وآثر على نفسه إلا غفر الله له ».

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أهدى إلى رجل من أصحاب رسول الله ﷺ رأس شاة، فقال: إن أخي فلانا كان أحوج مني إليه فبعث به إليه، فلما وصل إليه قال: إن فلانا كان أحوج مني إليه، فلم يزل يبعث به كل واحد منهم إلى آخر حتى تناوله سبعة أبيات ورجع إلى الأول.

وفي هذه الآثار وأمثالها ما ينبغي أن يكون عظة لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فيقتدى بأولئك الأبرار الطاهرين، ويجعلهم المثل العليا للبذل في سبيل الله.

(وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) أي أي شيء تنفقونه في سبيل الله طيبا أو خبيثا فالله مجازيكم به بحسب ما يعلم من نيتكم، ومن مواقع ذلك في قلوبكم، فربّ منفق مما يحب لا يسلم من الرياء، وربّ فقير معدم لا يجد ما يحب فينفق منه، ولكن قلبه يفيض بالبرّ، ولو وجد ما أحبه لأنفقه أو أكثره. وفي هذه الآية ترغيب وترهيب وحث على إخفاء الصدقة، كى لا يكون للشيطان منفذ إلى قلوب الأبرار الصالحين.

جعلنا الله من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلوات الله على أنبيائه المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

وكان الفراغ من مسوّدة هذا الجزء بحلوان من أرباض القاهرة في رجب المعظم من سنة إحدى وستين وثلاثمائة هجرية.

[تتمة سورة آل عمران]

بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة آل عمران (3): الآيات 93 الى 97]

كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكًا وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97)

تفسير المفردات

الطعام: كل ما يطعم ويتناول للغذاء كما قال « أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ » وقالت عائشة رضي الله عنها « ما لنا طعام إلا الأسودان: التمر والماء » وكثر استعماله في الخبز كما قالوا: أكل الطعام مأدوما، وفي البرّ، ومنه حديث أبى سعيد « كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام أو صاعا من شعير » والحل: من حل الشيء ضد حرم، وإسرائيل: لقب نبي الله يعقوب، ومعناه الأمير المجاهد مع الله ثم شاع إطلاقه على جميع ذريته كما تدل على ذلك الأسفار المنسوبة إلى موسى، والفرية: الكذب، والافتراء: اختلاق الكذب، والحنيف: المائل عن الباطل إلى الحق، وبكة: من أسماء مكة (أبدلت ميمها باء) وهذا كثير الاستعمال في الكلام، قالوا: هذا دائم ودائب، والآيات: الدلائل والعلامات، والحج (بكسر الحاء وفتحها وبهما قرى ء) القصد.

المعنى الجملي

كانت الآيات من أول السورة إلى هنا في تقرير الدلائل الدالة على نبوة محمد ﷺ، مع إثبات وحدانية الله تعالى، وتبع ذلك محاجة أهل الكتاب ودحض شبههم وتفنيد ما استحدثوه في دينهم من بدع وتقاليد لا نص عليها في كتابهم، أما هذه الآيات فقد جاءت لدفع شبهتين من شبهات اليهود:

(1) أنهم قالوا للنبي ﷺ: إنك تدّعى أنك على ملة إبراهيم، فكيف تأكل لحوم الإبل وألبانها مع أن ذلك كان حراما في دين إبراهيم؟ فأنت قد استحللت ما كان محرما عليه، فلست بمصدّق له، ولا بموافق له في الدين، وليس لك أن تقول إنك أولى الناس به، فرد الله عليهم بأن كل الطعام كان حلالا لبني إسرائيل، ولإبراهيم من قبله، ثم حرم عليهم بعض الطيبات عقوبة لهم.

(2) أنه لما حوّلت القبلة إلى الكعبة طعنوا في نبوته، وقالوا إن بيت المقدس أفضل من الكعبة، وأحق بالاستقبال، فهو قد وضع قبلها وهو أرض المحشر، وجميع الأنبياء من ذرية إسحاق كانوا يعظمونه ويصلون إليه، فلو كنت على ما كانوا عليه لعظّمت ماعظموا، ولما تحولت عن بيت المقدس، وعظمت مكانا آخر وخالفت من تقدّمك من الأنبياء، فرد الله سبحانه شبهتهم، بأن أول بيت بنى للعبادة هو البيت الحرام بناه إبراهيم وولده إسماعيل للعبادة.

الإيضاح

أجاب الله سبحانه عن أولى الشبهتين بقوله: (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) أي إن كل الطعام كان حلالا لبني إسرائيل، ولإبراهيم من قبله، ثم حرم عليهم بعض الطيبات في التوراة عقوبة لهم وتأديبا كما يدل على ذلك قوله « فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ » الآية.

والمراد بإسرائيل الشعب كله كما هو شائع في الاستعمال عندهم لا يعقوب فحسب، كما أن المراد بتحريم الشعب ذلك على نفسه أنه اجترح من السيئات، وارتكب من الموبقات ما كان سببا في هذا التحريم كما ترشد إلى ذلك الآية التي أسلفناها.

وخلاصة هذا الجواب - أن الأصل في الأطعمة الحل، وما كان تحريم ما حرم على إسرائيل إلا تأديبا لهم على جرائم ومخالفات وقعت منهم، وكانت سببا فيما نالهم من التحريم لها، والنبي ﷺ وأمته لم يجترحوا هذه السيئات فلا تحرم عليهم هذه الطيبات.

ومعنى قوله: من قبل أن تنزل التوراة، أنه قبل نزول التوراة كان حلّا لبني إسرائيل كل أنواع المطعومات أما بعد نزولها، فقد حرم عليهم أنواع كثيرة بسبب الذنوب التي اقترفوها، وقد بينتها التوراة وبينت أسباب التحريم وعلله.

(قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم، لا تخافون أن تكذبكم نصوصها، فالحكم بيننا وبينكم كتابكم الناطق بصحة ما يقول القرآن، فلو جئتم به لكان مؤيدا ما نقول من أن تحريم ما حرم ما كان إلا للتأديب والزجر. وقد جاء في سفر التثنية: قال موسى حين أخذ عليكم العهد بحفظ الشريعة (إنكم شعب غليظ الرقبة يقاوم الرب) وقد روي أنهم لم يجرءوا على الإتيان بها، وفلجت حجة القرآن.

وفي هذا أكبر دليل على إثبات نبوة محمد ﷺ، إذ هو قد علم أن ما في التوراة يدل على كذبهم، وهو لم يقرأها ولا قرأ غيرها من كتب الأولين، فهذا العلم لم يكن إلا بوحي من الله.

(فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أيفمن اخترع الكذب على الله وزعم أن التحريم كان على الأنبياء السابقين وأممهم قبل نزول التوراة - بعد أن ظهرت له الحجة بأن التحريم إنما كان بسبب ما ارتكب الشعب من الذنوب والخطايا، وبعد أن طولب المدعون بالإتيان بالتوراة وتلاوتها، فامتنعوا لئلا يظهر كذبهم، وأن الله لم يحرم شيئا قبل نزولها - فأولئك هم الظالمون لأنفسهم المستحقون لعذاب الله، لأنهم قد حولوا الحق عن وجهه، ووضعوا حكم الله في غير موضعه، فضلوا وأضلوا أشياعهم بإصرارهم على الباطل، وعدم تصديقهم رسول الله ﷺ.

(قُلْ صَدَقَ اللَّهُ) فيما أنبأني به من أن سائر الأطعمة كانت حلالا لبني إسرائيل، وأنها إنما حرمت على اليهود جزاء أفعالهم القبيحة، وبذا قامت عليكم الحجة، وثبت إني مبلغ عنه، إذ ما كان في استطاعتي لولا الوحي أن أعرف صدقكم من كذبكم فيما تحدثون عن أنبيائكم.

(فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا) أي وإذ قد استبان لكم أن ما يدعوكم إليه محمد ﷺ هو من ملة إبراهيم، فعليكم أن تتبعوه في استباحة أكل لحوم الإبل وألبانها، وملته حنيفية سمحاء لا إفراط فيها ولا تفريط.

(وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الذين يدعون مع الله إلها آخر، أو يعبدون سواه، كما فعله العرب من عبادة الأوثان، وفعله اليهود من ادّعائهم أن عزيرا ابن الله، وفعله النصارى من اعتقادهم أن المسيح ابن الله.

وخلاصة هذا - إن محمدا صلوات الله عليه على دين إبراهيم في جزئيات الأحكام وكلياتها، فأحل ما أحله هو من أكل لحوم الإبل وألبانها، ودعا إلى التوحيد والبراءة من كل معبود سوى الله، وما كان إبراهيم صلوات الله عليه إلا على هذا الدين.

ثم أجاب عن الشبهة الثانية فقال:

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ) أي إن البيت الذي نستقبله في صلاتنا هو أول بيت وضع معبدا للناس، بناه إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام للعبادة، ثم بنى المسجد الأقصى بعد ذلك بعدة قرون، بناه سليمان عليه السلام سنة 1005 قبل الميلاد فكان جعله قبلة أولى، وبذا يكون النبي ﷺ على ملة إبراهيم ويتوجه بعبادته إلى حيث كان يتوجه إبراهيم وإسماعيل صلوات الله عليهما.

والخلاصة - إن أول بيوت العبادة الصحيحة التي بناها الأنبياء هو البيت الحرام، فليس في الأرض موضع بناه الأنبياء أقدم منه فيما يؤثر من تواريخهم، ويتبع هذا أولية الشرف والتعظيم.

ثم بين فضائله فقال:

(1، 2) (مُبارَكًا وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) تطلق البركة على معنيين: أحدهما النموّ والزيادة، وثانيهما البقاء والدوام كما يقال تبارك الله.

والبركة والهداية من فضائله الحسية والمعنوية.

أما الأولى فهي أنه قد أفيض عليه من بركات الأرض وثمرات كل شيء مع كونه بواد غير ذي زرع كما قال الله تعالى: « يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ » فترى الأقوات والثمار في مكة كثيرة جيدة، وأقل ثمنا من كثير من البلاد ذوات الخيرات الوفيرة كمصر والشام.

وأما الثانية فلأن القلوب تهوي إليه، فتأتى الناس مشاة وركبانا من كل فج عميق لأداء المناسك الدينية من الحج والعمرة، ويولّون وجوههم شطره في صلاتهم وربما لا تمضي ساعة من ليل أو نهار إلا وهناك ناس يتوجهون إليه، ولا شك أن هذه الهداية من أشرف أنواع الهدايات. وكل هذا ببركة دعوة إبراهيم صلوات الله عليه « رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ».

(3) (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ) أي فيه دلائل واضحات، أحدها مقام إبراهيم - موضع قيامه للصلاة والعبادة - وقد عرف ذلك العرب وغيرهم بالنقل المتواتر. وإبراهيم أبو الأنبياء الذين بقي في الأرض أثرهم، وجعلت النبوة والملك فيهم، فأي دليل أبين من هذا على كون ذلك البيت من أول بيوت العبادة المعروفة؟

(4) (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِنًا) أي وأمن من دخله، والعرب جميعا قد اتفقوا على احترامه وتعظيمه، فمن دخله أمن على نفسه من الاعتداء والإيذاء، وأمن أن يسفك دمه أو تستباح حرماته مادام فيه، وقد مضوا على ذلك الأجيال الطوال في الجاهلية على كثرة ما بينهم من الأحقاد والضغائن، واختلاف المنازع والأهواء، وقد أقر الإسلام هذا، وكل ذلك بفضل دعوة إبراهيم عليه السلام « رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَدًا آمِنًا ».

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه. ومن ثم قال أبو حنيفة رحمه الله: من وجب قتله في الحلّ بقصاص أو ردّة أو زنا فالتجأ إلى الحرم لم يتعرّض له، إلا أنه لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج منه.

وفتح مكة بالسيف كان لضرورة تطهير البيت من الشرك وتخصيصه للعبادة، فقد حلت للنبي ﷺ ساعة من نهار لم تحل لأحد قبله، ولن تحل لأحد بعده كما جاء في الحديث.

على أن حل مكة وما يتبعها من أرباضها للنبي ﷺ ساعة من نهار أمر زائد على أمن البيت، فإن النبي ﷺ لم يستحلّ البيت ساعة ولا مادونها، بل كان مناديه ينادى: من دخل المسجد الحرام فهو آمن، ومن دخل داره وأغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. وقد أخبر أبو سفيان النبي ﷺ بقول سعد بن عبادة الأنصاري حامل اللواء له في الطريق: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة، فقال ﷺ « كذب سعد، هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة »

وما فعله الحجاج من رمى البيت بالمنجنيق، فهو فعل السياسة التي قد تحمل صاحبها على مخالفة ما يعتقد حرمته، ويقع به في الظلم والإلحاد، إذ هو وجنده لم يكونوا معتقدين حلّ ما فعلوا.

(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) أي ويجب الحج على المستطيع من هذه الأمة، وفي هذا تعظيم للبيت أيّما تعظيم، وما زال الناس من عهد إبراهيم إلى عهد محمد صلوات الله عليهما يحجون البيت عملا بسنة إبراهيم، جروا على هذا جيلا بعد جيل لم يمنعهم من ذلك شركهم ولا عبادتهم للأوثان والأصنام، فهي آية متواترة على نسبة هذا البيت إلى ابراهيم.

واستطاعة السبيل إلى الشيء إمكان الوصول إليه كما قال تعالى: « فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ » وقال: « ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ » وتختلف الاستطاعة باختلاف الأشخاص، واختلاف البعد عن البيت والقرب منه، وكل مكلف أدرى بنفسه في ذلك.

وقد اختلف في تفسيرها، فقال بعضهم إنها القدرة على الزاد والراحلة مع أمن الطريق. وقال بعض: إنها صحة البدن والقدرة على المشي، وقال آخرون هي صحة البدن وزوال الخوف من عدو أو سبع مع القدرة على المال الذي يشترى منه الزاد والراحلة، وقضاء جميع الديون والودائع ودفع النفقة التي تكفى لمن تجب عليه نفقته حتى العودة من الحج.

وخلاصة ذلك - إن هذا الإيجاب مشروط بالاستطاعة وهي تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان.

(وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) المراد بالكفر هنا جحود كون هذا البيت أول بيت وضعه إبراهيم للعبادة بعد أن قامت الأدلة على ذلك، وعدم الإذعان لما فرضه الله من حجه والتوجه إليه بالعبادة.

وفسر بعضهم الكفر بترك الحج فكأنه قال ومن لم يحج فإن الله غني عن العالمين، وعبر عنه بذلك تغليظا وتشديدا على تاركه.

فقد روي أنه ﷺ قال: « من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا »

وروي عن على أن النبي ﷺ قال في خطبة له: « أيها الناس، إن الله فرض الحج على من استطاع إليه سبيلا، ومن لم يفعل فليمت على أي حال شاء يهوديّا أو نصرانيا أو مجوسيا » وأثر عن عمر أنه قال: لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فلينظروا كل من كان له جدة (سعة) ولم يحج، فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين.

ولهذه الأدلة قال كثير من الفقهاء: إن الحج واجب على الفور، وقال آخرون: إنه واجب على التراخي.

وهذه الجملة تأكيد لما سبق من الوجوب، فإنه بدأ الآية بأن قال: ولله على الناس، فأفاد أن ذلك ما كان لجرّ نفع ولا لدفع ضر، بل كان للعزة الإلهية، ولكبرياء الربوبية، وختمها بهذه الجملة المؤكدة لذلك، ببيان أن فاعل ذلك مستأهل للنعمة برضا الله عنه، وأن تاركه يسخط عليه سخطا عظيما.

وحسب البيت شرفا أنه حرم آمن ومثابة للناس ومبارك وهدى للعالمين، وما جاء عن رسول الله ﷺ في حرمته وفضله، من أنه لا يسفك فيه دم، ولا يعضد شجره، ولا يختلى خلاه (لا يقطع نباته) وأن قصده مكفر للذنوب ماح للخطايا، وأن العبادة التي تؤدى فيه لا تؤدى في غيره، وأن استلام الحجر الأسود فيه رمز إلى مبايعة الله تعالى على إقامة دينه والإخلاص له، وأن الصلاة فيه بمائة ألف ضعف في غيره. وكتب الأحاديث والسيرة مليئة ببيان فضله، ومشيدة بذكره.

[سورة آل عمران (3): الآيات 98 الى 99]

قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)

تفسير المفردات

آيات الله: هي الدلائل الدالة على نبوة محمد ﷺ والشهيد: العالم بالشيء المطلع عليه، وتصدون، من صددته أصده صدا: أي صرفته، والسبيل: الطريق يذكر ويؤنث، وتبغونها من بغاه يبغيه: أي طلبه، والعوج (بكسر العين) الميل عن الاستواء في الأمور المعنوية كالدين والقول (وبفتحها) في المحسوسات كالحائط والقناة والشجرة والمراد به هنا الزيغ والتحريف.

المعنى الجملي

بعد أن أورد سبحانه الأدلة على نبوة محمد ﷺ بما جاء في التوراة والإنجيل من البشارة بمقدمه، ثم ذكر شبهات القوم وكرّ عليها بالحجة، ونقضها بما ليس بعده زيادة لمستزيد - أردف ذلك خطابهم بالكلام اللين، وبدأه بعنوان كونهم أهل الكتاب مما يوجب الإيمان به وبما يصدقه مبالغة في تقبيح حالهم في تكذيبهم له، إذ هم قد فعلوا ذلك على علم.

أخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم قال: مرّ شاس بن قيس وكان عظيم الكفر شديد الطعن والحرد على المسلمين - على نفر من أصحاب رسول الله ﷺ من الأوس والخزرج في مجلس لهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من جماعهم وألفتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان منهم من العداوة في الجاهلية فقال: قد اجتمع ملأ بنى قيلة (الأوس والخزرج) بهذه البلاد، والله مالنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار: فأمر فتى شابا من اليهود - وكان معه - فقال اعمد إليهم فاجلس معهم وذكّرهم يوم بعاث، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار ففعل (وكان يوم بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظفر للأوس على الخزرج) فقيل، فتكلم القوم عند ذلك، وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحي على الركب (أوس بن قيظى أحد بنى حارثة بن الحارث من الأوس، وجبّار بن صخر أحد بنى سلمة من الخزرج) فتقاولا ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم والله رددناها جذعة (شابة فتية، يعنون الحرب) وغضب الفريقان وقالوا قد فعلنا، السلاح السلاح، موعدكم الظاهرة (هى الحرّة، وهي أرض مستوية بظاهر المدينة) فخرجوا إليها، وتجاوب الناس، فانضمت الأوس بعضها إلى بعض، والخزرج بعضها إلى بعض، على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم فقال: يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف بين قلوبكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا؟. فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فألقوا السلاح من أيديهم، وبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله ﷺ سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس بن قيس وما صنع.

وأنزل الله فيه (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ) إلى آخر الآيتين السابقتين، وأنزل عز وجل في أوس بن قيظى وجبار بن صخر ومن كان معهما (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ - إلى قوله - لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).

الإيضاح

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ؟) أي لأي سبب تكفرون بتلك الآيات والله مطلع على أعمالكم، لا تخفى عليه خافية من أمركم وهو مجازيكم بها؟ وذلك مما يوجب عليكم ألا تجترئوا على الكفر بآياته. ولا يخفى ما في هذا من التوبيخ والإيماء إلى تعجيزهم عن إقامة العذر على كفرهم، كأنه قيل هاتوا عذركم إن كان ذلك في مكنتكم.

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَداءُ؟) أي لأي سبب تصرفون من آمن بمحمد ﷺ واتبعه عن الإيمان الذي يرقى عقل المؤمن بما فيه من طلب النظر في الكون، ويرقى روحه بتزكيتها بالأخلاق الطيبة، والأعمال الصالحة، وتكذبون بذلك كفرا وعنادا، وكبرا وحسدا، وتلقون الشبهات الباطلة في قلوب الضعفاء من المسلمين بغيا وكيدا للنبي ﷺ، تبغون لأهل دين الله ولمن هو على سبيل الحق عوجا وضلالا، وزيغا عن الاستقامة على الهدى والمحجة، وأنتم عارفون بتقدم البشارة به، عالمون بصدق نبوته، ومن كان كذلك فلا يليق به الإصرار على الباطل والضلال والإضلال.

(وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) من هذا الصدّ وغيره من الأعمال، فمجازيكم عليه، وغير خاف ما في هذا من تهديد ووعيد، كما يقول الرجل لعبده وقد أنكر عليه اعوجاج أخلاقه: لا يخفى علي ما أنت عليه، وما أنا بغافل عن أمرك.

وإنما ختم هذه الآية بنفي الغفلة، لأن صدهم عن الإسلام كان بضرب من المكر والكيد ووجوه الحيل، وختم الآية السابقة بقوله والله شهيد لأن العمل الذي فيها وهو الكفر ظاهر مشهود.

وكرر الخطاب بيا أهل الكتاب، لأن المقصد التوبيخ على ألطف الوجوه، وهذا أقرب إلى التلطف في صرفهم عن طريق الضلال والإضلال، وأدل على النصح لهم، والإشفاق عليهم.

والآية الأولى لكفهم عن الضلال، والثانية لكفهم عن الإضلال.

[سورة آل عمران (3): الآيات 100 الى 103]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوانًا وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)

شرح المفردات

اعتصم بالشيء: تمسك به فمنع نفسه من الوقوع في الهلاك كما قال تعالى حكاية عن زليخا « وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ » والتقاة: التقوى كالتؤدة من اتأد، والحق: من حق الشيء بمعنى وجب وثبت، والأصل اتقاء حقا، وحبل الله: كتابه من اعتصم به كان مستمسكا بأقوى سبب، متحرزا من السقوط في قعر جهنم، وشفا الحفرة: طرفها، وبه يضرب المثل في القرب من الهلاك، فيقال أشفى على الهلاك، أي وصل إلى شفاه.

المعنى الجملي

بعد أن وبخ سبحانه أهل الكتاب على كفرهم وصدهم عن سبيل الله، وأقام الحجج عليهم وأزال شبهاتهم - خاطب المؤمنين محذّرا لهم من إغوائهم وإضلالهم: مبينا لهم أن مثل هؤلاء لا ينبغي أن يطاعوا، ولا أن يسمع لهم قول، فهم دعاة الفتنة وحمالو حطبها، ثم أمرهم بعد ذلك بتقواه والتمسك بحبله المتين، ثم بتذكر نعمته عليهم وفعل الإنسان إما عن رهبة وإما عن رغبة، والرهبة مقدمة على الرغبة، وقد أشار إلى الأولى بقوله: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ)، وإلى الثانية بقوله: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ).

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ) أي إنكم أيها المؤمنون إذا أصغيتم إلى ما يلقيه إليكم هؤلاء اليهود مما يثير الفتنة، ولنتم لهم في القول، واستجبتم لما يدعونكم إليه - ردوكم إلى الكفر بعد الإيمان كما قال تعالى: « وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ » والكفر يوجب الهلاك في الدنيا والدين أما في الدنيا فبوقوع العداوة والبغضاء، وهيجان الفتنة المؤدى إلى سفك الدماء، وأما في الدين فلا حاجة إلى بيانه.

(وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ؟) أي ومن أين يتطرق إليكم الكفر، والحال أن القرآن يتلى عليكم على لسان رسوله غضا طريّا، وبين أظهركم، رسول الله ﷺ ينبهكم ويعظكم، ويبين لكم ما أنزل إليكم، ولكم في سنته خير أسوة تغذّى إيمانكم، وتنير قلوبكم، فلا ينبغي لمثلكم أن تلتفتوا إلى قولهم، بل الواجب عليكم أن ترجعوا عند كل شبهة تسمعونها من هؤلاء اليهود إلى الرسول ﷺ حتى يكشف عنها، ويزيل ما علق بقلوبكم منها.

(وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي ومن يستمسك بدين الله وكتابه ورسوله، فقد حصل له الهدى إلى الصراط المستقيم لا محالة، كما تقول إذا جئت فلانا فقد أفلحت، إذ هو حينئذ لا تخفى عليه المهالك، ولا تروج لديه الشبهات.

قال قتادة: ذكر في الآية أمرين يمنعان من الوقوع في الكفر: أحدهما تلاوة كتاب الله، وثانيهما كون الرسول فيهم، أما الرسول ﷺ فقد مضى إلى رحمة الله ورضوانه، وأما الكتاب فباق على وجه الدهر.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ) أي يجب عليكم تقواه حقا، بأن تقوموا بالواجبات، وتجتنبوا المنهيات. ونحو الآية قوله: « فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ » أي بالغوا في تقواه جهد المستطاع. وعن ابن مسعود أنه قال: تقوى الله أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى. وعن ابن عباس أنه قال: هي أن يجاهدوا في الله حق جهاده، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأمهاتهم.

(وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي ولا تموتن إلا ونفوسكم مخلصة لله، لا تجعلون شركة لسواه أي لا تكوننّ على حال سوى الإسلام إذا أدرككم الموت.

والخلاصة - استمروا على الإسلام، وحافظوا على أداء الواجبات، وترك المنهيات حتى الموت.

وقد جاء هذا في مقابلة قوله: (يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ).

(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا) أي تمسكوا بكتاب الله وعهده الذي عهد به إليكم، وفيه أمركم بالألفة والاجتماع على طاعته وطاعة رسوله، والانتهاء إلى أمره.

وقد جعل الدين في سلطانه على النفوس، وتصرفه فيها بحسب نواميسه وأصوله، وما يترتب على ذلك من جريان الأعمال بحسب هديه - كأنه حبل متين يأخذ به الآخذ فيأمن السقوط في الهاوية، كأنّ الآخذين به قوم على نشز أي مرتفع من الأرض يخشى عليهم السقوط منه، فيأخذون بحبل موثّق يجمعون به قوتهم، فينجون من السقوط.

وفي الحديث « القرآن حبل الله المتين، لا تنقضى عجائبه، ولا يخلق على كثرة الردّ، من قال به صدق، ومن عمل به رشد، ومن اعتصم به هدى إلى صراط مستقيم »

وجاء في معنى الآية قوله تعالى: « وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ » فحبل الله في هذه الآية هو صراطه المستقيم، كما أن أنواع التفرق هي السبل التي نهى عنها فيها.

ومن السبل المفرقة في الدين إحداث الشيع والمذاهب كما قال: « إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ » ومنها العصبية الجنسية كما بين الأوس والخزرج كما تقدم ذلك، وقد روى أبو داود عن مطعم بن جبير (ليس منّا من دعا إلى عصبية).

وقد سار على هذا النهج أهل أوربا في العصر الحديث فاعتصموا بالعصبية الجنسية كما كانت العرب تفعل ذلك في الجاهلية وسرى ذلك إلى بعض البلاد الإسلامية، فحاول أهلها أن يجعلوا في المسلمين جنسيات وطنية. فدعا الترك إلى العصبية التركية، والمصريون إلى الجنسية المصرية، والعراقيون إلى الجنسية العراقية، ظنا منهم أن ذلك مما ينهض بالوطن، وليس الأمر كما يظنون، فإن الوطن لا يرقى إلا باتحاد كل المقيمين فيه لإحيائه، لا في تفرقهم ووقوع الشحناء والبغضاء بينهم، فالدين يأمر باتحاد كل قوم تضمهم أرض واحدة، وإن اختلفت أديانهم وأجناسهم، ويأمر بالاعتصام بحبل الله المتين بين جميع الأقوام.

(وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوانًا) أيواذكروا أيها المؤمنون النعمة التي أنعم الله عليكم بها حين كنتم أعداء يقتل بعضكم بعضا، ويأكل قويكم ضعيفكم، فجاء الإسلام فألف بينكم وجمع جمعكم، وجعلكم إخوانا، حتى قاسم الأنصار المهاجرين أموالهم وديارهم، وكان بعضهم يؤثر غيره على نفسه وهو في خصاصة وحاجة إليه، وأطفأ الحروب التي تطاولت بين الأوس والخزرج مائة وعشرين سنة، وأنقذهم مما هو أدهى وأمر وهو عذاب الآخرة.

(وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) أي وكنتم بوثنيتكم وشرككم بالله، كأنكم على طرف حفرة يوشك أن ينهار بكم في النار، فليس بين الشرك والهلاك في النار إلا الموت، والموت أقرب غائب ينتظر، فأنقذكم الإسلام منها.

وفي هذه الآيات جماع المنن التي أنعم بها عليهم، فقد أخرجهم بالإسلام من الشرك ومخازيه، وألف بين قلوبهم حتى صاروا سادة البشر، حين كانوا يعملون بكتابه وأنقذهم بذلك من النار، فسعدوا بالحسنيين.

فانظر إلى آيات الله، ودلائل قدرته، كيف حوّل قوما متخاذلين تملأ قلوبهم الإحن والعداوات، ويتربص كل منهما بالآخر ريب المنون - إلى جماعات متصافية القلوب، مليئة بالحب والإخلاص، وجهتهم جميعا واحدة، هي حكم الله ورفعة دينه، ونشره بين البشر.

(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي كما بين لكم ربكم في هذه الآيات ما يضمره لكم اليهود من غشكم، وبين لكم ما أمركم به، وما نهاكم عنه، وبين لكم الحال التي كنتم عليها في الجاهلية، وما صرتم إليه في الإسلام، ليعرفكم في كل ذلك مواقع نعمه - كذلك يبين سائر حججه في تنزيله على لسان رسوله، ليعدّكم للاهتداء الدائم، حتى لا تعودوا إلى عمل الجاهلية من التفرق والعدوان.

والاختلاف الذي يقع بين البشر ضربان:

(1) ضرب لا يسلم منه الناس، ولا يمكن الاحتراس منه، وهو الخلاف في الرأي والفهم، وهو مما فطر عليه البشر، وإلى ذلك الإشارة بقوله: « وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ » إذ أن العقول والأفهام ليست متساوية، فالأسرة الواحدة تختلف أفهام أفرادها في الشيء الواحد، كما يختلف حبهم له، وميلهم إليه. وهذا ضرب لا ضرر فيه.

(2) ضرب جدّت الشرائع في هدمه ومحوه، وهو تحكيم الرأي والهوى في أمور الدين وشئون الحياة.

وهاك مثلا يتضح لك به ما تقدم - قد اختلف الأئمة المجتهدون في فهم كثير من نصوص الدين من كتاب وسنة، وما كان في ذلك من حرج، فمالك نشأ في المدينة ورأى ما كان عليه أهلها من صلاح وسلامة قلب، فقال: إن عمل أهلها أصل من أصول الدين، لأنهم لقرب عهدهم من النبي ﷺ لا يتفقون على غير ما مضت عليه السنة في العمل، وأبو حنيفة نشأ في العراق وأهلها أهل شقاق ونفاق، فلم يجعل عملهم ولا عمل غيرهم حجة، ولو اجتمع هذان الإمامان لعذر كل منهما صاحبه فيما رأى، لأنه بذل جهده في بيان وجه الحق مع الإخلاص لله وإرادة الخير والطاعة لأمره، ولكن جاءت بعد هؤلاء فرق من المسلمين قلدتهم فيما نقل عنهم، ولم تقلدهم في سيرتهم، وحكموا الرأي والهوى في الدين، وتفرقوا شيعا، كل فريق يتعصب لرأي فيما وقع من أوجه الخلاف، ويعادي المخالف له حتى حدث من ذلك ما نرى، وما ذاك إلا لأن الحق لم يكن هو مطلب المتعصبين، فليس من المعقول أن أبا حنيفة أصاب في كل ما خالف فيه غيره من الأئمة، وأن الشافعي ومالكا أخطئا في جميع ما خالفا فيه أبا حنيفة. وإذا فكيف يمضي نحو أربعة عشر قرنا ولا يستبين لفقهاء مذهبه وجه الصواب في بعض المسائل الخلافية، فيرجحون بعض آراء المذاهب الأخرى على مذهبه في تلك المسائل، ويرجعون إلى الصواب فيها.

وهذا الضرب من الخلاف وهو تحكيم الرأي والهوى كان مصدر شقاء أمم كثيرة فهوت بعد رفعتها وذلت بعد عزتها، وضعفت بعد قوتها.

وقد حدث مثل هذا في الفرق الإسلامية في علم الكلام، فإن أبدى أحدهم رأيا في مسألة بادر مخالفه إلى الرد عليه، وتفنيد مذهبه وتضليله، ويقابله الآخر بمثل صنيعه، ولو حاول كل منهما محادثة الآخر، والاطلاع على أدلته، ووزنها بميزان الإنصاف والحق لما حدث مثل هذا الخلاف، بل افتنع كل واحد منهما بما رأى مخالفه.

والمسلم ما دام محافظا على نصوص دينه لا يخل بواحد منها، مع احترامه لرسوله المفسر لكتابه لا يخرج من جماعة المسلمين لمخالفته سواه. فإذا تحكم الرأي والهوى ولعن بعضهم بعضا، وكفر بعضهم بعضا، فقد باء بها من قالها كما ورد في الحديث.

وكذلك الحال في الاختلاف في المعاملة في المسائل السياسية والدينية، لا ينبغي أن يكون مفرقا بين جماعة المؤمنين، بل عليهم أن يرجعوا في النزاع إلى حكم الله وآراء أولى العلم منهم، وبذلك نتقى غائلة الخلاف، ونكون في وفاق، ونصير ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

[سورة آل عمران (3): الآيات 104 الى 109]

وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ (108) ولِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)

تفسير المفردات

الأمة: الجماعة المؤلفة من أفراد لهم رابطة تضمهم، ووحدة يكونون بها كالأعضاء في بنية الشخص، والخير: ما فيه صلاح الناس في الدين والدنيا، والمعروف: ما استحسنه الشرع والعقل، والمنكر ضده، وابيضاض الوجوه: عبارة عن المسرة، واسودادها: عبارة عن المساءة، وعلى هذا جاء قوله: « وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ». بالحق: أي بالأمر الذي له ثبوت وتحقق ولا مجال فيه للشبهات، والظلم لغة وعرفا: وضع الشيء في غير موضعه، إما بنقصان أو بزيادة، وإما بعدول عن وقته أو مكانه.

المعنى الجملي

بعد أن أمر الله سبحانه المؤمنين فيما سلف بتكميل أنفسهم وتزكيتها مما يشوبها من الأدناس والأرجاس، بالعمل بتقوى الله، والمحافظة على إخلاص الوجه له حتى الممات، والاعتصام بحبله المتين باتباع كتابه، والجري على سنة رسوله، إذا اختلفت الأهواء، وتضاربت الآراء، أمرهم هنا بتكميل غيرهم من أفراد الأمة، وحثهم على اتباع أوامر الشريعة، وترك نواهيها، تثبيتا لهم جميعا على مراعاة ما فيها من الأحكام، والمحافظة على ما فيها من الشرائع والنواميس، وأن يكون في نفوس أفرادها من حب الخير والحدب على ما فيه المصلحة لمجموعها، ما يكون لحب الفرد لمصلحته، وبذا تكون بينهم رابطة تجمعهم في طلاب الخير لهم جميعا، حتى تكون الأمة كأنها جسد واحد كما ورد في الحديث « مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر » رواه مسلم. وروى البخاري وغيره حديث « المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ».

والحفاظ لوحدة الأمة، ومناط بقاء جامعتها - أمر بعض أفرادها بعضا بالاستمساك بالخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الإيضاح

(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي ولتكن منكم طائفة متميزة تقوم بالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والمخاطب بهذا هم المؤمنون كافة فهم مكلفون بأن ينتخبوا منهم أمة تقوم بهذه الفريضة، وذلك بأن يكون لكل فرد منهم إرادة وعمل في إيجادها، ومراقبة سيرها بحسب الاستطاعة، حتى إذا رأوا منها خطأ أو انحرافا أرجعوها إلى الصواب.

وقد كان المسلمون في الصدر الأول على هذا النهج من المراقبة للقائمين بالأعمال العامة، فقد خطب عمر على المنبر، وكان مما قال: إذا رأيتم في اعوجاجا فقوّموه، فقام أحد رعاة الإبل وقال: لو رأينا فيك اعوجاجا لقوّمناه بسيوفنا. وكان الخاصة من الصحابة متكاتفين في أداء هذا الواجب، يشعر كل منهم بما يشعر الآخر من الحاجة إلى نشر لواء الإسلام وحفظه، ومقاومة كل من يمس شيئا من عقائده وآدابه، وأحكامه ومصالح أهله، وكان سائر المسلمين تبعا لهم.

ويجب فيمن يقوم بهذه الدعوة شروط، ليؤدى وظيفته خير الأداء، ويكون مثلا صالحا يحتذى به في علمه وعمله:

(1) أن يكون عالما بالقرآن والسنة وسيرة النبي ﷺ والخلفاء الراشدين رضي الله عنهم.

(2) أن يكون عالما بحال من توجه إليهم الدعوة في شئونهم واستعدادهم وطباعهم وأخلاقهم، أي معرفة أحوالهم الاجتماعية.

(3) أن يكون عالما بلغة الأمة التي يراد دعوتها، وقد أمر النبي ﷺ بعض الصحابة بتعلم العبرية لحاجته إلى محاورة اليهود الذين كانوا يجاورونه، ومعرفة حقيقة حالهم.

(4) معرفة الملل والنحل ومذاهب الأمم، وبذلك يتيسر له معرفة ما فيها من باطل، فإن الإنسان إن لم يتبين له بطلان ما هو عليه، لا يلتفت إلى الحق الذي عليه غيره وإن دعاه إليه.

وعلى الجملة فلا يقوم بهذه الدعوة إلا خواص الأمة العارفون بأسرار الأحكام، وحكمة التشريع وفقهه، وهم الذين أشار إليهم الكتاب الكريم بقوله: « فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ».

وهؤلاء يقومون بتطبيق أحكام الله تعالى على مصالح العباد في كل زمان ومكان على مقدار علمهم في المساجد والمعابد والمنتديات العامة، وفى المحافل عند سنوح الفرصة.

فإذا هم فعلوا ذلك كثر في الأمة الخير، وندر فيها وقوع الشر، وائتلفت قلوب أهليها، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر، وسعدوا في دنياهم وآخرتهم.

وأمة هذه حالها تسود غيرها من الأمم باجتماع كلمتها، واتفاق أهوائها، إذ لا مطمح لها إلا رفعة شأن دينها، وعزة أبنائها، وسيادتها العالم كله.

ولن يتم ذلك إلا إذا أعد أهلها للأمر عدّته، وكمّلوا أنفسهم بالمعارف والعلوم التي تحتاج إليها الأمم التي تبغى السعادة والرقي، وتختلقوا بفاضل الأخلاق، وحميد الصفات، حتى يكونوا مثلا عليا تحتذى، ويشار إليهم بالبنان وإن ما أودع في ديننا من هذا، وما خلّفه لنا السلف الصالح من الكنوز والثروة العلمية، فيه غنية لمن يريد الخير والفلاح.

وقد روي « أن رسول الله ﷺ سئل عن خير الناس؟ فقال: آمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، وأتقاهم لله، وأوصلهم للرحم ». وعنه أنه قال: « والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عذابا من عنده، ثم لتدعنّه فلا يستجاب لكم ». وعن علي كرم الله وجهه: أفضل الجهاد الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومن غضب لله غضب الله له.

وبعد أن أمر سبحانه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بيّن ما يجب أن تكون عليه الأمة الداعية، الآمرة الناهية، من وحدة المقصد، واتحاد الغرض، لأن الذين سبقوهم من الأمم لم يفلحوا لاختلاف نزعاتهم، وتفرق أهوائهم، لأن كلا منهم يذهب إلى تأييد رأيه، وإرضاء هواه.

أما المتفقون في القصد، فاختلافهم في الرأي لا يضيرهم، بل ينفعهم إذ هو أمر طبيعي لا بد منه لتمحيصه، وتبين وجوه الصواب فيه، ومن ثم قال تعالى:

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) أي ولا تكونوا كأهل الكتاب الذين تفرقوا في الدين وكانوا شيعا، تذهب كل شيعة منها مذهبا يخالف مذهب الآخر، وتنصر مذهبها وتدعو إليه، وتخطّىء ما سواه، ولذا تعادوا واقتتلوا.

ولو كان فيهم أمة تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتعتصم بحبل الله وتتجه إلى غاية واحدة لما تفرقوا ولا اختلفوا فيه، ولما تعددت مذاهبهم في أصوله وفروعه، وما قاتل بعضهم بعضا - فلا تكونوا مثلهم فيحل بكم ما حل بهم.

وبعدئذ ذكر عاقبة المختلفين وعظيم نكالهم فقال:

(وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) وهذا العذاب يشمل خسران الدنيا، وخسران الآخرة، أما في الدنيا فلأن بأسهم يكون بينهم شديدا، فيشقى بعضهم ببعض، ويبتلون بالأمم التي تطمع في الضعفاء، وتذيقهم الخزي والنكال، وأما في الآخرة فعذاب الله أشد وأبقى.

وهذا الوعيد في الآية يقابل الوعد في الآية قبلها وهو قوله (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) فالفلاح فيها يشمل الفوز بخيري الدنيا والآخرة.

ثم ذكر زمان ذلك العذاب فقال:

(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) أي واذكروا يوم تبيض وجوه وتسر لما تعلم من حسن العاقبة، وتسودّ وجوه لما ترى من سوء العاقبة، وما يحل بها من النكال والوبال.

ونحو الآية قوله: « وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ، تَرْهَقُها قَتَرَةٌ » وقوله: « وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا » وقوله: « وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ » وفى الحديث « إن أمتي يحشرون غرّا محجلين من آثار الوضوء ».

واستعمال البياض في السرور، والسواد في الحزن عرف شائع لدى كل ناطق بالضاد، ولا سيما وصف الكاذب بسواد الوجه كما قال شاعرهم: فتعجبوا لسواد وجه الكاذب

والخلاصة - إن هؤلاء المختلفين المتفرقين لهم عذاب عظيم في هذا اليوم كما تظاهرت على ذلك الآيات والأحاديث، كما يكون لهم مثل ذلك في الدنيا، إذ هم لاختلاف مقاصدهم لا يتناصرون ولا يتعاونون، ولا يأبهون بالأعمال التي فيها شرف الملة، وعز الأمة، فتسودّ وجوههم بالذل والكآبة حين يجنون ثمار أعمالهم، وعواقب تفرقهم واختلافهم، بقهر الغاصب لهم، وانتزاعه السلطة من أيديهم، والتاريخ والمشاهدة شاهدا صدق على هذا.

أما المتفقون الذين اعتصموا واتفقوا على الأعمال النافعة لخير الأمة وعزها، وأصبح كل واحد منهم عونا للآخر، وناصرا له، فأولئك تبيض وجوههم وتتلألأ بهجة وسرورا حين تظهر لهم آثار اتفاقهم واعتصامهم، بوجود السلطان والعزة والشرف، وارتفاع المكانة بين الأمم.

ثم فصل سبحانه أحوال الفريقين فقال:

(فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ، أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ؟) أي فأما الذين تفرقوا واختلفوا فاسودت وجوههم فيقال لهم هذا القول في الدنيا والآخرة.

أما في الدنيا فلا بد أن يوجد في الناس من يقول للأمة التي وقع فيها هذا الاختلاف - مثل هذا القول تغليظا لها لأن عملها لا يصدر إلا من الكافرين، وأما في الآخرة فيوبخهم الله تعالى بمثل هذا السؤال.

وقد جرى عرف القرآن أن يعدّ المتفرقين في الدين من الكفار والمشركين كما جاء في قوله: « وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ » وقوله: « إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ».

كذلك يعد الخروج عن مقاصد الدين الحقيقية من الكفر، لأن الإيمان اعتقاد وقول وعمل، وهو ذو شعب كثيرة من أجلّها تحرى العدل، واجتناب الظلم، فمن استرسل في الظلم كان كافرا كما قال تعالى: « وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ».

وكذلك من ترك الاتحاد والوفاق والاعتصام بحبل الدين كان من الكافرين بعد الإيمان.

(وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي وأما الذين ابيضت وجوههم باتحاد الكلمة، وعدم التفرق فيكونون في الدنيا خالدين في النعمة ماداموا على تلك الحال، وخلودهم في الرحمة في الآخرة أظهر.

(تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ) أي هذه الآيات نتلوها عليك مقررة ما هو الحق الذي لا مجال للشبهة فيه، فلا عذر لمن ذهب في الدين مذاهب شتى، واتبع سنن السابقين، وجعل القرآن عضين.

فعلينا أن نستمسك بما به أمر ووعد عليه بالفوز والنجاح، ونترك ما عنه نهى وأوعد عليه بالعذاب الأليم، حتى نكون أمة متفقة المقاصد، متحدة في الدين فنجمع بين سعادتى الدنيا والآخرة.

(وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ) أي إن كل ما يأمرهم به وينهاهم عنه فإنما يريد به هدايتهم إلى ما يكمل فطرتهم، ويتم به نظام جماعتهم، فإذا هم فسقوا عن أمره حل بهم البلاء وكانوا هم الظالمين لأنفسهم، بتفرقهم واختلافهم، إلى نحو ذلك من الذنوب التي تفسد نظم المجتمع وتجعل أهله في شقاء.

ولا يحل عذاب بأمة إلا بذنب فشا فيها فزحزحها عن الصراط المستقيم كما قال: « وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ».

ثم ذكر ما هو كالبرهان لنفى الظلم عنه تعالى فقال:

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي إنه تعالى مالك العباد والمتصرف في شئونهم بحسب سننه الحكيمة التي لا تغيير فيها ولا تبديل كما قال: « سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا » وليس من أسباب ملكه شيء ناقص يحتاج إلى تمام فيتممه بظلم غيره، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

ولأن الظلم ينافي الحكمة والكمال في النظام وفى التشريع. ومن حمل عبيده أو دوابه ما لا تطيق يقال إنه ظلمها، ومن نقص امرأ حقه فقد ظلمه، قال تعالى: « كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا ».

وعلى الجملة - فالظلم الذي ينفيه تعالى عن نفسه هو ما ينافى مصلحة العباد وهدايتهم لسعادة الدنيا والآخرة، وبعبارة أخرى هو ما يخالف النظام والإحكام.

[سورة آل عمران (3): الآيات 110 الى 112]

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (112)

تفسير المفردات

كنتم: أي وجدتم وخلقتم، أخرجت: أي أظهرت حتى تميزت وعرفت، والأذى: الضر اليسير، يولوكم الأدبار: أي ينهرموا، والذلة هي الذل الذي يحدث في النفوس من فقد السلطة، وضربها عليهم هو إلصاقها بهم وظهور أثرها فيهم، كما يكون من ضرب السكة بما ينقش فيها، وثقفوا وجدوا، والحبل: العهد، وباءوا: أي لبثوا وحلوا فيه، من المباءة وهو المكان، ومنه تبوأ فلان منزل كذا، وبوأته إياه، والاعتداء: تجاوز الحد.

المعنى الجملي

بعد أن أمر عز اسمه عباده المؤمنين بالاعتصام بحبله، وذكرهم بنعمته عليهم، بتأليف قلوبهم بأخوّة الإسلام، وحذّرهم من أن يكونوا مثل أهل الكتاب في التمرد والعصيان، وتوعد على ذلك بالعذاب الأليم، واستطرد بين ذلك بذكر من يبيض وجهه ومن يسودّ، وبذكر شيء من أحوال الآخرة، أردف ذلك ذكر فضل المتآخين في دينه، المعتصمين بحبله، ليكون هذا باعثا لهم على الانقياد والطاعة، إذ كونهم خير الأمم مما يقوّى داغيتهم في ألا يفوّتوا على أنفسهم هذه المزية، وإنما يكون ذلك بالمحافظة على اتباع الأوامر وترك النواهي

الإيضاح

(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) أي أنتم خير أمة في الوجود الآن، لأنكم تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتؤمنون إيمانا صادقا يظهر أثره في نفوسكم، فيزعكم عن الشر، ويصرفكم إلى الخير، وغيركم من الأمم قد غلب عليهم الشر والفساد، فلا يأمرون بمعروف، ولا ينهون عن منكر، ولا يؤمنون إيمانا صحيحا.

وهذا الوصف يصدق على الذين خوطبوا به أوّلا، وهم النبي ﷺ وأصحابه الذين كانوا معه وقت التنزيل، فهم الذين كانوا أعداء، فألف بين قلوبهم، واعتصموا بحبل الله جميعا، وكانوا يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ولا يخاف ضعيفهم قويّهم، ولا يهاب صغيرهم كبيرهم، وملك الإيمان قلوبهم ومشاعرهم، فكانوا مسخرين لأغراضه في جميع أحوالهم.

وهذا الإيمان هو الذي قال الله في أهله « إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ » وقال فيهم أيضا « إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيمانًا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ».

وما فتئت هذه الأمة خير الأمم حتى تركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما تركتهما إلا باستبداد الملوك والأمراء من بنى أمية ومن حذا حذوهم.

وأول من اجترأ منهم على إعلان هذه المعصية عبد الملك بن مروان حين قال على المنبر: من قال لي اتق الله ضربت عنقه وما زال الشر يزداد، والأمر يتفاقم حتى سلبت هذه الأمة أفضل مالها من مزية في دينها ودنياها بعد الإيمان، وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ومما سلف تعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو سبب الفضيلة، كما تقول: محمد كريم، يطعم الناس ويكسوهم، ويعني بشئونهم.

وهذه الصفات وإن شاركتها فيها سائر الأمم، فهي لم تكن فيها على الوجه الذي لهذه الأمة، فالأمر بالمعروف كان فيها على آكد وجوهه، وهو القتال إذا دعت إليه الحاجة، وقد يحصل بالقلب واللسان، ولكن أقواه ما كان بالقتال لأنه إلقاء للنفس في خطر الهلاك.

وأعظم المعروفات الدين الحق، والإيمان بالتوحيد والنبوة، وأنكر المنكرات الكفر بالله، ومن كان فرض الجهاد في الدين يحمّل الإنسان أعظم المضار لإيصال غيره إلى أعظم المنافع، وتخليصه من أعظم الشرور، لهذا كان عبادة من العبادات، بل كان أجلّها وأعظمها، وهو في ديننا أقوى منه في سائر الأديان.

لا جرم كان ذلك موجبا لفضل هذه الأمة على سائر الأمم، وهذا ما عناه ابن عباس بقوله في تفسير هذه الآية أي تأمرونهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويقروا بما أنزل الله، وتقاتلونهم عليه، ولا إله إلا الله أعظم المعروف، والتكذيب أنكر المنكرات.

والخلاصة - إن هذه الخيرية لا تثبت لهذه الأمة إلا إذا حافظت على هذه الأصول الثلاثة، فإذا تركتها لم تكن لها هذه المزية، ومن ثم أكد الأمر بهذه الفريضة في آيات هذه السورة بما لم يعرف له نظير في الكتب السابقة.

وقدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان بالله في الذكر، مع أن الإيمان مقدم على كل الطاعات، لأنهما سياج الإيمان وحفاظه، فكان تقديمهما في الذكر موافقا للمعهود عند الناس في جعل سياج كل شيء مقدما عليه.

(وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْرًا لَهُمْ) أي ولو آمنوا إيمانا صحيحا يستولى على النفوس، ويملك أزمة القلوب، فيكون مصدر الفضائل والأخلاق الحسنة، كما تؤمنون - لكان ذلك خيرا لهم مما يدّعونه من إيمان لا يزع النفوس عن الشرور، ولا يبعدها عن الرذائل، إذ هو لم يؤت ثمرات الإيمان الصحيح الذي يحبه الله ورسوله، ولا كان أثرا من آثاره الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر.

وبهذا تعلم أن الإيمان المنفي عنهم إيمان خاص له تلك الآثار التي تقدمت، لا الإيمان الذي يدعيه كل من له دين وكتاب، كما أنه إنما نفاه عن أكثر أفراد الأمة، وأنهم هم الذين فسقوا وخرجوا عن حقيقة الدين، ولم يبق عندهم إلا بعض الرسوم والتقاليد الظاهرة - لا عن جميعها، إذ لا تخلو أمة ذات دين سماوي من هذا الإيمان، ومن ثمّ قال:

(مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) أي منهم المؤمنون المخلصون في عقائدهم وأعمالهم كعبد الله بن سلام ورهطه من اليهود، والنجاشي ورهطه من النصارى، وأكثرهم فاسقون عن دينهم متمردون في الكفر.

وما من دين إلا يوجد فيه الغالون والمعتدلون والمفرّطون المائلون إلى الفسوق والعصيان.

ويكثر الاستمساك بالدين في أوائل ظهوره، كما يكثر الفسق بعد طول الأمد عليه، كما قال تعالى: « أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ، وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ، فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ ».

ولم يحكم الدين على أمة حكما عاما بالفسق والضلال، بل تارة يعبر بالكثير، وأخرى بالأكثر كقوله في بني إسرائيل « فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا » وقوله في النصارى واليهود « مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ ».

وعلى الجملة فالقرآن إذا عرض لوصف الأمم وبيان عقائدها وأخلاقها، وزن ذلك بميزان دقيق يتحرى فيه ذكر الحقيقة مجردة عن كل مغالاة أو مبالغة بما لم يعهد مثله في كتاب آخر.

فلو تصفحنا الأحكام التي حكم بها على أهل الكتاب، وعرضناها على علمائهم وفلا سفتهم ومؤرخيهم لقالوا: إنها الحق الصّراح.

(لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) أي إن هؤلاء الفاسقين لا يقدرون على إيقاع الضرر بكم بل غاية جهدهم أن يؤذوكم بالهجو القبيح، والطعن في الدين، وإلقاء الشبهات وتحريف النصوص، والخوض في النبي ﷺ.

(وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ) أي وإن يقابلوكم في ميدان القتال ينهزموا من غير أن يظفروا منكم بشىء، والمنهزم من شأنه أن يحوّل ظهره إلى جهة مقاتله ويستدبره في هربه منه، فيكون قفاه إلى وجه من انهزم منه.

(ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) أي ثم إنهم لا ينصرون عليكم أبدا ماداموا على فسقهم، ودمتم على خيريتكم، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله.

وفي الآية ثلاث بشارات من أخبار الغيب تحققت كلها، وقد صدق الله وعده.

ومما سبق تعلم أن هذا الحكم إنما يثبت لهم إذا حافظوا على نصر الله بنصر دينه كما قال: « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ » وكما قال في وصف المؤمنين المجاهدين « الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ ».

(ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) أي إنهم ألزموا الذلة فلا خلاص لهم منها، فحالهم معكم أنهم أذلاء مهضومو الحقوق رغم أنوفهم، إلا بعهد من الله وهو ما قررته الشريعة إذا دخلوا في حكمها من المساواة في الحقوق والقضاء وتحريم الإيذاء، وعهد من الناس، وهو ما تقتضيه المشاركة في المعيشة، من احتياجهم إليكم واحتياجكم إليهم في بعض الأمور، وقد كان النبي ﷺ يحسن معاملتهم ويقترض منهم، وكذلك الخلفاء الراشدون.

والخلاصة - إن هؤلاء لا عزة لهم في أنفسهم، لأن السلطان والملك قد فقدا منهم. وإنما تأتيهم العزة من غيرهم بهذين العهدين: العهد الذي قرره الله، والعهد الذي تواطأ عليه الناس.

(وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ) أي وصاروا مستحقين غضب الله مستوجبين سخطه، وأحاطت بهم المسكنة والصّغار، فهم تابعون لغيرهم يؤدون ما يضرب عليهم من المال وادعين ساكنين.

وهذا الوصف صادق على اليهود إلى اليوم في كل بقاع الأرض.

وقد ارتفع الذل عنهم في بلاد الإسلام بحبل من الله، وهو ما ذكرناه فيما سلف من وجوب معاملتهم بالمساواة واحترام دمائهم وأعراضهم وأموالهم والتزام حمايتهم والذّود عنهم بعد إنقاذهم من ظلم حكامهم السابقين، وبحبل من الناس كما تقدم بيانه.

وأما ارتفاع المسكنة بأن يكون لهم ملك وسلطان يوما ما، فالقرآن ينفيه عنهم، لأنه لم يستثن من ذلك شيئا، كما استثنى في الذلة، فاقتضى بقاء ذلك عليهم إلى الأبد لكنهم يقولون إنهم مبشرون بظهور مسيح (مسيا) فيهم ومعناه ذو الملك والشريعة، والنصارى يقولون: إن هذا الموعود به هو المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، والمراد بالملك الملك الروحاني.

والخلاصة: إنهم متفرقون في أقطار الأرض على قلتم، منصرفون عن فنون الحرب وأعمالها، بعيدون عن الزراعة ومتعلقاتها، لعنايتهم بجمع المال من أيسر سبله، وأكثرها نماء، وأقلها تعبا وعناء، وهو الربا.

وقد ذكر الله سبب ذلك وعلته فقال:

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) أي ذلك الذي ذكر من ضرب الذلة والمسكنة عليهم، واستحقاقهم للغضب الإلهي بسبب كفرهم، وقتلهم النبيين بغير حق تعطيهم إياه شريعتهم.

وفي النص على أن ذلك بغير حق مع أنه لن يكون إلا كذلك تشنيع عليهم، وإثبات لأن ذلك حدث عن عمد لا عن خطا، ثم أشار إلى سبب هذا الكفر والعدوان الشنيع فقال:

(ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) أي إنه ما جرأهم على ذلك إلا سبق المعاصي، واعتداؤهم على حدود الله، والاستمرار على الصغائر يفضى إلى الوقوع في الكبائر.

فمن جعلها ديدنا له واتخذها عادة وصل به ذلك إلى الكفر وقتل الأنبياء المرشدين وقتل الأنبياء، وإن كان لم يصدر من اليهود الذين كانوا في عصر التنزيل، بل كان من أسلافهم، لكنهم لما كانوا راضين به مصوّبين له نسب إليهم، إذ صار خلقا لهم يتوارثه الخلف عن السلف، والأبناء عن الآباء.

والأمم متكافلة ينسب إلى مجموعها ما فشا فيها، وإن ظهر بعض آثاره في زمن دون آخر.

[سورة آل عمران (3): الآيات 113 الى 115]

لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)

تفسير المفردات

يقال فلان وفلان سواء: أي متساويان، ويستعمل للواحد والمثنى والجمع فيقال هما سواء، وهم سواء، وقائمة: أي مستقيمة عادلة، من قولك أقمت العود فقام: أي استقام، والتلاوة القراءة وأصلها الإتباع، فكأنها إتباع اللفظ اللفظ، وآيات الله: هي القرآن والآناء: الساعات، واحدها إني كعصا أو إني كظبى أو إنو كجرو، ويسجدون: أي يصلون، والمسارعة في الخير: فرط الرغبة فيه، فلن يكفروه: أي يمنعوا ثوابه.

المعنى الجملي

بعد أن وصف سبحانه أهل الكتاب فيما تقدم بذميم الصفات، وقبيح الأعمال وذكر الجزاء الذي استحقوه بسوء عملهم، أعقبه ببيان أنهم ليسوا جميعا على تلك الشاكلة، بل فيهم من هو متصف بحميد الخلال وجميل الصفات.

الإيضاح

(لَيْسُوا سَواءً) أي ليس أهل الكتاب متساوين في تلك الصفات القبيحة، بل منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون، وهذه الجملة كالتأ كيد لتلك.

وبعد أن وصف الفاسقين وذكر سوء أعمالهم - وصف المؤمنين ومدحهم بثمانية أوصاف كل منها منقبة ومفخرة يستحق فاعلها الثواب عليها:

1 - (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ) أي منهم جماعة مستقيمة على الحق، متبعة للعدل، لا تظلم أحدا، ولا تخالف أمر الدين، وكان من تمام الكلام أن يقال ومنهم أمة مذمومة، إلا أن العرب قد تذكر أحد الضدين وتستغنى به عن ذكر الآخر كما قال الشاعر:

دعاني إليها القلب إني لأمرها مطيع فما أدري أرشد طلابها

يريد أم غي.

وهذه الجملة مبينة لعدم التساوي مزيلة لإبهامه. والمراد بهذه الأمة جماعة من اليهود أسلموا كعبد الله بن سلام وثعلبة بن سعيد وأسيد بن عبيد وأضرابهم كما رواه ابن جرير عن ابن عباس، وقال في تفسير الآية:

الأمة القائمة أمة مهتدية قائمة على أمر الله لم تنزع عنه وتتركه كما تركه الآخرون وضيعوه. وروي عن قتادة أنه كان يقول في الآية: ليس كل القوم هلك، قد كان لله فيهم بقية.

وهذه الآية حجة على أن دين الله واحد على ألسنة جميع الأنبياء، وأن من أخذه مذعنا، وعمل به مخلصا، وأمر بمعروف ونهى عن منكر فهو من الصالحين.

كما أن فيها استمالة لأهل الكتاب، وتقديرا للعدل الإلهي، وقطعا لاحتجاج من يعرفون الإيمان والإخلاص، إذ لو لا هذا النص لكان لهم أن يقولوا: لو كان هذا القرآن من عند الله لما ساوانا بغيرنا من الفاسقين.

واستقامة بعضهم على الحق من دينهم لا ينافى ضياع بعض كتبهم، وتحريف بعضهم لما في أيديهم منها، ألا ترى أن من يحفظ بعض الأحاديث ويعمل بما علم، ويستمسك به مخلصا فيه - يقال إنه قائم بالسنة عامل بالحديث.

2، 3 - (يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) أي يتلون القرآن بالليل وهم يصلون متهجدين، وخص السجود بالذكر من بين أركان الصلاة لدلالته على كمال الخضوع والخشوع.

4، 5 - (يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي يؤمنون إيمان إذعان بهما على الوجه المقبول عند الله، ومن ثمرات ذلك الخشية والخضوع والاستعداد لذلك اليوم، لا إيمانا لا حظّ لصاحبه منه إلا الغرور والدعوى، كما هو حال سائر اليهود، إذ يؤمنون بالله واليوم الآخر، لكنه إيمان هو والعدم سنواء، لأنهم يقولون عزيز ابن الله، ويكفرون ببعض الرسل، ويصفون اليوم الآخر بخلاف صفته.

ولما كان كمال الإنسان أن يعرف الحق لذاته، والخير للعمل به، وكان أفضل الأعمال الصلاة، وأفضل الأذكار ذكر الله، وأفضل العلوم معرفة المبدإ والمعاد - وصفهم الله بقوله: (يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ) للدلالة على أنهم يعملون صالح الأعمال، وبقوله:

(يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) للإشارة إلى فضل المعارف الحاصلة في قلوبهم.

6 - (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي إنهم بعد أن كملوا أنفسهم علما وعملا كما تقدم، يسعون في تكميل غيرهم إما بإرشادهم إلى ما ينبغي بأمرهم بالمعروف، أو بمنعهم عما لا ينبغي بالنهي عن المنكر.

وفي هذا تعريض باليهود المداهنين الصادّين عن سبيل الله.

7 - (وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) أي ويعملون صالح الأعمال راغبين فيها غير متثاقلين علما منهم بجلالة موقعها، وحسن عاقبتها، وإنما يتباطأ الذين في قلوبهم مرض، كما وصف الله المنافقين بقوله: « وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ ».

وهذه الصفة جماع الفضائل الدينية والخلقية، وفى ذكرها تعريض باليهود الذين يتثاقلون عن ذلك.

وعبر بالسرعة ولم يعبر بالعجلة، لأن الأولى التقدم فيما ينبغي تقديمه وهي محمودة، وضدها الإبطاء، والثانية التقدم فيما لا ينبغي أن يتقدم فيه، ومن ثم قال عليه السلام « العجلة من الشيطان، والتأنّى من الرحمن » وضدها: الأناة، وهي محمودة.

8 - (وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي وهؤلاء الذين اتصفوا بجليل الصفات من الذين صلحت أحوالهم، وحسنت أعمالهم، فرضيهم ربهم، وفى هذا رد على اليهود الذين قالوا فيمن أسلم منهم: ما آمن بمحمد إلا شرارنا، ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره.

والوصف بالصلاح هو غاية المدح، ونهاية الشرف والفضل، فقد مدح الله به أكابر الأنبياء كإسماعيل وإدريس وذي الكفل فقال: « وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ » وقال حكاية عن سليمان: « وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ ».

ولأنه ضد الفساد، وهو ما لا ينبغي في العقائد والأفعال، فهو حصول ما ينبغي في كل منهما، وذلك منتهى الكمال، ورفعة القدر، وعلوّ الشأن.

(وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) أي وما يفعلوا من الطاعات فلن يحرموا ثوابه ولن يستر عنهم كأنه غير موجود.

ولما سمى الله إثابته للمحسنين شكرا في قوله: « فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا » وسمى نفسه شاكرا في قوله: « فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ » حسن أن يعبر عن عدم الإثابة بالكفر.

وهذه الجملة جاءت ردا على اليهود الذين قالوا لمن أسلم منهم: أنتم خسرتم بسبب هذا الإيمان، وإشارة إلى أنهم فازوا بالسعادة العظمى، والدرجات العليا.

وفيها تعظيم لهم ليزيل من صدورهم أثر كلام أولئك الأوغاد.

(وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) فهو يجزى العاملين بحسب ما يعلم من أحوالهم، وما تنطوى عليه سرائرهم.

فمن كان إيمانه صحيحا واتقى الله فاز بالسعادة.

وهذا كالدليل على ما قبله، لأن عدم الإثابة إما للسهو والنسيان، وإما للجهل، وذلك ممتنع في حقه، لأنه عليم بكل شيء، وإما للعجز أو البخل أو الحاجة، وكل ذلك محال عليه، لأنه خالق جميع الكائنات، وهو القادر على كل شيء.

ولما انتفى كل هذا كان المنع من الجزاء محالا.

[سورة آل عمران (3): الآيات 116 الى 117]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)

تفسير المفردات

لن تغني: أي لن تجزىء وتنفع، ومثل الشيء: مثله وشبهه، والصرّ (بالكسر) والصرة: البرد الشديد.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه فيما سلف أحوال الكافرين، وما يحيق بهم من العقاب، وأحوال المؤمنين وما أعد لهم من الثواب، جامعا بين الزجر والترغيب، والوعد والوعيد، ثم وصف من آمن من الكفار بتلك الخلال الحسنة، والمفاخر التي عددها لهم - أتبع ذلك بوعيد الكفار وتيئيسهم بأنهم لن يجدوا يوم القيامة ما يدفع عنهم عذابه، ثم أردفه ببيان أن ما ينفقونه في هذه الحياة الدنيا، في لذاتهم وجاههم وتأييد كلمتهم لا يفيدهم شيئا، كزرع أصابته ريح فيها صرّ فأهلكته، فلم يستفد أصحابه منه شيئا.

الإيضاح

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) أي إن الذين كفروا من أهل الكتاب ومشركي مكة وغيرهم ممن كانوا يعيرون النبي ﷺ وأتباعه بالفقر، ويقولون: لو كان محمد على الحق ما تركه ربه في هذا الفقر الشديد، ويتفاخرون بكثرة الأموال والأولاد كما حكى الله عنهم: « نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلادًا وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ » لن تنفعهم هذه الأموال والأولاد يوم القيامة، وافتصر على ذكرهما، لأنهما من أعظم النعم، ومن كان يرتع في بحبوحة هذه النعم، فقلّما يوجه نظره إلى طلب الحق، أو يصغى إلى الداعي إليه، ومن ثم تراه يتخبط في ظلام دامس حتى يتردى في الهاوية، ويقع في المهالك، ولا ينفعه مال ولا ولد « يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ »، يوم يوضع الميزان، ويحاسب كل امرئ على النقير والقطمير.

ونحو الآية قوله: « وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا » وقوله: « فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدى بِهِ » وقوله: « وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى ».

(وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي أولئك الملازمون للنار لا ينفكون عنها، لأن ظلمة أرواحهم، وفساد عقائدهم، وسوء أعمالهم، اقتضت خلودهم في تلك الهاوية المظلمة المستعرة التي وقودها الناس والحجارة، قد أعدت لكل من جحد بآيات ربه، وأعرض عن دعوة أنبيائه ورسله، ولم يصغ إلا لداعى الهوى والشهوات.

وبعد أن أبان أن أموالهم لا تغنى عنهم شيئا، ذكر أن ما ينفقونه من المال في سبل الخير لا يجديهم ليزيل ما ربما علق بالبال من أنهم ينتفعون به، وضرب لذلك مثلا فقال:

(مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ) أيإن ما ينفقونه في اللذات، ونشر الصيت، واكتساب الشهرة، وتأييد الكلمة، فيصدهم عن سبيل الله، ويفسد عقولهم وأخلاقهم التي هي عماد المنافع، كمثل ريح باردة أصابت حرث قوم فأهلكته.

وخلاصة ذلك - أن حالهم فيما ينفقون وإن كان في الخير كحال الريح الشديدة البرد التي تهلك الزرع، فهؤلاء لا يستفيدون من نفقتهم شيئا، كما أن أصحاب ذلك الزرع كذلك.

فهم إذا أنفقوا أموالهم في بناء الحصون والقلاع لصد العدو، وإقامة القناطر لحفظ المياه وأمن الطريق، وفى الإحسان إلى الضعفاء واليتامى وذوي الحاجات، ورجوا من ذلك الثواب الجزيل، ثم قدموا إلى الآخرة ورأوا كفرهم قد أبطل آثار ذلك الخير، كانوا كمن زرع زرعا وتوقع منه نفعا كثيرا، فأصابته ريح فأحرقته، فلا يبقى له إلا الحسرة والندامة، ونحو الآية قوله: « وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُورًا » وقوله: « وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا ».

وجماع هذا كله قوله: « إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ».

ومما سلف تعلم أن هذا المثل ضرب لخيبتهم في الآخرة، وليس بالبعيد أن يكون أيضا مثلا لخيبتهم في الدنيا.

ذاك أنهم أنفقوا الأموال الكثيرة في جمع العساكر، وتحملوا المشاق، ثم انقلب الأمر عليهم، فأظهر الله الإسلام وقواه، فلم يبق للكفار من ذلك الإنفاق إلا الخيبة والحسرة.

وقد جعل الله هذا الحرث لقوم ظلموا أنفسهم، لإفادة أن المنفقين لا يستفيدون منه شيئا، إذ حرث الكافرين الظالمين هو الذي يذهب بلا منفعة في الدنيا ولا في الآخرة.

أما حرث المسلم المؤمن فهو وإن ذهب حسا فهو لا يذهب معنى، لما فيه من الثواب بالصبر على ما يصيبه من النكبات والأحزان.

والخلاصة - إن الجوائح قد تنزل بأموال الناس من حرث ونسل عقوبة لهم على ذنوب اقترفوها، إذ لا يستنكر على القادر الحكيم الذي وضع السنن وربط الأسباب بمسبباتها في عالم الحس، أن يوفق بينها وبين سننه الخفية في إقامة ميزان القسط بين الناس، لهدايتهم إلى ما به كمالهم من طريق العلوم الحسية التي تستفاد من النظر والتجربة، ومن طريق الإيمان بالغيب الذي يرشد إليه الوحي الإلهي.

ونحن نسمى ما يترتب عليه حدوث الشيء سببا له، وما يلابس السبب من النفع لبعض والضر لآخرين حكمة له، وكل ذلك مقصود للفاعل الحكيم.

(وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أيوما ظلمهم الله بعدم انتفاعهم بنفقاتهم بل هم الذين ظلموا أنفسهم بإنفاق الأموال في السبل التي تؤدى إلى الخيبة والخسران على النهج الذي سنة الله في أعمال الإنسان والآية نزلت فيما كان ينفقه أهل مكة، أو ينفقه اليهود في عداوة النبي ﷺ ومقاومته، لأنهم هم الذين اختاروا ذلك لأنفسهم، ولم يضروا النبي ﷺ ومن معه، بل كان ذلك سبب سيادته عليهم، وتمكنه منهم.

وقيل إنها نزلت فيما كان ينفقه المنافقون في بعض طرق البر رياء وسمعة أو تقيّة.

وقيل إن المثل ينطبق على الكافرين الذين ينفقون أموالهم في طرق البر رغبة في الخير، لأن شرط الثواب على تلك الأعمال الإيمان، وقد ظلموا أنفسهم بترك النظر في الدلائل بعد ما ظهرت، أو بالجحود بعد النظر وإقامة الحجة.

[سورة آل عمران (3): الآيات 118 الى 120]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)

تفسير المفردات

بطانة الرجل: خاصته الذين يستنبطون أمره، مأخوذة من بطانة الثوب للوجه الذي يلي البدن، ويسمى الوجه الظاهر ظهارة، وهي تستعمل للواحد والجمع مذكرا ومؤنثا، ومن دونكم: أي من غيركم، ويألونكم: من ألا في الأمر يألو: إذا قصر فيه، ويقال: لا آلوك نصحا، ولا آلوك جهدا، أي لا أمنعك نصحا، ولا أنقصك جهدا، والخبال: النقصان، ومنه رجل مخبول ومخبل ومختبل: إذا كان ناقص العقل، والفساد، ومنه قوله تعالى: « لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا » أي فسادا وضررا، ووددت كذا: أي أحببته، والعنت: المشقة، والبغضاء: شدة البغض كالضراء شدة الضر، والكتاب هنا: المراد به جنس الكتب كما يقال كثر الدرهم في أيدي الناس، وعضّ الأنامل: يراد به شدة الغيظ أحيانا، كما يراد به الندم أحيانا أخرى، وذات الصدور: الخواطر القائمة بالقلب، والدواعي التي تدعو إلى الأفعال، أو الصوارف التي تدفعها عنه والمسّ: أصله ما كان باليد كاللمس، ثم سمى كل ما يصل إلى الشيء مسّا، فقالوا: مسه التعب والنصب قال تعالى: « وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ » وقال: « وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ » والحسنة: المنفعة حسية كانت أو معنوية كصحة البدن والفوز بالغنيمة، وأعظمها انتشار الإسلام وحصول الألفة بين المسلمين، والسيئة: الفقر والهزيمة وحصول التفرقة بين الأقارب، من ساء يسوء بمعنى قبح فهو سىء والأنثى سيئة قال تعالى: « ساءَ ما يَعْمَلُونَ » والكيد: الاحتيال لإيقاع غيرك في مكروه، والمحيط بالشيء: هو الذي يحيط به من كل جوانبه، ويراد به في حق الله العلم بدقائقه وتفاصيل أجزائه، فلا يعزب عنه شيء منه، قال تعالى: « وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ » وقال: « وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ ».

المعنى الجملي

كانت الآيات السالفة حجاجا مع أهل الكتاب والمشركين، وإلزامهم بالحجة، وبيانا لأحوال المؤمنين، وتذكيرا لهم بما يكون من سوء العاقبة يوم القيامة، يوم تبيض وجوه وتسوّد وجوه.

والكلام في هذه الآيات تحذير للمؤمنين من مخالطة الكافرين مخالطة تدعو إلى الإباحة بالأسرار، والاطلاع على شئون المسلمين، مما تقضى المصلحة بكتمانه، وعدم معرفة الأعداء له.

ومما دعا إلى هذا النهى أنه كانت بين المؤمنين وغيرهم صلات خاصة تدعو إلى الإباحة بالأسرار إليهم كالنسب والمصاهرة والرضاعة والعهد والمحالفة - إلى أنّ من طبيعة المؤمن أن يبنى أمره على اليسر والأمانة والصدق، ولا يبحث عن عيوب غيره.

ولكن لما كان همّ المناصبين من أهل الكتاب والمشركين إطفاء نور الدعوة، وإبطال ما جاء به الإسلام، والمسلمون لم يكن لهم غرض إلا نشر هذه الدعوة بسائر الوجوه التي يرونها كفيلة بإعلاء كلمة الدين - اختلف المقصدان، وافترق الغرضان، فلم يكن من الحزم أن يفضى الإنسان بسره إلى عدوه، ويطلعه على خططه التي يدبرها للفوز ببغيته على أكمل الوجوه وأحكمها، وأقربها للوصول إلى الغرض، ومن ثم حذر الله المؤمنين من اطلاع أعدائهم على أسرارهم، لما في ذلك من تعريض مصلحة الملة للخبال والفساد.

أخرج ابن إسحق وغيره عن ابن عباس قال: كان رجال من المسلمين يواصلون رجالا من اليهود لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهلية، فأنزل الله فيهم هذه الآية ينهاهم عن مباطنتهم خوف الفتنة.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ، لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا، وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ، وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) أي لا تتخذوا أيها المؤمنون الكافرين كاليهود والمنافقين أولياء وخواصّ لكم دون المؤمنين، إذا كانوا على تلك الأوصاف التي ذكرت في هذه الآية:

(1) لا يألونكم خبالا: أي لا يقصرون في مضرتكم، وإفساد الأمر عليكم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.

(2) يتمنون ضركم في دينكم ودنياكم أشد الضرر.

(3) يبدون البغضاء بأفواههم، ويظهرون تكذيب نبيكم وكتابكم، وينسبونكم إلى الحمق والجهل، ومن اعتقد حمق غيره وجهله لا يحبه.

(4) ما يظهرونه على ألسنتهم من علامات الحقد أقل مما في قلوبهم منه.

فهذه الأوصاف شروط في النهي عن اتخاذ البطانة من غير المسلمين، فإذا اعتراها تغيّر وتبدل كما وقع من اليهود، فبعد أن كانوا في صدر الإسلام أشد الناس عداوة للذين آمنوا - انقلبوا فصاروا عونا للمسلمين في فتوح الأندلس، وكما وقع من القبط إذ صاروا عونا للمسلمين على الروم في فتح مصر - فلا يمتنع حينئذ اتخاذهم أولياء وبطانة للمسلمين، فقد جعل عمر بن الخطاب رجال دواوينه من الروم، وجرى الخلفاء من بعده على ذلك، إلى أن نقل عبد الملك بن مروان الدواوين من الرومية إلى العربية. وعلى هذه السنة جرى العباسيون وغيرهم من ملوك المسلمين في نوط أعمال الدولة باليهود والنصارى حتى العصر الحاضر، فإن كثيرا من سفراء الدولة العثمانية ووكلائها من النصارى. ومع كل هذا يرمينا الأجانب بالتعصب، ويقولون: إن الإسلام لا تساهل فيه.

وهذا النهي المقيد بتلك الأوصاف شبيه بالنهي عن اتخاذ الكفار أنصارا وأولياء في قوله: « لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ».

(قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) أي قد أظهرنا لكم الدلالات الواضحة التي يتميز بها الولي من العدو، ومن يصح أن يتخذ بطانة، ومن لا يصح أن يتخذ لخيانته، وسوء عاقبة مباطنته، إن كنتم تدركون حقائق هذه الآيات التي تفرق بين الأعداء والأولياء، وتعلمون قدر مواعظ الله وحسن عواقبها.

ثم ذكر نوعا آخر من التحذير عن مخالطة الكافرين واتخاذهم بطانة، وفيه تنبيه لهم على خطئهم في ذلك، وقد ضمنه أمورا ثلاثة كل منها يستدعى الكفّ عن مخالطتهم.

(1) (ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ) أي إنكم تحبون هؤلاء الكفار الذين هم أشد الناس عداوة لكم، ولا يقصرون في إفساد أمركم، وتمنّى عنتكم، ويظهرون لكم العداوة والغش، ويتربصون بكم ريب المنون، فكيف بكم توادونهم وتواصلونهم؟.

وحب المؤمنين لهم - وهم على تلك الشاكلة - من أقوى البراهين على أن هذا الدين دين رحمة وتساهل، لا يمكن أن يتصور ما هو أعظم منه في ذلك.

(2) (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ) أي إنكم تؤمنون بجميع ما أنزل الله من الكتب، سواء منها ما نزل عليكم وما نزل عليهم، فليس في نفوسكم جحد لبعض الكتب الإلهية، ولا للنبيين الذين جاءوا بها، حتى يحملكم ذلك على بغض أهل الكتاب - أما هم فيجحدون بعض الكتب وينكرون بعض النبيين.

وخلاصة هذا: إنهم لا يحبونكم مع أنكم تؤمنون بكتابهم وكتابكم، فما بالكم لو كنتم لا تؤمنون بكتابهم، كما أنهم لا يؤمنون بكتابكم؟ فأنتم أحرى ببغضهم، ومع هذا تحبونهم ولا يحبونكم.

قال ابن جرير: في الآية إبانة من الله عز وجل عن حال الفريقين، أعنى المؤمنين والكافرين، ورحمة أهل الإيمان ورأفتهم بأهل الخلاف لهم، وقساوة قلوب أولئك وغلظتهم على أهل الإيمان اهـ.

وقال قتادة: فوالله إن المؤمن ليحب المنافق ويأوى إليه ويرحمه، ولو أن المنافق يقدر من المؤمن على ما يقدر عليه المؤمن منه لأباد خضراءه (أفناه وأهلكه) اهـ.

وفي هذا توبيخ للمؤمنين بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم.

ونحو الآية قوله: « فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ » (3) (وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) أي وإذا لقوا المؤمنين من أصحاب رسول الله ﷺ ألانوا لهم القول حذرا على أنفسهم منهم، فقالوا: آمنا وصدقنا بما جاء به محمد ﷺ، وإذا هم صاروا في خلاء حيث لايراهم المؤمنون أظهروا شدة العداوة والغيظ منهم، حتى ليبلغ الأمر إلى عضّ الأنامل كما يفعل أحدنا إذا اشتد غيظه، وعظم حزنه على فوات مطلوبه.

وإنما فعلوا ذلك لما رأوا من ائتلاف المؤمنين، واجتماع كلمتهم، وصلاح ذات بينهم، ونصر الله إياهم حتى عجز أعداؤهم أن يجدوا سبيلا إلى التشفي منهم، فاضطروا إلى مداراتهم.

(قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) هذا دعاء عليهم بازدياد الغيظ حتى يهلكوا، كقولهم: دُم بعزّ، وبت قرير عين، ونحو ذلك، والمراد بذلك ازدياد قوة الإسلام وعزّ أهله. وفي هذا عبرة للمسلمين لعلهم يتذكرون، فيعلموا أن ما حل بهم من الأرزاء ما كان إلا بزوال هذا الاجتماع، والتفرق بعد الاعتصام.

(إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) فيعلم ما تنطوى عليه صدوركم من البغضاء والحقد والحسد، ولا يخفى عليه ما تقولون في خلواتكم، وما يبديه بعضكم لبعض من تدبير المكايد ونصب الحيل للمؤمنين، وما تنطوى عليه صدور المؤمنين من حب الخير والنصح لكم، ويجازى كلّا على ما قدم من خير أو شر، واعتقد من إيمان أو كفر.

(إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ، وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها) أي إذا نالكم خير كانتصاركم على أعدائكم المقاومين لدعوتكم، ودخول الناس في دين الله أفواجا أحزنهم ذلك وعزّ عليهم. وإن نالتكم مساءة كالإخفاق في حرب، أو إصابة عدوّ لكم، أو حدوث اختلاف بين جماعتكم فرحوا بذلك.

قال قتادة في بيان ذلك: فإذا رأوا من أهل الإسلام ألفة وجماعة وظهورا على عدوهم، غاظهم ذلك وساءهم، وإذا رأوا من أهل الإسلام فرقة واختلافا، أو أصيب طرف من أطراف المسلمين سرّهم ذلك، وأعجبوا به وابتهجوا، وهم كلما خرج منهم قرن أكذب الله أحدوثته، وأوطأ محلته، وأبطل حجته، وأظهر عورته، وذلك قضاء الله فيمن مضى منهم وفيمن بقي إلى يوم القيامة اهـ.

(وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا) أي وإن تصبروا على مشاق التكاليف فتمتثلوا الأوامر، وتتقوا كل ما نهيتم عنه وحظر عليكم - ومن ذلك اتخاذ الكافرين بطانة - فلا يضركم كيدهم، لأنكم قد وفيتم لله بعهد العبودية، فهو يفى لكم بحق الربوبية، ويحفظكم من الآفات والمخافات كما قال سبحانه: « وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ».

قال بعض الحكماء: إذا أردت أن تكبت من يحسدك فاجتهد في اكتساب الفضائل.

وقد جرت سنة القرآن أن يذكر الصبر في كل مقام يشق على النفس احتماله، ولا شك أن حبس الإنسان سره عن وديده وعشيره، ومعامله وقريبه مما يشق عليه، فإن من لذات النفوس أن تفضى بما في الضمير إلى من تسكن إليه وتأنس به.

ولما نهى المؤمنين عن اتخاذ بطانة من دونهم من خلطائهم وعشرائهم وحلفائهم لما بدا منهم من البغضاء والحسد - حسن أن يذكّرهم بالصبر على هذا التكليف الشاق عليهم، واتقاء ما يجب اتقاؤه للسلامة من عواقب كيدهم.

وفي الآية عبرة للمسلمين في معاملة الأعداء، فإن الله أمر المؤمنين بالصبر على عداوة أولئك المبغضين الكافرين، واتقاء شرهم، ولم يأمرهم بمقابلة الشر بمثله، إذ من دأب القرآن ألا يأمر إلا بالمحبة والخير، ودفع السيئة بالحسنة كما قال: « ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ».

فإن تعذر تحويل العدو إلى محب، بدفع سيئاته بما هو أحسن منها - جاز دفع السيئة بمثلها من غير بغى، كما فعل النبي ﷺ مع بني النضير، فإنه حالفهم ووادّهم، فنكثوا العهد وخانوا، وأعانوا عليه عدوه من قريش وسائر العرب، وحاولوا قتله، فلم يكن هناك وسيلة لعلاجهم إلا قتالهم وإجلاؤهم من ديارهم.

(إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) أي إنه تعالى عالم بعمل الفريقين، ومحيط بأسباب ما يصدر من كل منهما، ومقدماته، ونتائجه وغاياته، فهو الذي يعتمد على إرشاده في معاملة أحدهما للآخر، ولا يمكن أن يعرف أحدهما من نفسه ما يعمله ذلك المحيط بعمله، وعمل من يناهضه، ويناصبه العداوة، فهداية الله للمؤمنين خير وسيلة للوصول إلى أغراضهم ومآربهم.

وهذه الجملة كالعلة لكون الاستعانة بالصبر والتمسك بالتقوى شرطين للنجاح.

وخلاصة المعنى - إن الله قد دلكم على ما ينجيكم من كيد أعدائكم، فعليكم أن تمتثلوا وتعلموا أنه محيط بأعمالهم، وهو القادر على أن يمنعهم مما يريدون بكم، فثقوا به، وتوكلوا عليه.

[سورة آل عمران (3): الآيات 121 الى 129]

وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)

وما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)

تفسير المفردات

غدا: خرج غدوة - والغدوة والغداة: ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس - وتبوىء أي تهيىء وتسوّى، والمقاعد واحدها مقعد: مكان القعود والمراد المواطن والمواقف، والهم: حديث النفس وتوجهها إلى الشيء، والطائفتان الجماعتان: وهما بنو سلمة وبنو حارثة من الأنصار أن تفشلا: أي تضعفا وتجبنا، وليهما: أي ناصرهما، والتوكل: من وكل فلان أمره إلى فلان إذا اعتمد عليه في كفايته ولم يتوله بنفسه، والأذلة: واحدهم ذليل، وهو من لا منعة له ولا قوة، وقد كانوا قليلى العدة من السلاح والدواب والزاد، والكفاية: سد الحاجة وفوقها الغنى، والإمداد: إعطاء الشيء حالا بعد حال، بلى: كلمة للجواب كنعم، لكنها لا تقع إلا بعد النفي وتفيد إثبات ما بعده، والفور: الحال التي لا بطء فيها ولا تراخى فمعنى من فورهم: أي من ساعتهم بلا إبطاء، ومسومين (بكسر الواو) من قولهم سوّم على القوم: أي أغار عليهم ففتك بهم، وقيل من التسويم بمعنى إظهار سيما الشيء وعلامته: أي معلمين أنفسهم أو خيلهم، وطرفا: أي طائفة وقطعة منهم، ويكبتهم من الكبت: وهو شدة الغيظ، أو الوهن الذي يقع في القلب.

استطراد دعت إليه الحاجة

من هذه الآيات إلى ستين آية بعدها نزلت في غزوة أحد، فوجب ذكر طرف من أخبار هذه الواقعة ليستعين به القارئ على فهمها، ويعرف مواقع أخبارها، ويستيقن من حكمها وأحكامها.

ولكن عليك أن تعرف قبل هذا، أن قريشا اغتاظت من هجرة النبي ﷺ وأصحابه إلى المدينة، وحقدوا على أهلها إيواءهم للمسلمين، وتهددوهم، فكان لا بد من الاستعداد للدفاع، وقد صار النبي ﷺ داعية للدين، ورئيسا لحكومة المدينة، وقائدا لجيشها.

هذا، وقد أدى دفاع المسلمين عن أنفسهم إلى سلسلة من الغزوات، بها انتشر الإسلام بسرعة لم تعهد في التاريخ، وقد اشترك النبي ﷺ في تسع منها أشهرها.

وقعة بدر

كانت قريش ترى أن محمدا وأصحابه شر ذمة من الثوار يجب أن تقتل، ولا سيما بعد أن صارت لهم القوة في المدينة وهي على طريق التجارة إلى الشام، فجدّ المسلمون في مهاجمة قوافل مكة، ونالوا أول انتصار لهم في السنة الثانية من الهجرة في غزوة بدر - بئر بين مكة والمدينة كانت لرجل يسمى بدرا فسميت باسمه - وكانت هذه الوقعة نصرا مؤزّرا للمسلمين، وكارثة كبرى على المشركين، وكان لها دوي عظيم في أرجاء البلاد العربية من أقصاها إلى أقصاها.

وقعة أحد

أحد جبل على نحو ميل من المدينة إلى الشمال ولما خذل المشركون في وقعة بدر ورجع فلّهم إلى مكة مقهورين - أخذ أبو سفيان يؤلّب المشركين على رسول الله ﷺ، إذ كان هو الرئيس بعد مقتل من قتل من صناديد قريش، فاجتمعوا للحرب وكانوا نحو ثلاثة آلاف، فيهم سبعمائة دارع، ومعهم مائتا فرس، وقائدهم أبو سفيان بن حرب، ومعه زوجه هند بنت عتبة، وكان جملة النساء خمس عشرة امرأة، ومعهن الدفوف يضربن بها ويبكين على قتلى بدر، ويحرضن المشركين على حرب المسلمين، وساروا من مكة حتى نزلوا مقابل المدينة في شوال سنة ثلاث من الهجرة، وكان رأى رسول الله ﷺ المقام في المدينة وقتالهم بها، ورأى باقى الصحابة الخروج لقتالهم، فخرج في ألف من الصحابة، إلى أن صار بين المدينة وأحد، فانخذل عنه عبد الله بن أبي ابن سلول في ثلث الناس، ونزل رسول الله ﷺ الشّعب من أحد، وجعل ظهره إلى الجبل، وكان عدة أصحاب رسول الله ﷺ سبعمائة، فيهم مائة دارع، ولم يكن معهم من الخيل سوى فرسين، وكان لواء رسول الله ﷺ مع مصعب بن عمير، وعلى ميمنة المشركين خالد بن الوليد، وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل، ولواؤهم مع بنى عبد الدار.

ولما التقى الجمعان قامت هند زوج أبي سفيان ومعها النسوة يضربن بالدفوف، وهي تقول:

ويها بنى عبد الدارويها حماة الأدبارضربا بكل بتّار

وقاتل حمزة قتالا شديدا، ولما قتل مصعب بن عمير أعطى النبي ﷺ الراية لعلي بن أبي طالب.

ولما انهزم المشركون طمعت الرماة في الغنيمة، وفارقوا المكان الذي أمرهم النبي ﷺ بملازمته، فأتى خالد بن الوليد مع خيل المشركين من خلف المسلمين، ووقع الصراخ أن محمدا قد قتل، وانكشف المسلمون وأصاب العدو منهم، وكان يوم بلاء على المسلمين، وكان عدة الشهداء من المسلمين سبعين رجلا، وعدة قتلى المشركين اثنين وعشرين رجلا، ووصل العدو إلى رسول الله ﷺ وأصابته حجارتهم حتى وقع وأصيب رباعيته، وشجّ في وجهه، وكلمت شفته، وجعل الدم يسيل على وجهه وهو يقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم، وجعل يدعوهم إلى ربهم، فنزل قوله تعالى: « لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ ». ودخلت حلقتان من حلق المغفر في وجه رسول الله ﷺ في الشجة، ونزع أبو عبيدة بن الجراح إحدى الحلقتين من وجهه ﷺ فسقطت ثنيّة من ثنياته، ثم نزع الأخرى فسقطت ثنيته الأخرى، وامتص مالك ابن سنان والد أبى سعيد الخدري الدم من وجنته، وطمع فيه المشركون وأدركوه يريدون منه ما الله عاصمه منه كما قال « وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ » وأصابت طلحة يومئذ ضربة شديدة شلت يده، وهو يدافع عن رسول الله ﷺ، ومثلت هند وصواحبها بالقتلى من أصحاب رسول الله ﷺ فجد عن الأنوف، وصلمن الآذان، واتخذن منها قلائد، وبقرت هند عن كبد حمزة ولا كتها، ولم تستسغها، وضرب أبو سفيان شدق حمزة بزجّ الرمح، وصعد الجبل، وصرخ بأعلى صوته، الحرب سجال يوم بيوم بدر، اعل هبل (صنم بالكعبة) أي ظهر دينك.

ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى: إن موعدكم بدر العام القابل، فقال النبي ﷺ: قولوا له: هو بيننا وبينكم، ثم سار المشركون إلى مكة، وبحث رسول الله ﷺ عن عمه حمزة فوجده مبقور البطن، مجدوع الأنف، مصلوم الأذن، فقال: لئن أظهرنى الله عليهم لأمثلنّ بثلاثين منهم، ثم أمر أن يسجّى عمه ببردته، ثم صلى عليه، فكبر سبع تكبيرات، ثم أتى بالقتلى فوضعهم إلى جانب حمزة واحدا بعد واحد حتى صلى عليهم ثنتين وسبعين صلاة، ثم أمر بحمزة فدفن، واحتمل ناس من المسلمين قتلاهم إلى المدينة فدفنوهم بها، ثم نهى رسول الله ﷺ عن ذلك وقال ادفنوهم حيث صرعوا.

إذا علمت ما تقدم سهل عليك فهم هذه الآيات، وما بعدها مما له صلة بهذه الوقعة الهامة في تاريخ الإسلام، وما فيها من عظة وعبرة للمسلمين، فقد كانت نبراسا لهم في كل حروبهم وأعمالهم في حياة النبي ﷺ وبعده - إذ علموا أن مخالفة القائد الأعظم لها أسوأ الآثار، وأن كل ما حدث فيها إنما جر إليه الطمع في الغنيمة، وجمع حطام الدنيا، وهو ظل زائل وعرض مفارق.

المعنى الجملي

بعد أن نهى الله المؤمنين عن اتخاذ بطانة من الأعداء الذين كاشفوهم بالعداوة، ثم أعلمهم ببغضهم إياهم، ثم أمرهم بالصبر والتقوى وأنهم إذا فعلوا ذلك لا يضرهم كيدهم شيئا - ذكّرهم في هذه الآيات بوقعة أحد، وما كان فيها من كيد المنافقين، إذ أذاعوا عن المؤمنين من قالة السوء ما أذاعوا، ثم خرجوا معهم، وانشقوا عنهم في الطريق، ورجعوا بثلث الجيش، ليوقعوا الفشل بين صفوفهم ويخذلوهم أمام عدوهم وما كان من كيد المشركين وتألبهم عليهم، ولم يكن لذلك من واق إلا الصبر حتى عن الغنيمة التي طمع فيها الرماة فتركوا مواقعهم، وإلا تقوى الله، ومن أهم دعائمها طاعة الرسول فيما به أمر وعنه نهى، وذكّرهم أيضا بما كان يوم بدر من نصرهم على عدوهم على قلتهم، إذ جعلوا الصبر جنتهم، وتقوى الله عدّتهم، فأصابوا من عدوهم ما أصابوا، وكان لهم الفلج عليهم مما لا يزال مكتوبا في صحيفة الدهر مثلا خالدا لصدق العزيمة، والبعد عن مطامع هذه الحياة.

الإيضاح

(وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ) أي واذكر لهم أيها الرسول وقت خروجك من بيتك غدوة وهي غدوة سحر يوم السبت سابع يوم من شوال من سنة ثلاث للهجرة تهيىء أمكنة للقتال، منها مواضع للرماة، ومواضع للفرسان، ومواضع لسائر المؤمنين.

(وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي والله سميع لما يقول المؤمنون لك فيما شاورتهم فيه من موضع لقائك عدوك وعدوهم، كقول من قال: اخرج بنا إليهم حتى نلقاهم في خارج المدينة، وقول من قال: لا تخرج إليهم وأقم بالمدينة حتى يدخلوها علينا، ولما تشير به أنت عليهم، عليم بأصلح تلك الآراء لك ولهم وبنيّة كل قائل من أخلص منهم في قوله وإن أخطأ في رأيه كالقائلين بالخروج إليهم، ومن لم يخلص في قوله وإن كان صوابا كعبد الله بن أبي ومن معه من المنافقين.

قال ابن جرير: ضرب الله مثلا أو مثلين على صدق وعده في الآية السابقة « وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا » بتذكيرهم بما كان يوم أحد من وقوع المصيبة بهم عند ترك الرماة الصبر (وذنب الجماعة أو لأمة لا يكون عقابه قاصرا على من اقترفه بل يكون عاما) وبما كان يوم بدر إذ نصرهم على قلتهم وذلتهم.

(إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا) أي والله سميع عليم حين همت بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس وكانا جناحى عسكر رسول الله ﷺ - أن تضعفا وتجبنا عن القتال حين رأوا انخزال عبد الله بن أبي ومن معه عن رسول الله. وهذا الهمّ لم يكن عزيمة ممضاة، ولكنها كانت حديث نفس وقلما تخلوا النفس عند الشدة من بعض الهلع فإن ساعدها صاحبها ذمّ وإن ردها إلى الثبات والصبر فلا بأس بما فعل ومما يدل على أن ذلك الهمّ لم يصل إلى حد العصيان قوله تعالى:

(وَاللَّهُ وَلِيُّهُما) أي متولى أمورهما لصدق إيمانهما لذلك صرف الفشل عنهما وثبتهما فلم يجيبا داعي الضعف الذي ألمّ بهما عند رجوع المنافقين وكانوا نحو ثلث العسكر بل تذكروا ولاية الله للمؤمنين فوثقا به وتوكلا عليه.

(وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي إن المؤمنين ينبغي أن يدفعوا ما يعرض لهم من جزع أو مكروه بالتوكل على الله لا بحولهم وقوتهم ولا بأنصارهم وأعوانهم، بعد أخذ الأهبة والعدّة تحقيقا لسنن الله في خلقه إذ جعل الأسباب مفضية إلى المسببات وهو الخالق للسبب والمسبب والموجد للصلة بينها.

فبقدرته تعالى ينصر الفئة القليلة على الفئة الكثيرة كما نصر المؤمنين يوم بدر على قلة منهم في العدد والعدد والسلاح وفى سائر عتاد الجيش ولذا قال:

(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) أي إنكم إن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا وينصركم ربكم كما نصركم على أعدائكم وأنتم يومئذ في قلة من العدد وفى غير منعة من الناس حتى أظهركم على عدوكم مع كثرة عددهم وعظيم منعتهم فأنتم اليوم أكثر عددا منكم حينئذ فإن تصبروا لأمر الله ينصركم كما نصركم في ذلك اليوم. ولا ضير في الذل إذا لم يكن عن قهر من البغاة والظالمين، ولم يكن المؤمنون بمقهورين ولا بمستذلّين من الكفار، وإنما كانت قوتهم أول تكوّنها.

(فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي فاتقوا الله ربكم بطاعته واجتناب محارمه، لتعدّوا أنفسكم لشكره، على ما منّ به عليكم من النصر على أعدائكم وإظهار دينكم، ولما هداكم له من الحق الذي ضل عنه مخالفوكم، إذ من لم يروّض نفسه بالتقوى يغلب عليه الهوى واتباع الشهوات، فلا يرجى منه الشكر لأنعم الله بصرفها فيما خلقت لأجله من الحكم والمنافع.

(إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي ولقد نصركم الله ببدر في ذلك الحين الذي كنت تقول فيه لهم: ألن يكفيكم إلخ.

أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وغيرهما عن الشّعبى أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمدّ المشركين، فشق ذلك عليهم، فأنزل الله - ألن يكفيكم أن يمدّكم ربكم - إلى قوله: من الملائكة مسوّمين، فبلغته هزيمة المشركين فلم يمدّ أصحابه، ولم يمدّوا بالخمسة الآلاف.

(أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ) قال الفخر الرازي في التفسير الكبير: أجمع أهل التفسير والسير أن الله تعالى أنزل الملائكة يوم بدر، وأنهم قاتلوا الكفار. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لم تقاتل الملائكة سوى يوم بدر، وفيما سواه كانوا عددا ومددا لا يقاتلون ولا يضربون.

(بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) أي بلى يكفيكم ذلك، ثم وعدهم بالزيادة بشرط الصبر والتقوى حثا لهم عليهما وتقوية لقلوبهم. أي إن تصبروا على لقاء العدو ومناهضتهم، وتتقوا معصية الله، ومخالفة نبيه ﷺ، ويجئكم المشركون من ساعتهم هذه - يمدكم بخمسة آلاف من الملائكة، ليعجل نصركم، ويسهل فتحكم.

قال ابن جرير: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر عن نبيه محمد ﷺ أنه قال للمؤمنين: ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة، ثم وعدهم بعد الثلاثة. الآلاف بخمسة آلاف إن صبروا لأعدائهم واتقوا، ولا دلالة في الآية على أنهم أمدوا بالثلاثة الآلاف، ولا بالخمسة الآلاف، ولا على أنهم لم يمدوا بهم، وقد يجوز أن يكون الله أمدهم على نحو ما رواه الذين أثبتوا أن الله أمدهم، وقد يجوز أن يكون الله لم يمدهم على نحو الذي ذكره من أنكر ذلك، ولا خبر عندنا صح من الوجه الذي يثبت أنهم أمدوا بالثلاثة الآلاف، ولا بالخمسة الآلاف، وغير جائز أن يقال في ذلك قول إلا بخبر تقوم الحجة به، ولا خبر فنسلم لأحد الفريقين قوله: غير أن في القرآن دلالة على أنهم قد أمدوا يوم بدر بألف من الملائكة، وذلك قوله: « إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ »، أما في أحد فالدلالة على أنهم لم يمدّوا أبين منها في أنهم أمدّوا، وذلك أنهم لو أمدوا لم يهزموا وينل منهم ما نيل اهـ.

والإمداد بالملائكة يصح أن يكون من قبيل الإمداد بالمال الذي يزيد في قوة القوم، وأن يكون من الإمداد بالأشخاص الذين ينتفع بهم ولو نفعا معنويا، وذلك أن الملائكة أرواح تلابس النفوس فتمدها بالإلهامات الصالحات التي تثبّتها وتقوى عزيمتها.

(وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ) قال الزجاج: وما جعل الله ذكر المدد إلا بشرى اهـ. يعني وما جعل الله ذلك القول الذي قاله الرسول لكم (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ) الآية إلا بشرى يفرج بها روعكم، وطمأنينة لقلوبكم التي طرقها الخوف من كثرة عدد عدوكم وعظيم استعداده.

وفي هذا إيماء إلى أن في ذكر الإمداد غايتين:

(1) إدخال السرور في القلوب.

(2) حصول الطمأنينة ببيان أن معونة الله ونصرته معهم، فلا يجبنوا عن المحاربة.

(وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) العزيز هو القوى الذي لا يمتنع عليه شيء، والحكيم هو الذي يدبّر الأمور على خير السنن وأقوم الوسائل، فيهدى لأسباب النصر الظاهرة والباطنة من يشاء، ويصرفهما عمن يشاء.

والمراد - أنه يجب توكلكم على الله لا على الملائكة، فيجب على العبد ألا يتكل على الأسباب فقط، بل يقبل على مسبب الأسباب، إذ هو الذي لا يعجز عن إجابة الدعوات، فعليكم ألا تتوقعوا النصر إلا من رحمته، ولا المعونة إلا من فضله وكرمه.

فإن حصل الإمداد بالملائكة فليس ذلك إلا جزءا من أسباب النصر، وهناك أسباب أخرى كإلقاء الرعب في قلوب الأعداء، ومعرفة المواقع، كما فعل النبي ﷺ إذ سلك إلى أحد أقرب الطرق وأخفاها على العدو، وعسكر في أحسن موضع وهو الشّعب (الوادي) وجعل ظهر عسكره إلى الجبل، وجعل الرماة من ورائهم، إلى نحو ذلك من الأسباب التي تمكنه من الظهور على عدوه، والغلبة عليه.

فلما اختل بعض هذه التدبيرات، وفات الرماة مواضعهم لم ينتصروا.

والذي عليه أهل العلم أنه لم يحصل يوم أحد إمداد بالملائكة ولا وعد من الله بذلك، وإنما أخبر عن رسوله ﷺ أنه قال ذلك لأصحابه وجعل الوعد به معلقا على شروط ثلاثة:

(1) الصبر. (2) التقوى. (3) إتيان الأعداء من فورهم، ولم تتحقق هذه الشروط، فلم يحصل الإمداد، ولكن القول أفاد البشارة والطمأنينة.

وحصل الإمداد بالفعل في وقعة بدر كما تقدم ذكره، وسيأتي مزيد تفصيل له في سورة الأنفال.

وربما سأل سائل عن الفارق بين اليومين فقال: لم أمدّ الله المؤمنين يوم بدر بملائكة يثبتون قلوبهم، وحرمهم من ذلك يوم أحد حتى أصاب العدو منهم ما أصاب! وجوابنا عن هذا أن المؤمنين كانوا يوم بدر في قلة وذلة من الضعف والحاجة، فلم يكن لهم اعتماد إلا على الله، وما وهبهم من قوة في أبدانهم ونفوسهم، وما أمرهم به من الثبات والذكر إذ قال: « إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ». ولم يكن في نفوسهم تطلع إلى شيء سوى النصر، وإقامة الدين والدفاع عن حوزته. فكانت أرواحهم بهذا الإيمان مستعدة لقبول الإلهام من أرواح الملائكة والتقوّى بالاتصال بها.

أما في يوم أحد فقد كان بعضهم في أول القتال قريبا من الافتتان بما كان من المنافقين، ومن ثم همت طائفتان منهم أن تفشلا، ولكن الله ثبتهما وباشرا القتال مع بقية المؤمنين حتى انتصروا وهزموا المشركين، ثم خرج بعضهم عن التقوى وخالفوا أمر الرسول ﷺ وطمعوا في الغنيمة وتنازعوا في الأمر ففشلوا وضعف استعداد أرواحهم، فلم ترتق إلى الاستمداد من أرواح الملائكة، فلم يكن لهم منهم مدد.

وحكمة ما حصل تمحيص المؤمنين كما سيأتي في قوله (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ) الآية، وتربيتهم بالفعل على إقامة سنن الله تعالى في ارتباط الأسباب بالمسببات، ومعرفة أن هذه السنن حاكمة حتى على الرسول، وأن قتل الرسول أو موته لا ينبغي أن يثبط الهمم، ولا يدعو إلى الانقلاب على الأعقاب، وأن كل ما يصيب العباد من مصايب فهو نتيجة عملهم، وعقوبة طبيعية على أفعالهم، إلى نحو ذلك من الأسرار التي ستعلمها بعد.

روى أحمد ومسلم وغيرهما عن عمر بن الخطاب « أن النبي ﷺ كان يدعو يوم بدر: اللهم أنجز ما وعدتني، اللهم أنجز ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا - وما زال يستغيث ربه ويدعوه حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداؤه فرداه به ثم التزمه من ورائه، ثم قال: يا نبي الله كفاك مناشدتك لربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، وأنزل الله يومئذ « إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ » الآية.

(لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ) أي إن المقصود من نصركم بامداد الملائكة أن يهلك طائفة منهم، ويخزى طائفة أخرى ويغيظهم بالهزيمة، فيرجعوا خائبين لا أمل لهم في نصر.

وعبر بالطرف لأنه أقرب إلى المؤمنين من الوسط، فهو أول ما يوصل إليه من الجيش، وقد أهلك الله من المشركين طائفة أول الحرب يوم أحد، قدر عددهم بنحو ثمانية عشر رجلا.

وعبر بالخيبة دون اليأس، لأن الأولى لا تكون إلا بعد توقع النصر وانتظاره، والثانية بعده وبدونه، وضد الخيبة الظفر، وضد اليأس الرجاء.

ثم أتى بجملة معترضة بين ما قبلها وما بعدها لبيان أن الأمر كله بيد الله فقال:

(لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) أي ليس إليك أيها الرسول من أمر خلقى إلا أن تنفذ فيهم أمري، وتنتهى فيهم إلى طاعتى، ثم أمرهم بعد ذلك، والقضاء فيهم بيدي دون غيري، أقضى فيهم وأحكم بالذي أشاء من التوبة، أو عاجل العذاب بالقتل والنقم، أو آجله بما أعددت لأهل الكفر بي من العذاب في الآخرة.

(أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) أي ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم أو يتوب عليهم أو يعذبهم، ليس لك من الأمر شيء.

روى أحمد والبخاري والترمذي والنسائي عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال يوم أحد: اللهم العن أبا سفيان، اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم العن سهيل بن عمرو، اللهم العن صفوان بن أمية فنزلت هذه الآية فتاب الله عليهم كلهم ».

وروى أحمد ومسلم عن أنس « أن النبي ﷺ كسرت رباعيته يوم أحد، وشجّ في وجهه حتى سال الدم على وجهه، فقال: كيف يفلح قوم فعلوا بنبيهم هذا وهو يدعوهم إلى ربهم، فأنزل الله (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) الآية.

وإن لما حدث في وقعة أحد لحكما دينية واجتماعية وحربية يمكن أن نجملها لك فيما يلي:

كان المؤمنون في وقعة بدر واثقين بنصر الله لنبيه وإظهار دينه، لم يضعف إيمانهم بذلك قلتهم وضعفهم، ولا إخراج المشركين للمهاجرين من ديارهم وأموالهم، ولما رأوا تباشير النصر ازدادوا إيمانا بأنهم المنصورون، وأن جندهم هم الغالبون ولكن خيّل إلى الكثير منهم أن النصر سيكون بالآيات، وخوارق العادات، من غير التزام السنن الإلهية التي جعلها الله في هذا الكون، وبنى عليها نظم الحياة، وأن وجود الرسول بين ظهرانيهم، ودعاءه ربه واستغاثته إياه أشد نكالا بالعدو من اتباع السنن الظاهرة التي من أهمها التزام النظام العسكري وإطاعة القائد، وجودة التعبئة، وحسن الحيلة، والتدبير في وضع الخطط الحربية، إلى نحو أولئك. وفاتهم أن الدين الإسلامي دين الفطرة، لا دين خوارق العادات، وسلوك طريق المعجزات.

فلما قصّروا في الأخذ بالأسباب يوم أحد ظهر عليهم عدوهم، وجرح الرسول، وإن كان هو لم يقصر ولم ينهزم، ولكن البلاء إذا نزل لا يخص من كان السبب في وجوده كما قال تعالى: « وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً » وكان من هذا درس عظيم للمؤمنين لمسوه بأيديهم وعلموا أن الرسول بشر ليس له من أمر العباد شيء، وإنما هو معلّم وأسوة حسنة فيما يعلم، والأمر كله لله يدبره بمقتضى سننه في الخلق.

هذا البيان الإلهي في تلك الموقعة التي رأوا نتائجها بأعينهم - برهان ساطع أمام الملأ على نبوة محمد ﷺ، إذ لو كان زعيما سياسيا، ومؤسسا لبناء مملكة يريد توطيد دعائمها بفتوحه لأطراف البلاد، لما قال مثل هذا القول في مواطن الدفاع، وحب النصر على الأعداء. ولا سبيل للنصر على العدو إلا بالاستعداد والحيطة، وحسن التدبير والكياسة الحربية، كما يرشد إلى ذلك قوله تعالى « وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ » ولا قوة إلا بالعلم والمال، ولا مال إلا إذا انتشر العدل في الأمة وبث بين أفرادها روح التعاون والشورى في مهامّ الأمور كما قال: « وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ».

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) قال ابن جرير: أي لله جميع ما بين أقطار السموات والأرض من مشرق الشمس إلى مغربها، دونك ودونهم، يحكم فيهم بما شاء، ويقضى فيهم بما أحب، فيتوب على من شاء من خلقه العاصين أمره ونهيه، ثم يغفر له، ويعاقب من شاء منهم على جرمه، فينتقم منه، فهو الغفور يستر ذنوب من أحب أن يستر عليه ذنوبه من خلقه، بفضله عليهم بالعفو والصفح، وهو الرحيم بهم في تركه عقوبتهم عاجلا على عظيم ما يأتون من المآثم اهـ.

وفي هذا تأديب من الله لرسوله، وإعلام له بأن الدعاء على المشركين ولعنهم مما لم يكن ينبغي منك، إذ الأمر كله لله، وليس لأحد من أهل السموات والأرض شركة معه ولا رأى ولا تدبير فيهما، وإن كان ملكا مقرّبا أو نبيا مرسلا، إلا من سخره الله للقيام بشىء من ذلك، فيكون خاضعا لذلك التسخير، لا يستطيع الخروج فيه عن السنن العامة التي قام بها نظام الكون ونظام الاجتماع.

[سورة آل عمران (3): الآيات 130 الى 136]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافًا مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) والَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136)

تفسير المفردات

ضعف الشيء: مثله الذي يثنيه، فضعف الواحد واحد، لأنه إذا أضيف إليه ثناه، وإذا ضاعفت الشيء منحت إليه مثله مرة فأكثر، وهذه المضاعفة إما في الزيادة فقط التي هي الربا، وإما بالنسبة إلى رأس المال كما هو حاصل الآن فقد يستدين الإنسان المائة بثلاثمائة، واتقوا الله: أي اجعلوا لأنفسكم وقاية من عذابه، أعدت: أي هيئت، والمسارعة إلى المغفرة والجنة المبادرة إلى الأسباب الموصلة إليهما من الأعمال الصالحة كالإقبال على الصدقات وعمل الخيرات والتوبة عن الآثام كالربا ونحوه، وعرضها السموات والأرض: يراد به وصفها بالسعة، والعرب تقول دعوى عريضة أي واسعة عظيمة. والسراء: الحال التي تسر، والضراء: الحال التي تضر، وفسرهما ابن عباس باليسر والعسر أي السعة والضيق، ويقال كظم القربة أي ملأها وسدّ رأسها، وكظم الباب سده، وكظم البعير جرّته إذا ازدردها وكف عن الاجترار، ثم قالوا كظم الغيظ فهو كاظم، وكظمه الغيظ والغم أخذ بنفسه فهو مكظوم وكظيم قال تعالى: « ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ » وأخذ فلان بكظم فلان: إذا أخذ بمجرى نفسه، والغيظ ألم يعرض للنفس إذا هضم حق من حقوقها المادية كالمال أو المعنوية كالشرف والعرض، فيزعجها ذلك ويحفزها على التشفي والانتقام، والعفو عن الناس: التجاوز عن ذنوبهم وترك مؤاخذتهم مع القدرة على ذلك، والإحسان: هنا الإنعام والتفضل على غيرك على وجه لا مذمة فيه ولا قبح، والفحشاء: الفعلة الشنيعة القبح التي يتعدى أثرها إلى غيرك كالزنا والغيبة ونحوهما، وظلم النفس: هو الذنب الذي يكون مقصورا على الفاعل كشرب الخمر ونحوه، وذكر الله عند الذنب يكون بتذكر وعده ووعيده، وأمره ونهيه، وعظمته وجلاله، والإصرار: الشدّ من الصر، ويراد به شرعا الاقامة على القبيح من غير استغفار ورجوع بالتوبة.

المعنى الجملي

بعد أن نهى سبحانه المؤمنين عن اتخاذ البطانة من اليهود وأمثالهم من المشركين بشروط ذكرها هي مثار الضرر، ثم بين لهم أن كيدهم لا يضرهم ما اعتصموا بتقوى الله وطاعته وطاعة رسوله ثم ذكرهم بما يدل على صدق ذلك بما حدث لهم حين صدقوا الله ورسوله من الفوز والفلاح في وقعة بدر، وبما حدث لهم حين عصوا الله وخالفوا أمر القائد وهو الرسول ﷺ في وقعة أحد، وكيف حل بهم البلاء، ونزلت بهم المصايب مما لم يكونوا ينتظرون القليل منها.

نهاهم هنا عن شر عمل من أعمال اليهود ومن اقتدى بهم من المشركين وهو الربا، مع بيان أن الربح المتوقع منه ليس هو السبب في السعادة، بل السعادة إنما تكون في تقوى الله وامتثال أوامره، وفى ذلك حث على بذل المال في سبيل الله كالدفاع عن الملة، وتنفير من البخل والشح والكلب على جمع المال بكل وسيلة مستطاعة، وشر تلك الوسائل أكل الربا أضعافا مضاعفة.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافًا مُضاعَفَةً) أي لا تأكلوا الربا حال كونه أضعافا مضاعفة بتأخير أجل الدّين الذي هو رأس المال، وزيادة المال إلى ضعف ما كان كما كنتم تفعلون في الجاهلية، فإن الإسلام لا يبيح لكم ذلك، لما فيه من القسوة واستغلال ضرورة المعوز وحاجته.

قال ابن جرير: لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة في إسلامكم بعد إذ هداكم الله، كما كنتم تأكلونه في جاهليتكم. وكان أكلهم ذلك في جاهليتهم أن الرجل منهم يكون له على الرجل مال إلى أجل، فإذا حلّ الأجل طلبه من صاحبه، فيقول له الذي عليه المال: أخّر دينك عنى وأزيدك على مالك، فيفعلان ذلك، فذلك هو الربا أضعافا مضاعفة، فنهاهم الله عز وجل في إسلامهم عنه اهـ.

وقال الرازي: كان الرجل في الجاهلية إذا كان له على إنسان مائة درهم إلى أجل، فإذا جاء الأجل ولم يكن المديون واجدا لذلك المال قال الدائن زد في المال حتى أزيد في الأجل، فربما جعله مائتين، ثم إذا حل الأجل الثاني فعل مثل ذلك ثم إلى آجال كثيرة، فيأخذ بسبب تلك المائة أضعافها، فهذا هو المراد من قوله تعالى: « أَضْعافًا مُضاعَفَةً » اهـ.

وربا الجاهلية هو ما يسمى في عصرنا بالربا الفاحش وهو ربح مركب، وهذه الزيادة الفاحشة كانت بعد حلول الأجل، ولا شيء منها في العقد الأول، كان يعطيه المائة بمائة وعشرة أو أكثر أو أقل، وكأنهم كانوا يكتفون في العقد الأول بالقليل من الربح، فإذا حل الأجل ولم يقض الدين وهو في قبضتهم اضطروه إلى قبول التضعيف في مقابلة الإنساء، وهذا هو الربا النسيئة، قال ابن عباس: إن نص القرآن الحكيم ينصرف إلى ربا النسيئة الذي كان معروفا عندهم اهـ.

وعلى الجملة فالربا نوعان:

(1) ربا النسيئة وهو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، وهو أن يؤخر دينه ويزيده في المال، وكلما أخره زاد في المال حتى تصير المائة آلافا مؤلفة، وفى الغالب لا يفعل مثل ذلك إلا معدم محتاج، فهو يبذل الزيادة ليفتدى من أسر المطالبة، ولا يزال كذلك يعلوه الدين حتى يستغرق جميع موجوده، فيربو المال على المحتاج من غير نفع يحصل له، ويزيد مال المرابى من غير نفع يحصل منه لأخيه، فيأكل مال أخيه بالباطل، ويوقعه في المشقة والضرر، فمن رحمة الله وحكمته وإحسانه إلى خلقه أن حرّم الربا ولعن آكله ومؤكله وكاتبه وشاهده، وآذن من لم يدعه بحربه وحرب رسوله، ولم يجىء مثل هذا الوعيد في كبيرة غيره، ولهذا كان من أكبر الكبائر.

(2) ربا الفضل كأن يبيع قطعة من الحلي كسوار بأكثر من وزنها دنانير، أو يبيع كيلة من التمر الجيد بكيلة وحفنة من التمر الرديء مع تراضى المتبايعين، وحاجة كل منهما إلى ما أخذه.

ومثل هذا لا يدخل في نهى القرآن ولا في وعيده، ولكنه ثبت بالسنة فقد روى ابن عمر قوله ﷺ « لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل سواء بسواء، ولا تشفوا بعضه على بعض إني أخشى عليكم الرّماء - الربا - ».

وهذه الآية هي أولى الآيات نزولا في تحريم الربا، وآيات البقرة نزلت بعد هذه، بل هي آخر آيات الأحكام نزولا، وقد يقول بعض المسلمين الآن: إنا نعيش في عصر ليس فيه دول إسلامية قوية تقيم الإسلام وتستغنى عمن يخالفها في أحكامها بل زمام العالم في أيدي أمم مادية تقبض على الثروة، وبقية الشعوب عيال عليها، فمن جاراها في طرق الكسب - والربا من أهم أركانه - أمكنه أن يعيش معها، وإلا كان مستعبدا لها.

أفلا تقضى ضرورة كهذه على الشعوب الإسلامية التي تتعامل مع الأوربيين كالشعب المصري مثلا أن تتعامل بالربا كي تحفظ ثروتها وتنميها، وحتى لا يستنزف الأجنبي ثروتها وهي مادة حياتها؟

وجوابا عن هذا نقول:

إن المحرمات في الإسلام ضربان:

(1) ضرب محرم لذاته لما فيه من الضرر، ومثل هذا لا يباح إلا لضرورة كأكل الميتة وشرب الخمر. والربا المستعمل الآن هو ربا النسيئة وهو متفق على تحريمه، فإذا احتاج المسلم إلى الاستقراض ولم يجد من يقرضه إلا بالربا فالإثم على آخذ الربا دون معطيه، لأن له فيه ضرورة.

(2) ضرب محرم لغيره وهو ربا الفضل لأنه ربما كان سببا في ربا النسيئة، وهو يباح للضرورة والحاجة أيضا.

والمسلم يعرف إن كان محتاجا إلى الربا ومضطرا إليه أم لا، فإن كان محتاجا حل له تناوله ويكون مثله أكل الميتة وشرب الخمر ونحوهما، وإلا لم يحل ذلك، إذ الربا يضر بإيمان المؤمنين، وإن كان زيادة في مال الرابى فهو في الحقيقة نقصان، لأن الفقراء الذين يشاهدونه يأخذ أموالهم بهذا التعامل يلعنونه ويدعون عليه، وبذلك يسلب الله الخير من يديه، إن عاجلا أو آجلا في نفسه وماله، وتتوجه إليه المذمة من الناس لقساوة قلبه، وغلظ كبده، وقد ورد في الأثر: إن آخذ الربا لا يقبل منه صدقة ولا جهاد ولا حج ولا صلاة.

ثم أكد النهي فقال:

(وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي واتقوا الله فيما نهيتم عنه من الأمور التي من جملتها الربا، ولا تكن قلوبكم قاسية على عباده من ذوي الحاجة والبؤس، فتحملوهم من الدين مالا تحتمله طاقتهم، وتستغلّوا عوزهم وحاجتهم، فتشتطوا في الربا حتى تخربوا بيوتهم وتجعلوهم من ذوي الفاقة والمتربة - لعل ذلك يكون سبب فلا حكم في دنياكم، فإن الرحمة وحسن المعونة يوجدان المحبة في القلوب، والمحبة أساس السعادة في الدنيا والآخرة.

ثم زاد النهى تأكيدا فقال:

(وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) أي وابتعدوا عن متابعة المرابين، وتعاطى ما يتعاطون من أكل الربا الذي يفضى بكم إلى دخول النار التي أعدها الله للكافرين.

وفي هذا من شديد الزجر ما لا يخفى فان المؤمنين الذين خوطبوا باتقاء المعاصي إذا علموا أنهم متى فارقوا التقوى أدخلوا هذه النار كان انزعاجهم عن المعاصي أتم، ومن ثم روى عن أبي حنيفة رحمة الله أنه كان يقول: إن هذه أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدّة للكافرين إن لم يتقوه في اجتناب محارمه.

ثم بالغ في النهى وشدّد فيه أيما تشديد فقال:

(وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي وأطيعوا الله ورسوله فيما نهيا عنه من أكل الربا، وما أمرا به من الصدقة، كى ترحموا في الدنيا بصلاح حال المجتمع وفى الآخرة بحسن الجزاء على أعمالكم.

وقد ورد في الأثر « الراحمون يرحمهم الرحمن » رواه أبو داود والترمذي.

(وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) أي وبادروا إلى العمل لما يوصلكم إلى مغفرة ذنوبكم ويدخلكم جنة واسعة المدى أعدّها الله لمن اتقاه وامتثل أوامره، وترك نواهيه، فاعملوا الخيرات، وتوبوا عن الآثام كالربا ونحوه، وتصدقوا على ذوي البؤس والفاقة.

روي أن رسول هرقل ملك الروم قدم على النبي ﷺ بكتاب هرقل وفيه: إنك كتبت تدعونى إلى جنة عرضها السموات والأرض فأين النار! فقال رسول الله ﷺ: سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار [يريد أنه إذا دار الفلك حصل النهار في جانب من العالم، والليل في ضد ذلك الجانب، فكذا الجنة في جهة العلو والنار في جهة السفل ].

وقال أبو مسلم: إن العرض هنا ما يعرض من الثمن في مقابلة المبيع أي ثمنها لو بيعت كثمن السموات والأرض، والمراد بذلك عظم مقدارها وجلالة خطرها، وأنه لا يساويها شيء وإن عظم.

(أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) أي هيئت لهم وفى الآية دليل على أن الجنة مخلوقة الآن، وأنها خارجة عن هذا العالم، إذ أنها تدل على أن الجنة أعظم منه، فلا يمكن أن يكون محيطا بها.

ثم وصف الله المتقين بجملة أوصاف كلها مناقب ومفاخر فقال:

(1) (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ) أي الذين ينفقون في السعة والضيق، فينفقون في كل حال بحسبها، ولا يتركون الإنفاق بوجه.

وأثر عن عائشة أنها تصدقت بحبة عنب، وأثر عن بعض السلف أنه تصدق ببصلة، وفى الحديث « اتقوا النار ولو بشقّ تمرة، وردوا السائل ولو بظلف محرق ».

وقد بدأ الله وصف المتقين بالإنفاق لأمرين:

(ا) أنه جاء في مقابلة الربا الذي نهى عنه في الآية السابقة، إذ أن الصدقة إعانة للمعوز المحتاج، وإطعام له ما لا يستحقه، والربا استغلال الغنى حاجة ذلك المعوز لأكل أمواله بلا مقابل فهي ضده. ومن ثم لم يرد في القرآن ذكر الربا إلا ذم وقبّح، ومدحت معه الزكاة والصدقة، اقرأ قوله: « وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ، وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ، فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ » وقوله « يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ ».

(ب) أن الانفاق في حالى اليسر والعسر أدل على التقوى، لأن المال عزيز على النفس، فبذله في طرق الخير والمنافع العامة التي ترضى الله يشق عليها، أما في السراء فلما يحدثه السرور والغنى من البطر والطغيان وشدة الطمع وبعد الأمل، وأما في الضراء فلأن الإنسان يرى أنه أجدر أن يأخذ لا أن يعطى، ولكنه مع هذه الحال لا يعدم وقتا يجد فيه ما ينفقه في سبيل الله ولو قليلا.

وحب الخير هو الذي يحرك في الإنسان داعية البذل لإنفاق هذا العفو القليل، فإن لم توجد تلك الداعية على حسب الفطرة فالدين ينميها ويقويها، إذ هو قد جاء لتعديل الأمزجة المعتلة وإصلاح الفطر المعوجة.

وقد أرشدنا هدى الدين إلى أن النفوس يجب أن تكون كريمة في ذاتها مهما ألح عليها الفقر وأن تتعود الإحسان بقدر الطاقة لتسمو عن الرذائل التي قد تجرها إليها الحاجة، فتبعد بقدر الإمكان عن ذل السؤال ومد الأيدي إلى الناس لطلب الإحسان وإراقة ماء الوجه أمام بيوت الأغنياء لما في ذلك من الذلة والصغار وهي ما لا يرضاها مؤمن لنفسه يعتقد أن الأرزاق في قبضة الله وهو الذي يعطي ويمنع، وقد جعل لكسب المال أوجها كثيرة يستطيع المرء أن يسعى إليها ليحصل عليه، وقد وردت أحاديث كثيرة في الحض على اكتساب المال من كل طريق حلال والبعد عن ذل السؤال.

إلا أن بذل القليل من الأفراد والجماعات إذا اجتمع صار كثيرا، ومن ثم كانت الأمم الراقية تقيم مشروعاتها النفاعة في الزراعة أو الصناعة أو في بناء الملاجئ والمستشفيات بالتبرعات القليلة التي تؤخذ من أفرادها، وبذا تقدمت في سائر فنون المدنية والحضارة.

ولذا حث الله على بذل الخير ولو قليلا بقوله: « لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ، وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا ما آتاها، سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ».

ومن هذا ترى أن الله جعل من أهم علامات التقوى بذل المال، كما أن الشح به علامة عدم التقوى، والتقوى هي السبيل الموصل إلى الجنة.

فانظر إلى أهل الثراء الذين يقبضون أيديهم عن بذل المعونة للأفراد والجماعات ويكنزون في صناديقهم القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، هل تغنيهم صلاتهم وصومهم شيئا مع هذا الشح البادي على وجوههم؟ فما هي إلا حركات وأعمال، مرنوا عليها دون أن يكون لها الأثر الناجع في نفوسهم، إذ الصلاة التي يقبلها الله، والصوم الذي يرضاه الله، هو ما ينهى عن الفحشاء والمنكر، وأي منكر أشد من الضنّ بالمال حين الحاجة إليه لنفع أمة أو فرد.

ولو جاد المسلمون بأموالهم عند الحاجة إلى البذل لكان لنا شأن آخر بين أرباب الديانات الأخرى، ولكنا من ذوي العزة والمكانة بينها.

ولكنا صرنا إلى ما ترى، عسى الله أن يغير من نفوس المسلمين، ويرشدهم إلى ما فيه صلاحهم باتباع أوامر كتابهم، واجتناب نواهيه، ففي ذلك السعادة لهم في الدنيا والأخرى.

(2) (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) أي والممسكين عليه الكافّين عن إمضائه مع القدرة عليه، ومن أجاب داعي الغيظ وتوجه بعزيمة إلى الانتقام لا يقف عند حد الاعتدال، ولا يكتفى بالحق، بل يتجاوزه إلى البغي، ومن ثم كان من التقوى كظمه، وقد أثر عن عائشة رضي الله عنها أن خادما لها غاظها فقالت: لله درّ التقوى، ما تركت لذي غيظ شفاء.

وقال عليه الصلاة والسلام « ما من جرعتين أحبّ إلى الله من جرعة موجعة يجرعها صاحبها بصبر وحسن عزاء، ومن جرعة غيظ كظمها »

وقال « ليس الشديد بالصّرعة لكنه الذي يملك نفسه عند الغضب ».

وخلاصة ذلك - هم الذين يكظمون غيظهم عن الإمضاء والنفاذ، ويردونه في أجوافهم، وهذا كقوله في الآية الأخرى « وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ».

(3) (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) أي والذين يتجاوزون عن ذنوب الناس ويتركون مؤاخذتهم مع القدرة على ذلك، وتلك منزلة من ضبط النفس وملك زمامها قلّ من يصل إليها، وهي أرقى من كظم الغيظ، إذ ربما كظم المرء غيظه على الحقد والضغينة.

أخرج الطبراني عن أبي بن كعب أن رسول الله ﷺ قال: « من سره أن يشرف له البنيان، وترفع له الدرجات، فليعف عمن ظلمه، ويعط من حرمه، ويصل من قطعه ».

وفي الآية إيماء إلى حسن موقع عفوه عليه الصلاة والسلام عن الرماة، وترك مؤاخذتهم بما فعلوا من مخالفة أمره، وإرشاد له إلى ترك ما عزم عليه من مجازاة المشركين

بما فعلوه بحمزة رضي الله عنه حتى قال حين رآه قد مثّل به: لأمثلنّ بسبعين منهم.

(4) (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) أي والله يحب الذين يتفضلون على عباده البائسين ويواسونهم ببعض ما أنعم الله به عليهم شكرا له على جزيل نعمائه.

أخرج البيهقي أن جارية لعلي بن الحسين رضي الله عنهما جعلت تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة، فسقط الإبريق من يدها فشجه، فرفع رأسه فقالت: إن الله يقول (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) فقال لها قد كظمت غيظى، قالت (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) قال قد عفا الله عنك، قالت (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) قال اذهبي فأنت حرة لوجه الله تعالى.

والإحسان إلى غيرك إما بإيصال النفع إليه، وهو الذي عناه الله بقوله (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) ويدخل فيه إنفاق العلم بتعليم الجاهلين وهداية الضالين، وإنفاق المال في وجوه الخير والعبادات.

قال ﷺ « السخي قريب من الله قريب من الجنة، قريب من الناس، بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله، بعيد من الجنة، بعيد من الناس، قريب من النار ».

وإما بدفع الضر عنه إما في الدنيا بألا يقابل الإساءة بإساءة أخرى وهو ما عناه الله بقوله (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ)

قال ﷺ « من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا » وإما في الآخرة بأن يعفو عماله عند الناس من التبعات والحقوق، وهذا هو المراد بقوله (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) ومن ثم كانت هذه الآية جامعة لوجوه الإحسان إلى غيرك.

وقد ذكر الله الجزاء على الإحسان بقوله (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) إذ محبة الله للعبد عظم درجات الثواب.

(5) (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) أي والذين إذا فعلوا من القبيح ما يتعدى أثره إلى غيره كالغيبة ونحوها، أو فعلوا ذنبا يكون مقصورا عليهم كشرب الخمر ونحوه - ذكروا عند ذلك وعد الله ووعيده، وعظمته وجلاله، فرجعوا إليه تعالى طالبين مغفرته، راجين رحمته، علما منهم أنه لا يغفر الذنوب سواه، فهو الفعال لما يشاء بمقتضى حكمته وعلمه الواسع.

(وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ) جملة جاءت معترضة بين ما قبلها وما بعدها، تصويبا لفعل التائبين، وتطييبا لقلوبهم، وبشارة لهم بسعة الرحمة وقرب المغفرة، وإعلاء لقدرهم بأنهم علموا أن لا مفزع للمذنبين إلا فضله وكرمه. وأن من كرمه أن التائب من الذنب عنده كمن لا ذنب له، وأن العبد إذا التجأ إليه، وتنصل عن الذنب بأقصى ما يقدر عليه عفا عنه وتجاوز عن ذنوبه وإن جلّت، فإن عفوه أجلّ وكرمه أعظم، كما أن فيها تحريضا للعباد على التوبة وحثا لهم عليها، وتحذيرا من اليأس والقنوط.

(وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي ولم يقيموا على القبيح من غير استغفار ورجوع بالتوبة، وقد قال عليه الصلاة والسلام « لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار »

يريد ﷺ أن الصغيرة مع الإصرار كبيرة، وقوله: وهم يعلمون أي بقبحه والنهي عنه والوعيد عليه، والفائدة من ذكر هذا بيان أنه إذا لم يعلم بقبحه يعذر في فعله.

والمؤمن المتقى لا يصر على الذنب وهو يعلم نهى الله عنه ووعيده عليه، إذ يعلم أن الذنب فسوق وخروج عن نظام الفطرة السليمة، واعتداء على حقوق الشريعة.

فالآية تومىء إلى أن المتقين الذين أعد الله لهم الجنة لا يصرون على ذنب يرتكبونه صغيرا كان أو كبيرا، لأن ذكرهم لله يمنعهم أن يقيموا على الذنوب. إذ الإصرار على الصغائر يجعلها كبائر، ورب كبيرة أصابها المؤمن بجهالة، وبادر إلى التوبة منها فكانت مذكّرة له بضعفه البشرى، ودليلا على أن للغضب سلطانا عليه - تكون دون صغيرة يقترفها مستهينا بها مصرّا عليها مستأنسا بها، فتزول من نفسه هيبة الشريعة، ويتجرأ بعد ذلك على ارتكاب الكبائر فيكون من الهالكين، وقد رووا حديث « ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة » وقد ضعفه المحدثون، إلى أنه ليس المراد من الاستغفار الاستغفار باللسان، وأنه كاف في التوبة، وأن تحريك اللسان بكلمة أستغفر الله مرة أو عدة مرات يرفع إثم الذنب، بل استغفار فيه هو التوبة النصوح التي عرفت معناها في قوله: « وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ » لا كون اللفظ كفارة للذنب.

(أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) أي إن أولئك المتقين الذين وصفوا بما تقدم من الصفات - لهم أمن من العقاب، ولهم ثواب عظيم عند ربهم في جنات تجرى من تحتها الأنهار.

(وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) أي إن هذا الجزاء إنما هو على تلك الأعمال التي منها ما هو نافع للأمة كإنفاق المال في وجوهه، ومنها ما هو إصلاح لنفس العامل، فهو أجر للعمل وجزاء عليه، ويتفاوت الناس في التقوى بحسب ذلك.

وخلاصة ذلك - نعم هذا الجزاء الذي ذكر من المغفرة والجنات أجرا للعاملين تلك الأعمال بدنية كانت كانفاق المال ونفسية كعدم الإضرار بغيرك على تفاوت في ذلك.

[سورة آل عمران (3): الآيات 137 الى 141]

قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141)

تفسير المفردات

خلت: مضت، السنن: واحدها سنة وهي الطريقة المعتبرة والسيرة المتبعة، من قولهم سن الماء إذا والى صبه، شبهت به السنة لتوالى أجزائها على نهج واحد، بيان أي إيضاح لسوء عاقبة ما هم عليه من التكذيب، هدى أي زيادة بصيرة وإرشاد إلى طريق الدين القويم، والموعظة: ما يلين القلب ويدعو إلى التمسك بما فيه طاعة، الوهن: الضعف في العمل وفى الرأي وفى الأمر، والحزن: ألم يعرض للنفس إذا فقدت ما تحب، والقرح (بالضم والفتح): عض السلاح ونحوه مما يجرح الجسم، وقيل هو بالفتح الأثر وبالضم الألم، والأيام واحدها يوم: وهو الزمن المعروف والمراد بالأيام هنا أزمنة الفوز والظفر، نداولها: نصرّفها فنديل تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء كما وقع ذلك في يومى بدر وأحد وأصل المداولة نقل الشيء من واحد إلى آخر يقال تداولته الأيدي إذا انتقل من واحد إلى آخر. والشهداء واحدهم شهيد: وهو قتيل المعركة، وقيل واحدهم شاهد، والتمحيص التخليص من كل عيب، ومحّص الذهب بالنار خلصه مما يشوبه، ومحص الله التائبين من الذنوب طهرهم منها، والمحق: النقصان، ومنه المحاق لآخر الشهر، وفى الأساس: محق الشيء محاه وذهب به.

المعنى الجملي

كان الكلام في سابق الآيات في قصة أحد وأهم أحداثها، ثم ذكرهم بوقعة بدر وما كتب لهم فيها من النصر على قلة عددهم وعددهم.

وفي هذه الآيات وما بعدها يذكرهم بسنن الله في خليقته، وأن من سار على نهجها أدى به ذلك إلى السعادة، ومن حاد عنها ضل وكانت عاقبته الشقاء والبوار، وأن الحق لا بد أن ينتصر على الباطل مهما كانت له أول الأمر من صولة، كما وعد الله بذلك على ألسنة رسله. « وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ » وقال: « وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ »

الإيضاح

(قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) أي إن أمر البشر في اجتماعهم وما يعرض فيه من مصارعة الحق للباطل، وما يلابس ذلك من الحرب والطعان والنزال والملك والسيادة يجرى على طرق قويمة وقواعد ثابتة اقتضتها الحكمة والمصلحة العامة.

وقد جاء ذكر السنن الإلهية في مواضع من الكتاب الكريم كقوله: « قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ، وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ » وقوله: في سياق دعوة الإسلام « وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا ».

والمراد بذلك أن مشيئة الله في خلقه تسير على سنن حكيمة من سار عليها ظفر وإن كان ملحدا أو وثنيا، ومن تنكبها خسر وإن كان صديقا أو نبيا، وعلى هذا فلا عجب أن ينهزم المسلمون في وقعة أحد، وأن يصل المشركون إلى النبي ﷺ فيشجوا رأسه، ويكسروا سنه، ويردوه في حفرة.

والمسلمون الصادقون أولى الناس بمعرفة تلك السنن في الأمم وأجدر الناس بأن يسيروا على هديها، لذلك لم يلبث أصحاب النبي ﷺ أن ثابوا إلى رشدهم يومئذ ورجعوا إلى الدفاع عن نبيهم وثبتوا حتى انجلى المشركون عنهم ولم ينالوا ما كانوا يقصدون.

والخلاصة - إن النظر في أحوال من تقدمكم من الصالحين والمكذبين يهديكم إلى الطريق المستقيم، فإن أنتم سلكتم سبيل الصالحين فعاقبتكم كعاقبتهم، وإن سلكتم سبيل المكذبين فحالكم كحالهم.

وفي الآية تذكير لمن خالف أمر النبي ﷺ يوم أحد وإرشاد لهم إلى أنهم بين عاملى خوف ورجاء، فهي على أنها بشارة لهم بالنصر على عدوهم إنذار بسوء العاقبة إذا هم حادوا عن سننه، وساروا في طريق الضالين ممن قبلهم، وعلى الجملة فالآية خبر وتشريع وتتضمن وعدا ووعيدا وأمرا ونهيا.

وقد جرت سنة الله بأن للمشاهدة في تثبيت الحقائق ما ليس للقول وحده، إذ القول قد ينسى ويقل الاعتبار به. من قبل هذا أرشدهم إلى الاعتبار وقياس ما في أنفسهم على ما كان لدى غيرهم من قبلهم ومن ثم قال:

(فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) أي فسيروا في الأرض وتأملوا فيما حل بالأمم قبلكم ليحصل لكم العلم الصحيح المبنى على المشاهدة والاختبار، وتسترشدوا بذلك إلى أن المصارعة قد وقعت بين الحق والباطل في الأمم السالفة، وانتهى أمرها إلى غلبة أهل الحق لأهل الباطل، وانتصارهم عليهم ما تمسكوا بالصبر والتقوى، ويدخل في ذلك اتباع ما أمر الله به من الاستعداد للحرب وإعداد العدة لقتال العدو كما أمر الله به في قوله: « وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ».

وجرى ذلك على سنن مستقيمة وأسباب مطردة لا تغيير فيها ولا تبديل.

والسير في الأرض والبحث عن أحوال الماضين وتعرف ما حل بهم - نعم العون على معرفة تلك السنن والاعتبار بها، وقد نستفيد هذه الفائدة بالنظر في كتب التاريخ التي دونها من ساروا في الأرض، ورأوا آثار الذين خلوا، فتحصل لنا العظة والعبرة، ولكنها تكون دون اعتبار الذين يسيرون في الأرض بأنفسهم، ويرون الآثار بأعينهم

تلك آثارنا تدل علينا فانظروا بعدنا إلى الآثار

(هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) أي هذا الذي تقدم بيان للناس كافة وهدى وموعظة للمتقين منهم خاصة، فالإرشاد عام للناس وحجة على المؤمن والكافر، التقى منهم والفاجر.

وذلك يدحض ما وقع للمشركين والمنافقين من الشبهة بنحو قولهم لو كان محمد رسولا حقا لما غلب في وقعة أحد، فهذا الهدى والبيان يرشد إلى أن سنن الله حاكمة على الأنبياء والرسل كما هي حاكمة على سائر خلقه، فما من قائد يخالفه جنده، ويتركون حماية الثّغر الذي يؤتون من قبله، ويخلون بين عدوهم وبين ظهورهم، والعدو مشرف عليهم، إلا كان جيشه عرضة للانكسار إذا كر العدو عليه - قطع خط الرجعة - ولا سيما إذا كان بعد فشل وتنازع، ومن ثم كان هذا البيان لجميع الناس، كلّ على قدر استعداده للفهم وقبول الحجة.

وأما كونه هدى وموعظة للمتقين خاصة، فلأنهم هم الذين يهتدون بمثل هذه الحقائق، ويتعظون بما ينطبق عليها من الوقائع، فيستقيمون ويسيرون على النهج السوي، ويتجنبون نتائج الإهمال التي تظهر لهم مضرة عاقبتها، فالمؤمن حقا هو الذي يهتدى بهدى الكتاب ويسترشد بمواعظه كما قال: « ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ » فالقرآن يهدينا في مسائل الحرب والتنازع مع غيرنا إلى أن نروز أنفسنا ونعرف كنه استعدادنا لنكون على بصيرة من حقنا فنسير على سنن الله في طلبه وفى حفظه. وأن نعرف كذلك حال خصمنا ونضع الميزان بيننا وبينه. وإلا كنا غير مهتدين ولا متعظين.

(وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي ولا تضعفوا عن القتال وما يتبعه من التدبير بسبب ما أصابكم من الجروح والفشل في يوم أحد. ولا تحزنوا على من فقد منكم في هذا اليوم. وكيف يلحقكم الوهن والحزن وأنتم الأعلون. فقد مضت سنة الله أن يجعل العاقبة للمتقين الذين لا يحيدون عن سنته. بل ينصرون من ينصره ويقيمون العدل. فهم أجدر بذلك من الكافرين الذين يقاتلون لمحض البغي والانتقام، أو للطمع فيما في أيدي الناس.

فهمة الكافر على قدر ما يرمى إليه من غرض خسيس، ولا كذلك همة المؤمن الذي يرمى إلى إقامة صرح العدل في الدنيا والسعادة الباقية في الآخرة - إن كنتم مؤمنين بصدق وعد الله بنصر من ينصره. وجعل العاقبة للمتقين المتبعين لسنته في نظم الاجتماع، حتى صار ذلك الايمان وصفا ثابتا لكم حاكما نفوسكم وأعمالكم.

وإنما نهى عن الحزن على ما فات، لأن ذلك مما يفقد الإنسان شيئا من عزيمته، وبالعكس صلته بما يحب من مال أو متاع أو صديق تكسبه قوة وتوجد في نفسه سرورا، والمراد من النهي عن مثل ذلك معالجة النفس بالعمل ولو تكلفا وخلاصة ذلك - الأمر بأخذ الأهبة وإعداد العدّة مع العزيمة الصادقة والحزم والتوكل على الله حتى يظفروا بما طلبوا ويستعيضوا مما خسروا.

وقوله وأنتم الأعلون تبشير بما يكون لهم في المستقبل من النصر، فإن من احترق الإيمان الصحيح فؤاده، وتمكن من سويداء قلبه يكون على يقين من العاقبة، بعد مراعاة السنن والأسباب المطردة للظفر والفلاح.

(إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) أي إن كان السلاح قد عضكم وعمل فيكم يوم أحد فقد أصاب المشركين مثل ما أصابكم في ذلك اليوم، فقد قتل منهم مثل من قتل منكم فلم يكونوا غالبين.

والخلاصة - إنه لا يسوغ لكم التقاعد عن الجهاد، وليس لكم العذر فيه لأجل أن مسكم قرح، فان أعداءكم قد مسهم مثله قبلكم وهم على باطلهم لم يفتروا في الحرب ولم يهنوا، فأنتم أجدر بصدق العزيمة لمعرفتكم بحسن العاقبة، وتمسككم بالحق.

(وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) أي إن مداولة الأيام سنة من سنن الله في المجتمع البشرى، فمرة تكون الدولة للمبطل، وأخرى للمحق، ولكن العاقبة دائما لمن اتبع الحق.

وإنما تكون الدولة لمن عرف أسباب النجاح ورعاها حق رعايتها كالاتفاق وعدم التنازع والثبات وصحة النظر وقوة العزيمة، وأخذ الأهبة وإعداد ما يستطاع من القوة.

فعليكم أن تقوموا بهذه الأعمال وتحكموها أتم الإحكام حتى تظفروا وتفوزوا، ولا يكن ما أصابكم من الفشل مضعفا لعزائمكم، فإن الدنيا دول.

فيوما لنا ويوما علينا ويوما نساء ويوما نسر

ومن أمثال العرب: الحرب سجال، روى أن أبا سفيان صعد الجبل يوم أحد فمكث ساعة، ثم قال أين ابن أبي كبشة؟ - يعني محمدا ﷺ وأبو كبشة زوج حليمة السعدية وهو أبوه من الرضاع - أين ابن أبي قحافة؟ - أبو بكر - أين ابن الخطاب؟ فقال عمر: هذا رسول الله ﷺ وهذا أبو بكر وهأنذا عمر، فقال أبو سفيان يوم بيوم والأيام دول والحرب سجال، فقال عمر رضي الله عنه: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، فقال إنكم تزعمون ذلك، فقد خبنا إذن وخسرنا.

(وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا) أي وتلك الأيام نداولها بين الناس، ليقوم بذلك العدل، ويستقر النظام، ويعلم الناظر في السنن العامة، والباحث في الحكم الإلهية أنه لا محاباة في هذه المداولة، وليعلم الله الذين آمنوا منكم، لأن الجهاد الاجتماعى الذي يدال به قوم على قوم مما يطهر النفوس ويتميز به الإيمان الصحيح من غيره.

والمراد من قوله (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ) أي وليظهر علمه بذلك للناس بظهور ما يعلم لهم، إذ علم الله بالأشياء ثابت في الأزل، فإذا وقعت حصل تغير في ذلك المعلوم، فصار حالا بعد أن كان مستقبلا، فهو كقوله: « لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ » أي ليعلم الناس ذلك ويميزوه.

الخلاصة - إن المراد من مثل هذه العبارة (لِيَعْلَمَ) - ليثبت ويتحقق صدق إيمان الذين آمنوا، لأنه متى ثبت وتحقق كان الله عالما به على أنه حقيقة ثابتة، إذ علم الله لا يكون إلا مطابقا للواقع، فما لا يعلمه الله تعالى لا يكون له حقيقة ثابتة.

(وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) أي وليكرم ناسا منكم بالشهادة والقتل في سبيل الله.

ذاك أن قوما من المسلمين فاتهم يوم بدر، وكانوا يتمنّون لقاء العدو، وأن يكون لهم يوم كذلك اليوم يقاتلون فيه ويلتمسون الشهادة.

والقرآن مليء بتعظيم حال الشهداء، قال تعالى: « وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتًا بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ » وقال تعالى: « فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ ».

ومن ثم كان من جملة فوائد هذه المداولة حصول هذا المنصب العظيم لبعض المؤمنين.

ثم أتى بجملة معترضة بين ما قبلها وما بعدها لبيان أن الشهداء يكونون ممن أخلصوا في إيمانهم وأعمالهم، ولم يظلموا أنفسهم بمخالفة أوامر الله ونواهيه، والخروج عن سننه في خلقه فقال:

(وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) أي إن الله لا يصطفى للشهادة الظالمين ما داموا على ظلمهم، وفى ذلك بشارة للمتقين بمحبة الله لهم، وإنذار للمقصرين بأنه لا يحبهم الله، وتعريض لأعدائهم المشركين بأن الله لا يحبهم، لأنهم ظلموا أنفسهم وسفهوها بعبادة المخلوقات، وظلموا سواهم بالفساد في الأرض، والبغي على الناس وهضم حقوقهم، ومن المعلوم أن الظلم لا تدوم له سلطة، ولا تثبت له دولة، بل تكون دولته سريعة الزوال، قريبة الانحلال.

(وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا) أي ونداول الأيام ليتميز المؤمنون الصادقون من المنافقين، وتطهر نفوس بعض ضعفاء المؤمنين من كدورتها، فتصير تبرا خالصا لا كدورة فيه، فإن الإنسان كثيرا ما يشتبه عليه أمر نفسه، ولا تتجلى له حقيقتها إلا بالتجارب الكثيرة، والامتحان بالشدائد العظيمة، فهي التي تمحصها وتنفى خبثها وزغلها، كما أن تمحيص الذهب يميز بهرجه من خالصه.

فالمعتقد في دين أنه الحق قد يخيل إليه وقت الرخاء أنه يسهل عليه بذل ماله ونفسه في سبيل الله ليرفع راية ذلك الدين ويدفع عنه كيد المعتدين، فإذا جاء البأس ظهر له من نفسه غير ما كان يتصور، انظر إلى الذين خالفوا أمر النبي ﷺ يوم أحد وطمعوا في الغنيمة، وإلى الذين انهزموا وولوا الأدبار، كيف محصهم الله بتلك الشدائد فعلموا أن المسلم ما خلق للهو واللعب، ولا للكسل والتواكل، ولا لنيل الظفر ونيل السيادة بخوارق العادات، وتبديل سنن الله في المخلوقات، بل خلق ليكون أكثر الناس جدّا في العمل، وأعظمهم تفانيا في أداء الواجب اتباعا للنواميس والسنن التي وضعها الله في الخليقة.

وقد تجلى أثر هذا التمحيص في الغزوات التي تلت هذه الوقعة ففي غزوة (حمراء الأسد) أمر النبي ﷺ ألا يتبع المشركين فيها إلا من شهد القتال بأحد فامتثل المؤمنون أمره بقلوب مطمئنة، وعزائم صادقة، وهم على ما هم عليه من الجراح المبرّحة، والقلوب المنكسرة.

(وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) أي ويجعل اليأس يسطو على قلوبهم، وفقد الرجاء يذهب بعزائمهم، فلا يبقى لديهم شجاعة ولا بأس، ولا قلّ ولا كثر من عزة النفس، فيكون وجودهم كالعدم لا فائدة فيه، ولا أثر له، فالكافرون المبطلون لا يثبت لهم حال مع المؤمنين الصادقين، وإنما يظهرون إذا لم يوجد من أهل الحق والعدل من ينازعهم ويقاوم باطلهم.

[سورة آل عمران (3): الآيات 142 الى 148]

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)

شرح المفردات

الجهاد احتمال المشقة ومكافحة الشدائد، فيشمل:

(1) الحرب للدفاع عن الدين وأهله وإعلاء كلمته.

(2) جهاد النفس الذي سماه السلف (الجهاد الأكبر) ومن ذلك مجاهدة الإنسان لشهواته خصوصا في سن الشباب.

(3) المجاهدة بالمال لأعمال الخير النافعة للأمة والدين.

(4) المجاهدة بمدافعة الباطل ونصرة الحق.

تمنون الموت أي تتمنون الشهادة في سبيل الله، أن تلقوه أي تشاهدوا أهواله وتذوقوا مرارة كأسه، رأيتموه أي رأيتم أسبابه من ملاقاة الشجعان بعدتهم وأسلحتهم وكرهم وفرهم ومصاولتهم للفرسان، وأنت تنظرون، أي تعاينونه وترونه رؤية لإخفاء فيها كما تقول رأيته وليس بعيني علة، انقلبتم على أعقابكم أي رجعتم كفارا بعد إيمانكم، ويقال لكل من عاد إلى ما كان عليه: رجع وراءه وانقلب على عقبيه ونكص على عقبيه. والمؤجل ذو الأجل، والأجل المدة المضروبة للشيء، كما قال: { وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا } ومنه الدين المؤجل الذي ضرب له أجل ومدة يؤدى في نهايتها، وكأين كلمة تفيد أن ما دخلت عليه كثير، والربيون الجماعات الكثيرة واحدهم ربّيّ وهو الجماعة، والوهن ضعف يلحق القلب، والضعف اختلال قوة الجسم، والاستكانة الخضوع والاستسلام للخصم ليفعل ما يريد، والصبر احتمال الشدائد ومعاناة المكاره، والإسراف في كل شيء مجاوزة الحد فيه كما قال: كلوا واشربوا ولا تسرفوا. وثبت أقدامنا أي حين جهاد أعدائك بتقوية قلوبنا وإزلة الخواطر الفاسدة من صدورنا.

المعنى الجملي

لا يزال الحديث مع من شهد أحدا من المؤمنين، فقد أرشدهم الله في الآيات السالفة إلى أنه لا ينبغي لهم أن يحزنوا أو يضعفوا، وأن ما أصابهم من المحنة والبلاء جار على سنن الله في خليقته من مداولة الأيام بين الناس، وفيه تمحيص لأهل الحق فإن الشدائد محك الأخلاق، وفيه هدى وإرشاد وتسلية للمؤمنين حتى يتربوا على الصفات التي ينالون بها الفوز والظفر في جميع أعمالهم.

وهنا أبان لهم أن سبيل السعادة في الآخرة منوط بالصبر والجهاد في سبيل الله، كما أن طريق السعادة في الدنيا يكون بإقامة الحق وسلوك طريق الإنصاف والعدل بين الناس، فسنة الله هنا كسنته هناك.

الإيضاح

(أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) أي هل جريتم على تلك السنن؟ هل تدبرتم تلك الحكم؟ أم ظننتم أنكم تدخلون الجنة وأنتم لم تقوموا بالجهاد في سبيله حق القيام، ولم تتمكن صفة الصبر من نفوسكم تمام التمكن، ولا سبيل إلى دخولها إلا بعد التحلي بها.

وإنكم لو قمتم بذلك لعلمه الله تعالى منكم وجازاكم عليه بالنصر والفوز في هذه الغزوة كما يجازيكم في الآخرة بدخول الجنة.

وقال أبو مسلم الأصفهاني في ( أم حسبتم) إنه نهي وقع بحرف استفهام الذي يأتي للتبكيت.

وتلخيصه - ولا تحسبوا أن تدخلوا الجنة ولم يقع منكم الجهاد وهو كقوله: « ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ».

وعادة العرب أن يأتوا بهذا الجنس من الاستفهام توكيدا، فلما قال ولا تهنوا ولا تحزنوا، كأنه قال: أفتعلمون أن ذلك واقع كما تأمرون، أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير مجاهدة ولا صبر.

وإنما استبعد هذا لأن الله تعالى لما أوجب الجهاد قبل هذه الواقعة وأوجب الصبر على تحمل متعابه وبين وجوه المصالح فيه في الدين والدنيا كان من البعيد أن يظن الإنسان أنه يصلى إلى السعادة والجنة مع إهمال هذه الطاعة ا هـ بتصرف.

وجهاد النفس على أداء حقوق الله وحقوق العباد مما يشق عليها احتماله ويحتاج إلى مجاهدتها وترويضها حتى تذلل ويسهل عليه أداء تلك الحقوق، وربما فضل هذا الجهاد جهاد الأعداء في ميدان القتال وخوض غمار الوغى؛ وأصعب من هذا وأشق دعوة الأمة إلى خير لها في دينها ودنياها، أو بث فكرة صالحة تغير بعض أخلاقها وعاداتها، فتراهم يرفعون راية العصيان في وجه الداعي ويشاكسون بكل الوسائل، ولا سيما إذا تعلق الوضع بتغيير بعض عادات مرنوا عليها جيلا بعد جيل، ووجدوا من أشباه العلماء من يؤازرهم ويناصرهم في باطلهم.

وكثيرا ما يحدث للداعي التلف والهلاك، أو ثلم العرض، أو الإخراج من حظيرة الدين.

(وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) هذا خطاب لمن شهد من المسلمين وقعة أحد.

ذاك أن كثيرا من الصحابة وبعضهم لم يشهد بدرا - كانوا يلحّون في الخروج إلى أحد حيث عسكر المشركون ليكون لهم يوم كيوم بدر، ويتمنون أن يلقوا الأعداء ويصيبوا من الخير مثل ما أصاب أهل بدر.

فلما كان يوم أحد ولّى منهم من ولّى فعاتبهم الله على ذلك.

روي عن الحسن أنه قال: بلغني أن رجالا من أصحاب النبي ﷺ كانوا يقولون: لئن لقينا مع النبي ﷺ لنفعلنّ ولنفعلنّ فابتلوا بذلك، فلا والله ما كلّهم صدق فأنزل الله عز وجل (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) الآية.

ومعنى قوله فقد رأيتموه - أنكم شاهدتم أسبابه من ملاقاة الشجعان بعدّتهم وأسلحتهم وكرّهم وفرهم، مشاهدة لا خفاء فيها ولا شبهة، وكان لها الأثر العميق في نفوسكم.

ومعنى تمنى الموت تمنى الشهادة في سبيل الله والقتال لنصرة الحق ولو ذهبت نفوسكم دونه.

وصفوة القول - لقد كنتم تتمنون الموت قبل أن تلاقوا القوم في الميدان، فهأنتم أولاء قد رأيتم ما كنتم تتمنونه، وأنتم تنظرون إليه لا تغفلون عنه، فما بالكم دهشتم عند ما وقع الموت فيكم، وما بالكم تحزنون وتضعفون عند لقاء ما كنتم تحبون وتتمنون، ومن تمنى الشيء وسعى إليه لا ينبغي أن يحزنه لقاؤه ويسوءه.

وفي الآية الكريمة تنبيه لكل مؤمن إلى اتقاء الغرور بحديث النفس والتمني والتشهي، وهديه إلى اختبار نفسه بالعمل الشق وعدم الثقة منها بما دون الجهاد والصبر على المكاره في سبيل الحق، حتى يأمن الدعوى الخادعة التي يتوهم فيها أنه صادق فيما يدّعى مع الغفلة أو الجهل بعجزه عنه.

وكثيرا ما يتصور بعض الناس أنه يحب ملته ووطنه ويفكر في خدمتهما ويتمنى لو يتاح له أن يساهم في تلك الخدمة بنفسه أو بماله، حتى إذا احتيج إليه وجد من نفسه الضعف، فأعرض عن العمل قبل الشروع، أو بعد أن ذاق مرارته وكابد مشقته.

ولكن المؤمن حقا من وصل الأمر به إلى حد اليقين فيما يعتقد أنه حق، وذلك يستدعى العمل مهما كان شاقا، والجهاد مهما كان عسيرا، والصبر على المكاره، وإيثار الحق على الباطل.

وقد كان فيمن خوطبوا بهذه الآية جماعة ممن كانوا في المرتبة العليا من صدق الجهاد والصبر على المكاره، وأولئك هم المجاهدون الذين ثبتوا مع النبي ﷺ ثبات الجبال الراسيات، وهم نحو ثلاثين رجلا، لكنه جعل الخطاب عاما ليكون الإرشاد والنصح عاما للجميع، فيتهم ذو المراتب العالية أنفسهم بالتقصير، فيزدادوا كمالا على كمالهم، ويرعوى المقصرون وينزعوا عن خداع أنفسهم لهم، وهذا من التمحيص العظيم الذي له أجمل العواقب في تهذيب الأنفس، وقد ظهر أثر ذلك في نفوس أولئك القوم فيما بعد، وربّاهم تربية كانت بها عزائمهم ماضية، وهممهم صادقة، فلم يهنوا ولم يضعفوا ولم يستكينوا فيما حاولوه من جسيم الأمور.

(وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ؟) أي إن محمدا ليس إلا بشرا قد مضت الرسل قبله فماتوا وقتل بعضهم كزكريا ويحيي ولم يكتب لأحد منهم الخلد. أفإن مات كما مات موسى وعيسى وغيرهما من النبيين، أو قتل كما قتل زكريا ويحيى، تقلبوا على أعقابكم راجعين عما كنتم عليه؟ والرسول ليس مقصودا لذاته، بل المقصود ما أرسل به من الهداية التي يجب على الناس أن يتبعوها.

قال أنس بن النضر في الساعة التي زاغت فيها الأبصار والبصائر، وبلغت القلوب فيها الحناجر، وحين فشا في الناس أن رسول الله ﷺ قد قتل، وقال بعض ضعفاء المؤمنين: ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أمانا من أبي سفيان، وقال ناس من أهل النفاق: إن كان محمد قد قتل فالحقوا بدينكم الأول: (إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد لم يقتل، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله ﷺ؟ فقاتلوا على ما قاتل عليه، وموتوا على ما مات عليه) ثم قال (اللهم إني أعتذر إليك مما قال هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل رضي الله عنه).

وأما المؤمنون الصادقون الموقنون، فمنهم من ثبت معه، ومنهم من كان بعيدا عنه فرجع إليه كأبي بكر وعلي وطلحة وأبي دجانة الذي جعل نفسه ترسا دونه، فكان يقع عليه النبل وهو لا يتحرك.

والخلاصة - إن قتل محمد ﷺ لا يوجب ضعفا في دينه لأمرين:

(ا) إن محمدا بشر كسائر الأنبياء، وهؤلاء قد ماتوا أو قتلوا.

(ب) إن الحاجة إلى الرسول هي تبليغ الدين فإذا تم له ذلك فقد حصل الغرض ولا يلزم من قتله فساد دينه.

وفي الآية هداية وإرشاد إلى أنه لا ينبغي أن يكون استمرار الحرب أو عدم استمرارها ذا صلة بوجود القائد بحيث إذا قتل انهزم الجيش، أو استسلم للأعداء، بل يجب أن تكون المصالح العامة جارية على نظام ثابت لا يزلزله فقد الرؤساء وعلى هذا تجرى الحكومات والحروب في عصرنا الحاضر.

ومن توابع هذا النظام أن تعدّ الأمة لكل أمر عدّته، فتوجد لكل عمل رجالا كثيرين، حتى إذا فقدت معلما أو مرشدا أو قائدا أو حكيما أو رئيسا أو زعيما وجدت الكثير ممن يقوم مقامه، ويؤدى لها من الخدمة ما كان يؤديه وحينئذ يتنافس أفرادها، ويحفزون عزائمهم للوصول إلى ما يمكن أن يصل إليه كسب البشر، وينال كلّ منه بقدر استعداده وسعيه وتوفيق الله له.

(وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا) أي ومن يرجع عن جهاده ومكافحته الأعداء فلن يضر الله شيئا بما فعل، بل يضر نفسه بتعريضها للسخط والعذاب، وحرمانها من الثواب، فالله قد وعد بنصر من ينصره ويعزّ دينه، ويجعل كلمته هي العليا، وهو لا محالة منجز وعده.

ولا يحول دون ذلك ارتداد بعض الضعفاء والمنافقين على أعقابهم، فهو سيثبّت المؤمنين ويمحّصهم حتى يكونوا كالتبر الخالص، فيقيموا دينه، وينشروا دعوته، ويرفعوا شأنه، وتنشر على الخافقين رايته، وهو الذي بيده الخلق والأمر وهو القادر على كل شيء.

(وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) له نعمه عليهم بالإيمان والهداية إلى أقوم السبل.

وفي الآية إرشاد إلى أن المصايب التي تحل بالإنسان لا مدخل لها في كونه على حق أو باطل، فكثيرا ما يبتلى صاحب الحق بالمصائب والرزايا، وصاحب الباطل بالنعم والعطايا.

وفيها إيماء إلى أنا لا نعتمد في معرفة الحق والخير على وجود المعلّم بحيث نتركهما عند موته، بل نسير على منهاجهما حين وجوده وبعد موته.

والخلاصة - إن الله أوجب علينا أن نستضىء بالنور الذي جاء به الرسول ﷺ، أما ما يصيب جسمه من جرح أو ألم، وما يعرض له من حياة أو موت، فلا مدخل له في صحة دعوته، ولا في إضعاف النور الذي جاء به، فإنما هو بشر مثلكم خاضع لسنن الله كخضوعكم.

(وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتابًا مُؤَجَّلًا) أي ليس من شأن النفوس ولا من سنة الله فيها أن تموت بغير إذنه تعالى ومشيئته التي بها يجرى نظام الحياة وترتبط فيها الأسباب بالمسببات.

وقوله كتابا مؤجلا: أي أثبته الله مقرونا بأجل معين لا يتغير، ومؤقتا بوقت لا يتقدم ولا يتأخر، فكثير من الناس يتعرضون لأسباب المنايا بخوض غمرات الحروب، أو يتعرضون لعدوى الأمراض، أو يتصدون لأفاعيل الطبيعة، وهم مع ذلك لا يصابون بالأذى فالشجاع المقدام قد يسلم في الحرب، ويقتل الجبان المتخلف ويفتك المرض بالشاب القوى، ويترك الضعيف الهزيل، وتغتال عوامل الأجواء الكهل المستوي وتتجاوز الشيخ الضعيف، فللأعمار آجال، وللآجال أقدار لا تخطوها، والأقدار هي السنن التي عليها تقوم نظم العالم وإن خفيت على بعض الناس، وإذا كان محيانا ومماتنا بإذن الله فلا محل للخوف والجبن، ولا عذر في الوهن والضعف، ومما ينسب إلى علي قوله:

أي يومي من الموت أفرّ يوم لا يقدر أم يوم قدر

يوم لا يقدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجو الحذر

وفي الآية تحريض على الجهاد وتشجيع على لقاء العدو، فإنه إذا كان الأجل محتوما ومؤقتا بميقات، وأن أحدا لا يموت قبل بلوغ أجله وإن خاض المعارك واقتحم المهالك فلا محل إذا للخوف والحذر - إلى ما فيها من الإشارة إلى كلاءة الله وحفظه لرسوله مع غلبة العدوّ له والتفافهم عليه وإسلام قومه له نهزة للمختلس، فلم يبق سبب من أسباب الهلاك إلا قد حصل، ولكن لما كان الله حافظا وناصرا له لم يضرّه شيء، وفيها إشارة إلى أن قومه قد قصّروا في الذبّ عنه.

(وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها، وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها) أي ومن قصد بعمله حظ الدنيا أعطاه الله شيئا من ثوابها، ومن قصد الآخرة أعطاه الله حظا من ثوابها.

وفي معنى الآية الحديث: « إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى »...

وفيها تعريض بالذين شغلتهم الغنائم يوم أحد، فتركوا موقعهم الذي أمرهم النبي ﷺ بلزومه، وكأنه يقول لهم إن كنتم تريدون ثواب الدنيا فالله لا يمنعكم ذلك، وما عليكم إلا أن تسلكوا سبيله، ولكن ليس هذا هو الذي يدعوكم إليه محمد ﷺ، بل يدعوكم إلى خير ترون حظا منه في الدنيا، والمعوّل عليه ما في الآخرة.

فأنتم بين أمرين: إما إرادة الدنيا، وإما إرادة الآخرة، ولكل منهما سنن تتبع، وطرق تسلك، وفى معنى الآية قوله تعالى: « مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ».

ومن هدى الإسلام أن يطلب المرء بعمله خيري الدنيا والآخرة معا، ويقول: (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) والله يعطيه كل ما يطلب أو بعضه يحسب سنن الله وتدبيره لنظم الحياة.

وعلى الإنسان أن يعلم أن له طورين:

(1) طور عاجل قصير، وهو طور الحياء الدنيا.

(2) طور آجل أبدي، وهو طور الحياة الآخرة.

وسعادته في كل من الطورين مرتبطة بإرادته وما توجهه إليه من العمل، فالناس إنما يتفاضلون بالإرادات والمقاصد: فقوم يحاربون حبا في الربح والكسب، أو ضراوة بالفتك والقتل، فإذا غلبوا أفسدوا في الأرض وأهلكوا الحرث والنسل، وقوم يحاربون دفاعا عن الحق وإقامة لقوانين العدل، فإذا غلبوا عمروا الأرض وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، فهل يستوى الفريقان، وهما في المقصد مفترقان؟

كذلك يطلب الرجل الربح والكسب أحيانا بكل وسيلة مستطاعة طلبا للذاته، والحصول على شهواته، فيغلو في الطمع، ويمعن في الحيل، ولا يبالى أمن الحرام أكل أم من الحلال؟ يأكل الربا أضعافا مضاعفة، فيجمع القناطير المقنطرة، وهو مع ذلك يمنع الماعون، ولا يحضّ على طعام المسكين، ولو سئل البذل في المصالح العامة كان أشد الناس بخلا وأقبضهم كفا، بينا يطلب آخر الكسب طلبا للتجمل وحبا للكرامة في قومه وعشيرته، فيقتصد في الطلب، ويتحرى الربح الحلال، ويلتزم الصدق والأمانة، ويبتعد عن الفسوق والخيانة، وهو مع هذا ينفق مما أفاء الله به عليه، فيواسى البائسين، ويساعد المعوزين، وتكون له اليد الطّولى في الأعمال النافعة لأمته، فيشيد لها المدارس والمعابد، والملاجئ والمستشفيات، فهل ينظر الناس إلى هذين نظرة متساوية، وهل هما في القرب عند الله بمنزلة واحدة، أو يفضل أحدهما الآخر بحسن القصد والإرادة والميل إلى الخير وحب المصلحة العامة.

وقصارى القول - إن أقدار الرجال تتفاوت وتختلف باختلاف إرادتهم، فبينما تتسع دائرة وجود الشخص بحسب كبر إرادته وسعة مقصده، فتحيط بالكرة الأرضية، بل فوق ذلك بما يكون له من الكرامة في العالم العلوي - إذا بآخر تضيق دائرة وجوده إذا هو أخلد إلى الشهوات، وركن إلى اللذات، فيكون حظه من عمله كحظ الحشرات، يأكل ويشرب ويبغى على الضعيف ويخاف من القوي.

والله قد جعل عطاءه للناس معلقا على إرادتهم، ولا يقدر مثل هذا إلا القليل منهم.

(وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) الذين يعرفون أنعم الله عليهم ويستعملونها فيما يرقى بهم إلى مراقى الكمال، فيعملون صالح الأعمال التي ترفع نفوسهم، وتنفع أمتهم كأنس ابن النضر وأمثاله الذين جاهدوا وصبروا مع النبي ﷺ بما كان لهم من الإرادة القوية التي كانت السبب في انجلاء المشركين عن المسلمين.

وبعد أن ضرب الله تعالى لهم المثل في أنفسهم بأنهم كانوا قبل الموقعة يتحرقون شوقا إلى لقاء العدو، ثم أصابهم ما أصابهم عند لقائه - ضرب لهم المثل بغيرهم من أتباع الأنبياء السالفين وربييهم الذين لم يلحقهم وهن ولا ضعف بعد قتل أنبيائهم، بل صبروا واحتملوا الإيذاء حتى تغلب الحق على الباطل.

وفي هذا من شديد التوبيخ لأولئك المنهزمين الذين لم يستنوا بسنة الربانيين المجاهدين مع الرسل صلوات الله عليهم، مع أنهم أحدر بذلك منهم إذ كانوا خير أمة أخرجت للناس فقال:

(وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) أي إن كثيرا من النبيين الذين خلوا قد قاتل معهم كثير ممن آمن بهم، واعتقد أنهم هداة ومعلّمون، لا أرباب معبودون، فما وهنوا لما أصاب بعضهم من جرح أو قتل حتى ولو كان المقتول هو نبيهم نفسه، لأنهم يقاتلون في سبيل الله لا في سبيل نبيهم، علما منهم بأن النبي ما هو إلا مبلّغ عن ربه وهاد لأمته « وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ » وما ضعفوا عن جهاد عدوهم، ولا استكانوا ولا خضعوا له، ولا ولّوا الأدبار، بل ثبتوا بعد قتل نبيهم كما ثبتوا معه في حال الحياة، إذ هم على يقين من ربهم في أن الجهاد في السبيل التي يرضاها من تقرير العدل في الأرض وحماية الحق وما يتبع ذلك ويلزمه.

والخلاصة - عليكم أن تعتبروا بحال أولئك الربيين وتصبروا كما صبروا، فإن دين الله واحد، وسنته في خلقه واحدة، ومن ثم طلب إليكم أن تعرفوا عاقبة من سبقكم من الأمم، وتقتدوا بعمل الصادقين الصابرين منهم، وتقولوا مثل قول أولئك الربّيين.

وبعد أن بين سبحانه مفاخر أفعالهم أردفها بمحاسن أقوالهم فقال:

(وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) أي إن هؤلاء الربيين لم يكن لهم من قول عند اشتداد الخطوب ونزول الكوارث إلا الدعاء لربهم بأن يغفر لهم بجهادهم ما كانوا ألمّوا به من الذنوب، وتجاوزوا فيه حدود الشرائع، وأن يثبّت أقدامهم على الصراط القويم الذي هداهم إليه، حتى لا تزحزحهم الفتن ولا يعروهم الفشل والوهن حين مقابلة الأعداء، وأن ينصرهم على القوم الكافرين الذين يجحدون الآيات، ويعتدون على أهل الحق، فلا يمكنونهم من إقامة ميزان القسط، فما النصر إلا من عند الله يؤتيه من يشاء بمقتضى السنن التي هدى إليها خلقه، وألهمها عباده.

وفي هذا إيماء إلى أن الذنوب والإسراف في الأمور من عوامل الخذلان، والطاعة والثبات والاستقامة من أسباب النصر والفلاح، ومن ثم سألوا ربهم أن يمحو من نفوسهم أثر الذنوب وأن يوفقهم إلى دوام الثبات حين تزلّ الأقدام. وقد قدموا طلب المغفرة من الذنوب على طلب النصر ليكون الدعاء في حيز القبول، فإن الدعاء المقرون بالخضوع والطاعة الصادر عن زكاء وطهارة أقرب إلى الاستجابة.

وفي طلبهم النصر من الله مع كثرة عددهم التي دل عليها قوله: (رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) إعلام بأنهم لا يعوّلون على كثرة العدد بل يطلبون العون والمدد الروحاني من الله بثبات الأقدام والتمسك بأهداب الحق.

كما أن في ذكر قولهم هذا دون ذكر ما فيه جزع وخور - تعريضا بأولئك المنهزمين من المسلمين يوم أحد.

(فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا) بالنصر على الأعداء، والظفر بالغنيمة، والسيادة في الأرض، والكرامة والعزة وحسن الأحدوثة والذكر الحسن، وقد سمى ذلك ثوابا لأنه جزاء على الطاعة، وامتثال أوامر الله.

(وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) بنيل رضوان الله ورحمته، والقرب منه في دار الكرامة، وقد فسّر بقوله تعالى: « فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ » وقوله في الخبر « فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر » وما حصلوا على ذلك إلا بما قدموا من صالح العمل الذي كان له أحسن الأثر في نفوسهم فارتقت به إلى حظيرة القدس، وتخصيص الحسن بهذا الثواب إيذان بفضله، وأنه المعتدّ به عند الله، وأنه ثواب لا يشوبه أذى، فهو ليس كثواب الدنيا عرضة للأذى والمنغّصات.

وإنما جمع لهم بين الثوابين، لأنهم أرادوا بعملهم هاتين السعادتين سعادة الدنيا وسعادة الآخرة، كما هو شأن المؤمن « وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً ».

وهذه الآية وأشباهها حجة على الغالين في الزهد الذين يتحرجون عن الاستمتاع بشىء من لذات الدنيا، ويعدون ذلك منافيا للتقوى، ومبعدا عن رضوان الله.

(وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) لأنهم هم الذين يقيمون سننه في أرضه، ويظهرون بأنفسهم وأعمالهم أنهم جديرون بخلافة الله فيها، ولا تكون أعمالهم إلا بما يرضى الله، فهي من الله ولله.

وقد جاء في الآية الترتيب هكذا - التوفيق على الطاعة، ثم الثواب عليها، ثم المدح على ذلك، إذ سماهم محسنين، ليكون في ذلك توجيه للعبد ليعلم أن كل ذلك بعنايته تعالى وفضله.

[سورة آل عمران (3): الآيات 149 الى 151]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطانًا وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)

تفسير المفردات

المراد بالذين كفروا: أبو سفيان لأنه كان شجرة الفتن. وقال آخرون المراد عبد الله ابن أبي وأتباعه من المنافقين الذين ألقوا الشبهات في قلوب الضعفة من المؤمنين، وقالوا لو كان محمد رسول الله ما وقعت هذه الواقعة، وإنما هو رجل كسائر الناس يوم له ويوم عليه، فارجعوا إلى دينكم الذي كنتم عليه، يردوكم على أعقابكم: أي يرجعوكم إلى الكفر بعد الإيمان، خاسرين: أي لاستبدالكم ذلة الكفر بعزة الإسلام، والانقياد للأعداء الذي هو أشق شيء على النفوس، ولحرمانكم من الثواب والوقوع في العذاب، والمولى: الناصر والمعين، والرعب: شدة الخوف التي تملأ القلب، والسلطان: الحجة والبرهان وأصله القوة وسمى البرهان سلطانا لقوته على دفع الباطل، والمثوى: المكان الذي يكون مقر الإنسان ومأواه من قولهم؟ ثوى يثوى ثويا إذا أقام.

المعنى الجملي

بعد أن رغب الله المؤمنين في الاقتداء بأنصار الأنبياء عليهم السلام ببيان مالهم من الفضل وعظيم الأثر وحسن العاقبة، نهاهم عن متابعة الكفار ببيان سوء مغبتها في دينهم ودنياهم، والخطاب موجه إلى كل من سمع من المؤمنين مقالة أولئك القائلين من المنافقين - ارجعوا إلى إخوانكم ودينكم، فإن الكفار لما أرجفوا أن النبي قد قتل دعا المنافقون بعض ضعفة المسلمين إلى الكفر فنهاهم الله عن الالتفات إلى كلامهم.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) أي إن تطيعوا الذين جحدوا نبوة نبيكم محمد ﷺ فتقبلوا رأيهم وتنتصحوهم فيما يزعمون أنهم لكم فيه ناصحون - يحملوكم على الردة بعد الإيمان والكفر بالله وآياته، ويرجعوكم عن إيمانكم ودينكم الذي هداكم الله له خاسرين للدنيا والآخرة، أما خسران الأولى فبخضوعكم لسلطانهم وذلتكم بينهم وحرمانكم من السعادة والملك والتمكين في الأرض كما وعد الله المؤمنين الصادقين « وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ، وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ».

وأما خسران الثانية فيما يصيبكم من العذاب الأبدى في النار وبئس القرار.

(بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) أي لا تفكروا في ولاية أبي سفيان وشيعته، ولا عبد الله بن أبي وحزبه، ولا تأبهوا لإغوائهم فإنهم لا يستطيعون لكم نصرا، وإنما الله هو الذي ينصركم بعنايته التي وعدكم بها في قوله: « فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ » فقد جرت سنته أن يتولى الصالحين ويخذل الكافرين كما قال: « أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها، ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ ».

(سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطانًا) أي إنه سبحانه سيحكّم في أعدائكم الكافرين سننه ويلقى في قلوبهم الرعب بسبب إشراكهم بالله أصناما ومعبودات لم يقم برهان من عقل ولا نقل على ما زعموا من ألوهيتها، وكونها واسطة بين الله وخلقه، وإنما قلدوا في ذلك آباءهم الذين ضلوا من قبل، ومن ثم كانوا عرضة لاضطراب القلب، واتباع خطوات الوهم، فهم يعدّون الوساوس أسبابا، والهواجس مؤثرات وعللا، ويرجون الخير مما لا يرجى منه الخير، ويخافون مما لا يخاف منه الضّير.

وفي الآية إيماء إلى بطلان الشرك، وسوء أثره في النفوس، إذ طبيعته تورث القلوب الرعب، باعتقاد أن لبعض المخلوقات تأثيرا غيبيا وراء السنن الإلهية، والأسباب العادية، فالمشركون الذين جاهدوا الحق، وآثروا مقارعة الداعي ومن استجاب له بالسيف، بغيا وعدوانا - يرتابون فيما هم فيه ويتزلزلون إذا شاهدوا الذين دعوهم ثابتين مطمئنين، ولا يزال ارتيابهم يزيد حتى تمتلىء قلوبهم رعبا.

والخلاصة - إن طبيعة المشركين إذا قاوموكم أيها المؤمنون، أن تكون نفوسهم مضطربة، وقلوبهم ممتلئة رعبا وهلعا منكم فلا تخافوهم، ولا تبالوا بقول من يدعوكم إلى موالاتهم والالتجاء إليهم.

وبعد أن بين أحوال هؤلاء المشركين في الدنيا من وقوع الخوف والهلع في قلوبهم - ذكر أحوالهم في الآخرة فقال:

(وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) أي إن مسكنهم النار بسبب ظلمهم لأنفسهم بالكفر والجحود ومعاندة الحق ومقاومة أهله، وظلمهم للناس بسوء المعاملة وفى التعبير بالمثوى المنبئ عن المكث الطويل دليل على الخلود فيها.

[سورة آل عمران (3): الآيات 152 الى 155]

ولَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)

تحسونهم: أي تستأصلونهم بالقتل من قولهم: جراد محسوس: إذا قتله البرد، وسنة حسوس: إذا أتت على كل شيء، فكأن القتل أبطل حسه بالقتل كما يقال بطنه أصاب بطنه، ورأسه أصاب رأسه، بإذنه أي بعونه وتأييده، فشلتم أي ضعفتم، في الأمر أي أمر الحرب، صرفكم عنهم أي كفكم عنهم حتى تحولت الحال من الغلبة إلى ضدها، ليبتليكم أي ليختبركم، والمراد ليعاملكم معاملة من يمتحن ويختبر، عفا عنكم أي تاب عليكم، تصعدون أي تذهبون في الأرض وتبعدون، يقال أصعدنا من مكة إلى المدينة أي ذهبنا، ولا تلوون على أحد أي لا تلتفتون إلى أحد من شدة الهرب، يقال فلان لا يلوي على شيء أي لا يعطف عليه ولا يبالي به، في أخراكم أي في آخركم، يقال جئت في آخر الناس، وفى أخراهم، وفى أخرياتهم، فأثابكم: أي جازاكم، الغم: ألم أو ضيق في الصدر يكون من الأمر الذي يسوء الإنسان ولا يدرى المخرج منه، والأمنة: الأمن وهو ضد الخوف، يغشى: يغطى ويستر، يقال غشيه النعاس أو النوم أي غطاه كما يلقى الستر على الشيء: لبرز: أي لخرج لسبب من الأسباب، إلى مضاجعهم: أي مصارعهم التي قدر قتلهم فيها، وذات الصدور السرائر، والجمعان جمع المؤمنين وجمع المشركين، استزلهم أي أوقعهم في الزلل والخطيئة، ببعض ما كسبوا: أي بسبب بعض الذنوب التي اقترفوها، فمنعوا من التأييد الإلهي.

المعنى الجملي

روى ابن جرير عن السدي قال: لما برز رسول الله ﷺ إلى المشركين بأحد أمر الرماة فقاموا بأصل الجبل في وجوه خيل المشركين وقال لهم: لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم، فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم، وأمّر عليهم عبد الله بن جبير، ثم إن طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين قام فقال: يا معشر أصحاب محمد، إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار، ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة، فهل منكم أحد يعجله الله بسيفى إلى الجنة، أو يعجلنى بسيفه إلى النار؟ فقام إليه علي بن أبي طالب فقال: والذي نفسي بيده لا أفارقك حتى يعجلك الله بسيفى إلى النار، أو يعجلنى بسيفك إلى الجنة، فضربه علي فقطع رجله فسقط فانكشفت عورته فقال: أنشدك الله والرحم يا ابن عم فتركه، فكبر رسول الله ﷺ وقال أصحاب علي له: ما منعك أن تجهز عليه؟ قال إن ابن عمى ناشدنى حين انكشفت عورته فاستحييت منه، ثم شد الزبير بن العوام والمقداد بن الأسود على المشركين فهزماهم، وحمل النبي ﷺ وأصحابه فهزموا أبا سفيان، فلما رأى ذلك خالد بن الوليد وهو على خيل المشركين حمل فرمته الرماة فانقمع.

ثم لما نظر الرماة إلى رسول الله ﷺ وأصحابه في جوف عسكر المشركين ينتهبونه بادروا الغنيمة، فقال بعضهم: لا نترك أمر رسول الله ﷺ، فانطلق عامتهم فلحقوا بالعسكر.

فلما رأى خالد قلة الرماة صاح في خيله، ثم حمل على أصحاب النبي ﷺ، فلما رأى المشركون أن خيلهم تقاتل تنادوا، فشدوا على المسلمين فهزموهم وقتلوا منهم نحو سبعين.

ونستخلص من هذه الرواية أمرين:

(1) أن النبي ﷺ أمر الرماة ألا يبرحوا مكانهم، وأنه قال لهم لا نزال غالبين ما ثبتم مكانكم.

(2) أن الذي عصى أمره من الرماة عامتهم، أما الذين بلغ الإيمان قرارة نفوسهم فقد ثبتوا.

وروى الواحدي عن محمد بن كعب قال: لما رجع رسول الله ﷺ إلى المدينة وقد أصيبوا بما أصيبوا يوم أحد - قال ناس من أصحابه: من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا الله تعالى النصر؟ فأنزل الله (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ) الآية.

الإيضاح

(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ) أي ولقد وفى لكم ربكم بوعده الذي وعدكم على لسان رسوله محمد ﷺ من النصر على العدو حين تقتلونه قتلا ذريعا بتيسير الله ومعونته، وكان رسول الله ﷺ وعدهم النصر يومئذ إن انتهوا إلى أمره.

(حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ) أي صدقكم الله وعده حتى ضعفتم في الرأي والعمل، فلم تقووا على حبس أنفسكم عن الغنيمة، وتنازعتم، فقال بعضكم: ما بقاؤنا هنا وقد انهزم المشركون؟ وقال آخرون: لا نخالف أمر الرسول ﷺ، وعصيتم رسولكم وقائدكم بترك أكثر الرماة للمكان الذي أقامهم فيه يحمون ظهور المقاتلة بنصح المشركين بالنبل، من بعد ما أراكم ما تحبون من النصر والظفر، فصبرتم على الضراء ولم تصبروا على السراء.

وصفوة القول - إن الله نصركم على عدوكم إلى أن كان منكم الفشل والتنازع وعصيان أمر قائدكم ﷺ، فانتهى النصر، لأن الله تعالى إنما وعدكم النصرة بشرط التقوى والصبر على الطاعة.

وفي قوله: من بعد ما أراكم ما تحبون - تنبيه إلى عظم المعصية، لأنه كان من حقهم حين رأوا إكرام الله لهم بإنجاز الوعد أن يمتنعوا عن عصيانه، فلما أقدموا عليه لا جرم سلبهم الله ذلك الإكرام وأذاقهم وبال أمرهم.

(مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا) وهم الذين تركوا مقعدهم الذي أقعدهم فيه رسول الله ﷺ في الشّعب من أحد وذهبوا وراء الغنيمة.

(وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) وهم الذين ثبتوا من الرماة مع قائدهم عبد الله بن جبير وهم نحو عشرة وكان الرماة قبلا نحو خمسين، والذين ثبتوا مع النبي ﷺ وهم ثلاثون رجلا.

(ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ) أي ثم كفكم عنهم حتى تحولت الحال من النصرة إلى ضدها، ليعاملكم معاملة من يمتحن، ليستبين أمركم وثباتكم على الإيمان.

والخلاصة - إن الله صدقكم وعده، فكنتم تقتلونهم بإذنه ومعونته قتل حسّ واستئصال، ثم صرفكم عنهم بفشلكم وتنازعكم وعصيانكم، وحال بينكم وبين تمام النصر ليمتحنكم بذلك: أي ليكون ذلك ابتلاء واختبارا لكم يمحصكم به، ويميز الصادقين من المنافقين.

(وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) بذلك التمحيص الذي محا أثر الذنب من نفوسكم حتى صرتم كأنكم لم تفشلوا، وقد استبان أثر هذا العفو فيما بعد، كما حدث في وقعة (حمراء الأسد).

(وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي والله ذو فضل وطول على أهل الإيمان به وبرسوله، فيعفو عن كثير مما يستوجبون به العقوبة من الذنوب، ولا يذرهم على ما هم عليه من تقصير يهبط بنفوس بعض، وضعف يلمّ بآخرين، بل يمحص ما في صدورهم حتى يكونوا من المخلصين الطائعين المخبتين.

(إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) أي صرفكم عنهم حين أصعدتم أو ذهبتم منهزمين، لا تلتفتون من شدة الدهشة التي عرتكم، والذّعر الذي فجأكم.

وبينا أنتم في هذه الحال إذا بالرسول يدعوكم من ورائكم وينادى، هلمّ إلي عباد الله، إلي عباد الله، أنا رسول الله، من يكر فله الجنة، وأنتم لا تسمعون ولا تنظرون، وقد كان لكم أسوة بالرسول، فتقتدون به في الصبر والثبات.

(فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ) قال في الأساس: إنه لفى غمّة من أمره: إذا لم يهتد للخروج منه، ومنه قوله تعالى: « لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً » والغم الأول ما حصل للصحابة رضوان الله عليهم بالهزيمة والقتل، والغم الثاني للرسول ﷺ بمخالفة أمره، أي إنكم لما أذقتم الرسول غما بسبب عصيانكم أمره، أذاقكم الله غم الانهزام وقتل الأحباب.

والخلاصة - إنه أذاقكم هذا عوض هذا.

وقد يكون المعنى - جازاكم غما متصلا بغم من الإرجاف بقتل رسول الله ﷺ بعد الجرح والقتل وظفر المشركين بكم حتى صرتم من شدة الدهش يضرب بعضكم بعضا، وقد فاتتكم الغنيمة التي طمعتم فيها.

(لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ) أي لأجل أن تمرنوا على تجرّع الغموم، وتتعودوا احتمال الشدائد، فلا تحزنوا فيما بعد على ما يفوت من المنافع والمغانم.

(وَلا ما أَصابَكُمْ) أي ولا تحزنوا على ما أصابكم من المضارّ، إذ التربية إنما تكون بالعمل والمران الذي يكمل به الإيمان وتثبت الفضائل.

(وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فهو عالم بجميع أعمالكم ومقاصدكم، والدواعي التي حفزتكم عليها، وقادر على مجازاتكم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.

وفي هذا ترغيب في الطاعة، وزجر عن الإقدام على المعصية.

(ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاسًا) أي ثم وهبكم من بعد الغم الذي اعتراكم أمنا أزال عنكم الخوف الذي كان بكم، حتى نعستم وغلبكم النوم، لتستردوا ما فقدتم من القوة بما أصابكم من القرح وما عرض لكم من الضعف.

والنوم نعمة كبرى لمن يصاب بمثل تلك المصايب، وعناية من الله يخص بها بعض عباده في مثل تلك المحن ليخفف وقعها على النفوس.

وعن أبي طلحة رضي الله عنه غشينا النعاس ونحن في مصافنا، فكان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه، ثم يسقط فيأخذه، وما من أحد إلا يميل تحت حجفته (ترسه).

وعن الزبير رضي الله عنه، لقد رأيتنى مع رسول الله ﷺ حين اشتد علينا الخوف، فأرسل الله علينا النوم، والله إني لأسمع معتّب بن قشير والنعاس يغشانى، ما أسمعه إلا كالحلم يقول: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا.

(يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ) قال ابن عباس هم المهاجرون وعامة الأنصار الذين كانوا على بصيرة في إيمانهم.

(وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) يقال همنى الشيء أي كان من همى وقصدى أي وجماعة من المنافقين كعبد الله بن أبي ومعتب بن قشير ومن لف لفهم، قد شغلوا بأنفسهم عن الرسول والدفاع عن الدين.

وخلاصة هذا - إن المؤمنين بعد انتهاء الموقعة صاروا فريقين:

(1) فريق ذكروا ما أصابهم فعرفوا أنه كان بتقصير من بعضهم، وذكروا وعد الله بنصرهم فاستغفروا لذنوبهم، ووثقوا بوعد ربهم، وأيقنوا أنهم إن غلبوا هذه المرة بسبب ما أصابهم من الفشل والتنازع وعصيان الرسول، فإن الله سينصرهم بعد، فأنزل الله عليهم النعاس أمنة حتى يستردوا ما فقدوا من قوة، ويذهب عنهم ما عرض لهم من ضعف.

(2) فريق أذهلهم الخوف حتى صاروا مشغولين عن كل ما سواهم، إذ الوثوق بوعد الله ووعد رسوله لم يصل إلى قرارة نفوسهم، لأنهم كانوا مكذبين بالرسول في قلوبهم، لا جرم عظم الخوف لديهم، وحق عليهم ما وصفهم الله به من قوله:

(يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) غير الحق أي غير الظن الحق الذي يجب أن يظنوه، إذ كانوا يقولون في أنفسهم لو كان محمد نبيا حقا ما سلط الله عليه الكفار، وهذا مقال لا يقوله إلا أهل الشرك بالله.

(يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ؟) أي يقول بعضهم لبعض على سبيل الإنكار: هل لنا من النصر والفتح والظفر نصيب؟ يعنون أنه ليس لهم من ذلك شيء، لأن الله سبحانه وتعالى لا ينصر محمدا ﷺ، فهم قد فهموا أن النصر وحقية الدين متلازمان، فما حدث في ذلك اليوم دليل على أن هذا الدين ليس بحق، وهذا خطأ كبير، فإن نصر الله رسله لا يمنع أن تكون الحرب سجالا ولكن العاقبة للمتقين.

ثم أتى بجملة معترضة بين ما قبلها وما بعدها.

(قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) أي إن كل أمر يجرى فهو بحسب سننه تعالى في الخليقة، ووفق النظم التي وضعها، وربط فيها الأسباب بالمسببات.

ومن ذلك نصر من ينصره من المؤمنين كما وعد بذلك في قوله: « كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي » وقوله: وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ ».

(يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ) أي يضمرون في أنفسهم ما لا يستطيعون إعلانه لك، فهم يظهرون أنهم يسألون مسترشدين طالبين النصر بقولهم (هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْ ءٍ) ويبطنون الإنكار والتكذيب.

(يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) أي يقولون لو كان أمر النصر والظفر بأيدينا كما ادعى محمد أن الأمر كله لله ولأوليائه، وأنهم الغالبون لما غلبنا، ولما قتل من المسلمين من قتل في هذه المعركة.

وهذا منهم تقرير لرأيهم واستدلال عليه بما وقع لهم، وقد غفلوا عن أن الآجال محدودة، والأعمار موقوتة بوقت لا تعدوه، ومن ثم أمر الله نبيه أن يجيبهم بقوله:

(قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) أي لو كنتم في بيوتكم ولم تخرجوا للقتال - لخرج من بينكم من انتهت آجالهم وثبت في علم الله أنهم يقتلون إلى حيث يقتلون ويسقطون في البراز (الأرض المستوية) فتكون مصارع ومضاجع لهم.

والخلاصة - إن الحذر لا يدفع القدر، والتدبير لا يقاوم التقدير فالذين قدر عليهم القتل لا بد أن يقتلوا على كل حال، وإلا انقلب علم الله جهلا، فقتل من قتل إنما جاء لانتهاء آجالهم كما قدر ذلك في اللوح المحفوظ، وكتب مع ذلك أنهم هم الغالبون، وأن العاقبة لهم، وأن دين الإسلام سيظهر على الدين كله.

(وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ) أي وقد فعل ذلك ليكون القتل عاقبة من انتهت آجالهم، وليمتحن ما في صدور المؤمنين من الإخلاص وعدمه، فيظهر ما انطوت عليه من ضعف وقوة، ويمحص ما في قلوبهم من وساوس الشيطان، ويطهرها حتى تصل إلى الغاية القصوى من الإيقان.

وقد قيل: لا تكرهوا الفتن، فإنها حصاد المنافقين.

(وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي عليم بالأسرار والضمائر، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.

وفي هذا ترغيب وترهيب، وتنبيه إلى أن الله غني عن الابتلاء والامتحان، وإنما يظهر ذلك على هذه الصورة لحكم يعلمها كمران المؤمنين على الصبر وتحمل المشاق وإظهار حال المنافقين، لأن الحقائق قد تخفى على أربابها، فينخدعون للشعور العارض بدون تمحيص ولا ابتلاء، كما انخدع الذين تمنوا الموت من قبل أن يلقوه كما تقدم.

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) أي إن الرماة الذين أمرهم الرسول ﷺ أن يثبتوا في أماكنهم ليدفعوا المشركين عن ظهور المؤمنين، ما تركوا هذه المواقع إلا بإيقاع الشيطان لهم في الزلل واستجراره لهم بالوسوسة، فإن الخطيئة الصغيرة إذا ترخّص فيها الإنسان سهلت استيلاء الشيطان على نفسه، فهم قد انحرفوا عن أماكنهم بتأوّل، إذ ظنوا أنه ليس للمشركين رجعة من هزيمتهم، فلا يترتب على ذهابهم وراء الغنائم فوات منفعة ولا وقوع في ضرر، ولكن هذا التأويل كان سببا في كل ما جرى من المصايب التي من أجلها ما أصاب الرسول ﷺ، والذنب يجر إلى الذنب، كما أن الطاعة تجر إلى الطاعة، وعلى هذا فالزلل الذي أوقعهم فيه الشيطان هو ما كان من الهزيمة والفشل بعد توليهم عن مكانهم طمعا في الغنيمة، وهذا التولي هو بعض ما كسبوا.

وفي هذا إيماء إلى سنة من سنن الله في أخلاق البشر وأعمالهم، وهي أن المصايب التي تعرض لهم في خاصة أنفسهم أو في شئونهم العامة، إنما هي آثار طبيعية لبعض أعمالهم، ولكن الله قد يعفو عن بعض الأعمال التي لا أثر لها في النفس وليست ملكة ولا عادة لها، بل صدرت هفوة غير متكررة، وهي التي عناها سبحانه بقوله: « وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ » وإليها الإشارة بقوله: « وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ ».

فهذه المصايب والعقوبات، سواء أكانت في الدنيا أم في الآخرة - آثار طبيعية للأعمال السيئة.

(وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ) أي إنّ ما صدر منهم من الذنوب في هذا اليوم يستحق أن يعاقبوا عليه في الدنيا والآخرة، لكن الله عفا عن عقوبتهم الأخروية، وجعل عقوبتهم في الدنيا تربية وتمحيصا.

وفي هذا دفع لاستيلاء اليأس على نفوسهم، وتحسين لظنونهم.

(إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) أي إن الله يغفر الذنوب جميعا صغيرها وكبيرها بعد التوبة والاعتذار، حليم لا يعاجل بالعقوبة على الذنب.

وقد جاءت هذه الجملة كالسبب للعفو عن هؤلاء المتولين وقد كانوا أكثر المقاتلين، فإنه لم يبق مع النبي ﷺ يوم أحد إلا ثلاثة عشر رجلا، خمسة من المهاجرين وباقيهم من الأنصار، وقد بالغ بعض المنهزمين في الفرار حتى إن بعضهم لم يرجعوا إلى رسول الله ﷺ إلا بعد ثلاثة أيام، فقال لهم لقد ذهبتم بها عريضة، وبعضهم رجع في ذلك اليوم واجتمعوا على الجبل كعمر بن الخطاب رضي الله عنه.

[سورة آل عمران (3): الآيات 156 الى 158]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)

تفسير المفردات

المراد بالذين كفروا هنا: المنافقون كعبد الله بن أبي وأصحابه، ضربوا في الأرض: أي سافروا فيها للتجارة والكسب، لإخوانهم: أي في شأنهم، والأخوة تشمل أخوة النسب وأخوة الدين والمودة، وغزّى: واحدهم غاز وهو المقاتل في الحرب.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه فيما سلف لعباده المؤمنين أن الهزيمة التي حلت بهم يوم أحد كانت بوسواس من الشيطان استزلهم به فزلوا - حذرهم هنا من مثل هذه الوسوسة التي أفسد بها الشيطان قلوب الكافرين.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) أي لا تكونوا أيها المؤمنون كأولئك المنافقين الذين قالوا في شأن إخوانهم حين سافروا في الأرض للتجارة والكسب فماتوا، أو كانوا غزاة في وطنهم أو في بلاد أخرى فقتلوا: لو كانوا مقيمين عندنا ما ماتوا وما قتلوا.

وعبر عن هؤلاء المنافقين بالكافرين، لبيان أن مثل هذا لا ينبغي أن يصدر من المؤمنين، بل إنما يصدر من الكافرين، إذ أن من مات أو قتل فقد انتهى أمره، فقولهم (لو كان كذا) عبث لأن ما وقع لا يرتفع، والحسرة عليه لا تفيد، ومن شأن المؤمنين أن يكونوا صحيحى العقل والإدراك.

إلى أن في هذا القول جهلا بالدين وجحدا له فإن الله يقول: « وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتابًا مُؤَجَّلًا ».

وعقيدة القضاء والقدر لا تجعل المسلم مجبورا على أفعاله التي تصدر منه، فإن القضاء تعلق العلم الإلهي بالشيء، والعلم انكشاف لا يفيد الإلزام، والقدر وقوع الشيء بحسب العلم، والعلم لا يكون إلا مطابقا للواقع وإلا كان جهلا.

والله تعالى قد جعل للإنسان اختيارا في أعماله، لكنه خلقه مع ذلك ناقص القدرة والإرادة والعلم، فقد يعزم على العمل ثم تنفسخ عزيمته لتغير علمه بالمصلحة أو لعجزه عن تنفيذ ما عزم عليه، مع اعتقاده بأنه هو الموافق للمصلحة لمرض يلمّ به، أو مانع يحول بينه وبين تنفيذ ما عزم عليه.

وإنا لنرى هذا يحدث كل يوم، فليس الإنسان بقادر على أن يفعل كل ما يشاء كما يخيل إلى الناس اغترارا بما ينفذونه من عزائمهم، فاختياره في أعماله وقدرته عليها ومعرفته الأسباب، كل ذلك له حدود لا يتعداها، فهو لا يحيط علما بأسباب الموت، ولا يقدر على اجتناب كل ما يعلم من أسبابه، وما كل ما يتعرض له يقع، فالذين يعرّضون أنفسهم لنار الحرب قد يسلم أكثرهم ويقتل أقلهم.

ومن هذا تعلم أن الشيء متى وقع علم أن وقوعه لم يكن منه بد، وأن الإنسان إذا كان يؤمن بمعونة الله وتأييده، وأنه يوفقه إلى علم ما يجهل من أسباب سعادته، يكون مع أخذه بالأسباب أنشط في العمل، وأبعد عن اليأس والكسل.

(لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) أي لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا فيمن ماتوا أو قتلوا ما قالوا، ليكون عاقبة ذلك القول مع الاعتقاد حسرة في قلوبهم على من فقد من إخوانهم تزيدهم ضعفا وتورثهم ندما على تمكينهم إياهم من التعرض لما ظنوه سببا ضروريا للموت، فإنكم إذا كنتم مثلهم في ذلك يصيبكم من الحسرة مثل ما يصيبهم، وتضعفون عن القتال كما يضعفون، فلا يكون لكم ميزة عنهم بالعقل الراجح الذي يهدى صاحبه إلى أن الذي وقع كان لا بد أن يقع، فلا يتحسر عليه، ولا بالإيمان الصادق الذي يزيد صاحبه إيقانا وتسليما بكل ما يجرى به القضاء (وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي والله هو المؤثر وحده في الحياة والموت بمقتضى سننه في أسبابهما، وليس للإقامة والسفر مدخل فيهما، فإن الله قد يحيى المسافر والغازي مع تعرضهما لأسباب الهلاك، ويميت المقيم والقاعد وإن كانا تحت ظلال النعيم.

وقد أثر عن خالد بن الوليد أنه قال عند موته: ما في موضع شبر إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح، وهأنذا أموت كما يموت العير (الحمار) فلا نامت أعين الجبناء.

(وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فلا يخفى عليه شيء مما تكنّون في أنفسكم من المعتقدات التي لها أثر في أقوالكم وأفعالكم، فاجعلوا نفوسكم طاهرة من وساوس الشيطان حتى لا يصدر منها ما يصدر من الكفار.

وفي هذا تهديد للمؤمنين حتى لا يماثلوا الكفار في أقوالهم وأفعالهم.

ثم بشر من قتل أو مات في سبيل الله بحسن المآل فقال:

(وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) الموت في سبيل الله هو الموت في عمل من الأعمال التي يعملها الإنسان في سبيل البر والخير التي هدى الله الإنسان إليها ويرضاها منه، فالمحارب قد يموت في أثناء الحرب من التعب والإعياء، أو الإتيان بعمل من الأعمال التي تستدعيها الحروب فيكون هذا موتا في سبيل الله.

أي إن مغفرة الله ورحمته لمن يموت أو يقتل في سبيل الله، خير لكم من جميع ما يتمتع به الكفار من المال والمتاع في هذه الدار الفانية، فإن هذا ظل زائل، وذاك نعيم خالد.

والخلاصة - إن ما ينتظره المؤمن المقاتل في سبيل الله من المغفرة التي تمحو ما كان من ذنوبه، والرحمة التي ترفع درجاته - خير له مما يجمع أولئك الحريصون على الحياة الذين يتمتعون باللذات والشهوات.

فما أجدر المؤمنين أن يؤثروا مغفرة الله ورحمته على الحظوظ الفانية، وألا يتحسروا على من يقتل منهم أو يموت في سبيل الله فإن ما يلقونه بعدهما خير لهم مما كانوا فيه قبلهما.

ثم حثهم على العمل في سبيل الله، لأن المآل إليه فقال:

(وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ) أي إنكم بأى سبب كان هلاككم فإنكم إلى الله تحشرون لا إلى غيره، فيجزى كلا منكم بما يستحق من الجزاء، فيجازى المحسن على إحسانه، والمسيء على إساءته، ولا يرجى من غيره ثواب، ولا يتوقع منه دفع عقاب، فآثروا ما يقربكم إليه، ويجلب لكم رضاه من العمل بطاعته، وعليكم بالجهاد في سبيله، ولا تركنوا إلى الدنيا ولذاتها، فإنها فانية، وتلك الحياة الأخرى باقية خالدة.

والمراد من الحشر إلى الله في مثل هذا مما جاء في القرآن الكريم، أن الإنسان في ذلك اليوم الذي يحشر فيه الناس يستقبل ما يلاقيه من الله جزاء عمله، لا يشغله عنه شيء، فيكون بذلك راجعا عن كل شيء فيه إلى الله، محشورا مع سائر الناس.

أما الإنسان في هذه الدار فقد يغفل عن الله وينسى هيبته وجلاله، وعظمته وسلطانه، لاشتغاله بدفع المكاره عن نفسه، وجلب اللذات والرغائب لها.

وإذا كان هذا مصير كل حي مهما كان سبب موته أو قتله، فالاشتغال بذكر سبب المصير ومبدئه لا يفيد، وإنما الذي يجدر بالعاقل هو الاهتمام بالمستقبل والاستعداد له، والعمل لما به الفوز والسعادة فيه.

[سورة آل عمران (3): الآيات 159 الى 160]

فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)

تفسير المفردات

اللين في المعاملة: الرفق والتلطف فيها، والفظ: الخشن الشّرس الأخلاق الجافي في المعاشرة في القول والفعل، والغليظ: القاسي الذي لا يتأثر قلبه من شيء، وانفضّ القوم: تفرقوا كما قال: « وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْها » والمشاورة: من قولك شرت العسل إذا اجتنيتها واستخرجتها من موضعها، والمراد بالأمر سياسة الأمة في الحرب والسلم والخوف إلى نحو ذلك من المصالح لدنيوية، والتوكل: إظهار العجز والاعتماد على غيرك والاكتفاء به في فعل ما تحتاج إليه.

المعنى الجملي

بعد أن أرشد سبحانه عباده المؤمنين في الآيات المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم وكان من جملة ذلك أن عفا عنهم - زاد في الفضل والإحسان إليهم في هذه الآيات بأن مدح الرسول ﷺ على عفوه عنهم وتركه التغليظ عليهم، وقد نزلت هذه الآيات عقب وقعة أحد التي خالف فيها النبي ﷺ بعض أصحابه، وكان من جرّاء ذلك ما كان من الفشل وظهور المشركين عليهم حتى أصيب النبي ﷺ مع من أصيب، فضبر وتجلد ولان في معاملة أصحابه وخاطبهم بالرفق ولم يعاتبهم، اقتداء بكتاب الله إذ أنزل في هذه الواقعة آيات كثيرة بين فيها ما كان من ضعف بعض المسلمين وعصيانهم وتقصيرهم، حتى ذكر الظنون والهواجس النفسية، لكن مع العتب المقترن بذكر العفو والوعد بالنصر وإعلاء الكلمة.

الإيضاح

(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) أي إنه قد كان من أصحابك ما يستحق الملامة والتعنيف بمقتضى الطبيعة البشرية، إذ صدروا عنك حين اشتداد الأهوال، وشمّروا للهزيمة والحرب قائمة على قدم وساق، ومع ذلك لنت لهم وعاملتهم بالحسنى بسبب الرحمة التي أنزلها الله على قلبك، وخصّك بها، إذ أمدك بآداب القرآن العالية، وحكمه السامية، حتى هانت عليك المصايب، وعلّمتك ما لها من المنافع وحسن العواقب.

وقد مدح الله نبيه بحسن الخلق في مواضع من كتابه فقال: « وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ » وقال: « لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ »

وقال ﷺ: « لا حلم أحبّ إلى الله تعالى من حلم إمام ورفقه، ولا جهل أبغض إلى الله من جهل إمام وخرقه ».

(وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) أي ولو كنت خشنا جافيا في معاملتهم لتفرقوا عنك، ونفروا منك، ولم يسكنوا إليك، ولم يتم أمرك من هدايتهم وإرشادهم إلى الصراط السوي.

ذاك أن المقصود من بعثة الرسل تبليغهم شرائع الله إلى الخلق، ولا يتم ذلك إلا إذا مالت قلوبهم إليهم، وسكنت نفوسهم لديهم، وذلك إنما يكون إذا كان الرسول رحيما كريما يتجاوز عن ذنب المسيء، ويعفو عن زلاته، ويخصه بوجوه البر والمكرمة والشفقة.

(وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) أي واسلك معهم سبيل المشورة التي اتبعتها في هذه الواقعة ودم عليها - فإنهم وإن أخطئوا الرأي فيها، فإن في تربيتهم عليها دون الانقياد لرأى الرئيس وإن كان صوابا نفعا في مستأنف أمرهم ومستقبل حكومتهم ما حافظوا عليها.

فالجماعة أبعد عن الخطإ من الفرد في أكثر الحالات، وما ينشأ من الخطر على الأمة بتفويض أمرها إلى واحد مهما حصف رأيه، أشد من الخطر الذي يترتب على رأى الجماعة.

ولما كانت الاستشارة سبيلا للنزاع ولا سيما إذا كثر المستشارون - أمر الله نبيه أن يقرر هذه السنة عملا، فكان يستشير صحبه بهدوء وسكينة ويصغى إلى كل قول ويرجح رأيا على رأى بما يرى فيه من المصلحة والفائدة بقدر المستطاع.

وقد عمل النبي ﷺ بالشّورى في حياته، فكان يسيشير السواد الأعظم من المسلمين، ويخص بها أهل الرأي والمكانة في الأمور التي يضر إفشاؤها.

فاستشارهم يوم بدر لما علم بخروج قريش من مكة للحرب ولم يبرم الأمر حتى صرح المهاجرون والأنصار بالموافقة، واستشارهم يوم أحد كما علمت، وهكذا كان يستشيرهم في كل مهمّ ما لم ينزل عليه فيه وحي، فإنه إذ ذاك لا بد من نفاذه، ولم يضع للنبي ﷺ قواعد الشورى، لأنها تختلف باختلاف أحوال الأمة الاجتماعية، وبحسب الزمان والمكان، ولأنه لو وضع لها قواعد لاتخذها المسلمون دينا وحاولوا العمل بها في كل زمان ومكان، ومن ثم قال الصحابة في اختيار أبي بكر خليفة رضيه رسول الله ﷺ لديننا، إذ أمره بالإمامة في الصلاة حين مرضه أفلا نرضاه لدنيانا؟

ولكن الخلفاء فيما بعد لم يتبعوا هذه السنة، ولا سيما زمن الدولة العباسية، إذ كان للأعاجم سلطان كبير في ملكهم، ثم جرى على ذلك سائر الملوك من المسلمين فيما بعد، وجاراهم على ذلك علماء الدين، حتى ظن كثير من غير المسلمين أن السلطة في الإسلام استبدادية، وأن الشورى اختيارية، ولكن هذا بعيد من الصواب، بعد أن صرح القرآن بالشورى وأمر نبيه بها وهو المعصوم عن الهوى وللشورى فوائد جمة منها:

(1) إنها تبين مقادير العقول والأفهام، ومقدار الحب والإخلاص للمصالح العامة.

(2) إن عقول الناس متفاوتة وأفكارهم مختلفة، فربما ظهر لبعضهم من صالح الآراء ما لا يظهر لغيره وإن كان عظيما.

(3) إن الآراء فيها تقلّب على وجوهها، ويختار الرأي الصائب من بينها.

(4) إنه يظهر فيها اجتماع القلوب على إنجاح المسعى الواحد، واتفاق القلوب على ذلك مما يعين على حصول المطلوب، ومن ثم شرعت الاجتماعات في الصلوات، وكانت صلاة الجماعة أفضل من صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة.

وعن الحسن رضي الله عنه: قد علم الله أن ما به إليهم حاجة، ولكن أراد أن يستنّ به من بعده، وعن النبي ﷺ أنه قال « ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمرهم » وعن أبي هريرة رضي الله عنه: ما رأيت أحدا أكثر مشاورة من أصحاب النبي ﷺ.

(فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) أي فإذا عقدت القلب على فعل شيء وإمضائه بعد المشاورة ومبادلة الرأي فيه، فتوكل على الله، وفوّض الأمر إليه بعد أخذ الاهبة واستكمال العدّة، ومراعاة الأسباب التي جعلها الله وسيلة للوصول إلى المسببات كما ورد في الحديث « اعقلها وتوكل ».

ولا تتكل على ما أوتيت من حول وقوة، ولا على إحكام الرأي وأخذ العدة، فذلك كله ليس بكاف في النجاح ما لم تقرن به معونة الله وتوفيقه، لأن الموانع الخارجية والعوائق التي تحول دون الوصول إلى البغية، لا يحيط بها إلا علام الغيوب، فلا بد من الاتكال عليه والاعتماد على حوله وقوته.

وفي الآية إيماء إلى وجوب إمضاء العزيمة متى استكملت شروطها التي من أهمها المشورة.

وسر هذا أن نقض العزائم خور في النفس، وضعف في الأخلاق يجعل صاحبه غير موثوق به في قول ولا فعل، ولا سيما إذا كان رئيس حكومة، أو قائد جيش، ومن ثم لم يصغ النبي ﷺ إلى مشورة من رجع عن رأيه الأول وهو الخروج إلى أحد حين لبس لامته وخرج، إذ رأى أن هذا شروع في العمل بعد أن أخذت الشورى حقها.

وبذلك علمهم أن لكل عمل ميقاتا محدودا، وأن وقت المشورة متى انتهى جاء طور العمل، وأن الرئيس إذا شرع في العمل تنفيذا للشورى لا يجوز أن ينقض عزيمته، ويبطل عمله، ولو كان يرى أن أهل الشورى أخطئوا الرأي والتدبير كما حدث في مسألة أحد كما تقدم.

ولا يزال أهل السياسة والحرب في البلاد ذات الحضارة والمدنية يجرون على هذه القاعدة ويجعلونها دستورا لأعمال أممهم، ولا ينقضونها على أي حال، حتى قال أحد كبار الساسة الإنجليز: إن السياسة متى قررت شيئا وشرعت فيه وجب إمضاؤه وامتنع نقضه والرجوع عنه وإن كان خطأ.

(إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) عليه الواثقين به، فينصرهم ويرشدهم إلى ما هو خير لهم كما تقتضيه المحبة.

وفي الآية إرشاد للمكلفين، وترغيب لهم في التوكل على الله، والرجوع إليه، والإعراض عن كل ما سواه.

قال الرازي: دلت الآية على أنه ليس التوكل أن يهمل الإنسان نفسه كما يقول بعض الجهال وإلا كان الأمر بالمشاورة منافيا للأمر بالتوكل، بل التوكل عليه أن يراعى الإنسان الأسباب الظاهرة، ولكن لا يعوّل بقلبه عليها، بل يعول على عصمة الحكمة اهـ.

فالتوكل الصحيح إنما يكون مع الأخذ بالأسباب، وبدونها يكون دعوى التوكل جهلا بالشرع وفسادا في العقل، قال تعالى: « فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ » وقال: « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ » وقال: « وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ » وقال: « وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى » وقال لنبيه لوط « فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ » وقال لموسى عليه السلام: « فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا » وقال حكاية عن نبيه يعقوب لابنه يوسف: « لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا » وقال أيضا حاكيا عنه: « يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ، وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ » ففي هذا أمر بالحذر مع التنبيه إلى أنه متوكل على الله، ولا تنافى بينهما ولا غنى للمؤمن عنهما.

روى أحمد والشيخان (البخاري ومسلم) عن ابن عباس مرفوعا « يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب، الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون »

وقد قرن التوكل بترك الأعمال الوهمية دون غيرها، إذ لم ينف من الأعمال إلا الاستشفاء بالرّقية وهي إنما يطلبها الجاهلون بالأسباب الحقيقية، وإلا التطير وهو التيمن والتشاؤم بحركات الطير، وإلا الكي بالنار وكانوا يتداوون به في الجاهلية، وكان النبي ﷺ يكرهه لأمته، ويعده من الأسباب المؤلمة التي تنافى التوكل، وقد روى أحمد « لم يتوكل من استرقى أو اكتوى ».

وروى أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة « لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا » وهو ظاهر في أن التوكل يكون مع السعي، لأنه ذكر للطير عملا وهو الذهاب صباحا في طلب الرزق وهي فارغة البطن والرجوع وهي ممتلئتها.

وأخرج ابن حبان في صحيحه: « حديث الرجل الذي جاء النبي ﷺ وأراد أن يترك ناقته وقال: أأعقلها وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟ فقال النبي ﷺ: اعقلها وتوكل ».

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: قلت لأبى هؤلاء المتوكلون يقولون: نقعد وأرزاقنا على الله عز وجل، قال: ذا قول ردىء خبيث، يقول الله عز وجل: « إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ » وقال أيضا: سألت أبى عن قوم يقولون: نتكل على الله ولا نكتسب، قال: ينبغي للناس كلهم أن يتوكلوا على الله ولكن يعوّدون أنفسهم الكسب، هذا قول إنسان أحمق.

وسر هذا أن الإنسان إذا توكل ولم يستعدّ للأمر ويأخذ له الأهبة بحسب ما سنه الله من الأسباب، أسف وندم وتحسر على ما فات، وعدّ ملوما عقلا وشرعا، كما أنه إذا أخذ الأهبة واعتمد عليها وغفل قلبه عن الله كان عرضة للهلع والجزع إذا خاب سعيه ولم ينل بغيته، وربما وقع في اليأس الذي لا مطمع معه في فلاح ولا نجاح.

(إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ) أي إن أراد الله نصركم كما حدث يوم بدر حين عملتم بسنته، وثبتم في مواقفكم، واتكلتم على توفيقه ومعونته، فلا غالب لكم من الناس الذين جعلهم حرمانهم من التوكل عليه عرضة لليأس والقنوط.

وفي هذا ترغيب في التوكل على الله بعد المشورة والعزيمة الصادقة المترتبة على أخذ الاستعداد بما أوتيه من الحول والقوة.

(وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ؟) أي وإن يرد خذلانكم ويمنعكم معونته بما كسبت أيديكم من الفشل والتنازع وعصيان القائد فيما أمركم به كما جرى يوم أحد، فلا أحد يملك لكم نصرا ولا يدفع عنكم الخذلان.

(وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي فليخصه المؤمنون بالتوكل، لأنه لا ناصر لهم سواه.

[سورة آل عمران (3): الآيات 161 الى 164]

وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164)

تفسير المفردات

الغلّ: الأخذ خفية كالسرقة، ثم غلب استعماله في السرقة من المغنم قبل القسمة، ويسمى الغلول أيضا، وتوفى كل نفس ما كسبت، أي تعطى جزاء ما عملت تاما وافيا، وباء: رجع، والسخط (بفتحتين وبضم فسكون): الغضب العظيم، والمأوى: المصير، هم درجات أي ذوو درجات ومنازل، والبصير هو الذي يشاهد ويرى حتى لا يعزب عنه ما تحت الثرى، منّ: أي أنعم وتفضل، من أنفسهم أي من جنسهم من العرب ليفقهوا كلامه، ويزكيهم أي يطهرهم من أدران الوثنية والعقائد الفاسدة، من قبل: أي من قبل بعثة الرسول، ضلال مبين: أي ضلال بيّن لا ريب فيه.

المعنى الجملي

بعد أن حث عز اسمه فيما سلف على الجهاد، وبين مصير المجاهد في سبيله - أتبعه هنا بذكر أحكام الجهاد، ومن جملتها الكف عن الغلول.

روى الكلبي ومقاتل: أن هذه الآية نزلت حين ترك الرماة المركز الذي وضعهم فيه النبي ﷺ يوم أحد طلبا للغنيمة وقالوا نخشى أن يقول النبي ﷺ من أخذ شيئا من مغنم فهو له، وألا يقسم الغنائم كما لم يقسمها يوم بدر، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: ألم أعهد إليكم ألا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري؟ فقالوا تركنا بقية إخواننا وقوفا، فقال لهم: بل ظننتم أنا نغل ولا نقسم.

الإيضاح

(وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) أي ما كان من شأن أي نبي ولا من سيرته أن يغل، لأن الله عصم أنبياءه منه، فهو لا يليق بمقامهم ولا يقع منهم، لأن النبوة أعلى المناصب الإنسانية، فصاحبها لا يرغب فيما فيه دناءة وخسة.

(وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي وكل من يقع منه غلول يأتي بما غل به يوم القيامة حاملا له، ليفتضح أمره ويزيد به في عذابه.

أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: « قام فينا رسول الله ﷺ خطيبا، فذكر الغلول وعظمه، وعظم أمره ثم قال: ألا لا ألفينّ أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء فيقول يا رسول الله أغثنى، فأقول له لا أملك لك من الله شيئا، قد أبلغتك، لا ألفينّ أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته فرس لها حمحمة، فيقول يا رسول الله أغثنى، فأقول لا أملك لك من الله شيئا، قد أبلغتك، لا ألفينّ أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق، فيقول يا رسول الله أغثنى، فأقول لا أملك لك من الله شيئا، قد أبلغتك، لا ألفينّ أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول يا رسول الله أغثنى، فأقول لا أملك لك من الله شيئا، قد أبلغتك ».

وجعل بعض العلماء هذا الحديث من قبيل التمثيل، فشبهت حال الغالّ بما يرهقه من أثقال ذنبه وفضيحته به مع من فقد الناصر والمغيث - بحال من يحمل ذلك على عاتقه، ويقصد أرجى من يمكنه أن يغيثه فيخذله ويتنصل من إغاثته، وما زال الناس يشبهون الأثقال المعنوية بالأثقال الحسية، ويعبرون عن ذلك بالحمل كما قال تعالى « اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ، وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْ ءٍ، إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ، وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ ».

وقال أبو مسلم الأصفهاني: إن الإتيان في الآية معناه: أن الله يعلمه أتم العلم وينكشف له أوضح انكشاف، فالمراد أن كل غلول وخيانة خفية يعلمه الله مهما خفي، ويظهره يوم القيامة للغالّ حتى يعرفه كمعرفة من أتى بشىء يوصله إلى غيره، كما جاء في قوله تعالى حكاية عن لقمان: « يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ، إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ » فليس معنى الإتيان هنا أنه يحملها، بل يعلم بها مهما كانت مستترة، لأن من يأتي بالشيء لا بد أن يكون عالما به.

(ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي ثم بعد أن يأتي الغالّ بما غل فيتمثل له كأنه حاضر بين يديه، ينال جزاء ما كسب مستوفى تاما لا ينقص منه شيء كما قال تعالى: « وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ، وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها؟ وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ».

وجاء حكم التوفية في الجزاء عاما لكل كاسب، وإن كان الكلام في جزاء الغالّ فحسب - ليكون كالدليل على المقصود من استيفائه الجزاء، فإنه إذا كان كل كاسب مجزيّا بعمله لا ينقص منه شيء وإن كان جرمه حقيرا، فالغالّ مع عظم جرمه أولى بذلك.

وقد أردف الله توفية ما كسبته كل نفس بالتفصيل الآتي ليبين أن جزاء المطيعين ليس كجزاء المسيئين، فقال:

(أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ؟) أي أفمن اتقى وسعى في تحصيل رضا الله بفعل الطاعات، وترك الغلول وغيره من الفواحش والمنكرات حتى زكت نفسه وصفا روحه - يكون جزاؤه كجزاء من انتهى أمره إلى سخط الله، وعظيم غضبه، بفعل ما يدسّى نفسه من الخطايا من سرقة وغلول وسلب وقتل، وترك ما يطهرها من فعل الخيرات وعمل الصالحات؟.

ثم صرح بالفارق بينهما فقال:

(وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي ومأواه الذي يأوى إليه، ولا مرجع له غيره، هي جهنم وساءت منقلبا ومرجعا ومآبا.

ونظير هذه الآية قوله تعالى: « أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كانَ فاسِقًا لا يَسْتَوُونَ » وقوله: « أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ».

(هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ) أي إن كلا ممن اتبع رضوان الله ومن باء بغضب من الله طبقات مختلفة، ومنازل عند الله متفاوتة في حكمه، وبحسب علمه بشئونهم وبما يستحقون من الجزاء « يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ».

والخلاصة - إن الناس يتفاوتون في الجزاء عند الله كما يتفاوتون في الفضائل والمعرفة في الدنيا، وما يترتب على ذلك من الأعمال الحسنة أو السيئة.

وهذا التفاوت على مراتب ودرجات يعلو بعضها بعضا ابتداء من الرفيق الأعلى الذي طلبه النبي ﷺ في مرض موته إلى الدرك الأسفل.

وهذه الدرجات أثر طبيعي لارتقاء الأرواح أو تدليها بالأعمال الصالحة أو السيئة.

(وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) فلا يخفى عليه شيء من أعمالهم التي لها التأثير العظيم في تزكية نفوسهم وفوزها وفلاحها وارتقائها إلى أرفع الدرجات - أو في تدسيتها التي يترتب عليها الخيبة والخسران والهبوط إلى أسفل الدركات كما قال: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها).

ولا يعلم هذه الدرجات إلا من أحاط بكل شيء علما، لأنه هو الذي لا يخفى عليه أثر من آثار الأعمال في الأنفس، ولا ما يختلج القلوب من الخواطر والهواجس.

وبعد أن نفى الغلول والخيانة عن النبي ﷺ على أبلغ وجه أكد ذلك بهذه الآية.

(لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) أي إن هذا الرسول ولد في بلدهم، ونشأ بين ظهرانيهم، ولم يروا منه طوال حياته إلا الصدق والأمانة والدعوة إلى الله والإعراض عن الدنيا، فكيف يظن بمن هذه حاله خيانة وغلول؟.

وقد وصفه الله بأوصاف كل منها يقتضى عظيم المنة:

(1) إنه من أنفسهم أي إنه عربي من جنسهم، وبذا يكونون أسرع الناس إلى فهم دعوته والاهتداء بهديه، وأقرب إلى الثقة به من غيرهم، إلى أنهم إذا كانوا على كثب منه وقفوا على أحواله من الصدق والأمانة، إلى مالهم بذلك من شرف وجليل خطر كما قال تعالى (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) وقال:

وكم أب علا بابن ذا شرف كما علت برسول الله عدنان

وقد خطب أبو طالب في تزويج خديجة رضي الله عنها للنبي ﷺ بمحضر من بنى هاشم ورؤساء مضر، فقال: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل وضئضىء (أصل) معدّ، وجعلنا حضنة بيته، وسوّاس حرمه، وجعل لنا بيتا محجوجا وحرما آمنا، وجعلنا الحكام على الناس.

ثم إن هذا ابن أخي محمد بن عبد الله من لا يوزن به فتى من قريش إلا رجح به، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل.

وتخصيص هذه المنة بالعرب مع أنه بعث للناس كافة لمزيد انتفاعهم به، على أن هذه النعمة الكبرى ذكرت في آيات أخرى كقوله: (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ).

(2) إنه يتلو عليهم آياته الدالة على قدرة الله ووحدانيته وعلمه، ويوجه النفوس إلى الاستفادة منها، والاعتبار بها كما جاء في قوله: « إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ » وقوله « وَالشَّمْسِ وَضُحاها وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها » وقوله « أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ».

(3) إنه يزكيهم ويطهرهم من العقائد الزائفة، ووساوس الوثنية وأدرانها إذ أن العرب وغيرهم قبل الإسلام كانوا فوضى في أخلاقهم وعقائدهم وآدابهم، فكان محمد ﷺ يقتلع منهم جذور الوثنية، ويدفع عنهم العقائد الباطلة كاعتقادهم أن وراء الأسباب الطبيعية التي ارتبطت بها المسببات منافع ترجى، ومضارّ تخشى من بعض المخلوقات، فيجب تعظيمها والالتجاء إليها، دفعا لشرها، وجلبا لخيرها، وتقربا إلى خالقها.

ولا شك أن من يعتقد مثل هذا يكون أسير الأوهام، وعبد الخرافات، يخاف في موضع الأمن، ويرجو حيث يجب الحذر والخوف.

(4) إنه يعلمهم الكتاب والحكمة، فتعليم الكتاب اضطرهم إلى تعلم الكتابة، وأخرجهم من الأمية إلى نور العلم والعرفان، فقد طلب إليهم كتابة القرآن، واتخذ كتبه للوحى، وكتب كتبا دعا بها الملوك والرؤساء إلى الإسلام في سائر الأصقاع المعروفة، فانتشرت الكتابة بينهم، وعظمت مدنيتهم، وامتدت سلطتهم فملكوا الأمم التي كان لها السلطان والصّولة والنفوذ في تلك الحقبة.

كذلك علّمهم الحكمة وأرشدهم إلى البصر بفهم الأشياء، ومعرفة أسرارها، وفقه أحكامها، وبيان ما فيها من المصالح والحكم، وهداهم إلى طرق الاستدلال، ومعرفة الحقائق، ببراهينها، فكان ذلك من أكبر البواعث على العمل بها، والتمسك بأهدابها، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.

والخلاصة - إن تعليم الكتاب إشارة إلى معرفة ظواهر الشريعة، وتعليم الحكمة إشارة إلى فهم أسرارها وعللها وبيان منافعها.

(وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي وإنهم كانوا قبل هذه البعثة في ضلال بيّن واضح، ولا ضلال أظهر من ضلال قوم يشركون بالله ويعبدون الأصنام ويسيرون وراء الأوهام، وهم على ذلك أميون لا يقرءون ولا يكتبون حتى يعرفوا حقيقة ما هم فيه من الضلال.

وإنما جعلها منة لكونها وردت بعد محنة، فكان موقعها أعظم، إذ أن بعثة الرسول جاءت بعد جهل وبعد عن الحق، فكانت أعم نفعا وأتم وقعا.

[سورة آل عمران (3): الآيات 165 الى 168]

أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168)

تفسير المفردات

المراد بالمصيبة: ما أصابهم يوم أحد من ظهور المشركين عليهم، وقتل سبعين منهم، ومثليها أي ضعفها بقتل سبعين من المشركين، وأسر سبعين منهم يوم بدر، إني هذا؟ أي من أين لنا هذا، وهو تعجب مما حل بهم من هذا المصاب، من عند أنفسكم أي بشؤم معصيتكم، الجمعان: جمع المؤمنين وجمع المشركين، فبإذن الله أي بإرادته الأزلية وقضائه السابق بارتباط بالمسببات بأسبابها، فادرءوا أي فادفعوا، إن كنتم صادقين أي في دفع المكاره بالحذر.

المعنى الجملي

بعد أن حكى سبحانه عن المنافقين أنهم نسبوا إلى النبي ﷺ الغلول والخيانة، ثم برأه منه، وبين ما بعث لأجله - عاد هنا إلى كشف الشبهات التي عرضت للغزاة قبل الواقعة وبعدها، وبين خطأهم وضلالهم في أقوالهم وأفعالهم.

الإيضاح

(أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا؟) أي لا ينبغي لكم أن تعجبوا مما حل بكم في هذه الواقعة، فإن خذلانكم فيها لم يبلغ مبلغ ظفركم في بدر، فقد كان نصركم في تلك الواقعة ضعف انتصار المشركين في هذه. فلماذا نسيتم فضل الله عليكم في بدر فلم تذكروه، وأخذتم تعجبون مما أصابكم في أحد وتسألون عن سببه.

وفائدة قوله قد أصبتم مثليها - التنبيه إلى أن أمور الدنيا لا تدوم على نهج واحد فأنتم هزمتموهم مرتين، فكيف تستبعدون أن يهزموكم مرة واحدة.

وقد كان سبب تعجبهم أنهم قالوا: كيف ننصر الإسلام الذي هو الدين الحق ومعنا الرسول وهم ينصرون دين الشرك بالله، ومع ذلك ينصرون علينا؟.

وقد أجاب الله عن هذه الشبهة بجوابين:

(1) قوله قد أصبتم مثليها.

(2) قوله (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) أي إن هذا الذي وقع إنما وقع بشؤم معصيتكم لأنكم عصيتم الرسول في أمور كثيرة:

(ا) إن الرسول ﷺ قال: المصلحة في البقاء في المدينة، فلا نخرج إلى أحد، فأبيتم إلا الخروج، وكان الرأي ما رآه الرسول حتى إذا ما دخلها المشركون قاتلوهم على أفواه الأزقة والشوارع، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من سطوح المنازل.

(ب) إنكم فشلتم وضعفتم في الرأي.

(ح) إنكم تنازعتم وحصلت بينكم مهاترة كلامية.

(د) إنكم عصيتم الرسول ﷺ وفارقتم المكان الذي أمركم بالوقوف فيه لحماية ظهوركم بنضح عدوكم بالنبل إذا أراد أن يكون من ورائكم.

ولا شك أن العقوبات آثار لازمة للأعمال، والله تعالى إنما وعدكم النصر بشرط ترك المعصية كما قال: « إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ ».

(إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو القادر على نصركم لو ثبتم وصبرتم، وهو القادر على التخلي عنكم إن خالفتم وعصيتم، وهو سبحانه قد ربط الأسباب بالمسببات، ولا يشذ عن ذلك مؤمن ولا كافر.

فوجود الرسول بينكم وأنتم قد خالفتم سنن الله في البشر لا يحميكم مما تقتضيه هذه السنن.

(وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ) أي وكل ما أصابكم أيها المؤمنون يوم التقى جمعكم بجمع المشركين في أحد، فهو بإذن الله وإرادته وقضائه السابق بجعل المسببات نتائج لأسبابها فكل عسكر يخطىء الرأي، ويعصى قائده، ويخلّى بين العدو وبين ظهره، يصاب بمثل ما أصبتم به، أو بما هو أشد وأنكى منه.

وفي ذلك تسلية للمؤمنين وعبرة تشرح لهم ما تقدم من قوله: « قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ ».

(وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا) أي ليظهر علم الله بحال المؤمنين من قوة الإيمان وضعفه، واستفادتهم من المصايب حتى لا يعودوا إلى أسبابها، وليعرفوا سنن الله عند ما يظهر فيهم حكمها، كما يظهر حال المنافقين الذين أظهروا الإيمان وتبطنوا الكفر، فيترتب على ذلك العبرة بسوء عاقبة المنافقين حتى فيما ظنوه حزما واتقاء للمكروه، واحتياطا في الأمر، كما تحدث العبرة بحسن عاقبة الصادقين حتى فيما ظنوه شرا وكرهوا حصوله.

(وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا) أي إن هؤلاء المنافقين دعوا إلى القتال، وقيل لهم: إن كان في قلبكم حب الدين والذود عنه فقاتلوا لأجله، وإن لم تكونوا كذلك فقاتلوا دفعا عن أنفسكم وأهليكم وأموالكم.

والخلاصة - قاتلوا ابتغاء مرضاة الله وإقامة دينه، أو قاتلوا للدنيا ودافعوا عن أنفسكم وأهليكم ووطنكم، لكنهم راوغوا وقعدوا وتكاسلوا.

(قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ) أي قالوا: لو نعلم أنكم تلقون قتالا في خروجكم ما أسلمناكم، بل كنا نتبعكم، لكنا نرى أن الأمر سينتهى بدون قتال.

روي أن الآية نزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه الذين خرجوا من المدينة في جملة الألف الذين خرج بهم رسول الله ﷺ ثم رجعوا من الطريق وهم ثلاثمائة ليخذلوا المسلمين، ويوقعوا فيهم الفشل.

ولا شك أن هذا الجواب منهم يدل على كمال النفاق، وأنه ما كان غرضهم منه إلا التلبيس والاستهزاء، إذ ذهاب المشركين وهم مدججون بسلاحهم إلى أحد من أقوى الأمارات على أنهم يريدون قتالا.

(هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) أي هم يوم قالوا هذه المقالة « لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ » أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان لظهور أماراته، بانخذالهم عن نصرة المؤمنين، واعتذارهم لهم على وجه الخديعة والاستهزاء، فإن الجهاد في سبيل الله والدفاع عن الأهل والوطن عند هجوم الأعداء مما يجب على المؤمن، ولا ينبغي تركه بحال.

يرشد إلى ذلك قوله تعالى: « إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ».

وإنما قال: إنهم أقرب إلى الكفر، ولم يقل إنهم كفار - منعا للنبز بالكفر بالعلامات والقرائن، دون أن يكون هناك كفر صريح، ومن ثم كان النبي ﷺ يعاملهم معاملة المؤمنين، حتى إنه صلى على رئيسهم عبد الله بن أبي صلاة الجنازة بعد بضع سنين من وقعة أحد، إلى أن فضحهم الله بقوله: « وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَدًا، وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ، إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ».

والخلاصة - إنه تعالى كان يعلم أنهم يبطنون الكفر لعملهم عمل الكفار بتركهم الجهاد، لكنه لم يصرح به، بل أومأ إليه، تأديبا لهم عسى أن يتوب على من لم يتمكن الكفر في قلوبهم، ومنعا للناس من الهجوم على التكفير بالظّنة ووجود الأمارات فحسب.

(يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) أي إن ما تقوله ألسنتهم مخالف لما تضمره قلوبهم، فهم يظهرون الإيمان باللسان ويبطنون الكفر، فالكذب دأبهم ليستروا به ما يضمرون، ويؤيدوا ما يظهرون.

وفي ذكر الأفواه والقلوب تصوير لنفاقهم، وتوضيح لمخالفة ظاهرهم لباطنهم.

والخلاصة - إنهم يتفوهون بقول لا وجود لمنشئه في قلوبهم كقولهم: لو نعلم قتالا، وقولهم: لاتبعناكم، وهم كاذبون في كل من الأمرين، فإنهم كانوا عالمين به وقد أصروا على الانخذال وعزموا على الارتداد.

ثم أكد كفرهم ونفاقهم وبين اشتغال قلوبهم بما يخالف أقوالهم من فنون الشر والفساد فقال:

(وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) من الكفر والكيد للمسلمين وتربص الدوائر بهم، فهو في كل حين يبين مخبآت أسرارهم، ويكشف أستارهم، ثم يعاقبهم على ذلك في الدنيا والآخرة.

والخلاصة - إنه لا ينفعهم النفاق، فالله أعلم بما تكنّه سرائرهم وقلوبهم.

وبعد أن ذكر قولا قالوه قبل القتال وبين بطلانه - أردفه قولا قالوه بعده وبيّن فساده، قال:

(الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا) أي هم الذين قالوا لأجل إخوانهم الذين قتلوا في هذه الواقعة، والحال أنهم قعدوا عن القتال: لو أطاعونا في القعود ولم يخرجوا للقتال كما لم نخرج - لما قتلوا كما أنّا لم نقتل.

وفي هذا إيماء إلى أنهم أمروهم بالانخذال حين انخذلوا.

أخرج ابن جرير عن السدي قال: خرج رسول الله ﷺ في ألف رجل وقد وعدهم الفتح إن صبروا، فلما خرجوا رجع عبد الله بن أبي في ثلاثمائة، فتبعهم أبو جابر السّلمى يدعوهم، فقالوا: لو نعلم قتالا لاتبعناكم، ولئن أطعتنا لترجعنّ معنا، فنعى الله عليهم ذلك بقوله - الذين قالوا لإخوانهم - الآية.

وقد دحض الله تعالى حجتهم، وأبان لهم كذبهم، ووبخهم على ما قالوا، فقال لنبيه:

(قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي قل لهم: إن صدور هذا القول الجازم منكم يدل على أنكم قد أحطتم علما بأسباب الموت في هذه الواقعة، وإذا جاز فيها جاز في غيرها، وحينئذ يمكنكم درء الموت ودفعه عن أنفسكم.

والخلاصة - إنكم إن كنتم صادقين في أن الحذر يغنى عن القدر، وأن سلامتكم كانت بسبب قعودكم عن القتال لا بغيره من أسباب النجاة، فادفعوا سائر صنوف الموت عن أنفسكم.

[سورة آل عمران (3): الآيات 169 الى 175]

وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتًا بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيمانًا وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)

تفسير المفردات

الاستبشار: السرور الحاصل بالبشارة، والذين لم يلحقوا بهم هم الذين بقوا في الدنيا، استجابوا أي أجابوا وأطاعوا، والقرح الجراح في يوم أحد، والإحسان أن يعمل الإنسان العمل على أكمل وجوهه الممكنة، والتقوى: أن يخاف الإساءة والتقصير فيه، حسبنا الله، أي الله كافينا، والوكيل: الكافي الذي توكل إليه الأمور، فانقلبوا، أي فرجعوا، والمراد بالنعمة: السلامة والثبات على الإيمان وطاعة الرسول، والفضل: هو الربح في التجارة، والشيطان هنا: شيطان الإنس الذي غش المسلمين ليخذلهم، وهو نعيم بن مسعود، يخوّف أولياءه، أي يخوفكم أنصاره من المشركين.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه تثبيط المشركين للراغبين في الجهاد بتحذيرهم عواقبه، وأنه مفض إلى القتل كما حدث يوم أحد، والقتل بغيض إلى النفوس مكروه لها، ثم أردفه بيان أن القتل إنما يحدث بقضاء الله وقدره كما يحدث الموت، فمن كتب له أن يقتل لا يمكنه أن يبتعد من القتل، ومن لم يقدّر له لا خوف عليه من الجهاد.

ذكر هنا ما يحبب الجهاد في سبيل الله، فأبان أن المقتولين شهداء أحياء عند ربهم قد خصهم الله بالقرب منه، والكرامة لديه، وأعطاهم أفضل أنواع الرزق وأوصلهم إلى مراتب الفرح والسرور.

أخرج الإمام أحمد في جماعة عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ « لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وتأوى إلى قناديل من ذهب معلّقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا، فقال الله تعالى: - أنا أبلغهم عنكم - فأنزل الله هؤلاء الآيات ».

الإيضاح

(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتًا) أي ولا تحسبن أيها السامع لقول المنافقين الذين ينكرون البعث أو يرتابون فيه، فيؤثرون الدنيا على الآخرة - أن من قتلوا في سبيل الله أمواتا قد فقدوا الحياة وصاروا عدما.

(بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) أي بل هم أحياء في عالم آخر غير هذا العالم، هو خير للشهداء، لما فيه من الكرامة والشرف عند الله، فليس القتل في سبيله بضائرهم، إذا ما صاروا إليه خيرا مما كانوا فيه، فلو سلم أن الخروج للقتال سبب للقتل لما كان مثبّطا للمؤمنين عن الجهاد عند وجوبه، كما إذا هاجم المشركون المؤمنين في مثل وقعة أحد، أو إذا فتن المسلمون عن دينهم ومنعوا من الدعوة إليه وإقامة شعائره، كما فعل مشركو العرب مع المسلمين زمن البعثة.

كيف والخروج إلى القتال كثيرا ما يكون سببا للسلامة، فإن الأمة التي لا تدافع عن نفسها يطمع فيها غيرها، وإذا هاجمها ظفر بها ونال منها ما يريد.

وهذه الحياة التي أثبتها القرآن الكريم للشهداء حياة غيبية لا ندرك حقيقتها، ولا نزيد على ما جاء به الوحي.

وقوله: يرزقون تأكيد لكونهم أحياء، وتحقيق لهذه الحياة.

(فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي مسرورين بشرف الشهادة، والتمتع بالنعيم العاجل، والزّلفى عند ربهم، والفوز بالحياة الأبدية.

(وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ) أي ويسرّون بإخوانهم المجاهدين الذين لم يقتلوا بعد في سبيل الله، فيلحقوا بهم من خلفهم، أي أنهم بقوا بعدهم وهم قد تقدموهم.

وقوله: من خلفهم إشارة إلى أنهم وراءهم يقتفون أثرهم ويحذون حذوهم قدما بقدم، وفى ذكر حال الشهداء واستبشارهم بمن خلفهم حثّ للباقين بعدهم على زيادة الطاعة والجد في الجهاد والرغبة في نيل منازل الشهداء وإصابة فضلهم، كما فيه إخماد لحال من يرى نفسه في خير فيتمنى مثله لإخوانه في الدين، وفيه بشرى للمؤمنين بالفوز بالمئاب.

(أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي هم يستبشرون بما تبين لهم من حسن حال إخوانهم الذين تركوهم أحياء، وهي أنهم عند قتلهم يفوزون بحياة أبدية لا يكدرها خوف من وقوع مكروه من أهوالها، ولا حزن من فوات محبوب من نعيمها (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) النعمة هي الثواب الذي يلقاه العامل جزاء عمله، والفضل هو التفضل الذي يمنّ الله به على عباده الطائعين المخبتين إليه، والمراد بالمؤمنين الشهداء الذين وصفوا بالأوصاف الآتية بعد.

وعبر عنهم يوصف الإيمان للاشارة إلى سموّ مكانته، ورفعة منزلته وكونه مناط السعادة.

وفي ذلك تحريض على الجهاد، وترغيب في الشهادة، وحثّ على ازدياد الطاعة وبشرى للمؤمنين بالفوز العظيم.

وقد جاءت هذه الجملة كالبيان والتفسير لقوله - لا خوف عليهم ولا هم يحزنون - لأن من كان في نعمة الله وفضله لا يحزن أبدا، ومن كانت أعماله مشكورة غير مضيعة لا يخاف العاقبة.

ثم وصفهم بحسن أفعالهم الموجب لزيادة أجرهم فقال:

(الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ، لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) أي هؤلاء المؤمنون هم الذين أجابوا دعوته، ولبّوا نداءه، وأتوا بالعمل على أكمل وجوهه، واتقوا عاقبة تقصيرهم، على ما هم عليه من جراح وآلام أصابتهم يوم أحد، لهم أجر عظيم على ما قاموا به من جليل الأعمال.

وفي قوله: منهم إشارة إلى أن من دعوا لبّوا واستجابوا له ظاهرا وباطنا، ولكن عرض لبعضهم موانع في أنفسهم أو أهليهم فلم يخرجوا، وخرج الباقون.

روي أن أبا سفيان وأصحابه لما رجعوا من أحد، فبلغوا الرّوحاء (موضع بين مكة والمدينة) ندموا وهمّوا بالرجوع حتى يستأصلوا من بقي من المؤمنين، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ، فأراد أن يرهبهم ويريهم من نفسه وأصحابه قوة، فندب أصحابه للخروج في إثر أبي سفيان وقال: لا يخرجنّ معنا إلا من حضر يومنا بالأمس، فخرج رسول الله ﷺ مع جماعة من أصحابه حتى بلغوا حمراء الأسد (موضع على ثمانية أميال من المدينة) وكان بأصحابه القرح فتحاملوا على أنفسهم حتى لا يفوتهم الأجر، وألقى الله الرعب في قلوب المشركين فذهبوا إلى مكة مسرعين فنزلت الآية.

وتسمى هذه الغزوة غزوة حمراء الأسد، وهي متصلة بغزوة أحد.

(الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) أي وهم الذين قال لهم نعيم بن مسعود الأشجعى ومن وافقه وأذاع قوله وهم أربعة: إن أبا سفيان وأعوانه جمعوا الجموع لقتالكم فاخشوهم ولا تخرجوا للقائهم.

روي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة أن الآية نزلت في غزوة بدر الصغرى.

ذاك أن أبا سفيان قال حين أراد أن ينصرف من أحد: يا محمد موعدنا موسم بدر القابل إن شئت، فقال النبي ﷺ: ذاك بيننا وبينك إن شاء الله، فلما كان العام القابل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل (مجنّة) من ناحية (مرّ الظهران) فألقى الله الرعب في قلبه، فبدا له الرجوع فلقى نعيم بن مسعود وقد قدم معتمرا فقال له أبو سفيان: إني واعدت محمدا وأصحابه أن نلتقى بموسم بدر، وإن هذا عام جدب، ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن، وقد بدا لي أن أرجع، وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج فيزيدهم ذلك جرأة، فالحق بالمدينة فثبطهم، ولك عندي عشرة من الإبل أضعها في يدي سهيل بن عمرو، فأتى نعيم المدينة فوجد المسلمين يتجهزون لميعاد أبي سفيان فقال لهم: ما هذا بالرأي، أتوكم في دياركم وقراركم ولم يفلت منكم إلا شريد، فتريدون أن تخرجوا إليهم وقد جمعوا لكم الجموع عند الموسم، فوالله لا يفلت منكم أحد، فكان لكلامه وقع شديد في نفوس قوم منهم، فقال رسول الله ﷺ: « والذي نفسي بيده لأخرجنّ ولو وحدي »

فخرج ومعه سبعون راكبا يقولون (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) حتى وافى بدرا الصغرى (بدر الموعد) فأقام بها ثمانية أيام ينتظر أبا سفيان فلم يلق أحدا، لأن أبا سفيان رجع بجيشه إلى مكة وكان معه ألفا رجل فسماه أهل مكة جيش السّويق، وقالوا لهم إنما خرجتم لتشربوا السويق.

ووافى المسلمون سوق بدر، وكانت معهم نفقات وتجارات فباعوا واشتروا أدما وزبيبا فربحوا وأصابوا بالدرهم درهمين، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين.

(فَزادَهُمْ إِيمانًا) أي زادهم هذا القول إيمانا بالله وثقة به، ولم يلتفتوا إلى تخويفهم بل حدث في قلوبهم عزم وتصميم على محاربة هؤلاء الكافرين، وطاعة للرسول في كل ما يأمر به وينهى عنه، وإن أضناهم ذلك وثقل عليهم، لما بهم من جراحات عظيمة وقد كانوا في حاجة إلى قسط من الراحة، وشىء من التداوي، لكن وثوقهم، بنصر الله وتغلبهم على عدوهم أنساهم كل هذه المصاعب فلبوا الدعوة سراعا.

والخلاصة - إن هذا القول الذي سمعوه زاد شعورهم بعزة الله وعظمته وسلطانه ويقينهم بوعد الله ووعيده، وتبع ذلك زيادة في العمل، ودأب على إنفاذ ما طلب الرسول ﷺ، ولو لا ذلك ما أقدموا على الاستجابة على ما كاد يكون وراء حدود الإمكان.

ونحو الآية قوله تعالى « وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيمانًا وَتَسْلِيمًا ».

(وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) أي قالوا معبّرين عن صادق إيمانهم بالله: الله يكفينا ما يهمنا من أمر الذين جمعوا الجموع لنا، فهو لا يعجزه أن ينصرنا على قلّتنا وكثرتهم، أو يلقى في قلوبهم الرعب، فيكفينا شر بغيهم وكيدهم، وقد كان الأمر كما ظنوا، فألقى الله الرعب في قلب أبي سفيان وجيشه على كثرة عددهم وتوافر عددهم، فولّوا مدبرين، وكان في ذلك عزة لله ولرسوله وللمؤمنين.

أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ « إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل »

وأخرج ابن أبي الدنيا عن عائشة رضي الله عنها « أن النبي ﷺ كان إذا اشتد غمّه مسح بيده على رأسه ولحيته، ثم تنفس الصّعداء وقال: حسبي الله ونعم الوكيل ».

وأخرج أبو نعيم عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله ﷺ « حسبي الله ونعم الوكيل أمان كل خائف ».

(فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) أي فخرجوا للقاء عدوهم ولم يلقوا منهم كيدا ولا همّا، ولم يلبثوا أن انقلبوا إلى أهليهم وقد تظاهرت عليهم نعم الله فسلموا من تدبير عدوهم، وأطاعوا رسولهم، وربحوا في تجارتهم، ولم يمسسهم قتل ولا أذى.

روى البيهقي عن ابن عباس أن عيرا مرت في أيام الموسم فاشتراها رسول الله ﷺ فربح ما لا فقسمه بين أصحابه، فذلك الفضل.

وأخرج ابن جرير عن السدي قال: أعطى رسول الله ﷺ حين خرج في بدر الصغرى أصحابه دراهم ابتاعوا بها في الموسم فأصابوا ربحا كثيرا.

(وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ) أي واتبعوا في كل ما أتوا من قول أو فعل رضا الله الذي هو وسيلة النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة، فأطاعوا رسوله في كل ما به أمر، وعنه نهى.

(وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) إذ تفضل عليهم بزيادة الإيمان، والتوفيق إلى المبادرة إلى الجهاد، والجرأة على العدو، وحفظهم من كل ما يسوءهم.

وفي هذا إلقاء للحسرة في قلوب المتخلفين منهم، وإظهار لخطل رأيهم، إذ حرموا أنفسهم ما فاز به هؤلاء.

(إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) أي ليس ذلك الذي قال لكم: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم إلا الشيطان يخوفكم أولياءه وأنصاره المشركين، ويوهمكم أنهم عدد كثير وأولو قوة وبأس شديد، وأن من مصلحتكم أن تقعدوا عن لقائهم، وتحبنوا عن مدافعتهم.

(فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي فلا تخافوا أولئك الأولياء، ولا تحفلوا بقولهم (فَاخْشَوْهُمْ) فتخافوهم، بل خافونى في مخالفة أمري، لأنكم أوليائي وأنا وليكم وناصركم إن كنتم راسخى الإيمان قائمين بحقوقه، فإن من حقه إيثار خوف الله تعالى على خوف غيره، والأمن من شر الشيطان وأوليائه.

وخلاصة ذلك - إنه إذا عرضت لكم أسباب الخوف، فاستحضروا في نفوسكم قدرة الله الذي بيده كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه، وتذكروا وعده بنصركم، وإظهار دينكم على الدين كله، وأن الحق يدمغ الباطل فإذا هو زاهق، واذكروا قوله: « كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ » ثم خذوا أهبتكم، وتوكلوا على ربكم فإنه لا يدع لخوف غيره مكانا في قلوبكم.

وفي هذه الآية من العبرة:

(1) إن صادق الإيمان لا يكون جبانا، فالشجاعة وصف للمؤمن، لا يبلغ غيره فيها مداه، إذ أن العلة الحقيقية للجبن هي الخوف من الموت والحرص على الحياة، وقلب المؤمن لا يتسع لهما. ولا يزال العالم اليوم يشهد شجاعة الجيوش الإسلامية مع ما مني به المسلمون من ضعف في إيمانهم، وجهل بكثير من شئون دينهم.

(2) إن في استطاعة الإنسان أن يقاوم أسباب الخوف، ويعوّد نفسه الاستهانة بها بالتمرين والتربية وتعوّد الإقدام إذا عرضت له تلك الأسباب.

(3) إذا عرضت له أسباب الخوف فعليه ألا يسترسل لها حتى لا يتمكن أثرها في نفسه، وتتجسم صورتها في خياله، بل يغالبها بصرفها عن ذهنه، وشغله بما يضاده ويذهب بآثارها، أو يتبدلها بآثار مناقضة لها، وهذا يدخل في اختيار الإنسان، وهو الذي نبط به التكليف.

[سورة آل عمران (3): الآيات 176 الى 179]

ولا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178) ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)

تفسير المفردات

يسارعون في الكفر، أي يسارعون في نصرته والاهتمام بشئونه والإيجاف في مقاومة المؤمنين، حظا في الآخرة أي نصيبا من الثواب فيها، اشتروا الكفر أي أخذوا الكفر بدلا من الايمان كما يفعل المشترى من إعطاء شيء وأخذ غيره بدلا منه، والإملاء: الإمهال والتخلية بين العامل وعمله ليبلغ أقصى مداه، من قولهم: أملى لفرسه إذا أرخى له الطّول ليرعى كيف شاء، ومنه الملأ للأرض الواسعة، والملوان: الليل والنهار ليزدادوا إثما، أي أفرزته وأزلته، ومنه الحديث « من ماز أذى عن طريق فهو له صدقة ». على ما أنتم عليه، أي من اختلاط المؤمن بالمنافق وأشباهه والخبيث والطيب أي المنافق بالمؤمن، ويجتبى: أي يصطفى ويختار.

المعنى الجملي

لما كان من فوز المشركين في أحد ما كان، وأصاب النبي ﷺ والمؤمنين شيء كثير من الأذى - أظهر بعض المنافقين كفرهم وصاروا يخوفون المؤمنين ويؤيسونهم من النصر والظفر بعدوهم، ويقولون لهم: إن محمدا طالب ملك، فتارة يكون الأمر له، وتارة عليه، ولو كان رسولا من عند الله ما غلب، إلى نحو هذه المقالة مما ينفر المسلمين من الإسلام، فكان الرسول يحزن لذلك، ويسرف في الحزن، فنزلت هذه الآيات تسلية له، كما سلاه عما يحزن من إعراض الكافرين عن الإيمان، أو طعنهم في القرآن، أو في شخصه عليه الصلاة والسلام كقوله تعالى: « وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ، إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا » وقوله: « فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ».

الإيضاح

(وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) أي ولا يحزنك أيها الرسول مسارعة المنافقين وطائفة من اليهود إلى نصرة الكافرين واهتمامهم بشأنهم، والإيجاف في مقاومة الكافرين بكل ما أوتوا من الوسائل، ومن التثبيط للعزائم، والنيل من نبيهم ودعوته، وتأليب المشركين عليهم، إلى نحو ذلك مما يدور في خلد العدو لإيذاء عدوه. ونحو الآية قوله تعالى: « يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا ».

وتوجيه الخطاب للنبي ﷺ تسلية له وإيذان بأنه الرئيس المعتنى بشئونه.

ثم علل هذا النهى وأكمل التسلية بتحقيق نفى ضررهم أبدا بقوله:

(إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا) أي إنهم لن يضروا أولياء الله وهم النبي وصحبه، شيئا من الضر، فعاقبة هذه المسارعة في الكفر وبال عليهم لا عليك ولا على المؤمنين، فإنهم لا يحاربونك فيضروك، وإنما هم يحاربون الله تعالى، ولا شك أنهم أعجز من أن يفعلوا ذلك، فهم إذا لا يضرون إلا أنفسهم، وفى جعل مضرتهم مضرة لله تعالى تشريف لهم، ومزيد مبالغة في تسليته ﷺ.

ثم بين أنهم لا يضرون إلا أنفسهم فقال:

(يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ) أي إن سر ابتلائهم ما هم فيه من الانهماك في الكفر وقد قضى ذلك بحرمانهم من نعيم الآخرة وفق ما تقتضيه سنة الله وإرادته.

(وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي إنهم على حرمانهم من الثواب لهم عذاب عظيم لا يقدر قدره.

وبعد أن بين حكم أولئك الذين يسارعون إلى نصرة الكفر والدفاع دونه ومقاومة المؤمنين لأجله، وأرشد إلى أنه لا يؤبه بهم، ولا يهتم بشأنهم، فهم إنما يحاربون الله والله غالب على أمره - أشار هنا إلى أن هذا حكم عام يشمل كل من آثر الكفر على الإيمان واستبدله به فقال:

(إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي إن الذين أخذوا الكفر بدلا من الإيمان رغبة فيما أخذوا وإعراضا عما تركوا، فلن يضروا الله شيئا، وإنما يضرون أنفسهم بما لهم من العذاب الأليم الذي لا يقدر قدره.

وفي هذا إيماء إلى شيئين:

(1) تأكيد عدم إضرارهم بالنبي ﷺ.

(2) بيان سخف عقولهم وخطل آرائهم، إذ هم كفروا أولا ثم آمنوا ثم كفروا بعد ذلك، وهذا دليل على شدة اضطرابهم، وعدم ثباتهم، ومثل هؤلاء لا يخشى منهم شيء مما يحتاج إلى أصالة الرأي وقوة التدبير.

ثم بين أن رغبة الكافرين عن الجهاد حبّا في الحياة ليس من الخير لهم فقال:

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ، إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أي ولا يحسبن هؤلاء الكافرون أن إمهالنا لهم وإطالة أعمارهم خير لأنفسهم، فإنه لا يكون كذلك إلا إذا ازدادوا فيه عملا صالحا ينتفعون به في أنفسهم بتزكيتها وتطهيرها من شوائب الأدران وسيىء الأخلاق، وينتفع به الناس في تهذيبهم وتحسين معايشهم، ولكن هؤلاء لا يزدادون بجهلهم وسوء اختيارهم إلا إثما يضرهم في أنفسهم، بالتمادى في مكابرة الحق، وتأييد سلطان الشر في الخلق.

فحياة هؤلاء المتخلفين عن الجهاد ليست خيرا من قتل أولئك الذين قتلوا يوم أحد إذ بقاؤهم صار وسيلة للخزى في الدنيا والعقاب الدائم في الآخرة، وقتل هؤلاء صار سبيلا للثناء الجميل في الدنيا، والثواب الجزيل في الآخرة.

فترغيب أولئك المثبّطين عن الجهاد في مثل هذه الحياة، وتزيينها لهم مما لا ينبغي أن يروج إلا عند الجهال الذين لا يفهمون قيمة الحياة الحقة التي يجب أن تكون نصب عين العاقل.

والخلاصة - إن هذا الامهال والتأخير ليس عناية من الله بهم، وإنما هو قد جرى على سننه في الخلق، بأن ما يصيب الإنسان من خير أو شر فإنما هو ثمرة عمله، ومن مقتضى هذه السنة أن يكون الإملاء للكافر علة لغروره، وسببا لا سترساله في فجوره، ونتيجة ذلك الإثم الذي يكسبه العذاب المهين.

وفي الآية من العبرة:

(1) إن من شأن الكافر أن يزداد كفرا بطول عمره، ويتمكن من العمل بحسب استعداده.

(2) إن من شأن المؤمن إذا أنسأ الله أجله أن تكثر حسناته، وتزداد خيراته، فليجعل المؤمن هذا دستورا فيما بينه وبين ربه، ويحاسب نفسه على مقتضاه، فإذا فقهه وعمل به خرج من الظلمات إلى النور، وكان من الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين.

ثم بين أن الشدائد هي محكّ صدق الإيمان فقال:

(ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) أي ما كان من سنن الله في عباده أن يذر المؤمنين على مثل الحال التي كانوا عليها حين غزوة أحد، حتى يميز المؤمن من المنافق، ويظهر حال كل منهما، لأن الشدائد هي التي تميز قوي الإيمان من ضعيفه، وتزيل الالتباس بين الصادقين والمنافقين.

أما تكليف ما لا مشقة فيه كالصلاة والصدقة القليلة وغيرهما فيقبلها المنافق، كما يقبلها صادق الإيمان، لما فيها من حسن الأحدوثة، والتمتع بمزايا الإسلام.

وفي الشدائد من الفوائد الشيء الكثير منها:

(1) اتقاء المنافق إذا علم نفاقه، فقد يفضى صادق الإيمان ببعض أسرار الملة إلى المنافق، لما يغلب عليه من حسن الظن به، حين يراه يؤدى الواجبات الظاهرة، ويشارك الصادقين في سائر الأعمال، فإذا هو أفشاها عرف حاله وحذره المسلمون الصادقون.

(2) أن تروز الجماعة حالها، إذ بتكشف أمر المنافقين تعرف أنهم عليها لا لها، وكذلك تعرف حال ضعاف الإيمان الذين لم تربّهم الشدائد.

(3) إنها تدفع الغرور عن النفس، إذ يغتر المؤمن الصادق فلا يدرك ما في نفسه من ضعف في الاعتقاد والأخلاق حتى تمحّصه الشدائد وتبيّن له حقيقة أمره.

وقد يدور بخلد بعض الناس أن أقرب وسيلة لتمييز المؤمن الصادق من المنافق، أن يطلع الله المؤمنين على الغيب حتى يعرفوا حقائق أنفسهم وحقائق الناس الذين يعيشون بين ظهرانيهم، فيعرفوا أن فلانا من أهل الجنة، وفلانا من أهل النار، فأجاب الله عن هذا فقال:

(وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) أي لم يكن من شأنه تعالى أن يطلع عامة الناس على الغيب، إذ لو فعل ذلك لأخرج الإنسان من طبيعته، فإنه تعالى خلقه يحصّل رغائبه، ويدفع المكاره عنه بالعمل الكسبي الذي تهدى إليه الفطرة وترشد إليه النبوة.

ومن ثم جرت سنته بأن يزيل هذا اللبس، ويميز الخبيث من الطيب بالامتحان بالشدائد، والتضحية بالنفس وبذل المال في سبيل الحق والخير، كما ابتلى المؤمنون في وقعة أحد بخروج العدو بجيش عظيم لمقاتلتهم، وابتلى الرماة منهم بالمخالفة، وإخلاء ظهور قومهم لعدوهم، وابتلوا بظهور العدو عليهم، جزاء ما فعلوا من المخالفة، فظهر نفاق المنافقين، وزلزل ضعفاء المؤمنين زلزالا شديدا، وثبت كملة المؤمنين، وصاروا كالجبال الرواسي التي لا تزعزعها الرياح والأعاصير (وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) أي ولكن الله يختار من رسله من يشاء، فيطلعه على ما في قلوب المنافقين من كفر ونفاق، وعلى ما ظهر منهم من أقوال وأفعال، كما حكى عنهم بعضه فيما سلف، ويفضحهم به على رءوس الأشهاد، ويخلصكم من كيدهم وخداعهم.

ونحو الآية قوله: « عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ ».

وفي التعبير بالاجتباء إشارة إلى أن الوقوف على أسرار الغيب منصب جليل تتقاصر عنه الهمم، ولا يؤتيه الله إلا لمن اصطفاه لهداية الأمم.

وبعد أن ردّ على ما طعن به المنافقون في نبوة محمد ﷺ من وقوع الكوارث التي حصلت في أحد، وبين أن فيه كثيرا من الفوائد كتمييز الخبيث من الطيب، أمرهم بالإيمان به فقال:

(فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) أي فآمنوا بالله ورسله الذين ذكرهم الله في كتابه وقص علينا قصصهم.

وعمم الأمر بالإيمان بالرسل جميعا مع أن سوق الكلام في الإيمان بالنبي ﷺ، للايماء إلى أن الإيمان به يقتضى الإيمان بهم، لأنه ﷺ مصدق لما بين يديه من الرسل، وهم شهداء على صحة نبوته.

(وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) أي وإن تؤمنوا بما جاءوا به من أخبار الغيب، مع تقوى الله بترك ما نهى عنه وفعل ما أمر به، فلكم أجر عظيم لا يستطاع الوصول إلى معرفة كنهه.

وقلّ أن ذكر القرآن الإيمان إلا إذا قرن به التقوى، كما قل أن ذكر الصلاة إلا قرن بها الزكاة حثا على عمل البر والرأفة بالفقراء والبائسين، وإشارة إلى أن الإيمان لا يكمل إلا بهما

[سورة آل عمران (3): الآيات 180 الى 184]

وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (184)

تفسير المفردات

ما أتاهم أي ما أعطاهم من المال والعلم والجاه، سيطوقون ما بخلوا به أي سيلزمون إثمه في الآخرة كما يلزم الطوق الرقبة، وقد جاء في أمثالهم: تقلدها طوق الحمامة، إذا جاء بما يسب به ويذم، ميراث السموات والأرض أي ما يتوارثه أهلهما من مال وغيره سنكتب ما قالوا أي سنعاقب عليه ولا نهمله ونقول ذوقوا عذاب الحريق، أصل الذوق وجود الطعم في الفم ثم استعمل في إدراك سائر المحسوسات، والحريق المحرق المؤلم، وعذاب الحريق أي عذاب هو الحريق أي سننتقم منهم، عهد إلينا أي أمرنا في التوراة وأوصانا، القربان: ما يتقرب به إلى الله من حيوان ونقد وغيرهما، والمراد من النار: النار التي تنزل من السماء، والبينات: هي المعجزات الواضحة، والزبر، واحدها زبور: وهو الكتاب، والمنير: الواضح.

المعنى الجملي

كان الكلام فيما مضى في التحريض على بذل النفس في الجهاد في سبيل الله بذكر ما يلاقيه المجاهدون من الكرامة عند ربهم في جنات النعيم.

وهنا شرع يحت على بذل المال في الجهاد - والمال شقيق الروح - فذكر أشد أنواع الوعيد لمن يبخل بماله في هذه السبيل، وأرشد إلى أن المال ظل زائل، وأن مدى الحياة قصير، وأن الوارثين والموروثين سيموتون ويبقى الملك لله وحده.

ثم ذكر مقالة لليهود قد قالوها ثم كذبهم فيها ثم سلى رسوله وأبان له أن تكذيبهم لك ليس ببدع منهم بل سبقوا من قبل بمثله من الأنبياء السابقين.

الإيضاح

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ) أي ولا يظننّ أحد أن بخل الباخلين بما أعطاهم الله من فضله ونعمه هو خيرا لهم، لأنهم مطالبون بشكران النعم، والبخل بها كفران لا ينبغي أن يصدر من عاقل.

والمراد من البخل بالفضل البخل به في أداء الزكاة المفروضة، وفى الأحوال التي يتعين فيها بذل المال كالإنفاق لصد عدو يجتاح البلاد ويهدد استقلالها، ويصبح أهلها أذلة بعد أن كانوا أعزة، أو إنقاذ شخص من مخالب الموت جوعا.

ففي كل هذه الأحوال يجب بذل المال، لأنه يجرى مجرى دفع الضرر عن النفس.

وليس الذم والوعيد على البخل بما يملك الإنسان من فضل ربه، إذ أن الله أباح لنا الطيبات لنستمتع بها، ولأن العقل قاض بأن الله لا يكلف الناس بذل كل ما يكسبون ويبقون عراة جائعين، ومن ثم قال في حق المؤمنين المهتدين « وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ »

وجاءت الآية بطريق التعميم ترغيبا في بذل المال بدون تحديد ولا تعيين، ووكل أمر ذلك إلى اجتهاد المؤمن الذي يتبع عاطفة الإيمان التي في قلبه، وما تحدثه في النفس من أريحية بذل الواجب والزيادة عليه، إذا هو تذكر أن في ماله حقا للسائل والمحروم.

(بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ) أي هو شر عظيم لهم، وقد نفى أولا أن يكون خيرا ثم أثبت كونه شرا، لأن المانع للحق إنما يمنعه لأنه يحسب أن في منعه خيرا له، لما في بقاء المال في يده من الانتفاع به في التمتع باللذات، وقضاء الحاجات، ودفع الغوائل والآفات.

(سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي سيجعل ما بخلوا به من المال طوقا في أعناقهم، ويلزمهم ذنبه وعقابه، ولا يجدون إلى دفعه سبيلا، كما يقال: طوقنى الأمر أي ألزمنى إياه.

وخلاصة هذا - إن العقاب على البخل لازم لا بدّ منه.

وقال مجاهد: إن المعنى سيكلفون أن يأتوا بمثل ما بخلوا به من أموالهم يوم القيامة عقوبة لهم فلا يستطيعون ذلك، ويكون ذلك توبيخا لهم على معنى: هلا فعلتم ذلك حين كان ممكنا ميسورا، ونظير هذا قوله تعالى: « وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ ».

ويرى بعضهم أن التطويق حقيقي، وأنهم يطوّقون بطوق يكون سببا لعذابهم فتصير تلك الأموال حيات تلتوى في أعناقهم، فقد روى البخاري والنسائي عن أبي هريرة قال: « من آتاه الله مالا فلم يؤدّ زكاته مثّل له شجاع (ثعبان) أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، فيأخذ بلهزمتيه (شدقيه) يقول أنا مالك، أنا كنزك ثم تلا الآية ».

(وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ولله وحده لا لأحد سواه، ما في السموات والأرض ما يتوارث من مال وغيره، فينقل من واحد إلى آخر لا يستقر في يد، ولا يسلم التصرف فيه لأحد، إلى أن يفنى الوارثون والموروثون، ويبقى مالك الملك، وهو الله رب العالمين.

فما لهؤلاء القوم يبخلون عليه بملكه، ولا ينفقونه في سبيله، وابتغاء مرضاته.

وفي الآية إيماء إلى أن كل ما يعطاه الإنسان من مال وجاه وقوة وعلم فإنه عرض زائل، وصاحبه فإن غير باق، فلا ينبغي أن يستبقى الفاني ما هو مثله في الفناء، بل عليه أن يضع الأشياء في مواضعها التي تصلح لها، وبذا يكون خليفة لله في أرضه محسنا للتصرف فيما استخلف.

(وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي والله لا تخفى عليه خافية من أعمالكم، ولا ما تنطوى عليه جوانحكم، فيجازى كل عامل بما عمل بحسب تأثير عمله في تزكية نفسه أو تدسيتها، ونيته في فعله كما جاء في الحديث: « إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى »

(لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) أي قد سمع الله قول هؤلاء الكافرين الذين قالوا هذه المقالة، ولم يخف عليه، وسيجزيهم عليه أشد الجزاء.

وهذا أسلوب يتضمن التهديد والوعيد، كما يتضمن البشارة والوعد بحسن الجزاء في نحو - سمع الله لمن حمده - ويتضمن مزيد العناية وإرادة الإغاثة وإزالة الشكوى في نحو « قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما » إذ سمع الله لعباده يراد به مراقبته لهم في أقوالهم، ويلزم من ذلك المعاني التي ذكرناها آنفا.

روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أتت اليهود رسول الله ﷺ حين أنزل الله تعالى: « مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا » فقالوا يا محمد: أفقير ربك يسأل عباده القرض ونحن أغنياء؟ فأنزل الله (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ) الآية.

(سَنَكْتُبُ ما قالُوا) أي سنعاقبهم على ذلك عقابا لا شك فيه، إذ يلزم من كتابة الذنب وحفظه العقوبة عليه، وهذا استعمال شائع في اللغة.

(وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) أي قتل سلفهم لهم، وإنما نسبه إليهم للاشارة إلى أنهم راضون بما فعلوه.

وهذا يدل على أن الأمم متكافلة في الأمور العامة، ويجب على أفرادها الإنكار على من يفعل المنكر وتغييره أو النهي عنه، لئلا يفشو فيها، فيصير خلقا من أخلاقها وعادة مستحكمة فيها، فتستحق العقوبة في الدنيا بالضيق والفقر، والعقوبة في الآخرة بتدنيس نفوسها، وأن المتأخر إذا لم ينظر إلى عمل المتقدم ويطبقه على أحكام الشريعة فيستحسن منها ما تستحسنه، ويستهجن ما تستهجنه - عدّ شريكا له في إثمه، ومستحقا لمثل عقوبته.

(وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) أي سننتقم منهم ونقول لهم هذه المقالة.

ذاك أنهم لما قالوا ما قالوا وقتلوا من الأنبياء من قتلوا، فقد أذاقوا المسلمين وأتباع الأنبياء ألوانا من العذاب، وأحرقوا قلوبهم بلهب الإيذاء والكرب، فجوزوا بهذا العذاب الشديد وقيل لهم: ذوقوا عذاب الحريق، كما أذقتم أولياء الله في الدنيا ما يكرهون.

والخلاصة - ذوقوا ما أنتم فيه، فلستم بمتخلصين منه، وهذا قول يلقى للتشفى الدالّ على كمال الغيظ والغضب (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) أي إن هذا العذاب المحرق الذي تذوقون حرارته، بسبب أعمالكم في الدنيا كقتل الأنبياء، ووصف الله بالفقر، وجميع ما كان منكم من ضروب الكفر والفسوق والعصيان.

وأضاف العمل إلى الأيدي، من قبل أن أكثر أعمال الإنسان تزاول باليد وليفيد أن ما عذّبوا عليه هو من عملهم على الحقيقة، لا أنهم أمروا به ولم يباشروه.

(وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي إن ذلك العذاب أصابكم بعملكم، وبكونه تعالى عادلا في حكمه وفعله، لا يجور ولا يظلم، فلا يعاقب غير المستحق للعقاب، ولا يجعل المجرمين كالمتقين، والكافرين كالمؤمنين كما قال: « أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ »

وقال: « أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟ » وقال: « أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ؟ ».

والخلاصة - إن ترك عقاب أمثالكم مساواة بين المحسن والمسيء ووضع للشىء في غير موضعه، وهو ظلم كبير لا يصدر إلا ممن كان كثير الظلم مبالغا فيه.

(الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ)

قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في كعب بن الأشرف ومالك بن الصّيف وفنحاص ابن عازوراء في جماعة آخرين، أتوا رسول الله ﷺ فقالوا: يا محمد تزعم أنك رسول الله، وأنه تعالى أوحى إليك كتابا، وقد عهد إلينا في التوراة ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار، ويكون للنار دوي خفيف حين تنزل من السماء فإن جئتنا بهذا صدقناك، فنزلت الآية.

وروى ابن جرير أن الرجل منهم كان يتصدق بالصدقة، فإذا تقبّل منه نزلت عليه نار من السماء فأكلت ما نصدق به.

لكن دعواهم هذا العهد من مفترياتهم وأباطيلهم، وأكل النار للقربان لم يوجب الإيمان إلا لكونه معجزة، فهو وسائر المعجزات سواء، وما مقصدهم من تلك المفتريات إلا عدم الإيمان برسول الله ﷺ، لأنه لم يأت بما قالوه، ولو أتى به لآمنوا فرد الله عليهم بقوله:

(قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ، فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟) أي قل موبخالهم ومكذبا: قد جاءكم رسل كثيرون من قبلي كزكريا ويحيى وغيرهما بالمعجزات الدالة على صدق نبوتهم، وبما كنتم تقترحون وتطلبون، وأتوا بالقربان الذي تأكله النار، فما بالكم لم تؤمنوا بهم، بل اجترأتم على قتلهم؟

وهذا دليل على أنكم قوم غلاظ الأكباد، (وبذلك وصفوا في التوراة) قساة القلوب لا تفقهون الحق ولا تذعنون له، وأنكم لم تطلبوا هذه المعجزة استرشادا، بل تعنتا وعنادا.

وقد نسب هذا الفعل إلى من كان في عصر التنزيل وقد وقع من أسلافهم، لأنهم راضون عما فعلوه، معتقدون أنهم على حق في ذلك، والأمة في أخلاقها العامة وعاداتها كالشخص الواحد، وقد كان هذا معروفا عند العرب وغيرهم، فتراهم يلصقون جريمة الشخص بقبيلته، ويؤاخذونها بها.

والخلاصة - إن أسلافكم كانوا متعنتين، وما أنتم إلا كأسلافكم، فلم يكن من سنة الله إجابتكم إلى ملتمسكم بالإتيان بالقربان، إذ لا فائدة منه.

(فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) أي فإن كذبوك بعد أن جئتهم بالبينات الساطعة، والمعجزات الواضحة، والكتاب الهادي إلى سواء السبيل، مع استنارة الحجة والدليل - فلا تأس عليهم، ولا تحزن لعنادهم وكفرهم، ولا تعجب من فساد طويّتهم، وعظيم تعنتهم، فتلك سنة الله في خليقته، فقد كذّب رسل من قبلك جاءوا بمثل ما جئت به من باهر المعجزات وهزّوا القلوب بالزواجر والعظات، وأناروا بالكتاب سبيل النجاة، فلم يغن ذلك عنهم شيئا، فصبروا على ما نالهم من أذى، وما نالهم من سخرية واستهزاء.

وفي هذا تسلية للنبي ﷺ وبيان لأن طباع البشر في كل الأزمنة سواء فمنهم من يتقبل الحق ويقبل عليه بصدر رحب ونفس مطمئنة، ومنهم من يقاوم الحق والداعي إليه، ويسفّه أحلام معتنقيه.

فليس بالعجيب منهم أن يقاوموا دعوتك، ولا أن يفنّدوا حجتك، فإن نفوسهم منصرفة عن طلب الحق، وتحرّى سبل الخير.

[سورة آل عمران (3): الآيات 185 الى 186]

كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)

تفسير المفردات

توفون أجوركم: أي تعطونها وافية كاملة غير منقوصة، زحزح عن النار: نحّى عنها، فاز سعد ونجا، والمتاع: ما يتمتّع وينتفع به مما يباع ويشترى، والغرور: إصابة الغرّة والغفلة ممن تخدعه وتغشّه، لتبلونّ أي لتختبرن أي لتعاملنّ معاملة المختبرين لتظهر حالكم على حقيقتها، في أموالكم أي بالبذل في سبيل الله وبالجوائح والآفات، وفى أنفسكم أي بالقتل والأسر في سبيل الله، وبالأمراض وفقد الأقارب، الذين أوتوا الكتاب: هم اليهود والنصارى، والذين أشركوا هم كفار العرب، أذى كثيرا كالطعن في الدين والافتراء على الله ورسوله، والصبر: تلقى المكروه بالاحتمال وكظم النفس عليه مع دفعه برويّة ومقاومة ما يحدث من الجزع، والتقوى الابتعاد عن المعاصي، من عزم الأمور أي من صواب التدبير، وما ينبغي لكل عاقل أن يعزم عليه ويأخذ نفسه به، من قولك عزمت عليك أن تفعل كذا أي ألزمتك إياه على وجه لا يجوز الترخص فيه.

المعنى الجملي

بعد أن سلّى نبيه فيما سلف عن تكذيب قومه له بأن كثيرا من الرسل قبلك قد كذّبوا كما كذّبت، ولاقوا من أقوامهم من الشدائد مثل ما لاقيت، بل أشد مما لاقيت، فقد قتلوا كثيرا منهم كيحي وزكريا عليهما السلام - زاده هنا تسلية وتعزية أخرى، فأبان أن كل ما تراه من عنادهم فهو منته إلى غاية، وكل آت قريب فلا تضجر ولا تحزن على ما ترى منهم، وأنهم سيجازون على أعمالهم في دار الجزاء كما تجازى، وحسبك ما تصيب من حسن الجزاء، وحسبهم ما أصيبوا به وما يصابون به من الجزاء في الدنيا، وسيوفون الجزاء كاملا يوم القيامة.

الإيضاح

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) أي كل نفس تذوق طعم مفارقة البدن وتحس به، وفى هذا إيماء إلى أن النفس لا تموت بموت البدن، لأن الذي يذوق هو الموجود، والميت لا يذوق. فالذوق شعور لا يجس به إلا الحي.

(وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي وإنما تعطون جزاء أعمالكم كاملا وافيا يوم القيامة، وفى ذكر التوفية إشارة إلى أن بعض الأجور من خيرا وشر قد تصل إليهم في الدنيا جزاء أعمالهم، ويؤيده ما أخرجه الترمذي والطبراني مرفوعا، « القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران ».

(فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) أي فمن خلص من العذاب ووصل إلى الثواب فقد فاز بالمقصد الأسمى والغاية التي لا مطلب بعدها.

وقد روى عن النبي ﷺ أنه قال: « من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيّته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليؤت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه ».

والخلاصة - إن هناك جنة ونارا، وإن من الناس من يلقى في هذه ومنهم من يلقى في تلك، وإن هول النار عظيم، وعبر عن النجاة عنها بالزحزحة كأن كل شخص كان مشرفا على السقوط فيها، لأن أعمالهم سائقة لهم إلى النار، لأنها أعمال حيوانية تسوق إليها ولا يدخل الجنة أحد إلا إذا زحزح، فالزحزحة عنها فوز عظيم، وأولئك المزحزحون هم الذين غلبت صفاتهم الروحية على الصفات الحيوانية فأخلصوا في إيمانهم، وجاهدوا في الله حق جهاده، ولم يبق في نفوسهم شائبة من إشراك غير الله معه في عمل من أعمالهم.

(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) أي وما حياتنا القربى التي نحن فيها ونتمع بلذاتها الحسية من مأكل ومشرب، أو المعنوية كالجاه والمنصب والسيادة إلا متاع الغرور لأن صاحبها دائما مغرور مخدوع لها، تشغله كل حين بجلب لذاتها ودفع آلامها، فهو يتعب لما لا يستحق التعب، ويشقى لتوهم السعادة.

والخلاصة - إن الدنيا ليست إلا متاعا من شأنه أن يغرّ الإنسان ويشغله عن تكميل نفسه بالمعارف والأخلاق التي ترقى بروحه إلى سعادة الآخرة.

فينبغي له أن يحذر من الإسراف في الاشتغال بمتاعها عن نفسه وإنفاق الوقت فيما لا يفيد، إذ ليس للذاتها غاية تنتهى إليها فلا يبلغ حاجة منها إلا طلب أخرى.

فما قضى أحد منها لبانته ولا انتهى أرب منها إلا إلى أرب

وعليه أن يسعى لكسب علم يرقى به عقله، أو عمل صالح ينتفع به وينفع عباده، مع إصلاح السريرة، وخلوص النية، وقد قال بعض الصوفية: « عليك بنفسك إن لم تشغلها شغلتك ».

(لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) بعد أن سلى سبحانه نبيه ﷺ بما سبق آنفا زاد في تسليته بهذه الآية، وأبان له أنه كما لقى هو ومن معه من الكفار أذى يوم أحد فسيلقون منهم أذى كثيرا بقدر ما يستطيعون من الإيذاء في النفس أو في المال، والمقصد من هذا الإخبار أن يوطنوا أنفسهم على الصبر وترك الجزع حتى لا يشق عليهم البلاء عند نزوله بهم.

والابتلاء في الأموال يكون بالبذل في جميع وجوه البر التي ترفع شأن الامة الإسلامية وتدفع عنها أعداءها وتردّ عنها المكاره وتدفع عنها غوائل الأمراض والأوبئة.

والابتلاء في الأنفس يكون ببذلها في الجهاد في سبيل الله وبموت من تحب من الأهل والأصدقاء أو بالمدافعة عن الحق، وفائدة الابتلاء تمييز الخبيث من الطيب، وفائدة الإخبار به أن نعرف السنن الإلهية ونهيىء أنفسنا لمقاومتها، فإن من تقع به المصيبة فجأة على غير انتظار يعظم عليه الأمر ويحيط به الغمّ حتى ليقتله في بعض الأحايين، لكنه إذا استعد لها اضطلع بها وقوى على حملها.

وكذلك من تحدث له النعمة على غير توقع لها، فإنها تحدث له دهشة وتهيجا في الأعصاب، وربما أصيب بشلل أو اضطراب عقلى أو موت فجائى، والحوادث المشاهدة في هذا الباب كثيرة.

(وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيرًا) هذا سبيل آخر من الابتلاء في الأنفس، وخصه بالذكر لأهميته أي إنكم ستسمعون إيذاء كثيرا من اليهود والنصارى والمشركين، ومن ذلك حديث الإفك (قذف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها) وتألب اليهود عليهم ونقض عهودهم ومحاولتهم قتل النبي ﷺ حتى أجلاهم عن المدينة فأمن شرهم، واتفاق اليهود مع أحزاب المشركين وزحفهم على المدينة لاستئصال المسلمين، فقد حاصروهم وأوقعوا بهم شديد البلاء وضيّقوا عليهم وفى ذلك يقول الله تعالى: « إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيدًا ».

(وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي وإن تصبروا على ما سيحل بكم من البلاء في أموالكم وأنفسكم، وعلى ما تسمعون من أهل الكتاب والمشركين من الأذى وتتقوا ما يجب اتقاؤه، فإن ذلك الصبر والتقوى من معزومات الأمور أي الأمور التي ينبغي أن يعزمها كل أحد، لما فيه من كمال المزية والشرف.

روى الزهري أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرا وكان يهجو النبي ﷺ ويحرض عليه كفار قريش في شعره وكان النبي ﷺ قدم المدينة وأهلها أخلاط من المسلمين والمشركين واليهود، فأراد النبي أن يستصلحهم كلهم فكان المشركون واليهود يؤذونه ويؤذون أصحابه أشد الأذى، فأمر الله نبيه ﷺ بالصبر على ذلك وفيهم أنزل الله تعالى: (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) الآية

[سورة آل عمران (3): الآيات 187 الى 189]

وإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)

تفسير المفردات

الميثاق: العهد المؤكد، والذين أوتوا الكتاب: هم اليهود والنصارى، لتبيننه للناس أي لتظهرنّ جميع ما فيه من الأحكام والأخبار التي من جملتها نبوة محمد ﷺ ولا تكتمونه: أي لا تؤولونه ولا تلقون الشبه الفاسدة والتأويلات المزيّفة، فنبذوه وراء ظهورهم: أي طرحوه ولم يعتدّوا به، ويقال للأمر المعتنى به جعله نصب عينيه وألقاه بين عينيه، واشتروا به ثمنا قليلا: أي شيئا من حطام الدنيا الفانية، بما أوتوا أي بما فعلوا، أن يحمدوا أي يحمدهم الناس، بمفازة من العذاب: أي بمنجاة منه، من قولهم: فاز فلان إذا نجا.

المعنى الجملي

بعد أن حكى سبحانه عن اليهود شبها ومطاعن في نبوة محمد ﷺ وأجاب عنها بما علمت فيما سلف، أردفه هذه الآية لبيان عجيب حالهم، وغريب أمرهم، وأنه لا يليق بهم أن يطعنوا في نبوته، ولا أن يوجهوا شبها لدينه، ذاك أن اليهود والنصارى أمروا بشرح ما في التوراة والإنجيل وبيان ما فيهما من الدلائل الناطقة بنبوة محمد ﷺ وصدق رسالته، فكيف يليق بهم بعد هذا إيراد تلك المطاعن والشبه وكانوا أجدر الناس بدفعها وأحقهم بتأييده والذّود عن دينه لما في كتابيهما من البشارة به وتوكيد دعوته، فالعقل قاض بأن يظاهروه، ودينهم حاكم بأن يؤيدوه، ومن العجب العاجب أن يطرحوا حكم العقل والنقل وراءهم ظهريا، وهل مثل هؤلاء يجدى معهم الحجاج والجدل، أو تقنعهم قوة الدليل والحجة.

الإيضاح

(وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) أي واذكروا حين أخذ الله العهد والميثاق على الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى بلسان أنبيائهم، ليبيننّ كتابهم للناس غير كاتمين له، بأن يوضحوا معانيه كما هي، ولا يؤولوه ولا يحرفوه عن مواضعه التي وضع لتقريرها، ويذكروا مقاصده التي أنزل لأجلها، حتى لا يقع اضطراب ولا لبس في فهمه.

فإن لم يفعلوا ذلك فإما أن يبينوه على غير وجهه ولا يكون هذا بيانا ولا كشفا لأغراضه ومقاصده، وإما ألا يبينوه بتاتا ويكون هذا كتمانا له.

وهذه الآية وإن كانت لليهود والنصارى، فإن العبرة فيها تنطبق على المسلمين أيضا، فإنهم مع حفظهم لكتابهم وتلاوتهم إياه في كل مكان، في الشوارع والأسواق ومجتمعات الأفراح والأحزان - تركوا تبيينه للناس، ففقدوا هدايته وعميّت عليهم عظاته وزواجره، وحكمه وأسراره، واعترفوا بأنهم انحرفوا عنه وصار القابض على دينه كالقابض على الجمر.

وتبيين الكتاب على ضربين:

(1) تبيينه لغير المؤمنين به لدعوتهم إليه (2) تبيينه للمؤمنين به لهدايتهم وإرشادهم بما أنزل إليهم من ربهم وكل منهما واجب على العلماء لا هوادة فيه، وكفى بهذه الآية حجة عليهم وهي آكد من قوله: « وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ».

(فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) أي لم يبالوا به ولم يهتموا بشأنه، وقد كان من الواجب عليهم أن يجعلوه نصب أعينهم لا شيئا مهملا ملقى وراء الظهور لا ينظر إليه، ولا يفكّر في أمره، فقد كان منهم الذين لا يستفيدون منه شيئا - ويحملونه كما يحمل الحمار الأسفار، ومنهم الذين يحرّفونه عن مواضعه، ومنهم الذين لا يعلمون منه إلا أماني يتمنونها وقراءات يقرءونها.

وإن هذا لينطبق على المسلمين اليوم أتم الانطباق، فهم قد اتبعوا سنن من قبلهم ونهجوا نهجهم حذو القذّة بالقذة، فما بالهم عن التذكرة معرضين، وكتاب الله بين أيديهم شاهد عليهم، وهو يتلى بين ظهرانيهم.

(وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) أي أخذوا عوضا منه فائدة دنيوية حقيرة فغبنوا في هذا البيع والشراء، وهذا الثمن هو ما كان يستفيده الرؤساء من المرءوسين من حطام الدنيا ليتمتعوا بلذاتها الفانية، وشهواتها الفاسدة، وكانوا يؤولون الكتاب ويحرفونه لأغراض كثيرة كالخوف من الحكام أو الرجاء فيهم، فيصرفون نصوصه إلى معان توافق هوى الحاكم ليأمنوا شره، أو لإرضاء العامة أو الأغنياء بموافقة أهوائهم لاستفادة جاههم ومالهم.

(فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) أي إن ما يشترونه ذميم قبيح لأنهم جعلوا الفاني بدلا من النعيم الدائم الذي يحصل للأمة من اتباعها لكتابها وهديها بإرشاده، وتهذيب أخلاقها بآدابه وجمع كلمتها حول تعاليمه، وبذا تحول بينها وبين المستبدين فيها، وتصبح عزيزة الجانب متكافلة متضامنة، أمر أهلها بينها شورى.

وقد روى عن علي كرم الله وجهه أنه قال: ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلّموا، وعن أبي هريرة أنه قال: لولا ما أخذ الله تعالى على أهل الكتاب ما حدثتكم وتلا هذه الآية، وعن الحسن أنه قال: لولا الميثاق الذي أخذه الله تعالى على أهل العلم ما حدثتكم بكثير مما تسألون عنه.

(لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) كان الكلام قبل هذا مع أهل الكتاب وأنه قد أخذ عليهم الميثاق بتبيين كتابهم للناس فقصروا في ذلك وتركوا العمل به واشتروا به ثمنا قليلا فاستحقوا العقاب من ربهم.

وهنا ذكر حالا أخرى من أحوالهم، ليحذر المؤمنين منها، وهو أنهم كانوا يفرحون بما أتوا من التأويل والتحريف للكتاب، ويرون لأنفسهم شرفا فيه وفضلا بأنهم أئمة يقتدى بهم، وكانوا يحبون أن يحمدوا بأنهم حفّاظ الكتاب ومفسروه وهم لم يفعلوا شيئا من ذلك، وإنما فعلوا نقيضه إذ حولوه من الهداية إلى ما يوافق أهواء الحكام وأهواء العامة.

ومن عجيب حالهم أنه قد اشتبه أمرهم على الناس، فهم يحسبون أنهم أولياء الله وأنصار دينه وعلماء كتابه وأنهم أبعد الناس عن عذابه وأقربهم من رضوانه، فبين الله كذب هذا الحسبان ونهى عنه وسجل عليهم العذاب.

والخلاصة - لا تظنن أيها المخاطب أن اليهود الذين يفرحون بما فعلوا من تدليسهم عليك، ويحبون أن تحمدهم بما لم يفعلوا من إخبارك بالصدق عما سألتهم عنه، ناجون من العذاب الدنيوي وهو العذاب الذي يصيب الأمم التي فسدت أخلاقها وساءت أعمالها، وألفت الفساد والظلم وهو ضربان:

(1) عذاب هو أثر طبيعي للحال التي يكون عليها المبطلون بحسب سنة الله في الاجتماع البشرى بخذلان أهل الباطل والإفساد، وذهاب استقلالهم ونصرة أهل الحق عليهم وتمكينهم من رقابهم وديارهم وأموالهم ليحل الإصلاح محل الإفساد

والعدل مكان الظلم « وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ».

(2) عذاب يكون سخطا سماويا كالزلزال والخسف والطوفان وغير ذلك من الجوائح المدمّرة التي نزلت ببعض أقوام الأنبياء الذين كفروا بربهم وكذبوهم وآذوهم عند اشتداد عتوّهم وإيذائهم لرسلهم.

روي أن رسول الله ﷺ سأل اليهود عن شيء في التوراة فكتموا الحق وأخبروه بخلافه وأروه أنهم قد صدقوا واستحمدوا إليه وفرحوا بما فعلوا، فأطلع الله رسوله على ذلك وسلاه بما أنزل من وعيدهم.

(وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي عذاب عظيم في الآخرة كفاء فساد أخلاقهم وسوء طويتهم وحبهم للحمد الكاذب، وقوله بما أوتوا أي بما فعلوا.

قال صاحب الكشاف: أتى وجاء يستعملان بمعنى فعل قال تعالى: « إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا » وقال: « لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا » وقوله: فلا تحسبنهم تأكيد لقوله: لا تحسبن الذين، وقد عهد هذا في الأساليب العربية من إعادة الفعل إذا طال الفصل بينه وبين معموله. قال الزجاج: العرب إذا أطالت القصة تعيد حسبت وما أشبهها إعلاما بأن الذي جرى متصل بالأول فتقول لا تظنن زيدا إذا جاءك وكلمك بكذا وكذا، فلا تظننه صادقا، فيفيد لا تظنن توكيدا وتوضيحا، والفاء زائدة كما في قوله:

فإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي لا تحزنوا أيها المؤمنون ولا تضعفوا، وبينوا الحق ولا تكتموا منه شيئا، ولا تشتروا بآيات الله ثمنا قليلا، ولا تفرحوا بما عملتم، فإن الله يكفيكم ما أهمكم ويغنيكم عن هذه المنكرات التي نهيتم عنها فإن لله ملك السموات والأرض يعطى من يشاء، وهو على كل شيء قدير، لا يعز عليه نصركم على من يؤذونكم بأيديهم وألسنتهم من أهل الكتاب والمشركين.

وفي هذا إيماء إلى أن الخير في اتباع ما أرشد إليه، وفيه تسلية للنبي ﷺ وللمؤمنين ووعد له بالنصر، وفيه تعريض بذم أولئك المخالفين ووصفهم بأنهم لا يؤمنون إيمانا صحيحا يظهر أثره في أخلاقهم وأعمالهم، إذ لو كانوا كذلك ما تركوا العمل بكتابه وآثروا عليه ما يستفيدونه من حطام الدنيا

[سورة آل عمران (3): الآيات 190 الى 195]

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيامًا وَقُعُودًا وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِيًا يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194) فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَوابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195)

تفسير المفردات

الخلق: التقدير والترتيب الدالّ على النظام والإتقان، والسموات: ما علاك مما تراه فوقك، والأرض: ما تعيش عليه، اختلاف الليل والنهار: تعاقبهما ومجىء كل منهما خلف الآخر، لآيات: لأدلة على وجود الله وقدرته، الألباب واحدها لب: وهو العقل، قياما وقعودا واحدهما قائم وقاعد، باطلا أي عبثا لا فائدة منه، سبحانك أي تنزيها لك عما لا يليق بك، قنا عذاب النار: أي اجعل العمل الصالح وقاية لنا من عذاب النار، ويقال أخزاه: أي أذله وأهانه، الذنب: هو التقصير في المعاملة بين العبد وربه، والسيئة: هي التقصير في حقوق العباد ومعاملة الناس بعضهم بعضا، وتوفنا: أي أمتنا، والأبرار وأحدهم بارّ: وهو المحسن في العمل، على رسلك: أي على تصديق رسلك، والميعاد: الوعد، استجاب: أي أجاب، لا أضيع عمل عامل: أي لا أترك ثوابه، بعضكم من بعض: أي مختلطون متعاونون، في سبيلى: أي بسبب طاعتي وعبادتي وديني.

المعنى الجملي

قال الرازي: اعلم أن المقصود من هذا الكتاب الكريم جذب القلوب والأرواح من الاشتغال بالخلق إلى الاستغراق في معرفة الحق، فلما طال الكلام في تقرير الكلام والجواب عن شبهات المبطلين، عاد إلى إثارة القلوب بذكر ما يدل على التوحيد والألوهية والكبرياء والجلال فذكر هذه الآية.

وروى الطبراني وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: أتت قريش اليهود فقالوا بم جاءكم موسى من الآيات؟ فقالوا عصاه ويده بيضاء للناظرين، وأتوا النصارى فقالوا كيف كان عيسى؟ قالوا كان يبريء الأكمه والأبرص ويحيى الموتى. فأتوا النبي ﷺ، فقالوا ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا، فدعا ربه فنزلت هذه الآية: إن في خلق السموات إلخ فليتفكروا فيها.

الإيضاح

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي إن في نظام السموات والأرض وبديع تقديرهما وعجيب صنعهما، وفى اختلاف الليل والنهار وتعاقبهما بنظام دقيق طوال العام، نرى آثاره في أجسامنا وعقولنا بتأثير حرارة الشمس وبرد الليل، وفى الحيوان والنبات وغير ذلك - لآيات ودلائل على وحدانية الله وكمال علمه وقدرته.

عن عائشة رضي الله عنها « أن رسول الله ﷺ قال: هل لك يا عائشة أن تأذنى لي الليلة في عبادة ربى؟ فقلت: يا رسول الله إني لأحب قربك وأحب هواك (ما تهوى وتريد) قد أذنت لك، فقام إلى قربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يكثر من صب الماء ثم قام يصلى فقرأ من القرآن وجعل يبكى حتى بلغت الدموع حقويه ثم جلس فحمد الله وأثنى عليه وجعل يبكى ثم رفع يديه فجعل يبكى حتى رأيت دموعه قد بلت الأرض، فأتاه بلال يؤذنه بصلاة الغداة فرآه يبكي فقال له: يا رسول الله أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا؟ ثم قال وما لي لا أبكى وقد أنزل الله علي في هذه الليلة: إن في خلق السموات والأرض إلخ ثم قال ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها » وروي « ويل لمن لاكها بين فكيه ولم يتأملها ».

(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيامًا وَقُعُودًا وَعَلى جُنُوبِهِمْ) أي أولو الألباب هم الذين ينظرون ويستفيدون ويهتدون ويستحضرون عظمة الله ويتذاكرون حكمته وفضله وجليل نعمه في جميع أحوالهم من قيام وقعود واضطجاع.

والخلاصة - إنهم هم الذين لا يغفلون عنه تعالى في عامة أوقاتهم باطمئنان قلوبهم بذكره، واستغراق سرائرهم بمراقبته.

وذكر الله وحده لا يكفى في الاهتداء، بل لا بد معه من التفكر في بديع صنعه وأسرار خليقته، ومن ثم قال:

(وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ويتفكرون في خلق السموات والأرض، وما فيهما من الأسرار والمنافع الدالة على العلم الكامل، والحكمة البالغة، والقدرة التامة.

والخلاصة - إن الفوز والنجاة إنما يكون بتذكر عظمة الله والتفكر في مخلوقاته من جهة دلالتها على وجود خالق واحد له العلم والقدرة، ويتبع ذلك صدق الرسل وأن الكتب التي أنزلت عليهم مفصّلة لأحكام التشريع، حاوية لكامل الآداب، وجميل الأخلاق، ولما يلزم نظم المجتمع في هذه الحياة، وللحساب والجزاء على الأعمال بدخول الجنة والنار.

وإنما ذكر التفكر في خلق الله، لورود النهي عن التفكر في الخالق، لعدم الوصول إلى حقيقة ذاته وصفاته.

فقد أخرج الأصبهاني عن عبد الله بن سلام قال: خرج رسول الله ﷺ على أصحابه وهم يتفكرون فقال: « تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق »

وعن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ « تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله تعالى ».

(رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ) أي يقول الذاكرون المتفكرون: ربنا ما خلقت هذا الذي نشاهده من العوالم العلوية والأرضية باطلا، ولا أبدعته عبثا، سبحانك ربنا تنزهت عن الباطل والعبث، بل كل خلقك حق مشتمل على حكم جليلة ومصالح عظيمة.

والإنسان بعض خلقك لم يخلق عبثا، فإن لحقه الفناء، وتفرقت منه الأجزاء، بعد مفارقة الأرواح للأبدان، فإنما يهلك منه كونه الفاسد أي الجسم، ثم يعود بقدرتك في نشأة أخرى كما بدأته في النشأة الأولى، فريق أطاعك واهتدى، وفريق حقت عليه الضلالة فالأول يدخل الجنة بصالح أعماله والآخر يكبّ في النار بما اجترح من السيئات، وما عمل من الموبقات، جزاء وفاقا.

والخلاصة - إن المؤمن المتفكر يتوجه إلى الله بمثل هذا الثناء والدعاء والابتهال بعد أن رأى الدلائل على بديع الحكمة، وواسع العلم بدقائق الأكوان التي تربط الإنسان بربه.

وفي هذا تعليم للمؤمنين كيف يخاطبون ربهم عند ما يهتدون إلى شيء من معاني إحسانه وكرمه في بدائع خلقه.

(فَقِنا عَذابَ النَّارِ) أي فوفقنا بعنايتك لصالح العمل بما فهمنا من الدلائل حتى يكون ذلك وقاية لنا من عذاب النار.

(رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) أي إنهم بعد أن يدعوا ربهم أن يقيهم دخول النار يتوجهون إليه قائلين هذا القول، دلالة على عظم هذا العقاب وشدته وهو الخزي والفضيحة، ليكون موقع السؤال أعظم، لأن من طلب من ربه شيئا وشرح عظم المطلوب وقوّته، كانت الداعية إلى الدعاء أكمل والإخلاص في الطلب أشد.

(وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) الظالم هو الذي يتنكب الطريق المستقيم، وقد وصف من يدخل النار بالظلم للدلالة على أن سبب دخوله إياها هو جوره وظلمه، وللتشنيع عليه بهذا العمل القبيح.

أي إن هؤلاء المتفكرين الذاكرين ينظرون إلى هيبة ذلك الرب العلي الذي خلق تلك الأكوان المملوءة بالأسرار والحكم، فيعلمون أنه لا يمكن أحدا أن ينتصر عليه، وأن من عاداه فلا ملجأ له إلا إليه.

(رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِيًا يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا) المنادى هو الرسول، وذكره بوصف المنادى تعظيما لشأن هذا النداء، أي إنهم بعد أن عرفوا الله تعالى حق معرفته بالذكر والفكر عبروا عن وصول دعوة الرسول إليهم واستجابتهم دعوته سراعا بدون تلبّث بهذا القول، لأنه دعاهم إلى ما اهتدوا إليه من قبل وزادهم معرفة وبصيرة في عالم الغيب والحياة الآخرة.

وفي تقدمة الدعاء بالنداء إشارة إلى كمال توجههم إلى مولاهم وعدم غفلتهم عنه مع إظهار كمال الضراعة والابتهال إلى من عوّدهم الإحسان والإفضال.

(رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) الغفران: الستر والتغطية يقال: رجل مكفّر بالسلاح أي مغطى به، قال لبيد: « في ليلة كفر النجوم ظلامها ».

أي إنهم طلبوا من الله تعالى في هذا الدعاء ثلاثة أشياء: غفران الذنوب المتقدمة، وتكفير السيئات المستقبلة، وأن تكون وفاتهم مع الأبرار بأن يموتوا على مثل أعمالهم حتى يكونوا في درجاتهم يوم القيامة كما يقال فلان في العطاء مع أصحاب الألوف أي هو مشارك لهم في أنه يعطى ألفا قال تعالى: « فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ ».

وفي هذا رمز إلى أنهم كانوا يحبون لقاء الله « ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ».

(رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) أي ربنا أعطنا ما وعدتنا من حسن الجزاء كالنصر في الدنيا والنعيم في الآخرة جزاء على تصديق رسلك واتباعهم.

وخلاصة ذلك - إنهم قالوا أعطنا ذلك بتوفيقنا للثبات على ما نستحق ذلك به إلى أن تتوفانا مع الأبرار، وفى هذا استشعار بتقصيرهم وعدم الثقة بثباتهم إلا بتوفيق الله ومزيد عنايته.

(وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي ولا تفضحنا ولا تهتك سترنا يوم القيامة بإدخالنا النار التي يخزى من دخلها.

(إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) أي لا تخلف ما وعدت به على الإيمان وصالح العمل، فقد وعدت بسيادة الدنيا في قولك « وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ » وقلت « إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ » ووعدت بسعادة الآخرة فقلت « وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ».

(فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) أي فاستجاب لهم ربهم دعاءهم، لصدقهم في إيمانهم وذكرهم وتفكيرهم وتنزيههم لربهم وتصديقهم للرسل وشعورهم بالضعف والتقصير في الشكر واحتياجهم إلى المغفرة.

وإنا لنستخلص من هذه الآية أمورا:

(1) إن الاستجابة يصح أن تكون بغير ما طلب، فقد سألوه غفران الذنوب وتكفير السيئات والوفاة مع الأبرار، فأجابهم بأن كل عامل سيوفى جزاء عمله، وفي ذلك تنبيه إلى أن العبرة في النجاة من العذاب والفوز بحسن الثواب، إنما تكون بإحسان العمل والإخلاص فيه.

(2) إن الذكر والأنثى متساويان عند الله في الجزاء متى تساويا في العمل حتى لا يغترّ الرجل بقوته ورياسته على المرأة فيظن أنه أقرب إلى الله منها.

(3) إن الله قد بين علة هذه المساواة بقوله: بعضكم من بعض، فالرجل مولود من المرأة والمرأة مولودة من الرجل، فلا فرق بينهما في البشرية ولا تفاضل إلا بالأعمال.

(4) إنها رفعت قدر النساء المسلمات في أنفسهن وعند الرجال المسلمين.

(5) إن هذا التشريع قد أصلح معاملة الرجل للمرأة واعترف لها بالكرامة، وأنكر تلك المعاملة القاسية التي كانت تعاملها بها بعض الأمم فقد كان بعضها يعدها كالبهيمة المسخّرة لمصلحة الرجل، وبعضها يعدّها غير أهل للتكاليف الدينية، إذ زعموا أنه ليس لها روح خالد، فما زعمه الإفرنج من أنهم السبّاقون إلى الاعتراف بكرامة المرأة ومساواتها للرجل ليس مبنيا على أساس صحيح، فالإسلام هو الذي سبق كل الشرائع في هذا، ولا تزال شرائعهم الدينية والمدنية تميّز الرجل من المرأة، نعم إن المسلمين قصّروا في تعليم النساء وتربيتهن، لكن هذا لا يصلح حجة على الدين نفسه.

(6) إن ما يفضل به الرجال النساء من العلم والعقل وما يقومون به من الأعمال الدنيوية التي جرى عرف المجتمع على إسنادها إلى الرجال، وجعل حظ الرجل في الإرث مثل حظ الأنثيين لأنه يتحمل نفقة امرأته، فلا دخل لشيء منه في التفاضل عند الله بثواب وعقاب (فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ). بعد أن ربط الله الجزاء بالعمل، بيّن أن العمل الذي يستحقون به ما طلبوا من تكفير السيئات، ودخول الجنات، هو الهجرة من الوطن في خدمة الرسول ﷺ، والإخراج من الديار، بإلجاء الكافرين إياهم إلى الخروج والإيذاء في سبيل الله والقتال والقتل وبذل لمهجة لله عز وجل، كل أولئك يكفر الله به عنهم سيئاتهم ويدخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار ولهذه الآية نظائر في الكتاب الكريم كقوله « إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيمانًا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ » وقوله: « إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ » وقوله « وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ ».

وقد ذكر الله صفات المؤمنين هكذا، لينبهنا إلى أن نروز أنفسنا ونختبرها، فإن رأيناها تحتمل الأذى في سبيل الله حتى القتل فلها الرضوان من ربها، وإلا فلنروّضها حتى تصل إلى هذه المنزلة، والسر في هذا التكليف الشاق أن الحق لا يقوى إلا إذا وجد من ينصره ويؤيده، ويقاوم الباطل وأعوانه، حتى تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الباطل هي السفلى، فيجب على أنصار الحق ألا يفشلوا ولا ينهزموا، بل يثبتوا مهما لاقوا من المحن والأرزاء، فقد كتب الله النصر لعباده المؤمنين.

(ثَوابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) الثواب والمثوبة الجزاء، وقد جعله الدين أثرا طبيعيا للعمل، فللأعمال تأثير في نفس العامل بتزكيتها فتكون منعمة في الآخرة، أو تدسيتها فتكون معذبة فيها.

وقد وعد الله تعالى من فعل ذلك بأمور ثلاثة:

(1) محو السيئات وغفران الذنوب ودل على ذلك بقوله: (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) وذلك ما طلبوه بقولهم (فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا).

(2) إعطاء الثواب العظيم وهو قوله: (وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) وهذا ما طلبوه بقولهم: (وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ).

(3) أن يكون هذا الثواب عظيما مقرونا بالتعظيم والإجلال، وهو قوله: (مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) وهذا ما طلبوه بقولهم (وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ) والمعنى لأكفرنّ عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم الجنات ولأثيبنهم بذلك ثوابا من الله لا يقدر عليه غيره.

(وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) أي هو ثواب من عنده مختص به بحيث لا يقدر عليه غيره، وهذه الجملة تأكيد لشرف ذلك الثواب، لأنه تعالى قادر على كل شيء، غني عن كل أحد، فهو لا محالة في غاية الجود والكرم والإحسان.

[سورة آل عمران (3): الآيات 196 الى 200]

لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)

تفسير المفردات

تقول: غرّنى ظاهره أي قبلته على غفلة عن امتحانه، ويقال في الثوب إذا نشر ثم أعيد إلى طيّه: رددته على غرّه، تقلّب الذين كفروا: تصرفهم في التجارات والمكاسب، متاع قليل: أي ذلك الكسب والربح متاع قليل، وإنما وصفه بالقلة لأنه قصير الأمد، مأواهم: مصيرهم، جهنم هي الدار التي يجازى فيها الكافرون في الآخرة، والمهاد: المكان الموطأ كالفراش، والنزل: ما يهيأ للضيف النازل، والأبرار: واحدهم بارّ وهو المتصف بالبر، خاشعين: أي خاضعين، اصبروا: أي احبسوا نفوسكم عن الجزع مما ينالها، وصابروا: أي اصبروا على شدائد الحرب مع أعداء الله، ورابطوا: أي أقيموا في الثغور رابطين خيولكم حابسين لها مترصدين للغزو، والتقوى: أن تقى نفسك من غضب الله وسخطه، والفلاح: هو الفوز والظفر بالبغية المقصودة من العمل.

المعنى الجملي

بعد أن وعد الله المؤمنين بالثواب العظيم وكانوا في الدنيا في غاية الفقر والشدة، والكفار كانوا في رخاء ولين عيش ذكر في هذه الآية ما يسليهم ويصبّرهم على تلك الشدة، فبين لهم حقارة ما أوتى هؤلاء من حظوظ الدنيا وذكر أنها متاع قليل زائل، فلا ينبغي للعاقل أن يوازن بينه وبين النعيم الخالد المقيم.

الإيضاح

(لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) أي لا يغرنك يا محمد والمراد أمته، فكثيرا ما يخاطب سيّد القوم بشىء ويراد أتباعه، وهذا معنى ما روى عن قتادة أنه قال: والله ما غرّوا نبي الله ﷺ حتى قبضه الله.

وخلاصة المعنى - لا يغرنكم أمنهم على أنفسهم وتصرفهم في البلاد كيف شاءوا، وأنتم معاشر المؤمنين خائفون محصورون، فإن ذلك لا يبقى إلا مدة قليلة ثم ينتقلون إلى أشد العذاب، فعلى المؤمن أن يجعل مرمى طرفه ذلك الثواب الذي وعده الله فهو النعيم الحقيقي الباقي.

(مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) أي ذلك التقلب في البلاد الذي يتمتعون به متاع قليل، عاقبته هذا المأوى الذي ينتهون إليه في الآخرة فيكونون خالدين فيه أبدا، بما جنته أنفسهم وكسبته أيديهم.

نزلت الآية في مشركي مكة إذ كانوا يضربون في الأرض، يتّجرون ويكتسبون حين لا يستطيع المسلمون ذلك لوقوف المشركين لهم بالمرصاد والإيقاع بهم أينما ثقفوهم، وعجز هؤلاء عن مقاومتهم إذا خرجوا من ديارهم للتجارة أو غيرها.

وقد روى من وجه آخر أن بعض المؤمنين قال: إن أعداء الله فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد فنزلت الآية.

وبعد أن بين حال الكافرين ومآل أمرهم، ذكر عاقبة المؤمنين ليعلموا أنهم في القسمة غير مغبونين، فقال:

(لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) أي لكن الذين اتقوا ربهم بفعل الطاعات وترك المنهيات، لهم جنات النعيم خالدين فيها أبدا.

ونحو الآية قوله تعالى: « إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا » وفى الآية إيماء إلى أن النازلين فيها ضيوف عند ربهم يحفهم بلطفه، ويخصهم بكرمه وجوده، وهذه الجنات نعيم جسماني لهم، وهناك نعيم روحاني أعطاه الله بمحض الفضل والإحسان وإليه الإشارة بقوله:

(وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) أي وما عنده من الكرامة فوق ما تقدم خير وأفضل يتقلب فيه الذين كفروا من المتاع القليل الفاني.

(وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) بعد أن بين حال المؤمنين وما أعدّ لهم من الثواب وحال الكافرين وما هيأ لهم من العقاب، ذكر هنا حال فريق من أهل الكتاب يهتدون بهذا القرآن وكانوا من قبله مهتدين بما عندهم من هدى الأنبياء وقد وصفهم الله بصفات كلها تستحق المزية والشرف:

الأولى: الإيمان بالله إيمانا لا تشوبه نزعات الشرك ولا يفارقه الإذعان الباعث على العمل، لا كمن قال الله فيهم « وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ».

الثانية: الإيمان بما أنزل إلى المسلمين، وهو ما أوحاه الله إلى نبيه محمد ﷺ.

الثالثة: الإيمان بما أنزل إليهم وهو ما أوحاه الله إلى أنبيائهم، والمراد به الإيمان إجمالا وما أرشد إليه القرآن تفصيلا فلا يضير في ذلك ضياع بعضه ونسيان بعضه الآخر.

الرابعة: الخشوع وهو الثمرة للإيمان الصحيح فإن الخشوع أثر خشية الله في القلب ومنه تفيض على الجوارح والمشاعر، فيخشع البصر بالانكسار، ويخشع الصوت بالخفوت والتهدج.

الخامسة: عدم اشتراء شيء من متاع الدنيا بآيات الله وهذا أثر لما قبله.

روى النسائي من حديث أنس قال: « لما جاء نعى النجاشي قال رسول الله ﷺ: صلّوا عليه، قالوا: يا رسول الله نصلى على عبد حبشى، فأنزل الله هذه الآية »:

(أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي هؤلاء المتصفون بحميد الصفات، وجليل الأعمال، لهم ثواب أعمالهم وأجر طاعتهم عند ربهم الذي رباهم بنعمه وهداهم إلى الحق وإلى الصراط المستقيم.

(إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) فهو يحاسب الناس جميعهم في وقت قصير فيتمثل لهم ما كسبته أيديهم، وانطوت عليه جوانحهم، وهو مكتوب في صحائف أعمالهم، فما أحرانا أن نشبهها بالصور المتحركة (الأفلام) التي تعرض فيها الحوادث والوقائع في عصرنا الحاضر.

وقد ختم الله هذه السورة بوصية للمؤمنين إذا عملوا بها كانوا أهلا لاستجابة الدعاء وأحق بالنصر في الدنيا وحسن المثوبة في الآخرة فقال:

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي اصبروا على شدائد الدنيا وآلامها من مرض وفقر وخوف، وصابروا: أي تحملوا المكاره التي تلحقكم من سواكم، ويدخل في ذلك احتمال الأذى من الأهل والجيران وترك الانتقام ممن يسىء إليكم كما قال: « وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ » وإيثار غيركم على أنفسكم كما قال: « وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ » والعفو عمن ظلمكم كما قال « وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى » ودفع شبه المبطلين وحلّ شكوكهم والإجابة عن شبههم، وقوله ورابطوا: أي اربطوا خيلكم في الثغور كما يربط العدو خيله استعداد للقتال كما قال تعالى: « وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ » ويدخل في هذا كل ما ولّده العلم في هذا العصر من وسائل الدفاع من طائرات وقاذفات للقنابل ودبابات ومدافع رشاشة وبنادق وأساطيل بحرية ونحو ذلك مما صار ضروريا من آلات الحروب الحديثة، وصار من فقدها يشبه أن يكون أعزل من السلاح وإن كان مدجّجا به، ويلزم هذا أن يكونوا عالمين بفنون الحرب والخطط العسكرية بارعين في العلوم الطبيعية والرياضية، فكل ذلك واجب على المسلمين في هذا العصر، لأن الاستعداد لايتم إلا به.

ولقد أكثر الله في كتابه من ذكر التقوى ويراد بها الوقاية من سخط الله وغضبه، ولا يكون هذا إلا بعد معرفته ومعرفة ما يرضيه وما يسخطه، ولا يعرف هذا إلا من فهم كتاب الله، وعرف سنة نبيه، وسيرة السلف الصالح من الأمة الإسلامية. ومن فعل كل ما تقدم فصبر وصابر ورابط لحماية الحق وأهله ونشر دعوته واتقى ربه في سائر شئونه فقد أفلح وفاز بالسعادة عند ربه.

وهذا الفوز والفلاح بالبغية قد يكون في شئون الدنيا كما جاء حكاية عن فرعون « وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى » وقد يكون في شئون الآخرة كقوله تعالى حكاية عن أهل الكهف « وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا ».

وقد يكون فيهما معا، وأكثر ما جاء في القرآن من هذا كالذي نحن فيه، فإن مصابرة الأعداء والمرابطة والتقوى كلها من وسائل الظفر على الأعداء في الدنيا كما أنها من أسباب السعادة في الآخرة بعد توافر حسن النية، وقصد إقامة الحق والعدل.

وفقنا الله للعمل إلى ما يرضيه، حتى نصل إلى سعادة الدارين، بفضله وإحسانه، ومنّه وكرمه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه

تفسير المراغي
مقدمة التفسير | الفاتحة | البقرة | آل عمران | النساء | المائدة | الأنعام | الأعراف | الأنفال | التوبة | يونس | هود | يوسف | الرعد | إبراهيم | الحجر | النحل | الإسراء | الكهف | مريم | طه | الأنبياء | الحج | المؤمنون | النور | الفرقان | الشعراء | النمل | القصص | العنكبوت | الروم | لقمان | السجدة | الأحزاب | سبأ | فاطر | يس | الصافات | ص | الزمر | غافر | فصلت | الشورى | الزخرف | الدخان | الجاثية | الأحقاف | محمد | الفتح | الحجرات | ق | الذاريات | الطور | النجم | القمر | الرحمن | الواقعة | الحديد | المجادلة | الحشر | الممتحنة | الصف | الجمعة | المنافقون | التغابن | الطلاق | التحريم | الملك | القلم | الحاقة | المعارج | نوح | الجن | المزمل | المدثر | القيامة | الإنسان | المرسلات | النبأ | النازعات | عبس | التكوير | الانفطار | المطففين | الانشقاق | البروج | الطارق | الأعلى | الغاشية | الفجر | البلد | الشمس | الليل | الضحى | الشرح | التين | العلق | القدر | البينة | الزلزلة | العاديات | القارعة | التكاثر | العصر | الهمزة | الفيل | قريش | الماعون | الكوثر | الكافرون | النصر | المسد | الإخلاص | الفلق | الناس | خاتمة التفسير | فهارس الأجزاء