الرئيسيةبحث

الروح/المسألة السابعة/فصل عودة الروح

فصل عودة الروح

الأمر الثامن: أنه غير ممتنع أن ترد الروح إلى المصلوب والغريق والمحرق ونحن لا نشعر بها، لأن ذلك الرد نوع آخر غير المعهود، فهذا المغمي عليه والمسكوت والمبهوت أحياء، وأرواحهم معهم ولا تشعر بحياتهم، ومن تفرقت أجزاؤه لا يمتنع على من هو على كل شي ء قدير أن يجعل للروح اتصالا بتلك الأجزاء على تباعد ما بينها وقربه، ويكون في تلك الأجزاء شعور بنوع من الألم واللذة، وإذا كان اللّه سبحانه وتعالى قد جعل للجمادات شعورا وإدراكا تسبح ربها به، وتسقط الحجارة من خشيته، وتسجد له الجبال والشجر وتسبحه الحصى والمياه والنبات قال تعالى:﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾[17:44] ولو كان التسبيح هو مجرد دلالتها على صانعها لم يقل: ﴿وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾[17:44] فإن كان عاقل يفقه دلالتها على صانعها، وقال تعالى: ﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ﴾ [38:18] والدلالة على الصانع لا تختص بهذين الوقتين، وكذلك قوله تعالى: ﴿يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ﴾[34:10] والدلالة لا تختص معيته وحده وكذب على اللّه من قال: التأويب رجع الصدى، فإن هذا يكون لكل مصوت، وقال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ﴾[22:18] والدلالة على الصانع لا تختص بكثير من الناس، وقد قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ ۖ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ﴾[24:41] فهذه صلاة وتسبيح حقيقة يعلمها اللّه، وإن جحدها الجاهلون المكذبون، وقد أخبر تعالى عن الحجارة أن بعضها يزول عن مكانه ويسقط من خشيته، وقد أخبر عن الأرض والسماء أنهما يأذنان له وقولهما ذلك أي يستمعان كلامه، وأنه خاطبهما فسمعا خطابه وأحسنا جوابه، فقال لهما: ﴿ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾[41:11] وقد كان الصحابة يسمعون تسبيح الطعام وهو يؤكل، وسمعوا حنين الجذع اليابس في المسجد [1]، فإذا كانت هذه الأجسام فيها الإحساس والشعور، فالأجسام التي كانت فيها الروح والحياة أولى بذلك، وقد أشهد اللّه سبحانه عباده في هذه الدار إعادة حياة كاملة إلى بدن قد فارقته الروح، فتكلم ومشى وأكل وشرب وتزوج وولد له ﴿الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾[2:243] ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ۖ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ۖ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ ۖ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾[2:259] وكقتيل بني إسرائيل أو كالذين قالوا لموسى: ﴿لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً﴾[2:55] فأماتهم اللّه ثم بعثهم من بعد موتهم، وكأصحاب الكهف وقصة إبراهيم في الطيور الأربعة، فإذا أعاد الحياة التامة إلى هذه الأجساد بعد ما بردت بالموت فكيف تمتنع على قدرته الباهرة أن يعيد إليها بعد موتها حياة غير مستقرة يقضي بها ما أمره فيها ويستنطقها بها ويعذبها أو ينعمها بأعمالها، وهل إنكار ذلك إلا مجرد تكذيب وعناد وجحود وباللّه التوفيق.


هامش

  1. والآثار في ذلك كثيرة نورد هنا بعضا منها.
    ذكر الحافظ أبو يعلى الموصلي عن أنس بن مالك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يوم الجمعة يسند ظهره إلى جذع منصوب في المسجد يخطب الناس، فجاءه رومي فقال: ألا أصنع لك شيئا تقعد عليه كأنك قائم؟ فصنع له منبرا له درجتان ويقعد على الثالثة، فلما قعد نبي اللّه على المنبر خار- أي الجذع- كخوار الثور، ارتج لخواره حزنا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، فنزل إليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم من المنبر فالتزمه وهو يخور، فلما التزمه سكت، ثم قال:
    «و الذي نفس محمد بيده لو لم ألتزمه لما زال هكذا حتى يوم القيامة» حزنا على رسول اللّه. فأمر به رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فدفن.
    و أخرج البخاري عن أنس بن مالك أنه سمع جابر بن عبد اللّه الأنصاري يقول: كان المسجد مسقوفا على جذوع من نخل، فكان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إذا خطب يقوم إلى جذع منها، فلما صنع له المنبر وكان عليه، فسمعنا لذلك الجذع صوتا كصوت العشار، حتى جاءه النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فوضع يده عليه فسكن.